الإمام البنا والحقيقة القرآنية
الإمام البنا والحقيقة القرآنية
محمد عبد الحكيم خيال***وخلال عصر ساده هذا المنهج الجزئي القاصر جاء الإمام البنا.. في القرن الرابع عشر الهجري ومعه نزعة ابن تيمية في اشتراطه للعلم والعمل معاً، فالعقل لا يدل عليه علم لم يعمل به صاحبه، بل يدل عليه العلم الذي يعمل به، مفسراً بذلك قوله تعالى (لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير). بقلم محمد عبد الحكيم خيال
ولقد تكتلت وتركزت جهود هؤلاء الأعداء على مصر بالذات، لأنها رائدة هذه الحركة وقلبها النابض فإذا اصيب القلب اصيبت معه باقي الأعضاء.
ولكن هذه الحركة استعصت على كل المحاولات، فباءت جميعها بالفشل، وقد أثبت جميع المراقبين أن المحن لم تزد هذه الدعوة إلا عزماً وثباتاً بما يرونه كل يوم من طلائع جديدة، أعمق فهمها وأصلب عوداً. كما أثبتت هذه المحن والابتلاءات أن مرتكزات هذه الدعوة سليمة قوية، لأنها تقوم على قواعد ربانية لكل ما تحمله هذه العبارة من معاني الصلابة في الحق والصبر عند اللقاء، ولو لم تكن كذلك لما حشد أعداء الإسلام جهودهم الضخمة للقضاء عليها. فهل من سرٍ لقوة هذه الدعوة وصلابتها؟
السر في قرآن هذه الدعوة، وبروز شخصية (البنا) التي عاشت الإسلام متحرراً من كل ركام ران على فطرة المسلم.. برزت بالقرآن، ولكنه قرآن متصل بالحياة، في وقت كانت آياته مجرد مادة يستعملها أصحاب المدرسة الإصلاحية لبحوث تكتب بقصد الدفاع عن الإسلام في وجه المهاجمين له، أو الطاعنين من المستشرقين، الصليبيين، وصهيونيين، كما كانت آياته شواهد لشجب بعض العادات والتقاليد المخالفة لتقاليد الإسلام الصحيحة، كما استعملت كطراز جمالي في التعبير وكمصدر لقوانين يقتضيها علم البلاغة العربية. الأمر الذي حصر مشكلة العالم الإسلامي المتخلف في الميدان الفكري للحضارة، وهكذا قضى هؤلاء المصلحون على مرحلة أساسية للتطور: هي المرحلة الروحية التي تتجاوب مع تحول الفرد وهو التحول الأول للمجتمع، وبذلك قد فقدوا بهذا المنهج كل نسمة روحية، واقتصر عملهم على إعداد طلاب علم فلسفة لا جنود عقيدة مجاهدين.
وخلال عصر ساده هذا المنهج الجزئي القاصر جاء الإمام البنا.. في القرن الرابع عشر الهجري ومعه نزعة ابن تيمية في اشتراطه للعلم والعمل معاً، فالعقل لا يدل عليه علم لم يعمل به صاحبه، بل يدل عليه العلم الذي يعمل به، مفسراً بذلك قوله تعالى (لو كنا نسمع أو نعقل ما كنا في أصحاب السعير).
إن فكرة ابن تيمية الجامعة قد برزت في العمل الإسلامي المعاصر مع الإمام البنا الذي لم يكن منفصلاً عن واقع العالم الإسلامي ومن ثم تجددت طاقة المسلم وفتحت على أخصب طريق.
وعادت قيمة الآية القرآنية
لقد تجددت قيمة الآية القرآنية بحركة الإمام البنا، فأصبحت قيمة حية ووسيلة فاعلة لتحويل الإنسان وذلك باعتراف علماء ومفكرين معاصرين أتاحت لهم ظروف حياتهم أن يكونوا قريبين منه. اعترفوا لهذا الإمام بسلطان فريد: فيه تصبح الآية القرآنية ذات حافز حي يملي على الفرد سلوكه الجديد ويدفعه للعمل بقوة لا تقاوم. وأصبح القرآن فاعلاً، وكأنه يتنزل اللحظة.
والواقع أنه ليس هناك سر: إن هذا الأستاذ الذي كان يعمل أستاذ للغة العربية والدين للصفوف الابتدائية، والذي كان يقوم في يوم واحد بخطبة الجمعة في القاهرة ويلقي دروس العصر في المنية ثم يحاضر في اسيوط ويعود في نفس اليوم ليباشر شؤون دعوته في المركز العام ويكتب مقالاً للجريدة، والذي كان ينتهز أي مناسبة ليذكر المسلمين ببعض تعاليم القرآن لم يكن يفسر القرآن وآياته التفسير المطول بل يتركه لشيخ متخرج من الأزهر، ذلك أن التفسير بمعناه التقليدي هو ميدان الكشف عن الحقائق اللغوية والكلامية والتاريخية.. إنه حقل علمي فني، والمفسر لا يقول إلا ما هو متفق مع ثقافته والحقيقة القرآنية في هذا الإطار الثقافي البحت ليست إلا مجرد صلة نظرية بين الحياة والعلم لا تدفع إلى تغير أو تحويل جذري للإنسان والمجتمع. (وليس المقصود من القرآن مجرد التلاوة أو التماس البركة وهو مبارك حقاً، ولكن بركته الكبرى في تدبره وتفهم معانيه ومقاصده، ثم تحقيقها في الأعمال الدينية والدنيوية على السواء، ومن لم يفعل ذلك، أو اكتفى بمجرد التلاوة بغير تدبر ولا عمل فإنه يخشى أن يحق عليه الوعيد الذي يرويه البخاري عن حذيفة رضي الله عنه: يا معشر القراء استقيموا فقد استبقتم سبقاً عظيماً وأن أخذتم يميناً وشمالاً لقد ضللت ضلالاً بعيداً).
المصلحون .. ومنهج الأخوان المسلمين
بوسعنا أن نعقد مقارنة بين التعليم في المدرسة الإصلاحية والمنهج التربوي الذي مارسته حركة الأخوان المسلمين. فالتكافل الإسلامي مثلاً.. يقوم على مفهوم الأخوة، نراه في المدرسة الإصلاحية مجرد عاطفة، بينما يتحول عند الأخوان المسلمين إلى عملية (تآخي) فعّال، وهي عمل جوهري يصبح به الإنسان (أخاً مسلماً) إن هذا العمل البسيط هو في الواقع تحول تام في الإنسان كالذي كان ينتقل به الإنسان من المجتمع الجاهلي إلى المجتمع الإسلامي. ولتحقيق هذا التحول في الفرد كان تأثير الآية القرآنية عند الإمام البنا بنفس الشروط النفسية التي كانت في عمل النبي صلى الله عليه وسلم وصاحبته الكرام من قبل.. هذا العمل هو من نبع الحق وفيضه وهو السر الذي أشرق في مجتمع مكة الممزق فآخى بين (العبد) بلال و أبي بكر (السيد) وجعلهما أخوين لا يحول بين روحيهما مع نور الله حائل. كان السر كله عند هذا الإمام في تلاوة للآية كوحي يوحى لا كنص مكتوب، فإن جبريل حين ينزل من السماء لا ينزل إلا لأمر جلل، والآية القرآنية حين تتنزل من السماء لا تتنزل لنحفظها في مصحف مطبوع أو كتاب منسق ولكن جبريل ينزل بها ليكون شأنها كما قال الله تعالى: (لتحكم بين الناس بما أراك الله) فما أتعس قوم يقعد بهم ضعف الإيمان أو خمول الهمة عن أن يستقيموا على ما أراه الله لهم.. فإذا كان الإمام البنا يهز سامعيه ويثيرهم، فلأنه لا يفسر القرآن بل لأنه يبعثه في الضمائر التي يهزها هزاً عنيفاً. والقرآن لم يعد على هاتين الشفتين وثيقة باردة، أو قانوناً مكتوباً، ولكنه انبثاق للكلام الإلهي الحي، ونور يأتي مباشرة من السماء، وينير الطريق ويقوده للحق، ومنبع للطاقة يمنح الإرادة الإنسانية قوة وثباتاً. إن ليس إله علم الكلام، ولكنه الإله الفاعل المتجلي بعلاقته .. الإله الذي كان يشعر به المسلمون الأول بذاته وصفاته الفاعلة، ويحسون بوجوده بينهم في بدر، فهو الإله الذي ترتبط به مشاعر النفس كلها، فالرجاء فيه (يرجون رحمته) والخوف (ويخافون عذابه)، وهو مصدر الأشياء (الله يبدأ الخلق) ومصيرها كلها إليه (ثم يعيده ثم إليه ترجعون) وهنا تبدو الحقيقة القرآنية في صورة مباشرة بوقعها في الضمائر وفاعليتها في الأشياء والناس ومفهوم الآية القرآنية الذي تفاوت في تجرده عند المدرسة الإصلاحية يصبح قيمة ملموسة حية.. إن التفاعل الحي للفكر والعمل الذين يتداخلان مندمجين في تطور مجتمعٍ يعي ما يعمل ويعمل ما يعي.
إن التربية التي مارسها البنا تجربة مع الكائن الإنساني لا تستوحي حرفية القرآن، بل تغرف من منهل الوحي نفسه. إنها تجربة يصبح نتاجها شديد الحساسية تحت شكل (الحقيقة القرآنية الفاعلة) في كل ميادين الحياة.. وذلك أن تربية القرآن شاملة لا تعني مفهومها المألوف فهي لا تقتصر على المسجد أو المعهد، ولا تختص بالعبادة دون السلوك، أو تهتم بالفرد وتترك المجتمع، أو تعنى بالعقيدة وتهمل العمل، إنما تشمل كل جوانب النفس، وتعمل في كل ميادين الحياة.
فلم يقف البنا بالفاعلية القرآنية عند حد إثارة الوجدان، بل تحرك في خطة لبناء الإنسان والمجتمع من ثلاث مراحل: تعريف وتكوين ثم تنفيذ .. وكان من الواضح لديه أن هدف دعوته في مرحلة التعريف والتكوين ليس مجرد تجميع أكبر عدد ممكن من الأفراد الذين يرتفع المد العاطفي في نفوسهم لدرجة كافية.
ولكن كان الهدف هو اختيار الأنصار الذين يصلحون لحمل أعباء هذه الدعوة لتكون القاعدة القوية السليمة منه كجزء من مخطط الدعوة الشامل الذي يهدف إلى إيجاد جيل من المؤمنين الفاهمين لتعاليم القرآن والذي يكون الطليعة المؤمنة التي تقود المسلمين لإقامة حكم الله في الأرض.
إن الشاب المصري التآئه في صحراء التآمر والرذيلة، الذي عاش في خضم الصراعات الفكرية والسياسية في هذه الآونة والتي كانت تحترق وطنيته في الألفاظ البراقة للمطالبة بحقوقه قد تحددت له معالم المنهج الذي يجب أن يسلكه لبناء حياته، واستطاع أن يطرد بقوة إيمانه وعقيدته ثمانين ألف جندي إنجليزي ويجبرهم على الجلاء عن القناة.
فقد علم أن معركته عقائدية بحتة فهي ليست في مواجهة إسرائيل لأنه لا يؤمن بوجودها أصلاً وليست معركته مع أمريكا لأنها تساعد إسرائيل أو لا تساعدها وليست معركته مع روسيا والصين لأنهم يتسللون إلى داخل أرضنا.. إن معركته تنتسب إلى عقيدة ترفض التبعية لهؤلاء جميعاً ومن يتولهم منكم فهو منهم ، وحتى يبدأ معركة صادقة يجب رفض الولاية والتبعية من صدره ثم التصدي بكل تحدي لمن يحاول أن يفرضها عليه.
وهكذا أصبح البنا هو الإمام والمرشد الذي يلمس نداءه القلوب، فيقود رجالاً آخرين ويحولهم ليصبحوا بدورهم أخواناً جدداً، فكان منهم الشهيد سيد قطب الذي سقى تربة الدعوة بدمه وغذاها بفكره وأطعمها من وقته وأعصابه وراحته .. والذي كان لكتاباته التي تجاوبت مع الحركة ونبعت من محنتها في إبراز واقعية المنهج الإسلامي وجديته وإيجابيته. ذلك أنه عاش القرآن بنفس شروط الإمام البنا باعتباره وحياً يوحى لا وثيقة مكتوبة فكانت كتابته – يرحمه الله – بأسلوب الداعية وحرارته وصدقه لا بأسلوب الفيلسوف وخيالاته وجفاف عباراته وذلك من نبع القرآن وطول معايشته ومدارسته له، وأن القارئ له ليشعر ويحس في كل كلمة من كلماته بالحيوية والحركة تتفجر من خلال العبارات وتضاعيف السطور كأنها دقات قلب أو نبضات عرقٍ. فهو الذي عبر في موضع عن هذه الحقيقة في موضع من الضلال حيث قال (ستظل هنالك فجوة عميقة بيننا وبين القرآن ما لم نتمثل في حسنا، ونستحضر في تصورنا أن هذا القرآن خوطبت به أمة حية ذات وجود حقيقي، ووجهت به أحداث واقعية في حياة هذه الأمة خاصة ووجهت به حياة إنسانية حقيقية في هذه الأرض، وأديرت به معركة ضخمة في داخل النعس البشري وفي رقعة الأرض. معركة تموج بالتطورات والانفعالات والاستجابات).
ولقد ولدت تربية البنا رضي الله عنه للنفوس التي تأثرت به طاقات إنسانية ضخمة ساعدته على بعث الحركة في حياة البلاد كلها، وأمكنته من إنجاز مؤسسات واسعة ومتعددة حتى بدت كأنها مؤسسات دولة وليست مؤسسات فئة أو جماعة، لقد أسس بيوت مالية لتوجيه راس المال وصحافة قوية لتوجيه الثقافة، وصناعة لخلق العمل وتوجيهه، وجمعت رؤوس أموال ثم وظفت بواسطة (الأخوان المسلمين) الذين أعطوا مثالاً واقعياً لبناء القاعدتين الضروريتين لحياة الفرد على أساس منهج الإسلام: القاعدة الروحية والقاعدة المادية.
وانطلق المحرك العملاق بنور القرآن في طول البلاد وعرضها ثم مضى إلى ربه شهيداً.. مورثاً كل عامل للإسلام أعظم محاولة لإعادة بناء المجتمع الإسلامي مستهدية بخطة بانيه الأول صلوات الله عليه، خطة ربانية أصبحت ملكاً للعالم الإسلامي كله للتخلص من حالة الضياع والفوضى .. فوضى المذاهب والأنظمة الدخيلة.