حسن الهضيبي
توطئة
يقول الحق - تبارك وتعالى: ﴿وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ﴾ (السجدة:24).
هذه الآية إيحاء للمؤمنين في كل زمان ومكان أن يصبروا كما صبر المختارون من عباد الله؛ ليكون منهم أئمة، كما تقرر الآية طريق الإمامة والقيادة، وهو الصبر واليقين.
ولقد كان إمامنا ترجمة عملية لهذه الآية، وكان يقول ما يقول، ويفعل ما يفعل، بدافع حب الحق لذاته، ويوقن بأن الدنيا لا يستقيم أمرها إلا بالحق والخير، وأن المسلم لا يستقيم أمره إلا إذا رصد نفسه للحق والخير ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ﴾(العصر: من الآية3).
لقد آثر رحمه الله كما آثر الصالحون من عباد الله أن يتجردوا للغايات العليا، وأن يتخلصوا من جميع العوائق في هذه الحياة.
وكانت له مواقف، ليست شرفًا للإسلام وحده وإن كان الإسلام أحق بها ولكنها شرف للرجولة، وللإنسانية وللمبادئ والأخلاق، لقد تحمل وصمد لأقسى ألوان العنت، والعذاب، والضيق، صمود الرجال الأبرار العظام؛ وكأنه جعل من نفسه مثلاً على أن التقدم في السن والمرض لا ينال من عظمة الروح، إذا وجدت إيمانها، واعتصمت بربها، وتشبثت بحقها.
ولقد أعطى رحمه الله درسًا بليغًا لكل من حوله، مفاده أن حرية الضمير، وسيادة العقيدة، لا يباعان بملء الأرض ذهبًا، ولا بملئها عذابًا، وإعناتًا.
حسن الهضيبي في سطور
- ولد حسن الهضيبي في "عرب الصوالحة" مركز "شبين القناطر" سنة 1309 هجرية، الموافق لشهر ديسمبر 1891 ميلادية.
- قرأ القرآن في كتاب القرية، ثم التحق بالأزهر لما كان يلوح فيه من روح دينية، وتقى مبكر، ثم تحول إلى الدراسة المدنية، حيث حصل على الشهادة الابتدائية عام 1907م.
- التحق بالمدرسة الخديوية الثانوية، وحصل على شهادة البكالوريا عام 1911م، ثم التحق بمدرسة الحقوق، وتخرج فيها عام 1915م.
- قضى فترة التمرين بالمحاماة في القاهرة حيث تدرج محاميًا. عمل في حقل المحاماة في مركز "شبين القناطر" لفترة قصيرة، ورحل منها إلى سوهاج لأول مرة في حياته دون سابق علم بها ودون أن يعرفه فيها أحد، وبقي فيها حتى عام 1924م حيث التحق بسلك القضاء.
- كان أول عمله بالقضاء في "قنا"، وانتقل إلى "نجع حمادي" عام 1925م ، ثم إلى "المنصورة" عام 1930م ، وبقي في "المنيا" سنة واحدة، ثم انتقل إلى أسيوط ، فالزقازيق ، فالجيزة عام 1933م ، حيث استقر سكنه بعدها بالقاهرة .
- تدرج في مناصب القضاء، فكان مدير إدارة النيابات، فرئيس التفتيش القضائي، فمستشارًا بمحكمة النقض.
- اعتقل للمرة الأولى مع إخوانه في 13 يناير 1953م ، وأفرج عنه في شهر مارس من نفس العام، حيث زاره كبار ضباط الثورة معتذرين.
- اعتقل للمرة الثانية أواخر عام 1954م حيث حوكم، وصدر عليه الحكم بالإعدام، ثم خفف إلى المؤبد.
- نقل بعد عام من السجن إلى الإقامة الجبرية، لإصابته بالذبحة ولكبر سنه. رفعت عنه الإقامة الجبرية عام 1961م . أعيد اعتقاله يوم 23/8/1965م في الأسكندرية ، وحوكم بإحياء التنظيم، وصدر عليه الحكم بالسجن ثلاث سنوات، على الرغم من أنه جاوز السبعين، وأخرج لمدة خمسة عشر يومًا إلى المستشفى، ثم إلى داره، ثم أعيد لإتمام مدة سجنه. مددت مدة السجن بعد انتهاء المدة حتى تاريخ 15 أكتوبر 1971م ، حيث تم الإفراج عنه.
- انتقل إلى رحمة ربه تعالى في الساعة السابعة صباح يوم الخميس 14 شوال 1393هـ الموافق 11 نوفمبر 1973م. رحمه الله، وتغمده بواسع رحمته.
الأستاذ حسن الهضيبي يروي قصة حياته
يروي الأستاذ الهضيبي في هذا المقال النادر الذي ننفرد بنشره قصةَ حياته من الميلاد حتى وفاة الإمام الشهيد ، فماذا يقول..
"ولدت من أبوين عاديين في عرب الصوالحة من أعمال مركز شبين.. ولم يكن أبي متميزًا في شيء يُذكر.. كان يصلي ككل رجال جيله، وكان كريمًا كطابع أهل هذا العصر، بارًّا بالضعفاء والمساكين، وإن امتاز بشيء فقد يكون اتساع الأفق، كان لا يعيش في عصره، بل كان يسبق معاصريه بمائة عام على الأقل.
كانت العصا في يد كلِّ أب يقوِّم بها معوَّج أولاده، ولا أذكر أن أبي ضربني مرة، ولا قبَّلني مرة، كان وقاره وهيبته وعظمته كافيًا لإقرار مبادئه في نفوسنا.
وأذكر له رحمه الله حرصَه الشديد على أن أتعلمَ وأتمَّ تعليمي وأصبحَ ذا شأن، كان يتحدث بين رفاقِه القلائلِ الذين كان يزورهم ويزورونه فإذا هو متحدثٌ بارعٌ ساحرٌ برغم بساطة تعليمه وسذاجة ثقافته.
دخلتُ كتاب القرية لأحفظ القرآن، ولحسن طالعي لم يكن (سيدنا) بالرجل القاسي ذي العصا والفلقة، بل كان شيخًا طيبًا صالحًا لم يضرب واحدًا منا مرة واحدة، وساعدنا على حفظ كتاب الله.
المحامي الساحر
وذات يوم كان أبي في (المندرة) يتحدث إلى زائريه ويتحدث زائروه إليه، ولفت سمعي صوتُ واحد من الزوار، تتبعته، أعجبتني بل سحرتني طريقته في الحديث فأنستني كل شيء، جذبني رنين صوته إلى (المندرة) التي لم أدخلها مرةً واحدةً في وجود أبي، وجلست أتطلع إلى الساحر، وانتهت السهرة، وخرج الرجل ذو الحديث اللذيذ الشائق
وسألتُ أبي: مَن هو؟
- محامٍ
- وكيف أصبح محاميًا؟
- تنتهي من دراستك وتدخل مدرسة الحقوق لتخرج محاميًا.
ومن هذه اللحظة، وكان عمري عشر سنوات قرَّرت أن أدخل مدرسة الحقوق لأصبحَ لبقًا ساحرًا مثل هذا الزائر، وتتابعت السنون والأحداث، وكبر معي عزمي وتكثفت رغباتي في مدرسة الحقوق، ولم أغيِّر خطتي فدخلتها.
إلى الأزهر:
استعد للسفر
إلى أين؟
وهل يؤدِّي الأزهر إلى مدرسة الحقوق؟
لا
وانفجرتُ باكيًا، ولكنها إرادة أبي التي لا يقف أمامها شيء.
سافرت وقطعت صلتي بمدرسة الحقوق، ولكنَّ دموعي لم تنقطع، دخلت الأزهر وبدأت في تجويد القرآن، ولم يستطع علماء الأزهر جميعًا أن ينسوني الساحر.
وذات يوم جاء أبي إلى القاهرة ودخل عليَّ فوجدني قد كتبت على ورقة "فلان المحامي" ووضعتها على مائدة قريبة، وقرأها أبي، ولم يكد ينتهي منها حتى قال لي: لا تذهب غدًا إلى الأزهر .
وفي اليوم التالي كنت في عداد طلبة مدرسة باب الشعرية الابتدائية.
الدراسة
كنت في المدرسة الابتدائية الأول باستمرار، وفي المدرسة الثانوية كنت تلميذًا وسطاً، وفي كلية الحقوق كنت متأخرًا، ولا أذكر أني كنت طالبًا ثائرًا.. بل تلميذًا نظاميًّا.. أؤمن وما زلت وأفضِّل الأغبياء المنظمين على العباقرة الفوضويين.
لم أشترك في مظاهرة واحدة طوال مدة التلمذة، اللهم إلا جنازة مصطفى كامل .. وما زلتُ أذكر أنني مرة دخلت المدرسة وحدي وجلست لأن المظاهرة في ذلك اليوم لم تكن لسبب وجيه يستحق الإضراب.
وكنت معروفًا لزملائي، يحتكمون إليَّ في خلافاتهم ومنازعاتهم الشخصية، وكنت دائمًا محل ثقة أساتذتي برغم أني كما قلت لم أكن طالبًا نابهًا.كنتُ أصلي منذ صباي، وإن لم تكن صلاتي بانتظام فقد كنت أجمع الفروض لأؤديها معًا.
وفي مدرسة الحقوق وقعت في ضائقةٍ ورفعت رأسي إلى السماء أبحث عن الفرج من الضيق، وكان ربي قريبًا مني فانفرجت الضائقة، ومن يومها قرَّرت ألا أجمعَ فرضًا على فرض بل أؤدِّي الصلاة بانتظامٍ تام، ومن لحظتها حتى كتابة هذه السطور وإلى يوم أن أموت إن شاء الله لن أخلفَ ما عاهدت الله عليه.
قصة زواجي
وتخرجتُ في مدرسة الحقوق عام 1915م ، والتحقتُ بمكتب الأستاذ حافظ رمضان، وقد كنت في ذلك الوقت أسكن بمنزل رجل عالم فاضل وكان له ابن اتخذتُ منه صديقي الوحيد في القاهرة ، وكم تمنيت أن تكون لهذا العالم الفاضل ابنة اتخذها شريكة لحياتي، ولم يخيب الله أملي فرأيتها مصادفةً ذات يوم، وفي اليوم التالي لحصولي على ليسانس الحقوق ذهبت إلى والدها أطلب يدها.
وقال لي العالم الفاضل: أليس من الأفضل أن يتقدَّم والدك بهذا الطلب؟
قلت له في بساطة: لقد تقدَّم والدي يومًا عندما أراد أن يتزوَّج من والدتي، أما أنا فأتقدَّم لأني أنا الزوج لا والدي.
واقتنع الرجل الطيب، ودعوتُ أبي ليشهدَ عقد قراني، والتقيت به، وكنت الوحيد الذي أعلم أن هذا التصرف سيعجب أبي لأنه كما قلت كان لا يعيش في عصره، بل سقط من حسابه الكثير من التقاليد التي كانت تسجن هذا العصر وراء أسوارها الجامدة، وقال لي أبي وهو يصافحني: لقد تمنيتُ على الله دائمًا أن يحدث هذا منك فتريحني من أثقل مهمة على أب، وهي اختياره لابنه ورقة يانصيب رابحة.
وهكذا تزوجتُ، وبدأت أعمل في المحاماة، ولكن الأبواب كانت أضيق من أن تتسع للناشئين، وضاق بي الحال، وعزَّ العمل والأمل في القاهرة ، وبيني وبين نفسي قررت الهجرة وراء الرزق.
الهجرة
وقعت في يدي خارطة للقطر المصري وبدأت أنقل أصبعي على بلادها المختلفة، وكانت أصبعي فوق سوهاج عندما ارتفع صوت المؤذن يعلن صلاة العصر "الله أكبر الله أكبر" قررت أن أختار سوهاج .
وفي مساء هذا اليوم قرَّرت أن أفاتحَ شريكةَ حياتي في أمر الهجرة، أمر الغربة عن الأهل، ولم أكن أشك في امتثالها لرغباتي وبرغم هذا فقد كان هناك خيط رفيع من الشك يلتف حول قلبي، وقبل أن أفاتحها جاءتني لتقول: ومطلوب قضاة في السودان.. لماذا لا نسافر؟
لقد كنت في حرج من الهجرة إلى سوهاج فإذا بها تقترح السودان .
وسافرت إلى سوهاج وبحثت عن بيتٍ وعن مكتب وتم لي ما أردت، وأراد الله أن تكون سوهاج فاتحة خير في حياتي، فإن الله فتح عليَّ فتحًا لا يخطر ببال أحد، وفي أقل من عام كنت من المحامين المعدودين في سوهاج .
واشتعلت الثورة المصرية الكبرى، ولأول مرة في حياتي وقفتُ لأخطب في الجموع المحتشدة، ويومها آمنتُ بالمظاهرات، وآمنتُ بالتكتل، وآمنتُ بمصر الثائرة العنيفة، وبمجرد انتهاء الثورة ظل إيماني بالتكتل وبمصر ، ولكن ذهب إيماني بالمظاهرات فعدت إلى كراهيتي لها.
الإيمان بالقضاء والقدر
وذات يوم وصلني فجأة خطاب من وزارة الحقانية يقول لي فيه الوزير أنه
- "قد تمَّ تعييني في القضاء بناءً على الطلب الذي قدمته"، ولا أذكر أني قدمتُ طلبًا وأنا المحامي الناجح الذي بدأ يرتفع اسمه وتعلو أسهمه.
ووصلني بعدها بأيام خطابٌ من صديق يهنئني فيه على هذا التعيين ويقول لي
- "لقد سمعت أنك مجهد في المحاماة، لهذا قدمتُ الطلبَ ووقعته باسمك فأرجو ألا تعتذرَ حتى لا أُتَّهمَ بالتزوير".
وأوقعني خطاب وزارة الحقانية في حيرة، هل أدخل القضاء أو أظل في المحاماة؟ ولا أدري لماذا اخترت القضاء، وإلى اليوم ما زلت أسائل نفسي: هل أصبت أو أخطأت؟ ولا أكاد أجد جوابًا شافيًا.
أول لقاء بفكرة الإخوان
ظللت أطوف بالبلدان من مركز إلى مركز ومن مديرية إلى مديرية ومن محكمة إلى محكمة.. وهكذا مضت حياتي رتيبة عادية لا تستحق الذكر بلغة برقيات ميادين القتال.. إلى صيف 1944م .
كنت في القرية واجتمعت بلفيف من شباب البلدة وأخذنا نتحدث في مختلف المشكلات العامة.. وهالني ما سمعت.. سمعت شبابًا محدودي الثقافة والتعليم يتكلمون في المسألة الوطنية كأحسن ما يتكلم المفكرون السياسيون.. ويتحدثون في المسائل الدينية كأحسن ما يتحدث العلماء المتمكنون.
وعجبتُ لهذا، فسألتهم عن مصدر هذا العلم، فقالوا إنهم ينتمون إلى جماعة الإخوان المسلمين ، وأن مطبوعات الجمعية ومنشوراتها وتعاليمها تصلهم بانتظام.. وطلبت منهم أن يزودوني بهذه المطبوعات.
ولم أنمْ هذه الليلة حتى الصباح، فقد ظللت أقرأ وأقرأ حتى الفجر، ثم صليت الفجر.. ولم تكد تطلع الشمس حتى اعتبرت نفسي جنديًّا في هذه الجماعة الكبرى ، وكان هذا أول لقاء لي بفكرة الإخوان .
ومن هذا اليوم أصبحت أعد نفسي أخًا لهم جميعًا، أتتبع نشاطهم وصحفهم وأنباءهم، واتصلت ببعضهم وأنا مستشار.
وذات يوم كان محددًا عقد اجتماع ضخم سيخطب فيه الإمام الشهيد حسن البنا ، وقيل لي إن دعوةً رسميةً ستصلني لحضور الاجتماع ولم تصل الدعوة .
وعلمت فيما بعد أنه كانت هناك أوامرُ لمصلحة البريد من وزارة الداخلية بتمزيق الدعوات الخاصة بالإخوان المسلمين ، وقد مُزقت الدعوة التي وُجهت إليَّ.
وبرغم هذا فقد قرَّرت أن أحضر الاجتماع بأي ثمن ونزلت أنا وأربعة من زملائي المستشارين واتجهنا نحو الاجتماع وكان في الجيزة ، ودخلنا السرادق الكبير، فلم نجد موضعًا لإصبع لا لقدم، وبرغم ذلك فقد شققنا طريقنا، وعرفنا بعض المحامين الأقباط الذين حضروا الاجتماع فقدموا لبعضنا مقاعدهم، ولكني أصررت على أن أجلس على الأرض لأستمع إلى حسن البنا .
وكم سمعتُ خطباء وكنت أتمنى في كل مرة أن يسرعوا إلى النهاية، وهذه المرة كنت أخاف أن يختم حسن البنا خطابه، كنت في قلقٍ مستمر من أن ينتهي قبل أن أشنف أذني وعقلي وقلبي من هذا السحر.
مائة دقيقة انقضت عليه وهو يجمع قلوب المسلمين في قبضة يده، فيهزها كما يشاء وكما يريد، وانتهت خطبته وردَّ إلى المستمعين قلوبهم إلا قلبي أنا فقد ظل في يده.
أول لقاء مع الشهيد
وازددتُ اقترابًا من الإخوان .. بدأت أتصل بهم وأعرف بعضهم.. إلى أن جاءت ليلة.. كنت في مكتبي أراجع بعض القضايا.. ودق الجرس ولم يكن من عادتي أن أفتح الباب.. ولكن لا أدري لماذا قمت.. ولماذا ذهبت، ولماذا فتحت الباب؟
لأجد حسن البنا
وتعانقنا..
ودخل إلى بيتي.. وجلسنا نتحدث في شتى الشئون
وصلينا العشاء معًا.
وخرج المرشد.
وبدأت أضع عقلي بعد قلبي في خدمة الإخوان .
آخر لقاء مع الإمام الشهيد
كانت الساعة الحادية عشرة مساء ودق الجرس وفتحت الباب، ودخل حسن البنا يحمل إليَّ آخر أنباء مفاوضاته مع الحكومة، ولا أعلم لماذا كنتُ منقبضًا.. لماذا كنتُ ضيقَ الصدر.. لماذا تجمعت فوق طرف لساني كلمة (القتل).
كنت أحس أن هذا الرجل سيُقتل.. ستغتاله يد أثيمة.. فإن الحكومة أي حكومة لا يمكن أن تعجز عن قتل رجل أعزل إلا من الإيمان.
وأراد أن ينصرف.. وصافحته.. وإذا بي أعانقه وأقبله.. ولا أكاد أمسك دموعي أو أخفيها.. وابتسم رحمه الله وقال:" قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا".
وابتلعه الظلام.. وفي اليوم التالي ابتلعه الظلم.. فقد اغتالت الحكومة المصرية في 12 فبراير 1949 مواطنًا مصريًّا اسمه حسن البنا.. وتعهَّدت هذه الحكومة لا بإخفاء معالم الجريمة فحسب.. ولكن بمكافأة القاتل.
ملامح شخصية الأستاذ "حسن الهضيبي"
حسن الهضيبي هو المسلم الذي يحفظ القرآن منذ الحداثة، والذي نشأ في طاعة الله، فلم يفتر يومًا عن أداء الفرائض والواجبات الدينية.
وهو الإنسان الكريم الذي لم يُرَ قط في موطن ريبة منذ كان تلميذًا إلى أن صار مستشارًا. وهو المثل المضروب بين زملائه، وعارفيه على الاستقامة، ومتانة الخلق وقوة الشخصية، وإباء المجاملة في الحق أو الخشية إلا من الله.
وقد طبع بيته بطابع الإسلام في آدابه، وعاداته، وأزيائه بصورة قل أن تراها في بيوت الذين يتصدرون دعوة الدين، بل الذين تقلدوا باسم الدين أرفع المناصب والألقاب.
وحسن الهضيبي هو الذي استنفر كبار المستشارين؛ للانقضاض على القانون المدني الجديد، لمخالفته أصول الشريعة، فلما انقطعت أنفاسهم دون ملاحقته بالهجوم السافر، مكتفين بتقديم مذكرة نقد رقيق، انطلق وحده إلى مقر لجنة القانون، وسجل في مضبطتها الرسمية أنه يستنكر كل قانون لا يُستَمد من الشريعة الغراء، أو تتضمن مواده حكمًا يتعارض مع نص في الكتاب والسنة، وقد كان ذلك الموقف موضوع حديث الصحف المصرية؛ حتى نقلته جريدة الإخوان المسلمين بعنوان "الهضيبي ينصر الله" عن جريدة "أخبار اليوم".
وإذا كان أكبر ما في حسن الهضيبي رحمه الله هو صموده وتحديه للباطل، والمبطلين، ووقوفه أمام قوى البغي، والطغيان، رغم كبر سنه ومرضه، فإن أبرز ما اتسمت به شخصيته هو كراهيته الشديدة للظهور، وإيثاره البعد عن الأضواء ما استطاع، لقد كان يرفض أن تؤخذ له صورة أحيانًا، كما رفض أن يسجل مذكراته؛ إيثارًا لما يحتسبه عند الله من أجر.
وإذا كان الإمام يؤثر الصمت، والبعد عن الأضواء، فإن ذلك تواضعًا منه، وفضلاً، ولكن من حقه رحمه الله ومن حق الإمام البنا ، وكل من حمل الأمانة من بعدهم إلى اليوم أن يكونوا جميعًا أسوة وقدوة، بل ومنارات على الطريق، يلتمس العاملون للإسلام طريقهم في ضوئها، فالشباب اليوم يقلد من هنا وهناك، ويتلمس العظمة في بعض الرجال، إذا قيسوا بعظمة هؤلاء الأبطال، يصبحون أقزامًا بكل المقاييس.
نماذج من جهاده في محيط عمله
أما جهاده في محيط عمله، وتخصصه، فلقد سأله يومًا رئيس محكمة النقض والإبرام: يا حسن: ألست معي أن أكثر أحكام التشريع المدني الحديث تقابل أحكامًا مماثلة في الفقه الإسلامي؟
قال الأستاذ الهضيبي: بلى.
قال الرئيس: فما هو إذاً الأساس الكبير والمطالبة الملحة من جانبك بالرجوع إلى الشريعة الإسلامية، وتطبيق أحكامها
قال: هو أن الله تعالى قال : ﴿وأن احكم بينهم بما أنزل الله﴾ لم يقل: أن احكم بمثل ما أنزل الله، وإن تحكيم شريعة الله في عقيدة المسلم عبادة تؤدى امتثالاً لأمر الله، وذلك هو مصدر بركتها، وسر قوتها في نفوس المؤمنين بها، وفي كيان الجماعة المؤمنة.
وحين عرض مشروع تنقيح القانون المدني المصري عام 1945م على الأستاذ الهضيبي، سجل كتابة أنه يرفض مناقشة هذا المشروع من حيث المبدأ؛ لأنه لم يقم أساسًا على الكتاب والسنة.
وفي عام 1947م نشر الأستاذ الهضيبي رحمه الله مقالاً في جريدة "أخبار اليوم" المصرية، وذلك حين عرض عليه تعديل مشروع القانون المدني المصري قال فيه: "إن أحسن تعديل في نظري هو سن قانون من مادة واحدة، يقضي بتطبيق الشريعة الإسلامية في الأحوال الجنائية والمدنية".
وقال: "لقد أعلنت عن رأيي أمام لجنة تعديل القانون المدني في مجلس الشيوخ فقلت: يجب أن يكون قانوننا هو القرآن والسنة في جميع شؤون حياتنا، وليس في الشؤون التشريعية وحدها. إن الإسلام دين متماسك متكامل غير قابل للتجزئة، فيجب تطبيق جميع أحكامه في كل أمة تدين به"، "هذا هو الرأي الذي جاهرت به، وأود أن أؤكد أنني قد انتهيت من مراجعة الشريعة، ودراستها إلى أنه ليس في تشريعات الأجانب، وقوانينهم ما لا يتضمنه القرآن الكريم، والحلال بين والحرام بين، وكلاهما واضح المعالم والحدود إلى يوم الدين".
"وهذا ما قلته أمام اللجنة، وإنني على يقين أنهم لن يأخذوا به، ولكن لا حرج عليَّ في ذلك ما دمت مؤمنًا بما أقول، ولكن ظني أنه بعد فترة قد تمتد إلى عشرين أو ثلاثين سنة سيتجه الرأي إلى الأخذ بما أقول، كلما شرح الله صدور الناس بالقرآن قرب اليوم الذي يسود فيه هذا الرأي".
لقد رأينا أن جميع القوانين التي أخذناها عن الأجانب لم تصلح من حال بلادنا، ولم تحقق ما كان يرجى منها، فهذه السجون ملأى بالسجناء، والجرائم تزداد، والفقر ينتشر، والحالة الخلقية، والاجتماعية تسوء كل يوم عن سابقه، ولن يصلح الحال إلا إذا نظمنا علاقتنا بالسنن الكونية التي تنزّل الوحي بجملة أسرارها، ومعالمها في القرآن، وإلا إذا عشنا في بيوتنا، وبين أهلينا، وأولادنا، ومع الناس أجمعين عيشة قرآنية".
"وفي العاشر من ديسمبر 1952م أعلن الدستور المصري القديم، وبعد يومين عُيِّن مائة عضو؛ لوضع دستور جديد كان بينهم ثلاثة من الإخوان، ونشرت مجلة "الدعوة" مقالاً تدعو إلى وضع الدستور على أسس إسلامية، طالب الهضيبي بالاستفتاء؛ ليتبين: أتختار مصر شرائع الإسلام أم شرائع الغرب؟ فإذا رأت أن تحكم بالإسلام كان على لجنة الدستور أن تنفذ ذلك، وإذا أرادت الأخذ بشرائع الغرب وهو رأي لا يمكن أن يقول به مسلم عرفنا أنفسنا وعلمنا الأمة أمر ربها، وما يجب عليها".
تعرُّف الأستاذ الهضيبي على الإخوان المسلمين
ويذكر الهضيبي رحمه الله أن علاقته بالإخوان قد بدأت منذ عام 1942م ، وقد اقتنع بهذه الدعوة بالطريق العملي قبل الطريق النظري، وذلك حين لمس من بعض أقاربه الفلاحين إدراكًا لمسائل كثيرة في الدين والسياسة ليس من عادة أمثالهم الإلمام بها، وخاصة أنهم كانوا شبه أميين، ولما علم أن ذلك يعود إلى الإخوان، أعجب بهذه الدعوة أيما إعجاب، وأخذ يحرص على حضور خطب الجمعة في المساجد التي كان يخطب فيها الأستاذ البنا رحمه الله.
فمن هذا العام 1942م بدأت صلته بالدعوة ، فقد كان بمدينة الزقازيق وكانت المدينة على موعد مع الإمام الشهيد "حسن البنا" حيث يقوم بزيارتها، وكان الإخوان يحتشدون، ويهتمون بهذه الزيارات، ويوسعون نطاق الدعوة إلى هذا الاجتماع، فلا يتركون طائفة ولا هيئة، ولا جماعة إلا وجهوا إليها الدعوة ؛ بشهود الحفل الجامع الذي يحاضر فيه الإمام رحمه الله.
من أجل ذلك وصلت بطاقة الدعوة كل باب، غشيت كل مجلس ونادٍ، وطرقت باب محكمة الزقازيق ؛ لتدعو رجال القضاء؛ ليستمعوا إلى ما يقرره "حسن البنا" عن عظمة الإسلام ، وكفالة النظام الإسلامي، والمبادئ القرآنية؛ لإقامة مجتمع عالمي، وإحياء أمة، وبناء دولة على أساس القواعد، وأعظم الأسس.
وكان بين الذين تلقوا الدعوة رجلان من كبار المستشارين يتميزان بخلق، واستقامة، ونزاهة، وأدب كبير. أما أحدهما فقد سبق إلى جوار الله، وهو المرحوم "محمد بك العوارجي" وأما الآخر، فهو رائد الدعوة ، وقدوة العاملين، وحارس الحق، وعنوان الصابرين المحتسبين الأستاذ حسن الهضيبي.
ولا أحدثك عما وراء الاستماع إلى "حسن البنا" حين تصفو النفوس، وتتفتح المشاعر، وتهفو الأرواح، حين يتم هذا يشعر المستمع بتيار جارف من روح الرجل، يغمر روحه، وعقله، وقلبه، ومشاعره، فلا يحتاج إلى جهد وعناء، بل يندفع إلى الانقياد لدعوة الحق ، والعمل بها، والتعلق بها، والالتزام بالجهاد في سبيلها، ولقد كان الإمام الهضيبي تتملكه الحسرة على مصير أمة الإسلام ، ويتقد غيرة على إنقاذها، وكانت غيرة الرجل في صدره، يعرفها كل من سمعه يتحدث، من الأصفياء والجلساء.
لقد حمله التأثر هذه الليلة بعد أن استمع للإمام البنا على تقديم نفسه له، وبعد حديث قصير كان العهد والميثاق، والبيعة.
نعم كانت بيعة ربطت حياته إلى الأبد بمصير هذه الدعوة ، ومستقبلها، وهذا شأن الصادقين من أصحاب الدعوات.
إنهم يربطون ماضيهم، وحاضرهم، ومستقبلهم بهذا الحق، ولقد حفلت شخصية الإمام الهضيبي بنفاذ البصيرة، وقوة النفس، وصفاء الروح، لقد كشفت بصيرته بمجرد سماعه للإمام البنا حرارة الصدق، وقوة الإخلاص، وعمق التجرد، أيقن في لحظات أنها الدعوة التي أضنى الظمأ إليها قلبه، ومشاعره، ومواهبه أكثر من ثلاثين سنة.
الهضيبي في نفس البنا
كان البنا رحمه الله ينزل الناس منازلهم، ويختار الأسلوب المناسب ؛ لعرض الدعوة عليهم، وكسبهم لطرفها.
ومثل هذا الأسلوب كان يتبعه مع كبار الموظفين أمثال الأستاذ الهضيبي، فقد كان حريصًا على سرية ارتباطه بالدعوة ؛ ولهذا كان الهضيبي يحضر مع البنا رحمهما الله الكثير من الأسر والجلسات الخاصة، كما كان يستشيره في كثير من الأمور، بل كان يرى فيه أخًا أكبر يستشيره، في الأزمات والمعضلات، ويدخره ليوم عصيب، ووقت رهيب، ويحدث إخوانه عنه في جلساته الخاصة بكثير من الإعجاب والتقدير.
بيعة الأستاذ "حسن الهضيبي"
في الثاني عشر من شهر فبراير 1949م اغتال زبانية "فاروق" الشهيد "حسن البنا" رحمه الله فشغر بذلك مركز المرشد العام للدعوة ، ولما كانت القيادة ركنًا من أركان هذه الدعوة ، وخاصة في الظروف العصيبة التي كان الإخوان يمرون بها في ذلك الوقت، فقد أخذ الإخوان يبحثون عن قائد آخر يقود سفينة الدعوة إلى شاطئ السلام، ورشحوا لهذا المنصب أكثر من أخ من الإخوان العاملين إلا أن الأغلبية في الهيئة التأسيسية أجمعت على انتخاب "حسن الهضيبي" مرشداً عامًا.
وبقي الهضيبي رحمه الله يؤدي عمله سرًّا نحو ستة شهور، كما أنه لم يترك العمل في القضاء خلالها.
ولما سمحت حكومة النحاس باشا؛ للهيئة التأسيسية للإخوان بالاجتماع، طلب أعضاؤها من الهضيبي أن يرأس اجتماع الهيئة بصفته مرشدًا للجماعة، ولكنه رفض طلبهم إذ اعتبر انتخابه من قبل الهيئة التأسيسية في المرحلة السرية من الدعوة لا يمثل رأي جمهور الإخوان، وطلب منهم أن ينتخبوا مرشداً آخر غيره، ولكن الإخوان رفضوا طلبه، وقصدت وفود الإخوان من جميع مصر بيته، وألحت عليه بالبقاء كمرشد عام للجماعة، وبعد أخذ ورد وافق على مطالب وفود الإخوان ، وقدم استقالته من القضاء؛ ليتفرغ للعمل لدعوة الله.
وفي 17 أكتوبر 1951م أُعلن "حسن الهضيبي" مرشدًا عامًا لجماعة الإخوان المسلمين. ومع ذلك قام رحمه الله بجولة على جميع شُعب الإخوان ؛ ليتأكد أن الوفود التي حضرت إليه تمثل رأي جميع الإخوان في الشُعب، وفعلاً كان....، فبايعه كل من التقى به من الإخوان.
وحين قبل البيعة كان يقول:
- "إني أعلم أنني أقدم على قيادة دعوة استشهد قائدها الأول قتلاً، واغتيالاً، وعذب أبناؤها، وشردوا، وأوذوا في سبيل الله، وقد ألقى ما لاقوا، وإني على ما أعتقده في نفسي من عدم جدارة بأن أخلف إمامًا مصلحًا مثل حسن البنا رحمه الله، لأقدم وأنزل عند رغبة الإخوان ، أداء لحق الله جل وعلا، لا أبتغي إلا وجه الله، ولا أستعين إلا بقدرته وقوته".
باكورة نشاطات الهضيبي بعد انتخابه مرشدًا
كان أول نشاط رسمي عملي بدأه بإقامة حفل بدار المركز العام المؤقت، وهو منزل الأستاذ "صالح عشماوي" 22 ش صبري بالظاهر. وكان الحفل بناء على اقتراح قدمه الأستاذ "أحمد حسين" المسجون على ذمة قضية السيارة الجيب بأن يقام حفل لتكريم أولياء أمور المسجونين من الإخوان المسلمين ، وهيئة الدفاع عن القضايا المنظورة ومندوبي الصحافة والأبناء؛ لتقديم هدية المسجونين إلى المركز العام الجديد... وهي عبارة عن علم الإخوان الذي تم نسجه داخل سجن مصر ، بيد المسجونين.
ولقد أشارت مجلة السيدات المسلمات إلى عملية تهريب العلم من داخل السجن إلى الخارج، وكان أول علم يرفع بعد المحنة.ولقد نقلت جميع الصحف، ووكالات الأنباء وأخبار هذا الحفل الكبير، ودعوته النشاط الرسمي لجماعة الإخوان المسلمين.
ماذا قدم الهضيبي للجماعة؟
- أما عن دعمه للجماعة ، ودفاعه عنها فإن للرجل جهدًا مشكورًا، ومساهمة طيبة في شراء دار المركز العام.
- وأوعز إلى عشيرته، وهم أفاضل كثر، بإنشاء شعبة للإخوان في قريتهم في "عرب الصوالحة"، وفيما يجاورها من القرى.
- وأنه وفق لأسلوبه الخاص، وتوجيهه الهادئ إلى إحياء للدعوة في منطقة شبين القناطر.
- الأستاذ الهضيبي لم تفتر صلته بالإمام الشهيد، ولم يقصر يومًا في إمداده بالرأي، والعون المثمر في كل موقف يقتضي ذلك قبل المحنة الأولى وبعدها على السواء، بل كان يشارك في جلسات خلصاء الإخوان المسؤولين التى ترسم فيها سياسة الجماعة قبل استشهاد المرشد رحمه الله، وبعد استشهاده.
- ولقد بادر عقب قرار الحل بلقاء المرشد الشهيد حيث وضع نفسه وبيته وأولاده، ومنصبه، وماله جميعاً تحت تصرف للدعوة ، ورهن إشارة المرشد بصفة خاصة.
- وكان وحده الصدوق للدعوة في محيطه القضائي حتى لا جزم بأنه العامل الأول والأوحد في تنظيف سُمعة الجماعة ، وإلحاق مسؤولية الحوادث بأشخاص فاعليها، وتحرير دائرة القضاء من التأثر بحملة الأكاذيب والمفتريات التي عمدت الحكومة إلى تحويل القضاء بها عن جادة العدل، وإغوائه بإصدار أحكام جائرة ظالمة فيما لفقت الحكومة من اتهامات.
- وكان الهضيبي يتابع نشرات الإخوان المؤقتة بعد استشهاد الإمام، ويزودها بالنصائح التي تجعلها بمنأى عن إثارة الحفيظة، وسلطان القانون، وأكثر إصابة للهدف الواجب، وهو إحكام تنظيم لصفوف، وتدعيم الثبات، والثقة بالله بين الإخوان العاملين.
- وكان له في العناية بأسر المعتقلين، والسجناء جهود لا يستحب الكشف عنها بأكثر من هذه الإشارة.
الهضيبي في رحاب السجون
بدأ المرشد العام حياته الجديدة في مكابدة لا تهدأ، ومعاناة لا تنقطع، وقد امتحنت الجماعة وهو على رأسها مرات، وسجن هو، وعذب، وحكم عليه بالإعدام، ثم بدل ذلك بالأشغال الشاقة،
وكان يقول:
- "أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم تقم على أرضكم".
وكان في موقف العواصف الهوج وهو سجين أعزل، وإخوانه، وأبناؤه من حوله يعذبون، ويجلدون يشد من أزرهم، ويدعوهم إلى الاستعلاء بإيمانهم.
يقول الدكتور "أحمد العسال" عنه:
- "كان يتقدمهم جميعًا بقلب ثابت، وأعصاب هادئة؛ ليقول كلمته في وجه السفاح: إن هؤلاء خيرة شباب مصر ، فاحفظوهم ذخيرة لها، وخذوا مني ما تريدون".
- وما أكثر ما مرت به أزمات صحية، ونقل في بعضها إلى المستشفى، فما تزول الأزمة إلا وطلب بنفسه أن يعود إلى حيث كان؛ ليظل مشاركًا إخوانه، وأبناءه ويقول: "إن السجن حالة نفسية، وليس هو الجدران والأسلاك".
ويقول عنه أيضًا:
- وسوف لا أنسى ما حييت ما قصه علينا، وقد فاضت عيناه تأثرًا من قصة ذلك الأخ الفقير الذي وجد ساعة ثمينة لأحد الباشاوات بينما كان ينظف دورة المياه في أحد المعتقلات، وذهب الأخ ليردها، فاقترح أحد زملائه أن يدفع له شيئًا من المال جزاء أمانته، ورده للساعة. فقال الأخ في نفس عالية: "إنني ما زدت أن رددت أمانتك إليك، ولا أريد بذلك إلا وجه الله، ولا حاجة لي في ذلك".
ثم قال الأستاذ رحمه الله:
- "ولقد كنت أعلم أنه في أمس الحاجة، ولكنها العفة والطهارة" ثم فاضت عيناه ويقول عنه الأستاذ "أحمد حسين" زعيم مصر الفتاة رحمه الله " لقد ضمنا السجن الحربي في مارس 1954م ، وأشهد أنه كان معي كريمًا، وبي عطوفًا، وأحسب أن أعظم تكريم له هو في تكريم الإخوان المسلمين ، ولقد سألني صحفي ما رأيك في الإخوان في معركة فلسطين؟
فأجبته بأنه كان أعظم الأدوار؛ حتى لقد كانوا هم الذين أنقذوا الجيش المصري من الوقوع في كارثة، عندما حموا مؤخرته وهو يتراجع، ويجب أن تعرف الدنيا كلها مني أنا أن من حارب الفقيد، وحارب الإخوان بالحديد والنار، إنما كان يفعل ذلك لحساب الشيطان، ولا تظنوا يا أحبائي أنني أقول هذا الكلام الآن فقط، فقد غادرت مصر عام 1955م ؛ احتجاجًا على ما حل بالإخوان، وكان آخر لقاء بيني وبين عبد الناصر يدور حول هذا الموضوع.
ثم يقول:
- "إن شهيدكم، وشهيد الإسلام إذ ينعم الآن بالحياة إلى جوار ربه، فسوف يسجل له التاريخ أنه كان كابن حنبل، رفض أن يساوم أو يتزحزح عما يتصوره حقَّا".
مواقف شامخة للمستشار "حسن الهضيبي"
في ليلة (ليلاء) من ليالي جهنم الحمراء في السجن الحربي عام 1954م أيقظ "صلاح الشيشتاوي" محافظ القاهرة و"علي نور الدين" المدعي العام مجموعةً من (الإخوان)، حوالي 25 أخًا، وصفّونا صفين، على رأسنا الأخ الضابط اليوزباشي شرطة "إبراهيم الشاذلي"، ووراءه الأستاذ الإمام المرشد "حسن الهضيبي" رحمه الله رحمة واسعة وجزاه الله عنَّا وعن المسلمين خيرَ الجزاء وأسكنه الله مع حبيبه وصاحبه محمد- صلى الله عليه وسلم- فسيحَ جناته- ونحن من ورائهما صفان، والعسكر من حولنا؛ حيث الجو مشحون بالهول من شدة التعذيب.
ثم تحدث "علي نور الدين" وقال مقولة "الحجاج بن يوسف الثقفي": "أرى رؤوسًا قد أينعت وحان قطافها.. وأنا حجاجها"، ثم أمر "إبراهيم الشاذلي" بأن يقول: يحيا "جمال عبد الناصر"، وبعد التردد قال الأخ "إبراهيم الشاذلي" ما أُملي عليه!
ثم أتبع "علي نور الدين" الأوامر طالبًا منه القول: "يسقط حسن الهضيبي" فقالها! ثم طلب من الأستاذ المرشد العام الإمام "الهضيبي" نفس ما طلبه من الأخ "الشاذلي"! موقف رهيب في لهيب نار السجن الحربي ، فقال إمامنا: "يحيا أو يسقط جمال عبد الناصر ماذا تساوي؟".
انظر إلى توفيق الله.. ما قال ما يريدون.. ثم ثنَّى بقوله "لقد قال الأخ سابقًا "إبراهيم الشاذلي": يسقط "حسن الهضيبي"؛ أي أنه لا زال مرشدًا عامًّا، فصل عضوًا، وأراد أن يثبت مَنْ وراءه، فلم يتزلزل ولم نزلزل: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾ (آل عمران: 146).
فهو رجلٌ والرجال قليل، وسيرته عطرة حسنة، مملوءة بمواقف الرجولة والحزم في أشد المواقف التي مرت بها الدعوة المباركة.
الهضيبي يتحدث عن الإمام الشهيد حسن البنا
كتب الأستاذ الهضيبي مقالتين كانتا من أروع ما كتب عن الإمام الشهيد حسن البنا ، فيهما عاطفة جياشة وروح مُحلَّقة، ومشاعر رقيقة سامية وفهم عميق للدعوة إلى الله وأصولها وقواعدها، تُعبِّر تعبيرًا دقيقًا عمَّا في شخصية الأستاذ الهضيبي من صفاتٍ فذةٍ بنفس القدر التي تُعبِّر فيه عمَّا في شخصية الإمام البنا من عبقرية نادرة.
المرشد المُلهَم :
- "عرفتُه أولَ ما عرفتُه من غرسِ يده، كنتُ أدخلُ المدن والقرى فأجد إعلانات عن (الإخوان المسلمين) دعوة الحق والقوة والحرية، فخِلت أنها إحدى الجمعيات التي تُعنَى بتحفيظ القرآن، والإحسان إلى الفقراء، ودفن الموتى، والحثِّ على العبادات من صومٍ وصلاة، وأن هذه قصارها من معرفة الحق والقوة والحرية.. فلم أحفل بها.
- فكثير هم الذين يقرءون القرآن دون أن يفقهوه، ودون أن يعملوا به، وأكثرهم الذين يصلون ويصومون ويحجون دون أن يكون لذلك أثر في نفوسهم، والإحسان إلى الفقراء كثيرًا ما يوضع في غير موضعه.. ولم أحاول كما هي العادة أن أعرف شيئًا عن (الإخوان المسلمين).
- ثم التقيتُ يومًا بفتيةٍ من الريف أقبلوا عليَّ على غير عادة الأحداث مع من هم أكبر منهم سنًّا ومركزًا يحدثونني، فوجدتُ عجبًا؛ فتيةً من الريف، لا يكاد الواحد يتجاوز في معارفه القراءة والكتابة، يحسنون جلوسهم مع مَن هم أكبر منهم في أدبٍ لا تكلُّف فيه، ولا يحسُّون بأن أحدًا أعلى من أحد، ويتكلمون في المسألة المصرية كأحسن ما يتكلم فيها شاب متعلم مثقف، ويتكلمون في المسائل الدينية كلامَ الفاهم المتحرر من رق التقليد، ويبسطون الكلام في ذلك إلى مسائل مما يحسبه الناس من صرف المسائل الدنيوية.
- ويعرفون من تاريخ الرسول وتاريخه هو تاريخ الرسالة ما لا يعرفه طلاب الجامعات.. فعجبت لشأنهم وسألتهم: أين تعلمتم كل ذلك؟! فأخبروني أنهم من (الإخوان المسلمين)، وأن دعوتهم تشمل كل شيء، وتُعنَى بالتربية والأخلاق والسياسة، والفقر والغِنى، والاقتصاد وإصلاح الأسرة، وغير ذلك من الشئون صغيرها وجليلها.. من ذلك الوقت تتبعت حركة (الإخوان المسلمين)، وصرت أقرأ مطبوعاتهم، وأتصل بهم دون أن أعرف الداعية إلى ذلك، ولكني عرفته من غرسِ يده قبل أن أعرف شخصيته.
- كان يوم خرجت أنا وبعض زملائي لمشية العصر على حافة النيل، فوجدنا جمْعًا من الجوَّالة؛ سألناهم عن شأنهم، فعلمنا أن "حسن البنا" سيلقي خطبةً في حفلٍ الليلة، فوافينا الحفل وسمعنا "حسن البنا"..
- لقد تعلقت أبصارنا به، ولم نجد لأنفسنا فِكاكًا من ذلك، وخِلْتُ والله أن هالةً من نور أو "مغناطيسًا" بوجهه الكريم، فيزيد الانجذاب إليه، خطب ساعةً وأربعين دقيقةً، وكان شعورنا فيها شعورَ الخوف من أن يفرغ من كلامه، وتنقضي هذه المتعة التي أمتعنا بها ذلك الوقت.
- كان كلامُه يخرجُ من القلب إلى القلب شأن المتكلم إذا أخلص النية لله.. وما أذكر أني سمعت خطيبًا قبله إلا تمنَّيت على الله أن ينتهي خطابه في أقرب وقتٍ.. كان كالجدول الرقراق الهادئ، ينساب فيه الماء، لا علوَّ ولا انخفاضَ، يخاطب الشعورَ فيلهبه، والقلبَ فيملؤه إيمانًا، والعقلَ فيسكب فيه من المعلومات ألوانًا.
- انقضى وقت طويل دون أن ألتقي به، ولما أذن الله بذلك التقينا.. فإذا تواضع جمٌّ، وأدبٌ لا تكلف فيه، وعلمٌ غزيرٌ وذكاءٌ فريدٌ، وعقلٌ واسعٌ مُلِمٌّ بالشئون جليلها وحقيرها، وآمال عِراض.. كل ذلك يحفُّه روحٌ ديني عاقل، لا تعصب فيه ولا استهتار.. ﴿وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا﴾ (البقرة: من الآية 143).
- إنه كان مُلهمًا، وأقسم أني التقيتُ به وعاشرتُه، فما سمعتُ منه كلمةً فيها مغمز في عِرض أحد، أو دينِ أحد، حتى من أولئك الذين تناولوه بالإيذاء والتجريح في ذمته ودينه، وكان في ذلك ملتزِمًا حدَّ ما أمره الله.
- هذا هو "حسن البنا" الذي قتلوه.. لقد قتلوا أخطرَ داعيةٍ ظهر على الأرض منذ قرون، والآن فإن الغرس الذي عرفتُ فيه "حسن البنا" قد نما وترعرع، وصارت دعوته إلى كتاب الله مستقرةً في القلوب، وصار تلامي
الأستاذ مصطفى أمين وشخصية حسن الهضيبي
مَلَكَ المرشد الراشد حسن الهضيبي بشخصيته وصفاته ومواقفه على كاتبنا الصحفي الكبير الأستاذ مصطفى أمين عقلَه ومشاعرَه وقلما ملك أحدٌ عقلَ ومشاعر هذا الصحفي العملاق هكذا فكتب عنه كثيرًا، وحفلت كتاباته عنه بمشاعر الإعجاب والتقدير بل والانبهار بهذا الجبل الأشم الشامخ الصامد في وجه الظلم والطغيان، رغم قسوة السجن، وهمجية التعذيب، وتحالف العلل والأمراض، وتقدم السن، وضعف الجسد وشيخوخته.
وهذه بعض من كتابات عملاق الصحافة المصرية الأستاذ مصطفى أمين عن المرشد الراشد: حسن الهضيبي، نوردها لعل بعض صغار الكتبة في صحفنا المصرية الذين يلوثون صفحاتها بإسفافهم وتطاولهم على دعوة الإخوان ومرشديها وقادتها لعلهم من إنصاف عملاق الصحافة يتعلمون، وربما يستحون.
"عرفت الأستاذ حسن الهضيبي أول ما عرفته في عام 1939م ، وكنت رئيسًا لتحريرِ مجلةِ آخر ساعة، وأرسلت المفوضية الألمانية بالقاهرة خطابًا إلى وزير الخارجية تحتج على لأنني كتبت مقالاً قلت فيه أن هتلر ديكتاتور، وأنَّ هذه إهانة للفوهرر، وقانون العقوبات المصري يمنع مهاجمة رؤساء الدول الأجنبية.
وطلب الوزير الألماني تقديمي إلى محكمة الجنايات، واتصل وزير الخارجية بوزير العدل، واتصل وزير العدل بالنائب العام، وقرَّر النائب العام تكليفَ رئيس النيابة الأستاذ الهضيبي لمقابلتي، واستقبلني رئيس النيابة مقابلةً وديةً لم أتعود أن ألقاها من رؤساء النيابة الذين يحققون معي في قضايا الصحف.
وبدأ حديثه وسألني عن أي نوع من القهوة أود أن أشرب، وطلبت (قهوة مضبوط)، فطلب لي رئيس النيابة القهوة ثم طلب (واحد ليمون)، وبعد ذلك قال لي: أنت متهم بأنك أهنت أدولف هتلر رئيس دولة ألمانيا، قالها بهدوء بنفس النبرة التي طلب بها لي (واحد قهوة، وواحد ليمون)، وكأنه يقول لي أهلاً وسهلاً وحشتنا وآنستنا.
قلت له: أنا لم أهن هتلر.. أنا قلت عنه الحقيقة.
قال الهضيبي: أنت قلت عنه إنه ديكتاتور وطاغية، وإنه قضى على حقوق الإنسان في ألمانيا ؟
وسألت رئيس النيابة: وهل هو ديكتاتور أو لا؟
قال ضاحكًا: المفروض أنني أنا الذي أسألك لا أنت الذي تسألني.
قلت: المفروض أن يقول وزير ألمانيا المفوض إنني نسبت إلى هتلر أنه قضى على حرية الصحافة بينما أن الصحافة حرة في ألمانيا ، وأنه ملأ بلاده بالمعتقلات، وأنشأ المحاكم الاستثنائية بينما الحقيقة أنه لا معتقلات هناك ولا محاكم استثنائية.
قال الأستاذ الهضيبي: اطمئن إنني لن أقدِّمك لمحكمة الجنايات؛ لأنني أعتقد معك أنه ديكتاتور، وذمتي لا تقبل أن أقدِّم بريئًا إلى المحاكمة، وكل المطلوب منك أن تقول في التحقيق إنك لا تقصد إهانة هتلر.
وأمر الأستاذ الهضيبي بفتح المحضر وسألني هذا السؤال وأملى على كاتب التحقيق الإجابة، وأمرني بالانصراف، ولم يطلب مني أن أدفعَ كفالةً كما طلب النائب العام.
ولاحظت وأنا أتحدث إلى الهضيبي أنه رجل قليل الكلام، تتوهم أنه صارم بينما هو رجل رقيق هادئ فيه طيبة ممتزجة بالذكاء الحاد، قوي الملاحظة، ثم عرفته بعد ذلك في سجن ليمان طرة - كانت زنزانته بجوار زنزانتي- جذبني بصموده وقوة احتماله، يقابل البطش بابتسامة سخرية، ويرد على الظلم بالإيمان، يناقشك بهدوء، لا يغضب ولا يحتد ولا يشكو.
وحرموه عدة شهور من أن يتلقى أي خطاب من زوجته وبناته، وكان أولاده مسجونين في سجن آخر، وكلَّفت إحدى تلميذاتي أن تتصل بابنته المدرسة بكلية طب قصر العيني لتقول لها إن والدها بخير، هذه هي الرسالة الوحيدة التي رضي أن أحملها لأسرته، لقد منعوا عنه الزيارات ومنعوا عنه الأدوية لعدة أسابيع، ومع ذلك كان يبتسم ويضحك ويقول: صحتي الآن أحسن مما كانت عليه خارج السجن، كان يحمد الله على أنه يعيش في زنزانة.
كلمة أخيرة
لقد سجل رجال الدعوة الإسلامية في عصرها الحديث بطولات، وكانت، وما زالت لهم مواقف، ونستطيع أن نقول مطمئنين: بأنها ترقى إلى مستوى ما سجله حملة المنهج الإلهي من الرعيل الأول من المسلمين، وواجب الحركة الإسلامية أن تكرم أبطالها، وأن تحتفي بشهدائها؛ ليكونوا قدوات يسترشد بها العاملون، وكل من يسلك هذا الطريق.
متفرقات
"حسن الهضيبي"... الرجل والموقف بقلم الأستاذ/ محمد عبد الله السمان .. كاتب إسلامي عندما بدأت الإرهاصات تسري أواخر عام1950م تذكر أن الأستاذ المستشار الهضيبي هو المرشد القادم لجماعة الإخوان المسلمين.. كتبت مجلة (روز اليوسف) تقول: "كان الأستاذ المستشار حسن إسماعيل الهضيبي المرشح ليكون المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين رئيسًا لمحكمة جنايات سوهاج, وفي إحدى القضايا الجنائية كان المحامي فيها شقيق وزير العدل قادمًا من القاهرة, وكان العُرف يسمح لرئيس المحكمة أن يستقبل في الاستراحة كبار المحامين الوافدين من القاهرة أو غيرها.. قال المحامي للأستاذ "الهضيبي": هل سيادتكم مستريحون في سوهاج؟ فرد عليه: تحقيق العدل هو الراحة التي لا ترتبط بزمان أو مكان. قال: غدًا سأتناول الغداء مع أخي (وزير العدل) فإن رأيتم أن أرجوه لينقلكم إلى القاهرة.. فثار الأستاذ "الهضيبي", وقال له: تفضل يا أستاذ, أجئت تساومني؟ كان الساعي يهم بالدخول بالقهوة, فقال له: ارجع, وأُسقط في يد المحامي الكبير شقيق وزير العدل. كان حسبي أن أذكر هذه القصة؛ ليعرف القارئ من هو الأستاذ "الهضيبي"، ولكني رأيت المزيد في ذكرى وفاته التي مضى عليها ثلاثة عقود, وأنا واثق من أن وسائل الإعلام لن تذكره, لا لأنها مشغولةٌ دائمًا بذكرى الراحلين والراحلات من أهل الفن, بل لأن هذه الوسائل الإعلامية غير الحرة لا تجرؤ أن تتجاوز الخطوط الحمراء, وإلا ذُهِب بمن يتجاوزها وراء الشمس. وهذه شهادة أخرى من رجل كانت داره الصحفية في العهد الناصري حربًا شرسة على جماعة الإخوان المسلمين ..، إنه الأستاذ الراحل "مصطفى أمين" ففي الخامس من يونيه عام 1982م كتب في فكرته.. نلتقط منها بعض السطور:
|
الهضيبي بك ينصر الله هذه صفحةٌ من أروع صفحات الفخار، سطَّرها مرشدنا الراشد: حسن الهضيبي، منذ أكثر من 60 عامًا، نصر فيها شرعَ الله ومنهجَه، ونادَى بوجوب تطبيق الشريعة الإسلامية في جميع مجالات الحياة، وصرَّح بأنها الحل الوحيد لكل مشكلاتنا وأمراضنا، وكان هذا في وقت ندر فيه مَن يتحدَّث عن منهج الله وشريعته من رجال القانون والتشريع، فكانت صيحة مدوية لها أثرها الخطير، أثلجت صدور الدعاة والمجاهدين، وأدهشت المتابعين والمراقبين. وكان لصحيفة أخبار اليوم اهتمامٌ ومتابعةٌ لهذا الحدث (الخطير) كما سمته فعقبت عليه قائلةً:
ولقد رأينا إزاء هذا الرأي الخطير أن نرجع إلى الهضيبي بك في ذلك فقال: "لقد أعلنتُ رأيي أمام لجنة تعديل القانون المدني في مجلس الشيوخ فقلت: يجب أن يكون قانوننا هو القرآن وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام في جميع شئوننا وليس في الشئون التشريعية وحدها؛ لأن الإسلام دينٌ متماسكٌ متكاملٌ غير قابل للتجزئة، فيجب تطبيق جميع أحكامه في كل أمة تدين به. هذا هو الرأي الذي جاهرت به، وسأظل أدعو إليه عن يقينٍ واقتناع، وأود أن أؤكد أنني قد انتهيت من مراجعة الشريعة الإسلامية ودراستها إلى أنه ليس في تشريعات الأجانب وقوانينهم ما لا يتضمنه القرآن، والحلال بينٌ والحرام بينٌ وكلاهما واضحُ المعالم والحدود إلى يوم الدين، أما ما سماه الرسول صلى الله عليه وسلم (عفوًا) وهي المسائل المباحة فيمكن لولي الأمر أن يردَّها طبقًا لما تقضي به المصلحة العامة، وإني أستند في ذلك إلى القرآن أيضًا لأن طاعة ولي الأمر واجبةٌ بنصِّ القرآن. هذا ما قلته أمام اللجنة التي أعلن رأيي هذا وأنا على يقين من أنهم لن يأخذوا به، ولكن لا حرج عليَّ في ذلك ما دمت مؤمنًا بما أقول. وأكبر ظني أنه بعد فترة قد تمتد إلى عشرين سنة سيتجه الرأي إلى الأخذ بما أقول، وكلما شرح الله صدورَ الناس بالقرآن قرب ذلك اليوم وساد هذا الرأي. ولقد رأينا أن جميع القوانين التي أخذناها عن الأجانب لم تُصلح من حال البلد، ولم تُحقق ما كان يُرجى منها، فهذه السجون ملأى بنزلائها، والجرائمُ تزداد والفقرُ ينتشرُ والحالةُ الخلقية والاجتماعية تسوء كل يوم عن سابقه، ولن يصلح الحال إلا إذا نظمنا علاقاتنا بالسنة الكونية وهي القرآن، وعشنا في بيوتنا ومع أولادنا ومع الناس أجمعين عيشةً قرآنية". وفي نفس اليوم الذي نُشرت فيه كلمة الهضيبي في أخبار اليوم نشرت (الإخوان المسلمون) الكلمةَ الآتية بقلم: المجاهد الكبير العلامة (محب الدين الخطيب) صاحب مجلة الفتح والمطبعة السلفية، يحيى فيها الأستاذ الهضيبي، ويوافقه فيما ذهب إليه من وجوب تطبيق الشريعة الإسلامية، ويزيد الموضوع بيانًا وتفصيلاً فيقول: "في الساعة التي كان جيشنا يتخطى فيها الحدود إلى فلسطين وقف الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر متوجهًا إلى الله عز وجل يطلب منه النصر لهذا الجيش. والله عز وجل وعدنا النصر، وعلَّق الوفاء بهذا الوعد على نصرتنا له، ولكن كيف ننصر الله؟ لقد نصرناه بمقاومتنا لباطل الصهيونيين، ونصرناه بإخلاص النية لله في هذا الجهاد. ونصرناه بما نتبرع به كبارًا وصغارًا لتأييد المجاهدين. وهناك جانب آخر ننصر به الله لنستحق عليه النصر من الله، هو الدعوة إلى تعميم الأخلاق والأحكام والمبادئ والقواعد التي ترضي الله. |
الإمام حسن الهضيبي وفقه إدارة الأزمات
تعد إدارة الأزمات واحدةً من أهم وأخطر الإشكاليات التي تواجه الحركة الإسلامية على وجه العموم، فالعمل الإسلامي سواء كان دعويًّا أو حركيًّا على المحك دائمًا وفي ظل غياب الأُطر المؤسسية القانونية لدول العالم الثالث فإن العمل الإسلامي شأنه شأن أي عمل يواجه أزمات أو يصطدم بعقبات إدارية أو أمنية أو سياسية حتى ولو حاول أن يعمل في ظل الأُطر القانونية القائمة، أو أن يحصل على "صك" القانونية. وإذا كان بعض علماء الإدارة يعرِّفون الأزمة بأنها "ذلك الحدث السلبي الذي لا يمكن تجنبه أيًّا كانت درجة استعداد المنظمة، "فإن القائمين على العمل الإسلامي في حاجةٍ إلى ما يمكن تسميته بـ"فقه إدارة الأزمات"، فإدارة الأزمة ليست سهلةً ميسورةً، ولكنها تُعد أحد أهم وأخطر عناصر العمل الإسلامي، فإذا لم يُحسن التعامل معها قد تجر على العمل ويلات كثيرة، فلا بد من تحليل أي مشكلة، ودراسة البدائل في ظلِّ الإمكانات المتاحة، والظروف القائمة، وحسابات الأضرار والمنافع واعتبارات المقاصد الشرعية، وتلمس الحلول المناسبة، دون تفريط في "الثوابت" الخاصة بالعمل أو الخروج عن أُطره. فمتى يكون القرار صلبًا حاسمًا ومتى يكون مرنًا لينًاً، وكيف تُدار الأزمة للخروج بأقل الخسائر ودون تأثير جوهري على العمل الدعوي وأركانه وأساسياته، بل كيف تُدار الأزمة للاستفادة منها واستثمارها وتحويلها من نقمة إلى نعمة، وكيف يُحافظ من يُدير الأزمة على وحدة الصف في ظل ظروف الأزمة، كل هذا يحتاج لفقه إدارة الأزمات، وأحسب أن العمل الإسلامي عمومًا وقادته خصوصًا في حاجةٍ لهذا الفقه بشدة ليُحسنوا التعامل مع الأزمات من حولهم. وللأسف الشديد فإن الكثير ممن يعملون على الساحة الدعوية يفتقدون إلى "فقه إدارة الأزمات" مما يُوقعهم في إشكالات أو صدامات مختلفة، تعطل العمل، بل وقد تُعيقه لفترة ما طويلة أو قصيرة عن الساحة. وإذا كانت جماعة الإخوان المسلمين بتجربتها الكبيرة أدركت هذا الأمر جيدًا، وأخذت تتعامل مع الأزمات بمنظورٍ علمي، ورؤى شرعية، وقرار شوري فإن الإمام حسن الهضيبي يرحمه الله يُعد أفضل مَن أدار الأزمات في العمل الإسلامي في العصر الحديث في إطار دعوي، فلقد واجه الرجل أزماتٍ كثيرةً من داخل الصف (جماعة الإخوان المسلمين) ومن خارجه (الحكومة المصرية) في ذلك الوقت، وأدارها كأفضل ما يكون بمهارة واقتدار. وإذا نظرنا إلى الظروف التاريخية التي عاش فيها الرجل- داخلية أو خارجية- والمحن التي تعرَّضت لها جماعة الإخوان المسلمين في عهده والتي بلغت من الشدة والقسوة والضراوة الدرجةَ التي تزلزل أركان أي تنظيم أو جماعة، ما لم تكن هذه الجماعة تُخلص لله وحده، وقائمة على أسس عقدية وفكرية سليمة، ولها في ذات الوقت قيادةٌ ذات قدرة على التعامل مع الأزمات وغنية بمعرفة فقه الأزمات ومتأصل فيها وليس شعارًا. ولقد مَنَّ الله على الإخوان المسلمين بالإمام حسن الهضيبي ليقودَ الجماعة في ظلِّ أعتى وأشد المحن التي تعرَّضت لها الجماعة في تاريخها، واستطاع بفضل الله أن يتعاملَ مع هذه الأزماتِ بمهارةٍ فائقةٍ في ظلِّ ظروفٍ حالكةِ السواد، واستطاع أن يقودَ السفينةَ كأمهر ربان في بحورٍ متلاطمة الأمواج لينجوَ بها ويصلَ بها إلى برِّ الأمان، محافظًا على ثوابت العمل وأُسسه والأُطر التي وضعها مُؤسسها الأول الإمام الشهيد حسن البنا يرحمه الله. فعن فطنة وكياسة الأستاذ الهضيبي في إدارة الأزمات التي حلَّت بالجماعة وعن منطلقاته الدعوية يقول الأستاذ عمر التلمساني يرحمه الله: "وإذا كان حسن البنا قد مضى إلى ربه وترك النبتةَ يانعةً فتيَّةً، فقد كان حسن الهضيبي علاَّمة زمانه، ومشعل عصره، يوم حمل الراية حريصًا لم يُفرط، عزيزًا لم يَلن، كريمًا لم يَهُن، وأدَّى الأمانة أمينًا في عزم، قويًّا في حزم، ثابت الخُطى في فهم، فأكد معالم الفهم السليم للإسلام الصحيح في القول وفي العمل، لم يُثنه حبل المشنقة، ولم يُرهبه سجن ولا تعذيب، بل زاده الأمر إصرارًا على إصرار، وصمودًا فوق الصمود "مجلة الدعوة العدد الأول رجب 1396 هـ". وإذا كنَّا ندرس نظرياتِ الآخرين وتجاربهم في كيفيةِ إدارةِ الأزمةِ فإن ما قام به الإمام حسن الهضيبي يستحق أن يُدَّرَس وأن يكون نبراسًا يُضيء للعاملين للإسلام الطريق في كيفية إدارة الأزمات، الأمر الذي جعل الإخوان المسلمين يخرجون من المحن والسجون على عكس ما كان يُستهدف لهم، صبروا و صابروا وجاهدوا أعظم الجهاد، بل وكانوا نواةً لجيلٍ جديدٍ حمل عبء الدعوة والحركة، وهذا بفضل الله أولاً، ثم بفضل الأُسس التربوية السليمة التي وضعها الإمام المؤسس الشهيد حسن البنا يرحمه الله وتعامل القيادة الواعية مع قضاياها وقضايا الأمة بمنظورٍ شامل، ومنهجية ثابتة. فجماعة الإخوان المسلمين كانت في أشد الحاجة في تلك الظروف لمثل هذا النوع من الرجال الذين قيَّضهم الله ليقودوا دفةَ العمل، ويكونوا كالهضابِ التي تنكسر عليها النصال ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾ (الأحزاب: 23) ليقودها في ظلِّ تلك الظروف القاسية، ليقفَ في وجهِ الهجماتِ والضرباتِ المتتالية، صامدًا معينًا إخوانه على الصمود، ومخلصًا معينًا إخوانه على الإخلاص، حازمًا قويًّا لا تلين له قناةٌ، محافظًا على ثوابتِ الجماعة، منافحًا عن الحركةِ برؤية القاضي الصارم المتجرِّد في مواجهة من حاولوا الخروج عن الصف، والالتفاف على الشرعية، فالكل سواء، ومصلحة الجماعة أهم بكثير من مصلحة البعض الذين حاولوا استغلال الجماعة لأغراض شخصية أو لأهداف ضيقة. فلقد كان يتمتع يرحمه الله بروح القائد، وعلم الفقيه، وضمير القاضي، وثبات وصلابة المجاهد، وقبل ذلك إخلاص وورع الزاهد العابد، لذلك نصره الله وأيَّده وأرشده لأصوب القرارات في أصعب الأوقات. قد ينظر البعض للمحن التي تعرَّض لها الإخوان في عهده بنظرة سلبية كأنه هو المسئول عنها، وقد أثبتت الأحداث غير ذلك، بل إن أسلوبه في إدارة الأزمة حَوَّلَ هذه المحن إلى نِعَم، وقد حققت الجماعة في ظل الأزمة ما لم تحققه في لحظات الانفراج، وظهر جيل جديد من الإخوان ليقودَ العملَ في أحلك الظروف، بثبات، وقوة، ووعي وإدراك لظروف المرحلة. ورفع مستوى المفاهيم التربوية في نفوس الإخوان وإذكاء روح الأخوة العملية بينهم، فلم تكن المحن كلها بلاءً، ولكنْ مَنَّ الله على الإخوان ببعض الإيجابيات التي تستحق أن تكون درسًا للأجيال. وسنتناول هنا بعض الأسس التي اتبعها الإمام الهضيبي في إدارته للأزمات لتكون درسًا، وعلاماتٍ على الطريق لمن يسلكون طريق أصحاب الدعوات. وأبرز هذه الأسس: أولاً: الاعتماد على الله : فالدعوة دعوة الله، وما وقف الإخوان هذه المواقف وما تعرضوا لتلك المحن إلا لله وفي سبيل الله، لذلك كان الاعتماد على الله سبحانه هو الأساس في المواجهة ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ، إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾ (الطلاق:3). فالاعتماد على الله سبحانه عنصر أساسي وبديهي في إدارة الصراع بين الحق والباطل، وهذا من صلب العقيدة؛ فالله هو المعين وهو الملجأ والملاذ وهو الغاية والهدف، ولا يجوز أن يديرَ مسلم مواجهةً بين الحق والباطل بدون طلبِ العون والغوث من الله سبحانه. ثانيًا: التركيز على الثوابت التربوية : يقول رحمه الله- موجهًا كلامه للإخوان محددًا دورهم ومهمتهم:
فهو هنا يركِّز على إصلاح النفس كخطوةٍ أوليةٍ في المواجهةِ، فلا بد للنفسِ أن ترقى لمستوى يؤهِّلها لتحمل التبعات الجسام في مجال العمل عمومًا أو في مجال المواجهة التي ستفرض نفسها بعد ذلك. ثالثاً: وضوح الهدف : فتحديد الهدف ووضوحه مطلوب عمومًا، وخاصةً عند الأزمات؛ ليعرفَ الإنسان على أي شيء سيثبت أو من أجل أي شيء سيضحي، فغياب الفهم الصحيح للهدف قد يسبب من المشكلات الكثير، يقول يرحمه الله تعالى: "إن دعوة الإخوان المسلمين لم تعد دعوةً محليةً تنحصر في حدود وطنٍ صغير، وإنما غدت عالميةً تشمل العالم الإسلامي بأسره وتوقظ في المسلمين روحَ العزة والكرامة والتقوى، فهي اليوم عنوانُ انبعاث لا نوم بعده، وتحرُّر لا عبودية معه، وعلم لا جهل وراءه، ولم يعد من السهل على أية طاغية أن يحولَ دون انتشار هذه الروح أو امتدادها؛ وما ذاك إلا لأنها تعبيرٌ صادقٌ عن شعور عميق، ملأ نفوس المسلمين جميعًا ويستولي على مشاعرهم وعقولهم، وهو أنهم لا يستطيعون اليوم نهضة بدون الإسلام، فالإسلام في حقيقته ضرورةٌ وطنيةٌ واجتماعيةٌ وإنسانيةٌ "المرجع السابق" فهذه هي أهداف الإخوان المسلمين، عالمية وشمولية الإسلام، وعلى مَن يلتحق بهم أن يفهم ذلك ويدركه ويعمل معهم من أجل تحقيق هذه الأهداف السامية. رابعًا: الثقة في نصر الله : يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ﴾ (الحج: من الآية 40)، ولعلَّ هذه الآية كانت أمام الأستاذ حين قال: "فكونوا مستعدين دائمًا لما يؤدِّي بكم إلى النصر في الحياة، فطهِّروا قلوبَكم وحاربوا أهواءكم وشهواتكم قبل أن تحاربوا أعداءكم.. فنصرة الله في ذات النفس عنصرٌ هامٌّ لطلب النصر من الله، ثم الثقة من نصره سبحانه، ويؤيد ذلك قوله يرحمه الله: "ولم يعد من السَّهْل على أيةِ طاغيةٍ أن يحولَ دون انتشارِ هذه الرُّوح أو امتدادها"، فلنكن على ثقةٍ مـن نصر الله ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (الروم:47) فلنأخذ بالأسباب أولاً، ثم نترك الأمرَ كلَّه لِلَّهِ ونثق بما عند الله، وأن النصرَ قادمٌ لا محالة إذا قدَّمنا له كلَّ ما نستطيع من جهدٍ وبذل وتضحية، وما كان نصر الله للإخوان وإعانته لهم على ما كانوا فيه من شدة وخروجهم ثابتين على الحقِّ غيرِ مبدلين، إلا خير دليل على ذلك. وإن انتشار العمل الإسلامي الكبير هذه الأيام لأكبرُ شاهد، فمن كان يعتقد منذ 45 سنة أثناء المحنة والقتل والتعذيب والاعتقال وأحكام الإعدام أنه ستقوم للإخوان قائمة، لم يعتقد ذلك إلا الإخوان فقط، وذلك لثقتهم الفائقة في نصر الله. خامسًا: الشجاعة: فهي ركن أساسي وهام في إدارة الأزمة، فإذا وهن القائد أو تخاذل فسينهار كل من خلفه إلا من عصم ربي، ولقد كان الإمام حسن الهضيبي من الشجاعة بمكان ليقف في وجه أعتى التحديات. يقول الأستاذ أحمد البس (أحد قيادات الإخوان) يرحمه الله مستشهدًا ببعض عناوين الكتابات التي كانت تحاول أن تنال من عزيمة من يريد أن يخلف حسن البنا:
فهذا هو الجو العام الذي قَبِلَ فيه بعد إلحاحٍ شديد الإمام الهضيبي قيادةَ الجماعة، فأي شجاعة هذه التي تجعله يَقبل قيادة جماعة في مواجهةٍ مع السلطة وقد يكون مصيره نفس مصير سلفه؟! ولكنها الشجاعة والإيمان الراسخان في النفس ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ ( التوبة: 51) وكذلك في مواقفه الكثيرة مع قادة الانقلاب العسكري آنذاك ما يؤكد ذلك. سادسًا: الحزم والحسم : وهما عنصران مهمان في إدارة أي أزمة، فهناك لحظاتٌ لا بد من الحزم والحسم؛ حتى لا تستفحل الأمور وتخرجَ عن نطاق السيطرة، ولعلَّ موقف الهضيبي تجاه تصفيةِ النظام الخاص أعظم درسٍ على وجوب الحزم في مواجهة مَن يحاول العبث بمقدرات العمل ولا يلتزم بقرارات القيادة، ويعتبر نفسه فوق القيادة وأقوى من الجميع، فقد قرَّر فصل عبد الرحمن السندي رئيس النظام الخاص وهو يعلم ما يمكن أن يجرَّه عليه من مصاعبَ ومشكلاتٍ، ولكنها الإدارة الحازمة. فهناك لحظات حاسمة في تاريخ العمل لا يمكن فيها التهاون ولا تميع المواقف ولا القبول بأنصاف الحلول، فلا بد من موقفٍ حازمٍ واحدٍ لا رجعةَ فيه للحفاظ على وحدة الصف وكيان الجماعة.. شائكةٌ مثل تلك المواقف.. تحتاج لقيادة واحدة ورأي واحد حازمٍ وحاسمٍ ليجتمع الكل عليه، ولأنْ نجتمع على الصواب خيرٌ من أن نفترقَ على الأصوب. سابعًا: الثبات على الابتلاء: يقول الله سبحانه وتعالى:
ويقول سبحانه:
فالابتلاء طبيعةٌ في الدعوات، والصبر عليها طبيعةُ الأنبياء والصالحين، ولقد صبر الإخوان بفضل الله على الابتلاء الهائل الذي تعرَّضوا له، وضرب الإمام حسن الهضيبي أروعَ المثل في ذلك، يقول الأستاذ أحمد البس:
ونجد هنا الثبات على الابتلاء المعروف من سجن وتعذيب وإعدام، كما نجد أيضًا الثبات على الابتلاء من داخل الصف فالصف ليس بصف أنبياء ولا رسل، وحدوث أخطاء صَغُرت أم كَبُرت أمر وارد ويبقى الثبات على هذا الابتلاء الأليم على النفس بطبيعية الحال وإدارته بحنكة للخروج بأقل الخسائر الممكنة. ولعلَّ في قول الأستاذ عمر التلمساني يرحمه الله أكبرَ دليلٍ على ثباتِ الرجل على عقيدته ومبدأه وعلى أشد أنواع الابتلاء؛ حيث يقول عنه: إنه أكد معالم الفهم السليم للإسلام الصحيح في القول وفي العمل، لم يثنِهِ حبل المشنقة، ولم يرهبْه سجنٌ ولا تعذيبٌ، بل زاده الأمر إصرارًا على إصرار، وصمودًا فوق الصمود. وصدق الله عز وجل إذ يقول:
ثامنًا: الثبات على الموقف والمبدأ : فكما يُقال:
لقد ظنَّ قادة الانقلاب أنهم سيغرونه بعدة وزارات أو مناصب ولكنهم واجهوا صنفًا جديدًا من الناس لا يلهث وراء منصب، ولكنه يضحي بكل منصب أو جاه دنيوي في سبيل عقيدته ومبدأه وفكره المستمد من القرآن والسنة، فهنا يبرز ثبات المجاهد الصادق. وعندما قبل بعض الإخوان بعض المناصب رفض المرشد هذا ولم يقبل بغير استقالتهم من الإخوان؛ لأن الإخوان ليسوا دعاة مناصب ولا سلطة ولا بد أن يثبتوا على الضراء والسراء كذلك. يقول الأستاذ عبد الفتاح المحروقي في كتابه "في صحبة المرشد العام الإمام حسن الهضيبي" قال (يعني المرشد): كنت أتعامل مع جمال عبد الناصر على أنه أحد الإخوان المسلمين، وكان عبد الناصر يقول لي: أنت والدي وأنا ابنك، وأقول له: لا عذرَ لنا إن لم نحكم بما أنزل الله، فقد صار الحكم إلينا، وهو يقول: يحكم كل منا الإسلام في بيته، أما الدولة فلا شأن لها بذلك. وإذا كان هذا فكره، وهذا أسلوب الحكم عنده، وأن الدولة لا شأنَ لها في الحكم بما أنزل الله فقد حدَّد موقفنا منه، ونحن على موقفنا في المطالبة بالحكمِ بما أنزل الله، وهل هذا الموقف جريمة تستحق الاعتقال وتعذيب المعتقلين؟ أو تدبير جرائم الاغتيال والقتل؟ نحن لا يهمنا أن نموت شهداء في سبيل هذا المبدأ الكريم، وهو المطالبة بالحكم بما أنزل الله، فهذا يؤكد ثبات الرجل على موقفه في ظلِّ أقصى ظروف المحنة والأزمة، وأنه لا مجالَ فيها للتنازل أو الترخص المذل المهين، والذي سيؤدِّي إلى غضبِ الله لتخلينا عن مبدأ الحكم بما أنزل الله مقابل تهديد أو ترغيب دنيوي زائل. وفي اعترافٍ صريحٍ بموقف المرشد حسن الهضيبي من الإصرار على تطبيق أحكام القرآن يقول البيان الذي صدر في يوم 15 من يناير 1954م عن مجلس الثورة بحل جماعة الإخوان المسلمين: "... فقال له البكباشي جمال عبد الناصر في منزل الأستاذ صالح أبو رقيق الموظف بالجامعة العربية، وقد بدأ المرشد حديثه مطالبًا أحكام القرآن في الحال، فردَّ عليه البكباشي جمال إن الثورة قامت حربًا على الظلمِ الاجتماعي، والاستبداد السياسي والاستعمار البريطاني، وهي بذلك ليست إلا تطبيقًا لتعاليم القرآن الكريم.." بيان مجلس الثورة. تاسعًا: لين الجانب ومراعاة لحظات الضعف البشري : فعلى العكس تمامًا من الحزم والحسم في إدارته للأزمات السابقة من حل للنظام الخاص وعدم التنازل عن أي مبدأ لرجال الحكم آنذاك نجده لين الجانب مع إخوانه يتعامل معهم بروح الأب الحنون. يقول الأستاذ عبد الفتاح المحروقي:
وبينما هو يتعرَّض في السجن للتعذيب الوحشي والإهانات المتلاحقة في ظل ظروف صحية متدهورة، نجده يحرص على إخوانه ويشفق عليهم من ظروف المرحلة، حتى من طلب منهم أن يؤيِّدَ النظامَ ويخرج من السجن لم يمنعْه أو حتى يعارضْه أو يناقشْه، فلم يُذكر عنه أنه منع أحدًا أو حتى ناقشه في مواقفَ اتخذها تجاه النظام ليخرج من السجن، فقد سمح لكل من جاء يطلب الأذن باتخاذ موقف التأييد، وكان يرفع عنه الحرج. فقد كان ينظر للحظات الضعف البشري التي تنتاب النفس بمنظور القائد الإنسان، فهو لا يريد أن يُحمِّل إخوانه فوق طاقتهم أو أن يضعَ نفسه في موقف المقارنة أو التفضيل مع الذين يريدون الخروج. ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾ (آل عمران: من الآية 159). عاشرًا: مراعاة الضوابط الشرعية : فلقد أرسى ورسَّخ يرحمه الله قاعدةً عامةً وهي عدم جواز اجتماع الصف على رخصة؛ فهو وكثير من الإخوان لم يؤيِّدوا ولم يخرجوا من السجن، وعندما ناقشه بعض الإخوان عن سبب سماحه لكل مَن جاء يطلب التأييد والخروج بذلك، قال: ألم يشاهدوني فأني لم أؤيد. فهو لم يؤيد ليخرج من السجن وهو في ذات الوقت لم يقف في وجه الطبيعة البشرية ولحظات الضعف التي تنتابها، فمن جاء ليستأذن سيخرج وسيؤيد فلماذا الإحراج ووضعه في موضع المفاضلة وتجرئته على قراراتِ القيادة، وهنا تكمن حكمة القائد في تقدير المواقف وتأصيلها شرعيًّا وعدم وضع إخوانه موضع المفاضلة بين العمل ولحظات ضعفهم. وكذلك موقفه من فكر التكفير كما سيأتي دليل واضح على لزوم الضوابط الشرعية في مختلف الظروف الصعبة التي قد تمر بالداعية والعمل. حادي عشر: وحدة الصف والحفاظ على سلامة الأفراد : يقول الله عز وجل: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تََفَرَّقُوا﴾ (آل عمران: من الآية 103)، ويقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ﴾ (الصف:4)، ويقول: ﴿وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ (الأنفال: من الآية46)، فالآيات والأحاديث في هذا الباب كثيرة والمواقف المؤيدة لها من السنة المطهرة كثيرة كذلك، ولقد حرص الإمام يرحمه الله أيما حرص على وحدة الصف بدأ من حزمه الشديد في تصفية النظام الخاص، وحرصه على لمِّ شمل جميع الإخوان ثم زياراته للعديد من قرى مصر على الرغم من سوء حالته الصحية ومن الشيخوخة التي يعاني منها. يقول الأستاذ أحمد البس:
لقد كانت وحدة الصف من أهم أولويات الإمام، ولقد وفقه الله سبحانه أن يجمع الأخوان ويوحِّدهم بعد ما ظن البعض أن الخلافات الداخلية قد تأتي على الإخوان وتفرقهم، وعندما عرض عليه بعض رجال الدولة أن ينضموا لهيئة التحرير التي أنشأوها لضرب الإخوان أصلاً رفض؛ لأن في ذلك تفريقًا للصفِّ وحيادًا عن المنهج والأمانة التي أولاه إياها الإخوان. وكذلك في سماحه لبعض الإخوان الذين جاءوا يطلبون الإذنَ بالتأييد للخروج من السجن وويلاته لدليلٌ على وحدة الصف، فهو لا يريد أن يخسرهم أو يصنفهم على أنهم خارج الصف، فهم من الإخوان وإن ضعفوا في لحظة من اللحظات. ومن أبرز الأمثلة على حفاظ الإمام حسن الهضيبي على وحدة الصف وسلامة الأفراد عندما حاول عبد الناصر أن يأخذ منه أسماء أعضاء النظام الخاص، يقول الأستاذ عبد الفتاح المحروقي: "قال (عبد الناصر): وتعطيني أسمـاء أعضاء النظام الخاص (الجهاز السري) لأراقبهم. قلت (المرشد): لتعتقلَهم.. أليس كذلك؟ لا.. أنا لا أوافق على إعطائك أسماء الإخوان، لأن ذلك يعتبر خيانةً مني، ولقد وضعت أنت يا جمال الأسلحة في مخزن في ضيعة (عزبة) مباشر عزبة والد الأستاذ حسن العشماوي سنة 1952م بعد حريق القاهرة في 26 يناير 1952م وفي يناير 1954م قبضت على حسن العشماوي وقدمته للمحاكمة بتهمة حيازة الأسلحة" (كتابه السابق). فأي عظمة يشملها هذا الموقف بأنه يحمي الصف بنفسه وأنه يقول كلمة الحق لسلطانٍ جائرٍ في وجهه لا يخشى في الله لومة لائم، فهكذا ينبغي أن تكون القيادة تحافظ على إخوانها وتدافع عنهم وتحميهم بنفسها إذا اقتضى الأمر ذلك. وهذا كله يحمي الصف ويقويه، ولقد كانت لهذه المواقف والكثير غيرها أكبر الأثر في إثراء روح الأخوة ووحدة الصف، مما أثَّر على صمود الإخوان بعد فضل الله- للمحن المتتالية في صف متين صعب على أعدائهم هدمه أو النيل منه. فهذا يعني أن يكونَ نصب أعين من يدير أزمة إن وحدة الصف وسلامته وسلامة أفراده هدف إستراتيجي لا يمكن الحياد عنه. ثاني عشر: مواجهة أي بوادر لانحراف الفكر : وأبرز دليل على ذلك عندما بدأ في الظهور داخل المعتقلات فكر التكفير تحت وطأة التعذيب والامتهان الذي تعرضوا له في السجن، فكان المرشد سبَّاقًا لمواجهة هذا الفكر وتفنيده وأصدر كتابه القيم "دعاة لا قضاة" ليضعَ الأسسَ الصحيحةَ في هذا الموضوع، وليعيدَ الفهم الصحيحَ لعقول مَن انحرف بهم الفهم، وكذلك وضع الضوابط الشرعية التي تحكم هذه المنطقة الحساسة في التعامل بين الحاكم والمحكوم وموقف الإسلاميين ممن بغوا عليهم. ثالث عشر: استشراف المستقبل: فالحفاظ على الأهداف المستقبلية للعمل والحركة واجبٌ على مَن يدير الأزمة، فطبقًا لها يستطيع أن يأخذ قراره بوضوح تام. كما يجب عليه أن يتمتعَ بسرعة اتخاذ القرار السليم المناسب طبقًا لأولويات الحركة وأهدافها المستقبلية، فقد يكون القرار سليمًا ولكنه غير مناسب لمرحلة ما، فلذلك لا بد أن يكون القرار سليمًا ومناسبًا في الوقت نفسه، ونرى هذا واضحًا في موقف الإمام الهضيبي من قادة الانقلاب وعدم تعاونه معهم وقبول بعض المناصب الوزارية، فالإخوان أهدافهم أسمى وأنبل وأرقى من أن تُقاسَ بمناصبَ وزاريةٍ زائلةٍ، فمستقبل الجماعة كان أمانةً بين يديه لذلك رفض هذا العرض، فإما تطبيق كامل للشريعة يتبعه مشاركة في الحكم (حسب المتفق عليه قبل الانقلاب) وإما عدم تطبيق، وعندها فلا مشاركة، وذلك لما يتبعه من إضفاء شرعية للنظام، وقد كان في أمس الحاجة إليها، فتلك قضية لا تقبل الحلول الوسط، وهي في الوقت نفسه تمس مستقبل الجماعة ومدى مصداقيتها لدى جموع الناس. فتلك بعض الأسس التي اتبعها الإمام حسن الهضيبي يرحمه الله في إدارته للأزمات الطاحنة التي مرَّت به داخليًّا وخارجيًّا، والتي استطاع بفضل الله أن يبليَ فيها بلاءً حسنًا، وأن يخرجَ منها بأفضلَ وأطيبَ النتائج. لقد كان من أعظم قادة العمل الإسلامي في إدارة الأزمات، فكان حازمًا وقت الحزم، ولينًا وقت اللين، وحاسمًا وقت الحسم، ورحيمًا وقت الرحمة، وقاضيًا وقت العدل، وفقيهًا وقت الفتوى، وهذه هي أبرز الصفات الواجب توافرها فيمن يدير الأزمة، فليس كل وقت يستحق الحزم أو الحسم أو اللين؛ فلكل موقف وضعه ورؤيته وقراراته، ولكل أزمة طبيعتها التي تستوجب علينا التعامل معها بما يلائمها، رحم الله الإمام الصابر المحتسب- الذي لم يُوفَّ حقه لليوم حسن الهضيبي، وجعل ما بذل في سبيله في موازين حسناته، وجمعنا وإياه في مستقرِّ رحمته. |
مواقف حاسمة في حياة الهضيبي بقلم الأستاذ الداعية : عبدالحكيم عابدين من غير جلبةٍ ولا ضجيج، وبكل تواضعٍ واستخفاء، عبْر كلماتٍ في زاويةٍ من جريدة الأهرام، وقعت العيون على نبأ وفاة المرشد العام للإخوان المسلمين، أخي وأستاذي في الله حسن إسماعيل الهضيبي رحمه الله. وأشهد ما كدت أتلقَّى النعي الأليم حتى أضاءت ملء خاطري وتلألأت في كل ما حولي هذه الآية الكريمة من سورة الأحزاب ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِيْنَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيُلاً﴾ (الأحزاب: 23) كأنما تنزل الساعة، عليها جلال الوحي، رحمانية الجرس، ملائكية النبرات، عالية الترتيل، ذلك بأنَّ الراحلَ العزيز كان- فيما علمت وشهدت- تفسيرًا حيًّا لهذه الآية، وكانت سيرته واقعًا ملموسًا لما تحمل من شمائل، وما ترسم من مُثُلٍ ومحامد، وما تبشِّر به من مثوبةٍ ورضوانٍ. في صباه الباكر، في شبابه الغضّ، في رجولته السوية، في كهولته الواعية، وفي شيخوخته الوقور، كان حسن الهضيبي الصادق الذي لا يكذب، العفّ الذي لا يترخَّص، المستقيم الذي لا يُداهن، الأبيَّ الذي لا يخنع، الشجاع الذي لا يدبر، الجَلد الذي لا يتذمر، بل كان كما قال العربي من قبل- لا يملّ حتى يملّ النجم، ولا يهاب حتى يهاب السيل، ولا يظمأ حتى يظمأ البعير!! وكان فوق ذلك جذوةً من الإيمانِ والجهاد لا تسكن إلى دعةٍ ولا تهادن على مبدأ، عنوانًا على الخلق والترفُّع لا يستنزله عنهما إسفافُ حاسدٍ أو سلاطةُ منابذ، جبلاً في الثباتِ على ما يؤمن به، أرعدت القواصم أم أبرقت المغانم، منهلاً للإيثار يمنع الري نفسه وأهله حتى يشبع منه ذوو الحاجة الأباعد، داعية لا تُخطئ في أحد ممن يدخل في ولايته سلطان دعوته الغالب، وتلك خصيصة لا يشتد بخير فيها أزر المصلح المجاهد، ولا يبلغها من قادة الدعوات إلا الصفوة القلائل، وحسبك أن يمتدح بها القرآن الكريم أكثر من نبي مثل قوله تعالى: ﴿وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)﴾ر (مريم). ويقودني الإلمام بهذه الخصيصة من شمائل المرشد الراحل إلى التحدث عنه طيَّب الله ثراه في إثنتين من أبرز النواحي التي تميزت بها شخصيته ومعالم سيرته ومنهاجه:
وقبل الإسترسال في عرض هاتين الناحيتين، تقتضيني الأمانة والإنصاف أن أسارع إلى القول بأن روائع الإيمان والألمعية التي يشرق بها تاريخ الهضيبي كانت لازمة له بارزة في نفسه وعمله، قبل التحاقه بدعوةِ الإخوان المسلمين، وبعد أن تولى قيادتها خلفًا لسلفه العظيم الشهيد حسن البنا عليهما رضوان الله، لا يخطئ هذه الروائع فيه عابر طريق، ولا معاشرٌ لصيق!. حسن الهضيبي في مواقف وأعمال وأخلاق: أعترف أن المقادير لم تهيئ لي فرصة التعارف المباشر إلى الراحل الجليل إلا وقد تجاوز الخمسين من عمره، حينما كان مستشارًا بمحكمة النقض (التمييز) المصرية، ولم يجاوز تأثري به يومذاك شعور الإعجاب بألمعي من رجالِ القانون يبلغ هذه الدرجة من الفقه الصحيح للشريعة، والفرح برجلٍ في هذا المنصب الرفيع يتدفق إيمانًا برسالةِ الإسلام الخالدة، وقدرتها دون سواها من المبادئ والدعوات على علاج مشاكل العصر، والوفاء بكل ما يتطلبه بناء الدولة الحديثة على أفضل وجه، بل بما يكفل سعادة البشرية من كل لونٍ وجنس. بيد أنه منذ تولى قيادة الإخوان المسلمين، بدأت تفد إليَّ أوفر الأنباء من رفاقِ عمره، أقطاب القانون والقضاء، عما خفي عليَّ من تاريخ حياته، وراح أريج سيرته يعطرِ الأسماع والقلوب في قصصٍ تُشبه الأساطير عمَّا ألزم به نفسه وذويه من مثاليةِ السلوك فيما يفعل وما يترك وما يقول. الأنس بالقرآن : عُرف عن حسن الهضيبى ولوعه بكتابِ الله منذ حداثته، يُكثر القراءة فيه والغوص في معانيه ويزن عمله وسلوكه بأوامره ونواهيه، ويبادر إلى إلزام نفسه بما قد تغفل عنه من أحكامه وتوجيهاته، وكانت هذه الصحبة مع القرآن مصدر شمائله والأساس الذي لم تنفك عنه شخصيته طوال عهده بالدنيا.فلئن استظهر الكثير من أجزاءِ القرآن في صدره . كما تدل على ذلك كثرة استشهاده بآياته فقد شارف الغاية من استيعابه حقائق من خلقه، وصراطًا لحياته، وكان يبلغ من غيرته على القرآن وإعظامه لمسئولية حامله وتاليه أن يشتد نكيره على مثل إذاعاتِ لندن وموسكو والصهاينة وباريس حين تستهل مناهجها بتلاوة القرآن وهي لا تؤمن به فتنزل بقدره إلى رتبةِ الأغنية أو الأنشودة التي تتملق بها مشاعر السامعين، وفي ذلك كل الاستخفاف بالمسلمين، مع ما للقرآن من حرمة، تفترض في مذيعه والمنصت إليه، أن يكون جنديًّا صادعًا بأمره، مقلعًا عن كل ما ينهى عنه. الورع عمَّا يستبيحه الكافة : انفرد الأستاذ الهضيبي أو كاد برتبةٍ عاليةٍ في الورع عمَّا تعارف عليه الناس على إباحته من توافه الأشياءِ التي تضعها الدوائر الحكومية والمؤسسات التجارية في خدمةِ موظفيها كالأوراق والأقلام وغيرها من المهملات إذ كان يُحرِّم على نفسه وذويه استعمال شيء منها في شأنٍ خاصٍّ، وكان يعود من المحكمة- وهو قاض أو محقق وفي حقيبته أكداس من ورقة التسويد الرخيصة (الخرطوش) ليخطط عليها مشروعات القرارات والأحكام القضائية. فلا يسمح لنفسه قط باستعمال ورقة منها ولو كانت دون الأصبع في أمر يخصه أو يخص واحدًا من أهله، فإذا رآها واحد من أولاده في غرفته وطلب ورقة منها لبعض حاجته أنكر عليه أبوه وأعطاه قرشًا يشتري به ما يحتاج إليه من الورق ثم لقنه أمام إخوته الدرس الذي لم ينسوه بأن أوراق الحكومة ملك لها لا يحل لأحد أن يستخدمها في شأن خاص به. مع خلطائه المسيحيين : وكانت باكورة ولايته القضاء في مدينة جرجا في صعيد مصر، حيث تعلو في الطبقة المثقفة نسبة المسيحيين، الذين تهيئ لهم مراكزهم وثقافتهم الاختلاط بقاضي المدينة، ونظرائه من كبار الموظفين، فلفت نظر هؤلاء الأخوة عزوف القاضي الجديد عن مشاركة أنداده غشيان مواطن اللهو المباح، فضلاً عن الحرام، وراعهم منه خلافًا لأمثاله لا يحلف ولا يعمد إلى تثبيت قوله ورأيه بيمين؛ استنادًا إلى أنَّ من لا يصدق بلسانه لا يصدق بيمينه، بالإضافةِ إلى إيثاره الجد في غير تزمت والبشاشة في غير تبذل، فإذا بهم يلتفون حوله، ويُحيطونه بفيض من مشاعر الحب والتقدير، ويعلنون أنهم يحسدون عليه إخوانهم المسلمين، ويتمنون لو كان في طائفتهم مثله ليقيموا له النصب والتماثيل. الجبين المرفوع.. أمام الملك فاروق : دثني "باشا" مصري من أعلام القضاء- كان يليه مباشرةً في ترتيب القضاة والمستشارين- أن الهضيبي كان أول مَن كسر تقاليد الانحناء بين يدي الملك، عند حلفه اليمين القانونية التي يؤديها أمامه قبل تولي مناصب المستشارين، إذ كانت دفعته حوالي عشرة، سبقه منهم خمسة لم يترددوا في الانحناء عند حلف اليمين رغم تهامسهم بالتذمر من هذا التقليد المهين. حتى إذا جاء دور الهضيبي، الواهن البنية الصامت اللسان، فاجأ الجميع بأن مدَّ يده لمصافحةِ الملك وأقسم اليمين منتصب القامة مرفوع الجبين، بصورةٍ أنعشت الإباء فيمن بعده- وأولهم محدثي الباشا (س. ر) فأدى يمينه قائمًا عالي الرأس، وهو يقول لنفسه: "إذا شنقوا الهضيبي فليشنقوني معه"، وتبعهما سائر المستشارين فصافحوا الملك وأقسموا اليمين دون تخاضع أو انحناء. لا زلفى لجبار.. ولا شماتة بمنهار أ - أمام الجبارين: ومنذ برز اسم الهضيبي في القمةِ بين زعماء مصر ودعاه الملكُ إلى الاجتماعِ به دون طلب- خلافًا لكل السوابق المألوفة يومذاك راحت التعليقات والتكهنات تتكاثر وتتضارب حول الثمن الذي سيتكلفه الإمام الهضيبي وجماعته فيما توهم الناس لهذه البادرة التكريمية التي خصَّ بها مليك البلاد المرشد العام للإخوان المسلمين!. أما الهضيبي المؤمن الصديق، الموصول أبدًا بملك الملك، فلم يزد على أن نقل سلام الملك الذي حمله إياه إلى إخوانه في الجماعة، ثم استأنف طريقه في الدعوةِ محرر الإباء من كل ما يمت بسببٍ إلى هذه المقابلة، بل معتصمًا بحكمته وإيمانه من أن تلحق بمثاليةِ الجماعة منها أية شبهة! وإليك، مما وقفت عليه بنفسي هذه الأمثلة الثلاثة:
ب- لا شماتةَ بالمدبرين: ويتمم هذه العظمة في خُلق الرجل أنه كان مثال النيل والترفع في مواقفه إزاء من أدبر عنهم السلطان، وانقلبت أحوالهم من عزٍّ إلى هوان، ولو كان فيهم مَن أسلف إليه أو إلى جماعته البغي والعدوان، والأمثلة التالية أصدق شاهد وبرهان. 1- محنة الملك المخلوع: على الرغمِ من مواقف الإباء التي التزمها الهضيبي تجاه الملك فاروق في أوج سطوته وسلطانه، وحين كانت أعلى الهامات تتفاخر بالانحناءِ بين يديه، وأمضى الأقلام تتبارى في نسبةِ القداسة والعبقريات إليه، رأينا هؤلاء جميعًا لا يلبثون عندما تحل نكبة الخلع والإبعاد به أن ينقلبوا في مثل لمحِ البصر إلى هجائين حداد الألسنة، شتامين مقذعي البذاءة، يصبون كل ذلك في غير حياءٍ من ماضيهم القريب ماضي اليوم والساعة على ذلك المخلوع الذي أصبح لا يملك حولاً ولا طولاً، ولا يستطيع لأحدٍ نفعًا ولا ضرًّا. أما الهضيبي الذي رأينا مناعته في وجهِ الملك ومطالب حاشيته فقد ارتفعت به أصالة خلقه عن أن يتأثر بهذا التيار، ومَلَكَهُ سلطان التعفف والترفع فلم ينزلق ولا سمح لإخوانه أو صحفه بالانزلاقِ لحظةً إلى مهاجمةِ رجل جرى القضاء على سلطانه بالزوال، وليس وراء ملاحقته بالسباب إلا ما تأباه المروءة، وما نهى عنه الهدي النبوي، من إتباع المدبر والإجهاز على الجريح!. 2 - محنة الزعماء المعتقلين: ومن معين هذا الخلق الأصيل حرص الأستاذ الهضيبي على مواساةِ الزعماء الذين اعتقلتهم الثورة بعد قيامها بأسابيع، وأصبح الاتصال بهم مجلبة ضرر ونقمة حملت أقرب الناس إليهم على التنصل من كلِّ صلةٍ بهم، بينما حرص الهضيبي على تفقدهم بمجرَّد أن سُمِحَ لهم باستقبال الزوار، فزار وكنت في معيته السادة أحمد نجيب الهلالي باشا، وأحمد عبد الغفار باشا، وآخرين لا أذكرهم الآن ممن كانت قيادة الثورة الحاكمة تعتبر زيارتهم ومواساتهم من كبائر السيئات وما كان أحب إلى المرشدِ في تلك الأيام أن يتفادى غضب رجال الثورة، ولكنه الوفاء الأصيل يأبى أن يُفارق صاحبه ولو كلَّفه ما لا يُطاق!. سلطان الخلق مع الأولياء والأعداء : لا يسعني أن أنفض يدي من هذه العجالةِ الخاطفةِ عن مواقفِ الرجل الكريم وأخلاقه دون أن أورد أنموذجًا من منزلةِ الخلق عنده حين يبدو التمسك به وكأنه إضاعة للمصلحة أو خدمة لأعداء الدعوة. قامت ثورة مصر وبينها وبين الدعوة وقيادتها أسباب ليس هذا مجال الإفاضة فيها، وأخلص الهضيبي في نصحه للثورةِ ومنحها أنفع التأييدَ فيما يتفق ومبادئه الإسلامية، فلما اشتعلت أعاصير الخلاف بينها وبين جماعة الإخوان، وراحت الثورة تصبُّ على الجماعةِ أبشع ضروب البطش والاضطهاد، سارع أحد خلصاءِ الهضيبي إلى مقرِّ قيادةِ الثورة- وكان لا يزال موضع ثقتها الكاملة- للإجهازِ على رجالها، انتصارًا للدعوةِ وكفًّا للأذى عن الجماعة، فاكفهر وجه المرشد غضبًا وقال:
الثبات عند البلاء :
مارس الهضيبي قيادة الدعوة، على هدي النبوة، مؤثرًا للعافية في غيرِ وهن، راغبًا عمَّا يسوقه الاصطدام بالحكوماتِ من شهرة وذكر، متقبلاً البلاء إذا فرض عليه بعد ذلك بأمثلِ ما يتلقاه المؤمن من ثباتٍ وجلد، رافضًا كل ما يؤثره به إخوانه رعاية لسنه ومقامه من وسائل التخفيف والإيثار، ليظفر من مثوبة البلاء وليكون تلاميذه وأتباعه نعم الأسوة والمثل، يفعل كل ذلك رحمه الله دون إثارة ضجة أو لفت نظر. كان أشد ما أفزعني من حملةِ الاعتقالاتِ التي واجهناها في 13 من يناير 1954م أن رأيت بين المعتقلين ثلاثة رجال: حسن الهضيبي، ومنير الدله عليهما رضوان الله، وأسامة حسن الهضيبي سلَّمه الله، لخشيتي أن يكونوا ثغرة في جدارِ المقاومة التي عرف بها رجال الدعوة في الأزمات، لأن أولهم شيخ جاوز الستين مثقل بطوائف من العلل والأسقام. فضلاً عن أنه قضى حياته، حتى ذلك اليوم، في دعة وخفض بين عمله وبيته يأمر فيطاع، ويهيب فيجاب، ولأن الثاني ربيب نعمة وابن باشا واسع اليسار، فضلاً عن كونه مستشارًا في مجلس الدولة، يتسابق الناس في طلبِ مودته، والتقرب إليه، فتملكني الوهم أن تكون مفاجأتهما بحياةِ الاعتقال على هذه الصورة التعسفية الجافية زلزالاً ينتهي بهم إلى الحطمة والانهيار، خلافًا لأمثالنا من حلفاءِ التخشن، الذين سبق لهم التدرج في منازل الاعتقال منذ كانت في مستوى الفنادق الراقية. حتى أصبحت.. كما يواجهها هؤلاء المترفون لأول مرة، مخابئ نكال وهلكة، أما ثالثهما أسامة الهضيبي سلَّمه الله، فقد كان- من دون ذرية الهضيبي كلها- منصرفًا إلى عمله ومقاولاته الهندسية معتزلاً كل ما يتعلق بالدعوةِ والجماعة، لا يعرف عنَّا ولا نعرف عنه شيئًا لولا أن يرانا ونراه في بيتِ أبيه قَدَرًا! غير أن تجربة الشدائد وهي ميزان الرجال قد كشفت من جوهرِ هؤلاء الثلاثة، ما رأيتني بالقياسِ إليه صغيرًا ضئيلاً، أحتاج منهم إلى التشجيعِ والمواساة.. فالهرم العجوز المثقل بالأمراضِ حسن الهضيبي، فقد أثبتت هذه المحنة أنه إمام في احتمالِ البلاء، قدوة في الصبر على الضراء، وإليك طائفة من نماذج إبائه وجلده في أشدِّ مواطن البأساء: مداواة الروماتيزم المزمن بزمهرير البرد في زنزانة الاعتقال: كرثتني وطأة الزمهرير الذي واجهته ساعة أغلق عليَّ باب الزنزانة، رغم ما كنت أشعر به من فضلِ قوةٍ وشباب، وما كنت متجهزًا به من فرشٍ وأغطيةٍ وثياب، وما طال ألفي له من خشونة السجون والمعتقلات، فرأيتُ مشاعري كلها مشدودةً إلى الأستاذِ المرشد يستبد بها الهلع على حياتِهِ الغالية، لما أعلم من معاناته من مرضِ الرزماتيزم الحادِّ المزمن الذي يحوج أجلد الفتيان إلى مضاعفةِ الدفء في وقتِ الشتاء، فعمدتُ إلى فروةٍ من جهازي ذات وبرٍ كثيف طويل ودفعتُ بها مع حارسِ الزنزانة ليسلمها لقاء أجرٍ أغراه إلى الأستاذِ الهضيبي في زنزانته التي عرفتُ رقمها بعد مجهود. وقلتُ في نفسي إنه جهد المقل ولكنها ستقيه الكثيرَ من وطأةِ الزمهرير، غير أنَّ الحارسَ لم يلبث أن عادَ إليَّ والفروة بيده ليبلغني أن نزيل تلك الزنزانة أمره بإعادتها إليَّ، وخشيتُ أن يكون الحارس قد أخطأ المقصود فرددته بكلمةٍ رمزيةٍ وألزمته تسليم الفروة، والتأكد ممن أرسلتها إليه بجوابِ تلك الكلمة، ولكنه سرعان ما عاد إليَّ بالجوابِ الرمزي، ومعه الرفض الحاسم بدعوى أنه لا يشعر بأي برد يحوجه إلى الفراء. وبعد يومين هيأ لي القدرُ الاجتماع بأستاذي الأبيّ أمام دورةِ المياة فما أمهلني أن أتكلم حتى قال: "أدفئ نفسك بفروتك أو ادفعها إلى مَن يحتاج إليها من إخوانك"، فقلتُ له: "فدتك نفسي، مَن أحوج إليها منك وأنت مريض بالروماتيزم والدوسنتاريا و...؟ فإذا به يقاطعني في عزةٍ وبشاشةٍ: لقد شفيتُ والله، يا عبد الحكيم، ببردِ هذه الزنزانة من كلِّ ما أثقلني من الأمراضِ في غابر السنوات!! وما كدتُ أسمع الجواب حتى غلبتني العبرات، وتضاءلتُ في نظر نفسي كأني حفنة من تراب وأنا أردد في خاطري "إن لله رجالاً..."!. رفض المدفأة الكهربائية من مدير السجن: وكان مدير السجن الحربي الذي أعتقلنا في صحراءِ الهايكستب- يتودد للأستاذ الهضيبي ويتظاهر بالأسفِ لاعتقاله والمسارعة فيما يسره، ومن ذلك أنه أبلغه يومًا عن مسعى يقوم به لتزويدِ غرفته بأدوات التدفئة والراحة تقديرًا لمقامه وسنه، فأجابه المرشد رحمه الله: "إني بأتمِّ الراحةِ والدفء، وإذا كان باستطاعتك أن تقدم هذه المزايا لجميع الإخوان المعتقلين فيسرني أن أكون آخرهم، وإلا وفِّر على نفسك المساعي وأنت مشكور!!". غير أنَّ مدير السجن، الذي عرف إباءَ الرجل ومثالية إيثاره، اغتنم فرصةَ إخلائنا الغرف في لحظات (الفسحة) اليومية، فحمل مدفأةَ مكتبه الخاصة وتركها مشتعلة في زنزانة الهضيبي، الذي ما كان يدخل الزنزانة ويُفاجأ بنعمةِ الدفء، ثم يلمح المدفأةَ في زاويةٍ من زنزانته، حتى أقبل على بابِ الزنزانة من الداخلِ يُوسعه طرقًا بكلتا يديه، إلى أن سمع الحارس فأسرع يفتح باب الزنزانة، ليُفاجأ بنزيلها قد حمل المدفأة بيديه، وقذف بها إلى الخارج ثم أغلق الباب على نفسه دون ضوضاء!.. وجاء مدير السجن يعاتبه، بحجةِ أنه آثره على نفسه، وأن في هذا إهدارًا لكرامته، والمرشد لا يزيدُ على أن يدعوَ له، ويكرر أنه لن يقبل ميزةً ولا هديةً ولا كرامةً خاصة، إلا بعد أن تعمَّ كلَّ المعتقلين من إخوانه. إظهار القوة أمام خصوم الدعوة : وأدرك زبانية الحكم أنَّ الشيخَ الذي حسبوه فانيًا سريعًا إلى الاستسلام إن هو إلا معين إباء وجلد، يسري جواره شممًا ومنعةً في نفوس الإخوان فيُثَبِّت الواهِن، ويضاعف من عزيمة الثابت. وتفتقت مكايد الطغيان عن حيلة جديدة، نقلوا بها المرشد العام إلى زنزانة محلقة بمكاتب الإدارة، تفصله قرابة ميل عن مجمع زنزانات الإخوان، بحيث لا يرونه إلا في ساعةِ الفسحة من هذا البعد، لا يكلمهم ولا يكلمونه! ولفت أنظارنا أن مرشدنا المتداعي البنية يقضي ساعة فسحته في الحديقة المواجهة لمكتب المدير ناشطًا في القيام بتمرينات رياضية وهو بملابس ناصعة الألوان لعله كان يتوقر عنها وهو في شرخ شبابه. ولما كاشفته- في أول لقاء هيئ لي معه- بغرابة هذه الحركات الرياضية، وهذه الملابس الزاهية، على مقامه وسنه، ضرب في صدري بيده ضربة حنان وتنبيه، وهو يقول: "دعهم لا يرون منَّا إلا البشاشةَ وارتفاع الروح المعنوية، حتى يتحققوا أنَّ سهامَهم طاشت، ولم يبلغوا منا ما يريدون! ألم يبلغك قول رسول الله- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- "رحم الله امرءًا أراهم من نفسه اليوم قوة". النهي عن البكاء من خشيةِ الله على مسامع الظالمين: واعتاد الإخوان أن يجدوا في السجون أسعد الفرص للخلوة بالله سبحانه، حيث تشغلهم أعباء العمل للدعوة أوقات الحرية عن التفرغ لما يحبون من مناجاته، وكان هناك أخ بين المعتقلين من أرقَّهم قلبًا وأغزرهم دمعًا وأعلاهم نشيجًا في مناجاةِ الله إذا حلك الظلام وسكنت الحركة بين المعتقلين والحراس. واستطاع الإمام الهضيبي أن يتبين من هذا النشيج شخصية صاحبه، فما وقعت عليه عينه في ساحةِ الفسحة العامة، حتى أقبل عليه يقول له: "أنا أعلم أنك رقيق القلب تبكي من خشيةِ الله، وتلك رتبة نغبطك عليها جميعًا، ولكن جهلة الحراس إذا سمعوا بكاءك، وأنت مرموق المكان في الدعوة، أسرعوا إلى سادتهم الطغاة، فأفهموهم أن قادةَ الإخوان قد أصابهم الهلع من الاعتقال، حتى إنهم ليبكون بكاءَ الأطفال". وراع المرشد والحاضرين من الإخوةِ أن يسمعوا جواب أخيهم:
رفض الإفراج قبل التحقق من بطلان الإتهامات: ﴿فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ﴾ (سورة يوسف: 50). اتسعت موجة النقمة على الحكم العسكري بعد اعتقال الإخوان في 13 يناير 1954م، ودب الشقاق إلى صفوف رجاله البارزين، حتى أضطروا إلى إتخاذ قرار بالإفراج عن الإخوان المعتقلين في حوالى 20 مارس 1952م، وخيل للقوم أنهم يستطيعون تقاضى الإخوان ثمنا جزلا عن هذا الإفراج، فأوفدوا إلينا إثنين من رجالهم يبشرانا بالإفراج، ويجسان النبض لمفاوضتنا على ما يمكن أن نقدمه لتأييد الثورة عندما تعود إلينا الحرية، والرجلان هما الأستاذ فؤاد جلال، والسيد محمد أحمد. وبينما كانت بشائر الإفراج تسري مع موجة من السرورِ في أوساط عامة الإخوان، وكان مبعوثا السلطة يتوقعان لمفاوضاتهما أو لمساوماتهما باهر النجاح، سارع الأستاذ الهضيبي إلى إعلان أنه لن يقبل الإفراج فضلاً عن أن يتعهد بأي شىء في مقابله إلا بعد أن تُمحَّص الاتهامات الخرافية، التي برر بها اعتقال الإخوان، أو بعد أن تعلن قيادة الثورة بطلان التهم والاعتذار عن الاعتقال! وهذا ما ذكَّرني بموقفٍ نبي الله يوسف عليه السلام حين رد البشير الحرية التي آثره بها الملك حتى تُستعلن للملأ براءته، ويفتضح كيد امرأة العزيز. وثبت الإخوان على هذا الموقف الأشم بعد أن انفضَّ أول اجتماعٍ على غيرِ اتفاقٍ حتى عاد المبعوثان بعد يومين ليفتحا بابَ السجن ويعتذرا للمعتقلين، وتتبع ذلك زيارة قائد الثورة للمرشد في بيته، وزيارة وزير الإرشاد لكاتبِ هذه السطور في دارِه، في مسعى لإزالةِ ما علق بالنفوس من مظالمِ الاعتقال. إيثار الكفاح على السلامةِ في أقسى أوقات المحنة: شاءت الأقدار أن يكون الأستاذ الهضيبي في سوريا ولبنان في صيفِ عام 1954م بعد زيارة للمملكة العربية السعودية قام بها في أول ذلك الصيف إجابةً لدعوةٍ من الملكِ الأسبق سعود بن عبد العزيز رحمه الله. وفيما كان الهضيبي موضع الحفاوة والتكريم من جميع الأوساط الدينية والاجتماعية والسياسية في البلدين الكريمين، متنقلاً بين المدن والقرى في أحفالٍ عامة، منسجمًا في بعض المصايفِ؛ حيث تتهيأ له ومضاتٌ من الفراغِ والراحة، إذا بحملةِ استفزازٍ مسعورة يُطلقها حاكم مصر يومذاك على الإخوان المسلمين في مصر في مدينةٍ من محافظةِ الشرقية، وإذا الأنباء تتواتر عن إتباع ذلك بموجةٍ اضطهادٍ عارمة تنصبُّ على الجماعة فتغلق مراكزها التي شارفت الألفين، وتعتقل قادتها، وتشرد الموظفين من أعضائها وتصادر أموالها، وتلفق جديدًا وقديمًا من الاتهامات لأهدافِ الجماعة ومناهجها!. وكان العزاء الوحيد لأصدقاء الدعوة وأحرار المنصفين في السعودية وسوريا ولبنان، أن المرشد العام بمنجاةٍ من هذه المحنة، وأنه لا شك سيبقى خارج مصر إن لم يكن إيثارًا للسلامةِ- وهو إليها في حاجةٍ فحرصًا على استنفارِ الرأي العام في دنيا العرب والإسلام، للإنكارِ على حكامِ مصر، وحشد كل طاقة من طاقات الخير لشد أزرِ المجاهدين داخل الأسوار. غير أنَّ الهضيبي إمام الجهاد والصدق والثبات والصبر ما كاد يسمع أنباء النكثة الجديدة للسلطاتِ المصرية، وما أدَّت إليه من تسجيرِ المحنة والبطش بأهل الدعوةِ في أرضِ الكنانة، حتى أمر بالتجهز للعودةِ إلى مصر، وراح يُفند نصائح أحبابه والغيورين عليه وعلى دعوته وجماعته، بالبقاء خارج (القفص) خدمةً للدعوة، وتزويدًا لها بقيادةٍ حرَّة، تملك من العمل والإعلانِ وتعبئة الرأي العام ما لا سبيلَ إلى شيء منه في مصر، بحكمِ البطش العسكري والرقابة الصحفية. ذلك بأن الهضيبي الذي كان عليه رضوان الله دائم القول بأنَّ الدعوة لله يتكفل بنصرها دون حاجةٍ إلى عبادِه، كان ينادي بأنه لا يحل لمؤمن بالدعوةِ أن يدخر عنها جهدًا يستطيعه، أو مثلاً صالحًا يستطيع ضربه، مع الاطمئنانِ بعد ذلك إلى أنَّ نصرَ الله آتٍ لا محالةَ، ولو كانت هذه الجهود لا تبلغ قوة ريشة تتحرش بها عاصفة. وبهذا المنطق الصافي سارع بالرحلةِ إلى مصر إعذارًا إلى الله بضربِ المثل واستنفاد الطاقة، وصيانةً للدعوةِ من أن يُشاع أنَّ المرشدَ العام يهش لقيادتها في الرخاءِ ويترك جنودها دونه يصطلون بنارِها في المحنةِ والبأساء. الإفراج الصحي عنه وإباء استمراره بعد الشفاء: وفي عام 1957م على ما أذكر، قررت لجنة من خمسةِ أطباء مسيحيين فيما بلغني أن حالةَ الهضيبي تُنذر بالهلاك، وأنها لا تستطيع تحمل المسئوليةِ عن بقائه رهن الاعتقال، فصدر قرار بالإفراج الصحي عنه، نُقل على أثرِه إلى بيته؛ حيث توفَّرت له أسباب العلاج الذى أزاح الله به شبح الخطرِ عن حياةِ المرشد الصديق. بيد أنَّ الهضيبي الذي يعي تبعاتِ القيادة تجاه الجنود، ما لبث أن أخذه الحنين إلى إخوانه وأبنائه المسجونين، ولم تطب نفسه بأن يكون في نظرِ الطغاة ذلك الواهن الضعيف الذي يتلقف مثل هذه الفرصة لينعم بحياةِ الدعة متميزًا على إخوةٍ له في الجهاد، هو أولاهم بأوفرِ حظٍّ في البلاء!. لذلك ما كاد يتنسم أريج العافية حتى سارع بالكتابةِ إلى السلطاتِ يُبلغها أنه قد عُوفي بحمد الله من عارضِ المرض الذي أوجب الإفراج عنه، وأن باستطاعته العودة إلى السجن لقضاءِ باقي المدة المحكوم بها عليه!. أما والله لقد كان حسن الهضيبي على تواضعه وفراره من الأضواء- بقية السلف وواحد الزمن، والشاهد الناطق بمعنى الحديث النبوي الشريف: "الخير في وفي أمتي إلى يوم القيامة". |
ماذا قال المرشدون عن الهضيبي ؟ الأستاذ عمر التلمساني.. ذكريات مرشد عن مرشد سابق على مشارف الزمن رجال اصطفاهم ربهم، فأتاهم من فضله ما لم يؤتِ غيرَهم، ومِن البشر خلقٌ ينساهم الناس قبل أن يواروهم التراب، وثمة رجال هم والزمن صنوان من الخلود، لن ينساهم الناس أجمعون، ومن هؤلاء فضيلة مرشدنا السابق الأستاذ حسن إسماعيل الهضيبي رضي الله عنه وصلى عليه ﴿هُوَ الَّذِيْ يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ﴾ (الأحزاب: من الآية 43). زاول مهنة المحاماة حينًا، فكان مثال الشرف والصدق والأمانة والتحرز لدينه، واستأثر به القضاء، فكان المعلم المشرق في جنباته، معتزًّا بدينه وخلقه وكرامته، اختاروه مستشارًا وذهب إلى السراي الملكية ليحلف اليمين المعهودة، فكان أول مستشار يحلف اليمين ثم يخرج موليًا الملك ظهرَه، وكانت مفاجأة ما كان للملك ولا لرجاله عهدٌ بها من قبل، إذ كان الذي يؤدي اليمين يخرج متراجعًا حتى يصل إلى الباب، وكادت تحدث أزمةٌ لولا معرفة الجميع بصلابة الرجل واعتداده- بعد الله- بنفسه. ثم شاء الله أن ينتخبه الإخوان المسلمون مرشدًا لهم، فصادف الاختيار صاحبه، وملأ الرجل مكانته؛ لأنه كان إخوانيَّ النزعة منذ معرفته بالإمام الشهيد حسن البنا مرشد الإخوان المسلمين وكان يحضر بعض أحفالهم، وأذكر أنني كنت أتحدث في محفل إخواني، وكانت فاتحة كلامي أننا في أحفالنا هذه نطهِّر ألسنتنا من مهاجمة أحد أو النَّيل منه، واسترسلت في الكلام، وجرفني حماس الموقف، وبدرت مني عبارة رآها فضيلتُه ماسَّةً ببعض الناس، فأهاب بي من مكانه أن أفي بما بدأت به كلامي، فأكبرته لأنه أهدى إليَّ عيوبي.. فجزاه الله عن الحق خيرًا، وكان بقبوله لمركز المرشد شهادةً قضائيةً لحقيقة الإخوان المسلمين، وإلا لما قَبِل مكانَ الإرشادية، لو رأى في الإخوان أو في دعوتهم وأسلوبهم مأخذًا. ودعاه الملك فاروق في قصر عابدين دون أن يطلب هو المقابلة، فلما خرج سأله الصحفيون عن المقابلة، فكان الرد المهذَّب الصادق لمثل ذلك الموقف وفي تلك الملابسات قال رحمه الله ورضي عنه وأرضاه: "مقابلة كريمة لملك كريم" ولكل كلمة مدلولها ومؤداها، لم يقل تشرفت أو سعدت بالمثول بين يدي الملك الكريم، ولكن قال إنها مقابلة، وكلمة مقابلة وفي هذا المقام تدل على المجادلة، في اللقاء والمساواة بين الرجلين، وما كان ليقول غير ذلك، ووصفها بأنها مقابلة كريمة، لأنها تمت في جوٍّ من المحافظة على العزة والكرامة وليست ساميةً ولا ملكيةً ولكنها كريمةٌ؛ لأنه هو المدعو للقاء، وما كان لمُواطن أن يرفض مقابلة الحاكم إذا دعاه، لا إذا استدعاه، ووصف الملك بأنه كريم؛ لأن الحفاوة التي استقبله بها الملك، والمكانة التي أحلها إياه مستطلعًا ومستبشرًا.. لا تصدر إلا موصوفةً بهذا الوصف السليم، مهما كانت أخلاق الداعي في غير ذلك الموقف، فالوصف كان متسقًا تمام الاتساق مع ما يجب أن يقال في مثل ذاك المقام. حل عيد الأضحى مرةً وهو في أزمة مالية، حكَى لي حكايتها فقال:
وقال فضيلته:
وهكذا كان مرشدنا الراحل رضوان الله عليه في كل مناحي حياته الحافلة بشتى المشاعر والأحاسيس المحببة إلى القلوب، وكانت زوجه الفاضلة رحمها الله صورةً من هذه الصور الرائعة، فيوم أن أذاع المذياع نبأ الحكم بالإعدام على فضيلته من المحكمة العسكرية التي شكلها عبد الناصر، الذي رضي لنفسه أن يكون الخصم والحكم.. في تلك اللحظة صرخت الخادمة وولولت فنهرتها السيدة الكريمة قائلةً لها:
وجاءت المحن، واستبدل الإعدام بالسجن المؤبد، ودخل فضيلته السجن رغم تقدم سنه وحالته الصحية، كانت محنة في مظاهر منحة، وقديمًا قال علماء اللغة العربية: إن الكلمات المركبة من حروف واحدة كثيرًا ما تتفق في المعنى، فأنت إذا قلت نيل فهو النهر الذي يروي الأرض ويمدها بالنماء بإذن الله، وإذا قلت نَيْل فقد ضمنت الأماني ونلتها. وكان الله سبحانه وتعالى قد أعده لقيادة الإخوان المسلمين؛ لِما علمه فيه من حكمة وجلد واحتمال وصبر على المكاره؛ ليكون الأسوة المثلى لمن بايعوه على الوفاء والتضحية والسمع والطاعة في غير معصية. وكان فضيلته موضع الدهشة والإعجاب من كل من في السجن.. ضباط.. وأطباء.. ونزلاء.. الكل كان يعجب كيف يبتسم هذا الرجل في وجه تلك المحنة!! كيف كان ينام قرير العين من بعد صلاة العشاء حتى أوقات السحر ليتهجَّد، كيف كان يأكل العدس بالحصا.. أو الحصا بالعدس.. عدس محصو أم حصا معدَّس، وقُل هذا عن الفول المسوَّس أو السوس المفوَّل، وقل هذا عن اللحم الذى تأنف منه قطط السجن. كل هذا كان سهلاً هينًا، وما كان يطلب إلا رضاء الله، وأسأله تعالى أن يكون قد وهبه إياه، فقد كان من دعائه: يا صاحب الفضل أهِّلني لرضاك. كان صلب أسارير الوجه، لا تعرف أراضٍ هو أم غاضب، لا تستطيع أن تستشف دخيلته مما كان يبدو على أسارير وجهه، مَن لا يعرفه يظن أنه غاضبٌ وهو راض، ومن يعرفه يظنه راضيًا وهو غاضب، فهو متعالٍ عن المحنة، لم يضعف أمامها، ولم يُخف استعلاءَه عليها. كان يتعامل مع الجميع وكأنه مستوٍ على منصة القضاء بكل ما فيها من هيبة ووقار، ينزل الكل على احترامه، حتى إذا ما احتوته جوانب الزنزانة مع زملائه فيها نطق الرجل كأظرف ما يكون جناسًا في العبارات مع محدثيه، يسرِّي عنهم جميعًا وكأنه واحد من الجنود، وليس قائدَ الرايات والبنود، يروي لنا شذرات من المحاماة ومواقف القضاء، ومحاورات مع العامة ممن لا يعرفون حقيقته ومكانته، وكأنه واحدٌ منهم لا يفضلُهم بشيء، وهو الذكي الأريب اللماح. اتهمه عبد الناصر بالعِمالة في يناير 1954م، ثم أفرج عنه في مارس من السنة نفسها، وذهب إلى داره مهنئًا ومعتذرًا، وهكذا كان يُرغم الحقُّ المبطلين على النزول عند حكمه مهما كان منصبهم واستعانتهم بالقوة الزائفة الزائلة. لقد كان مجلس الثورة كله على وجه التقريب زوارًا له في داره، وكانوا جميعًا أشبه شيء بالتلامذة في حضرة أستاذ عظيم، كانوا مسلَّحين بقوتهم المادية، وكان مسلَّحًا بقوته الروحية المعنوية، وكان الله معه وكان خير الناصرين؛ لأن من ركن إلى الله فقد آوى إلى ركن شديد، حتى الذين عارضوه أيام قيادته للإخوان قبل المحنة، سارعوا إلى داره معتذرين معترفين بفضله وبُعد نظره.. لقد كان هو ورجل آخر ما يزال على قيد الحياة- الوحيدين اللذَين لم يتوقَّعا خيرًا من عبد الناصر من أوائل أيام الانقلاب، وأثبتت الأيام والأحداث أنهما كانا على حق دون غيرهما من الناس أجمعين. إن أكبر ما كان يستثير عبد الناصر أنه كان يخاطبه بغير الأسلوب الذي شوَّه مواقف عبد الناصر؛ نتيجةً للبطانة التي أوحت إليه أنه فريد عصره وأوانه، ولو أن الناس عرفوا أن الله قد خلقهم أعزةً أحرارًا لما استطاع الظالمون أن يبطشوا أو يتألَّهوا، ولكن الناس معادن، لا تظهر جواهر كيانهم إلا إذا صهرتها نيران المحن. ولما ضاق بعض الشباب بألوان العذاب، التي أوقعها بهم زبانية عبد الناصر تحت سمعه وبصره، وقدروا أن هذه الأفعال لا يرتكبها مسلم وحكموا بكفرهم لما حصل هذا، أباه عليهم، ولم يرضَه لدينهم، وأقنعهم بالحجة والدليل أن الحكم بالتكفير شيء غير يسير، ورجع البعض منهم وبقي البعض على ما هم عليه، ولو كان يعمل لنفسه ويرضى لهم صغار الانتقام لوافقهم على رأيهم، ولكنه كان فوق ذلك وأكبر. هذه بعض الذكريات التي جالت بالخاطر، وأنا أكتب عن شخصية من أكبر الشخصيات التي ظهرت على مسرح الأحداث التاريخية في القرن العشرين. إن الإحاطةَ بالرجل ومواقفه الباهرة وصبره العجيب ورجولته النادرة.. تستوعب صفحات مجلدات، ولكن من لي بعلم عالم، أو ذكاء كاتب، حتى أوفِّي هذه الشخصية الباهرة حقَّها من الإجلال والإكبار، وعلى كل فهو في غير حاجة إلى مديح أو ثناء، فحسبه ربه أولاً، وحسبه آثاره ومواقفه التي حفظت لدعوة الله استمرارها. لقد أديت ووفيت يا فضيلة المرشد ﴿إِنَّ اللهَ لا يُضِيْعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً﴾ (الكهف: من الآية 30). ........ الأستاذ حامد أبو النصر: حسن الهضيبي .. الإمام الأمين والمرشد الحارس ذهب الرسول الكريم إلى الرفيق الأعلى واستخلف خليفتَه أبا بكر الصديق رضي الله عنه وأرضاه في الجنة وقد واجه الصدِّيق أحداثًا ضخمةً، منها وأهمها امتناع بعض المسلمين عن دفع الزكاة والتي هي الركن الاقتصادي من أركان الإسلام، فشمَّر الخليفة العظيم عن ساعده في تعقب هؤلاء المرتدين. وقال:
وكان أن سار في مسيرة الصديق رضي الله عنه وضرب هؤلاء المتمردين ضربةً فاجعةً أعادت إليهم ومن على شاكلتهم صواب الإيمان وعظمة الإسلام. وهكذا يدور الزمان دورته، ويقلِّب الله الليل والنهار، ويغيب الإمام الشهيد حسن البنا عن ساحة العمل الإسلامي والحركة المباركة التي وضع بذورَها، ويترك لمن خلفه الشدائد والصعاب والدعايات الكاذبة للنَّيل من جماعة الإخوان المسلمين، فيختار الله بسابق علمه المرشد الرجل الحارس الشجاع الذي يبدد هذه الأقاويل ويضرب على يد الفتنة في مهدها، ويواجه عمالقة الظلم والطغيان في العصر الحديث. كل هذه الصعاب انبرى لها ذلك المستشار العظيم، قمة العدالة وشرف النزاهة، فبدَّد ما قيل وما يقال مما يشوه صفحة الإخوان المسلمين الناصعة والتي كانت مثلاً أعلى للحركة التي تبتغي من ورائها رفعة الإسلام والمسلمين. وكانت هذه الصورة طبق الأصل لصورة الرجل القانوني العادل الذي يعيش للعدل وللعدل فقط، وبدأت الصورة القاتمة التي صوَّرها الاستعمار وأعوانه تنقشع، وبدأ جمال الحق وجلاله يعود إلى النفوس، ولكنَّ القدر المحتوم والقضاء المبرم يُنبت في أرض الإخوان المسلمين نبتةً فاسدةً حملت لواء التمرد والعصيان كذبًا منها وافتراءً لتنال من عظمة هذا الرجل وهيبته، ولكن ذهبت أصواتهم أدراج الرياح وسقطت أوراق الخريف، ولم يبق إلا الصادقون، والذين كانوا مع الصادقين، منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً. استطاع المرشد الحازم أن يقضي على هذه النبتة بل ويسحقها، رغم ما أحدثت من دوي، ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ﴾ (الرعد: من الآية 17)، وكانت أقاويل، وكانت افتراءات، وكانت اتهامات، وأخيرًا لم يصح إلا الصحيح، وسارت الدعوة في رعاية الله محصنةً من الداخل ومن الخارج. ومن ثم جاء القضاء الذي لا مفرَّ منه، وقُضي الأمر الذي لا بد منه، وجاءت حركة الضباط في سنة 1952 وترعرعت شجرتهم، وشربت من ماء المستعمر، الذي يهمه في المقام الأول تحطيم كل الحركات التي تُعيد للمسلمين والعرب قدرتَهم ومكانتَهم وأمجادَهم، وكان كل ذلك يعبر عنه الإخوان المسلمين أصدقَ تعبير في أجلِّ صورةٍ وأكرم مظهرٍ، فاتجه هؤلاء الضباط اتجاهًا كاملاً بوحي من الاستعمارِ للقضاء على هذه الروح التي تُحييها مبادئ الإخوان المسلمين بل مبادئ الإسلام، ورسموا لذلك الخطط، مشتركين مع المستعمر لإطفاء نور الحق الذي تجلَّى في شجب الإخوان لبعض بنود المعاهدة الإنجليزية ومطالبتهم بإعادة الحياة البرلمانية تحكم البلاد في جوٍّ من الشورى والطمأنينة. فواجه المرشدُ الحارسُ الأمينُ على دعوة الله في هذا القرن الحديث والقائدُ الشجاعُ الذي يحرص على حرية الشعب المصري وحقوقه.. واجه الحديد والنار بغير ضعفٍ أو خذلان، ومن ورائه جماعته الحبيبة المخلصة، التي دفعت الثمن الغالي بسخاء، ونصب أعداء الشعب المشانق، وفتحوا غياهب السجون، ومارسوا الاعتداءات على الأرواح والأجساد، ففاقوا بذلك طغاة التعذيب وامتهان كرامة الإنسان على مدى التاريخ. وحمل المرشد الحارس الرايةَ في استعلاءٍ وقدرةٍ مستمَدةٍ من عظمة جبار السموات والأرض جل وعلا، ودخلت الجماعة وربانها نار إبراهيم فكانت بردًا وسلامًا، ووقع القدر ﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيْبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِيْ أَنْفُسِكُمْ إِلا فِيْ كِتَابٍ مِّن قَبْلَ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيْرٌ* لِكَيْلا تَأْسَوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ (الحديد: 22، 23). وعلى لهيب نار التعذيب نشأت داخل السجون عند أفراد قلائل فكرةٌ تصوِّر الحكام الذين حملوا لواء التعذيب والتنكيل والاعتداء على كرامة الإنسان، وكذلك المجتمع الذي يتقبل هؤلاء العتاة الطغاة دون أن يقاومهم أو يقومهم، تصورهم وتحكم عليهم بأحكام مختلفة متباينة لا تستند أصلاً إلى الأسس التي وضعها الإمام الشهيد حسن البنا لقيام جماعته على الكتاب والسنة والإجماع. وهنا انبرى الإمام الأمين والحارس الشجاع يواجه هذه الأفكار الدخيلة على جماعته ويصحِّح مسيرة الدعوة الإسلامية، وألَّف تحقيقه المعروف "دعاة لا قضاة" وبذلك تبدَّدت هذه المفاهيم وتحصنت الجماعة من الفكر الدخيل وأخذت السفينة تشقُّ عباب البحر وسط العواصف والأنواء في قوة، حتى رست على برِّ السلامة ومرفأ الأمان. وقُضي الأمر واستوت على الجودي وظهرت جماعة الإخوان مرةً أخرى تفتح الطريق للإسلام وتدعو الناس جميعًا إلى الحب والتعارف وإنكار الذات والتعاون الأكيد فيما يعود على البشرية بالسخاء والرخاء، مصداقًا لقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوْبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ﴾ (الحجرات: من الآية 13). وهكذا كانت حياة الإمام الأمين والمرشد الحارس حياةً هي الجهاد بعينه وهي النصر الأكيد، بفضل وقفاته الحازمة ونظراته الثاقبة، رحمه الله رحمةً واسعة. فكان ما كان وأصبحنا ملء السمع والبصر والفؤاد، نسأل الله أن يثبِّت الخُطا وأن يمنحَنا القدرةَ والقوةَ لاستقبال ما يأتي به القدَر، وهو على أي حال ﴿نَصْرٌ مِّنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيْبٌ﴾ (الصف: من الآية 13). مواقف وذكريات مع الإمام الهضيبي : يروي الأستاذ أبو النصر في السطور التالية بعضًا من الذكريات والمواقف التي عاشها مع فضيلة المرشد العام الأستاذ حسن الهضيبي، فيقول:
عندما عُرض عليَّ أمر اختيار الأستاذ الهضيبي توقفت قليلاً وقلت:
وقلت لعبد الناصر:
كان بعض الإخوان يطلبون منه أن يقول كذا أو أن يطلب كذا، لكنه كان يقول: "خلينا بعدين، نحن دخلنا السجن في سبيل الله، وعلينا أن نصبر ونتحمَّل كل ما نُصاب به في سبيل الله"، فكان مثلاً عاليًا لجميع الإخوان. المراجع:
|
مساجلة بين الإمامين الراحلين : البنا والهضيبي هذه مساجلة من طرائف المساجلات الفكرية، عقب فيها الأستاذ الهضيبي المستشار بمحكمة النقض على مقالة للإمام الشهيد حسن البنا، وردَّ عليه الإمام الشهيد موافقًا، ومبديًا إعجابه بفقه وثقافة المستشار الهضيبي وحسن فهمه للشريعة ومقاصدها، وتقديره لاهتمامه بهذا الموضوع الذي قلَّ مَن اهتم به من رجال القضاء في ذلك الوقت.. وهذا نص المساجلة: من حسن الهضيبي إلى حسن البنا: "حضرة صاحب الفضيلة المرشد العام الأخ الشيخ حسن البنا".. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، وبعد فقد قرأت اليوم 3 ديسمبر 1947 مقالكم الثاني:
كذا يحدثنا أن الشافعي- رضي الله عنه- وضع بالعراق مذهبه القديم، فلما تمصَّر وضع مذهبه الجديد نزولاً على حكم البيئة وتمشيًا مع مظاهر الحياة الجديدة من غير أن يخل ذلك بسلامةِ التطبيقِ على مقتضى القواعدِ الإسلاميةِ الكلية.. إلخ. وقد يتوهم متوهمٌ في هذه العبارة أن عمر والشافعي رضي الله عنهما أخضعا حكم الدين لأحكام الزمان، ومعاذ الله أن يكون الأمر كذلك، فإن أحداث الزمان يجب أن تخضع لكتاب الله وسنة رسوله، مهما تراءى للناس أن الدنيا لا تحتمل هذا الإخضاع، فالدين هو السنة التي وضعها الله للناس، كما وضع السنن الكونية الأخرى للشمس والقمر والحيوان والنبات، وكل ما في السماء وما في الأرض وما عليها. وفي ظني أن عمر لم يغيِّر فتواه نزولاً على حكم الحوادث، بل لأنه ازداد بصرًا بحكم الدين في المسألة، لذلك قال، ذاك على ما علمنا وهذا على ما نعلم، كما أظن من استقراء سابق لي بسبب تغير رأي الشافعي بين قديمه وحديثه أنه حين جاء إلى مصر سمع من رواة الحديث بمساجد الفسطاط ما لم يكن قد سمع بالعراق، فأقام عليه رأيه الجديد، وكان- رضي الله عنه- يقول إذا صحَّ الحديث عندي فهو رأيي. هذا ولا منازعةَ في أن على المسلمين أن يجتهدوا في استنباط أحكام لم تكن من قبل لحوادثَ لم تكن من قبل، بل لكل مجتهد أن يستنبط ما يهديه الله له من أحكام الدين لجميع الحوادث جديدها وقديمها، وهذه هي المرونة التي جعلها الله من خصائص الدين الإسلامي، ولله الحمد والمنة. فبودِّي أيها الأخ الكريم لو أعدتَ النظرَ في هذه الجملةِ بما يزيل الشبهةَ أو لعلي مخطئٌ وأنتم بذلك أعلم مني بلا ريب. ولقد كنت أود أن أفضيَ إليكم بهذا الحديث في زيارةٍ لولا أن انحرافَ صحتي في الأسبوع الماضي لا زال منه بعض الأثر، وأسأل الله تعالى أن يعينكم وأن يهديَ أمةَ محمد إلى العمل بكتاب الله وسنة رسوله. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته، من المخلص: حسن الهضيبي. تعقيب الإمام الشهيد حسن البنا: وعقَّب فضيلة الإمام الشهيد على فضيلة الأستاذ حسن الهضيبي بما يأتي بالعدد رقم 488 من جريدة الإخوان المسلمين الصادرة بتاريخ 4 ديسمبر 1947 فقال:
|
قصة الافتراءات على الإمام حسن الهضيبي تحقيق: أحمد رمضان عندما قررت حركة الضباط الأحرار القيام بالانقلابِ ضد نظام حكم الملك فاروق لم يكن لهؤلاء الضباط أي سندٍ شعبي أو جماهيري، وكان في ذلك الوقت قوتان تتنازعان الشارع المصري هما الإخوان المسلمون وحزب الوفد. ولما كان للإخوان المسلمين تنظيمٌ في الجيش يعرفه زملاؤهم كان الأقرب إلى الضباطِ التعاون مع الإخوان دون الوفد الذي كان مجرَّد التفكير في التعاون معه كارثة ساحقة ماحقة، وقد تمَّ الاتفاق على عددٍ من الشروط تعهَّد بها الثوار والتقت إرادة التغيير من الجانبين. وشارك ضباط الإخوان في الحركةِ ودعمت جماعة الإخوان التغيير وقامت بوضع ترتيبات الأمن والحراسة على المنشآت العامة والأجنبية، بالإضافة إلى الاستعدادِ للدفاع عن القاهرة ضد القوات الإنجليزية إذا ما قررت التحرك صوب القاهرة. وكان القدرُ في صفِّ التغيير لكن سرعان ما كشَّر الضباطُ عن أنيابهم وأسفروا عن وجههم الحقيقي وأصبحت مصر تحت حكم أحد عشر ملكًا مستبدًا بدلاً من ملكٍ واحدٍ؛ الأمر الذي أدى إلى ضرورةِ المكاشفة بين الشريكين الذين قاموا بالثورة. وهنا بدأ الخلاف يحتدم، وطالب المرشد العام للإخوان الضباط باستحقاقاتِ الوطن والوفاء بالعهود وتحول الخلاف إلى انتقام من جانبٍ واحدٍ هو جانب الثوار، وكانت الاتهامات والاعتقالات والسجون والتعذيب والإعدام والتشويه. وقد نال المرشد العام للإخوان النصيب الأوفر من كلِّ هذه الجرائم، فألقوا به في غياهبِ السجون وأصدروا ضده الحكم بالإعدام وعذبوا وشردوا إخوانه وأعدموا الكثيرين منهم، وقد استخدم إعلام السلطة كل ما أمكنه من وسائلَ لتشويه هذه الدعوة وقيادتها في هذه المرحلةِ والمتمثلة في شخص المرشد العام الأستاذ حسن الهضيبي، ولكن ما لبثت سحابة الظلم أن انقشعت وعاد الناس إلى الجهرِ بكلمة الحق، واليوم نحن نسأل أصحاب كلمة الحق أن يقولوا رأيهم في الإمام الهضيبي حول الافتراءاتِ التي وجهها إليه الظالمون. هجوم شرس : في البداية يقول المفكر الإسلامي الدكتور عبد الصبور شاهين الأستاذ بكلية دار العلوم-:
ويضيف:
ويرى الدكتور شاهين أن كتابه "دعاة لا قضاة" يعتبر خلاصةً لتجاربه المريرة التي مرَّ بها سواء في مجال القيادة أو في السجن؛ فهو من أنفس الكتب التي ترسم للحركة الإسلامية طريقَ دعوتها، ومن هنا يدعو الذين يخوضون في سيرة المستشار حسن الهضيبي أن يراجعوا الظروف التي تم فيها اختياره مرشدًا عامًا للإخوان بعد استشهاد الإمام البنا والصعوبات التي كانت تكتنف مهمته وكيف ضحَّى بحياته من أجل دعوته. |
قادة الحركة الإسلامية يرثون الإمام الهضيبي الإمام المودودي يكتب : في رثاء الإمام المرشد حسن الهضيبي كتب الإمام أبو الأعلى المودودي مؤسس الحركة الإسلامية في شبه القارة الهندية يقول: "من المصادفات التاريخية الرائعة أن الأيام التي بدأ فيها الأستاذ الشهيد حسن البنا رحمه الله بحركة البعث الإسلامي في مصر هي نفس الأيام, على وجه التقريب في القارة الهندية الباكستانية, وليس هناك فرقٌ بين عمْر الحركتين إلا يسيرًا جدًّا يكاد لا يتجاوز السنتين, أما العصر الذي واجهته الحركتان فهو متجانس تمامًا. ثم بقينا لا نعرف عن الإخوان شيئًا ولا يعرفون عنا شيئًا لسنوات عديدة، رغم وحدة الهدف ووحدة الطريق، وبعد أن مضى على هذا الوضع مدة من الزمن قرع أسماعَنا صوتٌ بليغٌ يأخذ بمجامع القلب وينفذ إلى سويدائه فالتفتنا إليه فإذا هو صوت الإمام الشهيد حسن البنا، ببيانه القوي، وأسلوبِه المشرق، وحلاوته الربانية، وإذا مصدره القاهرة التي كانت ترزح حينذاك تحت نير الحكم الملكي المستبد والاستعمار الإنجليزي الغاشم، وأدركنا أن هذا الرجل الملهم أنشا حركةً باسم (الإخوان المسلمين) التي تعمل لنفس الغايات والمبادئ التي تعمل لها الجماعة الإسلامية في القارة الهندية الباكستانية. كما أن الإخوان كذلك أدركوا بعد فترة من الزمن دعوة الجماعة الإسلامية وأهدافها وآمالها, ثم تلاقت الدعوتان, وتعارفت الأرواح وتجانست القلوب وتوثقت عرى الألفة والتعاون, وتوحَّدت الآمال ولا شيء يفصل بينهما إلى اليوم من ناحية الغاية والهدف, ومن حكمة الله البالغة وقدره المقدور أن نال مؤسسو حركة الإخوان المسلمين ومرشدها الأول حسن البنا الشهادة في سبيل الله. ثم جاء مرشدها الثاني وقام بواجبه أحسن القيام، وها قد لقي ربه أخيرًا, أما الذي أنشأ الحركة الإسلامية في القارة الهندية الباكستانية فهو باقٍ على قيد الحياة ليتحمَّلَ آلام فقدان زميليه الجليلين أسكنهما الله فسيح جناته، ونحن الآن في صددِ رثاء الشيخ الهضيبي, والعين تدمع والقلب يحزن، وإنا بك أيها الشيخ الهضيبي لمحزونون. وللأسف البالغ أن الذين يقدِّرون حركة الإخوان المسلمين وخدماتها حقَّ التقدير هم قليلون جدًّا في بلادنا؛ لأن الدعايةَ التي قامت بها القوى المعادية للإسلام ضلَّلت الكثير من الناس. ولكنَّ أولئك الذين عرفوا بهم جيدًا هم يعلمون علم اليقين أن العمل الإسلامي الذي تمَّ في الفترةِ الأخيرةِ في البلاد العربية بصفةٍ خاصةٍ وفي الدول الأخرى بصفةٍ عامةٍ، والجهود التي بذلت فيها لبعث الوعي الديني والخلقي لتبصير المسلمين عامتهم وخاصتهم بالإسلام الصحيح.. كل هذه كانت ثمرة جهاد الحركة الإسلامية التي أنشأها الأستاذ الشهيد حسن البنا ونمَّاها الأستاذ الهضيبي وعبد القادر عودة وسيد قطب رضي الله عنهم. أيها الإخوة الكرام.. لو قُدِّر لأحدكم أن يتجوَّلَ في العالم العربي لرأى بأم عينيه من الخليج إلى المحيط أن أي رجل يتحمَّس للإسلام ويعض عليه بنواجذه ويتمتع بالفهم الإسلامي العميق والغيرة على دين الله والسلوك الإسلامي الحميد فهو من الإخوان المسلمين، ينتمي إليهم، أو يتأثر بدعوتهم، أو على الأقل له صلة بهم. حتى في أمريكا وأوروبا، كل أولئك الذين تراهم مشبَّعين بروح الإسلام من الشباب العرب معظمهم من أتباع هذه الحركة, إلى أن صارت (الإخوانية) إن صحَّ التعبير رمزًا للإسلامية, فأيما رجل التقت فيه الثقافة الحديثة بالتدين اعتبره الناس بدون بذل الكثير من الفكر أخًا من الإخوان ملتزمًا أو منتسبًا أو متأثرًا أو مستفيدًا؛ ولهذا عندما أصيبت بعض البلاد العربية بداء اللادينية والقومية والأنظمة الأخرى المعادية للإسلام أصبح الأمر فيها أن كل شاب يتجه إلى الجامع ويصلي بانتظام لاحقته المباحث وطاردته!! ولقد كان فضل الله تعالى على البلدان العربية كبيرًا، إذ بدأت حركة الإخوان المسلمين في هذه المرحلةِ من التاريخ التي أخذت فيه البلدان العربية تُصاب بأدواء العلمانية والقومية والانحلال الخلقي ولا ندري ماذا سيكون أمر هذه البلدان بعد كل ذلك لو لم يقدر الله لحركة الإخوان أن تبرز إلى الوجود وتمسك بالموقف وتقف في وجه التيارات المدمرة لكل قيمة فكرية أو خلقية. وفي هذه المناسبة من الجدير بالإشارة إلى أنه قبل 25 أو 30 سنة عندما كانت حركة باكستان في قمة النشاط فإن جميع أولئك الذين كانوا مُتَعرِّين من الشعور الإسلامي أو المتحمِّسين للقومية والعلمانية في البلاد العربية كانوا من مؤيدي (المؤتمر الوطني الهندي) وزعيمه (المهاتما غاندي) الذي كان يحارب فكرة قيام باكستان، ففي هذه الدوَّامة العاتية من الأفكار الزائفة والدعوات المنحرفة كان الإخوان المسلمون هم الوحيدين في تأييد فكرة باكستان والدعوة إليها. بل هم لا يزالون يناصرون باكستان في الملمَّات ويدافعون عنها في كافة المجالات, لا نزال نذكر كلمة الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله في إحدى المؤتمرات الإسلامية: "باكستان لا تحتاج إلى تعيين سفرائها في البلاد العربية، فإننا معشرَ الإخوان نعتبر أنفسنا سفراء لباكستان الدولة التي قامت على الإسلام". ومع هذا فقد كان غريبًا أنه عندما تتابعت على الإخوان حلقاتٌ متصلةٌ من الاضطهاد والتنكيل لم نَرَ هنا إلا قلةً من الناس تعاطفت معهم وتألمت بآلامهم, وأغلب الناس قد تضلَّلوا بدعايةِ الأعداء من افتراءات ملفَّقةٍ واتِّهاماتٍ كاذبةٍ أُلصقت بهم, وعندما صبّت على الإخوان تلك الضربات القاسية التي اقشعرت منها الجلود وتندَّى منها جبين الإنسانية، حيث ذهبت ضحيتها خيرة قادتها وخيرة شبابهم لم يفقد هذا البلد (باكستان) من حبَّذ هذه الإجراءات, وبار المقيمون بها. وندعو الله تعالى بإخلاص وصدق أن يغمر الله تعالى الشيخ حسن الهضيبي بفضله وحنانه ويعلي درجاته في جناته ويجزل مثوبته لما قام به من تضحيات وخدمات، وينتقم بمحض عدله من الذين اضطهدوه واضطهدوا زملاءه طيلة عشرين سنة, ويكتب للإخوان أجرًا حسنًا لما صبروا واستقاموا وتحملوا من المصاعب ما لا يتصوره إنسان, وخدموا الحركة الإسلامية في غياهب السجن والمعتقلات. وندعو الله تعالى أن يُعلي درجات المجاهدين من الإخوان الذين قاتلوا اليهود في حرب فلسطين فاستبسلوا وقاموا ببطولات رائعة, فالذين نالوا الشهادة في هذه الحركة نسأل الله أن يتقبل شهادتهم, والذين جاهدوا وحققوا ما عاهدوا الله عليه أعطاهم خير ما يَجزي به عباده المجاهدين. نسألك اللهم أن ترفع درجاتِ الإمام حسن البنا في الملأ الأعلى وأن تجعلَه من المقرَّبين لك؛ لأنه هو المجاهد الذي أنشأ حركة الإخوان المسلمين وغيَّر مجرى حياة ألوف مؤلفة من الناس ونفخ في روعهم حب الجهاد والاستماتة في سبيل الله, وأنشأ منها جيلاً مؤمنًا صامدًا صابرًا لم يستطع العدو أن يميلَ به عن جادة الحق أو يمحوَ آثار الحركة الإسلامية، رغم ما صبَّ عليها من الظلم والعدوان والعذاب. اللهمَّ ربنا تقبَّل بفضلك وكرمك خدمات الذين شُنقوا في سبيلك، كالأستاذ عبد القادر عودة والشيخ محمد فرغلي والأستاذ يوسف طلعت وزملائهم وسيد قطب وزملائه عبد الفتاح إسماعيل ومحمد هواش، واكتب لهم ما كتب للشهداء الأبرار من أجر وعطاء، واجعلهم من الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.. وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا. ............. المجاهد عمر الأميري : الهضيبي "قضى نحبه" وجاء دور "من ينتظر" كتب الداعية الكبير المجاهد بهاء الدين الأميري من قيادات الحركة الإسلامية في سوريا يقول: "نشرت جريدة (الأهرام) القاهرية في زاوية صغيرة لا تلفت النظر من ركن الوفيات في عددها الصادر يوم السبت 16 من شوال 1393هـ خبرًا صغيرًا قد يكون جل الذين يطلعون على الجريدة, ولا سيما في أنحاء العالم العربي لم يلتفتوا إليه، وهذا هو الخبر بنصه:
وهكذا مرَّ الخبر دون أن تتحدَّثَ عنه الإذاعات وتكتبَ عنه كبريات الصحف والمجلات العناوين الضخمة في صفحاتها الأولى, ولولا الصدفة لما اطلعنا على هذا الخبر الصغير في ألفاظه الكبيرة جدًّا في معناه العظيم في موضوعه ومغزاه!! حسن الهضيبي هو المرشد العام للإخوان المسلمين الذي خلف الإمام الشهيد حسن البنا مؤسس الجماعة وأول مرشد عام لها, وقد وُلِد في مدينة عرب الصوالحة من أعمال القليوبية القريبة من القاهرة, من أسرة ذات دين ووجاهة, وكرم وشهامة. وقد بدأ دراسته في بلدته, ثم انتقل إلى القاهرة وفيها درس الحقوق, ونال إجازتها بتفوق, وعُيِّن قاضيًا؛ حيث ظل يرتقي في مناصبِ القضاء، وكان معروفًا بشدة النزاهة والتحرِّي في إحقاق الحق, محفوفًا بالتقدير والإكبار من زملائه ورؤسائه، حتى ارتقى إلى رتبة مستشار ممتاز, وهو المنصب الذي كان يشغله؛ حيث انتُخب وبويع مرشدًا عامًّا للإخوان المسلمين, واستمرَّ يشغل هذا المقام حتى انتقل إلى الرفيق الأعلى, رضي الله عنه وأرضاه. تاريخ دعوة الإخوان المسلمين- كبرى الجماعات الإسلامية خلال ربع القرن الأخير- تاريخٌ ضخمٌ كبيرٌ خطيرٌ، لا تستوعبه سطورٌ، ولا تفيه ولو جزءًا يسيرًا من حقِّه معالجة سريعة بمناسبة هذا الفقد الأليم, ولا بد للأقلامِ مع الأيامِ أن تنصف الحق وتسجل بتحرٍّ وصدق هذه الحقبة من تاريخ الدعوة الإسلامية, وجهادها المقدس، وإنا لنرسلها بهذه المناسبة إهابةً خاصةً ملحةً إلى كبار أبناء هذه الدعوة البررة إلى المبادرة بالقيام بهذا الواجب وإصدار موسوعة دعوة الإخوان المسلمين, يسهم فيها كل أعضاء الجماعة بما عنده من حقائق ووثائق. والذي نريد أن نسجله اليوم مع أصدق دعائنا إلى الله أن يجزي الراحل الغالي أحسن الجزاء عن جهاده الصادق وأن يعوض الأمة الإسلامية عنه خيرًا اعترافًا بالحق وشهادةً لا نبتغي بها إلا وجه الله, وتسجيل المواقف البطولية والإيمان الصابر المثابر والحكمة العاقلة العاملة, وحسن التدبير, والرضا والشكر لله جل جلاله في السرَّاء والضرَّاء والسلامة واللأواء, ممَّا هو من أخلاق رجال الله الصالحين والصديقين الصامدين, وإن كل ذلك كان يتحلَّى به المرشد الفقيد الأستاذ حسن الهضيبي أكرم الله مثواه. كان حسن الهضيبي رحمه الله مقدرًا مرموقًا, مستريحًا لعمله في القضاء, مستشارًا في أرقى مناصب الدولة, وكان سعيدًا بوئامه مع أسرته ونجابة أبنائه, والكفاية الكريمة في رزقه, وقد كان صديقًا حميمًا ومستشارًا ناصحًا حكيمًا للأستاذ الشهيد حسن البنا شخصيًّا دون أن تكون له سابق علاقة أو انتساب إلى جماعة الإخوان المسلمين.. وهي في عنفوان نفوذِها وتسابق كبار الناس على خطب ودِّها والاعتزاز بإعلانِ الانتماء إليها بشكل أو بآخر, بيدَ أن الأستاذ الهضيبي لبث في أجوائه الخاصة, مؤْثرًا أن يعملَ لِلَّهِ من خلال أسرتِه ووظيفتِه وبيئتِه وعزلتِه, ولما وقع اختيار الإخوان المسلمين عليه, وفاوضوه في قبول مقام الإرشاد العام, اعتذر بعدم معرفته السابقة بتشكيلات الجماعة وبما يعتقده في نفسه من عدم الجدارة وما هو في طبيعته من العزوف عن المواقع العامة والجماهيرية التي هي بالضرورة من مستلزمات قيادة الجماعة الإسلامية. ولما أصرَّ عليه كبار الإخوان وطالبوه بأن يقبلَ الاضطلاع بمهام هذا المقام لإلحاح الحاجة إليه, ولأداء حق الله فيه- مهما كلَّفه ذلك من تضحيات- استجاب لداعي الله وترك ما كان فيه من حياةٍ مطمئنةٍ مستقرةٍ لا عنَت فيها ولا إرهاق وقال: إني أعلم أنني أقدم على قيادة دعوة استُشهد قائدُها الأول قتلاً واغتيالاً؛ وعُذب أبناؤها وشُرِّدوا وأوذوا في سبيل الله, وإني على ما أعتقده في نفسي من عدم الجدارة بأن أخلف إمامًا مصلحًا مثل حسن البنا رحمه الله لأقدم وأنزل عند رغبة الإخوان أداءً لحقِّ الله جلِّ وعلا، لا أبتغي إلا وجهه, ولا أستعين إلا بقدرتِه وقوتِه. كانت قوى البغي والطغيان بمختلف أجنحتها من صهيونية واستعمار صليبي غربي وماركسي شرقي- قد أدركت أن دعوة الإخوان المسلمين هي الخطر الحقيقي الأكبر على بغيها وعدوانها؛ لأنها امتدادٌ من أصالةِ الإسلام على سُنن الراشدين والمصلحين، وأن فيها روحًا من سلفيةِ ابن تيمية وابن عبد الوهاب, فأجمعوا كيدَهم على محاربتها والقضاء عليها, وهكذا بدأ المرشد العام حسن الهضيبي حياته الجديدة في مكايدة لا تهدأ ومعاناة لا تنقطع. وقد امتُحنت الجماعة وهو على رأسها مرات, وسُجن وعُذب وحُكم عليه بالإعدام، ثم بعد ذلك بالأشغال الشاقة المؤبَّدة، وأُجبر على ممارستها فعلاً، وهو يسمع ويرى إعدام وتعذيب كبار أعوانه وإخوانه وأبنائه وأحبائه وقد رغب إليه أن يتهاون في حقِّ الدعوة أو يهادنَ وهو في ذروةِ المحنةِ فرفض بإباءٍ وصبرٍ في مضاء ومرض بالذبحة الصدرية فأُخرج للعلاج ثم أُعيد للاحتجاز!! ومرَّت فترة المحنة الأولى، فأُطلق سراحه وعاد إلى العمل الجادِّ والجهاد المتواصل الصادق, وجرت معه مفاوضات ليتراضى ويلين, فما زاده ذلك إلا ثباتًا في الحقِّ وإمعانًا في الجهاد، يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، لم يهُن، ولم يستكن، ولم يبدِّل تبديلاً. وكانت المحنة الثانية أشدَّ ضراوةً وأكفر عداوةً، وكان قد شاخ وأضرَّ به المرض ومشقة السعي في طريق محفوفة بالمعارك والمواثر، وحُكِم عليه من جديد وبالسجن وبالأشغال الشاقَّة وأُعدم وعُذِّب أعوانُه وإخوانُه بين سمعه وبصره، وهو هو كالطَّود الذي لا يتزعزع, واشتد عليه المرض فطُلب إليه إطلاق سراحه استثناءً, فأبى وطلب أن يعمَّ الإنصاف سائِرَ المعذَّبين والمعتقلين من أبناء الجماعة المؤمنة الصابرة. ودار الدهر دورتَه وأخذَ الله من قضى عدلُه أن يأخذَهم أخذَ عزيزٍ مقتدر, وأُطلق سراح الهضيبي وجماعته فوجًا بعد فوج, وكان إعدام العلماء الأعلام والمجاهدين الصادقين أمثال عبد القادر عودة, ومحمد فرغلي, وسيد قطب, وما لقيه الإخوان من اضطهاد وتعذيب وما كان بهم من صبر واحتساب وصمود أكبرَ عاملٍ على نَشْرِ الدعوة وتعلُّق الشعب المصري بأهداب الإسلام. وإقباله على الله ومطالبته لحكامه أن ينطلقوا به من قواعد دينه وإيمانه، وساعد على ذلك ما وجده الناس في الإخوان وقادتهم من أسوة حسنة, وما وقع في الأمة الإسلامية وبمصر من نكباتٍ في ظلِّ الحكم الذي حجز الإسلام عن المعركة؛ حيث كانت النكبات ليس فقط في فلسطين بل في كل دنيا العروبة والإسلام يوم استبعد الإسلام من الميدان ولم يتمكن جنودُه المؤمنون من خوض المعركة. وفي عام 1392هـ كتب الله لحسن الهضيبي أن يعدَّ بالحجِّ والتقى بمحبيه ومكبريه في رحاب المشاعر المقدسة، وقد أنهكته الشيخوخة وترك العذاب والمرض في جسمه أقوى الآثار وأصبح مجرد فكر وقَّاد, وروح مشرق، ومثل حي للمجاهد المؤمن الأبي. وكان يُحمل حملاً إلى مجالس محبيه ومريديه، فنعموا منه بالتحيةِ المباركةِ والكلمةِ الطيبةِ والدعاء الصالح، وعاد إلى مصر من حجه المبرور يربِض في عرينِه كالأسدِ الهصور، لم تفارقْه البسمةُ، ولا خَبَت إشراقاتُ روحه وفكره ساعة, وكانت معركة رمضان المبارك، وأكرمه الله أن يسمَعَها تخاض بجند الله وفي سبيل الله, ونشيدها وترديدها: العزة لله, والله أكبر ولله الحمد. وفي يوم الجمعة وبدر شوال في كبد السماء يصل بنوره بين رءوس الشهداء ومنازل الأنبياء فاض الروح الطهور, وانطلق حسن الهضيبي إلى الرفيق الأعلى يُهلل له ويتلقَّاه في أعلى عليين شهداء المسلمين في الفردوس الأعلى في مقعد صدقٍ عند مليك مقتدر. وفي الأرض يأبى حسن الهضيبي أن يُقام بمناسبة وفاتِه أي عزاء إلا تشييع الجنازة وفق السنة الشرعية ويجري العمل بوصيته، ونحن على يقين أنه لو فسح المجال وخلِّي بين أبناءِ هذا الجيلِ من المؤمِنِين الصادقين وما يريدون لما تخلَّف منهم واحدٌ عن أن يشيعَ هذا الجثمان الغالي, ولكن هكذا كانت رغبة الفقيد, وهكذا تمَّ الأمر ووصل إلينا النبأ صدفةً عن طريق إعلان صغير في ركن الوفيات من جريدة (الأهرام). إنها أخلاق الأئمة الشهداء والصالحين، ففي كنف الله ورحمته ورضوانه أيها الأخ الكبير الحبيب والمجاهد الجليل العظيم, وفي حِمى الله وتسديده وتأييدِه دعوة الإسلام، وعزاء يا رجال الدعوة ومضاء مضاء، ندفع بالتي هي أحسن، وندعو إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة. لا يلتوي بنا درب ولا يعوقنا خطبٌ إلى أن نلقى اللَّهَ على الإيمان والإحسان وهو عنا راضٍ، وعزاء يا إخواني أبناء الفقيد وأسرته, وإننا جميعًا لأبناؤه وأسرته, ووداعًا أبا إسماعيل إلى أن نلتقي على وعد الله وعهده، وإنا لله وإنا إليه راجعون. .......... الشيخ عبد الفتاح أبو غدة: المصاب العظيم برجل الدعوة والجهاد حسن الهضيبي وكتب العالم الجليل محدث الشام الشيخ عبد الفتاح أبو غدة يقول: "لقد هزَّ نبأ وفاة والدنا الأستاذ المرشد الغالي قلوب المؤمنين, فقد آثره الله إلى جوارِه الكريم, ورحل عن هذه الدار, بعد أن ترك فيها أجلَّ الآثار بجهادِه وجلادِه المشهودِ له به, وعزَّ المصاب بفقده على كلِّ نفس مؤمنةٍ في ديار الإسلام, وكانت خسارة المسلمين برحيله جسيمةً, فقد نذر حياته للذَّود عن الإسلام, صدقًا في القول, وإخلاصًا في العمل, وتربيةً للمؤمنين, وإعدادًا للمجاهدين, ورعايةً لشباب الجيل في رحاب الإيمان. ولقد علَّم الأجيال عزيمة الأبطال وثبات الرجال, وكانت حياته صورة دعوية؛ إيمانًا وصبرًا, ورعاية للحق وجهرًا به وثباتًا عليه, دون مهادنةٍ أو مساومة, مع التعذيب الشديد, والأذى العاتي الذي ناله بسبب صلابته في الحق, وثباته عليه في وجه الظلم والظالمين, ومع شيخوخته في السن وأمراضه التي لحقته- من جرَّاء التعذيب والإيذاء- وصاحبته طوال المحنة القاسية. فلله تلك النفس المؤمنة, الصابرة المحتسبة, المسلمة المجاهدة, المؤثرة لما عند الله, الطالبة لثواب الله ورضوانه, بالصبر على ما تلقَّاه من تعذيب الطغاة والظالمين, التي لقيت ألوان العذاب في سبيل الله, وما انحرفت ولا ضعفت ولا استكانت لغير الحق, حتى لقيت وجه ربها راضيةً مرضيةً إن شاء الله. ولقد أكرمني الله تعالى وعددًا وافرًا من أبنائه ومحبيه- الذين ربَّاهم ورعاهم- بلقائه في رحاب بيت الله الحرام, في حج العام الفائت, بعد غياب طويل, ولهفة وحنين, وسعدت القلوب بلقياه, واطمأنت النفوس بمَرآه, وشهدت العيون بالنظر إليه- بعد صبره وجلاده, وصدور الحكم عليه من الظالمين بالإعدام, وإبقاء الله له بعد زوال رأس الطغيان والطغاة- شهدت رجل الصبر والقوة والبسالة النادرة العظيمة, الذي إذا جدَّ الوغى كان أخطب الخطباء بعزيمته وتضحيته وجهاده وإقدامه. ثم شاء الله أن يكون لقاؤنا به لقاء الوداع, فلا رادَّ لمشيئة الله, وقد رضينا بما قدر الله وقضاه, وإننا- بعون الله سبحانه على العهد ثابتون, وعلى نهجه سائرون, حتى نلحقَ به ويجمعنا معه اللقاء الذي لا فراق بعده, في كنف رحمة الله وفضله إن شاء الله, مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا. رحم الله فقيدنا الكبير, وأكرم مثواه, وجعل الجنة مأواه, وأعلى مقامه في منازل الأبرار والأخيار, وجزاه عن جهاده أكرم الجزاء والإحسان, وعوَّض المسلمين عنه خير خلف, وألهم أبناءه وإخوانه جميل الصبر, وحسن العزاء, وإنا لله وإنا إليه راجعون. ............. الداعية المجاهد محمد الراشد: الهضيبي.. معلم الصمت الشامخ وكتب الداعية المجاهد محمد أحمد الراشد من قيادات الحركة الإسلامية في العراق يقول: "يخطئ زعماء الأحزاب السياسية العرفية, وقادة الأفكار الأرضية, والحاكمون أجساد الناس بقوانين الجاهلية خطأً عظيمًا حين تقديرهم مدى النجاح الذي يحققونه، يفهمون أن تسلطَهم وقمعَهم للمخالفين يصفانهم بالنجاح التاريخي ويؤهلانهم لاستمرار وتأثير. وليس أمرهم كما فهموا أو زعموا, فإن مبلغ زعاماتهم وفكرهم وحكمهم لا يتعدَّى نهاية غلبتهم وبداية سطوة منافس لهم من أنفسهم جديد, تذروهم ريح الأيام, ويظل قادة دعوة الإسلام أقوى منهم دومًا، فإن الناجحَ من ملك العصر, وحكم القلوب، وكانت له النهايات.. قد يكون القائد المسلم سجينًا, ممنوعًا بضيق الجدران وأثقال الحديد عن الحركة، لكن روحه التي بين جنبيه تظل أوسع من عوالم سجانه. وقد لا يؤثر عنه حرف مقابل كل خطبة يخدع بها الطاغية أتباعه, لكنَّ صمته يظل أقوى من بلاغة الباطل إنه الصمت عن حروف اللين, يهب القائد المسلم قوته.. ويومها في زمن التابعين فخر المحدث الفقيه إبراهيم التميمي بمنقبة الربيع بن خيثم فرواها للأجيال وقال: "أخبرني من صحب الربيع بن خيثم عشرين عامًا ما سمع منه كلمةً تُعاب".. يفخر أن صان الربيع لسانه عشرين عامًا من أعوام العافية والرخاء. واليوم نفخر نحن دعاةَ الإسلام بمنقبة الهضيبي, ونرويها للأجيال: أن قائدنا خبرناه عشرين عامًا, من أعوام المحنة والسجن, ما سمعنا منه كلمة من اللين, أو حرفًا يعاب. وهذا هو الصمت الصعب لا صمت الزهاد, كانت حاجة المعركة إلى قائد يعلِّم الدعاة الصمت الشامخ والاستعلاء على كلمة العيب, ولم تكن الحاجة إلى قائد خطيب وكاتب. كانت الحاجة إلى الرجل الكامل, فالكتب إنما هي صواب أو خطأ ينتهي إلى العقل, ولكنَّ الرجل الكامل صواب ينتهي إلى الروح, وهو في تأثيره على الناس أقوى من العلم، إذ هو تفسير الحقائق في العمل الواقع. وكان الهضيبي رحمه الله ذلك الكامل, كان صوابًا خُتم له بموقف ثبات، صواب سيظل ينتهي إلى أرواح دعاة الإسلام في كل مكان وكل جيل يمدها بالتثبيت. ولم يكتب الهضيبي إلا كلمات, لكنه أقوى من العلم وكتابات الكتاب في التأثير, بما خلف من مواقف صلابة تفسر حقائق المعركة الإسلامية مع صور الجاهلية الحديثة.. كان كمالاً لم تنقص منه أنصاف الحلول، فأصَّل وحَفِظ للدعوة معسكرها المستقل, وأبى كل محاولة للتقريب. وأدرك أنه الوادي السحيق يقوم بيننا وبينهم, ذلك الوادي الذي يجب أن تشير إليه خوارط الدعاة, وتبيَّن عمقه واستحالة نصب الجسور بين جانبيه, الوادي الذي رآه بديع الزمان النورسي وصفه في مثانيه العربية, يبيِّن من خلال صفة فقه ثبات أمثال الهضيبي من القادة على المفاضلة المستعلية. نداءٌ عربي ينبعث من جبال تركيا خاطب محذرًا:
يدعوهم بالمدنيين, هؤلاء أهل الجاهلية جريًا مع الاصطلاح القديم في نظرية في المفاصلة واضحة, أيام اشتداد جبروت أتاتورك.. ويرى التقرب والتسامح خطوةَ التحاقٍ بالكفر لا محالة, ولذلك لما كان ذاك الوادي الذي في غاية العمق حقيقةً وجب أن يكون مَن يشرف عليه جبلاً في غاية الشموخ, كجسد العمق. القلب الجبل الذي لا يزيله شيء أول القلوب التي وصفها السري السقطي, فإنه رأى أن القلوب ثلاثة: قلب مثل الجبل لا يزيله شيء, وقلب مثل النخلة, أصلها ثابت والريح تميلها, وقلب كالريشة, يميل مع الريح يمينًا وشمالاً.. فكان قلب الهضيبي تلك الهضبة وذاك الجبل, لم يزلْه عن جوهرِ الدعوةِ الذي عرفت به تهديدٌ أو حبالٌ تُلف مرةً بعد مرةً حول أعناق الذين معه, ولم تمِلْ به ريحُ إغراء أو تقذفه اليمين والشمال. وقد يربأ البعض بأنفسهم عن ميل غير منتظم كميل الريشة حين تطير بها الريح في الفلاة وتقعد, ويرون الفضيحة في ذلك الصعود والهبوط الذي لا تضبطه الموازين, فيفلسفون لأنفسهم صعودًا وهبوطًا تنظمها مقاييس الهندسة في منظر جميل من الدوران, مبررًا مقننًا, لكنه يبقى دورانًا ليس بثبات. ولذلك أباه الهضيبي أيضًا, واختار لنفسه المحلَّ الواحدَ الثابت, وكان المركز لم يشأ أن يتناقلَه صداع الأهواء والأماني والرخص, ولا أن يصيبه دوار الدوران. ينفذ وصية صاحبه عبد الوهاب عزام في مثانيه:
فلزم القطب الثابت, والضعفاء من حوله يدورون، والتزم القطب الكاتب والبعض لدقيق حروفه لا يفهمون، ثم أتم ثباته في القطب بإغماض الجفن، فإن المكوث في المركز غير كافٍ للوقاية من الصداع ومجرد النظر ورؤية الدوران تدير الرأس أيضًا وتأتي بالدوار. فثالثة كانت المثاني تناديه, كان القدر ناسبًا بين المرشد القائد الثاني ونصائح مختلف المثاني, لكنها المثاني الفارسية هذه المرة: أن يدعَ الحرص ويقنع ويزهد, ويغمضَ جفنه عن عرض الدنيا ومتاعها؛ فإن الصدف لا يحفل باللؤلؤ الثمين ما لم يغتمض. ولقد لبَّى الهضيبي رحمه الله, وأغمض جفنه في بدايته عن الزوائل, وزهد حقَّ الزهد, وخاف الله ولم يخف طاغيةً, فغمض جفنه في نهايته على ثبات ومفاصلة وكلمة صلبة عالية، وبقي على من يخلفه في القيادة أن يواصل هذا الثبات المغتمض الصامت، في شموخ أمام وادي المفاصلة العميق، وأن يردد مع سيد: أخي ستبيد جيوش الوحك أشواقها ويشرق في الكون فجر جديد ترى الفجر يرمقنا من بعيدفذلك الذي أكده هرقل لأبي سفيان حين قال: "سألتك: كيف كان قتالكم إياه؟ فزعمت أن الحرب سجال ودول, كذلك الرسل, تبتلى, ثم يكون لهم العاقبة".. وكذلك أيضًا أتباع الرسل في كل قرن أيضًا, يبتلون, ثم تكون لهم العاقبة.. بل هو الابتلاء طريق التمكين, كما قرَّر الشافعي لما سُئل: "أيهما أفضل للرجل: أن يمكَّن أو يبتلى؟" كأنَّ دعوة الإسلام وصلت يومًا ما بلا تمحيص وتدريب وراء القضبان وتحت المشانق, وفوق أمشاط الحديد، فقال الشافعي: "لا يمكَّن حتى يبتلى". حتمًا مفروضًا.. قد يطول هذا الابتلاء وسير الظلماء أو يقصر كيفما شاءت حكمة الله, لكنَّ المهمَّ أن يقوم في هذا الطريق مؤذن بعد مؤذن, يهدون الناس ممشاهم.
أبصر الركب للمنازل نارا
ولقد رفع الإمام حسن البنا رحمه الله صوتَه عاليًا بأذان أيقظ النيام, وخلفه الأستاذ الهضيبي رحمه الله فوفَّى وصدع بأذان ثانٍ أزال عن القلوب وحشة الطريق، وكأنه لمثل هذا اليوم كان نداء داعية اليمن القاضي محمد محمود الزبيري رحمه الله قتيل طريق الابتلاء هذا- يريد أذانا ثالثًا:
ورنت من نوافذ الزمن الـ
فلقد أخذ الهضيبي مكانَه بجدارة في هذا التاريخ الضخم المشرف، وإن العيون لتتطلع إلى هذه الدعوة الرائدة المباركة اليوم، بعد نصف قرن من مولدها: هل فيها من يعيد تاريخ قادتها؟! ذلك المأمول إن شاء الله وبعونه، فإنها دعوة معطاءة وهبت رجالها لفلسطين وللقنال ولمعركة الحرية في مصر، وأيسر من ذلك أن تهب ثالثةً رجلاً للصمت الشامخ يفتح الله على يديه. |
آثار الأستاذ "حسن الهضيبي"
- دعاة لا قضاة.
- إن هذا القرآن.
- الإسلام والداعية "مجموعة كتابات جمعها أسعد سيد أحمد"
المراجع
- "الموسوعة الحركية" لمؤسسة البحوث والمشاريع الإسلامية بإشراف الأستاذ/ فتحي يكن.
- مجلة الشهاب. العدد "13"
- آفاق عربية "مقال الأستاذ محمد عبدالله الخطيب".
ألبوم صور
حسن الهضيبي
صورة-للشهيد-عبد-القادر-عودة-مع-الإمام-الهضيبي-وعبد-الناصر-وبعض-قيادات-مجلس-قيادة-الثورة-
للمزيد عن المستشار حسن الهضيبي
→ سبقه حسن البنا |
مرشدو جماعة الإخوان المسلمين |
خلفه ← عمر التلمساني |