حسن البنا الرجل القرآني
تأليف : روبير جاكسون
ترجمه : أنور وجدي
ثمانون عاماً علي نشأة الجماعة ( 1928 – 2008 )
في فبراير سنة 1946 ، كنت في زيارة للقاهرة .. وقد رأيت أن أقابل الرجل الذي يتبعه نصف مليون شخص ، وكتب في التيويورك كرونيكل بالنص :
زرت هذا الأسبوع رجلا قد يصبح من أبرز الرجال في التاريخ المعاصر ، وقد يختفي اسمه إذا كانت الحوادث أكبر منه ذلك هو الشيخ حسن البنا زعيم الإخوان ) .
هذا ما كتبته منذ خمس سنوات ، وقد صدقتني الأحداث فيما ذهبت إليه ، فقد ذهب الرجل مبكراً .. وكان أمل الشرق في صراعه مع المستعمر ، وأنا أفهم يطمح إلي مصلح يضم صفوفه ويرد له كيانه ، غير أنه في اليوم الذي بات فيه مثل هذا الأمل قاب قوسين أو أدني انتهت حياة الرجل علي وضع غير مألوف .. وبطريقة شاذة ..
هكذا الشرق لا يستطيع أن يحتفظ طويلا بالكنز الذي يقع في يده . لقد لفت هذا الرجل نظري بصورته الفذة عندما كنت أزور القاهرة بعد أن التقيت بطائفة من الزعماء المصريين ورؤساء الأحزاب . خلاب المظهر . دقيق العبارة . بالرغم من أنه لا يعرف لغة أجنبية .
لقد حاول أتباعه الذين كانوا يترجمون بيني وبينه أن يصوروا لي أهداف هذه الدعوة وأفاضوا في الحديث علي صورة لم تقنعني ، وظل الرجل صامتا . حتى إذا بدت له الحيرة في وجهي قال لهم قولوا له : هل قرأت عن محمد ؟ قلت : نعم . قال : هل عرفت ما دعا إليه وصنعه ؟ قلت : نعم . قال هذا هو ما نريده . وكان في هذه الكلمات القليلة ما أغناني عن الكثير . لفت نظري إلي هذا الرجل سمته البسيط ، ومظهر العادي وثقته التي لا حد لها بنفسه ، وإيمانه العجيب بفكرته . كنت أتوقع أن يجيء اليوم الذي يسيطر فيه هذا الرجل علي الزعامة الشعبية لا في مصر وحدها ، بل في الشرق كله .
وسافرت من مصر بعد أن حصلت علي تقارير وافية عن الرجل وتاريخه ، وأهدافه وحياته ، وقارنت بينه وبين محمد عبده وجمال الأفغاني ، والمهدي والسنوسي ، ومحمد بن عبد الوهاب . فوصل بي البحث إلي أنه قد أفاد من تجارب هؤلاء جميعا وتفادي ما وقعوا فيه من أخطاء . ومن أمثلة ذلك أنه جمع بين وسيلتين متعارضتين جري علي إحداهما الأفغاني وارتضي الأخرى محمد عبده . كان الأفغاني يري الإصلاح عن طريق الحكم ، ويراه محمد عبده عن طريق التربية .. وقد استطاع حسن البنا أن يدمج الوسيلتين ، ووصل إلي ما لم يصلا إليه ، لقد جمع صفوة المثقفين من الطبقات والثقافات المختلفة إلي مذهب موحد وهدف موحد .
ثم أخذت أتتبع خطواته بعد أن عدت إلي أمريكا وأنا مشغول به ، حتى أثير حوله غبار الشبهات حينا مما انتهي إلي اعتقال أنصاره .. وهي مرحلة كان من الضروري أن يمر بها أتباعه ثم استشهاده قبل أن يتم رسالته . وبالرغم من أنني كنت اسمع في القاهرة أن الرجل لم يعمل شيئا حتى الآن وإنه لم يزد علي جمع مجموعات ضخمة من الشباب حوله ، غير أن حركة فلسطين ومعركة التحرير في القناة قد أثبتتا بوضوح أن الرجل صنع بطولات خارقة .. قل أن تجد مثلها إلا في تاريخ العهد الأول للدعوة الإسلامية . . كل ما أستطيع أن أقوله أن الرجل أفلت من غوائل المرأة والمال والجاه وهي المغريات التي سلطها المستعمر علي المجاهدين ، وقد فشلت كل المحاولات التي بذلت في سبيل إغرائه .. وقد أعانه علي ذلك صوفيته الصادقة وزهده الطبيعي . لقد تزوج مبكرا وعاش فقيرا وجعل جاهه في ثقة أولئك الذين التقوا حوله ، ومضي حياته القصيرة العريضة مجانبا لميادين الشهرة الكاذبة ، وأسباب الترف الرخيص .
وكان يترقب الأحداث في صبر ويلقاها في هدوء ، ويتعرض لها في اطمئنان ويواجهها في جرأة . لقد شاءت الأقدار أن يرتبط تاريخ ولادته وتاريخ وفاته بحادثين من أضخم الأحداث في الشرق فقد ولد عام 1906 وهو عام دنشواي . ومات عام 1949 ، وهو عام إسرائيل التي قامت شكليا سنة 1948 وواقعيا سنة 1949 .
وكان الرجل عجيبا في معاملة خصومه ، ولا يصارعهم بقدر ما يحاول إقناعهم وكسبهم إلي صفه ، وكان يري أن الصراع بين هيئتين لا يأتي بالنتائج المرجوة .
وكان يؤمن بالخصومة الفكرية ولا يحولها إلي خصومة شخصية ولكنه مع ذلك لم يسلم من إيذاء معاصريه ومنافسيه ، فقد أعلنت عليه الأحزاب حربا عنيفة .. الرجل يقتفي خطوات عمر وعلي ويصارع في مثل بيئة الحسين فمات مثلهم شهيدا .
لقد سمعت الكثير من خصومه ، وكان هذا طبيعيا بل كان من الضروري أن يختلف الناس في رجل استطاع أن يجمع حوله هذا الحشد الضخم من الناس بسحر حديثه وجمال منطقه ، وقد انصرف هؤلاء من حول الأحزاب ، والجماعات والفرق الصوفية والمقاهي ودور اللهو . وكان لابد أن يصبح هذا مثار حقد بعض الناس الذين أدهشهم أن يستطيع هذا الرجل المتجرد الفقير أن يجمع إليه مثل هذا الشباب . ومن الأمور التي لفتت نظري أنه أخذ من عمر خصلة من أبرز خصاله ، تلك هي إبعاد الأهل عن مغانم الدعوة ، فقد ظل عبد الرحمن ومحمد عبد الباسط ، وهم إخوته ، بعيدين عن كبريات المناصب ، ولطالما كان يحاسبهم ، كما كان عمر يحاسب أهله ويضاعف لهم العقوبة إذا قصروا . وقد أتيح لي أن ألتقي بوالده الوقور ، الشيخ عبد الرحمن البنا ، وسمعته يتحدث مع بعض الإخوان ، إنه كان يتمني لو أن ابنه وضع الكتب في أمر الإسلام واكتفي بذلك ، وقد رد عليه الأستاذ بأنه منشرح الصدر لمعالجة الإسلام عن طريق تآلف الرجال . ثم يتحدث جاكسون عن نشأة حسن البنا وأفكاره فيقول :
... في الأزقة الضيقة في أحشاء القاهرة ، في حارة الروم ، وسوق السلاح وعطفة نافع ، وحارة الشماشرجى .. بدأ الرجل يعمل وتجمع حوله نفر قليل ، وكان حسن البنا الداعية الأول في الشرق الذي قدم للناس برنامجا مدروسا كاملا . لم يفعل ذلك أحد قبله ، ولم يفعله جمال الدين ولا محمد عبده ، ولم يفعله زعماء الأحزاب والجماعات الذين لمعت أسماؤهم بعد الحرب العالمية الأولي ...
.. وأستطيع بناء علي دراساتي الواسعة أن أقول : إن حياة الرجل وتصرفاته كانت تطبيقا للمبادئ التي نادي بها ، وقد منحه (الإسلام) كما كان يفهمه ويدعو إليه ، حلة متألقة ، قوية الأثر في النفوس ، لم تتح لزعماء السياسة ولا لرجال الدين ! لم يكن من الذين يشترون النجاح بثمن بخس ، ولم يجعل الواسطة مبررة للغاية ، كما يفعل رجال السياسة ، ولذلك كان طريقه مليئاً بالأشواك ، وكانت آية متاعبة أنه يعمل في مجري تراكمت فيه الجنادل والصخور ، وكان هذا مما يدعوه إلي أن يدفع أتباعه إلي التسامي ويدفعهم إلي التغلب علي مغريات عصرهم والاستعلاء علي الشهوات التي ترتطم بسفن النجاة فتحول دون الوصول إلي البر . كان يريد أن يصل إلي الحل الأمثل ، مهما طال طريقه ، ولذلك رفض المساومة ، وألغي من برنامجه أنصاف الحلول ، وداوم في إلحاح القول بأنه لا تجزئة في الحق المقدس في الحرية والوطنية والسيادة .. وكان هذا مما سبب له التعب والأذى .
وراعت بعض من حوله الثمرة ، وعجزت أعصابهم عن أن تقاوم البريق ، فسقطوا في منتصف الطريق .. كان يؤمن بالواقعية ويفهم الأشياء علي حقيقتها ، مجرد من الأوهام ، وكان يبدو – حين تلقاه – هادئا غاية الهدوء ، وفي قلبه مرجل يغلي ، ولهيب يضطرم فقد كان الرجل غيورا علي الوطن الإسلامي ، يحترق كلما سمع بأن جزءا منه قد أصابه سوء أو ألم به أذي ، ولكنه لم يكن يصرف غضبته . كبعض الزعماء . وفي مصارف الكلام أو الضجيج أو الصياح ، ولا ينفس عن نفسه بالأوهام وإنما يوجه هذه الطاقة القوية إلي العمل والإنشاء والاستعداد لليوم الذي يمكن أن تتحقق فيه آمال الشعوب . وكان عقله مرونة ، وفي تفكيره تحرر ، وفي روحه إشراق ، وفي أعماقه إيمان قوي جارف . وكان متواضعاً تواضع من يعرف قدره ، متفائلا ، عف اللسان عف القلم ، يجل نفسه عن أن يجري مجري أصحاب الالسنة الحداد .
كان مذهبه السياسي أن يرد مادة الأخلاق إلي صميم السياسة بعد نزعت منها وبعد أن قيل : إن السياسة والأخلاق لا يجتمعان . وكان يريد أن يكذب قول تاليران : ( إن اللغة لا تستخدم إلا لإخفاء آرائنا الحقيقة ) فقد كان ينكر أن يضلل السياسي سامعيه أو أتباعه ، أو أمته . وكان يعمل علي أن يسمو بالجماهير ، ورجل الشارع ، فوق خداع السياسة ، وتضليل رجال الأحزاب . وكان يوم الثلاثاء .. يوما مشهودا يتجمع فيه بعض مئات من أنحاء القاهرة ليستمعوا إلي هذا الرجل الذي يصعد المنصة في جلبابه الأبيض وعباءته البيضاء وعمامته الجميلة ، فيجيل النظر في الحاضرين لحظة .. بينما تنطلق الحناجر بالهتاف .
.. ولا تدهشك خطابته بقدر ما تدهشك إجابته عن الأسئلة التي كان بعضها يتصل بشخصيته وحياته وأسرته . وقد سئل مرة بعد أن ترك عمله في الحكومة ورفض مرتب الجريدة الضخم الذي كان يبلغ مائة جنية .. مم يأكل .. فقال في بساطة : كان محمد يأكل من مال خديجة وأنا آكل من مال ( أخ خديجة ) يقصد صهره .. وكان أعجب ما في الرجل صبره علي الرحلات في الصعيد .. هذه الرحلات التي لا تبدأ إلا في فصل الصيف حيث تكون بلاد الوجه القبلي في حالة غليان .. وفي أحشائها .. ينتقل الرجل بالقطار والسيارة والدابة وفي القوارب وعلي الأقدام .
وهناك تراه ، غاية في القوة واعتدال المزاج .. لا الشمس اللافحة ولا متاعب الرحلة .. تؤثر فيه ولا هو يضيق بها تراه منطلقا كالسهم ، منصوب القامة يتحدث إلي من حوله ، ويستمع ، ويفصل في الأمور . وقد أمدته هذه الرحلات في خمسة عشر عاما ، زار خلالها أكثر من ألفي قرية ، زار كل قرية بضع مرات ، يفيض غزير من العلم والفهم للتاريخ القريب والبعيد وللآسر والعائلات والبيوتات وأحداثها وأمجادها وما ارتفع منها وما انخفض .. وألوانها السياسية وأثرها في قراها وبلادها ورضا الناس عنها أو بغضهم لها .. وما بين البلاد أفرادا وأحزاباً وهيئات وطوائف من خلافات أو حزازات .. كان يزور أحيانا بلدا من البلاد بلغت فيه الخصومة بين عائلتين مبلغها ، وكل عائلة تود أن تستأثر به لتنتصر علي الأخرى ، فيقصد إلي المسجد مباشرة ، أو بغير طريق سفره فلا يستقبله أحد إلا بعد أن يكون قد قصد إلي دار عامل فقير في البلد . وكنت إذا قلت له فلان .. الحسيني مثلا أو الحديدي أو الحمصاني قال لك .. إن هذا الاسم تحمله خمس أسر أو أربع إحداها في القاهرة والثانية في دمنهور والثالثة في الزقازيق والرابعة في .. فأيها تقصد ؟
وكانت هذه الزيارات المتوالية طوال هذه السنوات المتتالية ، قد كونت له رأياً في الناس .. فقل أن تكون قرية في مصر لا يعرف الرجل شبابها وأعيانها ووزراءها ورجال الأحزاب والدين والتصوف فيها .. ولا يكون قد تحدث إليهم واستمع منهم .. وعرف آمالهم ورغباتهم ، وفي خلال الزيارات .. كنت تري الرجل بسيطا غاية البساطة ينام في الأكواخ أحياناً ، ويجلس علي ( المصاطب ) ويأكل ما يقدم له .. ولا يحرص إلا علي شيء واحد وهو ألا يفهم الناس عنه أنه شيخ طريقة .. أو من الطامعين في المنفعة العاجلة . ولقد حدثني أنه كان يدخل بلدا من البلاد أحياناً لا يعرف فيها أحداً فيقصد إلي المسجد ، فيصلي مع الناس ، ثم يتحدث بعد الصلاة عن الإسلام .. وأحيانا ينصرف الناس عنه فينام علي حصير المسجد وقد وضع حقيبته تحت رأسه .. والتف بعباءته ، ولا شك أنه قد لقي في زياراته شيوخاً وشبابا ، مثقفين وعوام .. وإنه قد استمع إليهم وقال لهم .. وأفاد منهم خبرة ضخمة واسعة .. أضافها إلي علمه وثقافته .. وإنني علي ثقة من أن حسن البنا رجل لا ضريب له في هذا العصر ، وأنه قد مر في تاريخ مصر ، مرور الطيف العابر .. الذي لا يتكرر ..
( كان لابد أن يموت هذا الرجل الذي صنع التاريخ وحول مجري الطريق شهيدا .. كما مات عمر وعلي والحسين ، فقد كان الرجل يقتفي خطواتهم ) مات في عمر الزهر النضير ، وفي نفس السن التي مات فيها كثير من العباقرة ورجال الفكر والفن .. وقضي وهو يسطع ويتألق . وعاش الرجل كل لحظة في حياته ، بعد أن عجزت كل وسائل الإغراء في تحويله عن ( نقاء ) الفكرة وسلامة الهدف . لم يحن رأسه ، ولم يتراجع ولم يتردد أمام المثبطات ولا المهددات .. وكان الرجل قذى في عيون بعض الناس ، وحاول البعض أن يضموه إليهم أو يطووه ، فكان أصلب عودا من أن يخدع أو ينطوي ... وكان علي بساطته التي تظهر للمتحدث إليه بعيد الغور إلي الدرجة التي لا تفلت متصلا به أو متحدثا إليه من أن يقع في شركه ... ويؤمن بالفكرة التي تدعو إليها .. وكان لا يواجه إلا من يعترض طريق دعوته ، وكان يستر من لم يكشف خصومته ، وكان لا يهاجم عهدا مادام هذا العهد لا يحول دون الامتداد الطبيعي لدعوته وكان يدخر قوته للوطن ، ويكبر نفسه ودعوته من أن يكون أداة صراع داخلي ..
وظن بعض الناس أن هذا ضعف ولين ومسايرة ، وما كان كذلك ، فالرجل بطبيعته لم يكن يحب الصراع في معركة جانبية ، ولا يقبل توزيع قواه .. وإنما يؤمن بالتطور والانتقال من مرحلة إلي مرحلة ومن دور إلي دور علي أساس النضج والتكامل ، وكان هذا يزعج خصوم الوطن الذين لم يعهدوا سياسة تعلو علي المطامع الفردية ، وتتعالي علي الأغراض الذاتية ، وتنفي جوها من الدوافع الشخصية الخاصة . وكان الرجل علي قدراته الفائقة في ضبط أعصابه كيسا في مواجهة الأمور ، لبقا في استقبال الأحداث والأزمات . وإلي هذا كله كان غاية الاعتدال ، فكان يعيش براتب يديه الأموال الضخمة المعروضة من أتباعه ، وحوله من العاملين معه من يصل دخله إلي ضعف أو أضعاف ما يحصل عليه .
زهد وبساطة
وكان في بيته مثال الزهادة ، وفي ملبسه مثال البساطة ، وكنت تلقاه في تلك الحجرة المتواضعة الفراش ذات السجادة العتيقة والمكتبة الضخمة ، فلا تراه يختلف عن أي إنسان عادي ، إلا ذلك الإشعاع القوي والبريق اللامع الذي تبعثه عيناه ، والذي لا يقوي الكثيرون علي مواجهته ، فإذا تحدث سمعت من الكلمات القليلة المعدودة موجزا واضحا للقضايا المطولة التي تحتويها المجلدات ، وكان إلي هذه الثقافة الواسعة الضخمة ، قديرا علي فهم الأشخاص لا يفاجئك بالرأي المعارض ، ولا يصدمك بما يخالف مذهبك ، وإنما يحتال عليك حتى يصل إلي قلبك ويتصل بك فيما يتفق معك عليه .. ويعذرك فيما يختلفان فيه . وهو واسع الأفق إلي أبعد حد ، يفتح النوافذ للهواء الطلق ، فلا يكره حرية الرأي ولا يضيق بالرأي المعارض ، وقد استطاع أن يحمل الرأي الجديد إلي الجماهير دون أن يصطدم بهم .. هذا الجديد الذي لو عرض بغير لباقة لوقفوا ضده وحاربوه ، لقد نقلهم من وراثياتهم ، وغير فهمهم للدين : وحو اتجاههم في الحياة وأعطاهم الهدف وملأ صدورهم بالأمل في الحرية والقوة .
وكان له من صفات الزعماء . صوته الذي تتمثل فيه القوة والعاطفة ، وبيانه الذي يصل إلي نفوس الجماهير ولا تنبو عنه أذواق المثقفين ، وتلك اللباقة والحنكة والمهارة في إدارة الحديث والإقناع . وبهذه الصفات جميعها استطاع كسب هذه الطائفة الضخمة من الأنصار في هذا الوقت القصير من الزمن ، فحول وجهات نظرها ونقلها نقلة واسعة .. دون ارتطام أو صراع .. كان سمته البسيط ولحينه الخفيفة ، وذلك المظهر الذي لا نجد فيه تكلف بعض العلماء ، ولا العنجهية ولا السذاجة .. قد أكسبه الوقار ... ولقد كانت شخصية حسن البنا جديدة علي الناس .. عجب لها من رآها واتصل بها .. كان فيه من الساسة دهاؤهم ، ومن القادة قوتهم ، ومن الرياضيين حماسهم ، ومن الفلاسفة مقاييسهم ، ومن الخطباء لباقتهم ومن الكتاب رصانتهم .
وكان كل جانب من هذه الجوانب يبرز كطابع خاص في الوقت المناسب ، ولكل هذه الصفات التي تقرؤها في كتب شمائل الصحابة والتابعين ، لم يكن مقدرا أن يعيش طويلا في الشرق .. وكان لابد أن يموت باكرا ، فقد كان غريبا عن طبيعة المجتمع ، يبدو كأنه الكلمة التي سبقت وقتها ، أو لم يأت وقتها بعد . ولم يكن الغرب ليقف مكتوف اليدين ، أمام مثل هذا الرجل .. الذي أعلي كلمة الإسلام علي نحو جديد .. وكشف لرجل الشارع حقيقة وجوده ومصيره وجمع الناس علي كلمة الله .. وخفت بدعوته ربح التغريب والجنس ونزعات القومية الضيقة .. واعتدلت لهجات الكتاب ، وبدأ بعضهم يجري في ركب ( الريح الإسلامية ) ..
ثقافة حسن البنا
ولم تكن هناك دعوة ولا نزعة ولا رسالة ، مما عرف العالم في الشرق أو في الغرب ، في القديم أو في الحديث .. لم يبحثها أو يقرأها أو يدرس أبطالها ، وحظوظهم من النجاح أو الفشل ، أو يحمل منها ما يصلح لتجاريبه وأعماله . كان يقول كل شيء ، ولا تحس أنه جرح أو أساء .. وكان يواجه النقد في ثوب الرواية أو المثل ، وكان يضع الخطوط ويترك لأتباعه التفاصيل كان قديرا علي أن يحدث كلا بلغته وفي ميدانه وعلي طريقته وفي حدود هواه وعلي الوتر الذي يحس به ، وعلي ( الجرح ) الذي يثيره .
ويعرف لغات الأزهريين والجامعيين والأطباء والمهندسين والصوفية وأهل السنة ، ويعرف لهجات الأقاليم في الدلتا وفي الصحراء في مصر الوسطي والعليا وتقاليدها ، بل إنه يعرف لهجات الجزارين والفتوات ، وأهالي بعض أحياء القاهرة الذين تتمثل فيهم صفات معينة بارزة ، وكان في أحاديثه إليهم يروي لهم من القصص ما يتفق مع ذوقهم وفنهم . بل كان يعرف لغة اللصوص وقاطعي الطريق والقتلة ، وقد ألقي إليهم مرة حديثا ، وهو يستمد موضوع حديثه ، أثناء سياحته في الأقاليم وفي كل بلد ، من مشاكلها ووقائعها وخلافاتها ، ويربطه في لباقة مع دعوته ومعالمها الكبرى فيجيء كلامه عجبا .. يأخذ بالألباب . كان يقول للفلاحين في الريف ( عندنا زرعتان ) .. إحداهما سريعة النماء كالقثاء ، والأخرى طويلة كالقطن ) لم يعتمد يوما علي الخطابة ، ولا تهويشها ولا إثارة العواطف علي طريقة الصياح والهياج .. ولكنه يعتمد علي الحقائق ، ويستثير العاطفة بإقناع العقل ، ويلهب الروح بالمعني لا باللفظ ، وبالهدوء لا بالثورة ، وبالحجة لا ( بالتهويش ) .
ويعد ( الحديث ) عبد بعض الناس آيته الكبرى غير أنني علمت من بعض المتصلين به .. أنها آخر مواهبه فقد كانت أبلغ مواهبه القدرة علي الإقناع ، وكسب ( الفرد ) بعد ( الفرد ) فيربطه به برباط لا ينفصم ، فيراه صاحبه خاصا ، وتقوم بينه وبين كل فرد يعرفه صداقة خاصة خالصة ، يكون معها في بعض الأحيان مناجاة ، وتنتقل بالتعرف علي شئون الوظيفة والعمل والأسرة والأطفال . وهذه أقوى مظاهر عظمته ، فهو قد يكسب هؤلاء الأتباع فردا فردا ، أصاب منابع أرواحهم هدفا هدفا ، وإن لم يكسبها جملة ولا علي صفة جماعية وقد استطاع بحصافته وقوته وجبروته أن ينقلها من عقائدها وأفكارها سواء أكانت سياسية أو دينية ، إلي مذهبه وفكرته .. فتنسي ذلك الماضي بل وتستغفر الله عنه ، وتراه كأنما كان إثماً أو خطأ .
ومن أبرز أعمال هذا الرجل ، أنه جعل حب الوطن جزءا من العاطفة الروحية فأعلي قدر الوطن وأعز قيمة الحرية ، وجعل ما بين الغني والفقير حقا وليس إحساناً ، وبين الرئيس والمرءوس صلة وتعاونا وليس سيادة وبين الحاكم والشعب مسئولية وليس تسلطاً . وتلك من توجيهات القرآن ، غير أنه أعلنها هو علي صورة جديدة لم تكن واضحة من قبل .
السماحة والتقشف والتنظيم
لم يكن الرجل القرآني ، فيما علمت يسعي إلي فتنة ، أو يؤمن بالطفرة .. ولكنه كان يريد أن يقيم مجتمعا صالحا قويا حر ، وينشئ جيلا فيه كل خصائص الأصالة الشرقية ... لقد ظهرت حركات إصلاحية كثيرة خلال هذا القرن .. في الهند ومصر والسودان وشمال إفريقيا .. وقد حدثت هزات لا بأس بها ولكنها لم تنتج آثارا إيجابية ثابتة ... وقد جاء هذا نتيجة لعجز بعض المصلحين عن ضبط أعصابهم عند مواجهة الأحداث واندفاعهم إلي الحد الذي وصل بهم إلي مرتبة الجرح قبل أن يتم البناء ، كما جاء أثراً من آثارا عزوفهم عن الاتصال بالشعب وتكوين رأي عام مثقف . اختفت هذه الدعوات ، وبقيت عبارات علي الألسن وكلمات في بطون الكتب ، حتى قيض لها أن تبعث من جديد وأن تستوفي شرائطها ومعالمها .. وأن تأخذ فترة الحضانة الكافية لنضجها ، وأفاد الرجل من تجارب من سبقوه ، ومن تاريخ القادة والمفكرين والزعماء .. الذين حملوا لواء دعوة الإسلام ، ولم يقنع بأن يكون مثلهم .. لكنه ذهب إلي آخر الشوط ، فأراد أن يستمد من عمر وخالد وأبي بكر .. فأخذ رمن أبي بكر السماحة ، ومن عمر التقشف ، ومن خالد عبقرية التنظيم .
نقد الحضارة الغربية
وقد استطاع الرجل رغم كل ما دبر لوضع حد لدعوته أو حياته ، أن يعمل وأن يضع في الأرض البذرة الجديدة ، بذرة الصحف ، البذرة التي لا تموت بعد أن ذوت شجرتها القديمة ، ولم يمت الرجل إلا بعد أن ارتفعت الشجرة في الفضاء واستقرت . لقد حمل حسن البنا المصحف ووقف به في طريق رجال الفكر الحديث الذين كانوا يسخرون من ثلاث كلمات : ( شرق وإسلام وقرآن ) كان الرجل يريد أن يقول : آن للشرق أن يمحص أفكار الغرب قبل أن يعتنقها بعد أن غدت الحضارة الغربية في نظر أصحابها لا توفي بما يطلب منها وكان يقول : علينا أن نزن هذه القيم وأن نعتقد أن ما عندنا لا يقل عما عند الغرب أو علي الأقل لا يستحق الإهمال ، وأن علي الشرق أن ينشئ للدنيا حضارة جديدة ، تكون أصلح من حضارة الغرب ، قوامها امتزاج الروح بالمادة واتصال السماء بالأرض وما كنت تعرض لأمر من أمور الحضارة الغربية إلا رده إلي مصادره الأولي في الحضارة الإسلامية ، أو في القرآن والسنة والتاريخ . كان الرجل القرآني يؤمن بأن الإسلام قوة نفسية قائمة في ضمير الشرق وأنها تستطيع أن تمده بالحيوية التي يمكن له في الأرض وتتيح له الزحف إلي قواعده واستخلاص حقوقه وحرياته . كان يؤمن بأن الشرق وحدة قائمة كاملة .
كان لا يخاف الموت
استطاع حسن البنا أن يؤلف بين طائفة ضخمة من الأتباع بسحر حديثه ، وجمال منطقة ، وروعة بيانه فتنصرف هذه المجموعة الضخمة من حول الأحزاب والجماعات والفرق الصوفية ، وتنضوي تحت لوائه وتطمئن له وتثق به .
كان هذا مثار حسد الناس ، ومثار حقد بعض ذوى الرأي ، وكان خليقا بهم أن ينقسموا وأن يحسدوا هذا الرجل المتجرد ، الفقير ، علي أنه استطاع أن يجمع الناس إليه بوسائل غاية في البساطة واليسر وهي لباقة وحسن حديثه .
فيرفعهم فوق المطامع المادية التي يجتمع عليها الناس عادة .. وكان طبيعيا أن يتنكر له بعض الناس ، وأن يذيعوا عنه بعض المرجفات فليس أشد وقعا في نفوسهم من أن يسلبهم أحد سلطانا كان لهم ، وليس أبعد أثراُ في نفوسهم من أن يجيء رجل من صميم الشعب ليجمع الناس حوله باسم القرآن ، ويقول لهم : إن الله قد سوى بين الناس بالحق ، وجعل فضيلتهم عنده علي أساس العمل والتقوى ) خيل إلي بعد أن انطوت حياة الرجل علي هذه الصورة العجيبة ، وثار حولها ذلك الغبار الكثيف أن وقتا طويلا يجب أن يمر قبل أن يقول التاريخ الحق كلمته ، ويروي المؤرخ النزيه قصته .
غير أن الظروف السياسية في مصر سرعان ما تغيرت وأمكن أن يكشف التحقيق في بعض القضايا بطلان كثير مما وصمت به دعوة الإخوان المسلمين من ادعاءات ، وأن يبرأ جانب هذا الرجل بالذات فيبدو نقيا طاهرا .
وكنت قد التقيت الرجل في القاهرة سنة 1946 ثم عدت إلي القاهرة مرة أخري سنة 1949 بعد أن قضي ، وحاولت أن أتصل ببعض الدوائر التي تعرفه فسمعت الكثير مما صدق نظرتي الأولي إليه . فقد علمت أنه كان في أيامه الأخيرة يحس بالموت وكان الكثير من محبيه ينصحه بالهجرة أو الفرار ، أو اللياذ بتقية أو خفية ، فكان يبتسم للذين يقصون عليه هذه القصة وينشد لهم شعرا قديما :
- أي يومي من الموت أفر
- يوم لا قدر أم يوم قدر
- يوم قدر لا أرهبه ومن
- المقدور لا ينجو الحذر
وكان لا يني لحظة عن محاولة استخلاص أنصاره من الأسر ، وكان يبلغ به الأمر مبلغه ، فيستيقظ في الليل ، ويضع كلتا يديه علي أذنيه ويقول : " إنني أسمع صياح الأطفال الذين غاب آباؤهم في المعتقلات "
أغراه الانجليز فرفض
إن تاريخ ( الرجل القرآني ) طويل .. ولكن أخصب سنواته أيام الحرب .. منذ أن خرج من المعتقل عام 1936 ، في هذا الوقت الذي شغلت الحرب الدنيا جميعها ، عن الأحزاب ، وعن السياسة ، وعن كل شيء ، كان الرجل لا ينام ، كان يسعي ويطوف ويذهب إلي كل قرية وكل نجع وكل دسكرة يفتش عن الشباب ، ويحدث الشيوخ ويتصل بالعظماء والعلماء ، ويومها بهر الوزراء ، وأعلن بعضهم الانضمام إلي لوائه الخفاق ، وجيشه الجرار . وحاول الانجليز أن يقدموا عروضا سخية .. فرفضها الرجل إباء .. ونامت الأحزاب في انتظار الهدنة ، وظل الرجل الحديدي الأعصاب يعمل أكثر من عشرين ساعة لا يتعب ولا يجهد ، كأنما صيغت أعصابه من فولاذ . لقد كان يحب فكرته حبا يفوق الوصف ، ولم يكن في صدره شيء يزحم هذه الدعوة . كان يعشق فكرته كأنما هي حسناء ! لا يجهده السهر ، ولا يتعبه السفر وقد أوتي ذلك العقل العجيب الذي يصرف الأمور في يسر ، ويقضي في المشاكل بسرعة ويفضها في بساطة ، ويذهب عنها التعقيد .
كان لا يحتاج إلي الإسهاب ليفهم أي أمر ، كأنما لديه أطراف كل أمر ، فما إن تلقي إليه أوائل الكلمات حتى يفهم ما تريد ، بل كان أحياناً يجهر بما تريد أن تقوله له ، ويفتي لك فيما تريد أن تسأل عنه . كان نافذ البصيرة .. يري ما وراء الأشباح .. في ذلك السر الإلهي قبس . كان يلتهم كل شيء ، لا تجد علما ولا فكرا ولا نظرية جديدة في القانون أو الاجتماع أو السياسة أو الأدب ، لم يقرأها ولم يلم بها ( وحدثني الرجل القرآني عندما أخذت أراجعه رأيه في صيغة الإسلام للشرق :
قال : أضرب لك مثلا تركيا : إنها ستعود إلي الإسلام وإن عوامل ذلك العود قد تبدت منذ الآن . كان هذا الحديث بيني وبينه عام 1946 وقد لاحظت في السنوات التالية ما تحقق من قول حسن البنا في مايو 1950 بعد أن مضي الرجل إلي ربه حيث هزم حزب مصطفي كمال وانتصر الحزب الذي يقال عنه : إنه رجعي .
وسألته عن الصوفية والتصوف وهل هو من الإسلام ؟ وكان ذلك علي أثر ما نشرته بعض الصحف من أنه من سلالة مغربية تعتنق الطريقة الشاذلية فكان مما أفضي به إلي أن الصوفية النقية البعيدة عن التعقيد هي من لباب الإسلام ، وأنها هي الدرجة التي يصل إليها الرجل الحق ، وأن الصوفية بالمفهوم الأصيل تمد الطبع بحب الجهاد والكفاح وافتداء الفكرة .. وأنه يجب أن يرقي أتباعه إلي هذه الدرجة ، وأنه لا بأس علي الإخوان من أن يأخذوا المعاني القوية الكامنة وراء مظاهر الصوفية فينقلوها إلي دعوتهم دون أن يتقيدوا بأثوابها القديمة أو مظاهرها التي لا تتفق مع روح العصر .
فلما أفضيت إليه بخواطري ، الخائفة من أن يجتمع الناس جميعا علي دعوة واحدة ، لا سيما وأن هناك من المواهب الإسلامية ما يحول دون ذلك .. قال لي : إن هذه الخلافات لا تحول دون ارتباط المسلمين ، وإنها إحدى عوامل السعة ومقدرة الإسلام علي مجاراة العصور والأزمنة والأقطار .
ونحن نعتقد أن الخلاف في فروع الدين أمر لابد منه ، وضرورة لابد منها ، وقد قال الإمام مالك للخليفة أبي جعفر المنصور حين طلب إليه أن يوطئ للناس كتابا يجمعهم عليه : قال إن أصحاب رسول الله صلي الله عليه وسلم قد تفرقوا في الأمطار وعند كل قوم علم .
فإذا حملتهم علي رأي واحد تكون فتنة ، فضلا عن أن التطبيق يختلف باختلاف البيئات ، وقد أفتى الإمام الشافعي في مصر بغير ما أفتى به في العراق وقد أخذ في كليهما بما استبان له ، ولذلك فإن الإجماع في الفروع مطلب مستحيل وهو يتنافي مع طبيعة الإسلام ، ونحن نلتمس العذر لمن يخالفوننا في الفروع ، ونري أن هذا الخلاف ليس حائلا دون ارتباط القلوب وتبادل الحب .. والإخوان أوسع الناس صدرا مع مخالفيهم ) ولما سألته عن الإسلام والسياسة وأنا أري أنهما لا يتصلان بحال . قال لي : أتري .. إن الإسلام بغير السياسة لا يكون إلا هذه الركعات وتلك الألفاظ وإن الإسلام في الحق عقيدة ووطن وجنس وسياسة وثقافة وقانون ولو انفصل الإسلام عن السياسة لحصر نفسه في دائرة ضيقة ولما ترك للمسلمين إلا القشور والمظهريات والأشكال .
... وقال لي فيما قال : إن سر انتصار الغرب وظفره هو الإسلام .. قلت مستغربا كيف ؟ قال : من ناحيتين إنه حفظ التراث القديم وزاد عليه حين أسلمه لأوروبا عن طريق قرطبة والقسطنطينية ، وإن الغرب انتصر بأخلاق الشرق ومبادئه فقد عرف الغرب الحصيف كيف وصل الشرق بهذه الأخلاق ونجح حين غفل عنها الشرق وهو صاحبها ، والذي تخلف عنها . ومضي يقول لي : إن ما تراه الآن في الشرق ، ليس هو الإسلام ولكنهم المسلمون : اسما ووراثة ، هؤلاء الذين لو فهموا حقيقتهم لوصلوا .
وحدثني بعض أتباع الرجل القرآني عما لقي الرجل إبان زيارته لأرض الحجاز ، وكيف تقاطرت علي بيته الذي ينزل فيه وفود المسلمين من إندونيسيا وجاوة وسيلان والهند ومدغشقر وربونيون ونيجيريا والكامرون وإيران والأفغان تتعرف عليه وتجتمع به وهو مع كل مجموعة يتحدث عن أمور هي مصدر اهتمام الفريق الذي يلتقي به ، يحدثهم عن قضاياهم ومشاكلهم فيبهرهم كأنه قادم علي التو من بلادهم وليسوا هم القادمين عليه . وكان فريق من أتباعه يهرعون إليه يحدثونه عما يقول بعض المتشددين فيقول : لا توحيد بغير حب ، لا توحيد بغير حب . وأعجب العجب أن تستمع إلي الكلمات التي يلقيها الرجل إلي أتباعه : وفيها تتمثل التضحية الخالصة والإيمان :
( إننا قد عرفنا الطريق إلي أوطاننا الإسلامية : إنها هي الجهاد والموت والفداء : إنما هي الطريق الوحيد الذي سلكه المؤمنون في كل زمان ومكان . ( إن الدنيا كلها تائهة ضالة تبحث عن الحق والمثل العليا فلا تجده فيما لديها من نظم وفلسفات ومبادئ : رسالتكم العظمى للإنسانية أن تحررها وتنقذوها وتسعدوها ) . ( إن الشرق يتهيأ لنهضة كبرى ووثبة عظمى وإن الغرب يقف له بالمرصاد ولابد لنا من أن نتسلم وآية الحضارة الإنسانية لنسعد الناس ونحررهم بعد أن فشل الغرب وتخبط ) . ( إن الدنيا حائرة وضالة لاهية : وكلها تنظر إلي القيادة ومكانها شاغر ولن يملأها غيركم لإقرار رسالة السلام والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وإحقاق الحق وتحرير الإنسان بمبادئ من وحي السماء ) .
ومما استلفت نظري في الرجل القرآني أنه يضع الحدود بين الخصومات الشخصية والخصومات الفكرية : وفي هذا يقول :
( والخصومة بيننا وبين القوم خصومة شخصية أبداً ، ولن تكون ولكنها خصومة فكرة ونظام : هم يريدون لهذه الأمة نظاما اجتماعيا ممسوخا من تقليد الغرب في الحكم والسياسة والقضاء والتعليم والثقافة ، ونحن نريد لها وضعا ربانيا سليما من تعاليم الإسلام وهديه وإرشاده )
فإذا ذهبنا نتعرف حقيقة الإسلام كما يفهمه ( حسن البنا ) وجدناه ( عمريا ) : إنه يفهم الإسلام كما عرفه عمر بن الخطاب . إذا أحسنت فأعينوني وإذا أسأت فقوموني ) . ويفهمه كما عرفه أبو بكر : الضعف فيكم قوي عندي حتى أخذ الحق له والقوي فيكم ضعيف عندي حتى أخذ الحق منه ، أطيعوني ما أطعت الله فيكم فإذا عصيته فلا طاعة لي عليكم ) .
وكان يري أن يكون الحاكم المسلم من الشجاعة بحيث يقبل ما قبل عمر عندما جابهه الرجل بكلمة ( اتق الله ) فقال دعه فليقلها لي ، لا خير فيكم إذا لم تقولوها ولا خير فينا إذا لم نقبلها ) .. ويري مسئولية الحاكم في حدود قول عمر : ( لو عثرت شاة بشاطئ لظننت أن الله عز وجل سائلي عنها يوم القيامة ) .
ويري الحاكم من حيث القدرة علي الإنصاف من النفس كقول عمر ( أصابت امرأة وأخطأ عمر ) ويؤمن بتطبيق نظام عمر في القضاء ( اجعل الناس عندك سواء ، ولا تأخذك في الله لومة لائم ، وإياك والأثرة والمحاباة فيما ولاك الله .. ويردد في أكثر من مرة قول الرسول صلي الله عليه وسلم لأسامة : أتشفع في حد من حدود الله ؟ والله لو فاطمة بنت محمد سرقت لقطع محمد يدها ) . ويحب أن يطبع المسلم حياته بطابع كلمة عمر الخالدة : " أحب من الرجل إذا سيم الخسف أن يقول (لا) بملء فمه" وهو علي هذه الأسس من المفاهيم الإسلامية العميقة كان ينشئ جيله ويبني كتيبته ويرسم ( الطوباوية – أي المدينة الفاضلة Utopia ) التي إذا طبقت حقق الإسلام في الشرق دوره وزحف إلي مكان الزعامة العالمية والصدارة الإنسانية .
ويري أن قاعدة الإسلام الأساسية هي ( لا ضرر ولا ضرار ) ويؤمن بسد الذرائع وإعطاء الوسائل أحكام المقاصد والغايات .. وجملة القول في الرجل القرآني : إنه يفهم الإسلام فهما واضحا سهلا يسيرا كما جاء في حديثه معي ، علي الطريقة التي فهم بها محمد صلي الله عليه وسلم الإسلام ، إنه قريب في نظري من أبي حنيفة الذي أصر علي رفض القضاء ، ومالك الذي أفتى في البيعة وابن حنبل الذي أريد علي هوى فلم يرد . وأجد حسن البنا قد حرر نفسه من مغريات المجد الناقص ومفاتن النجاح المبتور ومثل هذا التحرر في نظر إمرسون هو غاية البطولة ؛ ولذلك فلم يكن عجيبا أن يقضي الرجل علي هذه الصورة العجيبة فكان فيها كشأنه دائما ، غير مسبوق . كان الناس يرونه غريبا في محيط الزعماء ، بطابعه وطبيعته ، فلما مات كان غريبا غاية الغرابة في موته ودفنه ، فلم يصل عليه في المسجد غير والده وحملت جثمانه النساء ، ولم يمش خلف موكبه أحد من هؤلاء الأتباع الذين كانوا يملئون الدنيا لسبب بسيط هو أنهم كانوا وراء الأسوار .
لقد نقل الرجل بعد أن أسلم الروح إلي بيته في جوف الليل ومنع أهل البيت من إعلان الفاجعة ، وغسله والده ، وخيم علي القاهرة تلك الليلة كابوس مزعج كئيب ، ولقد كان خليقا بمن سلك مسلك أبي حنيفة ومالك وابن حنبل وابن تيمية مواجهة للظلم ومعارضة للباطل .. أن تختتم حياته علي هذه الصورة الفريدة المروعة ، التي من أي جانب ذهبت تستعرضها ، وجدتها عجيبة مدهشة إنه كان يدهش الأجيال بختام حياته ، إن الألوف المؤلفة قد سارت في ركب الذين صنع لهم الشرق بطولات زائفة ، أفلا يكون حسن البنا قد رفض هذا التقليد الذي لا يتم علي غير النفاق .
إن هناك فارقا أزليا بين الذين خدعوا التاريخ والذين نصحوا لله ولرسوله .. إن هذا الختام العجيب سيظل مدي الأجيال يوقد في نفوس رجال الفكر النور والضياء ، ويبعث في قلوب الذين آمنوا معه ما بعثه الحق في نفوس أهله حتى يمكنوا له . إن مقتله سبيه بمقتل الحسين ، إنها العوامل المختلفة التي تجمعت لوضع حد للفكرة الحية التي كانت تندفع إلي الأمام .. كالإعصار . وحين حلّ ( القضاء ) أنفذ ( القدر ) حكمه . إن الأمر الذي أسأل عنه فلا أجد له جوابا :
هل هناك علاقة ما بين الإسلام كما كان يفهمه حسن البنا ويدعو إليه وبين نهايته ؟ إن كثيرين يدعون إلي الإسلام ويحملون اسمه ، فهل هناك خلاف جوهري بين ما كان يدعو إليه حسن البنا وما يدعو إليه هؤلاء ؟ لأني لا أعرف الإجابة الصحيحة أدع ذلك للتاريخ .