جوانب من شخصية الإمام البنا
تمتع الإمام البنا بصفات شخصية قلما تجتمع في إنسان واحد ، وقد أهلته هذه الصفات الشخصية والمواهب التي حباه الله بها لأن يصبح الداعي الأول في القرن العشرين ، ومؤسسًا وقائداً لأكبر حركة إسلامية علي مستوى العالم ، وهي حركة الإخوان المسلمين ، فقد حباه الله بجسد قوي يتحمل الشدائد والمصاعب فضلا عن ذاكرة حديدية تحتفظ بالمعلومات والأسماء بطريقة عجيبة ، وسرعة بديهية وسعة أفق ، وقدرة علي تحليل الأحداث واستخلاص النتائج التي قلما تخطيء ، فقد كان رحمه الله عليمًا بعصره ففيهًا في حركته ذا حكمة ودهاء ، وكان رحمه الله زاهداً في العيش مع القدرة علي الكسب ، متواضعًا في غير ذلة معتزاً بنفسه وبدعوته من غير كبر ، يحب إخوانه ويألفهم ويألفونه .
وكان الإمام البنا يقدم دعوته علي غيرها من الأشياء ، يقدمها علي راحته ويقدمها علي أولاده ، فقد عاش بالدعوة وللدعوة ، وقد امتلك الإمام البنا قوة روحية هائلة وإرادة قوية لا يتطرق إليها ضعف ، وعزيمة ماضية لا تنثني .
ولندع الحديث حول هذا المعني لمن رافق الإمام الشهيد رحمه الله حيث عاش حركته الدائبة في الدعوة إلي الله لا يفتر عن ذلك أبداً.
يقول الأستاذ محمد عبد الحميد وهو من الرعيل الأول :
- " إن من أبرز سمات شخصية الإمام الشهيد روح " الحركة " في طبيعته وطاقة العمل الضخمة في أعصابه ودمه .
- كان شخصية عجيبة فذة حقًا ، هي روح وعقل وجسد ، روح : هي شعلة سماوية تتوهج بالحرارة والضياء !! وعقل : هو ميزان محكم لا يميل ولا يضطرب علي كثرة الأحداث وهول المشاكل !! ، وجسم هو أداة طيعة لهذه القوى الكبيرة والمعاني القدسية العالية !! .
- كان شخصية متحركة لا تقف ولا تسكن ، كأنه فلك إنساني يدور مع الكواكب يعمل ويوجه ويعد وينظم وينتج في لحظات ما يقصر عنه غيره في شهور وسنوات ، كان يركض إلي الله حين يمشي العاملون ، ويثب إليه حين يركض المخلصون ، ويطير إليه حيث يثب المصلحون ، كان يتأسي بالرسول صلي الله عليه وسلم في جهاده الدائم حتى كان من أوصافه :" ليست له راحة "
- تبهرك أعصاب فذة كأنها كهربائية ، نسيج وحده لا يخضع لمؤثرات المادة وقوانينها في الطاقات والمواقيت ، سهر دائم وفكر عامل ثاقب وسلسلة لا تنقطع حلقاتها في الفكر والعلم والإعداد والتوجيه ، وأسفار حتى تغلغل في أعماق الكفور والنجوع وبين العشائر والقبائل ، فكان الزعيم الحق الذي جلس علي التراب وخالط لأول مرة طبقات الشعب في حياتهم وأحس آلامهم ومشاكلهم !! .
- كان يختزل الحياة اختزالاً كأنما كان يسابق الأفلاك في دورانها ، خطواته خطوات العماليق ، وجهاده جهود أمة كاملة لا فرد محدود ، كأنه علم أن حياته أقصر من دعوته الشاملة فحرص علي أن يكون لدعوته من أسباب القوة ، ويحوطها بأضخم ما يستطيع من أسوار ، ويجهزها بأعظم ما يقدر من العدة والذخائر ، ولما رأي أن مشاكل المجتمع فوق ساعاته المحدودة وحياته القصيرة جعل شعاره تلك الكلمة المأثورة " الواجبات أكثر من الأوقات " .
- كان سمته " الحركة الدائمة " والعمل السريع وكان يدافع إلي تكاليف الحياة ومطالبها في هيام وغرام ليس لهما مثيل ، وهو خلال ذلك ينتج إنتاجًا ضخمًا هائلاً رغم المسارعة في غير زلل أو عثار ، بل كانت سرعته يتوجها التوفيق وحركاته المتلاحقة يزينها الإحكام !! .
- كانت همته فوق قدرته ، وقدرته فوق التعب والزمن ، يتسامي فوق الطاقة البشرية ، وأعماله الضخمة الموفقة أشبه بكرامات الأولياء منها بجهود العباقرة ، عزيمة تتضاءل دونها العزائم ، وهمة لا تبلغها العصبة أولو القوة إلا بروح من الله ورضوان !!
فحق لنا في هذا الجزء من هذه الصفات نلقي عليها الضوء من خلال بعض جوانب شخصيته وهي جديرة حقاً بالتأمل والدراسة .
الجانب العقائدي
كان الإمام الشهيد حسن البنا رجل العقيدة بحق ، وقد صور الإمام الشهيد حسن البنا في كتابه " العقيدة وشخصية رجل العقيدة" حال رجل العقيدة وما أخاله إلا أنه كان يتحدث عن نفسه في وصفه لشخصية رجل العقيدة ، ولن نحصي كل مفردات الجانب العقائدي في حياة الإمام الشهيد ، لكننا سنستعرض بعض منها :
التوكل علي الله باب كل خير ، به يفتح الله أبواب الرزق المغلقة ، وبه يكون الله كافيًا عباده كل مشقة ، ، وهذا المعني مطلوب تعميقه في نفس كل مسلم عامة وفي قلب كل داعية خاصة حتى لا يعرف لليأس طريقاً ولا يتسرب القنوط منه إلي نفسه أبداً ، وهكذا كان الإمام البنا رضي الله عنه متوكلاً علي الله حق توكله ، ولم يخب ظنه بالله حتى في أحلك الظروف وأشدها .
حين رغب الإخوان في شراء قصر آل " أبو الحسن " وهو المبني الضخم المقابل لدار المركز العام للإخوان في ميدان الحلمية الجديدة ، لم يكن في خزانة الجماعة غير مائتي جنيه فقط بينما المبلغ المطلوب أربعة عشر ألفًا من الجنيهات ، وحين طلب أصحاب القصر مبلغ خمسمائة جنيه عربونًا علي أن يتم سداد باقي المبلغ بعد كتابة العقد بشهر .
هنا هتف حسن البنا قائلاً : شيء عظيم ، اشترينا القصر إن شاء الله ، وهو يعلم أن الخزانة ليس بها إلا مائتا جنيه ، لكنه متوكل علي الله ويوقن أن الله سيجعل له من أمره يسراً ، وما دام القصد إرضاء الله تعالي ، والغاية إعلاء كلمة الله فلن يخيب هذه المساعي الحميدة .
فمن أين لنا بباقي المبلغ ؟ فيرد عليه الإمام البنا : توكل علي الله . فتسري هذه الكلمات في وجدان الرجل ولا يجد وسيلة لتدبير بقية العربون إلا أن يبيع " حلي زوجته " ويستكمل باقي العربون كدين عليه وأحضر قيمة العربون .
وبينما الإخوان يفكرون في تدبير ثمن شراء القصر إذا بأبواب الخير تنفتح عليهم ، فيأتي أحد المحبين لزيارة الإمام البنا فيخبره بأن الإخوان عقدوا العزم علي شراء القصر المقابل ، فيسأل : ولماذا لم تنتقلوا إليه ؟ فيجيبه بأنهم دفعوا العربون فقط وأن تسليم القصر يكون بعد دفع مبلغ ألف جنيه ، فإذا بالرجل يعلن عن تبرعه بمبلغ خمسمائة جنيه في الحال حتى يتمكن الإخوان من استلام القصر والانتقال إليه .
وفي أول حديث ثلاثاء أعلن عن شراء القصر المقابل للمركز العام ويُفتح باب التبرع لهذا الغرض ، وطلب الإمام أن يساهم كل أخ مستطيع في عملية الشراء وقال : لا أريد أن أحرم أحداً من الإخوان المسلمين في أنحاء القطر أن يكون له حجر أو لبنة في المركز ، وفي أقل من شهر استكمل المبلغ وزادت التبرعات عن المبلغ المطلوب . فسارع الإمام البنا وأعلن غلق باب التبرع لحساب الشراء .
وهكذا صار للإخوان مركز عام ضخم يستوعب الكثير من أوجه نشاطهم ، خاصة حديث الثلاثاء الذي أصبح مقياسًا صادقًا ومعبراً بوضوح عن قوة الإخوان في المجتمع المصري .
فمن مبلغ صغير في الخزانة محبوس أصبح للجماعة منارة عظمي تفد الوفود والجموع إليها .
إن الإنسان الطموح إلي غاية سامية وهدف عظيم إذ لم يكن متيقنًا من الوصول إلي غايته فإنه لم يصل إليها ، لأن اليأس سوف يستبد بقلبه ويسيطر علي مشاعره ، ويستسلم له فيقعده عن العمل ، وقد كان هذا المعني متمكنًا من قلب الإمام البنا ، ظهر ذلك في خطته التي كان يلح فيها ويركز علي بعث الأمل ، وبث الثقة في نفوس إخوانه ضاربًا الأمثلة الحية من سيرة الرسول صلي الله عليه وسلم كموقفه من غزوة الأحزاب .
في هذا الجو الرهيب شديد البر ، والأعداء كثر ، استعصي حجر من الأحجار علي الصحابة ، فأخذ رسول الله صلي الله عليه وسلم المعول وضربه وقال : " بسم الله الله أكبر ، فتحت عليكم الروم ، واله إني لأنظر إلي قصورها البيضاء ...) .
بمثل هذه المعاني كان يتحدث البنا مع إخوانه ، ولم يكن ذلك أقوالاً فقط بل كانت أفعالاً أيضًا ، فعندما اعتقل بعد مقتل أحمد ماهر ازداد يقينًا في نصر الدعوة وكتب إلي إخوانه من خلف القضبان في 16/3/1363هـ يقول : إن ما نلقاه الآن ليس جديداً علينا ولا هو من المفاجآت في طريق دعوتنا.
فكذلك كان سلفنا الصالح رضوان الله عليهم من الأنبياء والصديقين والشهداء ، وقد حقق لنا القوم بهذا ما كنا نتمثل به من قبل : " إن سجني خلوة وقتلي شهادة وتغريبي سياحة " ، وقد نقلونا بهذه المحنة نقلة واسعة إلي الأمام والحمد لله ، ووقفوا بنا علي طريق معبد من طرق الدعوة ، وهذا أول الخير وأنا به جد متفائل وأعتقد أن وراء ذلك الفتح العظيم إن شاء الله .
- 3 – يرضي بالقضاء والقدر :
كان الإمام الشهيد رضوان الله عليه يؤمن بالقضاء والقدر إيمانًا راسخاً ، لا عن طريق الدراسة والتعليم فقط ؛ وإليك قوله في هذا:
- إن إيماني بالقضاء والقدر ، والرزق والأجل ، ليس نتيجة الدراسة والتسليم والإيمان بالنصوص فقط ، ولكنه نتيجة التجارب والمشاهدة ، فقد تعرضت للموت في صغرى أكثر من مرة وبصورة مختلفة ، وكانت نجاتي بأعجوبة ، فوجئت أنا وأخي عبد الرحمن ونحن صبيان نلعب في " الحارة " بانقضاض بيت كامل فوق رؤوسنا ، ولم ينجنا إلا استناد السقف علي " درابزين " السلم فأصبحنا في مأمن بالفراغ الناشئ عن ذلك حتى رفعت الأنقاض وخرجنا سالمين " .
- ووقعت من فوق سطح يرتفع عن الأرض أكثر من ثمانية أمتار ولكن الله سلم فجاءت الوقعة في " ملطم المونة " فلم تحدث إصابة .
- وقذفت بنفسي في إحدى الترع الكبيرة في أيام الفيضان ، والماء علي أشده فراراً من مطاردة كلب عقور ، فانتشلتني سيدة كريمة، لا أزال أذكر منظرها، وقد خلعت في سرعة البرق جلبابها وتعممت به، وقذفت بنفسها إلي الماء، وبعض الرجال وقوف ينظرون، ولا ينجدون، مما جعلني أؤمن بأن الشهامة والنجدة ليستا وقفًا علي الرجال .
- وتقدمت لإطفاء النار في منزل اندلعت ألسنتها فيما علي سطحه من وقود علي عادة الريف ، فامتدت النار إلي ثيابي وأطرافي ، ولكن فرقة الإطفاء كانت قد أقبلت ، وقدر رجالها هذا الموقف من ناشئ صغير ، فوجهوا إلي خراطيمهم ، ونجوت بذلك من احتراق محقق .
- وجمحت بي الفرس مرة جموحًا شديداً ، واعترضني حاجز قوى لسور خشبي يحاذي الرقبة ، كان الاصطدام كافيًا ليطيح بالرأس إلي مكان بعيد ، لولا أن الله تبارك وتعالي ألهمني في هذه الساعة الحرجة أن استلقي علي ظهري علي السرج استلقاءً كاملاً حتى اجتزت هذا الحاجز .
وكان رضي الله عنه ينزل عليه القضاء ، فيرضي به ، بل ويشكر عليه كأنه برد وسلام علي قلبه ، لدرجة أنه لا يغير من برنامجه شيئًا ، ويشهد بذلك موقفه من موت ابنه ، فيقول أنور الجندي : كان قد دعا إلي " كتيبة تبيت بالمركز العام ، يتحدث معهم إلي هزيع الليل ، ثم ينامون ساعة أو ساعتين ، ثم يستيقظون لصلاة الفجر.
كان قد ذهب إلي المنزل فوجد ابنه في حالة الخطر ، وعلي شفا الموت ، وكان موعد الكتيبة قد اقترب فانصرف إليها ، وبينما هو يتحدث معهم في بشاشته المعهودة ، جاء من يسرٌَ إليه أن ابنه توفي ، فما زاد علي أن قال له بضع كلمات تتعلق بغسله وتكفينه .. وواصل حديثه مع أعضاء الكتيبة ونام معهم ، وفي الصباح أمر بمن يذهب به إلي القبر .
الجانب العبادي
كان الإمام الشهيد حريصًا علي أداء العبادات علي أكمل وجه ، فكان حريصًا علي أداء الصلاة في وقتها ، وقد نبه إخوانه إلي ذلك فقال : " قم إلي الصلاة متى سمعت النداء مهما تكن الظروف " وكان حريصًا علي قيام الليل مهما اشتد به النصب مع حب وشغف بالقرآن لا ينتهي .
أخر صورة للبنا قبل إستشهاده
يقول الأستاذ محمود عبد الحليم:
- " لقد كنت في أيام اتصالي بالإخوان المسلمين حريصًا علي مراقبة كل ما يدور في مركزهم العام ، لا سيما ما يصدر من مرشدهم من حديث وأعمال .
- وقد لفت نظري أن صلاة المرشد وكان دائمًا هو الإمام لا تكاد تختلف عن صلاة كثير من الناس ، فهي وإن كانت صلاة خاشعة مطمئنة ؛ لكن رائيها لا يمكن أن يصفها بأنها صلاة مطولة كتلك التي تمارس في مساجد بعض الجمعيات ، أما في الصلوات الجهرية فكان له فيها رحمه الله أسلوب آخر .. كان يطيل فيها من قراءة القرآن ..
- ولكن هذه الإطالة لم تكن مجرد إطالة ولا القراءة مجرد قراءة ، وإنما كانت قراءة هادفة ، كانت قراءة من مواضع مختارة .. يتناول في كل صلاة منها معالجة موضوع معين من المواضيع الحساسة التي تمس النفوس وتعالج مشاكل المجتمع ، ففي صلاة يستعرض علي المأمومين أصناف الناس ، وفي صلاة أخري يستعرض طبائع النفوس ، وفي ثالثة يعرض صورة لغرور السلطة وعواقبه ، وفي رابعة يستعرض مواقف الحق الأعزل من الباطل المسلح ، وفي خامسة يستعرض دلائل قدرة الله في مخلوقاته ، وهكذا من المواضيع التي يخرج المأمومون من كل منها بتوجيهات محددة وتعاليم معينة .
- وغير خافِ علي القارئ المجرب أن سماع المؤمن القرآن وهو واقف في الصلاة بين يدي الله ذو أثر في النفس أشد عمقًا وأعظم وقعًا من سماعه القرآن في غير هذا الوضع .. وقد يفهم من القرآن في هذا الموقف ما لا يفهمه منه في غيره من المواقف .. لا سيما إذا كان القارئ أستاذاً مربيًا يفهم ما يقرأ ، ويعرف كيف يتلو الآية تلاوة تبرز ما خفي من معانيها فهو يعرف كيف يكون الوقف ويعرف كيف يكون الوصل .. ولا يمر بآية وعيد وعذاب إلا استعاذ في سره بالله ، ولا يمر بآية من البشريات إلا طلب في سره من الله المزيد ، وهكذا كانت الصلاة إحدى وسائل حسن البنا في تثبيت أفكار دعوته في النفوس وفي تربية من وراءه وتوجيههم .
- لكن القليل من الإخوان من لمس من حسن البنا اختلافًا عن الناس في الصلاة التي بينه وبين ربه أعني الصلاة يحكي الأستاذ عمر التلمساني عن موقف صحبه فيه إلي لمنزلة ، بعد كثرة الإجهاد من السفر، والجلوس مع الإخوان ، ومتابعة أنشطتهم،حدث ما يلي:
- وبعد الحفل صعدنا إلي الطابق الثاني في منزل لنأخذ قسطًا من الراحة ، ودخلت معه إلي حجرة بها سريران وعلي كل سرير ناموسية ، لأن المنطقة كانت زاخرة بجحافل الناموس ، التي لا ترتوي إلا من امتصاص دماء البشر ، ودخل سريره وأرخي ناموسيته ، وفعلت مثلما فعل علي السرير الآخر ، وكان التعب والإجهاد قد بلغ مني مداه ، فاعتراني قلق وبعد خمس دقائق تقريبًا سألني فضيلته :" هل نمت يا عمر ؟
- قلت ليس بعد ، ثم كرر السؤال بعد فترة ثم بعد فترة ، حتى ضقت بالأمر ، وقلت في نفسي : ألا يكفيني ما أنا فيه من إجهاد وقلق حتى تضاعف علي المتاعب ! ألا تدعني أنام ؟ كان هذا حديثا صامتًا يدور بيني وبين نفسي فصممت علي ألا أرد علي أسئلته موهمًا إياه أنني نمت ، فلما اطمئن إلي نومي نزل من سريره في هدوء كامل ، وعند الباب أخذ القبقاب بيده وسار حافيًا حتى وصل دورة المياه ، حيث توضأ وأخذ سجادة صغيرة ، وذهب إلي آخر الصالة بعيداً عن الغرفة ، التي ننام فيها .. وأخذ يصلي ما شاء الله له أن يصلي ونمت أنا ما شاء الله لي أن أنام.
يقول عمر بهاء الدين الأميري:
- " لقد راقبته أدق المراقبة، حتى إنني أتابعه من شقوق الباب وهو يصلي في غرفته خاليًا قبل النوم، وكنت أفحص خشوعه فأراه أطول سجوداً وأكثر إقبالاً علي الله منه يصلي بنا "
الرجل القرآني :
القرآن الكريم نور يضيء جنبات النفوس ويتسرب إلي أعماق القلوب فيهزها ويضيئها ولكن هذا النور لا يضيء إلا النفوس التي فتحت له مغاليقها واستدعته إلي دروبها ، لتستضيء بنوره وتتلألأ بأسراره العجيبة.
ونحسب الإمام البنا كان واحداً من القرآنيين الذين شغلهم القرآن الكريم تلاوة وحفظاً وفهمًا وعملاً ، فكانت حياتهم كلها له . وهذه بعض المواقف المشهودة للرجل رحمه الله .
غاب عن الناس من خلقه ما جعله بين نفسه وربه يستره عن الناس فلا يطلع عليه إلا خاصة أهله ، فهو في بيته شهد الله لا يفتر عن مصحفه ولا يغيب عن قرآنه ولا يغفل عن ذكره، يتلو القرآن علي الحافظ منا فيسمع له ويلقي بالمصحف إذا لم يجد حافظاً إلي الصغير فيراجع عليه ويملأ البيت بالقرآن والتلاوة سابحًا في آيات ، غارقاً في ذكريات ، صاعداً إلي سماوات ، يعرف الطريقة التي كان يقرأ بها النبي صلي الله عليه وسلم فيقرأ بها والمواقف التي كان عندها فيقف عندها .
وكان تعرو جسمه رعدة وتأخذ نفسه روعة فيتجهم لدي آيات الوعيد ، ويشرق عند آيات البشري والنعيم ، خارجًا عن الجو الذي يحيا فيه غائبًا عن معني بعيد بعيد .
يقول عنه الكاتب الأمريكي " روبير جاكسون " :
لقد حمل البنا المصحف ووقف به في طريق رجال الفكر الحديث ، ثم يقول عنه : وكان الرجل القرآني يؤمن بأن الإسلام قوة نفسية في ضمير الشرق وأنها تستطيع أن تمده بالحيوية التي تمكن له في الأرض .
وكان رحمه الله ذا فهم قرآني راق نابع من قلب داعية ، ففي ذلك يقول محمد عبد الحميد أحمد :
- " من الذكريات الجميلة التي لا تزال راسخة في أعماق نفسي ما فتح الله علي إمامنا الشهيد خلال محاضرات يوم الخميس من كل أسبوع لقسم الطلاب بالمركز العام ، وكان موضوع المحاضرة " دراسات قرآنية " تناول فيها موضوع الحروف المقطعة في أوائل بعض السور من القرآن الكريم مثل ( ألم ، ق ، ص .. الخ ) وتناول أراء المفسرين في دلالتها وحكمتها ..
- ثم هداه الله وكشف في هذه الحروف إذا جمعت وحذف المكرر منها تكون عبارة تدل علي أن هذه الحروف لها حكمة ربانية وسر إلهي ، وهذه العبارة هي " نص قاطع حكيم له سر " وقد عرضنا هذا التصوير علي الشيخ الصالح " كامل حسن " وكيل كلية الشريعة سابقًا رحمه الله فكان جوابه إن القرآن كما وصف الرسول عليه الصلاة والسلام لا تنتهي عجائبه ، وهذا فتح من الله يؤتيه الله من يشاء من عباده الصالحين ، والإمام البنا رجل قرآني امتزج القرآن بدمه ولحمه فلا عجب أن يهديه بتأمله وتدبره إلي هذه الملاحظة البديعة حقاً .
ويصفه الشيخ الغزالي فيقول:
- " إن الله جمع في شخصه مواهب تفرقت في أناس كثيرون وقد استفاد من تجارب من سبقوه من القادة ، وكان يدمن قراءة القرآن ويتلوه بصوت رخيم ويحسن تفسيره كأنه الطبري أو القرطبي ، ويفهم أصعب المعاني ويعرضها علي الجماهير بأسلوب سهل قريب .
- وقد درس السنة والفقه ففهم منهج السلف والخلف وأحاط بالتاريخ الإسلامي واطلع علي منهج محمد عبده ، ورشيد رضا وتعمق في حاضر العالم ومؤامرات الاحتلال الأجنبي" .
الجانب البدني
البدن هو مركب الروح لتنفيذ رغباتها والنفوس العظيمة تتعب من مرادها الأجسام فإذا كانت النفس تواقة إلي معالي الأمور والبدن لا يتحمل ذلك عجز عن تحقيق أهدافها وآمالها ، ولذلك وهب الله الإمام البنا قوة بدنية كبيرة ساعدته في أداء رسالته في هذه الحياة وقد بدت قوته وقوة تحمله في مواقف عديدة ، نذكر منها :
- فعندما كان طالبًا في مدرسة المعلمين الأولية بدمنهور وهو لا يزال فتي يافعًا يظل اليوم والليلة عاملاً مذاكراً لا ينام، ثم إذا نام نام الوقت القليل،فكان في يوم الخميس بعد ذهابه للمدرسة في دمنهور يرجع إلي المحمودية، فلا يذهب إلي بيته رغم أنه صائم ولكن إلي دكان الساعات، ومنه إلي البيت حتى يفطر ثم يذهب إلي المسجد للصلاة والدرس ، ثم يذهب إلي الحضرة ، ثم يسهر في المدارسة والذكر حتى صلاة الفجر ، ثم يستريح لفترة ، ثم يذهب بعدها للدكان للعمل حتى صلاة الجمعة ، ثم الدكان إلي المغرب فالمسجد فالمنزل ثم يذهب في الصباح إلي المدرسة .
- وعندما أصبح مرشداً للإخوان كان يقطع القطر المصري بمحافظاته المختلفة من شرقه إلي غربه ومن شماله إلي جنوبه في أيام معدودات ، يزور المراكز والقرى ويزور شعب الإخوان ويحاضر فيها ويوجه إخوانه إلي الخير ولا تسل كيف كانت وسائل المواصلات في ذلك الوقت ، ومع صعوبتها فقد كان حسن البنا لا يركب إلا قطار الدرجة الثالثة في معظم رحلاته ، وسأقدم لك نموذجًا لبعض الرحلات التي قام بها الإمام البنا لزيارة الشعب في يناير وفبراير سنة 1946م ، فهذه هي أيامه .
في يوم 9 صفر الموافق 13 يناير بالمنيا ، ويوم الاثنين و الثلاثاء حفلات بالمركز العام بالقاهرة " موعد المحاضرة الأسبوعية ".
ويوم الأربعاء 16 يناير بمنيا القمح وفاقوس ويوم الخميس 17 يناير أبو كبير والزقازيق ، والجمعة 18 يناير بالإسماعيلية ، والسبت 19 يناير ببورسعيد ، والأحد 20 يناير بالعزيزية ، والاثنين والثلاثاء حفلات بالمركز العام بالقاهرة ، والأربعاء 23 يناير بالمنصورة بشبين الكوم وطنطا أول والجمعة 25 يناير بطنطا ثان ودمنهور ، والسبت 26 يناير بالإسكندرية بمناطقها الثلاث ، والأحد 27 يناير بقليوب وشبين القناطر ، والاثنين 28 يناير بطوخ وبنها ، والثلاثاء بالمركز العام حفلات والمحاضرة الأسبوعية .
تلك كانت الزيارات المتفرقة ، وهي تبين مدى الجهد الذي يبذله دون كلل وملل ، وهناك رحلات أخري عرفها الإمام البنا وكانت تستغرق منه يوم الخميس بعد انتهاء اليوم الدراسي في مدرسته ، والجمعة والسبت ويعود منها مباشرة علي مدرسته يوم الأحد دون أن يتأخر عن موعده ، وقد كان يبذل فيها من المشقة والجهد ما يصعب علي كثير من أصحاب الأبدان القوية وإليك نموذج لذلك:
سنة 1357هـ-1939م:
- الساعة 3.40 يسافر من " القاهرة" مساء الخميس 21 ذي القعدة 12 يناير يصل إلي " المنيا " الساعة 8 مساء .
- الساعة 11.35 يسافر إلي " المنيا " في نفس الليلة – يصل " إدفو " الساعة 8.40 من صباح الجمعة .
- الساعة 1.25 يسافر " إدفو " بعد ظهر الجمعة فيصل إلي " قنا " الساعة 6.36 مساء .
- الساعة 8.24 يسافر من " قنا " صباح السبت إلي " نجع حمادي " فيصل الساعة 9.45 صباحًا أيضًا .
- الساعة 4.24 يسافر من " نجع حمادي " إلي " جرجا " فيصل إليها الساعة 5.44 مساء السبت أيضًا .
- الساعة 10.55 مساء السبت يسافر من " جرجا " عائداً إلي القاهرة فيصلها الساعة 7 صباح يوم الأحد .
أما في أيام الإجازات الطويلة كإجازة نصف العام، أو إجازة آخر العام، فقد كان لها برنامج مماثل يتناسب مع طولها ، وإليك نموذج لها:
اليوم
|
التاريخ
|
البلد
|
الموعد والقطار
|
الأربعاء
|
30 يناير
|
العياط الوسطي
|
القيام من القاهرة الساعة 1.45 مساء ويصل الساعة 3 عصراً،القيام من العياط الساعة 7.45 مساء ويصل 8.15 مساء
|
الخميس
|
31 يناير
|
أسيوط البداري آبنوب
|
القيام من الواسطي الساعة 9.35 صباحًا ويصل الساعة 2.38 طهراً بالسيارات
|
الجمعة
|
1 فبراير
|
كوم أمبو أسوان
|
القيام من أسيوط الساعة 2.10 صباحًا ويصل 10.44 صباحًا،القيام من كوم أمبو الساعة 5.35 مساء ويصل 6.30 مساء
|
السبت
|
2 فبراير
|
إدفو إسنا
|
القيام من أسوان الساعة 6.5 صباحًا ويصل 8.38 صباحًا القيام من إدفو الساعة 5.20 مساء ويصل 6.20 مساء
|
الأحد
|
3 فبراير
|
الأقصر قوص قنا
|
القيام من إسنا الساعة 9.57 صباحًا ويصل 11.5 صباحًا القيام من الأقصر الساعة 3 مساء ويصل 3.42 مساء القيام من قوص الساعة 6.35 مساء ويصل 7.20 مساء
|
الاثنين
|
4 فبراير
|
دشنا نجع حمادي فرشوط
|
القيام من قنا الساعة 7.28 صباحًا ويصل 8.10 صباحًا القيام من دشنا الساعة 1.32 ظهراً ويصل 2 ظهراً القيام من نجع حمادي الساعة 6.6 مساء ويصل 6.30 مساء
|
الثلاثاء
|
5 فبراير
|
البلينا جرجا سوهاج وأخميم
|
القيام من فرشوط الساعة 9.5 ويصل 9.45 صباحًا القيام من البلينا الساعة 3.5 ظهراً ويصل 3.30 ظهراً القيام من جرجا الساعة 7.45 مساء ويصل 8.36 مساء
|
الأربعاء
|
6 فبراير
|
طهطا طما أبو تيج
|
القيام من سوهاج الساعة 8.5 صباحًا ويصل 8.55 صباحًا القيام من طهطا الساعة 11.43 صباحًا ويصل 3.30 ظهراً القيام من طما الساعة 5.56 صباحًا ويصل 6.30 مساء
|
الخميس
|
7 فبراير
|
منفلوط ديروط ملوي
|
القيام من أبو تيج الساعة 7.8 صباحًا ويصل 9.9 مساء القيام من منفلوط الساعة 1.30 ظهراً ويصل 2.2 ظهراً القيام من ديروط الساعة 5.44 مساء ويصل 6.17 مساء
|
الجمعة
|
8 فبراير
|
الفكرية سمالوط بني مزار
|
القيام من ملوي الساعة 10.25 صباحًا ويصل 11.15 صباحًا القيام من الفكرية الساعة 2.52 ظهراً ويصل 3.45 ظهراً القيام من سمالوط الساعة 8.7 مساء ويصل 8.42 مساء
|
السبت
|
9 فبراير
|
مغاغة الفشن ببا
|
القيام من بني مزار الساعة 10.2 صباحًا ويصل 10.30 صباحًا القيام من مغاغة الساعة 4.34 مساء ويصل 4.56 مساء القيام من الفشن الساعة 6.53 مساء ويصل 7.10 مساء
|
الأحد
|
10 فبراير
|
بني سويف الفيوم
|
القيام من ببا الساعة 11.18 صباحًا ويصل 11.39 صباحًا بالسيارة من بني سويف بعد المغرب إن شاء الله
|
الاثنين
|
11 فبراير
|
القاهرة
|
من الفيوم بالقطار أو السيارة إن شاء الله والله المستعان
|
ومن ذلك نستطيع أن نصف الإمام الشهيد بأنه " رحالة في سبيل الله أبداً " حيث إن الداعية الحق هو من يقسم جهده ووقته بين أبناء دعوته ، فلكل واحد منهم نصيب ، البعيد منهم كالقريب عنده ، القاصي منهم لا يقل عن الداني ، وقد اعتاد الناس في شهور الصيف أن يفروا من حرارة جو الصعيد إلي حيث سواحل مصر الشمالية يتبردون برطيب جوها ويسعدون بشذا زرعها ومائها ، وكان الإمام البنا رحمه الله علي خلاف ذلك .
فشهور الصيف الحار التي تتشقق منه الأحجار يقضيها هذا الداعية المجاهد هناك حيث الكفور والنجوع والجبال ، وبمجرد أن تنتهي الأجازة الصيفية يعود أدراجه إلي القاهرة ليبدأ برنامجًا حافلاً لرحلته الشتوية في أرجاء الوجه البحري ، وكان له في ذلك كله مواقف وطرائف .
كان يقطع الوجه القبلي كله بلداً بلداً وقرية قرية في عشرين يوما ينام ساعة أو بعض ساعة في القطار وهو يضع رأسه تحت ذراعه وهم يتحدثون من حوله .
فإذا سافر مع أصحابه أشرف علي نومهم وبحث عن الأسرة والغطاء وكل أمورهم فإذا اطمأن إلي أنهم رقدوا عاد إلي حجرته يتوضأ ويصلي هزيعاً من الليل ويناجي حتى الفجر ثم ينام بعده ساعة أو ساعتين يستيقظ بعدها فتيا قويًا ، وسرعان ما يرتدي ثيابه ويتناول إفطاره ويكون في الطريق إلي العمل يجتمع مع أهل كل بلدة خاصة فإذا انتهي جمعهم في جماعة عامة .
وفي " القوصية " دعا زعيم البلدة الأستاذ البنا وإخوانه إلي طعام العشاء في قصره وما أن انتهي من الحفل المقام حتى بدأ ينصرف وسار وراءه كثير من أتباعه وقريبًا من القصر وقف وقال : يا فلان ثلاثة فقط يذهبون معنا ، ودعا كل جماعة تأخذ طريقها ، المسافرين والمقيمين ، حتى لا يعطي الرجل صورة معروفة عن بعض الطوائف ، وهناك علي المائدة – كعادته دائمًا – لا يأكل إلا القليل والقليل جداً ، فإذا عاد إلي غرفة نومه أخذ في كتابة مذكراته عن أعمال يومه .
وربما يزور بلدة من البلاد لأن له فيها مريداً واحداً وكان من عادته أن يزور إخوانه في أماكنهم ولا يحملهم مشقة الانتقال إليه ، فيركب الحمار والجمل والفرس ويركب القطار والأتوبيس والسيارة والمركب والمعدية ويمشي أحيانًا .
ذات مرة أراد أن ينتقل من البر الغربي للنيل إلي البر الشرقي ليزور بعض إخوانه هناك فقالوا له : إن المركب الوحيد علي هذا البر مفتوح ولا تصلح للركوب ويحسن أن نرسل إليهم أن يحضروا ، فقال : لا بل نذهب فيه وننقل الماء منه إلي البحر وقد كان .
وفي رحلاته كان يصحب معه حقيبة صغيرة فيها غيار الملابس وبعض كتب ومناديل وجرابات ومشط وفرشاة أسنان وشيء آخر " علبة الدقة " وهي علبة صفيح مستديرة ذات غطاء فيها مسحوق أسود اللون وقال له أحدهم : لم تحمل هذا ؟ فأجاب : من يدري لعلنا نذهب إلي بلد لا نجد فيها من ننزل عنده أو نعرفه عندئذ نغمس الرغيف في الدقة وننام في المسجد يضع أحدنا ذراعه تحت رأسه ويتغطي بعباءته وينام .
وكان كثيراً ما يحدث في أول الأمر أن ينزل بلداً من البلاد ويكون الوقت عصراً مثلاً فيتوجه إلي المسجد وبعد أن يصلي مع الناس يقف بجوار أحد الأعمدة ويستأذن الإمام في الكلام ، ويأخذ في تفسير حديث من أحاديث رسول الله صلي الله عليه وسلم ثم يستطرد إلي ما يريد أن يقول في يسر وبساطة ، وقد ينصرف الناس بعد أن يستمعوا إلي حديثه فيكون من أمره أن يبيت بالمسجد بعد أن يتوسد ذراعه وينام علي حصير الجامع ويتغطي بعباءته .
وكم قضي من الليالي علي هذا الوضع وكان قد عود نفسه أن يسافر إلي أسوان والأقصر في أجازة الصيف ، وقد قدر له أن يزور أربعة ألاف قرية في القطر كله وكان يخطب في كل بلدة ، وكان يأكل طعام الغداء مرتين أو ثلاثة ويسر لإخوانه الحاضرين معه من القاهرة : " كلوا نصف بطن هنا فأمامنا غداء آخر في البر الغربي وإذا لم نأكل هناك يغضبون منا " .
وكان في هذا التنقل العجيب يعرف كثيراً : اللهجات ، الأخلاق ، الطبائع ، القصص ، الأسرار ، التاريخ ، البيوت ، العائلات ، الغني والفقير ، الحياة والموت .
وما كان يتمتع به الإمام الشهيد من قوة بدنية ، قادرة علي تحمل المشاق والمصاعب يصفه الأستاذ أنور الجندي حيث صحبه في رحلته للحج عام 1946م يقول : نركب السيارة بين مكة والمدينة ويصيبنا الدوار ولا يصيبه ، نأكل بعض الأصناف فتصاب أمعاؤنا ولا يصاب ، ندخل جو مكة الحار بعد جونا الرطب ، وجو المدينة الرطب بعد جو مكة الحار فتتأثر صدورنا بالزكام والسعال وهو لا يتأثر ، يتعبنا المشي والتصعيد في غار حراء وهو لا يتعب ، تزعجنا المشاق وهو باسم راض ، تتأفف نفوسنا وتتوتر أعصابنا لبعض المواقف وهو هادئ يرد عنا ما بنا من غلظة وجفاف .ذلك فضل الله وذلك نتيجة التمرس الدائم بأعباء الحياة وأجوائها وأطعمتها وأسفارها .
وبتلك القوة البدنية التي حباه الله بها كان الإمام الشهيد قادراً علي تحمل كل الأجواء والظروف , قائظ ، أو برد قارص ، هواء عاصف ، أو نسيم عليل ، صحراء مقفرة ، أو أرض موحلة ، الكل يستوي عنده ، يتكيف مع كل ذلك دون مشقة أو عناء .
ومن لطيف ما يحكي في ذلك أنه لما دخل المعتقل في 16 أكتوبر عام 1941م وكان مع الأستاذ أحمد السكري ، وعبدالحكيم عابدين ، كان كثيراً ما يختلفان حول إعداد غرفة النوم أثناء النوم ، فقد كان الأستاذ أحمد السكري لا يستطيع أن ينام إلا إذا أغلق الشبابيك ، والزجاج والمنافذ كلها ، ولا يترك منفذاً أبداً ، وكان الأستاذ عابدين يقول له : " أن أكاد اختنق ، سأموت من الحر " وكان الأستاذ الإمام يضحك عليهما ويقول : " أضربوا رأسكما في رأس بعض " ، أنا سأنام فتحتم أو قفلتم .
ويعلق الأستاذ عابدين فيقول : والعبرة التي تأخذني أن الإمام الشهيد طيب الله ثراه ما كان يهمه أبداً أن ينام علي الأرض أو علي سرير ، في شباك مفتوح أو مغلق ، في حر أو في برد ، لا يبالي أبداً بشيء من هذا " .
الجانب العقلي
ليس المؤمن كما يتصوره الناس " كيس قطن " ولكنه كما جاء في الأثر " كيس فطن " وكما أخبر بذلك الخليفة الثاني رضي الله عنه " لست بالخب ولا الخب يخدعني " ، وهكذا فليكن الدعاة إلي الله : إيمان وتقي محوط بيقظة ودهاء يمكن الداعية من حسن التصرف في المواقف التغلب علي العقبات ، وقد كان الإمام الشهيد – رحمه الله – واحداً من هذه النماذج ، فلندع القول لمن عاصروه ورأوا المواقف بعيونهم شاهدة علي ذلك :
قال فضيلة الشيخ طنطاوي جوهري :
- " إنحسن البنا في نظري مزاج عجيب من التقوى والدهاء السياسي ، إنه قلب علي وعقل معاوية ، وإنه أضفى علي دعوة اليقظة عنصر " الجندية " ، ورد علي الحركة الوطنية عنصر " الإسلامية " ، وبذلك يعد هذا الجيل الإسلامي الحاضر النسخة الإسلامية الثانية الكاملة المعالم بعد الجيل الإسلامي الأول في عهد الرسول صلي الله عليه وسلم .
ومما يذكر علي سبيل المثال أن أزهرًا أراد أن ينفر منه المستمعين بإثارة جدل عقيم حول جزئيات سخيفة في بدء حركته في الإسماعيلية , فسأله عن اسم والد " إبراهيم الخليل " في معرض قصته فقال له البنا : " إن اسمه " تارخ " وإن " آزر " عمه .
والقرآن يقول إن آزر أبوه ولا مانع من أن يكون عمه لاستخدام ذلك في لغة العرب وقال بعض المفسرين:
- إن آزر اسم للصنم لا لأبيه ولا لعمه ونطق الإمام البنا كلمة تارخ بكسر الراء ، فرد عليه الأزهري إن الكلمة بضم الراء لا بكسرها إحراجًا له .. " وحين أراد الأزهري أن ينحو هذا النحو في كل درس تذرع بوسيلة تدل علي دهائه فدعاه إلي منزله وأكرمه وقدم له كتابين في الفقه والتصوف هدية وطمأنه علي أنه مستعد لمهاداته بما شاء من الكتب ، فطابت نفس الأزهري وواظب علي حضور الدروس وكف عن اللجاج .
ولعل أشد المواقف امتحانًا لذكائه ودهائه كان عندما صادر إبراهيم عبد الهادي أموال الجماعة وطاردها بعنف وتهمها بتبيين الانقلاب وعدم الولاء للعرش ، فما كان من البنا إلا أن صرح بأن الهيئة ستأخذ بالنهوض بحالة البلاد من الناحية الدينية والاجتماعية والاقتصادية مهملاً الناحية السياسية التي توغل فيها أيما توغل إبقاء علي الجماعة في وجه العنف ، وهو موقف لا بد من أن يكون قد حز في نفسه ؤآلمه أشد الألم بعد أن كان يرجو أن يجعل من الإخوان " الإنقاذ وكتائب الجهاد " وبعد أن صرح مرارًا أن السياسة جزء لا يتجزأ من منهجهم .
ومن أهم مفردات الجانب العقلي للدعاة الذاكرة القوية ، والقدرة علي التركيز ، لأن الدعاة يلقون كثيرًا من الوجوه ويتحدثون إلي أناس كثير ، فلو لم يؤتهم الله نعمة التركيز وهبة التذكر القوي والذاكرة الحادة ما استطاعوا أن يقودوا جموع الأتباع ولا أن ينشروا فكرتهم في كل الأصقاع .
وكان الإمام البنا نموذجًا فريدًا في هذا الباب وطرازًا عجيبًا في هذا الصدد:
يسمع إلي آلاف الأفكار والآراء والمذاهب فلا تؤثر في اتجاهه المركز الثابت وإنما تمده بالعون، ذلك أنه أوتي القوة الكاملة علي تحرير نفسه فلا يجرفه تيار فكرة ما إلا بعد البحث الدقيق .
أعطي هذا الرجل ذاكرة عجيبة لا تنسي اسمًا ولا وجهًا ولا مكانًا ولو طالت السنون ، ولذلك فهو يعرف أكبر مجموعة من الناس ويعرف عنها كل ما يحيط بها معرفة تامة ، ويعرف القطر مدنه وقراه ، ويعرف روح كل بلد ووضعها ونظم أهلها وتقاليدها وعاداتهم ومذاهبهم الدينية وكل ما يتعلق بكيانهم الروحي والاجتماعي والعقلي ، فيتمشي معهم ويحاول أن يرتفع بهم ، وكان يعرف أتباعه من صورهم وكانوا قد أرسلوا رسومهم وحضروا بعد عام فلما رآهم ناداهم بأسمائهم وكان يعرف أسماء أتباعه بعد أن يتلقي بهم للمرة الأولي وكان إذا سمع اسمًا ردده ، وإذا قيل له : فلان من عائلة " كذا " فتوقف وقال : هناك خمس عائلات في مصر تحمل هذا الاسم فمن أيهم هو ؟ .
عقله كأنه من المطابع التي تحفظ الصور والأسماء والأماكن علي كثرة ما لقي من الناس وشاهد من الصور والأماكن ، فقد طاف القطر من أقصاه إلي أقصاه المدن والقرى ، ورأي من المغرب والهند والشام والجزيرة العربية، وهو علي قدر ما التقي بالناس لا تغيب عنه أسماؤهم ولا أهدافهم ولا مسائلهم ، فذاكرته حافظة عجيبة الصمامات يفتحها في الوقت المطلوب , بالقدر المطلوب تحتوي شعرًا ونثرًا وأدبًا وتاريخًا وفقهًا وحديثاً وتصوفاً وقرآناً وطباً وقانوناً .
يصفه الأستاذ عمر التلمساني فيقول : كانت له ذاكرة غير مألوفة في قوتها : إذا سأل أخاً عن اسمه مرة وابنه وأبيه وعمله ثم التقي به بعد أشهر طوال حياه باسمه ، وسأله عن والده فلان ، وابنه فلان ، وكان ذلك مثار العجب عند الجميع ، ولو علمت عدد شعب الإخوان أيام حياته ، ولكل شعبة مسئول ثم هو بعد ذلك يعرف كل مسئول عن كل شعبة ،وهو الذي يعرف الآخرين بهم ، لأذهلتك هذه الذاكرة الجبارة ، التي ما ضاقت يوماً عن اسم أو غاب عنها حدث مهما طال به الزمن .
ومن الوقائع الدالة علي قوة ذاكرته رحمه الله ما كان بينه وبين كتاب " مستقبل الثقافة في مصر " حيث طلبت منه جمعية الشباب المسلمين إلقاء محاضرة عن الكتاب بعد خمسة أيام ولم يكن عند الإمام الشهيد وقت يخصصه لقراءته إلا في فترة ركوبه الترام في الصباح إلي مدرسته ، وفترة رجوعه منها ، وكان يضع علامات بالقلم الرصاص علي فقرات معينة .
وفي الموعد المحدد ذهب الإمام الشهيد إلي دار الشباب المسلمين فوجدها علي غير عادتها غاصة بالحاضرين وهم من رجال العلم والأدب والتربية في مصر ونتركه يكمل القصة فيقول : " ووقفت علي المنصة , واستفتحت بحمد الله , والصلاة والسلام علي رسول الله , وبجانبي الدكتور يحيى الدرديري السكرتير العام للشباب المسلمين , ورأيت الكتاب كله منطبعاً في خاطري بعلاماتي التي كانت علمتها بالقلم الرصاص .
وبدأت أول ما بدأت فقلت إنني لن أنقد هذا الكتاب بكلام من عندي , وإنما سأنقد بعضه ببعضه , وأخذت – ملتزماً بهذا الشرط – أذكر العبارة من الكتاب , وأعارضها بعبارة أخري من نفس الكتاب , ولاحظ الدكتور الدرديرى أنني في كل مرة أقول : " يقول الدكتور طه حسين في الكتاب في صفحة كذا .. واقرأ العبارة بنصها أيضاً من خاطري.
ثم أقول : ويناقض الدكتور طه نفسه فيقول في صفحة كذا .. وأقرأ العبارة بنصها أيضاً من خاطري , فاستوقفني الدكتور الدر ديري , وطلب إلي أن أمهله حتى يحضر نسخة من الكتاب ليراجع معي النصوص والصفحات , لأنه قرأ الكتاب , ولم يلاحظ فيه هذا التناقض " وكأنه لم يقرأ العبارة التي يسمعها الآن .
وأحضر له الكتاب , وظل يتابعني , فيجد العبارات لا تنقص حرفاً , ولا تزيد حرفاً , ويجد الصفحات كما أحددها تماماً , فكاد الدكتور الدرديري يجن , كما ساد الحاضرين جو من الدهشة والذهول والكل يتجه كلما قرأت من خاطري عبارتين متناقضتين إلي الدكتور الدرديري في كل مرة : " تماماً بالنصوص والصفحات " , وظللت علي هذه الوتيرة حتى أنهيت الكتاب كله ، وأنهيت المحاضرة ، فقام الجميع وفي مقدمتهم الدكتور الدرديري بين معانق ومقبل .
وفي موقف آخر : قدم إليه أكثر من مائة " كرت " بأسماء شباب الجوالة في إحدى المحافظات لتوقيعها , فراح يمعن النظر في صورة كل جوال ويحفظ اسمه ولما توجه بعد أكثر من سنة لزيارة بعض قرى هذه المحافظات , كان يلتقي بالإخوان ويناديهم بأسمائهم , ولم يكن قد التقى بهم من قبل إلا من خلال تلك " الكرنيهات" فكان ذلك مثار دهشة الجميع .
ويذكر المهندس سعد لاشين موقفاً للإمام البنا يدل علي ذكائه وقوة ذاكرته فيقول : " إنه أثناء حفلات الإخوان في سوهاج حضر الأستاذ البنا وكنت قد التحقت بالإخوان هناك حيث كنت أعمل بمديرية الزراعة بسوهاج.
فلما انتهي الحفل بدأ التعارف بين الإخوان وذكرت اسمي ومهنتى ، وبعد انتهاء التعارف بادرني الإمام البنا بالسؤال الآتي : الأستاذ محمود لاشين يقرب لك إيه ؟ فقلت له : هذا عمي فذهبت إلي عمي وكان في هذا الوقت مدرساً أول بالمدرسة الثانوية بسوهاج وقلت له : إن الأستاذ المرشد حسن البنا يعرفك فدهش عمي لأنه لم يلتق به إلا في سنة 1929م إذ كانا في مراقبة امتحان الشهادة الابتدائية , والمراقبة لا تستمر أكثر من أربعة أيام ، وكان ذلك أول لقاء لي مع الإمام البنا رحمه الله .
كان للداعية الأول للإسلام من البلاغة والفصاحة وحسن الحديث وروعة البيان ما جذب إليه فصحاء العرب وبلغاءهم حتى إنه لما سئل صلي الله عليه وسلم عن ذلك , قال : أدبني ربي فأحسن تأديبي ، حتى أن مشركى قريش كانوا يقولون عنه إنه ساحر لما يسلب به القلوب بحلو حديثه وعذب كلامه وبليغ منطقه .
وهكذا جعلها الله سنة في خلقه فحملة أولوية الدعوة إلي الله من بعد الداعية رسول الله صلي الله عليه السلام يمنحهم الله هذا البيان الصافي والأسلوب الساحر الأخاذ ، ومن هؤلاء كان الإمام البنا رحمه الله وحسبنا تدليلاً علي ذلك :
أقوال من عاصروه واغترفوا من معينه
يقول الأستاذ أنور الجندي :
- " كان حسن البنا كاتبًا وخطيبًا ومحدثاً من آيات البيان والتعبير ، ووراء ذلك كله المحصول الضخم من القراءات والثقافات والتجارب ، فقد أحاط بالتراث الإسلامي إحاطة طيبة ، وعرف من الناس العشرات ، استمع إليهم وحدثهم وعرف تجاربهم وما وعوه من سير الدعوة والدعاة " .
ويقول الدكتور منصور فهمي :
- " كان علي قدر عظيم من الإيمان والذكاء ومبشراً من الصالحين ، ويدعو لوجه الله علي أبلغ ما يدعو داعية مؤمن بما يقول وعلي خير صور التبليغ الذي يصل به المعلم المختار الملهم إلي نفوس تلاميذه وأذهان مريديه .
- اجتمعت به مراراً في المجالس التي تعمل للصالح العام كان إذا بدأ له أن يسوق رأيًا أو حكمًا كانت الحجج القاطعة تواتيه منتظمة في فصاحة البلغاء ولباقة الأذكياء الكيسين ، وفي تواضع العلماء الراسخين ، وفي إيمان الدعاة المخلصين ، وطالما سمعته خطيبًا ومحدثاً في المحافل العامة فكانت المعاني تواتيه جلية واضحة مرتبة ، وتتوالي علي لسانه العبارات طيعة سهلة فصيحة ولطالما كان يثبت معانيه وأقواله بقول الله المكين والأحداث المناسبة والشواهد الأخاذة من أعمال السلف الصالح " .وبمثل فصاحته البليغة الفياضة بحرارة الإيمان كان يقود الجماهير ويفيدهم بما ذهب إليه ويدعو له .
ويقول أحد الأمراء العرب :
- " لقد خاب ظني بادئ الرأي في حسن البنا أول ما لقيته في القاهرة لجسده الضئيل وبذلته الباهتة وسمته الذي لا يلفت العين ، فضلاَ من أن يلفت النفس ، فإن هي إلا دقائق في أحاديث مختلفات حتى بهرني الرجل البسيط : أصالة في الصدق تطوع من كان له بعض قلب وأصالة في الحجة والرأي مبرأة من شوائب الحسد أو العجب ، كل ذلك جمع سماحة نفس سيالة الود وتواضعًا عجيبًا ليس فيه إثارة وواقعية مدهشة وحفاظ علي ثلاثة أمور في وقت واحد :
- وعي راسخ بالأحكام الشرعية .
- حاضر الحجة من الكتاب والسنة ومحيط بخلافات الفقه ووجوهها .
- علي ثقة تم بدعوته وبمستقبل الإسلام والمسلمين .
بعض المواقف الرائعة في هذا الميدان
الموقف الأول : دخول الإمام البنا إلي الجامعة محاضراً عن ذكرى الهجرة النبوية :
كان الاحتفال بالهجرة مقصوراً علي الأزهر الشريف ، ولم تكن الجامعة في ذلك الوقت تحتفل بأي ذكري دينية ، وأراد طلاب الجامعة من الإخوان المسلمين أن يقيموا احتفالاً دينيًا في رحاب الجامعة ويدعو الإمام البنا لحضورها وإلقاء خطبة بها ، فأعلنوا في الجامعة عن الاحتفال وأن الذي يتلو السيرة النبوية هو الشيخ حسن أحمد عبد الرحمن ، فلم يعترض أحد علي ذلك من إدارة الجامعة ، وحان وقت الحفلة ، وامتلأت القاعة بالحضور والضيوف المتحدثين ، وكانوا صفوة من العلماء والمدرسين بالجامعة وعلي رأسهم الأستاذ أحمد أمين ، والأستاذ محمد الغمراوي.
وجلس معهم الإمام البنا وحين جاء الدور عليه في الحديث قام علي هيئة المتواضع ، ويتحدث بهدوء ، ويثني علي السادة العلماء ويذكر مناقبهم ، واحداً واحداً ثم بدأ حديثه بهدوء ، بدأ خفيض الصوت ، ناعمًا ، هادئًا ، ثم انطلق وتدفق حديثه وانسابت كلماته متدفقة إلي قلوب السامعين حتى جذبهم إليه ، وكان للإمام حماسه في حديثه وقوة في منطقته ، وبلاغة في حجته وسحر في بيانه ، فتجاوب معه الحاضرون والتهبت أيديهم بالتصفيق إعجابًا بحديث الإمام ، وصارت كلمة " الله أكبر ولله الحمد " تدوي في رحاب الجامعة ، وكان من ثمرة هذا النجاح الباهر أن أصرت إدارة الجامعة علي أن تكون الاحتفالات بالمناسبات الإسلامية بانتظام وأن يكون الإمام البنا هو الخطيب الرئيسي فيها .
فإذا كان حسن البنا رحمه الله مؤثراً في جموع البسطاء من العمال والفلاحين فإن تأثيره في رواد وطلاب الجامعة كان أشد .
موقف أخر :
يروي أحد ضباط البوليس : " كنت اعمل في أحدى قري مديرية " جرجا " وبينما أنا منهمك في لعب النرد بعد الغروب إذا جاءتني إشارة مستعجلة هذا نصها : ( يمر الليلة بالبلدة من يدعي الشيخ حسن البنا فالمطلوب مراقبة الاحتفال الذي يقام له وسماع كلمته فإذا وجدتم فيها ما يخالف القانون يقبض عليه فوراً ويرسل مع مخصوص.
قال : ضقت بالإشارة وبالشيخ فقد صرفاني عن رغبتي في اللعب ومضيت إلي ذلك السرادق البسيط المتواضع الذي أقيم ، وكان الرجل قد وصل وبدأ يتحدث وجلست في آخر الصفوف استمع وأراقب فماذا وجدت ؟ تكلم الرجل عن البلدة والإنارة والنظافة وطلب من الأهالي وضع " فوانيس " علي بيوتهم إلي أن يستطيعوا إنشاء مجلس كروي ودعاهم إلي بناء المساجد ، وظل يتحدث وأنا أصغي وأقول : ماذا في قول مثل هذا الرجل مما يضير الأمن العام .
وتحدث عن نسيان الخلافات وإجراء المصالحات بين الأسر واستطرد إلي حال الأمة حين تنسي ربها ودينها ، كنت استمع إليه كالمأخوذ ، وكأنما قد امسك بعناني وسحرني ، فما أن انتهي من كلمته حتى كنت أسرع الناس إلي التسليم عليه وفي اليوم التالي كنت أحمل حقيبته إلي القطار ! .
أوتي الإمام البنا أسلوبًا سهلاًَ ممتنعًا جمع الله إليه صوتًا قويًا له رنة حلوة نفاذة إلي القلوب مؤثرة في الأعصاب والأرواح تفعل فيها فعل السحر ، وهو إلي ذلك لا يستعمل الألفاظ الرنانة ولا الجمل المثيرة ولا الكلمات الجوفاء،إنما يستعمل المعاني العامرة ويخاطب القلوب والعقول معًا، ويعتمد علي المنطق والبرهان والحجة،ويجمع بين الأدب العربي الخالص البليغ واللهجة العادية التي يفهمها كل الناس ويجمع بين الفلسفات والاجتماعيات والقانون في نمط واحد يبسطه للناس حتى يصل إلي الأذهان فلا يثقل علي العامة ولا يزدريه الخاصة .
وهو يدعو إلي التراحم والمحبة بين الناس ،لا يفتعل العبارة ولا يتكلف الحديث ولكم يرسل القول إرسالاً ويبين ما يريد في بساطة ووضوح مستشهداً في كل موقف بآيات القرآن الكريم ، يحفظها حفظًا جيداً ويتلوها تلاوة عذبة ويوضحها إيضاحًا كاملاً ويفهمها فهمًا دقيقاً ، ويفتح عليه فتوح الفيض الإلهي والفتح الرباني وتمضي الساعات وهو مسترسل ويفيد فيسمع الناس في دهشة وذهول .
الجانب النفسي
إن نقاء السريرة وإخلاص النية وصفاء النفس من أهم صفات الداعية الحق ولا يجد القبول من الناس إلا بها وقد كان الإمام الشهيد علي قدر كبير من تلك الصفات النفسية الضرورية لكل إمام مجدد ونحاول في عجالة أن نعرض لبعضها :
- 1 – كان أبغض شيء إلي نفسه المدح والإطراء الشخصي :
عندما يسن إمام الدعاة إلي الله قانونًا فلا يسع أتباعه وحملة ألوية دعوته إلا السير علي نفس النهج ، فرسول الله صلي الله عليه وسلم ، يقنن لأمته عامة ولأهل الدعوة خاصة ذلك القانون العظيم " احثوا في وجه المداحين التراب " ذلك أنه كثيراً ما يكون نابعًا من النفاق ، أو يكون دافعًا إلي غرور الممدوح وتكبره بعد أن يمتلئ إعجابه لنفسه .
وعلي نفس المنوال نسج الدعاة إلي الله ومنهم الإمام البنا فقد كان يبغض المدح الشخصي أيما بغض ، ويكره ، ويبدو ذلك واضحًا من خلال هذه المواقف :
" دعيت وأنا وحديث عهد بدعوة الإخوان المسلمين إلي لقاء الإمام الشهيد حسن البنا في دمنهور .. كنت أتخليه شيخًا كبيراً له لحية طويلة وفي يده مسبحة طويلة ، ويضع علي رأسه عمامة واسعة فوجئت بأنه " أفندي " يرتدي البدلة وله وجه باسم يستقطب الناس بالنكتة اللطيفة وكان معروفًا وقتها أن الأفندية معظمهم لا يصلون .
وقف الأستاذ أحمد السكري وكيل الجماعة – في ذلك الوقت – والقي كلمة ثم قدم الأستاذ البنا بكلمات فيها الكثير من الإطراء قائلاً : " أيها الإخوان .. ها هو زعيمكم ومرشدكم ها هو قائد المسيرة ، نظرت إلي الأستاذ البنا فوجدته يرتجف ووجهه ممتقع ثم قام وأمسك بالميكروفون وقال : ما ماتت الدعوات إلا بسبب التفاف أصحابها حول الأشخاص فإذا مات الشخص ماتت الدعوة ..
وأنتم أيها الأحباب مبادئكم خالدة .. الله غايتكم والرسول زعيمكم والقرآن دستوركم والجهاد سبيلكم والموت في سبيل الله أسمي أمانيكم .. هذه المبادئ التي تلتفون حولها هي الباقية .. فسمح رحمه الله بهذه الكلمات كل الإطراءات التي قالها الأستاذ السكري .. وما رأيت إنسانًا بعده مسح إطراء قيل عنه كما فعل الإمام الشهيد وإنما يكتفي الناس بشكر من أثني عليهم أو بقول : غفر الله لنا ولكم .
ويذكر الأستاذ أنور الجندي أن الإمام كان ينزعج من المدح في شخصه ويقول : " إنه أنزلني من فوق منصة الخطابة في أسيوط بشدة وعنف لأنني كنت ألقي قصيدة جاء فيها ذكره فغضب لذلك وقال : إما أن يقول شيئًا عن الدعوة وإلا فانزلوه ، وقد فعلها مع كثير غيري من الإخوان وكنت اشعر بضجرة إذا حاول أحد من الإخوان أو من الناس أن يذكره بكلمة ثناء في قصيدة أو خطبة ، وكان يقول دائمًا : " تكلموا في الدعوة فهي باقية والأشخاص فانون " .
- 2 – التواضع والبعد عن العجب :
إن كان التواضع وخفض الجناح محجوبًا ومرغوبًا للمسلمين فهو الدعاة واجب ولازم لا غني لهم عنه ، ورسول الله صلي الله عليه وسلم كان إمام الدعاة وقدوة المتواضعين فهو القائل : " طوبي لمن تواضع في غير منقصه ولزم أهل الذل والمسكنة " حتى إن الجارية تلقاه صلي الله عليه وسلم في الطريق فتأخذ بيده تطوف به طرقات المدينة ما يمنعه من ذلك شيء ، ومن معينه صلي الله عليه وسلم قبس حملة لواء دعوته من بعده ، فكانوا به متأسين وعلي منواله ناسجين ومن هؤلاء كان مجدد دعوة الإسلام في هذا العصر الذي كادت أن توأد فيه دعوة الإسلام .
يذكر عبدالحكيم عابدين في مذكراته غير المنشورة :
- " بل أذكر مرة ومرات عديدة كان يكثر من التبرؤ بنفسه إلي الله عز وجل ، مثلاً في بعض المحاضرات يري إقبال الناس والإخوان يأتون في محاضرات الثلاثاء هذه بدون دعوة من أقصي أطراف القاهرة ، وقد يمشي الواحد منهم أكثر من عشرة كيلو مترات علي قدميه فكان هؤلاء الإخوان يحضرون دروس الثلاثاء وإذا نظر وراء هذه الكثرة الكاثرة وانتفاضها بالتكبير والتحميد عندما يتحدث ويكون في حديثه ما يروع ويعجب – وكل حديثه والحمد لله يروع ويعجب.
- كان لا يتردد في أن يقول : أيها الإخوان إنكم لتأتون إلي من بقاع بعيدة ومن بلاد نائية وأنا أعلم أن فيكم من يأتي مشيًا علي الأقدام وتأتون لتستفيدوا مني علمًا وتأخذوا عني خيراً ، والله لأعتقد في أعماق قلبي وشعوري بأن هناك في أواخر صفوفكم من لا تنظر إليهم عين ولا تصغي لهم أذن ، أناساً وشبابًا تدركني أنا بهم رحمة الله واقترب إلي الله أنا بمحبتهم ، واستمد الفيض والبركة من الله ومن قلوبهم.
- فكان دائمًا حريصًا علي هذه المعاني والفرار إلي الله عز وجل فراراً تامًا من أي معني أو مادة أو مكسب أو فائدة من هذه الدعوة من علو أو تقدير ، ويعلن فراره من هذه إعلانًا يكسر أنف من يركبه الغرور وتجعل أعلي الناس فخاراً بمواهبه لا يشعر إلا أنه حفنة تراب أمام جبل أشم .
- أما عن تواضعه رضي الله عنه فقد كان يجلس علي الحصير إذا كان المجلس أرضًا وفي آخر الصفوف إذا اصطفت المقاعد للجلوس منكمشاً فلا يكاد يري متواضعًا فلا يكاد يعرف لولا ما ينم عنه من علم وفضل ونور ، يلبس في غالب أحيانه الجلباب العادي من أرخص الأقمشة والعباءة من فوقه والعمامة يشرق من تحتها جبين وضاء ووجه كله سماحة وذكاء .
- 3 – التسامي عن المناصب والترفع عن المنن:
إن حب الرياسة خلق دنيوي ترابي لا يطمح إليه المحلقون في الآفاق الرحبة والأبراج العالية من النورانية والربانية والنعيم العظيم في الآخرة .
هذا إمام الدعاة الأول صلي الله عليه وسلم جاءه عتبة بن ربيعة ممثلاً قومه يعرض عليه أموراً :
- " قل يا أبا الوليد أسمع .. قال يا بن أخي إن كنت إنما تريد بما جئت به من هذا الأمر مالاً جمعنا لك من أموالنا حتى تكون أكثرنا مالاًً ، وإن كنت تريد ملكاً ملكناك علينا .. " ، فتلا رسول الله صلي الله عليه وسلم سورة فصلت حتى انتهي إلي السجدة فيها ثم قال : قد سمعت يا أبا الوليد ما سمعت فأنت وذاك ، هكذا رفض رسول الله الملك الذي يلهث وراءه الناس ..
وهو الأمر الذي كان الإمام البنا رحمه الله يتسامي عن طلبه والسعي إليه ، فقد كان يود أن يكون جنديًا من جنود الدعوة ويسلم قيادها إلي من يحمل عنه هذا العبء .
وقد عرضه مرات ورغب من الإخوان عدة مرات أن يكون هو جنديًا متواضعًا يتلق الأمر ممن يلي أمر الدعوة حين يجد من يلقي هذه الأوامر وكان يعني ذلك بجد لا بتحد وتعجيز بل برغبة صادقة حتى كان يقول : فرغوني أنا للعمل الخاص للدعوة اتركوا لي أنا الناس والشعب للتربية والتفقيه واختاروا لكم مرشداً عامًا يكون همه إدارة الدعوة وتصريف شئونها ويكون عملي مجرد داعية فقط ، لا أقيم في القاهرة إلا أيامًا قليلة أنقل لكم أخبار الأقاليم ، وسرحوني علي أجيال هذه الأمة وقراها وأصغر القرى فيها لأتولى التربية ، كانت هذه أمنيته وحرص عليها حتى إنه في أواخر أيامه رحمه الله قبل استشهاده بنحو سنة ونصف استطاع بعد مجهود أن يصل إلي صورة من هذه الصور ، وهو أن يوزع أعباء القيادة الفعلية علي أعوانه الموثوقين علي أن يكون هو فقط للسياسة العليا .
ومن عجيب أفعاله أنه رفض عرضًا من أحد علية القوم ، بأن يطلب إلي وزير المعارف ترقيته ليكون مفتشاً عامًا علي التعليم الديني في القطر المصري ، ويكون معه " أبونيه " الدرجة الأولي ليتفرغ للرحلات في أنحاء القطر المصري كله ، يوجه العملية التعليمية ، وينشر دعوته بين الناس ، فرفض الإمام الشهيد ذلك ، واعتذر له بلطف وأدب ، وقد عاتبه الأستاذ عبدالحكيم عابدين ، والشيخ الباقوري والأستاذ مصطفي الطير وقد كانوا معه في هذا الموقف علي هذا الرفض حيث كانوا يرون في عرض الشناوي بك عدة فوائد وضعوها بين يدي المرشد وهي :
- توفير الوقت ، حيث يتسع للزيارات والرحلات وعدم التقيد بمواعيد المدرسة .
- توفير المال الذي يسرف علي الرحلات .
- توفير الجهد ، حيث يجد المرشدالراحة في الدرجة الأولي أثناء السفر فيوفر علي نفسه الجهد والإرهاق الذي ينتابه من ركوب الدرجة الثالثة .
- أنه سوف يوجه العملية التعليمية توجيهًا صحيحا ، فضلا عن علاقته مع علية القوم من المفتشين والمديرين والنظار وغيرهم ، وسوف يكون ذلك فتحًا للدعوة حيث تستقطب هؤلاء الناس .
وقد أجاب الإمام الشهيد علي ذلك ، فأما توفير الوقت فقال : عندنا أجازة صيفية أربعة أشهر ، فالرحلات الطويلة نقوم بها فيها ، وعندنا أجازة نصف العام عشرة أيام ، وأجازة عيد الأضحى خمسة أيام ، وعيد الفطر أربعة أيام ، فما الذي يريده داعية بعد ذلك ، هل يريد بساط سليمان ليتصل بشعبه وجمهوره في الأقاليم ؟ ! .
قالوا : لكن هذا يكلفك الجهد الكثير ، فقال : يا إخوان : أنت نسيتم مبادئكم الدعوية ، من يطلب الراحة في أداء دعوته ، كيف تتجدد عنده شحنة الإيمان ؟ فإذا كان الداعية سيؤدي عمله كما لو كان يقوم برحلة صيد أو بنزهة فما هو المحرك الذي يؤجج الحماسة في نفسه ، وما هو الجديد الذي يستفيده علي مشاعره حتى يستطيع أن يشعر أنه مربوط بهذه الدعوة رباط حياة أو موت ؟ ، ثم لو طلب الداعي الراحة فسوف يطري عوده ، ولا يكون له جلد علي استكمال مشواره إلي نهايته ,
ثم هل تظنون أن الدعوة في القاهرة من السهل أن تستغني عن المرشد العام الشهور التي تتصورونها ؟ أنا لا أخاف إلا علي إخوان القاهرة ، لذلك أذهب إلي الأقاليم أتزود من إيمانهم وأحضر إلي القاهرةأجدد به إيمانكم .
أما توفير المال ، فأجاب المرشد : إذن لا نشعر بلذة البذل في سبيل الله ، ويفقد الأخ منا سعادته بأنه اقتطع القرش من قوته وقوت أولاده ليبذله في سبيل الله ، وهذه لذة لا يعرفها إلا من ذاقها مثلكم ، أنا نفسي إذا فقدت الشعور بأني أترك ولدي شبه جائع في سبيل تبليغ دعوة الخير للناس ، فقد أصبحت رئيس حزب أو رئيس جمعية ولم أكن داعية ، أين نحن من رسول الله صلي الله عليه وسلم الذي تروي عنه السيدة عائشة رضي الله عنها وأرضاها : " كنا نري الهلال ثم الهلال ما يوقد في بيت من بيوت رسول الله صلي الله عليه وسلم نار ، فقيل لها : فما كان طعامكم ياخالة ، قالت : الأسودين ، التمر والماء " .
أما عن إرهاق الدرجة الثالثة في السفر ، فأجاب المرشد : هل شكوت لكم يومًا من الإرهاق ؟ هل قال لكم الإخوان الذين تحدثت معهم طوال الليل : إن المرشد كان باديًا عليه الإنهاك لدرجة أنه لم يستطع أن يبلغ الدعوة ، يا إخواني ارجعوا إلي أصلنا ، فليست لنا قوة ، وليست لنا طاقة إلا الفقر إلي الله عز وجل ، الذي يمدنا بمدده الله : إننا استغنينا عنك ، واستبدلناك بوسائل الراحلة ، يا إخواني الافتقار إلي الله يأتينا بالقوة والعون ، ولولاه لوكلنا الله إلي أنفسنا ، فنضيع وتضيع الدعوة.
أما عن ذلك سوف يكون فتحًا للدعوة ويستقطب علية القوم لها ، فأجاب المرشد : إننا فعلاً سوف نكسب الكثير من رجال التعليم وكبارهم لكن لن يدخلوا لحلاوة الدعوة وانصبابها في قلوبهم ، وإنما سيدخلون تقربًا للمفتش العام ، الذي بيده ترقيتهم ، ونقلهم ، ووضع التقارير عنهم ، وحينئذ سنتعب في غربلة هؤلاء الناس وفوزهم وسنجد من هؤلاء من يكون بلاءً علي دعوتنا لأنهم يشبهون مسلمة الفتح ، الذين قبلهم الرسول صلي الله عليه وسلم حين ثبتت الدعوة ، واشتد عودها ، وأصبحت لها دولة تحميها أما نحن فما زلنا في مرحلة التأسيس ، وإذا قبلنا مسلمي الفتح هلكت دعوتنا وهلكنا جميعاً .
وبعد أن أجاب لهم المرشدعما حسبوه فوائد ذلك العرض ، وأعطاهم درسًا تربويًا مهمًا ، قال لهم : إن الشناوي بك يعرض ذلك بدافع إخلاص للدعوة ، لكنه لن يحصل عليه بموافقة وزير الأوقاف زكي العرابي باشا الذي هو وزير في وزارة الوفد ، وربما يحتاج إلي موافقة النحاس باشا نفسه ، ومعني ذلك أننا نطوق أعناقنا بأنفسنا للوفد المصري.
فإذا كنا الآن وليس لأحد علينا منة – نتهم بأننا وفديون ، ويرمينا البعض أننا أحرار دستوريون أو سعديون أو وطنيون .. فما بالكم لو قبلنا عرض الشناوي بك فسيقول الناس إن الإخوان أصبحوا أذناب الوفد ، ولا يهم الدليل ، بل وسيشعر الوفد بأننا أتباعه ، وهذا معناه إما أن نوافقهم دائمًا وإما أن تطلع علينا صحفهم وتقول : إن مدرس الخط الحقير الذي رفعناه إلي مفتش عام للتعليم الديني لم يذكر لنا هذا الجميل ، ولم يعرف لنا الوفاء .
- 4 – محاسبة النفس حتى علي خلجاتها وخواطرها:
ومن المواقف النفسية المهمة التي تدل علي شدة محاسبة الإمام البنا لخلجات نفسه ومراقبة الشهوات النفسانية الدقيقة ما حدث بعد أن أصدر حسين سري رئيس الوزراء سنة 1941م قراراً بنقل حسن البنا إلي قنا ، علي أن يكون التنفيذ فوراً وإلا الاعتقال ، ورأي الأستاذ المرشد في الأمر انتقاصًا من عزة الإيمان ، وامتهانًا لكرامة الإسلام ، وتخويفًا بالاعتقال ، وكأنه السيف المسلط من قبل الحكومة علي رقاب الإخوان وهو في مثل هذه الحالات ينقلب اللين والتسامح والرحمة والرأفة المعهودة في شخصية حسن البنا إلي الإسلام وصمود الحق ضد كبر الباطل وغروره .
والموقف يتلخص في أنه بعد أن أصدر حسين سري القرار رفضه الإمام الشهيد ، مستعداً للاعتقال المقرون عند الرفض ، وتجمع خلفه الإخوان وأصبحت الحكومة في موقف حرج ، خاصة وقد حددت موعداً نهائياً للتنفيذ ، وساقت عليه القوم لإقناع البنا بالقبول ، وتخويفه من إصرار حسين سري واستحالة عدم رجوعه عن قراره.
لكن أمام إصرار الإمام البنا وتمسك الإخوان بحقهم تدخل القصر الملكي في الموضوع ، وقبل انتهاء الموعد المحدد للتنفيذ بنصف ساعة ، اتصل القصر بالأستاذ عبد الحكيم عابدين ، وطلب منه ضبط عواطف الإخوان ، وطمأنه أن الموضوع بين يدي الملك الذي سوف يوجد له الحل خلال لحظات ، فدخل الأستاذ عابدين يخبر المرشد بذلك ، ونترك له تكملة القصة :
فدخلت علي المرشد وحوله الإخوان ،وهنا موقف من أعظم المواقف في أدب النفس ، وفي مراقبة الشهوات النفسانية الدقيقة من مواقف حسن البنا ، لأنني بمجرد أن دخلت عليه قلت : يا أستاذ يبدو أن المسألة ستنفرج ، اتصل بي حسنين باشا الآن وقال : المسألة بيد الملك ينظر فيها ، فيبدو أن المسألة ستنفرج ، ويزول شبح الاعتقال ، فإذا به يقول :
الله لا يجعلها تنفرج ، نريد أن نري إلي متى يظلون يخفوننا بالاعتقال ، وأخذ هذا الموقف في نفوسنا وألبابنا ، ورأينا فيه موقفًا رائعًا جداً من معاني الإباء والجلد والاستعداد للبذل والتضحية في سبيل الله والبلاء في سبيل دعوة الحق ، لكن حسن البنا لم يلبث أن مسح هذا الموقف بنفسه ، مسحة عظيمة وأثبت لنا أنه ليس موقفاً جديراً به إذ قال : والله ما كادت تمر ثوان بين الثورة التي قام فيها لا جعلها الله تنفرج وبين مقولته الثانية : قال استغفر الله العظيم ، هو الاعتقال سوف يتحول من أن يكون بلاء في سبيل الله إلي أن يكون شهوة من شهوات النفس ؟
ثم أخذته هزة سيطرت علي كل مشاعره وقال بصوت متهجد : اللهم إن كنت تعلم أن هذا الاعتقال شهوة من شهوات نفسي فاصرفه عني واصرفني عنه وهنا وجدنا أنفسنا فعلاً مشدوهين .
إن هذا الرجل وفي هذا المكان يسلط من إيمانه رقابة علي أدق أحاسيسه فيدركه الخوف أن تكون هذه الكلمة الأبية تنطوي علي شهوة من شهوات النفس في الاعتقال ، وما وراء الاعتقال من سمعة ، وما وراء الاعتقال أن يقال : هذا مجاهد ، وما وراء الاعتقال من ثناء وإعجاب ، وخشي أن تكون حظًا من حظوظ النفس ، لا بلاء ولا امتحان في سبيل الله ، فقال هذه الكلمة :
اللهم إن كنت تعلمها شهوة من شهوات نفسي فاصرفها عني واصرفني عنها ، وجلسنا صامتين حوله ، وهو لا يتكلم ، وقد شعرنا بأننا رفعنا عن هذه الأرض وعشنا بأجنحة خضراء تحت ظلال العرش ؛ لأنه مهما كان معني الكلمة ، ومهما كانت حافظة لحرفيتها ، فإن إلقاءها في هذا الجو لا يمكن أن يعاد إلا إذا عاد حسن البنا وعادت المسألة مرة ثانية ليعيش السامع هذا الجو الذي عشناه .
الجانب الإداري
ربما يندرج الجانب الإداري تحت الجانب النفسي ، إلا أننا أفردناه لأهميته في بناء الشخصية التي تريد أن تبعث أمة ، فقد كانت همم الإمام الشهيد فوق قدرته ، وقدرته فوق التعب والزمن ، يتسامي فوق الطاقة البشرية ، وأعماله الضخمة الموفقة أشبة بكرامات الأولياء منها بجهود العباقرة ، عزيمة تتضاءل دونها العزائم ، وهمة لا تبلغها العصبة أولو القوة إلا بروح من الله ورضوان .
وقد عرضنا قبل ذلك موقفه من شراء قصر آل أبو الحسن في الحلمية الجديدة ليجعله داراً للإخوان ، ورغم تعجب الجميع واجتماعهم علي أن ذلك ليس في الإمكان إلا أن إرادة البنا لم تضعف ، وتحقق له ما أراد .
ومثل ذلك حدث حين أراد أن يصدر مجلة الإخوان المسلمين ولم يكن في خزينة الإخوان شيء ، فجعل جنيهين في جيب أحد الإخوان هما رأس مال المجلة ، وصدر العدد الأول منها بعد ذلك بقليل ، وهكذا برأس مال " جنيهين سلفه " أنشئت مجلة عاشت أربع سنوات كاملة .
وموقف أخر لإرادة البنا التي لا تعرف المستحيل حين تآمر أصحاب مدرسة أهلية في مغاغة علي ناظر المدرسة الذي انتمي للإخوان ورأس شعبتهم هناك ، فاستغنوا عنه في وقت لا يستطيع معه الذهاب لمدرسة أخري ، حيث انتهت كل المدارس من إعداد معلميها ونظارها للعام الدراسي الجديد الذي لم يبق عليه إلا أقل من شهر واحد ، فاستقبل المرشد الخبر وهو يبتسم وقال : " لا بأس إذن ننشئ لع مدرسة يكون هو ناظرها وصاحبها " .
ولم يكن لقولة الأستاذ المرشد هذه معني في عرف العقل والمنطق والقياس للأسباب الآتية :
- أولا : لم يبق علي بدء الدراسة إلا أقل من شهر واحد
':ثانيًا' : أن هذا المشروع إذا أريد تنفيذه فإنه يحتاج إلي رأس مال لا يقل عن آلاف من الجنيهات في ذلك الوقت ، علي أن يستغرق تنفيذه إذا وجد هذا المال سنة علي الأقل .. فكيف يمكن مجرد التفكير فيه وليس لدي الشعبة ولا لدي المركز العام شيء من هذا المبلغ ؟! .
- ثالثاً : إذا فرضنا جدلاً أن مدرسة كاملو المباني وافية بجميع ما يشترط من الشروط الصحية والاجتماعية أنزلت لنا من السماء الآن ، فإن العقبة الكبرى التي لا يمكن تذليلها هي العثور في هذا الوقت علي مدرس واحد يتعاقد معه بعد أن ارتبط كل مدرس بمدرسته.
- رابعًا : أن إعداد المقاعد والقماطر والسبورات لمدرسة كهذه يحتاج إذا وجد المكان والمال إلي عدة أشهر .
- خامسًا : إذا افترضنا جدلاً أن هذه المدرسة موجودة بكامل معداتها ومدرسيها ، فإنها باعتبارها مدرسة جديدة إلي عام كامل مع جميع وسائل الإعلام الميسورة حتى يعلم الناس بوجودها .. ثم هي لا تبدأ إلا بالسنة الأولي أي بالصف الأول فقط ، لأن الناس لن يثقوا إلا إذا أثبتت نتائجها جدارتها ، لا سيما وفي المدينة مدرسة قديمة أثبتت جدارتها من قبل والجميع يثقون بها .
ويعلق الأستاذ محمود عبدالحليم قائلاً : تلقي وفد إخوان مغاغة وتلقينا نحن الحاضرين من إخوان المركز قولة الأستاذ هذه بابتسامة فيها كل المعاني التي تضمنتها الأسباب الخمسة السابقة ، ولكن الأستاذ المرشد كان مصممًا علي قولته حيث كررها أكثر من مرة تكرار الواثق المتمكن ..
ومع ارتيابنا بل ما نراه من استحالة في تحقيق هذا المشروع ، فإن ثقتنا التي تفوق كل تصور الأستاذ المرشد جعلتنا نتهم عقولنا ونتهم المنطق والواقع ونصدق ما يقول ، وبمشيئة الله وقدرته بدأت المدرسة في أول أيام الدراسة باستقبال تلاميذها وهي مستوفية جميع ما لا تستوفيه مدرسة إلا بعد مضي أربع سنوات علي إنشائها أو أكثر إذ الظروف مواتية ، ورحم الله الإمام البنا الذي كانت له إرادة لا تعرف المستحيل .
الجانب الروحي
رغم كل مميزات الإمام الشهيد إلا أن الميزة التي تنقطع دونها الأعناق ، والتي قلما يجود الزمان بزعيم يظفر بنصيب منها هي القوة الروحية الخارقة ، ويشهد بذلك موقعة الأستاذ أحمد السراوي معه في أوائل أيام انتقال الأستاذ المرشد من الإسماعيلية إلي القاهرة.
حيث طلب إليه الأستاذ السراوي أن يصاحبه في قضاء مصلحة له ، فسار معه حتى دخل معه منزلاً فوجد نفسه في مكان يشبه عيادة طبية ، ويكمل الأستاذ المرشد القصة فيقول : " وجاء الطبيب قبالتي وأخذ يحملق في عيني وأنا أنظر إليه في تعجب لا أدري ماذا يريد مني ..
يقول الأستاذ المرشد : وبعد نحو ساعة وقف الطبيب ، وقال للسراوي : صاحبك هذا قوة روحية خارقة ، ليس في الدنيا الآن قوة تستطيع التغلب عليها ولا أن تعادلها ، لقد حاولت معه بجميع الوسائل ولم اتركه إلا بعد أن أحسست أنني إذا زدت علي ذلك لحظة فسأنام أنا .
قال الأستاذ المرشد : وبعد أن خرجنا سألت السراوي عن هذه المفاجأة ، فقال لي : لقد لاحظت أن فيك قوة روحية جارفة ، فحاولت أن أعرف مدي هذه القوة ، فاتفقت مع هذا الرجل وهو أقوى منوم مغناطيسي في مصر علي مبلغ كبير إذا هو استطاع أن ينومك، ولم أشأ أن تعرف عن عزمي هذا شيئاً حتى آخذك علي غرة دون أن تستعد ، وقد خسر الرجل المبلغ " .
وكانت تلك القوة الروحية السبب الرئيسي في مقدرته علي إقناع الناس بما يريده ، بل إقناع أعداء الدعوة الذين يعملون علي تدميرها بالعزوف عن ذلك ، وكان هؤلاء الأعداء يعرفون ذلك جيداً ، ويحسبون حسابه ، من ذلك موقف عبد الرحمن عمار بك عندما كان وكيلاً للداخلية في وزارة النقراشي وشعر الأستاذ البنا بأمر الحل يعد فعلاً ، فحاول مقابلة النقراشي باشا ، وقابل عبد الرحمن عمار ، وطلب منه ذلك فاعتذر له عمار بك بمشغولية النقراشي باشا.
وتظاهراً بأنه سوف يحدد له موعداً ، وبعد خروج الإمام البنا من عنده سأله أحد العاملين بوزارة الداخلية وكان سامعًا للحوار الذي دار بينهما : لم كان منه هذا التصرف ؟ فقال عمار بك : " إحنا لو تركنا الأستاذ لمقابلة النقراشي باشا فلن يصدر أمر الحل ، لأن هذا الرجل قادر علي إقناع النقراشي باشا ، وبذلك تحدث أزمة بين الحكومة والسراي " .
وقد أعلن الأستاذ محمود عبدالحليم عن ذلك فقال : " إن حسن البنا كان من اتساع الأفق بحيث لا يعدم أن يجد بديلاً مهما بدا لجميع الناس أن الأمور قد ضاقت واستحكمت حلقاتها حتى صار الطريق مسدوداً لا منفذ فيه ، وكان هذا هو السبب في أن كثيرين من أعدائه كانوا يتحاشون لقاءه ؛ لأنهم كانوا واثقين من أنه سوف يلزمهم الحجة ويكسبهم إلي جانبه وهم لا يريدون ذلك حسداً من عند أنفسهم .
الجانب الاجتماعي
إن حملة لواء الدعوة الإسلامية بعد الإمام الأول رسول الله صلي الله عليه وسلم لا يكتب لهم النجاح إلا إذا ترسموا طريقه ونهجوا نهجه وتخلقوا بخلقه ، ولا شك أن الجانب الاجتماعي في شخص الداعي من الأهمية بمكان ، وقد تعدد مفردات الجانب الاجتماعي في شخص الإمام البنا إلي حد بعيد :
يقول صلي الله عليه وسلم : " ألا أنبئكم بأحبكم إلي أقربكم مني مجلسًا يوم القيامة ؟ قالوا : بلي يا رسول الله ، قال : أحاسنكم أخلاقًا ، الموطأن أكنافًا ، الذين يألفون ويألفون "
ونحسب الإمام البنا من هؤلاء ولا نزكيه علي الله ، فقد كان يتمثل هذا الحديث في حياته ، يتضح ذلك من سماته السابقة واللاحقة ونضيف هنا تلك الشهادات الصادقة :
كان الأستاذ البنا يشارك الإخوان في كل المناسبات الفردية والاجتماعية ، فهو يخطب الجمعة والعيدين ، ويصلي التراويح بهم في رمضان بختمه القرآن كاملة ، ويجري في كثير من الأحيان صيغة عقود الزواج لهم بنفسه ، ويدعو لأطفالهم بالدعاء المأثور ، حين يولدون ويشيع جنائزهم ، ويوجههم في حياتهم العامة والخاصة أفضل توجيه ، ويدير معهم الحديث في كل المناسبات ، ويخلص لهم الحب والمودة من كل نفسه وهم يبادلونه هذه العاطفة وهذا الشعور من أعماق قلوبهم ، وهذا هو سر تماسكهم ، وعجزت الدسائس والفتن عن أن تصل إلي كيانهم ، أو تنال من بنيانهم .
ويقول أنور الجندي : كانت صلة الداعية بإخوانه عجيبة حتى يكاد يشعر كل أخ من إخوانه إن له علاقة خاصة وصداقة خالصة ، يمتاز بها علي من سواه ، فضلاً عن أن له سرائر روحية كريمة مع كل أخ من الإخوان ، وله كلمات نافعة يستوحيها من نفوسهم واتجاهاتهم تظل ثابتة ، تفعل فعل السحر كلما قدم بها العهد ، تبرق في أطواء النفس ببريقها الجذاب الخاطف كما يبرق الكوكب اللماع في ظلمة الليل .
وما تزال هذه الألفاظ الكريمة والتوجيهات الصادقة تؤثر في الأخ الحبيب وتذكي في نفسه اللهب المقدس كالما اشتد الحنين .
- ب – جواد يعطي الإخوان حتى ما يلبسه :
كان رحمه الله عليه أرق من نسيم الصباح ، هذا العملاق الجبار الذي ملأ المشارق والمغارب ذكراً ، كان إذا كلم ولداً صغيراً في شأن من الشئون يحمر وجهه من الخجل والحياء لأن عنصر العاطفة كان طاغيًا علي هذا الرجل ، ولا أقول مسيطراً عليه ، والحنين والرقة للإخوان والرقة للناس ، كان شيئا عجيبا والله إنه أبر بالواحد منا وأخوف عليه من أمه التي أرضعته.
وهذا أيضًا حملنا متاعب كثيرة ، متاعب عاطفة المرشد العام وقد كلمه في ذلك مرة الشهيد الشيخ محمد فرغلي ، وقال له : إنك تحملنا كل هذه المتاعب في سبيل إرضاء عاطفتك الشخصية ووفائك الشخصي ، كنا مثلاً إذا سافرنا معًا ويكون لابس " معطف – كبود – فإذا من الإخوان مثلا يقول له : ما أحلي هذا البالطو ، إنه جيد وجميل ، فيخلعه ويعطيه للأخ ويقسم ولا يعود يلبسه .
- ج – يحب لغيره ما يحب لنفسه:
إن من علامات الإيمان أن تري المسلم يحب لغيره كل خير يتمناه لنفسه ، وهو في نفس الوقت يبغض للناس كل شر يبغضه لنفسه عملاً يقول إمام الدعاة صلي الله عليه وسلم : " لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه " ، وتطبيقًا لهذا النص المبارك علي حياة الإمام الشهيد رحمه الله نجد أنه آمن به عمليًا وجعله نبراسًا لحياته.
يؤيد ذلك هذا الموقف الذي كان بالمعتقل عندما جاءته البشري بالإفراج عنه دون أخوية اللذين معه مع إن خروجه له مبرره القوى حيث يتولي الإمساك بدفة الدعوة ويوجهها حيث يريد الله لكن عليه رحمة الله رفض الخروج بدون أخوية عبدالحكيم عابدين ، وأحمد السكري ، وأرسل رئيس الوزارة حسين سري باشا العضو البرلماني عن منطقة أسيوط حامد جودة إلي الإمام البنا في المعتقل محاولاً إقناعه بذلك ، إلا أن الإمام البنا أصر علي موقفه ، وجلس مع حامد جودة يحدثه عن كيف يكون أخلاق القائد مع جنوده .
وتنازلت الحكومة أن تخرج الأستاذ المرشد بالقوة إلا أن الأستاذ عبد الحكيم عابدين هدد بقتل كل من يتعرض للإمام البنا أو يمس شعرة منه ، ورأي المرشد أن يقبل بالإفراج عنهما "البنا والسكري " حقنًا للدماء ففعل .
ومن الذكريات التي تكشف عن عبقرية الإمام الشهيد في حل المشكلات وإنقاذ المواقف ما بلغني من الأخ السيد " عبد الحي الخولي " نائب شعبة " سوهاج " بالصعيد ، فقد حدثني أن الشيخ " عبد الله المازني " عضو الهيئة التأسيسية رغب في تأسيس شعبة للإخوان في قريته " نجع مازن " ولم يرد الاستئذان من عمدة بلدته.
ورأي أن الإخوان أسمي من أن يستأذنوا أحداً في هذا الشأن فاتصل رأسًا بالمركز العام وطلب من فضيلة المرشد أن يفتح هذه الشعبة ومعه من يشاء من كبار الإخوان ، وأعد سرادقًا كبيراً يسع المئات من الناس ، وحدد اليوم الذي يحضر فيه ، ووافق الأستاذ المرشد ووعد بالحضور في الموعد المحدد ..
وبعد إعداد السرادق الكبير وفي اليوم الذي قدم فيه المرشد بلغ العمدة " عمدة القرية " هذا الاحتفال وذلك الاستقبال فعز عليه أن يتم كل هذا دون علمه وبغير استئذانه وعو عمدة البلدة ، فثار ثورة مضرية وغضب غضبة " صعيدية " وعزم علي أن يتقلد سلاحه مع مجموعة من الرجال الأشداء ذوي قرباه ليهدم هذا السرادق علي رؤوس أصحابه ويقتل من يتعرض له من الإخوان ..
وفي اللحظة الأخيرة بلغ المرشد هذه الثورة العارمة وذلك العزم الرهيب فما كان منه إلا أن تسارع في خطوات سريعة إلي بيت العمدة ولم يعر اهتمامًا بالحفل الإخواني ومن فيه والاستقبال الذي ينتظره في ظلال التكبير والتهليل ..
ومضي راكضاً إلي مقر العمدة فالتقي به في منتصف الطريق ومعه عصابته الأشداء وبأيديهم الأسلحة والمعاول والحجارة .. فما كان من المرشد إلا أن اندفاع إلي العمدة يحييه ويعرفه بنفسه قائلاً : " أنا " حسن البنا " جئت أعتذر إليكم مما فعله الشيخ " عبد الله المازني " معكم ، فقد أقام هذا الحفل الكبير دون استئذانكم وقد جئت أطلب إليكم عقوبة شديدة عليه لمخالفة آداب الإسلام في موقفه هذا ، فما كان من العمدة إزاء كلمة المرشد إلا أن قال : لقد سامحته يا شيخنا من أجل خاطركم ، فأجاب الأستاذ ولكني لا أسامحه وأصر علي عقوبته ..
فقال العمدة : عفا الله عما سلف ، ويسرني أن أدعوكم إلي حضور هذا الحفل ليزداد بكم سروراً وشرفاً كبيراً " فلبي العمدة ومن معه طلب الأستاذ المرشد راضيًا مغتبطاً واندمج العمدة ومن معه في هذا الحفل يكبر مع المكبرين ويهلل مع المهللين .
وهكذا أنهي الله سبحانه وتعالي هذه الحملة النازية الحامية التي أدركها الإمام قبل اشتعالها وأطفأها بحكمته وتواضعه ، وقد آثر ألا يستريح لحظة بعد قدومه من هذا السفر البعيد المرهق وقد علاه غبار السفر ولم يجف عرقه بعد .. تاركًا المظاهر ؛ مظاهر القيادة والهتاف والتكبير والتعظيم ، فإذا بالنار المتأججة تتحول إلي برد وسلام وإذا بالخصومة المستعرة تنقلب إلي محبة غامرة .. وهكذا يعالج الإمام الشهيد المشكلات ويقضي عليها بنفحات إخلاصه وإيمانه وتقواه .