نفحات من ذاكرة الشهادة
نفحات من ذاكرة الشهادة
بقلم: محمد السيد
"وفي الليلة الظلماء يفتقد البدر".. رباه.. كم أعطى الإمام الشهيد من روحه نفحاً طيباً، اخترق به جدران الانغلاق بين مكونات شعوبنا! فقد وضع قبل الرحيل قواعد للتواصل بين الناس في مجتمعاتنا على اختلاف مشاربهم، فعلى ضفاف انهيار الخلافة، استيقظ العملاق، فرأى ما رأى.
لقد رأى من آيات الخذلان ما تشيب له الولدان: مستعمر يتغطرس فوق قناة السويس وعلى شواطئها، وأناس من بني وطنه وأوطان المسلمين الأخرى أكلتهم اللامبالاة، ودمر اليأس إراداتهم، وجلبت الفرقة والمماحكات الصغيرة، العار لصفوفهم، ووطأت الأكناف للمحتلين والطامعين. وكان الفتى الفذًُّ لايزال حديث عهدٍ بعمر، غض الإهاب، رقيق الحواشي، عذب الكلام، ذا شخصيةٍ جاذبة محببة، لكنه في الوقت نفسه، رفيع الأماني والآمال، عظيم السعي والعمل، ودون أسواره الإيمانية نفسٌ تواقة للعمل والدفع الحسن، والفعل التغييري تعتلي شواهق الجبال، وترخص كل شيء أو متاع دنيوي مهما غلا وطاب، من أجل الأمل والهدف، نفسٌ لا تملُّ ولا تكلُّ من السير بانفتاح عظيم نحو الآخر، من أجل بلوغ محطة الوصول، التي كانت واضحة في العقل الكبير، ومرسومة بجلاء على تحركات الشخصية "الكارزمية". ألم تشاهدوا الدماء الطاهرة في تلك الليلة الغادرة، تعطر شارع "نازلي" في القاهرة أمام "جمعية الشبان المسلمين"؟ ثم ألم يرتسم يوم 12 شباط (فبراير)1949م في الذاكرة المصرية والعربية والمسلمة، دلالة طريق وهدى، لأجيال ما زالت تسمع على المدى صيحة الشهيد تقول، رداً على من يدعي أن الإخوان يحتكرون الحقيقة: "يعلم الإخوان ذلك، فهم لهذا أوسع الناس صدراً مع مخالفيهم، ويرون أن مع كل قومٍ علماً، وفي كلِّ دعوةٍ حقاً وباطلاً، فهم يتحرَّون الحق ويأخذون به، ويحاولون في هوادة ورفق إقناع المخالفين بوجهة نظرهم، فإن اقتنعوا فذاك، وإن لم يقتنعوا فإخوان في الدين نسأل الله لهم الهداية" (من رسالة دعوتنا). إنها كلمات تخترق الانغلاق، وتركب فوق صهوات الانفتاح، لتوسع دائرة الطِّراد المحمود، في ساحات العمل الجاد لرفعة الأمة، مستلهمة قول ربنا: وإنا أو إياكم لعلى" هدى أو في ضلال مبين (24) (سبأ)، وراسمة الطريق على هدي الكلمات التالية: "وأما موقفنا من الهيئات الإسلامية على اختلاف نزعاتها فموقف حبٍّ وإخاءٍ وتعاون وولاء، نحبها، ونعاونها، ونحاول جاهدين أن نقرِّب بين وجهات النظر، ونوفق بين مختلف الفكر.. ولا يباعد بيننا وبينها رأيٌ فقهي أو خلاف مذهبي، فدين الله يُسْرٌ ولن يشاد أحد إلا غلبه" (من رسالة المؤتمر الخامس). ها هو الإناء الذهبي المعطر، ينثر محتوياته بشذاها المنعش الموحد للصفوف، ليس كلاماً وحسب، فقد كان من أصدق أصدقاء الشهيد المقربين منه، رجل رجال القبط الأحرار "مكرم عبيد"، الذي سار وحده، في موكب الشهيد إلى مأواه الأخير، مع والد الإمام الشهيد، بعد أن حظرت السلطات الآثمة المشاركة في تشييعه رضي الله عنه. السياسة والإسلام.. وفي هذا الاستقطاب المقيت الذي يدور حول الحراك السياسي للهيئات والجماعات الإسلامية في أيامنا هذه، ويتردد الكلام كثيراً في الساحات عن استهجان إدخال السياسة في الدين أو الدين في السياسة، ويشارك في المراء حوله كل من هبّ ودبّ، وذلك من خلال نوايا مختلفة، وأقلام متعددة المسارات، مع أن الوضوح في سير خط الحركة الإسلامية الأهم، على يد الباني الشهيد "حسن البنا"، هو الذي وسمَ الحركة بالشفافية والنصاعة في هذا الأمر، ولكن أصحاب اللجاجة والأغراض أرادوها "طبخة لا تنضج"؛ ليظل لهم مجال في صرير الأقلام، ولتبقى الجرايات المشبوهة مستمرة، وخرائط انتكاس الفكر والضمائر تدل على الانحدار الذي وصل إليه أرباب القلم في بعض الحظائر. أقول: مع الوضوح الذي بدأ به الشهيد الإمام البنا رضي الله عنه حركة إعادة الثقة بالإسلام وشموليته، لا بدّ أن يظل النداء صاخباً يقول: "يا قومنا إننا ندعوكم إلى الإسلام وتعاليم الإسلام وأحكام الإسلام، فإن كان هذا من السياسة عندكم فهذه سياستنا، وإن شئتم أن تسموا ذلك سياسة فقولوا ما شئتم، فلن تضرنا الأسماء متى وضحت المسميات وانكشفت الغايات". (رسالة دعوتنا). ويقول: "وإذا قيل لكم إلامَ تدعون..؟ فقولوا: ندعو إلى الإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم ، والحكومة جزء منه، والحرية فريضة من فرائضه. فإن قيل لكم هذه سياسة، فقولوا: هذا هو الإسلام ونحن لا نعرف هذه الأقسام" (رسالة بين الأمس واليوم). إنَّ الأمر كما ترون واضح.. فالسياسة من الإسلام، والإسلام سياسة أمور الناس في دينهم ودنياهم، ولكنهم يريدونها عوجاً! تخدم الأهواء، وتطاطئ للأعداء.