الإمام "البنا" أعجوبة زمننا ورائد الخير والحرية
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين، سيدنا محمد وعلى آله وصحبه ومن دعا بدعوته واهتدى بهديه وسار على سنته إلى يوم الدين، أما بعد:
فإن ذكرى استشهاد الإمام "البنا" ذكرى تؤلم المؤمنين، فإن الرجل عاش للإسلام، ولجمع هذه الأمة، ولتوحيد شتاتها، ولبنائها من جديد على هذا الدين.. عاش طول حياته مذكِّرًا بالله، داعيًا إلى الله، مربيًا ناصحًا، وكان يقول: "نقاتل الناس بالحب"، "نقاتل الناس بالحب".
دخل عليه مرة أحد زملائه في (دار العلوم)، وقال له: يا "حسن"، أنا أكرهك! فقال: إني أحبك، قال: والله العظيم، أنا أكرهك! فقال: والله العظيم، أنا أحبك كثيرًا! قال: هذا ما يزيدني كراهية لك! قال: وهذا ما يزيدني حبًّا لك! فانصرف الرجل، وقد أبطل حجته، أما الأمر الذي جاء يقول للإمام عنه هذه الكلمات النابية، فهي أن شباب الإخوان من الجوالة كانوا يلبسون الشورط إلى الركبة، فساءه هذا الأمر وكأنه أمر خطير، وجاء يقول للإمام هذه الألفاظ التي لا تليق، ورد عليه بهذه الصورة التي لم نرَ مثيلاً لها في الدعاة إلا في سيد الخلق- صلى الله عليه وسلم- ومن جاء من بعده من الغُرِّ الميامين.
الإمام "البنا" شهيد فلسطين، شهيد قضية فلسطين، شهيد قضية الإسلام الكبرى (فلسطين)، التي ضيعها العرب بتخاذلهم، وتقصيرهم، وقعودهم، واختلافاتهم؛ فجاء هو ليقيم الرجال الذين يجاهدون في سبيل الله، ولا يخافون لومة لائم.. وقف لليهود بالمرصاد، يُعرِّف الناس بتاريخهم، ويذكر الناس بخطرهم، ويجمِّع الناس، يجمع المسلمين للوقوف أمامهم وصدهم عما يفعلون.
الإمام "البنا" حين أحس اليهود.. حين أحست الصليبية.. حين أحست الصهيونية.. حين أحس الغرب بخطره، وأنه يجاهد في سبيل الله، هو ومَن وراءه، اجتمع سفراء الدول في (فايد) أمريكا وفرنسا وبريطانيا، وطلبوا من الحكومة المصرية حل جماعة (الإخوان المسلمين)، والتصرف مع ذلك الرجل الذي أصبح خطرًا يهددهم، ويأتي على كل الانحرافات التي بثوها في هذه الأوطان من تفرقة ومن أشياء لا تليق بالمؤمنين ولا بالمسلمين..
جاء الإمام "البنا" إلى هذه الدنيا، وقد انطلق الباطل، وأصبح له صولة وجولة، حتى وجُد من يدعو جهارًا نهارًا للإلحاد في مصر بلد الأزهر.. حتى وجُد من يمشي في الطرقات، ويبشر بغير هذا الإسلام، فكان الإمام "البنا" هو الرد العملي بإخوانه وبجماعته، وبالراية التي رفعها، وبتذكير المسلمين.. كان سببًا في هذه الصحوة، سببًا في هذه اليقظة الإسلامية، التي راحت تعد الأبناء على الجهاد في سبيل الله.
ولقد برَّ الإخوان في موقفهم من قضية فلسطين، وقد سافر الشباب في أعمار الزهور يواجه اليهود، ويواجه الصهيونية، ويقف أمامها، ويكيل لها الصاع صاعين ويردها.. وما زال اليهود إلى اليوم يكرهون أن يقابلوا الإخوان، أو أن يلاقوا الإخوان في أي ميدان، ويقول بعضهم: نحن على استعداد للقاء جيوش المسلمين جميعًا! ولكن لسنا على استعداد لملاقاة الإخوان المسلمين. وحين أُسر حاكم غزة في الفترة الأخيرة قبل 1967م.. حين أُسر سألوه: هل يوجد عندكم إخوان؟ قال: لا، وأخذوا يؤكدون هذا المعنى، ثم سألهم: لماذا.. لماذا تسألون؟! قالوا لهم: لن ننسى.. لن ننسى أبدًا الضابط الإخواني، الذي وقف أمامنا في ممر (متلا) يردنا، ولم نستطع أن نقترب منه، إلا بعد أن توفي على مدفعه.
الإخوان المسلمون وقضية فلسطين، الإخوان المسلمون وقضايا العالم الإسلامي والعربي كله، هي ديدنهم، وهي حياتهم، وهم الذين نذروا أنفسهم على تحرير المسلمين وإخراجهم من الظلمات إلى النور بإذن ربهم.. الإخوان المسلمين سيظلون يعملون وسيعلون جاهدين حتى يرث الله الأرض ومن عليها.
فالإمام "البنا" بدمه الذكي الطاهر، وبشهادته، أو باستشهاده في أكبر شوارع القاهرة- بلد الأزهر- جهارًا نهارًا، تُطفأ الأنوار، وتحاك المؤامرة، وتستيقظ الخسة في أحط معانيها، وأقذر معانيها؛ لتقتل إمامًا أعزلَ، جردوه من سلاحه، جردوه من أتباعه، جردوه من أبنائه، أبعدوا عنه كل من يدافع عنه، أما هو فالشجاعة التي تطلب الشهادة وكان يطلبها؛ كعمر بن الخطاب- رضي الله عنه- حين كان يقول في سجوده: "اللهم ارزقني الشهادة في سبيلك، واجعل مثواي ببلد رسولك- صلى الله عليه وسلم"، فرزقه الله الشهادة، ورزقه أن يدفن بجوار النبي- صلى الله عليه وسلم- كان الإمام "البنا" من هذا النوع المبارك الكريم؛ إمامًا أعزل، ليس معه إلا الله، يخرج في الليل ليدافع عن هذه الدعوة، وليدافع عن أبنائه المظلومين، الذين يُساقون إلى السجون والمعتقلات؛ إرضاءً للاستعمار.. يدافع عنهم؛ فكان مصيره أن يقتل أمام دار (الشبان المسلمين)، وقد كانت الإصابات ممكنة- كما يقولون- أن يعالج منها، فإنه نزل من السيارة وأخذ رقم السيارة التي أُطلقت منها الرصاصات، لكنها أُخذت منه، وذهب إلى القصر العيني، وهناك أصر "فاروق" وعملاؤه، أصر "فاروق" وأزياله وعملاؤه على أن يُتخلص منه، وعلى أن يُنتهى منه، ويقال: إن "فاروق" ذهب إلى القصر العيني، وظل هناك حتى طمأنوه بأن خصمه العنيد قد انتهى، وأسلم الروح.
وخرجت جثة الإمام "البنا" إلى البيت، وأُخذت تعهدات على الرجل، على أبيه ألا يستقبل معزين، وألا يسير أحد في الجنازة، وهناك في مسجد قريب من البيت صُلِّيَ عليه، ثم حُمل على أكتاف بناته وأبيه الشيخ الكبير إلى مستقره، وإلى قبره، الذي هو روضة من رياض الجنة إن شاء الله.
أما "فاروق" الذي فعل هذا قد قتله "عبد الناصر" بالسم في إيطاليا، ثم تظاهر- كعادته- بعد ذلك بأنه رجل وطني، وأمر بعودته إلى القاهرة، ودفنه هناك، وفي نفس المسجد الذي صُلِّي فيه على الإمام "البنا"، صُلِّي فيه على "فاروق" الخاسر الملعون، وخرج ولم يشيعه أحد إلى قبره الذي هو حفرة من حفر النار- نحسبه كذلك عند الله- مقام القتلة، مقام المجرمين.. أمَّا مقام الإمام "البنا" فهو مقام الصالحين الأولياء، الذين قال فيهم رسول الله- صلى الله عليه وسلم-: "إن أكرم أوليائي عندي لمؤمن خفيف الحال- خفيف من التبعات، خفيف من الأولاد وألوان المعيشات والحياة، متخفف من هذه الدنيا- مؤمن خفيف- ذو حظ من صلاة، أحسن عبادة ربه وأطاعه في السر، وكان غامضًا في الناس، لا يشار إليه بالبنان، وكان رزقه كفافًا، فصبر على ذلك.. ثم نقر- صلى الله عليه وسلم- بيده وقال: عجلت منيته، قل تراثه، قلت بواكيه"، والإمام "البنا" ينطبق عليه هذا الحديث الصحيح؛ عجلت منيته، توفي وهو يزيد عن الأربعين قليلاً بعد أن ملأ الدنيا خيرًا وفهمًا صحيحًا للإسلام، وتربيةً للجنوده الذين يحملوه، قل تراثه، قلت بواكيه؛ لم يستطع أحد أن يبكي عليه، ولا حتى أن يلبس بدلة سوداء في هذا اليوم، كان يقبض عليه، وكان يذهب إلى السجن؛ لأنه حزين على الإمام "البنا".. "قل تراثه، قلت بواكيه"، لم يترك شيئًا، لم يوجد في جيبه ولا في بيته أكثر من جنيه وبضعة قروش، هؤلاء هم الأبرار، هؤلاء هم حملة الدعوات، هؤلاء هم الأطهار، هؤلاء هم الرجال الذين قال الله فيهم: ﴿رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾ (الأحزاب : 33).
الإمام "البنا" أعجوبة هذا الزمن، ورائد من رواد الخير والحرية والفضل.. عاش للإسلام، واستشهد في سبيل الإسلام، رافعًا لرايته، رافعًا لهذا الحق، مربيًا لهذه الأجيال التي بفضل الله- عز وجل- انتشرت في كل أرجاء العالم؛ فلا تذهب إلى أي مكان إلا وتجد الإخوان، السمت الطيب، والفهم الصحيح، والخير الكثير.
يقول الحق تبارك وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَاسْجُدُوا وَاعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَافْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ* وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ هُوَ اجْتَبَاكُمْ وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِّلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْرَاهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِن قَبْلُ وَفِي هَذَا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيدًا عَلَيْكُمْ وَتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاَةَ وَآتُوا الزَّكَاةَ وَاعْتَصِمُوا بِاللهِ هُوَ مَوْلاَكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلَى وَنِعْمَ النَّصِيرُ﴾ (الحج : 77-78).
هذا هو الطريق، وهذا هو السبيل، وهذا هو حال من سلكوه بصدق وإخلاص؛ أن يتقبلهم الله، وأن يرفع في درجاتهم هناك في مقعد صدق عند مليك مقتدر.. رضي الله عنه وأرضاه، وجزاه عنا خير الجزاء، وتقبله في الصالحين، ورفع في درجاته إلى الفردوس الأعلى، إنه سميع مجيب، وأقول قولي هذا، وأستغفر الله لي ولكم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
.