إمام ....... ودبلوماسي
إمام ....... ودبلوماسي
يحار الكاتب عندما يحاول أن يتحدث عن شخصية العروبة والإسلام الإمام الشهيد الشيخ حسن البنا ـ رضي الله عنه ـ وطيب ثراه فإنها ذات نواح عديدة ومتشعبة، تناولت كافة نواحي الحياة العامة، جاوزت في اتساعها النطاق القومي والإقليمي إلى المحيط العالمي والإلمام بكل هذه النواحي يتطلب أسفارا يتذاكرها الخلف عن السلف لقرأوا فيها اسمى معاني الجهاد والتضحية
يحار الكاتب عندما يحاول أن يتحدث عن شخصية العروبة والإسلام الإمام الشهيد الشيخ حسن البنا ـ رضي الله عنه ـ وطيب ثراه فإنها ذات نواح عديدة ومتشعبة، تناولت كافة نواحي الحياة العامة، جاوزت في اتساعها النطاق القومي والإقليمي إلى المحيط العالمي والإلمام بكل هذه النواحي يتطلب أسفارا يتذاكرها الخلف عن السلف لقرأوا فيها اسمى معاني الجهاد والتضحية ولهذا سأقصر هذا البحث على تناول ناحية معينة لمستها في الفقيد الكبير بحكم عملي كمحرر للشئون الخارجية وهي ناحية الدبلوماسية التي قد تغيبت عن الكثيرين من معارفه، تاركا لغيري ممن هم أقدر مني على معالجة النواحي الأخرى وإيفاء هذه الشخصية الفذة حقها في التمجيد والتخليد احقاقا للتاريخ وتكريما للبطولة في شخص الفقيد.
الدبلوماسية في الإسلام
وأود قبل التحدث عن هذه الناحية الهامة من حياة الفقيد أن ألمح الماحة خاطفة إلى الدبلوماسية الإسلامية فأقول : إن الإسلام وضع قواعد الدبلوماسية المثالية الصحيحة لا الدبلوماسية الخبيثة المنافقة التي تقوم عليهاالسياسة الدولية اليوم وقد ضرب سيد الأنام ومن بعده خلفاؤه أمثلة لا حصر لها في الدبلوماسية النظيفة سواء في اتصالاتهم الخاصة أو في علاقاتهم العامة.
الأمر الذي كان عاملا فعالا في نجاح السياسة الإسلامية واتساع نفوذها حتى ترامت إلى أقصى أطراف آسيا ثم امتدت إلى أفريقيا فأوربا وحسبنا أن نشير في هذه العجالة إلى أن نظام رسول الملك المعمول به في السلك الدبلوماسي الانجليزي أو في عرف السياسة الدبلوماسية الأمريكية كان قائما فعلا على عهد النبي عليه الصلاة والسلام فقد كان يبعث برسله إلى الملوك حاملين رسالة الحق والهدى ويتبادل معهم الكتب عن طريق هؤلاء الرسل كما فعل مع المقوقس عظيم القبط في مصر.
وفي يقيني أن السالة المعروفة التي بعث بها عمرو بن العاص إلى عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ عقب فتح مصر من أمتع التقارير الدبلوماسية التي عرفها التاريخ فقد استطاع في عبارات بليغة موجزة أن ينقل إلى الخليفة صورة صادقة عن هذه البلاد، تناولت النواحي الاقتصادية والجغرافية والزراعية بل وصف نفسية الشعب المصري وتواكله وتأثره بغزارة القوة الانتاجية الطبيعية أدق وصف إذ قال يزرعون الحب وينتظرون الثمار من الرب.
تعارض وتناقض
وقد كنت أعتقد أن تطور الدبلوماسية الحديثة وخروجها عن المبادئ السامية والمبادئ الرفيعة التي حرص عليها الإسلام في صدره لم تعد تتفق مع داعية في القرن العشرين يحاول بعث المثل الإسلامية في عالم اختفت به كل معايير الأخلاق والقيم الإنسانية وخاصة في مجال السياسة، ولهذا فقد كنت شخصيا اشفق من فشل الإمام الشهيد كسياسي ودبلوماسي لا لقنص الكفاء أو الذكاء فقد كانا موفرين في شخصيته الفذة وإنما لتعراض وتناقض أساليب الدبلوماسية الإسلامية النظيفة مع أساليب الدبلوماسية لحديثة التي تقوم على الختل والرياء والكذب وقد جاهرت برأيي هذا في جريدة الأخوان واتسع صدر تلك الصحيفة الحرة لتقبل رأيي عن سماحة روحابة بيد أن الأيام والأحداث أقنعتني فيما بعد بأنه حينما تصطدم المثل العليا بالمبادئ الوضعية تكون الغلبة دائما للأولى جريا على نظرية البقاء للأصلاح إذا ما تولى زمامها الرجل الأصلح.
جامعة للشعوب العربية والاسلامية
كان تفكير الإمام السياسي والدبلوماسي إقليميا ودوليا أكثر من قوميا وقد استطاعت حركة الإخوان بتشعبها في البلاد العربية ثم تراميها إلى البلاد الإسلامية من سواحل المحيط الهادي إلى مشارف المحيط الأطلنطي أن تلعب دروا كبيرا في ربط الشعوب العربية والإسلامية بعضها ببعض في عجلة محورها القاهرة وكانت شعب الإخوان ورسلهم بمثابة هيئات دبلوماسية شعبية كما كان قسم الاتصال بالبلاد العربية في المركز العام بمثابة جامعة للشعوب العربية والإسلامية يقوم يمثاقها على أساس توثيق العلاقات الثقافية والاقتصادية والسياسية والروحية بين هذه الشعوب وتنسيق حركاتها التحريرية في نطاق كتلة شعبية إقليمية ضخمة ضد الاستعمار الغربي.
فحركة الأخوان التي تزعمها الإمام الشهيد سبقت تفكير الحكومات العربية في إنشاء جامعة الدول العربية ومهدت لها ثم دعمت الجامعة العربي بعد تكوينها بقوتها الشعبية الهئلة بل إن هذه الحركة المباركة هيأت الأفكار للتكتل العربي الأسيوي الذي اتجه غليه تفكير أقطاب العرب أخيرا واستطاعت أن تجعل منه حقيقة واقعة قبل أن تفكر فيه الحكومات ذات الشأن نفسها.
ولو لم تعرقل الأغراض السياسية الاستعمارية نشاط حركة الأخوان المسلمين لاستطاعت تلك الجامعة الشعبية الإسلامية العربية بما لها من نفوذ روحي أن تحقق الأهداف التي يسعى لها اقطاب العرب اليوم جاهدين عن طريق التكتل العربي الأسيوي بدون عناء، وأن تحطم كل مناورة استعمارية تحاول إحباط هذا الاتجاه العملي الموفق.
ثورة الاستعمار
وقد أدرك الاستعمار الغربي خطورة أهداف الأخوان ونتائجها التي انعكست بوادرها في تكييف الحركات التحريرية في البلاد العربية والإسلامية من أندونيسيا إلى مراكش ومن سوريا إلى اليمن، فلم يتردد في محاربة حركة الأخوان بأقصى ما في وسعه من دهاء وقوة عن طريق التغرير بالحكومات تارة والضغط عليها تارة أخرى إلى أن نجح في شل نشاط هذه الحركة المباركة وللاسف !
هذه هي دبلوماسية الإمام إزاء البلاد العربية والإسلامية استطاعت بقوتها وسلامتها نظافتها أن تقهر دبلوماسية الغرب الملتوية الخادعة وأن ترسي في أقل من ربع قرن قواعد مكينة للتكتل الشعبي العربي الإسلامي، وأن تضفي على مصر زعامة إسلامية عززت مركزها الدولي وقوت نفوذها العالي.
دبلوماسية دولية
ولم تشغل مناضلة الاستعمار في البلاد العربية الإسلامية الإمام الشهيد عن متابعة مجرىالحوادث في الغرب، وقد استطاع أصدقاء الأخوان ودعاتهم ومبشروهم أن يؤسسوا في مختلف أنحاء أروبا وامريكا مراكز وهيئات كانت بمثابة بعثات دبلوماسية للحركة العربية الإسلامية المنبعثة من القاهرة.
وامتد هذا النشاط الدبلوماسي إلى أروقة هيئة الأمم المتحدة نفسها حيث كان صوت رسل الإخوان يدوي عاليا عند عرض كل قضية عربية غسلامية.
وقد رسم الإمام الشهيد سياسة الإخوان إزاء الغرب في نقط محددة معينة استعرضها في العدد الأول من الدعوة ويقيني لو أن الحكومات العربية والإسلامية أقامت سياستها على تلك الأسس وحددت علاقتها الدولية في ضوئها لاستطاعت أن تكسب لبلادها مقاما دوليا مرموقا وأن تحمل دول الغرب على احترام سيادتها وحريتها واستقلالها.
ولدبلوماسية الإمام في التعامل مع الغربيين أمثلة عديدة يضيق المقام عن حصرها وهي في مجموعها تنبئ عن مقام خارق والمعية بارعة وكياسة لبقه، وقد شهدت اجتماعات صحفية كثيرة عقدها الإمام مع كبار الصحفيين الأجانب ورأيت كيف استطاعت دبلوماسية الفقيد أن تحول في لحظات قصيرة أعدى أعدائه من هؤلاء الصحفيين الأجانب إلى أصدقاء معجبين.
وكثيرا ما كان يتحول الصحفي من هؤلاء من سائل إلى مسئول عن الأوضاع الاجتماعية والسياسية والتشريعية والاقتصادية في بلده فكانت اجتماعات الإمام الصحفية أشبه بمناظرات أو مقارنات بين المبادئ الإسلامية ومثل الغرب، وكان الفوز دائما في كفة الحق أو كفة الإمام.
وأن أنس لا أنسى حديثا جرى بين الإمام الفقيد وصحفي انجليزي كبير في آخر مؤتمر صحفي تجلت فيه عبقريته الدبلوماسية حيث سأله الصحفي عن موقف الإخوان من روسيا وكان يعلق أملا كبيرا على إجابة الإمام كزعيم ديني إسلامي، ولكن الفقيد الكريم خيب ظنه وأحبط محاولته إذ قال على الفور طأن روسيا في نظرنا فكرة ودولة، أما أنها فكرة فلدينا من مثلنا وتقاليدنا الإسلامية وأما أنها دولة فشأنها شأن سائر الدول سائر الدول الأجنبية سواء بسواء مثل أمريكا وبريطانيا وفرنسا وغيرها تقوم علاقاتنا معها على مدى ما تبديه نحونا من استعداد للتعاون وحسن النية.
وهكذا أسقط في يد الصحفي الانجليزي الذي صارحني برأيه قائلا أنه لن يبرق بهذا الحديث لصحيفته لأنه جاء مناقضا لما كان يتوقعه من موقف الأخوان إزاء روسيا على اساس أنها دولة يناقض مذبها مبادئ الأخوان ...
إلا رحم الله الإمام الشهيد وجزاه بقدر م أسدى للعروبة والإسلام من خدمات خالدة.