أمين الحسيني
توطئة
"لا يموت حق وراءه مُطالب".. إن كان هناك مثال عملي لهذه المقولة فإنه محمد أمين الحسيني
عاش الرجل بهموم قضية فلسطين حتى آخر نفس في حياته، أثناء حياته دعت المنظمات اليهودية لقتله قائلة: "يجب أن يموت أمين الحسيني حتى نجد من الفلسطينيين من يتفاوض معنا".
وبعد موته قال أحد زعماء الكيان الصهيوني: "قد كان مقدراً أن تنشأ دولة إسرائيل خلال عشر سنوات أو خمس عشرة سنة من بدء المشروع، ولكن أمين الحسيني جعل الأمر يحتاج إلى عشرات السنين".
مسيرة جهاد بلغت ستين عامًا من عمر أمين الحسيني مفتي فلسطين، حمل خلالها راية الجهاد المقدس ضد اليهود الغاصبين، وطوى مشارق الأرض ومغاربها من أجل قضية بلده، فاضحًا أساليب السياسة البريطانية ومكائد اليهود، ومنبهًا المسلمين إلى ما يحاك ضدهم، وعاش حياته يقظًا لم يذق طعم النوم أو لذة الراحة وكيف ينام الحر الأبي وهو يرى وطنه يسرق، وتاريخه يغتال، وشعبه يحتل...
أمين الحسيني في سطور
- واجه أمين الحسيني خطط اليهود في فلسطين وكشف مكائدهم.
- شكل جماعات مسلحة لمواجهة الغاصبين.
- سافر إلى ألمانيا وقابل هتلر وطلب مساندة بلاده لقضية فلسطين.
- عاد إلى القاهرة سنة 1366هـ = 1946م بعد معاصرة جريئة واتصل بجماعة الإخوان المسلمين.
- ساعده الإخوان المسلمون وأمدوه بالمجاهدين والسلاح.
- تولى منصب رئيس الهيئة العربية لفلسطين التي تولت أمر القضية.
- ترك القاهرة في أواخر الخمسينات واستقر في بيروت.
- توفي في سنة 1394هـ = 1974م.
الوظائف والمناصب
- أسس ورأس "النادي العربي" 1915م، وهو أول منظمة سياسية عرفتها فلسطين، وانطلقت منها الحركة الوطنية الفلسطينية، ثم عمل معلمًا بمدرسة روضة المعارف الوطنية.
- انتخب مفتيًا للقدس عام 1921م خلفاً لشقيقه كامل الحسيني.
- رأس أول مجلس للشئون الإسلامية والأوقاف والمحاكم الشرعية وهو المجلس الإسلامي الأعلى لفلسطين عام 1922م.
- أشرف على إعادة تنظيم المحاكم الشرعية في سائر قطاعات فلسطين (18 محكمة شرعية).
- استعاد الإشراف على الأوقاف الإسلامية بعد أن كانت في يد النائب العام (وهو اليهودي الإنجليزي بنتويش).
- تأسيس وتقوية المدارس الإسلامية في كل أنحاء فلسطين.
- تأسيس الكلية الإسلامية (من 1924م إلى 1937م).
- تأسيس والإشراف على "دار الأيتام الإسلامية الصناعية" في القدس.
- رئاسة لجنة إعادة إعمار وترميم المسجد الأقصى وقبة الصخرة، وهو المشروع الذي تم في عام 1929م.
- رئاسة المؤتمر الإسلامي العام - وهو الذي بدأ منذ عام 1931م في القدس من أجل القضية الفلسطينية، وتكرر عقده برئاسته في مكة وبغداد وكراتشي وغيرها.
- تكوين جمعيات "الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر" للإصلاح بين المتخاصمين ومقاومة الدعوة الصهيونية للعرب ببيع أرضهم.
- تنسيق الجهود والإشراف على إعداد التنظيمات المسلحة في أرض فلسطين، والتي أثمرت "جيش الجهاد المقدس" في أطواره المختلفة.
- تأسيس ورئاسة "اللجنة العربية العليا لفلسطين".
- المشاركة في ثورة رشيد علي الكيلاني في العراق ضد الإنجليز عام 1941م.
- إنشاء مكاتب للحركة العربية والقضية الفلسطينية في برلين وروما، ثم في أماكن مختلفة من أوروبا بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.
- رئاسة "الهيئة العربية العليا لفلسطين" والتي تشكلت بموجب قرار من جامعة الدول العربية عام 1946م.
- رئاسة وفد فلسطين في مؤتمر باندونج عام 1955م، وقد حضر الوفد بصفة مراقب.
- تنسيق جهود الأعمال الفدائية بعد حرب 1948م.
- رئاسة "المؤتمر الوطني الفلسطيني" عام 1948، والذي أعلن حكومة عموم فلسطين ووضع دستورها، وبرنامج الحكومة.
المولد والنشأة
نشأ بين أسرة كريمة من أعرق البيوت في القدس فضلاً ومقامًا ولد محمد أمين الحسيني في سنة (1315هـ = 1897م)؛ وعاش في كنف والده الذي يتصل به بالحسين بن علي، وكان يعمل مفتيًا لمدينة القدس، فجمع إلى جلالة العلم شرف النسب والأصل، وعني الوالد بابنه الصغير فحفظه القرآن الكريم، وثقفه بالعلوم الدينية واللغوية، وأدخله مدرسة الفرير بالقدس ليتعلم الفرنسية، ثم بعث به إلى القاهرة ليستكمل تعليمه.
وفي القاهرة التحق بالأزهر، واتصل بالشيخ محمد رشيد رضا، وانتظم في دار الدعوة والإرشاد التي أسسها الشيخ رشيد، وكان يتردد على الجامعة المصرية القديمة ليستمع إلى المحاضرات التي يلقيها كبار الأساتذة المصريين، فاجتمع له زاد من الثقافة الدينية العميقة والعلوم العصرية الجديدة.
وشاءت الأقدار ألا يستكمل الطالب النابه دراسته بالقاهرة، فقد نشبت الحرب العالمية الأولى وكان في القدس في زيارة لأهله، فحيل بينه وبين العودة، وأرسله والده إلى الأستانة ليلتحق بالمدرسة الحربية وتخرج منها ضابطاً، والتحق بالجيش العثماني في ولاية أزمير، وعمل في مراكز عسكرية أخرى على البحر الأسود حتى نهاية الحرب مما أكسبه خبرة جيدة، كان لها الأثر الأكبر في شخصيته وحياته.
بعد نهاية الحرب، عاد الضابط الحسيني إلى القدس، وأصبح يعرف بين الناس بالحاج أمين الحسيني إذ كان قد اكتسب لقب الحاج عندما حج برفقة والدته. وهكذا كانت كتابات الحسيني تتلخص إثر عودته إلى بلده في كونه شاباً عربياً مؤمناً ومتعلماً، ملماً بالفكر الإسلامي النير، والعلوم المفيدة، والخبرة العسكرية، ويعرف من اللغات الأجنبية التركية والفرنسية، بالإضافة إلى ذلك كله كان بحكم انتمائه إلى أسرة آل الحسيني، ذات النسب والشرف مهيأ ليكون زعيماً وداعية مسموع الكلمة.
أمين الحسيني مفتيًا لفلسطين
أدرك أمين الحسيني مكائد الإنجليز ومكرهم الخبيث، فعمل على إحباط ما ترسمه السياسة الإنجليزية التي تحابي اليهود دون خجل أو مواربة، فقاد ثورة القدس الأولى سنة (1339هـ = 1920م)، الأمر الذي أفزع الإنجليز، فحاولو القبض عليه، لكنه نجح في الإفلات منهم، فأصدروا عليه حكمًا بالسجن لمدة عشر سنوات، وظل في دمشق بعيدًا عن أيديهم.
ولما تُوفي أخوه كامل الحسيني مفتي فلسطين سنة (1341هـ = 1922م) اختير أمين الحسيني خليفة لأخيه في هذا المنصب الجليل، فقام عليه خير قيام، وأهلته كفاءته أن يُختار رئيسًا للمجلس الشرعي الإسلامي الأعلى، ومديرًا لشئون الأوقاف والمحاكم الشرعية.
وقد نهض أمين الحسيني بكل هذه الأعباء التي أُلقيت على كاهله، فأصلح المحاكم الشرعية وأعد لها لوائح جديدة تيسِّر عملها في خدمة الناس، وضبط أموال الأوقاف وأنفقها في وجوه البر، فأنشأ دارًا للأيتام، جمعت من فقد أبويه وأهله ووضع لها برنامجًا إصلاحيًا، يتلقون فيها العلم، إلى جانب تعلم بعض مهارات المهن الضرورية كالطباعة والنجارة والحياكة. واهتم بتوجيه الشباب، فأنشأ الكلية الإسلامية سنة (1343هـ = 1924م) بالقدس بجوار المسجد الأقصى لتقبل من أنهوا دراساتهم الثانوية، وطاف العواصم العربية يجمع التبرعات لإنشاء جامعة الأقصى، كما أرسل بعثات تعليمية إلى مصر، ليلتحق أعضاؤها بالأزهر الشريف ومدرسة دار العلوم.
المواجهة المبكرة للوجود الصهيوني
ولم تشغله كل هذه الأعباء عن القضية التي نذر لها حياته، وعاش من أجلها وهي قضية الوجود الصهيوني في فلسطين، وكان قد تنبه إلى خطورة تحركها ومكرها الخفي في التسلل والاستيلاء على الأراضي المقدسة.
وحين رأى بعض الغافلين يبيعون أراضيهم لليهود هاله ذلك، وأخذ يقاوم هذه العملية الخبيثة، واستصدر فتوى من مؤتمر علماء فلسطين الأول سنة (1354هـ = 1935م) تحرم ذلك، ووقف بكل حزم أمام محاولات اليهود للاستيلاء على حائط المبكي، فحاولوا إغراءه بمبالغ طائلة ليتغاضى عن ذلك فباءت محاولتهم بالفشل.
وقاوم عملية هجرة اليهود إلى فلسطين وامتلاكهم الأراضي التي كان الاحتلال البريطاني يمنحها لهم، وشارك في الإضراب العام الذي تم في سنة (1355هـ = 1936م) ودعا إلى استمراره حتى يستجيب الاحتلال لمطالبهم المشروعة التي تتمثل في منع الهجرة اليهودية إلى فلسطين، وأصدر بيانًا دعا فيه الناسس إلى الامتناع عن دفع الضرائب إلى الحكومة مالم تستجب لهذه المطالب الوطنية.
وأدرك أمين الحسيني أن الأقوال لا قيمة لها مالم تُقرن بالعمل، وأن الخطب والبيانات لا تحرر أرضًا دون جهاد ونضال، فقام باستنهاض همة شعبه للجهاد، وأوقد في أفئدته جذوة الكفاح وشعلة المقاومة، فشكّل جماعات مسلحة ضد المحتلين الغاصبين سنة (1350هـ = 1931م)، وظلت تقوم بعملها المسلح حتى قامت منظمة الجهاد المقدس سنة (1354هـ = 1935م) بقيادة عبدالقادر الحسيني، وإشراف المفتي.
الخروج من الوطن
فزع الإنجليز من حركةأمين الحسيني اليقظة وسعيه الدائب وتنديده بهم، وأدركوا خطره عليهم، فحاولوا القبض عليه، لكنه نجح في الهروب إلى لبنان، فتعقبه الإنجليز وضغطوا على فرنسا لتسليمه إليها، وكانت لبنان تحت سيطرتها، فاضطر أمين الحسيني إلى الذهاب إلى العراق سنة (1358هـ = 1939م)، وهناك وقف إلى جانب ثورة رشيد الكيلاني سنة 1360هـ = 1941م) ضد الإنجليز، ولما فشلت الثورة فرّ المفتي من العراق عبر طريق إيران إلى ألمانيا؛ ليوطد صلته بالعدو الأول للإنجليز، فقابل هتلر وحاول كسب تأييد بلاده لقضيته.
وكانت رسالة المفتي السابقة على وصوله لألمانيا تتضمن المطالب الآتية:
- الاعتراف بحق البلدان الخاضعة للاحتلال الإنجليزي بالاستقلال: السودان، البحرين، الكويت، عمان، قطر، حضرموت، إمارات الخليج العربي.
- الإعلان من قبل دول المحور أنها لا تطمع في مصر والسودان.
- الإعتراف بحق العرب في إلغاء الوطن القومي اليهودي وعدم الاعتراف به.
وفي لقاء مع هتلر في عام 1941م، رد هتلر أن هذه المطالب سابقة لأوانها، وأنه عند هزيمته لقوات الحلفاء في هذه المناطق يأتي وقت مثل هذا الإعلان، ثم كانت المفأجاة عندما عرض أمين الحسيني في لقائه الثاني تكوين جيش عربي إسلامي من المتطوعين في الشمال الأفريقي وشرق المتوسط لمقاومة الحلفاء، فكان رد هتلر "إنني لا أخشى الشيوعية الدولية، ولا أخشى الإمبريالية الأمريكية البريطانية الصهيونية، ولكن أخشى أكثر من ذلك كله هذا الإسلام السياسي الدولي"،
وأثناء إقامة المفتي في ألمانيا، وصل إليها رشيد عالي الكيلاني ، فتقدم الاثنان بعدة مشاريع لتصريح رسمي أو معاهدة بين العرب والمحور تضمن للعرب الاعتراف من قبل المحور بالحرية والاستقلال للأقطار العربية الواقعة تحت الحكم البريطاني، وبالعمل للقضاء على الوطن القومي اليهودي في فلسطين، وبعد موافقة هتلر تمكنا من الحصول على تعهد رسمي من ألمانيا وإيطاليا موقع عليه من وزيري الخارجية الألماني والإيطالي، مؤيداً مطالبهم وموضحاً استعداد الحكومة الألمانية للمشاركة مع العرب في الكفاح ضد العدو المشترك الإنجليز واليهود حتى يتحقق النصر.
كما طلب المفتي من السلطات الألمانية أن توسع مجال عملها بشكل يتمكن فيه كل العرب المقيمين في بلاد المحور من الانضمام إلى الجيش الألماني للتدريب وتكوين جيش عربي، وبالفعل قررت الحكومة الألمانية إنشاء (الجيش العربي) ومد هذا الجيش بالأسلحة اللازمة، ولتحقيق هذا بنى الألمان مستودعاً كبيراً تخزن فيه الأسلحة الخفيفة، ووضعوا تحت تصرف الجيش أربع طائرات لنقل العتاد ووضعه في مخابئ سرية لتدريب المجاهدين في فلسطين.
أثناء إقامة المفتي في ألمانيا سمع بالمآسي التي حلت بالشعب البوسني المسلم عندما تصارعت عليه القوميتين الكرواتية والصربية، حيث اجتمع بزعماء بوسنة وهرسك، وبعد البحث معهم ومع قيادة القوات الألمانية في كيفية المحافظة على حياة البشانتة ومنع وقوع المذابح فيهم، وافقت الحكومة الألمانية على تجنيد الشبان منهم وتسليحهم للدفاع عن أنفسهم وعائلاتهم، كذلك اتفق المفتي مع السلطات الألمانية على إنشاء معهد للأئمة لتوزيعهم على وحدات الفرق البوسنية الذين زاد عدهم عن 100 ألف مقاتل، وقد أنشأ المعهد واختير له عدد من علماء البشناق لتوجيه أولئك الأئمة، وأنشأ المفتي كذلك بالاتفاق مع الألمان معهداً آخر في (دردسن) لتخريج الأئمة الأذربيجانيين والقوقازيين وغيرهم، وبذلك زاد عدد المجندين في بلاد المحور من عرب وبوسنيين وأذربيجانيين وغيرهم على مائتي ألف مقاتل، استطاعوا أن يمنعوا المجازر عنهم وعن جميع مسلمي البلقان وشرق أوروبا.
اشتدت غارات الحلفاء على ألمانيا عام 1943، فكانت بعض الغارات تهاجم برلين بألف طائرة أو أكثر، ولما شرع الحلفاء بالزحف على الأراضي الألمانية عام 1945 انتقل المفتي إلى باريس.
ولما انتهت الحرب العالمية الثانية بانتصار الحلفاء وهزيمة ألمانيا لم تغفل الصهيونية عن إدراك ثأرها من الرجل المناضل، فنادت المنظمات اليهودية بتقديمه إلى المحاكمة باعتباره مجرم حرب، وأنه حرّض هتلر على إبادة اليهودية، وما كانت الاحتجاجات التي توالت على هذا الاتهام إلا بسبب عداء السياسة الاستعمارية له، ولنشاطه الدائب في محاربة الصهيونية بكل وسيلة ممكنة، ولجهوده الصادقة في مناصرة مسلمي البوسنة الذين تعرضوا للفتك على أيدي الصرب، وكان قد تدخل في سنة (1362هـ = 1943م) لحماية المسلمين ورفع الظلم عنهم.
الاستقرار بالقاهرة والاتصال ب جماعة الإخوان المسلمين
ضاقت الحياة بالمفتي وهو في برلين بألمانيا بعد انتصار الحلفاء، وجدّت بريطانيا في القبض عليه، فلم يجد مفرًا من الرحيل سرًا في مغامرة جريئة إلى القاهرة سنة (1366هـ = 1946م)، واستُقبل فيها استقبالاً حارًا، وقابله الملك فاروق وأحسن استقباله، وبدأ في استئناف نشاطه من جديد، وأنشأ الهيئة العربية العليا لفلسطين، وهيئتها المالية التي عرفت باسم "بيت المال العربي"؛ كي تتولى جمع التبرعات وتنظيم إنفاقها في أعمال الجهاد.
وقد سارع المفتي وإخوانه المجاهدين بشراء السلاح وتنظيم قوات الجهاد بمساعدة جماعة الإخوان المسلمين، فكان الشهيد يوسف طلعت ورشاد مهنا وعبدالقادر الحسيني يقومون بشراء الأسلحة وإدخالها إلى فلسطين عبر سيناء.
وأعاد المفتي تنظيم جيش الجهاد المقدس، وأسند قيادته إلى عبدالقادر الحسيني، وأنشأ منظمة الشباب الفلسطيني التي انصهرت فيها منظمات الفتوة والجوالة والكشافة، وتولى قيادتها الصاغ محمود لبيب من قيادات جماعة الإخوان، وكُلِّف بمهمة تدريب الشباب على القتال.
المفتي رئيسًا للهيئة العربية لفلسطين
كان المفتي أمين الحسيني قد خبر السياسة وألاعيبها، وفطن إلى خداع البريطانيين ومكر اليهود، وأن الصدام العسكري آت لا محالة فاستعد له، لأن الحق مالم يصاحبه قوة تحميه ضاع بين مخالب الأقوياء، فلما أصدرت الجمعية العامة للأمم المتحدة قرارها بتقسيم فلسطين سنة (1367هـ = 1947م) رفض أمين الحسيني هذا القرار وندد به باعتباره رئيس الهيئة العربية العليا، ودعا إلى الجهاد المقدس.
واستجاب لدعوته الإمام الشهيد حسن البنا، وأعلن أنه على استعداد لأن يبعث عشرة آلاف مجاهد من الإخوان المسلمين إلى فلسطين، لكن الحكومة رفضت هذا الطلب، فتظاهر الإخوان المسلمون وعلى رأسهم المرشد العام في الأزهر الشريف، فتراجعت الحكومة عن موقفها، وسمحت للإخوان المسلمون بالتدريب، ووصلت كتائبهم إلى فلسطين.
ولم تكن هذه الاستجابة إلا تلبية لنداء الأخوة الإسلامية والقيام بالواجب والتعاون، وكانت الصلة بين جماعة الإخوان ومفتي فلسطين قديمة، ترجع إلى سنة (1354هـ = 1935م) حين أرسل الإمام حسن البنا وفدًا من عنده إلى فلسطين لمقابلة المفتي ومساندته في جهاده ضد اليهود، كما أنهم قاموا بحملة واسعة في أنحاء مصر لجمع تبرعات لمجاهدي فلسطين تحت اسم (ادفع قرشًا لفلسطين)، وقامت صحفهم بإثارة الوعي نحو قضية فلسطين، وإشعال الثورة في نفوس المصريين ضد المحتلين اليهود.
ولما أعلنت إسرائيل عن قيام دولتها دعا أمين الحسيني إلى عقد مؤتمر فلسطيني في غزة لإعلان استقلال فلسطين والعمل على تحرير أراضيها المحتلة، ولذا شكلت حكومة عموم فلسطين برئاسة أحمد عبدالباقي، لتتولى عملية الإعداد والتنظيم وترعى مصالح الشعب الفلسطيني.
الإقامة في بيروت
لم تطل إقامة أمين الحسيني ب|القاهرة بعد قيام حركة الجيش في مصر، فقد ضاق صدر القائمين على البلاد بإقامة المفتي المجاهد، وساءهم ثباته ونصرته للقضية الفلسطينية، وإصراره على أن يكون حلها من خلال تضافر الجهود الإسلامية المخلصة، وأن يخرج بالقضية من نطاق الجامعة العربية لتكون حدثًا إسلاميًا، وبسبب موقفه هذا تعرض لحملة ظالمة من الصحافة المصرية لم تراع إلاّ ولا ذمة ولا خلقًا ولا دينًا، فاضطر الرجل أن يغادر القاهرة إلى بيروت في أواخر الخمسينات، حيث أقام بها يشكو إلى الله من سوء الحكومات العربية التي لم تكن لها سياسة ثابتة ولا خطة معينة في معالجة القضية الفلسطينية.
وبعد نكبة سنة 1967م أُصيب المفتي الأكبر بمرض قلبي جاء نتيجة لضغط نفسي متواتر، فقد عزّ عليه أن تُساق الجيوش العربية إلى المعركة دون تخطيط، وأن تلقى هزيمة ساحقة دون أن يبذل الجنود ما ينتظر منهم من قتال ومقاومة.
ولم يقف أمين الحسيني مكتوف اليد، فواصل حياة الجهاد، وصدع بالحق، وعبأ النفوس ضد ما يقال بشأن تهويد القدس أو تدويلها، وكانت الدعاية الصهيونية قد ملأت أسماع العالم تحاول أن تطفر بالمدينة المقدسة، وفي الوقت نفسه تسعى سعيًا حثيثًا على محو هوية المدينة الأسيرة، وإزالة كل أثر عربي وإسلامي بها.
وفاة المفتي المجاهد
ظلّ أمين الحسيني على العهد حتى أخريات عمره لا يعوقه عن أداء رسالته مرض أو هِرم أو دعايات مغرضة تنهش عرضه وتحاول تشويه جهاده، وشاء الله أن تقرّ عينه بانتصار المسلمين في معركة رمضان المجيدة سنة (1393هـ = 1973م)
ولم تطل الحياة بالمفتي عقب هذا النصر المجيد فلقي الله في يوم الخميس الموافق (14 من جمادي الآخرة 1394هـ = 4 من يوليو 1974م) بعد حياة عريضة ودُفن في مقبرة الشهداء ببيروت.
المراجع
- حسين أدهم جرار، الحاج أمين الحسيني رائد جهاد وبطل قضية، دار الضياء، عمان، الأردن، 1407هـ = 1987م.
- عوني جدوع العبيدي، صفحات من حياة الحاج أمين الحسيني، مكتبة المنار، الأردن، 1405هـ = 1985م.
- عبدالله العقيل، من أعلام الحركة والدعوة الإسلامية المعاصرة، مكتبة المنار الإسلامية، الكويت، 1422هـ = 2001م.
- محمد رجب البيومي، النهضة الإسلامية في سير أعلامها المعاصرين، دار القلم، دمشق، 1415هـ = 1995م.
- أحمد طربيق، فلسطين في خطط الصهيونية والإستعمار، معهد البحوث والدراسات العربية، القاهرة، 1972م.