محمد المبارك
محمد المبارك ... العالم والمفكر الداعية (1331 1402هـ ؛ 1912 1982م)
- هو العالم الوزير، والمفكر الداعية: محمد بن عبدالقادر بن محمد المبارك الحسني.
ولد في دمشق سنة 1331ه - 1912م، نشأ في أسرة معروفة بالعلم والتقوى والصلاح، فجده محمد المبارك كان من علماء اللغة العربية، له نثر وشعر وله آثار مروية تدل على فضله وملكته.
ووالده الشيخ عبد القادر المبارك علامة دمشق في اللغة والأدب، كان من أعضاء اللجنة التي ألفت في عهد الملك فيصل الأول لتعريب المصطلحات العسكرية، كما اختير عضواً في المجمع العربي بدمشق حين تأسيسه، وكان كذلك عالماً بالسيرة ووقائعها وبتراجم الرجال ومشاركاً في العلوم الإسلامية ومتقناً للغة التركية وعارفاً بالإنجليزية.
وله رسائل أدبية مطبوعة وشرح لعشر من مقامات الحريري.
- درس محمد المبارك المرحلة الابتدائية ثم الثانوية في مدارس دمشق، وكان متفوقاً في دراسته خاصة في اللغة العربية والرياضيات، وكان له ميل واضح إلى العلوم العربية والعلوم الإسلامية. ثم تابع الدراسة الجامعية في دمشق في كلية الحقوق وفي الآداب، وأنهى الدراستين معاً في سنة 1935.
- كان محمد المبارك ينتظم في الصباح في الدراسة النظامية، وفي المساء يدرس على شيخ علماء الشام في عصره الشيخ محمد بدر الدين الحسيني ، وقد استفاد المبارك من علمه وقرأ عليه النحو والصرف والتفسير والمصطلح والفرائض وأصول الفقه والكلام والبلاغة والحساب والجبر والهندسة.
كما كان يدرس على الشيخ سليم الجندي وعلى والده العلامة اللغوي الشيخ عبد القادر علوم اللغة العربية.
- وكان المبارك في هذه الفترة متأثراً بالأمير شكيب أرسلان وبمؤلفاته، وما كان ينشره في الدعوة إلى الوحدة الإسلامية والتحرر من الاستعمار. وقد أتيح له الالتقاء بالأمير في باريس عندما كان طالباً في جامعتها.
- وكان ممن أثروا في توجيه المبارك الفكري من القدماء بآثارهم التي قرأها: ابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية، ذلك أنه وقع في مكتبة جده على كتاب الحسبة لابن تيمية فأعجب بتفكيره ونقاشه وبحثه، كما قرا كتاب (الطرق الحكمية في السياسة الشرعية) ثم اطلع على (أعلام الموقعين) لابن القيم وكان حينئذ طالباً في الحقوق. ولهذه الكتب الثلاثة صلة بالعلوم الحقوقية ففتحت أمامه آفاقاً جديدة وكشفت له عن جوانب من عظمة التشريع الإسلامي ومن إبداع الفقهاء والمفكرين المسلمين، ثم اطلع على مجموعة رسائل ابن تيمية وغيرها من الكتب، فاستهواه النقاش بين الصوفيين والسلفيين.
- بعد أن تخرج محمد المبارك من الجامعة السورية، أوفدته الدولة مع من أوفدتهم إلى جامعة السوربون في باريس ليدرس في كلية الآداب وفي معهد الدراسات الإسلامية التابع لها ثلاث سنوات. درس في السنة الأولى الأدب العربي والثقافة الإسلامية، وعرف المستشرقين عن كثب، وكثيراً ما كان يصحح لهم معلوماتهم.
وخصص السنة الثانية من دراسته لدراسة الأدب الفرنسي وعصوره وفنونه وأعلامه، وكان من أبرز أساتذته الأستاذان المستشرقان المشهوران: مارسيه وماسينيون.
أما السنة الثالثة فخصصها لدراسة علم الاجتماع وكان أساتذته من كبار علماء الاجتماع الفرنسيين. وقد استفاد المبارك من فرعي الأدب الفرنسي وعلم الاجتماع استفادة كبيرة جداً مكنته من الولوج في صميم الثقافة الغربية والتفكير الغربي ومذاهبه الفكرية والأدبية من منابعها الأصيلة وعن طريق الاختصاص من أهلها.
- ولم يكن يقتصر المبارك على محاضرات الجامعة، بل كان يحضر المنتديات والمحاضرات العامة ويتردد على مختلف المعاهد العلمية والنوادي على تعدد اتجاهاتها وألوانها.
وقد تعرف في باريس إلى جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وكان يتردد على نواديهم ويتعاون معهم في مجال الدعوة الإسلامية التي كانت أشمل من محاربة الاستعمار والتحرر والاستقلال.
- عاد محمد المبارك من باريس مجازاً في الأدب العربي وفي علم الاجتماع، وتم تعيينه عام 1938 أستاذاً للأدب العربي في المدرسة الثانوية بمدينة حلب، وخلال وجوده في هذه المرحلة من حياته في حلب تزوج زوجته الحلبية من عائلة آل البيانوني المعروفة بالعلم والصلاح، وهي أم أولاده.
وظل في حلب سنتين، ثم نقل إلى دمشق وتابع فيها مهمته، حيث درس في ثانويتها الكبرى الأدب العربي والأخلاق والمنطق والنصوص الفلسفية، ودرس كذلك في دار المعلمين العليا وكان له نشاط ملحوظ في المحاضرات العامة في مختلف نوادي العاصمة في شتى الموضوعات في اللغة والأدب والقضايا الاجتماعية والإسلام.
- وفي عام 1945 تم جلاء القوات الأجنبية عن سورية، وكانت بداية الحكم الوطني المستقل، وجرت في وزارة المعارف تنظيمات جديدة كان من جملتها إحداث لجنة فنية عليا في الوزارة تتألف من مختلف الاختصاصات لوضع الخطط والمناهج والأنظمة، كما تم إحداث هيئة تفتيشية للتعليم الثانوي في عموم سورية، فعين الأستاذ محمد المبارك عضواً في اللجنة الفنية للتربية ومفتشاً اختصاصياً لسورية لمادتي اللغة العربية والدين.
وعن هذا الطريق عرف جميع المحافظات السورية التي كان يزورها وكثيراً ما كان يكلف بتفتيش مواد اللغة الفرنسية والفلسفة لعدم وجود مفتشين لهذه المواد يومئذ.
وفي تلك الفترة كُلف بوضع مناهج اللغة العربية والدين للمدارس الثانوية منفرداً، وعمل في ذلك عملاً جاداً استغرق نحو شهرين أنجز خلالهما وضع مناهج المادتين لجميع سنوات التعليم الثانوي الست.
- وفي سنة 1946 أقصي الأستاذ المبارك عن التفتيش واقتصر عمله على عضوية اللجنة الفنية وذلك بسبب ما قام به من نشاط إسلامي في المحافظات التي كان يزورها للتفتيش، وذلك بإلقاء المحاضرات العامة في أهم الموضوعات المتعلقة بالإسلام والتعريف بدعوته أو بالقضايا الإسلامية المعاصرة.
- وفي عام 1947 قدم استقالته من وزارة التربية ليتمكن من ترشيح نفسه للانتخابات النيابية عن مدينة دمشق تلبية لرغبة رابطة العلماء والجمعيات الإسلامية، وقد انتخب ثلاث مرات عن مدينة دمشق خلال الفترة من 1947 ـ 1958.
كما عين المبارك خلال الفترة 1949 ـ 1952 وزيراً للأشغال العامة ثم وزيراً للمواصلات ثم وزيراً للزراعة.
واستمر نشاطه الإسلامي السياسي حتى عام 1958 الذي تمت فيه الوحدة بين مصر وسورية وحينئذ انصرف إلى العمل الجامعي العلمي، وفضل التدريس والكتابة وإلقاء المحاضرات ليرفع مستوى الوعي الإسلامي العام عند الجماهير الإسلامية.
- لم يمنع نشاط الأستاذ محمد مبارك السياسي منذ أواخر عام 1947 عن استمراره في التدريس، فقد كلف في أوائل عام 1948 بتدريس مادة فقه اللغة ثم الدراسات القرآنية في قسم اللغة العربية في كلية الآداب بجامعة دمشق، واستمر في تدريس هذه المواد نحواً من عشر سنوات.
وانقطع فترة ثم عاد لتدريس فقه اللغة حتى عام 1966. كما عين أستاذاً في كلية الشريعة في جامعة دمشق منذ تأسيسها سنة 1954، وشارك مشاركة أساسية في وضع خطتها ومناهجها.
وحين أنشئت الأقسام في الكلية كان رئيس قسم العقائد والأديان. كما تولى عمادة كلية الشريعة في جامعة دمشق (1958 ـ 1963) وذلك بعد عميدها الأول الأستاذ الدكتور مصطفى السباعي.
وكان مجلس جامعة دمشق قد اختاره عام 1960 ممثلاً له في المجلس الأعلى للتخطيط الجامعي للجمهورية العربية المتحدة في القاهرة لذلك العام.
- وتم انتدابه من جامعة دمشق إلى جامعة أم درمان الإسلامية في السودان تلبية لطلب مديرها، فعمل فيها من 1966 ـ 1969 أستاذاً ومشاركاً في التخطيط ورئيساً لقسم الدراسات الإسلامية، وفي خلال هذه المدة عام 1968 قدم استقالته من جامعة دمشق.
كما أنه درّس في كلية الحقوق بجامعة الخرطوم مادة السياسة الشرعية.
وفي عام 1969 اقترح عليه وزير المعارف في المملكة العربية السعودية العمل فيها، فقبل واختار الإقامة في مكة المكرمة، وعُين أستاذاً ورئيساً لقسم الشريعة والدراسات الإسلامية في كلية الشريعة بمكة المكرمة، وكان عارفاً بوضعها لأنه كان قد اشترك في وضع خطتها وبعض مناهجها في عام 1964، وبقي في هذا العمل أربع سنوات ثم عُين أستاذاً باحثاً ومستشاراً في جامعة الملك عبد العزيز بجدة، وفي أثناء تلك الفترة عمل أستاذاً زائراً في الجامعة الأردنية خلال الفصل الدراسي الثاني لعام 1977 وفي فصول دراسية أخرى.
وبقي يمارس التدريس في الجامعات حتى وفاته.
- كان الأستاذ المبارك عضواً في مجمع اللغة العربية (المجمع العلمي) بدمشق، وعضواً في المجلس الأعلى الاستشاري في الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة.
- الأستاذ محمد المبارك عالم متمكن وداعية مفكر، عمل في حقل الدعوة الإسلامية منذ ريعان شبابه، ووهب نفسه لها، وجعلها هدف حياته، وقد اختار مهنة التدريس ليشارك في إعداد الأجيال، وكان خلال فترة تدريسه إذا توسم في فتىً خيراً اتصل به ورعاه وغذاه بالنصائح، وكانت له حلقات يعالج فيها موضوعات إسلامية عملية ومشكلات اجتماعية مع طلاب ومدرسين وعمال، كما كان له نشاط متواصل في إلقاء محاضرات عامة في مختلف المستويات.
- ولم يقتصر نشاطه على المدن بل كثيراً ما كان يخرج مع فريق من الشبان إلى القرى للدعوة والتوعية.
- وكان للأستاذ محمد المبارك مشاركة في نشاط وتأسيس عدد من الجمعيات الإسلامية فعندما تأسست جمعية الشبان المسلمين في دمشق كان هو رئيسها، ولما أسس الدكتور مصطفى السباعي مدرسة الدعوة في دمشق سنة 1947/1948 كان المبارك يحاضر فيها هو والسباعي وثلة من الأساتذة المرموقين.
- والأستاذ المبارك من مؤسسي جماعة الإخوان المسلمين في سورية، وكان يمثلهم في البرلمان السوري، وكان الساعد الأيمن للسباعي ومستشاره السياسي والتنظيمي والاجتماعي. وكان دائماً عضواً في إدارة مركز دمشق أو رئيساً للإدارة، وكان يتناوب مع السباعي في إلقاء المحاضرات في المركز العام للإخوان في حي الشهداء بدمشق، أو في باب الجابية، وكان يصحب السباعي في رحلاته وزياراته لمراكز الجماعة.
- وبعد أن غادر سورية بقي المبارك على صلات طيبة مع الإخوان حتى آخر لحظة من حياته... كان مع الإخوان السوريين حيث يوجد إخوان سوريون، وكان مع الإخوان في سائر الأقطار التي يزورها أو يقيم فيها، يقدم لهم إرشاداته ونصائحه، ويعطيهم تجاربه العلمية التي اكتسبها طوال عمره السياسي والتنظيمي. وكان له دور في ترشيد الحركة الإسلامية، وتقديم النصح والمساعدة المادية والمعنوية من خلال عمله في ميدان الدعوة الإسلامية على الصعيدين الشعبي والثقافي.
وكانت له اتصالات بعدد من الشخصيات الإسلامية والعربية، ومشاركات مستمرة في المؤتمرات العالمية في ميدان الثقافة والدراسات الإسلامية والعربية والدولية، وساهم بفاعلية في توضيح مفهوم الإسلام ودوره الحضاري في عالم اليوم، كما كان له دور بارز ضمن الوفود الإسلامية التي شاركت في المؤتمرات الدولية لاسيما في الحوار الإسلامي المسيحي.
أهم مؤلفاته
- فن القصص في كتاب البخلاء للجاحظ.
- من منهل الأدب الخالد.
- عبقرية اللغة العربية.
- فقه اللغة وخصائص العربية.
- الأمة العربية في معركة تحقيق الذات.
- المجتمع الإسلامي المعاصر.
- الأمة والعوامل المكوِّنة لها.
- جذور الأزمة في المجتمع الإسلامي.
- نحو صياغة إسلامية لعلم الاجتماع.
- نحو إنسانية سعيدة.
- العقيدة في القرآن الكريم.
- نظام الإسلام.. العقيدة والعبادة.
- نظام الإسلام.. الحكم والدولة.
- نظام الإسلام.. الاقتصاد.
- نظام الإسلام العقائدي في العصر الحديث.
- ذاتية الإسلام أمام المذاهب والعقائد.
- الدولة ونظام الحسبة عند ابن تيمية.
- نظرة الإسلام العامة إلى الوجود وأثرها في الحضارة.
- الفكر الإسلامي الحديث في مواجهة الأفكار الغربية.
- القرآن عربي الخطاب.
- نحو وعي إسلامي جديد.
- المشكلة الثقافية في العالم الإسلامي.
- مذكرات في الثقافة الإسلامية.
- الإسلام والفكر العلمي.
- بين الثقافتين: الغربية والإسلامية.
وله عشرات البحوث والمقالات المنشورة عن موسوعة الفقه الإسلامي، وعن تاريخ الرياضيات عند المسلمين، والتجارب العلمية عند المسلمين، ومذكرات في التشريع الإسلامي مع مقارنته بالتشريع الغربي... إلخ، فضلاً عن الكثير من المحاضرات في مكة المكرمة والجزائر ولاهور ودمشق والرياض، والخرطوم، وأمريكا، وقطر، وباريس، والرباط، وجدة، وإسطنبول، وأبوظبي، وعمَّان وغيرها، بالإضافة لزياراته المتعددة للمدن السورية، وإلقاء المحاضرات والدروس، وعقد المؤتمرات والندوات، لشرح الفكرة الإسلامية، وبيان منهج الإسلام الحق.
من أقواله
"لا بد لنا ونحن في ميدان العلوم المادية، والحياة العلمية في الحضارات الغربية الأجنبية المعاصرة، أن نستفيد من تجربة اللغات الأجنبية، ما يعيننا في تجربتنا، على أن نعرف لكل لغة خصائصها وطرائقها في الاشتقاق والتوليد، مع الحذر من التقليد الحرفي، والنقل الآلي، والخلط بين خصائص اللغة أو فنون آدابها، والانسياق في تيار نظريات المستشرقين وأصحاب المذاهب الاجتماعية.
ولو نظرنا إلى اللغات الأخرى التي كانت حين ظهور الإسلام، كالفارسية واليونانية، لوجدنا أنها تبدَّلت على مر العصور، حتى غدت اليوم لغة أخرى، ولو نظرنا كذلك إلى اللغات المنتشرة في عصرنا، والتي هي لغة الثقافة والعلم، كالفرنسية والإنجليزية والألمانية والروسية، لوجدنا أنها لا تكاد تفهم من أصحاب اللغة أنفسهم، لشدة ما أصابها من التبديل الأساسي في ألفاظها وفي معاني ألفاظها، وليس ذلك في العربية التي تميزت من سائر اللغات بخاصية عظيمة النتائج، جليلة الفوائد، ذلك أن ألفاظها كلها ترجع إلى أصول ثابتة، ومهما يكن تطور الكلمة العربية في معناها، فإنها ترجع إلى أصل ثابت في حروفه وفي معناه الأصلي العام.
إن الإسلام ثابت في مفاهيمه العامة، واتجاهاته والمعالم الكبرى التي رسمها للحياة الإنسانية، قابل لتنوع الأساليب في التطبيق، ومراعاة مختلف الأحوال والمراحل والشروط الاجتماعية، وكذلك اللغة العربية، فهي ثابتة الأصول والجذور، قادرة على متابعة تطور الإنسان في التعبير عن مختلف حالاته، وبذلك يلتقي الإسلام على أنه رسالة، والعربية على أنها وسيلة للتعبير، وتلك هي الحكمة في نزول القرآن بالعربية، وفي النص على ذلك في محكم الكتاب: إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون (2) (يوسف) مع أن خطاب القرآن عام للناس جميعاً، ولم يرد فيه تخصيص كونه للعرب، واللغة العربية هي التي حملت رسالة الإسلام، فغنيت بألفاظ كثيرة جديدة للتعبير عن المفاهيم والأفكار والنظم وقواعد السلوك التي جاء بها الإسلام.
ولقد آثرت ولا سيما بعد اشتغالي بالتدريس الجامعي أن أحافظ على خطوط فكرية ثلاثة، كنت دوماً أتنقل بينها، وأتابع الدراسة والبحث في آفاقها، وهي: اللغة، والفكر الإسلامي، وخصائص الأمة العربية.. وذلك حفاظاً على لغة القرآن التي هي أداة تفكيرنا، وفن تعبيرنا، ووسيلة أدائنا لرسالتنا، والتي بها توارثنا مكارم أمتنا، وبها نزل كتاب الله علينا، وفيها يكمن الكثير من قوتنا، والثمين من تراثنا.
فالأمة العربية بمكانها الثقافي والجغرافي، وموقعها القيادي في العالم الإسلامي، تستطيع أن تقوم بدور المنقذ، وأن تكون رائدة للحضارة الإنسانية المقبلة، وطليعتها.
فلابد من التحرر من آثار التشويه والانحراف الذي أصاب الإسلام في فهم المسلمين له.
والتحرر من نقائص الحضارة الأوروبية الحديثة الفلسفية الفكرية والعملية السلوكية، مع استبقاء مكاسبها الصالحة النظرية والعملية، وإحلال الإسلام باعتباره نظاماً عقائدياً كاملاً محل ذلك.
ولقد كانت الأحداث التي عاصرتها، تشهد الصراع بين أنصار الدين وأنصار الإلحاد والعلمانية، والصراع عن الاستعمار، وكانت الثورة السورية على فرنسا من الأحداث التي عشت في أجوائها، كما كان لكثير من الأحداث في شتى البلدان الإسلامية أصداء قوية، كإلغاء أتاتورك للخلافة، وإمعانه في محاربة أي صلة للأتراك بالإسلام واللغة العربية، وكالظهير البربري، أعني المرسوم الفرنسي القاضي بفصل البربر عن العرب في المغرب، لقد كنا نعيش بعواطفنا وعقولنا في جانب المناصرين للدين، والثائرين على الاستعمار، والداعين إلى وحدة المسلمين، فضلاً عن وحدة العرب".
معرفة المستشار عبدالله العقيل به
حين كنت أدرس في بغداد في الثانوية الشرعية بالأعظمية سنة 1947م، وكان زملائي إبراهيم المدرس و يوسف العظم ، و نعمان السامرائي ، و حافظ سليمان ، كان لنا نشاطنا الإسلامي المتميز في الثانوية الشرعية، ومع إخواننا في الأعظمية وبغداد عموماً، وكان الإخوان المسلمون في العراق، وعلى رأسهم الأستاذ محمد محمود الصواف ، المراقب العام للإخوان المسلمين، يتابعون النشاط الإسلامي المكثف في سورية، الذي يقوده الإخوان المسلمون من خلال البرلمان السوري الذي نجحوا في دخول بعض شخصياتهم فيه، وكان لهم الدور الفاعل والمؤثر بالمناداة في جعل الدستور السوري يستمد أحكامه من الشريعة الإسلامية، باعتبارها المصدر الرئيس للدستور، وقد نجحوا في ذلك والحمد لله، مما أعطانا الشجاعة للتحرك في أوساط الجماهير، للمناداة بأن تكون الشريعة الإسلامية المصدر الأساس للتشريعات في الدساتير العربية.
وكانت زياراتي لسورية فيما بعد، ولقاءاتي مع أستاذنا الدكتور السباعي وإخوانه: الأستاذ المبارك، و عبد الفتاح أبو غده ، و سعيد العبار ، و بشير العوف ، و زهير الشاويش ، و محمد خير العرقسوسي ، وعصام العطار ، وغيرهم من رجالات الدعوة في بلاد الشام.
وكانت مكتبات الإخوان المسلمين في العراق تحرص على توفير الكتاب الإسلامي لشباب الرافدين، وبخاصة مؤلفات الأعلام من الدعاة ورجال الفكر الإسلامي، ومنهم الأستاذ محمد المبارك الذي اتسم بالشخصية المتميزة، والمنهجية الموضوعية، وسعة الأفق الثقافي، حيث جمع بين الدراستين: دراسة الشرق العربي الإسلامي في الفقه والتوحيد والتاريخ واللغة والتراث، ودراسة الغرب في الفلسفة والفكر واللغات.
فكان يرى أن أهم خصائص الحضارة العربية الإسلامية: اتصال العقيدة بالنظام، والنظام بالعقيدة، وأن الغزو الفكري الغربي للعالم الإسلامي، قد أحدث أزمة جذرية عنيفة، وثورة فكرية تشكك في قيم الإسلام ومفاهيمه وتاريخه.
وأن الواجب على الدعاة والمفكرين، التصدي لهذه الهجمة الشرسة على الإسلام كدين، وعلى المسلمين كأمة، وهذا ما اضطلع بمسؤوليته دعاة الإخوان المسلمين في مصر والسودان وبلاد الشام والعراق، فكانوا فرسان الميدان، الذين يصولون ويجولون ويكشفون زيف الدعاوى المناهضة للإسلام التي يتبناها المستشرقون، وتلامذتهم في البلاد العربية والإسلامية.
قالوا عنه
يقول الأستاذ مصطفى الزرقاء: "كان الأستاذ محمد المبارك أوّل من فكر بضرورة إعادة النظر في علم الاجتماع الذي يدرس بوضعه الحالي الذي يؤدي إلى الإلحاد، حيث يرى ضرورة كتابة علم اجتماع إسلامي متفق مع مسلمات الإسلام وثوابته في القرآن والسنة النبوية، وقد كلف في آخر حياته في الجامعة الأردنية بتدريس علم الاجتماع الإسلامي على صعيد الجامعة للطلاب من جميع الكليات.
وقد تولى الأستاذ المبارك عمادة كلية الشريعة في جامعة دمشق بعد مرض عميدها الأول الأستاذ الدكتور مصطفى السباعي، فأدارها خير إدارة، وخلف الدكتور السباعي خير خلافة.
حدثني الأستاذ المبارك عن أستاذه المستشرق "ماسينيون" أنه قال لمجموعة من الطلاب وفيهم المبارك: نحن المستشرقين بذلنا جهوداً كبيرة خلال ثلاثة أجيال في تتبع مخطوطات القرآن الكريم من أقدم ما هو محفوظ في دور الآثار والمكتبات العالمية، حتى الأوراق المفردة المقطوعة من مصاحف قديمة فقدت، وقارنا كل ذلك بالمصاحف المطبوعة، لكي نعثر على أي اختلاف بين المصاحف، من مصحف عثمان إلى مختلف العصور، حتى المصاحف في عصرنا، ولو كان اختلافاً في آية أو جملة أو كلمة، فلم نجد أي اختلاف، مما جعلنا نعتقد مستيقنين أن القرآن الذي نطق به محمد صلى الله عليه وسلم باق إلى اليوم، كما نطق به لم يتبدل فيه شيء".
ويقول الدكتور يوسف عبد الله القرضاوي : "كان الأستاذ محمد المبارك أحد الذين يفكرون بالإسلام، ويفكرون للإسلام، وهكذا عاش لهذا الدين، وعاش بهذا الدين، فهو أحد العقول القلائل في هذا العالم الإسلامي التي تفكر بالإسلام وتفكر للإسلام، إن من خصائص تفكير الأستاذ المبارك، النظرة الشمولية للإسلام، فالإسلامم وحدة لا تتجزأ، الإسلام كلٌّ شاملٌ، كذلك يتميز الأستاذ المبارك بالاعتدال والتوازن، إنه لا يقف على طرف ضد طرف آخر، إنه يحاول أن يقف الموقف الذي وصف الله به أمة الإسلام: وكذلك جعلناكم أمة وسطا (البقرة:143) ومن كلماته التي سمعتها منه أنه يقول: "إن منهجي هو تسليف الصوفيين، وتصويف السلفيين" فلابد أن نطعّم الصوفية بالسلفية المعتدلة المستمدة من كتاب الله وسنة رسوله، ولابد أن نطعّم السلفية بقدر من الروحانية المشرقة المعتدلة، وهكذا كان منهج شيخ الإسلام ابن تيمية وتلميذه ابن القيم، فقد كانوا ربانيين أهل روحانية وإشراق، وعلى هذا المنهج سار الأستاذ محمد المبارك".
ويقول شقيقه الدكتور مازن المبارك : "أشهد أنني قضيت مع شقيقي الأستاذ محمد المبارك عمراً في الطفولة والشباب، في البيت وفي العمل، في السفر وفي الإقامة، فما عرفت له نظيراً ولا شبيهاً، وإن أبرز ما يميزه عندي أمران:
الأول: أنه لا يعرف الراحة التي يعرفها الناس، ولا يطلبها، فما رأيته في حياتي كلها إلا وهو في عمل جاد.. فإذا تعب جسمه، أو اعتلَّ وذهب ليستريح، كان له عمل آخر، من قراءة كتاب، أو كتابة بحث، لا يفتر عن واحدة منهما حتى بين الرشفة والرشفة من الشاي الأخضر الذي كان مغرماً به.
الثاني: أنه كان ينسى أكثر ما يتصل به أو بأهله، ولا ينسى أحداً يتصل بمصلحة إسلامية، فإذا أوصته زوجه على دواء نسيه، وإذا أوصيته على كتاب نسيه، وإذا كان له موعد عند طبيب أو خياط نسيه أو تأخر عنه.. بل هل رأينا أو سمعنا أن أحداً نسي ليلة عرسه!! لقد نسي ليلة عرسه، وظلّ يخطب في احتفال أقيم لزميل له لم يفز بالنيابة في الدورة الأولى من الانتخابات التي فاز هو فيها، وكان على زميله أن يدخل المعركة ثانية، وتوافد المدعوون إلى حفل زفافه، وحان الوقت، وقلق الناس الذين ينتظرون ليأخذوه بموكب عرس إلى دار العروس.. وهو ذاهل عن كل هذا، وأنا أبحث عنه، حتى وجدته على المنبر، فأرسلت إليه ورقة كتبت فيها: لقد تأخرت كثيراً.. والناس ينتظرون، والعروس تنتظر، هل نسيت ليلة عرسك؟!".
ويقول الأستاذ أنور الجندي: "من خلال التأمل في شخصية الأستاذ محمد المبارك، تبدو لنا ملامح شخصية باحث عربي إسلامي نابه، يلفت النظر بأصالته ومرونته وعمقه في تناول القضايا المصيرية للعالم العربي والأمة الإسلامية، وهو واحد من روَّاد المدرسة التأصيلية التي تجمع بين التجديد والبناء على أساس من القيم الأساسية للفكر الإسلامي والثقافة العربية.
ويقول الأستاذ محمد المجذوب : "كان أول لقاء جمعني بأبي هاشم محمد المبارك في مدينة طرطوس من الساحل السوري قبل ثلث قرن، يوم دخل عليَّ الفصل وأنا أشرح بعض النصوص من شعر ابن الرومي، ثم تتابعت الأيام والشهور لتزيد صلتنا قوة ورسوخاً، حيث اجتمعنا في سبيل الأخوة في الله تحت راية العمل الإسلامي مع الثلة المختارة من حملة الدعوة الذين كانوا يتحلقون حول رجلها الملهم المجاهد الدكتور مصطفى السباعي المراقب العام للإخوان المسلمين في سورية.
إن المتأمل في مراحل هذه الشخصية للأستاذ محمد المبارك يلمح غاية الله في إعدادها لحمل هذه الأمانة منذ تفتحها في ذلك الوسط الإسلامي العريق من دمشق، حيث غذي بحب الإسلام والعروبة ثم زود بالمقومات التربوية والثقافية التي حفظت عليه ذاتيته من الذوبان أمام إغراءات الغرب".
ويقول الأستاذ عبد الله الطنطاوي : "كان الأستاذ محمد المبارك يحب الناس ويمشي في حاجاتهم، ولما كان وزيراً كان الوزير القدوة في كل وزارة دخلها، يخدم إخوانه ويدعو إلى جماعته بسلوكه الإسلامي المتزن، وبلسانه العف الذي اعتاد على أن يقول الخير أو يصمت، وفي الجامعة كان مثال الأب الحاني على أبنائه الطلاب والطالبات، وكان الذين يعملون بإمرته يحبونه ويجلّونه، لما يرون فيه من استقامة.
كان يعيش حياة وسطاً، حتى إنه عندما كان وزيراً لم يكن يملك سوى معاشه الشهري الذي ينفقه على أسرته، ولم يكن له بيت يملكه إلا في عام 1963م بفضل قطعة أرض اشتراها منذ زمن طويل، ثم ارتفع ثمنها فتفاوض مع بعض الناس على أن يعمروها ويعطوه شقة فيها.
وكان من أبرز مفكري الإخوان المسلمين، ليس على مستوى سورية وحدها، بل على مستوى العالم الإسلامي، وكتبه جديرة بإعادة طباعتها، والترويج لها، ودراستها، ففيها ما ليس في سواها من كتب الدعاة.. فيها وعي عميق، وثقافة نادرة، في أسلوب عربي قرآني متميز".
ويقول الأستاذ حسني أدهم جرار : "العالم المفكر، والسياسي المتمرس، والداعية المربي، الأستاذ محمد المبارك كان فقيهاً باحثاً، وأديباً متميزاً، ورائداً من روَّاد الفكر العربي الإسلامي المعاصر.
كان عالماً متفتح الذهن.. آتاه الله علماً واسعاً، وذكاء حاداً، ورأياً سديداً، وبصيرة نافذة، وقدرة على الحوار.
وكان من الناس الذين جمعوا بين الثقافتين: الثقافة العربية الإسلامية، والثقافة الغربية، وجمع بين الدراسة الدينية وبين الدراسة المدنية، وكان لهذا الجمع أثر واضح في وعيه وتفكيره ونشاطه". وقد أصدر الأستاذ حسني أدهم جرار كتاباً قيماً عن الأستاذ محمد المبارك، استفدت منه كثيراً.
وفاته
كان من عادة الشيخ محمد المبارك أن يتوجه من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة بين فترة وأخرى للصلاة في المسجد النبوي.
وفي إحدى المرات، وهو متوجه من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة ، بعد محاضرة ألقاها في جامعة الملك عبدالعزيز في جدة، يوم الإثنين 4-2-1402ه، وبعد مكوثه لمدة يومين بالمدينة المنورة مع أسرته، وفيما كان الشيخ المجذوب يستعد لاستضافته على طعام الغداء في منزله يوم الخميس 7-2-1402ه، إذا بالهاتف ينقل له خبر وفاة الأستاذ المبارك وهو في طريقه إلى مستشفى المدينة المنورة، إثر نوبة قلبية، بعد وقت قصير من عبارة قالها وهو يمرُّ من أمام مقبرة البقيع: "هنيئاً لمن يُدفن في البقيع" قبل وصوله للمستشفى، وقد صُلي عليه في مسجد "قباء" عقب صلاة الجمعة، ودُفن في مقبرة البقيع بالمدينة، حيث كان يتمنى ذلك.
رحم الله أستاذنا أبا هاشم محمد المبارك رحمة واسعة، وأسكنه فسيح جناته مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقاً.
المراجع
- (محمد المبارك العالم والمفكر والداعية)، حسني أدهم جرار، دار البشير، عمان، الطبعة الأولى 1988.
- (موسوعة السياسة)، عبد الوهاب الكيالي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الأولى 1990، ص(100).
- محمد المبارك مجلة المجتمع 2006/01/07
للمزيد عن الإخوان في سوريا
1- الشيخ الدكتور مصطفي السباعي (1945-1964م) أول مراقباً عاماً للإخوان المسلمين بسوريا ولبنان. 2- الأستاذ عصام العطار (1964- 1973م). 3- الشيخ عبدالفتاح أبو غدة (1973-1975م). 4- الأستاذ عدنان سعد الدين (1975-1981م). 5- الدكتور حسن هويدي (1981- 1985م). 6- الدكتور منير الغضبان (لمدة ستة أشهر عام 1985م) |
7- الأستاذ محمد ديب الجاجي (1985م لمدة ستة أشهر). 8- الشيخ عبدالفتاح أبو غدة (1986- 1991م) 9- د. حسن هويدي (1991- 1996م). 10- الأستاذ علي صدر الدين البيانوني (1996- أغسطس 2010م) 11- المهندس محمد رياض شقفة (أغسطس 2010) . |