الإخوان المسلمون والتنظيم السري

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
الإخوان المسلمون والتنظيم السري

بقلم د.عبد العظيم رمضان

مقدمة

يرجع الفضل فى ظهور فكرة هذه الدراسة إلى المركز القومي للبحوث الاجتماعية والجنائية حين نظم رئيسه الدكتور أحمد محمد خليفة فى عام 1979 أى فى أعقاب اغتيال الشيخ الذهبي حلقة علمية مقفلة؛

دعا إليها عددا محدودا جدا من علماء الاجتماع والقانون والين والتاريخ لمناقشة ما بدا أنه أخطر قضية تطل برأسها فى ذلك الحين وهي قضية الحركات الدينية المتطرفة العنف وكان صاحب هذا القلم أحد أعضاء هذه الحلقة .

وقد دارت فى هذه الحلقة مناقشات على جانب عظيم من الخصوبة والأهمية حتي لقد بدا الكثيرين أنها أخطر مناقشات دارت حول قضية من القضايا فى الحقبة التاريخية الأخيرة !..

ومن سوء الحظ أن الصفة السرية القصوي للحلقة قد منعت تسجيل مناقشتها بالوسائل العلمية الحديثة ونشرها على جماهيرنا وبالتالي تمنعني من إذاعة ما قمت بتسجيله من ملاحظات.

على أن المحصلة التى انتهت إليها الحلقة هي أن العنف الصادر عن الجماعات الدينية المتطرفة سوف يلعب دورا رئيسيا فى تشكيل الأحداث فى بلادنا فى المستقبل القريب مالم تتخذ الاحتياطات لتوقي حدوثه سواء من جانب السلطات الدينية والجماعات الدينية المعتدلة؛

أو من جانب السلطات الرسمية ولم يخطر ببال أشد المتشائمين فى هذه الحلقة وكنت أحدهم أن هذا العنف سوف يودي بحياة رئيس الدولة نفسه وهو مالم يحدث فى طول التاريخ المصري وعرضه !

ولما كان البحث الذى قدمته لهذه الحلقة هو عن جماعة الإخوان المسلمين والعنف وقد حددت دور الجماعة ودور الدولة فى نشأة العنف فقد تراءي لى وأنا ممن يؤمنون بأن التاريخ لا يدرس لذاته وإنما يدرس لكي يوضع نتائج تحقيقاته فى خدمة المجتمع أن أبادر بتوسيع نطاق الدراسة ومد آفاقها والتوفر على تحقيق المزيد من تفصيلاتها

ثم نشر نتائجها على جماهيرنا لتكون بمثابة جرس إنذار ينبه المجتمع المصري والجماعات الدينية المتطرفة والدولة إلى أن العنف من واقع التجربة التاريخية لا يجدي وأنه لا يحقق أى تغيير جذري وأنه يعود على مرتكبيه من الجانبين بأوخم العواقب!

وعندما طرأت لى هذه الفكرة وشرعت فى تنفيذها ولم أكن أدرج جماعة الإخوان المسلمين الحالية فى سلك الجماعات الدينية المتطرفة بعد انهيار التنظيم السري على يد عبد الناصر فى عام 1954 وتصفيته للتنظيم الجديد فى عام 1965

وإدراكا مني أن القيادات الأخيرة للإخوان هي قيادات وعت درس العنف جيدا منذ أوائل الخمسينيات وكانت تعارض التنظيم السري علنا قبل حادث المنشية وإن كان قد سبق لى أن تنبأت فى مقال كانت قد طلبته مني جريدة " اللومند دبلوماتيك " الفرنسية

ونشر فى عدد أغسطس 1977 بحتمية حدوث مواجهة بين الإخوان المسلمين والسلطة فى أقرب فرصة إذا رفضت السلطة مطلبهم فى الوجود الشرعي وقلت بالحرف الواحد أنه:

وعلى كل حال فإن هذا ما جعلني أحرص على أن أصدر هذه الدراسة عندما نشرت فى شكل مقالات فى مجلة روز اليوسف القاهرية وجريدتي "الهدف" الكويتية و" الاتحاد" بأبي ظبي بعبارة صادقة تنص على أن " هذه الدراسة تنصب على أحداث الماضي ولا صلة لها بالحاضر إلا تلك الصلة الضرورية التي يستخلصها الحاضر من عبرة الماضي ودورس التجربة؛
وبالتالي فمن الخطأ الفادح أن تعدها أية هيئة حالية سياسية كانت و دينية أو يعدها اى فرد يعيش الآن محاولة للإدانة أو الهجوم . فذلك أبعد ما يكون عن أغراض الدراسة العلمية الحقيقية".

على أنه رغم هذه العبارة لم تكد تنشر فصول الدراسة فى الصحف السالفة الذكر حتي انهال سيل من الهجوم والطعن على الكاتب فى البلاد التى نشرت فيها الدراسة وفى غيرها من جانب الدوائر الدينية الإسلامية التى اعتبرت الدراسة موجهة ليس فقط ضد جماعة الإخوان المسلمين بل وضد الإسلام أيضا !!.

وبلغ الأمر حد استخدام منابر المساجد والجوامع فى شن الهجوم والطعن .. وأفلح الضغط فى إيقاف نشر الدراسة فى جريدة " الاتحاد" التى تصدر بأبي ظبي بعد نشر اثنتين وعشرين حلقة منها ... ومن المؤسف أن كثيرا من الهجوم الذي تعرض له الكاتب باسم الدين لم يلتزم بالقواعد التي رسمها الدين الحنيف للحوار والجدل فيما بين المسلمين أو حتي المسلمين والمشركين !!

على أن هذا لم يمنع قيام حوار مثمر بيني وبين الأستاذ صلاح شادي داعية الإخوان الكبير وأحد من لعبوا دورا هاما فى أحداث الدراسة على صفحات جريدة الوطن الكويتية استمر قرابة ثلاثة أشهر نشر فيها أحد عشر مقالا مطولا ورددت عليه بست مقالات لم ينشر السادس منها لقفل باب الحوار .

ورغم أن الخلاف لم يحسم لاختلاف مواقعنا إلا أني رأيت أنه سوف يكون مفيدا لقارئ هذه الدراسة بعد نشرها فى كتاب متابعة هذا الحوار الخصب للتعرف على رؤية أحد زعماء الإخوان المسلمين للأحداث خصوصا وكان من زعماء التنظيم السري والحكم على هذه الرؤية فى ضوء ما استندنا إليه من مصادر سوف يجدها القارئ ملحقة بالكتاب فضلا عن الحواشي التى حرصت على إثباتها فى نهاية كل صفحة .

لذلك استأذنت الأستاذ صلاح شادي الذي ربطتني به رابطة الود والاحترام أثناء الحوار وقد طوقني بفضله حين حرص على رؤيتي عند زيارته للندن فى عام 1981 حيث أكلنا معا خبرا وملحا فى نشر مقالاته بين ملاحق هذه الدراسة فقيل مشكورا .

وسيري القارئ الخطابين المتبادلين بيننا فى هذا الشأن فى ملاحق الدراسة مشفوعة بردودي عليه فى نفس جريدة الوطن الكويتية ونظرا لأنه طلب مني " عدم إضافة شئ لم ينشر فى ذلك الحين " فقد أحترمت رغبته ولم أشا الرد على ما أثاره من نقاط لم تتح لى الفرصة للرد عليه فى حينه وإن كنت أبحث لنفسي نشر ردي السادس عليه رغم أنه لم ينشر لأنه سبق لى أن أرسلته إليه بعد طلبه مني فى إحدي مكالماتنا التليفونية فهو يدخل فى إطار علمه .

كذلك رأيت نشر الرد الذى كتبه صديقي الدكتور فؤاد زكريا فى جريدة الوطن تعليقا على بعض أحداث الدراسة وأرفقته بردي عليه فى نفس الجريدة كما نشرت ردين هامين أحدهما نشر بمجلة روز اليوسف مع الحلقة الرابع عشرة لمواطن يدعي فاروق حافظ والثاني فى شكل خطاب ورد إلى من الدكتور محمد فؤاد منير وهو طبيب بالإسكندرية بتاريخ 7 ديسمبر 1980؛

وهما يحويان معلومات تاريخية مجهولة للآن عن المجموعة التي ارتكبت حوادث الهجوم على تجمعات الإنجليز فى الإسكندرية فى يوليو 1946 وقد اتفقنا على استبعاد الإخوان المسلمين من مسئولية ارتكاب هذه الحوادث ولا أملك إلا أن أوجه إليهما الشكر لهذه المعلومات الجديدة.

وقد رأيت الاكتفاء بهذا القدر من الردود التى أثارتها الدراسة دون نشر بقية الردود التى أغفلت الحد الأدني لقواعد الجدل والنقاش حرصا على المستوي العلمي للكتاب كما اني لم أر فائدة من نشر الردود الأخري التي تحمل أراء شخصية لا تقدم ما يدعمها من وثائق او مستندات لأن ضرر مثل هذه الردود أكثر من نفعه .

وإن كنت لا أملك إلا أن أشكر الجميع لإسهامهم بقدر جهدهم فى النقاش . على أني نشرت تعليقي الأخير على هذه الردود الذي نشرته لى مجلة روز اليوسف مع الحلقة الأخيرة للدراسة الصادرة بعدد 13 أبريل 1981 تحت عنوان :" أكن لجماعة الإخوان المسلمين احتراما كبيرا ".

وأخيرا فإن ردود الفعل العنيفة لصدور هذه الدراسة ونشرها على أوسع نطاق فى الصحف اليومية ليست سوي أنموذج لبعض المتاعب التي يمكن أن يتعرض لها مؤرخ التاريخ المعاصر حيث الأحداث لا تزال ساخنة والأفراد الذين لعبوا دورا فى هذه الأحداث لا يزالون أحياء يرزقون !!

ومثل هذه المتعب قد تقعد الكثيرين عن معالجة مثل هذه الموضوعات المعاصرة ولكن بالنسبة لى تعد تحديا لا مفر من قبوله لأنه فى نهاية الأمر امتحان كبير لقدرة الوثائق على إعادة تركيب الحدث التاريخي قديما كان أو وسيطا حديثا كان أو معاصرا وفق المنهج العلمي السليم؛

ولذلك فأعتقد أنني سوف أمضي بمشيئته تعالي فيما اعتزمه من استكمال دراسة الحركات الدينية المتطرفة والعنف بمجرد توافر الوثائق الكافية التى أجد فى جمعها بكل مثابرة تصميم وأملي أن أضع نتائج هذه الدراسات أمام بني وطني فى اقرب فرصة إن شاء الله . والله ولي التوفيق

مصر الجديدة فى 25 يناير 1982
د.عبد العظيم رمضان

تمهيد

فى تمام الساعة السابعة وخمس وخمسين دقيقة من مساء يوم الثلاثا 26 أكتوبر 1954 كان جمال عبد الناصر يقف خطيبا فى حفل أقيم بميدان المنشية بالإسكندرية بمناسبة توقيع اتفاقية الجلاء مع بريطانيا .

ولم تكن قد مضت دقائق قليلة على بدء خطابه وكان يتحدث عن ذكريات اشتراكه فى العمل الوطني ووصل إلى فقرة يقول فيها:

" بدأت كفاحي من هذا الميدان فى الإسكندرية وكنت شابا صغيرا فى عام 1930 حين بدأت لأول مرة أهتف مع إخواني أبناء الشعب للحرية واليوم أشكر الله فقد أثمر كفاح آبائكم وأجدادكم وجميع الشهداء الذين استشهدوا فى هذا السبيل ".

وفى هذه اللحظة بالذات دوت ثماني رصاصات متتالية أطلقها محمود عبد اللطيف العضو فى التنظيم السري لجماعة الإخوان المسلمين على جمال عبد الناصر لم تصبه ولكنها أصابت جماعة الإخوان المسلمين بكارثة فظيعة لم يشهد لها تاريخ الحياة السياسية فى مصر مثيلا .

كان شعور جماهير الإسكندرية عند إلقاء عبد الناصر خطابه معبا ضد اتفاقية الجلاء مع بريطانيا التى عارضتها كل القوي السياسية فى مصر وضد عبد الناصر الذى وقعها وضد نظام الحكم الاستبدادي الذى أرساه وعندما أقيم سرادق الاحتفال فى ميدان المنشية احتلته جماهير الإسكندرية وأخذت هتافاتها تتعالي بالحرية وسقوط الظلم؛

مما اضطر السلطات إلى إخلاء السرادق من هذه الجماهير فى الخامسة مساء وإعادة ملئه من جديد بجماهير مأجورة تتكون من عشرة آلاف عمال مديرية التحرير الموالية وكانت هذه الجماهير هى التي تسرب محمود عبد اللطيف من بينها ليجلس فى الصفوف الأمامية على بعد عشرين مترا من منصة الخطباء والضيوف وأطلق منها الرصاص على جمال عبد الناصر .

على أن عبد الناصر لم يسقط لقد سقط المحامي أحمد بدر الذي كان يقف على بعد ربع متر إلى جوار عبد الناصر برصاص محمود عبد اللطيف وأصيب ميرغني حمزة وزير السودان شظايا مصباح كهربائي فى المنصة أصيب بالرصاص .

وساد هرج ومرج شديدان ولكن عبد الناصر كان صامدا فقد طلب إلى الجماهير القبض على الجاني فأمسكته وأوسعته ضربا شديدا بينما كان عبد الناصر يطالب الجماهير بالثبات فى مواقعها بعبارات متهدجة من فرط التأثر أعلن فيها أن دمه فداء لمصر وأن حياة مصر لن تكون معلقة بكفاح عبد الناصر بل هى معلقة بكفاح شعب مصر .

وقد جرت فى أعقاب ذلك أأكبر حملة اعتقال للإخوان المسلمين شهدتها مصر حتي وصل الأمر إلى حد إعطاء المعتقلين بطاقات يسجلون فيها أسماءهم وعناوينهم لتدون فى كشوف وقد وصل عدد المعتقلين إلى أكبر مداه 24 أكتوبر 1955 أى بعد عام من الاعتداء حتي وصل إلى 2943 معتقلا .

وقد بدأ الأمر باعتقال هنداوي دوير رئيس محمود عبد اللطيف فى التنظيم السري الذيى سلم نفسه للبوليس امبابة فى اليوم التالي مباشرة للاعتداء.

وفى يوم 30 أكتوبر قبض على الهضيبي فى الإسكندرية بعد أن عثر على عنوانه عن طريق ورقة بها أرقام تليفونات عثر عليها مع صلاح شادي الضابط الإخواني الذي قبض عيه فى الإسكندرية وكان بها رقم تليفون المنزل الذي يقيم فيه الهضيبي كذلك قبض على محمد نصيري وسعد حجاج .

وفى يوم 6 نوفمبر أعلنت الحكومة فى الصحف عن طلب القبض على يوسف طلعت رئيس التنظيم السري وحسن العشماوي وإبراهيم الطيب وعبد المنعم عبد الرؤوف .

وفى نفس اليوم سقط فى يد السلطة كل من عبد القادر عودة وصالح أبو رقيق ومنير دلة وكمال خليفة ومحمد فرغلي وحسين كمال الدين . وفى اليوم التالي تم اعتقال أعضاء الجهاز السري فى الإسكندرية .

وفى 11 نوفمبر ألقي القبض على محمد خميس حميدة وكيل الجماعة .وبعد أربع أيام أى فى 15 نوفمبر سقط يوسف طلعت فى يد البوليس وكانت الحكومة قد رصدت مكافأة للقبض عليه قدرها 2000 جنيه وهو مبلغ ضخم بمعيار ذلك الوقت .

وبعد ثلاثة أيام أخري أى فى 18 نوفمبر ألقي القبض على عمر التلمساني وسيد قطب والضابط الإخواني حلمي أبو كرم كما ألقي القبض على خمسة عشر آخرين وفى 19 نوفمبر ألقي القبض على صالح عشماوي وفهمي أبو غدير ولكن تم الإفراج عنهما بأمر المباحث العامة وتسابقت أنباء القبض على الخلايا فى الوجهين البحري والقبلي ومحافظات القطر .

وفى 22 نوفمبر نشرت الصحف أسماء المعتقلين من أعضاء مكتب الإرشاد وهم:

محمد خميس حميدة وكمال خليفة وعبد القادر عودة ومنير دلة وصالح أبو رقيق وحسين كمال الدين ومحمد فرغلي ومحمد حامد أبو النصر وعبد العزيز عطية وأحمد شريت؛
وكان قد تم القبض فى اليوم السابق على طاهر الخشاب وبعد خمسة أيام أى فى 27 نوفمبر القي البكباشي زكريا محيي الدين بيانات فى الصحف ذكر فيها أنه تم اعتقال 70% من أعضاء الجهاز السري البالغ عددهم سبعمائة.
ومن الغريب أنه فى كل هذه الاعتقالات التي تمت لأفراد الجهاز السري لم تحدث مقاومة إلا فى حالة واحدة وقعت يوم 14 نوفمبر بين قوات البوليس وبين ثلاثة من الإخوان هم: عبد العزيز العراقي وأحمد حسين ومحمد شاكر خليل وقد قتل الأولان فى المعركة التي دارت بالمدافع الرشاشة وأصيب الثالث إصابات جسيمة شفي منها وقدم للمحاكمة .
وقد أثارت محاولة الاغتيال كثيرا من العطف على عبد الناصر الذي كان فى ذلك الحين مدانا ن القوي الوطنية الديمقراطية والتقدمية فلم تكن قد برزت بعد إمكانياته النضالية فى خدمة قضايا الأمة العربية
وقد خطب الشيخ أحمد حسن الباقوري يندد تنديدا قويا بالحادث فى خطاب ألقاه فى نفس اليوم أشاد فيه بعبد الناصر وذكر أنه خلص البلاد من العار وأخذ من الأغنياء وأعطي للفقراء بقانون الإصلاح الزراعي:فما ذنب جمال لكي يلقي هذا الجزاء .

أن ذلك يذكرني بقول الشاعر:

أريد حياته ويريد قتلي
عزيرك من خليلك من مراد

ولكن عبد الناصر لم يلبث أن فقد العطف الذى كسبه بالحادث سريعا ففي يوم التالي وجهت السلطة مظاهرة لحرق المركز العام للإخوان المسلمين بالحلمية وقد أعادت هذه المظاهرة إلى الإخوان ما فقده من عطف بحادث الاعتداء لأنها ذكرت المصريين بالانتهاكات السابقة التى ارتكبتها الثورة ضد الحريات .

وجاءت حملات المطاردة والاعتقالات لتثير الخوف والفزع فى النفوس فقد كانت جماعة الإخوان المسلمين جماعة واسعة الانتشار بين الشباب ولم تكن تخلو أسرة مصرية تقريبا من شاب من أبنائها ينتمي إلى الجماعة انتماء يتفاوت بين الانضمام الكامل والتعاطف عن طريق التبرعات وحضور اللقاءات وقد عاشت هذه الأسر فى حالة ذعر لأن الاعتقالات لم تفرق بين متبرع عابر سجل اسمه فى كسف التبرعات وبين عضو ملتزم أصيل.

وقد جاءت المحاكمات لتضيف إلى عنصر الرهبة والخوف . ففي يوم أول نوفمبر أصدر مجلس قيادة الثورة أمرا بتشكيل محكمة مخصوصة برياسة قائد الجناح جمال سالم نائب رئيس مجلس الوزراء وعضوية مكل من القائم مقام أنور السادات وزير الدولة والسكرتير العام للمؤتمر الإسلامي ومدير عام دار التحرير والبكباشي أركان حرب حسين الشافعي وهم أعضاء فى مجلس قيادة الثورة .

وقد نص قرار تأليف المحكمة على إنشاء مكتب للتحقيق والادعاء يلحق بمقر قيادة الثورة ويلحق به نواب عسكريون أعضاء من النيابة العامة وتولي رياسة هذا المكتب البكباشي زكريا محيي الدين عضو مجلس قيادة الثورة وفى عضويته كل من البكباشي محمد التابعي والبكباشي إبراهيم سامي جاد الحق والبكباشي سيد جاد وهم نواب أحكام والأستاذ عبد الرحمن صالح عضو النيابة

وقد تولي هذا المكتب التحقيق ورفع الدعوي والادعاء بالمجلس والأمر بالقبض على المتهمين وحبسهم احتياطيا وقد نص فى القرار أيضا على عدم جواز المعارضة فى هيئة المحكمة أو أحد أعضائها .

وأمر مجلس قيادة الثورة بأن يلحق بالمكتب كل من مصطفي الهلباوي رئيس نيابة أمن الدولة الذي تولي الادعاء أمام محكمة الثورة وعلى نور الدين وكيل أول نيابة أمن الدولة .

وفى 28 نوفمبر تألفت ثلاث دوائر فرعية لهذه المحكمة التي أطلق عليها ابتداء من 6نوفمبر اسم " محكمة الشعب " فكانت رابع محكمة من هذا النوع تشكلها الثورة بعد الجالس العسكرية ومحكمة الغدر ومحكمة الثورة

وقد تألفت الدائرة الأولي برئاسة اللواء صلاح حتاتة والثانية برئاسة القائم مقام محفوظ ندا والثالثة برئاسة قائد الجناح عبد الرحمن شحاتة عنان وقد عقدت جلسات هذه الدوائر الثلاث فى مبني الكلية الحربية, بينما عقدت جلسات محكمة الشعب الرئيسية بمبني قيادة الثورة بالجزيرة .

وقد عقدت أول جلسة لمحكمة الشعب صباح يوم الثلاثاء 9 نوفمبر 1954 أى بعد أسبوعين تماما من حادث الاعتداء واستمرت إلى يوم 2 ديسمبر 1954 لتستأنف المحاكم الفرعية مهمتها ابتداء من 5 ديسمبر

وقد حوكم أمام محكمة الشعب الرئيسية برياسة جمال سالم كبار أعضاء الجماعة والتنظيم السري وهم بالإضافة إلى محمود عبد اللطيف حسن إسماعيل الهضيبي المرشد العام ويوسف طلعت رئيس التنظيم السري وهنداوي دوير رئيس منطقة إمبابة فى التنظيم السري وإبراهيم الطيب رئيس مناطق القاهرة ومحمد خميس حميدة وكيل الإخوان والشيخ محمد فرغلي عضو مكتب الإرشاد وعبد القادر عودة نائب المرشد..

والدكتور حسين كمال الدين وكمال حليفة ومنير دلة وصالح أبو رقيق ومحمد حامد أبو النصر والشيخ أحمد شريت وعمر التلمساني وعبد العزيز عطية وعبد الرحمن البنا والبهي الخولي وعبد المعز عبد الستار وكان الثلاثة الأخيرون مفرجا عنهم.

وفيما عدا محاكمة محمود عبد اللطيف التي استمعت فيها المحكمة إلى كثير من الشهود من أعضاء الجهاز السري وقيادات الإخوان السياسية واستمرت بالتالي وقتا طويلا إذ استمرت إلى يوم 20 نوفمبر فأن بقية المحاكمات لم تستغرق وقتا يذكر فلم تستغرق قضية الهضيبي سوي ثلاثة أيام وانتهت فى 25 نوفمبر واستغرقت محاكمة يوسف طلعت يوما,هو يوم 27 نوفمبر؛

وفى يوم 29 نظرت قضيتا كل من هنداوي دوير وإبراهيم الطيب وفى يوم 30 نوفمبر نظرت خمس قضايا لكل من محمد خميس حميدة ومحمد فرغلي وعبد القادر عودة وحسين كمال الدين وكمال خليفة؛

كما نظرة قضايا منير دلة وصالح أبو رقيق ومحمد حامد أبو النصر وأحمد شريت وعمر التلمساني وعبد العزيز عطية فى يوم واحد وهذا كله يبين صورية المحاكمة ومدي الضمانات التى كان يتمتع بها المتهمون!. لقد كانت جلسات للتشهير لا للحكم والقضاء والفصل كما يحدث فى المحاكمات الحقيقية !.

وكأن الأمر فى الدوائر الفرعية لمحكمة الشعب من المهازل الكبري نظرا للإعداد الضخمة من قضايا المتهمين التي كانت تنظرها كل منها فى اليوم الواحد وعلى سبيل المثال ففي يوم 9 ديسمبر نظرت قضايا 38 متهما وفى 11 ديسمبر نظرت 21 قضية وفى 12 ديسمبر نظرت 13 وفى يوم 13 نظرت قضايا 48 متهما وفى 28 منه نظرت 42 قضية وفى 9 فبراير أعلنت الصحف عن محاكمة 69 إرهابيا (كما كانت تطلق على المتهمين)

أما الدائرة الأولي وقد حوكم أمام الدائرة الثالثة وحدها مائة وستة وعشون متهما فى مدي شهر ونصف فقط و أدين منهم مائة وسبعة وبرئ تسعة عشر وقد حكمت هذه الدوائر بأحكام كثيرة بالإعدام والمؤبد والأشغال الشاقة لمدد متفاوتة؛

ولكن أحكام الإعدام خففت إلى المؤبد وكان من بين المحكوم عليهم بالإعدام أمام هذه الدوائر صلاح شادي الذي كان الوحيد من بين المتهمين الذى حوكم فى جلسة سرية ثم خفف الحكم عليه كما حوكم كل من عبد المنعم عبد الرؤوف وأبو المكارم عبد الحي وحكم عليهما بالإعدام رميا بالرصاص.

وقد كان اختيار جمال سالم لرئاسة محكمة الشعب من أسوأ الأخطاء التي ارتكبها عبد الناصر فى حياته السياسية فلا يوجد فى تاريخ القضاء العسكري فى مصر رئيس محكمة هبط بمستوي المحاكمات إلى مثل ذلك الدرك الأسفل ولم تسمع قاعات المحاكم فى مصر ما سمعته ن العبارات النابية والتهجم على المتهمين والسخرية منهم وإرهابهم والدخول فى " قافيات" معهم كما سمعت من جمال سالم .

ولقد اتهم الإخوان المسلمون جمال سالم بأنه كان الخصم والحكم وأطلقوا عبارة: "خصومنا قضاتنا" ولكن الدراسة المتأنية لنصوص المحاكمات وما صدر عن جمال سالم تثبت أنه لم يلعب سوي دور الخصم ولم يلعب أبدا دور الحكم .

وهذا أمر محزن حقا فما أتعس الحكام الذين ينسون أن التاريخ محكمة تفوق قوة وأن الأحكام التي تصدرها محكمة التاريخ هى الباقية وأحكامهم فانية .وككل حدث تاريخي فادح الأثر فإن الآراء تفترق فيه .

فقد أنكر الإخوان المسلمون بصفة قاطعة ارتكابهم هذا الحادث ووصفه صالح أبو رقيق بأنه " تمثيلية فاجرة " دبرتها الحكومة لاتخاذ مزيد من الإجراءات المضادة لحرية الجماهير ولحماية نفسها جر إليها محمود عبد اللطيف بتدبير محكم وقبر سره مع رفات هنداوي دوير .

وأضاف قائلا:

" عندنا أكثر من اثني عشر دليلا على براءة الإخوان المسلمين من هذا الحادث المفتعل وقد طالبت وما زلت أطالب بإعادة التحقيق فى هذا الحادث الذي دبرته مراكز القوي ".

وقد استشهد صالح أبو رقيق بحسن التهامي ودعاه إلى أن يجلي الحقيقة فى هذا الحادث المشئوم ويظهر الحق لعباد الله ويقول: من أطلق الثماني رصاصات فى الهواء الطلق ؟ وقال:أنه ثابت من التحقيقات ان المرشد الأستاذ الهضيبي كان قد أصدر أمرا مشددا قبل حادث المنشية بنحو من شهر ليوسف طلعت رئيس النظام الخاص بعدم اغتيال أحد وقال له :" أني برئ من كل دم يسفك".

ومادام قائد الجماعة قد أصدر هذا الأمر فعلي الكل السمع والطاعة وتكون الجماعة غير مسئولة عن أى عمل يقوم به فرد غرر به وعلى ذلك فالإخوان المسلمون أبرياء من حادث المنشية المشئوم ".

وقد قادت مجلة الدعوة التي تصدرها جماعة الإخوان المسلمين ابتداء من يوليو 1976 حملة فى هذا الصدد تنكر فيها قيام الإخوان المسلمين بحادث المنشية واستدلت بأن يوسف طلعت رئيس الجهاز السري كان فى منزل أحد أشقائه عند وقوع الحادث وعندما سمع به قال :" عملها عبد الناصر ونجح وغدا سيلصقها بالإخوان المسلمين ".

وحين أذاعت الإذاعة المصرية اسم مرتكب الحادث محمود عبد اللطيف سأل يوسف شقيقه " هل تعرف هذا الشخص" فأجابه بالنفي . وقد علق شقيقه على ذلك قائلا :" لو كان الإخوان وراء الحادث لعلم يوسف كل شئ فقد كان رئيسا للنظام الخاص ".

وأوردت المجلة نقلا عن أحد المقربين ليوسف طلعت قوله:

"ذهبت إليه يوم 26 أكتوبر ليلا فى منزل أخيه كان يستمع إلى الراديو وسألته : ما هذا ؟ فكان جوابه بالنفي والاستنكار .
وأكد أن الإخوان قد التقوا من يوم نشأتهم وعلى رأسهم المرشد العام . على سياسة ليس فيها ذلك التصرف ولا مثله .وسوف تثبت الأيام أن الإخوان المسلمين لم يكونوا فى يوم من الأيام من المتآمرين فى الظلام ".

وقالت المجلة أن يوسف طلعت كان يعذب بين جلسات المحاكمة ولكنه:

"رغم التعذيب والعذاب وقف وقفة السابقين من السلف فما وهن وما ضعف وكانت مكافأته على جهاده وبذله وتضحياته الحكم عليه بالإعدام شنقا وتقبلها راضيا فرحا مستبشرا".

وفى عدد آخر تحدثت " الدعوة " عن الحادث فقالت:

" كان عبد الناصر يبحث عن السبل التي ينفذ منها لضرب الحركات الإسلامية والقضاء على الانتفاضات الشعبية لينفرد بالسلطة ويستحوذ على الحكم والسلطان .
فظل يعمل فى الخفاء للخلاص من هذا والقضاء على ذلك حتي كانت المعاهدة بينه وبين الإنجليز التى رأي فيها الإخوان قيودا تكبل الأمة وتنتقص من حريتها فدبر لهم حادث المنشية واتهمهم بإطلاق الرصاص عليه وعاد الإخوان إلى المعتقلات والسجون وشكلت لهم المحاكم الحكم فيها هو الخصم والقانون فيها من شرعة الغاب والمتهمون الأبرياء محرومون من حق الدفاع والتعذيب أشكال وألوان ".

وفى عدد مارس 1977 كتبت المجلة مقالا عن إبراهيم الطيب رئيس مناطق القاهرة فى التنظيم فوصفته بأنه "شهيد الحق والحرية " ووصفت حادث المنشية بأنه " مسرحية "..

دبرها عبد الناصر تدبيرا "على طريقة الجستابو" وألصقها بالإخوان المسلمين وفاجأ بها الأبرياء واستشهدت بموقف إبراهيم الطيب فى المحاكمة فقالت أنه جئ به إلى محكمة جمال سالم مكسور الذراع مشوه الجسم ولكنه " وقف شامخا كالطود ثابتا كالبنيان . أنكر ذاته وقال كل شئ يريده".

وفى عدد ديسمبر 1978 وبمناسبة مرور ربع قرن على إعدام المتهمين فى حادث المنشية نشرت "الدعوة " صور شهدائها عند تنفيذ حكم الإعدام ومنهم محمود عبد اللطيف .

وكان هنا التنفيذ قد تم فى جلسة واحدة بمعدل رأس شهيد يسقط كل نصف ساعة وكان محمود عبد اللطيف أول من تقدم إلى المشنقة وهو يتلو آيات القرآن الكريم .

وكانت كلمات إبراهيم الطيب عند لقائه الموت: "خصومنا كانوا قضاتنا " وقال عبد القادر عودة:" إن دمي سيكون لعنة على رجال الثورة ". بينما طلب يوسف طلعت من الله أن يسامحه ويسامح أيضا من عذبوه وأساءوا إليه وتقدم محمد فرغلي إلى حبل المشنقة وهو يقول :" أنا على استعداد للموت . مرحبا بلقاء الله ".

وقد استجاب حسن التهامي لنداء صالح أبو رقيق فقدم ما ذكر أنه شهادته للتاريخ فى حادث المنشية وبها كشف لأول مرة بشكل علني قصة القميص الواقي من الرصاص الى وصل إلى عبد الناصر من الولايات المتحجة قبل الحادث وقصة الخبير الأمريكي الذي نصح باختلاق مثل هذا الحادث من قبل ارتكابه .

وقد ورد فى شهادة حسن التهامي ما يلي:

" أما بالنسبة لحادث إطلاق الرصاص على عبد الناصر فى ساحة المنشية بالإسكندرية فلم أكن معه أثناء إلقاء هذه الخطبة كما لم أصحبه فى العديد فى مثل تلك المناسبات الخطابية وزياراته للمحافظات وعلمت بنبأ إطلاق الرصاص على عبد الناصر وان الحديث مذاعا فى الراديو يومها وقد كان من بين إجراءان تأمين عبد الناصر وقتها محاولة إقناعه بارتداء قميص واق من الرصاص يرتديه على صدره .
وكان القميص قد ورد فعلا من أمريكا قبل هذا الحادث ببضعة أسابيع وكان مودعا عنده فى بيته بمنشية البكري أرسلناه إليه فى نفس الليلة فوصله فى الصباح الباكر اعتقادا منا بأن فشل المحاولة الأولي قد يعقبه تكرار المحاولة طالما هو ما زال بالإسكندرية؛
وعندما رآه فى الصباح وكان معه العديد من الزملاء يهنئونه على نجاته ضحك كعادته وقال :" كل شئ انتهي" يقصد بذلك أن المحولة انتهت ولا داعي للقميص . وكان تركيز جهات الأمن يومها حول محاولة معرفة التنظيم الإخواني الذي هو خلف هذه المحاولة ".

ثم روي حسن التهامي قصة الخبير الأمريكي . فذكر أنه

" قد شد نتباهنا وقتها أن خبيرا أمريكي الجنسية فى الدعاية والإعلام ومن أشهر خبراء العالم وقتها فى الدعاية كان قد حضر إلى مصر .
وكان من مقترحاته غير العادية والتي لم تتمس مع مفهومنا وقت اقتراحها هو مقترحاته غير العادية والتي لم تتمش مع مفهومنا وقت اقتراحها هو اختلاق محاولة لإطلاق الرصاص على عبد الناصر ونجاته منها
فإن هذا الحادث بمنطق العاطفة والشعور الشعبي لابد وأن يزيد فى شعبية عبد الناصر أكثر من أى حملة دعائية منظمة ويوصله إلى القيادة الشعبية من أقرب الطرق العاطفية وبالنسبة لنا كان مرادفة هذا الحادث لهذه الفكرة وحدوثها بعد الاقتراح بشهور قليلة جدا مثار دهشة كنا قد فسرناها وقتها بأنها " توارد أفكار عجيب ومصادفة غير عادية ".

ويلاحظ على هذه الرواية لحسن التهامي أنها تثير الشبهات حول وجود مؤامرة وراء الحادث من وجهين :

الأول: مسألة الخبير الأمريكي فى الدعاية الذي اقترح اختلاق محاولة لإطلاق الرصاص على عبد الناصر
والثاني: مسالة القميص الواقي من الرصاص الذي جلبه عبد الناصر من أمريكا قبل الحادث ببضعة أسابيع التهامي لم يقل أن عبد الناصر لبس هذا القميص ليلة الحادث ولكنه أتاح للإخوان المسلمين الاعتماد على هذا القميص فى اتهام الحكومة بتدبير المؤامرة .

على أن اجتهادا خاصا لأحد الكتاب برز بعد ذلك ينسب فيه الحادث إلى المخابرات الأجنبية وخاصة المخابرات الإسرائيلية ويري أن الحادث أكبر من أن يكون قدتم على يد محلية سواء من الإخوان أو من حكومة عبد الناصر وأن إسرائيل كانت موجودة فى تلك الفترة بعملائها فى فضيحة لافون التى أعلن عنها يوم 6 أكتوبر ثم هجومها على غزة بعد ذلك .

" فهل كانت إسرائيل موجودة فى دفع محمود عبد اللطيف لإطلاق الرصاص"؟ ويستطرد الكاتب قائلا:

" بكل تأكيد لم يكن الهضيبي ولا أى قيادة للإخوان أصدرت أمرا بالاغتيال والإخوان معروفون بالطاعة العمياء يقسمون بها لرؤسائهم فهل كان محمود عبد اللطيف أداة يد خبيثة ".

فأين الحقيقة فى كل هذا؟

أن اعتمادنا الرئيس فى هذا التحقيق التاريخي سوف يكون بالدرجة الأول على أقوال الإخوان المسلمين أنفسهم سواء فى مذكراتهم الشخصية أو أقوالهم المنشورة فى الصحف وشهاداتهم واعترافاتهم فى المحاكمات الطنية وهي شهادات واعترافات لم تتعرض للتكذيب مكن جانب الإخوان .

فقد وصفت مجلة الدعوة يوسف طلعت بأنه رغم التعذيب والعذاب وقف أثناء المحاكمة "وقفة السابقين من السلف فما وهن وما ضعف " ومعني ذلك أنه قال الصدق أثناء المحاكمة كما وصفت إبراهيم الطيب بأنه وقف أثناء المحاكمة " ثابتا كالبنيان وقال كل شئ يريده " وهذا الوصف يشع كثيرا على الاعتماد على أقواله .

ثم محمود عبد اللطيف الذى نشرت الدعوة صورته جنبا إلى جنب مع شهدائها الآخرين: عبد القادر عودة،وهنداوي دوير ،وإبراهيم الطيب ،ومحمد فرغلي ويوسف طلعت .

وبطبيعة الحال فإننا لا نثبت فى هذا البحث التاريخي إلا ما ثبتت لدينا صحته بإتباع أدوات البحث التاريخي واستخدام المنهج العلمي من ناحية الرجوع دائما إلى المراجع الأصلية والتحقق من صحة الوثيقة والمقارنة والناقضة أصول الاستقرار والاستنباط ... الخ وكل ذلك فى محاولة جادة وأمينة للوصول إلى الحقيقة التاريخية بقدر الإمكان .

ولكن هذا كله لن يتسني فهمه إذا نحن روينا القصة من خاتمتها ومنبته الصلة ببدايتها وسياقها التاريخي فحادث المنشية يجب أن يوضع فى إطاره الصحيح وهو طبيعة حركة الإخوان المسلمين كحركة ذات طابع خاص لم تشهد له مصر مثيلا حركة تختلف عن كل الأحزاب الليبرالية التى شهدتها مصر منذ مطلع الحركة الوطنية؛

كما تختلف عن كل الجماعات الماركسية التى ظهرت فى تلك الفترة بل تختلف عن الحركة الفاشية التي ظهرت فى الثلاثينيات حركة تعتمد على إيديولوجية دينية وسياسية تتناقض فى أهدافها ووسائلها مع أهداف ووسائل كل هذه الأحزاب والجماعات وتستند فى تحقيق أهدافها على جيش سري قوي مدرب ومجهز ومعروف باسم " النظام الخاص" ومعني ذلك اعتماد العنف وسيلة لتحقيق غاياتها.

إطار دراستنا إذن هو "الإخوان المسلمون والعنف" وعلينا أن نجيب على هذه الأسئلة حتى فكرة استخدام العنف فى أيديولوجية الإخوان؟ وهل بدأت مع نشأة الجماعة أم طرأت على مسيرتها؟

ومتي نشأ التنظيم السري للإخوان المسلمين وما هو تطوره وما هو الدور الذي لعبه فى السياسة المصرية قبل ثورة 23 يوليو وما هي علاقته بثورة 23 يوليو حتي وقوع حادث المنشية؟ وهل ارتكب الحادث أم لم يرتكبه

وما هي مسئولية الإخوان المسلمين عن الحادث؟. كل هذه أسئلة يجب أن نجيب عنها من واقع الوثائق التاريخية وصولا إلى الحقيقة التاريخية.

الفصل الأول:نشأة وتطور حركة الإخوان المسلمين

يمكن تحديد نشأة فكرة العنف والاستيلاء على السلطة بالقوة عند جماعة الإخوان المسلمين بنشأة ما عرف باسم :" فرق الرحلات " ومن الثابت من الأدلة لدينا أن الشيخ حسن البنا عندما بدأ فى تكوين جماعته لم تكن فكرة العنف واردة فى ذهنه أصلا وغنما كانت الفكرة هي نشر الدعوة بوسيلة " الحب والإخاء والتعارف " كما كتبت جريدة الإخوان المسلمين فى 5 شعبان 1352 .

ولكن مع نجاح الحركة وانتشارها أخذ البنا يعمل على تحويل جماعته من جماعة مدنية إلى جماعة شبه عسكرية وينتقل من وسيلة " الحب والإخاء والتعارف " إلى مرحلة الاستعداد لتنفيذ الأهداف بالقوة فأخذ فى بناء جيش كبير تحت اسم برئ هو " فرق الرحلات ".

وقد نشأت جماعة الإخوان المسلمين أصلا كرد فعل سلفي لحركة التغريب فى المجتمع المصري وهي التي تبدت فى ذلك الحين فى نبذ المرأة المصرية الحجاب وإقبالها على التعليم ونزولها إلى ميدان العمل بل وإلى ميدان السياسة وتنديدها بتعدد الزوجات والمناداة بإلغاء المحاكم الشرعية

وإقبال الرجل المصري على أساليب الحياة العصرية فى زيه وعادته وتفكيره وانصراف الشباب المصري عامة عن التعليم الديني فى الأزهر إلى العلوم الحديثة وظهور تيار التحرر العقلي الذيى تبدي فى إعادة النظر فى الأفكار والتقاليد القديمة وتناولها بمفهوم جديد.

وكان الغزو الاستعماري الأوربي للشرق الإسلامي قد أسهم فى ظهور تيار كبير وليس فقط فى مصر وإنما فى العالم الإسلامي بأسره خصوصا تركيا يدعو إلى تبني الحضارة الغربية باعتبارها الحضارة التي أثبتت تفوقها وهزمت حضارة الشر؛

وكان هذا الرأي يري

" أن السبيل إلى الوصول إلى ما وصلت إليه الحضارة الغربية لا يكون إلا بأخذنا بأسباب هذه الحضارة الغربية فى مادتها وروحها أما أن نتخذ من الحضارة الغريبة عدوا لدودا فأنا نسير إلى الاضمحلال لا محالة فقد كان فى الشرق حضارة عمته وامتد سلطانها إلى الغرب فوقفت الحضارتان وجها لوجه ودام النزاع بينهما قرونا وهانحن نري الغلبة للحضارة الغربية؛

وكان هذا التيار يري فى اليابان الحديثة أنموذجا للدولة التي استطاعت الوقوف فى وجه الغرب عندما أخذت بأسباب حضارته فى مادته وروحها وتمكنت من الوقوف معه على قدم المساواة كما كان يري فى تركيا الكمالية انموذجا آخر لا يقل أهمية وخطورة .

على أن هذا التيار المتغرب لقي معارضة شديدة من التيار الديني الإسلامي الذي رفض حركة التغريب رفضا باتا واعتبرها حركة من حركات الانحلال ومن الطبيعي ان العوامل الثقافية والبيئية ذات الثقافة الدينية ن خريجي الأزهر ودار العلوم والطرق الصوفية وتلاميذ الشيخ رشيد رضا فى صف المعارضة لتيار التغريب بينما وقفت العناصر ذات الثقافة العلمانية وعلى رأسها الجامعة المصرية فى صف التغريب .

ويمكن القول بكثير من الثقة أن العناصر ذات الثقافة الدينية كانت تنحدر فى غالبيتها من أصول فلاحية وعماليه وبورجوازية صغيرة التي عجزت عن تحمل المصروفات الباهظة التى فرضها الاحتلال على جميع مراحل التعليم فاضطرت إلى الإقبال على نوع التعليم الوحيد المجاني فى ذلك الوقت؛

وهو المتمثل فى مدارس المعلمين والمعلمات ودار العلوم والأزهر وهذه العناصر بحكم ابتعادها عن أسباب الاحتكاك بالحضارة الأوروبية يشتد فيها الشعور الديني وتسودها فكرة الجامعة الإسلامية وتختلط الفكرة القومية عندها لحد كبير بالفكرة الإسلامية .

ويعتبر حسن البنا الذي نشأ فى أسرة دينية عريقة أنموذجا فريدا لفريق الشباب المتدين الرافض لتيار التغريب فقد تلقي تعليمه الابتدائي والاعدادي فى المحمودية والتحق بمدرسة المعلمين بدمنهور وانتقل إلى القاهرة للإلحتاق بمدرسة دار العلوم؛

وكان من الطبيعي بالنسبة لشباب تصطبغ أيديولوجية فى الحياة على هذا النحو ألا يستلفت نظره من ألوان الحياة والكفاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي والفكري الدائر فى القاهرة فى العشرينيات سوي ما يتعلق بما أسماه " بالتحلل الأخلاقي " وما اعتبره موجة من موجات "الإلحاد والإباحية "

ويعني بذلك الانفتاح على الحضارة الغربية والأخذ بالديمقراطية الليبرالية واعتناق الأفكار الاشتراكية كما كان من الطبيعي أن يتردد على مجالس ما أسماه بمعسكر الإسلامية الفاضلة وقصد به معسكر الأزهر والجمعيات الإسلامية ومدرسة المنار للشيخ رشيد رضا حيث التقي بكثير من الإعلام والفضلاء .

وفى عام 1927 حصل البنا على دبلوم دار العلوم وعين فى وظيفة مدرس بمدرسة الإسماعيلية الابتدائية الأميرية واستقر بمدينة الإسماعيلية وهو فى الحادية والعشرين من عمره .

وقد نشط على الفور لإبراز شخصيته فى المجتمع الذي يعيش فيه كداعية من طراز جديد فلم يتوجه إلى جمهور المساجد بل اختار عدة مقاة كبيرة فى المدينة ورتب فيها درسا فى الأسبوع وبعد ستة أشهر أثمرت خطته ففي مارس 1928 زاره بمنزله ستة من أصدقائه هم: حافظ عبد الحميد وأحمد الحصري وفؤاد إبراهيم وعبد الرحمن حسب الله وإسماعيل عز وزكي المغربي؛

حيث تمت بينه وبينهم بيعة على أن يعملوا للإسلام وللمسلمين وعندما أرادوا أن يطلقوا على أنفسهم اسما: جمعية أو ناد أو طريقة أو نقابة . رفض البنا هذه الأسماء كلها قائلا :" دعونا من الشكليات والرسميات وليكن أول اجتماعنا أساسه الفكرة نحن أخوة فى خدمة الإسلام فنحن إذا" "الإخوان المسلمون" وكانت تلك بداية أخطر حركة فى تاريخ مصر الحديث.

يتضح من ذلك أن حركة الإخوان المسلمين لم تدفع إليها عوامل سياسية تتعلق بقضايا الاستقلال والدستور أو رفض النظام القائم وإنما دفعت إليها أفكار سلفية تعارض تيار التغريب .

أما فكرة العنف والسعي للوصول إلى الحكم بالقوة فلم تكن واردة فى رءوس أصحابها وإنما العمل السلمي المتمثل فى إصدار الجرائد الإسلامية والوعظ والإرشاد وتأليف الجمعيات غيرها من الوسائل .

على أنه مع انتشار الدعوة ومرور الوقت كان لابد أن تحدد الجماعة موقفها الفكري من القضايا الإسلامية والسياسية العامة وعندئذ برزت لها إيديولوجية متكاملة واضحة المعالم تختلف عما بدأت به أو تتميز عما بدأت به وتشير الدلائل إلى أن البنا استقي هذه الإيديولوجية من مدرسة المنار فقد حضر مجالس رشيد رضا وكان كثير لمطالعة فى مجلة المنار حسب قوله .

وقد قامت هذه الإيديولوجية على دعائم بسيطة ولكنها خطرة فى نفس الوقت من حيث أنها تخالف وتتناقض مع إيديولوجية النظام السياسي القائم وتتمثل فى الأتي:

أولا: شمول الإسلام بمعني شموليته للدين والدنيا ووجوب عدم الفصل بينهما وقد شرحت مجلة النذير هذا المعني فى العدد الأول الذي صدر منها فى مايو 1938

فكتب البنا يقول:

"الإسلام عبادة وقيادة ودين ودولة،وروحانية وعمل وصلاة وجهاد،وطاعة حكم وصحف وسيف لا ينفك واحد من هذين عن الآخر . وإن " الله ليزع بالسلطان مالا يزع بالقرآن ".

وفى خطابه فى المؤتمر الخامس فى نفس العام كرر هذا المعني بحرفه قائلا:

" إن الذين يظنون أن تعاليم الإسلام تتناول الناحية العبادية أو الروية دون غيرها من الواحي مخطئون فى ذلك فالإسلام عبادة وقيادة ودين ودولة وروحانية وعمل وصلاة وجهاد وطاعة وحكم ومصحف وسيف لا ينفك واحد من هذين عن الآخر .
ثانيا: الرجوع بالإسلام إلى تعاليمه الأولي بعد أن التبس على الناس الدين الصحيح بما نسب إليه ظلما وجهلا "
وقد خطب البنا يقول: يجب أن تستقي النظم الإسلامية من معين السهوة الأولي وأن تفهم الإسلام كما كان يفهمه الصحابة والتابعون من السلف الصالح وان نقف عند هذه الحدود النبوية حتي لا نقيد أنفسنا بغير ما يقيدنا به الله"
ثالثا: الجامعة الإسلامية فقد عين البنا بوضوح لا يقبل الشك أن " كل قطعة أرض ارتفعت فيها راية الإسلام وهي وطن لكل مسلم يحتفظ به ويعمل له ويجاهد ف سبيله " والإسلام كما هو عقيدة وعبادة وهو وطن وجنسية ويعتبر المسلمين جميعا أمة واحدة ويعتبر الوطن الإسلامي وطنا واحدا ".
رابعا: التمسك بفكرة الخلافة . وهي مرتبطة بالفكرة السابقة وقد أوضح البنا ذلك فى خطابه فى المؤتمر الخامس عام 1938 فذكر أن "الإخوان يعتقدون أن الخلافة رمز الوحدة الإسلامية ومظهر الارتباط بين أمم الإسلام؛
وأنها شعيرة إسلامية يجب على المسلمين التفكير فى أمرها والاهتمام بها والأحاديث التى وردت فى وجوب نصب الإمام وبيان أحكام الإمامة وتفصيل ما يتعلق بها لا تدع مجالا للشك فى أن من اجب المسلمين أن يهتموا بالتفكير فى أمر خلافتهم . والإخوان المسلمون لهذا يجعلون فكرة الخلافة والعمل لإعادتها فى رأس منهاجهم.
خامسا: الحكومة الإسلامية. وقد أعلن البنا بوضوح أن الإخوان المسلمين يتجهون فى جميع خطواتهم وآمالهم وأعمالهم نحو الحكومة الإسلامية " بعد مضي فترة تنتشر فيها مبادئهم وتسود "

وقال:

"إن الإسلام الذي يؤمن به الإخوان المسلمون يجعل الحكومة ركنا من أركانه ويعتمد على التنفيذ كما يعتمد على إرشاد وقد جعل النبي الحكم عروة من عري الإسلام والحكم معدود فى كتبنا الفقهية من العقائد والأصول لا من الفقهيات والفروع فالإسلام حكم وتنفيذ كما هو تشريع وتعليم كما هو قانون وقضاء لا ينفك واحد منهما عن الآخر ".

كانت هذه هى دعائم أيديولوجية الإخوان المسلمين وهي تتناقض تناقضا بينا كما هو واضح مع فلسفة النظام السياسي والاجتماعي الجماعة بدلا من الحكومة المدنية التى تحكم ولم يعد دستور 1923 المدني بصالح لحكم المجتمع الإسلامي وتنظيم علاقاته

وأما الإطار القومي المحدود الذى يعمل من خلاله الوطنيون المصريون فلم يعد هو الإطار الوحيد بل الإطار الإسلامي العريض بما يشمله من فكرة الجامعة الإسلامية الخلافة وفضلا عن ذلك فلم تعد الجماعة تكتفي بالعمل فى إطار الناحية العبادية أو الروحية بل امتدت بعملها إلى الناحية السياسية فالإسلام عبادة وقيادة ودين ودولة وطاعة وحكم ومصحف وسيف لا ينفك واحد من هذين عن الآخر .

النزول إلى ميدان العمل السياسي

ويمكن تحديد بدء اشتغال جماعة الإخوان المسلمين علانية بالعمل السياسي بعام 1938 ففي مايو من هذا العام أصدر البنا مجلة النذير

سياسية أسبوعية وصدر العدد الأول منها يحمل فى افتتاحه:

"اتجاه الإخوان المسلمين الوطني وابتداء اشتراكهم فى الكفاح السياسي فى الداخل والخارج " على حد قول البنا

وفى هذا المقال التاريخي الهام يكتب البنا يقول:

" منذ عشر سنوات بدأت دعوة الإخوان المسلمين خالصة لوجه الله . مقتفية أثر الرسول الأعظم صلى الله عليه وسلم متخذة منهاجها تتلوه وتقرؤه وتتفحصه وتنادي به وتعمل له وتنزل مصر علي حكمه وتوجه أنظار الغافلين عنه من المسلمين وغير المسلمين ...
وكانت مصر يوم أن نبتت هذه الدعوة المجددة لا تملك من أمر نفسها قليلا ولا كثيرا يحكمها الغاصبون ويستبد بأمورها المستعمرون وأبناؤها يجاهدون فى سبيل استرداد حريتها والمطالبة باستقلالها ولم يخل الجو من منازعات حزبية وحزازت سياسية تذكيها مآرب شخصية؛
ولم يشأ الإخوان المسلمون أن يزجوا بأنفسهم فى هذه الميادين فيزيدوا خلاف المختلفين ويمكنوا للغصبين ويلوثوا دعوتهم وهي فى مهدها بلون غير لونها ويظهروها للناس فى صورة غير صورتها فتقلبت الحكومات وتغيرت الدولات؛
وهم يجاهدون مع المجاهدين ويعملون مع العاملين منصرفين إلى ميدان مثمر هو ميدان تربية الأمة وتغيير العرف العام وتزكية النفوس وتطهير الأرواح.. وأعتقد أنهم نجحوا فى ذلك إلى مدي يحمدون الله عليه ويسألونه المزيد منه ". هذه مرحلة من مراحل الإخوان التي اجتزناها بسلام وفق الخطة الموضوعة لها وطبق التصميم الذي رسمه توفيق الله
" والآن أيها الإخوان قد حان وقت العمل وآن أوان الجد ولم يعد هناك مجال للإبطاء فإن الخطط توضع والناهج تطبق ولكنها متأرجحون سننتقل من دعوة الكلام وحسب إلى دعوة الكلام المصحوب بالنضال والأعمال وسنتوجه بدعوتنا إلى المسئولين من قادة البلد وزعمائه ووزرائه وكافة حكامه وشيوخه ونوابه وأحزابه ,سندعوهم إلى مناهجنا ونضع بين أيديهم برنامجنا ...
فإن أجابوا الدعوة وسلكوا السبيل إلى الغاية آزرناهم وإن لجئوا إلى المواربة وتستروا حزب أو هيئة والحجج المردودة فنحن حرب على كل زعيم أو رئيس حزب أو هيئة لا تعمل على نصرة الإسلام ولا تسير فى الطريق لاستعادة كلمة الإسلام ومجد الإسلام سنعلنها خصومة لا سلم فيها ولا هوادة حتي يفتح الله بيننا وبين قومنا بالحق وهو خير الفاتحين .
"إلى الآن أيها الإخوان لم تخاصموا حزبا ولا هيئة كما أنكم لم تنضموا إليهم كذلك .. كان ذلك موقفكم أيها الإخوان سلبيا هكذا فيما مضي أما اليوم وإما فى هذه الخطوة الجديدة فلن يكون كذلك .ستخاصمون هؤلاء جميعا فى الحكم وخارجه خصومة شديدة إن لم يستجيبوا لكم ويتخذوا تعاليم الإسلام منهاجا سيرون عليه ويعملون له فأما ولاء وأما عداء .
"ولسنا فى ذلك نخالف خطتنا أو ننحرف عن طريقنا أو نغير مسلكنا بالتدخل فى السياسة كما يقول الذين لا يعلمون ولكنا بذلك ننتقل خطوة ثانية فى طريقنا الإسلامي وخطتنا المحمدية ومنهاجنا القرآني ولا ذنب لنا ان تكون السياسة جزءا من الدين وأن يشمل الإسلام الحاكمين والمحكومين فليس فى تعاليمه:أعط مالقيصر لقيصر ومالله لله. ولكن فى تعاليمه قيصر ومالقيصر لله الواحد القهار "
ثم حذر البنا من أنه سيكون من نتائج هذه الخطوة الجديدة تعرض الإخوان لاضطهاد وما فوق الاضطهاد والسجون وما هو أشق من السجون ولتبلون فى أموالكم وأنفسكم .
فمن كان معنا فى هذه الخطوة فليتجهز وليستعد لها ومن قعدت به ظروفه أو صعبت عليه تكاليف الجهاد سواء أكان شعبة من شعب الإخوان أم فردا من أعضاء الجماعة فليبتعد عن الصف قليلا وليدع كتيبة الله تسير ثم فليلقنا بعد ذلك فى ميدان النصر إن شاء الله .
واختتم كلمته بإبداء أمل الإخوان فى جلالة الملك المسلم أملا محققا وفى الشعب المصري ومعه الشعوب الإسلامية المتآخية بعقيدة الإسلام .

والسؤال الذى يطرح نفسه: ما الذى دفع بحسن البنا إلى ميدان السياسة؟. فى الواقع أن نمو القوة الذاتية لجماعة الإخوان المسلمين عامل أساسي فى هذا التحول ففي ذلك الحين كان الإخوان قد انتقلوا بفضل نشاط البنا وديناميكيتة من مجرد جماعة صغيرة محصور فى ميدينة الإسماعيلية يقل عددها عن المائة إلى جماعة تنتشر مساحتها على ما يزيد على خمسين بلدا فى النذير يعلن أن الإخوان قد أصبح لهم " دار فى كل مكان ودعوة على كل لسان وأكثر من ثلاثمائة شعبة تعمل للفكرة "

ولكن هل نستطيع اعتبار هذا السبب وحده كافيا لنزول البنا إلى ميدان السياسة فى الواقع أن اختيار البنا لهذا العام بالذات لنزول إلى السياسة يعد اختيارا مشبوها فهذا العام يعد عام الرجعية دون ريب

ففي ختام العام السابق كان الملك فاروق قد تمكن من إقالة وزارة الأغلبية وأصبح يهيمن على مصير البلاد عن طريق وزارة محمد محمود باشا التي ضمت أقطاب الأقلية وفى هذا العام ارتفع المد الفاشي إلى ذراه تحت قيادة أحمد حسين زعيم مصر الفتاة الذى أخذ يهاجم الأحزاب علنا ويطعن فى الدستور والمناداة بالملك فاروق خليفة للمسلمين وهل كلها شعارات كانت تخفي الزمنية والدينية بين يديه باسم الخلافة .

فى هذه الظروف نزل البنا إلى ميدان السياسة لا ليقف إلى جانب القوي الديمقراطية وإنما ليقف إلى جانب القوي الرجعية ممثلة فى القصر الذى كان يدبر دفنه على ماهر باشا .

وربما يرجع جزء من السبب فى ذلك إلى أن هذه القوي ككل قوي رجعية فى البلاد النامية تحرص على استخدام شعارات الدين ضد خصومها لاجتذاب صفوف الجماهير المتدينة كان القصر فى ذلك الحين يلوح بهذا السلاح فى جرأة حتي على حساب الوحدة الوطنية زعما بأن حكومة الوفد تسيطر عليها العناصر القبطية (مكرم عبيد باشا) بينما كان الشيخ المراغي الذى كانت علاقته بالقصر معروفة يبدي خشيته من قيام "ورداني" جديد

ولكن من كان يستخدم الآخر ؟ هل كان البنا يستخدم القصر أم كان القصر يستخدم البنا من العسير الإجابة على هذا السؤال والأرجح أن كلا من الطرفين كن يستخدم الأخر .

ومن ناحية البنا فلعله كان يري فى شعارات الدين التي يرفعها القصر ما يقرب تنفيذ فكرة الحكومة الإسلامية والخلافة فضلا عن أنه كان يشترك مع القصر فى رفض الأحزاب وعلي كل حال فلم يكن ينتمي إلى المعسكر القومي الليبرالي الممثل فى الوفد ولما كان الوقوف على الحياد عسيرا فقد بدا موقفه إلى جانب قوي القصر محتوما.

أما من ناحية القصر المنعزل عن الجماهير المصرية فقد كان فى حاجة إلى الاستفادة من قوة الإخوان المسلمين الشعبية المتزايدة . فى محاربة الوفد والقضاء عليه وهذا الاتجاه إلى الاستفادة من قوة الإخوان المسلمين اتجاه قديم بدا من وقت انتقال المركز العام إلى القاهرة .

فتذكر البنا فى مذكراته أنه فى ذلك الحين بينما الدعوة لا تزال ناشئة والأحوال فى مسيس الحاجة إلى المال والإسماعيلية لا تزال تمدهم بمساعدة شهرية عرض عليهم أن يروجوا للوضع السياسي القائم وهو حكومة صدقي باشا بما أرادت من دستور وانتخاب ولكن الإخوان رفضوا هذا العرض وأخفقت كل المحاولات لحملهم على ذلك .

على أن البنا مع ذلك لا يفسر انتشار الدعوة فى عهد الانقلاب حتي ارتفع عدد فروع الجمعية ن عشرة قبل انتقال البنا إلى القاهرة إلى خمسين بعد عام واحد ثم ثلثمائة فى عام 198 ؛

وإذا كان هذا مفهوما بالنسبة لفترة حكم الوفد لالتزامه بالخط الدستوري الديمقراطي فهو غير مفهوم فى عهد الانقلاب الذى لم يتردد فى مطاردة جماعة مصر الفتاة فى أوائل ظهورها تحت ذريعة خطة التهييج التي اتبعتها حتي تحالفت معه وعملت فى خدمته وعلى كل حال تبقي هذه الملاحظة صحيحة وهي أن جماعة الإخوان المسلمين كانت تزدهر دائما أبدا فى العهود الرجعية حتي وقع الانشقاق بينهما وانفض التحالف عام 1948.

أنكر البنا قيام أى اتفاق بين جماعته وعهد صدقي ولكنه لم يستطع إنكار علاقته بعلي ماهر والعهد الرجعي الذى بدأ بانقلاب 30 ديسمبر 1937. وفى الحقيقة أن علاقة الجماعة بعلي ماهر قد توطدت إلى الحد الذي كاد يوقع الانشقاق فى صفوفها وكانت المناسبة حين عاد على ماهر باشا من مؤتمر فلسطين فى لندن (المائدة المستديرة)

فقد ذهب وفد من الإخوان لاستقباله وعلى رأسه أحمد السكري وعندما وصل الباشا هتف أحمد السكري بحياته وأمر الإخوان أن يهتفوا بحياته كذلك فهتف بعضهم وامتنع الآخرون وعادوا ثائرين ورفعوا إلى البنا

كما يقول احتجاجا عنيفا ذكروا فيه أن الإخوان المسلمين ليسوا هتافين وأنهم لم يهتفوا لأشخاص وإنما يذكرون الله وحده

" فطيبت خاطرهم بأن هذه تحية المسافر وأننا لا نحي شخصا ولكن نحيى عمله لفلسطين فاحتسبوها عند الله فى سبيل فلسطين العربية وفى الحق لقد أعتبر الإخوان المسلمين وزارة على ماهر . التي خلفت وزاره محمد محمود باشا. وزارتهم أو ما هو أشبه بذلك هذا على الرغم من مخاصمتهم الأحزاب.
وقد بلغ من توثق صلتهم بعلى ماهر أن أرادوا الوثوب فى عهه إلى قيادة الجيش المرابط والسيطرة على وزارة الشئون الاجتماعية (وكان على ماهر باشا قد أنشأهما فى بداية حكمه) بحجة أن " الإخوان المسلمين قد مارسوا المهنتين ممارسة فعلية منذ سنوات طويلة ".

وقد أدرك البنا ما سوف تثيره مثل هذه السيطرة من اعتراضات فكتب إلى على ماهر قائلا:

" سيقول أناسي أن الرجعيين يريدون أن يهيمنوا على نهضة البلد . ويمدوا أصابعهم فى كل شئ سيري هؤلاء القائلون بعد طول المطاف وكثرة أصابعهم فى كل شئ سيري هؤلاء القائلون بعد طول المطاف وكثرة التجارب أن نصرة هذا البلد وإعزازه وتوفير الخير له سيكون على أيدي هؤلاء الرجعيين"

الفصل الثاني:نشأة جيش الإخوان وتكوين الجهاز السري

في تلك الأثناء وكما تشير الأدلة كان البنا يعمل على تحويل جماعة الإخوان المسلمين من جماعة مدنية إلى جماعة شبه عسكرية والانتقال من مرحلة الاعتماد على وسيلة "الحب والإخاء والتعارف" فى نشر الدعوة إلى مرحلة الاستعداد لتنفيذ أهدافها بالقوة . فأخذ فى بناء جيش كبير تحت اسم برئ و " فرق الرحلات ".

ويذكر البنا أن هذه الفرق

"قد أنشئت عقب نشأة الدعوة وكانت تلازم أول شعبها وجودا وقد ألفت بنفسي أول فرقة وكنت أزاول تدريبها بشخصي على بع التمرينات الرياضية التي كنا نزاولها بالمدارس .
وفى عام 1934 تبلورت فكرة تعميم فرق الرحلات فى الشعب الأخرى فى مشروع كبير باسم " مشروع فرق الرحلات " عرض على المؤتمر الثالث لمجلس شوري الإخوان فأقره كما أقر لائحة أعدت له قامت بتعديلها لجنة خاصة .
وفى هذا المؤتمر أعيد تنظيم عملية الانضمام إلى الإخوان بحيث تصبح على ثلاث مراتب حسب ارتقائها كالآتي :" الانضمام العام ويسمي الأخ فيه أخا مساعدا والانضمام الأخوي ويسمي العضو فيه أخا منتسبا ثم الانضمام العملي ويسمي العضوية فيه أخا عاملا وفى هذه المرحلة الأخيرة وحدها يحق للعضو العامل الانضمام إلى فرق الرحلات كما أنشئت مرتبة رابعة يسمي العضو فيها أخا مجاهدا .

وقد ذكر البنا أن الفكرة فى تأسيس فرق الرحلات هو الثائر بفكرة الجهاد الإسلامي وتحقيقا لنيته وتنفيذا لأمر الإسلام وتحرجا مما جاء فى الحديث الشريف " من مات ولم يغز ولم ينو الغزو مت ميتة جاهلية".

فكرة الجهاد والغزو أو نية الغزو إذن كانت وراء إنشاء أو تطوير فرق الرحلات بالشكل الذي انتهت إليه وفى الفترة من عام 1934 إلى 1937 كانت هذه الفرق قد نمت إلى الحد الذي قرر فيه البنا أن يقيم عرضا للقوة القوة فى خدمة القصر وليس فى خدمة القوي الديمقراطية

وكان ذلك بمناسبة قدوم الملك فاروق إلى القاهرة فى يوليو 1937 فقد قرر الاشتراك فى هذه المناسبة ووصفت مجلة الإخوان المسلمين هذا الاشتراك وصفا مثيرا تحت عنوان :" حشد لم يسبق له نظير فى تاريخ مصر الحديثة " وفي هذا الوصف أطلقت الجريدة على " فرق الرحلات" اسم " الفرق العسكرية " أول مرة !

وقد ورد به الآتي:


" لم يكد يعلن المركز العام للإخوان المسلمين بالقاهرة الشعب النابعة له بالأقاليم عن هذا الحشد ويصدر الأوامر إلى فرقة العسكرية بالزحف إلى القاهرة حتي انهمر سيل الإخوان ...
كانت سارية اللواء تبلغ حوالي أربعة أمتار وصف متر وعليها رقعة فسيحة من القطيفة الخضراء وقد رسم عليها المصحف فى نصف هلالية وكتب فى أعلاها:" الله أكبر ولله الحمد " ومن تحتها:" الإخوان المسلمون". وقد حمل اللواء السيد نصير بطل العالم فى حمل الأثقال بعد أن أعتنق مبادئ الإخوان المسلمين.

وانتظمت فرق الرحالة فى اثر العلم

وفى ساحة عابدين انتظم الإخوان على باب القصر رافعين أعلامهم يهتفون :" الله أكبر ولله الحمد الإخوان المسلمون يبايعون الملك العظم نبايعك على كتاب الله وسنة رسوله "

ومن الطريف أنه حين أعيد طبع "مذكرات الدعوة والداعية" عن "دار الشهاب" فى عام 1977 حذفت منها هذه الواقعة مما يحمل فى حد ذاته إدانة دامغة لها.

وفى عام 1938 قرر البنا النزول إلى ميدان السياسة كما ذكرنا وفي نفس العام قرر إعادة هذه الفرق وعين لهذه المهمة على خليل مدرب فرقة أبو صوير و الذي أصبح مشرفا عاما على الفرق؛

وفى العام التالي صدرت توجيهات مكتب الإرشاد فى منشور دوري إلى جميع الشعب تتضمن تخصيص يوم في الأسبوع يسمي يوم المعسكر:يقدم فيه الإخوان المسلمون عرضا عسكريا يتدربون فيه وورد الإخوان المسلمون كل العناية فيه يتكون الجيش الإسلامي وبه يستطيع أن يحقق الأمل ويرفع اللواء عاليا .

ولم تلبث الحرب العالمية الثانية أن نشبت فى 3 سبتمبر 1939 لتنقل التنظيم العسكري للإخوان المسلمين إلى طور جديد ففي العام التالي 1940 وحتي يتغلب البنا على العقبات التي قد تثور فى وجه فرق الرحلات فى ظروف الحرب قرر الانضواء رسميا تحت تشكيل النظام العام لجمعية الكشافة؛

حتي يستفيد الإخوان من التسهيلات والمزايا التي تستفيد بها الفرق من تسجيلها رسميا بالجمعية والاستفادة أيضا من وجود بعض شباب الإخوان الذي يعمل رسميا بالجمعية أو خارجها فى محيط الحركة الكشفية وقد تكون مجلس أعلي للجوالة من سبعة أعضاء وعلى رأسهم حسن البنا وعين الصاغ محمود لبيب مفتشا عاما وهو ضباط بالجيش .

ولم يلبث المجلس الأعلي للجوالة أن افتتح مدرسة للمدربين خرجت 35 مدربا بعد شهرين على أيدي صفوة من رجال الكشف . وتكونت المجموعات فى محيط القاهرة مبدئيا وأشرف عليها هؤلاء المدربون .

وبعد نجاح المشروع فى القاهرة بدئ بتنفيذه فى الإسكندرية ثم أخذ ينتشر فى أحضان الريف وتحت هذا الأستاذ المشروع بلغ تعداد الجوالة عند نهاية الحرب 45,000 جوال .

ومن الأمور ذات المغزي أن قانون الكشافة كان يحظر حظرا باتا على الكشافة أن تنتمي إلى جماعات سياسية أو دينية كما أن القانون الذي أصدره محمد محمود باشا فى 8 مارس 1938 كان يحظر الجمعيات أو الجماعات التي يكون لها سواء من حيث تأليفها أو عملها أو من حيث تدربت أعضائها أو نظامهم أو زيهم أو تجهيزيهم صورة التشكيلات شبه العسكرية .

ومعني ذلك بوضوح أن جوالة الإخوان المسلمين كانت ضد القانون العام والخاص على السواء ومع ذلك فقد سمح ببقاء هذا الجيش وقت الحرب فى الوقت الذى طبق فيه هذا القانون على فرق القمصان الزرقاء وفرق القمصان الخضراء لمصر الفتاة وكانت جوالة الإخوان المسلمين تملأ مصر من أقضاها لأدناها تسير فى كل مكان وفى كل مدينة وقرية وهي تكبر وتهلل تظهر قوتها .

ولقد كانت الخطوة الطبيعية التالية هي الحصول على الأسلحة وهناك شاهد عيان على أن هذه العملية كانت تتم فى المراحل الأولي من الحرب هو أنور السادات فقد أورد أن حسن البنا كان فى ذلك الوقت المبكر يجمع السلاح ويشتريه ويخزنه ولكنه لم يكن يطلع عليه أقرب الناس إليه من كبار الإخوان المسلمين وإنما كان يستعين فى هذه العمليات بإخوان من الشبان الصغار .

وقد ذكر أنه عرف ذلك حين كان يجلس مع البنا فى يوم من الأيام فدخل عليه جندي متطوع يحمل فى يديه صندوقين مغلقين ولما رآه أجفل ولكن البنا أمره بأن يفتحهما وكان فيهما عشرات من أنواع المسدسات .

ولكن لم كل هذا التسليح من جانب البنا ؟. هل كان لأسباب وطنية تتعلق بإخراج الإنجليز من مصر أم كان لأسباب داخلية تتعلق بالاستيلاء على الحكم عند اللزوم؟.

بالنسبة للسبب الأول فمن الثابت أن الإخوان المسلمين لم يتورطوا فى أى دور من أدوار المقاومة السرية ضد الإنجليز أثناء الحرب العالمية الثانية وعندما أعد أحمد حسين رئيس مصر الفتاة خطة عمل ضد الإنجليز عند شروع الألمان فى الهجوم على الجزر البريطانية كما كان متوقعا وحاول الاستعانة بحسن البنا وجماعته رفض البنا ذلك .

وكان مما قاله له:ر

" أنا لا نبحث عن مغامرة قد تخيب وتفشل وإنما نعد أنفسنا لعمل قوي ناجح لأن الفشل يكون كارثة لاعلى حركتنا او مصر فحسب بل على العالم الإسلامي كله ".

أما بالنسبة للسبب الثاني ففي الحقيقة أن البنا لم يخف أن الحكم كان طلبه الرئيسي منذ قرر النزول إلى ميدان السياسة بل لقد اعتبر قعود الإخوان عن طلب الحكم " جريمة إسلامية " لا يكفرها إلا " النهوض واستخلاص قوة التنفيذ " ولكن المسألة فى رأيه تتطلب عدو مراحل تقطعها الدعوة قبل أن تنضج للحكم.

ففى خطابه فى المؤتمر الخامس عام 1938 رد على من يتساءلون هل فى منهاج الإخوان المسلمون أن يكونوا حكومة وأن يطالبوا بالحكم وما وسيلتهم إلى ذلك ؟

فقال :

" إن المصلح الإسلامي أن رضي لنفسه أن يكون فقيها مرشدا يقرر الأحكام ويرتل التعاليم ويسرد الفروع والأصول وترك أهل التنفيذ يشرعون للأمة ما لم يأذن به الله و ويحملونها بقوة التنفيذ على مخالفة أوامره. فإن النتيجة الطبيعية أن صوت هذا المصلح سيكون صرخة فى واد ونفخة فى رماد .

قال:

قد يكون مفهوما أن يقنع المصلحون الإسلاميون برتبة الوعظ والإرشاد إذا وجدوا من أهل التنفيذ إصغاء لأوامر الله وتنفيذا لأحكامه وإيصالا لآياته وأحاديث نبيه صلى الله عليه وسلم؛
أما والحال كما نري: التشريع الإسلامي فى واد والتشريع الفعلي والتنفيذي فى واد آخر فإن قعود المصلحين الإسلاميين عن المطالبة بالحكم جريمة إسلامية لا يكفرها إلا النهوض واستخلاص قوة التنفيذ من أيد الذين لا يدينون بأحكام الإسلام الحنيف
وعلى هذا فالإخوان المسلمون لا يطلبون الحكم لأنفسهم فإن وجدوا من الأمة من يستعد لحمل هذا لعبء وأداء هذه الأمانة والحكم بمنهاج إسلامي قرآني فهم جنوده و أنصاره وأعوانه وإن لم يجدوا فالحكم من منهاجهم وسيعملون لاستخلاصه من أيدي كل حكومة لا تنفذ أوامر الله ".

على أنه فى الوقت نفسه بين أن

"الإخوان أعقل وأحزم من أن يتقدموا لمهمة الحكم ونفوس الأمة على هذا الحال فلابد من فترة تنشر فيها مبادئ الإخوان وتسود ويتعلم فيها الشعب كيف يؤثر المصلحة العامة على المصلحة الخاصة.

وقد شرح الشيخ حسن البنا فى رسالة التعاليم مني إلى إخوان الكتائب ثلاث مراحل يجب أن تمر بها دعوة الإخوان:

الأولي مرحلة التعريف: وتقوم على أساس استخلاص العناصر الصالحة لحمل أعباء الجهاد وتجميعها ويكون نظام الدعوة فيها صوفيا بحتا من الناحية الروحية وعسكريا بحتا من الناحية العلمية وشعار هاتين الناحيتين دائما أمر وطاعة من غير بحث ولا مراجعة ولاشك ولا حرج ولا يتصل بهذه المرحلة إلا من استعد استعداد حقيقيا لتحمل أعباء الجهاد الطويل المدي وتحمل التبعات وأول بودار هذا الاستعداد كمال الطاعة .
أما المرحلة الثالثة وهي مرحلة التنفيذ فهي الدعوة فى طور جهاد لا هوادة فيه وعمل متواصل فى سبيل الوصول إلى الغاية وامتحان وابتلاء وعلى ذلك يمكن القول أن البنا فى ذلك الحين كان فى " مرحلة التكوين " استعداد لمحلة التنفيذ .

المحنة الأولي وتكوين النظام الخاص

على أن الأقدار فى ذلك الحين تعد لأول صدام بين السلطة والإخوان المسلمين فى ظروف لم تكن قد نضجت لها قوة الإخوان ففي عهد حسين سري باشا وبطلب من السلطات البريطانية تمت مصادرة مجلتي التعارف والشعاع الأسبوعيتين والغي ترخيص مجلة المنار الشهرية التى أعاد الإخوان المسلمون إصدارها بالتعاون مع ورثة الشيخ رشيد رضا؛

ومنع طبع أى رسالة من رسائلهم أو إعادة طبعها وأغلقت مطبعتهم ومنعت اجتماعاتهم وحظر على الصحف نشر أخبارهم وفى 19 أكتوبر 1941 اعتقلت الحكومة حسن البنا وأحمد السكري وعبد الحكيم عابدين وأودعوا معتقل الزيتون وبذلك تعرضت الدعوة لأول خطر حقيقي تشهده منذ ظهورها .

على أن القصر لم يلبث أن تحرك لإنقاذ الإخوان واضطر حسين سري إلى الإفراج عن حسن البنا وأحمد السكري فى 13 نوفمبر أى قبل مضي شهر واحد على الاعتقال ما أفرج عن عبد الحكيم عابدين وحتي يكن البنا على علم بصاحب الفضل فى هذا الإفراج فقد زار حامد جودة وزير التموين السعدي لشيخ حسن البنا فى معتقله قبل الإفراج عنه بأيام وجلس معه ساعات وأعلمه أنه يعمل على الإفراج عنه .

على هذا النحو انتهت المحنة الأولي سريعا ولكن بعد أن خلفت أثرين فى خطة البنا:

الأول: تحاشي الاصطدام مع البريطانيين بأى ثمن تفاديا لإجهاض دعوته.
ثانيا: بناء التنظيم السري .

وبالنسبة للبريطانيين فيقول البعض أن اتفاقا صامتا قد تم بينه وبينهم على التعاون لمحو أسطورة الحاج محمد هتلر فى الجوامع والامتناع عن أى نشاط معاد لهم فى مقابل التغاضي عن نشاط الإخوان فى المدن والقرى والمدارس .

وكان البريطانيين بعد نجاح القصر فى إطلاق سراح البنا ورفاقه قد أثروا الاتفاق مع الإخوان فاتصلوا بهم وجري حوار حول أفكار الجماعة وبرنامجها عرض فيه ممثل السفارة "مساعدة الجماعة على تحقيق أهدافها"

وقد اختلفت المصادر حول قبول و عدم قبول هذه المساعدة فبينما ذكر البعض أن البنا أبدي استعدادا للتعاون وقبول نوع من "الدعم المالي " أنكرت مصادر الإخوان نية البنا فى قبول " أموال الفكرة ".

وسواء قبل الإخوان دعما من بريطانيا أم لم يقبلوا فمن الثابت أنهم امتنعوا عن القيام بأى نشاط ضد البريطانيين بعدها فلم يكن لهم دور فى مظاهرات إلى الإمام ياروميل التى جرت فى أول فبراير 1942 أى بعد شهرين من الإفراج ولم ينسب إليهم أى دور بعد ذلك .

ويدخل فى هذا الإطار إطار مهادنة السلطة البريطانية أثناء الحرب مهادنة الإخوان لحكومة الوفد التي تألفت فى 4 فبراير 1942 فحين أ‘ترض النحاس على ترشيح البنا نفسه لعضوية البرلمان؛

وعرض عليه إطلاق يده فى الشئون الدينية فى مقابل الامتناع عن الاشتغال بالسياسة قبل البنا ذلك لا لأنه كان ينوي التنفيذ الفعلي وإنما لأن هذا الاتفاق كان يتيح له استكمال "مرحلة التكوين" تحت شعار النشاط الديني وبناء قوته العسكرية؛

وكان هذا النشاط يحرج حكومة الوفد التي عمدت إحدي المرات إلى إغلاق جميع شعب الإخوان ما عدا المركز العام والتضييق عليهم فى الاجتماعات والمطبوعات ولكن ليبرالية الوفد كانت تتغلب فتطلق يدهم مرة أخري (محمد شوقي زكي) يتخذ هذا الكتاب موقفا نقديا شديدا من حكومة الوفد يخفي فيه الحقائق..

فقد صورها فى صورة الانضياع للضغط البريطاني على أن هذا الموقف نفسه كان موضع إشادة من جانب الجماعة فى بيانهم ردا على حل النقراشي باشا للجماعة فى 8 ديسمبر 1948

فقد ذكر البيان أن السفارة ضغطت على النحاس باشا لحل الجماعة ولكنه رفض واكتفي بإغلاق الشعب وأبقي المركز العام (انظر فهمي أبو غدير :قضيتنا آخر ما كتب الإمام الشهيد قبل اغتياله (ص 29 – 40)

ومن المؤكد على كل حال أن علاقة الصداقة بين الإخوان والوفد أفادت حركة الإخوان فائدة كبري لأنها أكسبهم عطف الجماهير الوفدية الغفيرة التي لم ير بعضها ما يحول دون الجمع بين انتمائه الوفدي وانتمائه الإخوان .

بناء التنظيم السري

كانت النتيجة الثانية لاصطدام السلطة بالشيخ حسن البنا تكوين النظام السري أو النظام الخاص كما ذكرنا وقد حدد محمد خميس حميدة نائب المرشد العام للإخوان المسلمين تاريخ نشأة هذا النظام بأنه:

" حوالي سنة 1942 أو قبل كده" وهو تاريخ يناسب مجري الأحداث التي نحن بصددها يضاف إلى ذلك أن الصاغ محمود لبيب الذى كشفت محاكمات الإخوان عام 1954 أنه صاحب الفكرة فى تكوين هذا النظام كان فى تلك الأثناء مفتشا عاما للجوالة .

وكما ذكرنا فإن الالتحاق "بفرق الرحلات" التي تحولت إلى فرق الجوالة كان قاصرا على " الإخوان العاملين" وهي المرتبة الثالثة من مراتب العضوية فى الجماعة وكانت هذه المرتبة تمهد للمرتبة التالية لها وهي مرتبة "الإخوان المجاهدين" وقد حدد المؤتمر الثالث لمجلس شوري الإخوان شروط العضوية فى هذه المرتبة الأخيرة بأنها من حق الأخ العامل الذى يثبت لمكتب الإرشاد محافظته على واجباته السابقة "

وقد كان نظام الجوالة فى البداية نظاما اختياريا بالنسبة للأخ العامل ولكن صدرت بعد ذلك تعليمات تنص على أن " يعتبر كل أخ عامل جوالا ويجب أن يدرب تدريبات الجوالة وعلى كل جوال أن يكون أخا عاملا .. ولا يقبل فى صفوف الجوالة إلا من كان على هذه الصفة " .. ثم صدرت نشرة إدارية تقضي باعتبار نظام الجوالة " نظاما أساسيا" لا تكميليا .

وقد ورد بهذه النشرة:

"إذا كان الإخوان فى إدارة الشعب لا يزالون يعتقدون أن الجوالة نظام تكميلى فإن عليهم أن يغيروا هذا الاعتقاد تماما .. فإن نظام الجوالة نظام أساسي رئيسي فى فكرة الإخوان يراد به تدريب الأعضاء وتحقيق نية الجهاد "

وقد وضع البنا نظاما يعرف باسم " نظام الأسر " يعتبر المجال العملي للتربية الروحية فى الإخوان وكان نظام الأسر كما يقول محمد شوقي زكي يسمي فى أول أمره نظام الكتائب وعندما نظمت عضوية الإخوان إلى مراتب :" إخوان مساعدين" و"عاملين" و" مجاهدين" أصبح دخول نظام السر قاصرا على " الإخوان العاملين "

وكانت كل أسرة تتكون من عدد يتراوح ما بين خمسة وعشرة أعضاء وتقوم على أساس طبقي أو فئوي فكانت تتكون أما من طلبة أو موظفين أو عمال ومن تعاليم نظام الأسر أن يعرف كل فرد فيها جميع شئون أعضاء اجتماعا أسبوعيا فى منزل أحد الأعضاء وليس فى مقر الشعبة لزيادة التآلف وتدارس النواحي الدينية .

كما كان من برامجها القيام برحلات وحضور "اجتماعات روحية" مع أشخاص أكثر علما بشئون الدعوة وفهما لها.ولم يلبث نظام السر أن تحول إلى نظام لتخريج "الأخوة المجاهدين" وهم خاصة الإخوان وأرقي مراتب العضوية فيهم .. بدليل أن الشيخ حسن البنا حين أصدر رسالته:" نظام الأسر ورسالة التعاليم"

وجه الخطاب فى هذه الرسالة أركان البيعة بعشرة على النحو الآتي:

الفهم والإخلاص والعمل والجهاد والتضحية والطاعة والثبات والتجرد والأخوة والثقة وقد عرف " الجهاد" بأنه :" الفريضة الماضية إلى يوم القيامة والمقصودة بقول رسول الله :" من مات ولم يغزو ولم ينو الغزو مات ميتة جاهلية"

وقال أن أولي مراتب الجهاد هى إنكار القلب وأعلاها القتل فى سبيل الله وبين ذلك جهاد اللسان والقلم واليد وفسر التضحية بأنها " بذل النفس والمال ،والوقت والحياة ،وكل شئ فى سبيل الغاية " وفسر الطاعة بأنها امتثال الأمر وإنفاذه توا فى العسر واليسر والمنشط والمكره وفسر الثقة بأنها اطمئنان الجندي إلى قائده فى كفاءته وإخلاصه اطمئنانا عميقا .

وقد أطلق البنا على هؤلاء المجاهدين اسم "رجال الكتائب" ومن هنا جاء عنوان رسالته :رسالة التعاليم إلى "إخوان الكتائب " ونجد فى شهادة عبد المجيد حسن قاتل النقراشي باشا تفسيرا لهذا الاسم ..

فقد أورد أن البنا كان يعتقد لهم اجتماعات ليلية للدراسات الروحية يبيتون فيها معه فى المركز العام أو إحدي الشعب إلى الصباح وكان يطلق على هذه الاجتماعات اسم "الكتائب " فرجال الكتائب إذن يقصد بهم رجال هذه الاجتماعات من خاصة الإخوان الذين يعدهم البنا للجهاد ... وكانت هناك كتائب للطلبة وأخري للموظفين وثالثة للعمال .

وفى الحقيقة أن هذه الأسر أصبحت مدخلا لنظام الخاص (التنظيم السري) باعتباره المجال العملي للجهاد (الأسرة هى المجال الروحي) فقد روعي فى نظامها أن ينقل العضو إلى "النظام الخاص" انتقالا تدرجيا وطبيعيا

وقد صور عبد المجيد حسن هذا الانتقال التدريجي تصويرا جيدا فى محاكمته بقوله:

"أحب أن أذكر أنني دخلت هذه الجمعية السرية على اعتبار أنها كنظام الأسرة ونظامها يشبه نظام الأسرة ولابد لكل شخص من أعضاء ف جميع الأنظمة ويثبت أخلاصه للدعوة وذلك دون أن يشعر بأنه دخل هذا النظام الجديد أى الجمعية السرية "

وقد شرح كيفية انتقاله إلى النظام الخاص فذكر أن أحد الأعضاء فى "أسرته" صحبه لمقابلة من يدعي أحمد حجازي وطلب إليه أن " يثق فى كل كلمة يقولها " لأنه من الإخوان الموثوق فيهم "..

وقد بدأ حجازي يسرد دعوة الإخوان المسلمين قائلا أنه لا ينقصها لتصير شبيهة بالدعوة المحمدية إلا استعمال السلاح .. وان الإخوان لم ينسوا هذا الباب وسيقومون بتنفيذه " وعرض على عبد المجيد حسن قبول الانضمام معهم فى هذا النظام"

فوافقت على الدخول فى هذا النظام باعتباره نظاما كنظام الجوالة ونظام الأسر ولكنه يختلف عنهما بأنه مقصور على الإخوان الذين يثبت أنهم مخلصون لدعوة الإخوان تماما والدليل على هذا أن هذا النظام لا يوجد له اسم خاص وكان معروفا بين الإخوان باسم النظام الخاص بينما كان نشاط الإخوان معروفا باسم:"المحيط العام "

وقد بين عبد المجيد حسن أوجه التشابه بين نظام الأسرة ونظام لجمعية السرية فقال أن كلا منهما كان يتفق فى "التدقيق في الحياة اليومية لكل عضو اجتماعيا وأخلاقيا وإثبات ذلك فى جدول أعمال خاص به من حيث تلاوة القرآن المأثورات الدينية والقيام بالألعاب الرياضية ".

أما أوجه الاختلاف فإن كل عضو فى الجهاز السري كان يرمز له برقم خاص وبالحروف الأولي من اسمه وكان يخضع لنظام مراقبة دقيق صارم فقد كانت كل تحركاته وسكناته ترصد ويحاسب عليها حسابا عسيرا وكان كل عضو يعرف أنه مراقب ويتوقع الموت جزءا لأية خيانة .

وكانت كل مجموعة مكونة من خمسة أشخاص وكانت هناك ثلاث مراحل يرتقبها العضو داخل النظام الخاص وقد ذكر عبد المجيد حسن أن أحمد حجازي كان يعطي المجموعة دراسات فى الوطنية وفى النواحي الدينية كما كان يعطينا دراسات خاصة باستعمال السلاح وأخري فى القانون والإسعافات الأولية وكنا نؤدي امتحانا فى هذه الدراسات ويتضح مما ذكره أن التدريب على السلاح كان يتم فى المناطق الصحراوية فى أماكن عديدة فى أنحاء البلاد .

وعند نجاح العضو كان يؤخذ لحلف اليمين على الطاعة والكتمان وقد رسم عبد المجيد حسن صورة تحفها الرهبة لحلف اليمين فذكر أنه توجه إلى أحد المنازل بالصليبية "

وهنا عند الباب قابلنا شخص اسمه عبد الرحمن السندي وصعدنا إلى الطابق الثاي ودخلنا غرفة مظلمة ثم أدخلنا غرفة أخري فردا فردا وكان فى الغرفة شخص ملثم هو الذي تلقينا عنه البيعة وكان أمامه مصحف ومسدس قال عنهما أنهما الوسيلة الوحيدة لنصرة الإسلام وأنه يجب على الطاعة والقسم على تلك .

وأن الذي يفشي سرا من أسرار هذا النظام الخاص فجزاؤه الموت فى أى مكان يحتمي به وقد ذكر لى عبد الرحمن السندي أن هذا الشخص هو الصلة بيننا وبين الأستاذ حسن البنا وقد أراد بذلك أن يثبت أن هذا النظام خاضع للنظام العام وقد عرف عبد المجيد حسن من صوت الشخص الملثم وحجمه وهيئته العامة أنه صالح عشماي وكيل جماعة الإخوان المسلمين ومدير جريدتها .

وقد رسم "قانون التكوين" كيفية "النظام الخاص" على نظام الخلايا من هيئة قيادة وأركان حرب وجنود .. كما حدد واجبات كل فرد واختيار والشروط التى يلزم توافرها فيهم وكيفية ترشيح الأفراد وطرق تكوين وإعداده بعد قبول الترشيح .

وقد نص هذا القانون على أن يكون لكل خلية "أمير" مهمته تلقي العضو بعد قبول ترشيحه وتعريفه بنوع العمل وإقناعه بشرعيته وتوصيته بالكتمان والطاعة والصمت وتعليمه كيفية التصرف فى المواقف وعدم التورط والثبات عند تأدية العمل؛

وأن يكون طبيعيا عندما يحمل شيئا أو يقوم بشئ وتهيئة ذهنه لاحتمال قيامه بعمل قريب ثم اختباره بتكليفه بإحدى المهام ومراقبته إلى قبيل الموعد ثم إلغاء التنفيذ وفى حالة نجاح العضو يقدم للبيعة فى القاهرة وفى حالة الرسوب يلحق بإحدى الأسر أو بعض الأعمال العامة .

كما أوجب القانون على الأعضاء الطاعة "لأميرهم" بعد البيعة ونظم مسائل التحقيق مع المقصرين بحيث يكون عن طريق مجالس تحقيق تشكل حسب الأحوال من أمير الجماعة مندوب الأقاليم ومدير الأقاليم ومندوب القاهرة فى الأقاليم ومدير القاهرة وتصل عقوبة الخيانة أو إفشاء السر عن حسن قصد أو سوء نية إلى الإعدام أو إخلاء الجماعة سبيل العضو .

كما صدرت تعليمات تحدد تكاليف البيعة من طاعة وخضوع للقيادة ولأمراء الجماعات وصدرت لائحة عامة تضمنت واجبات أفراد الجماعة وحقوق رؤسائهم والتحقيق مع المقصرين وحق أمير الجماعة فى توقيع العقوبات الأدبية والمادية التى أخفها الصيام وزيادة الطوابير والسير على ألأقدام لمسافات بعيدة .

وقد جهز التنظيم الخاص بجهاز مخابرات إخواني على جانب كبير من المهارة بحيث تكون القيادة على علم بكل صغيرة وكبيرة عن خصومها وأصدقائها على السواء .

وكان نطاق جهاز المخابرات واسعا يمتد ليشمل جميع الأحزاب المصرية الموجودة فى ذلك الحين:

الوفد والسعديين والأحرار الدستوريين والكتلة الوفدية والحزب الوطني ومصر الفتاة وحزب العمال وحزب الفلاح الاشتراكي وجبهة مصر والشبان المسلمين والشبان المسيحيين والجماعات الشيوعية فضلا عن النقابات والجمعيات المختلفة .

وكانت هناك مخابرات فى كل وزارة وفى الجامعة والأزهر والمدارس .وكانت تقدم تقارير عن القائمين بالأعمال فى أقسام البوليس وقواتها والمحال الصناعية اليهودية والأجنبية والمصرية .

وقد حددت التعليمات الشروط الواجب توافرها فى أفراد جهاز المخابرات من الصحة الجيدة والمهارة والتنظيم الذاتي والمكر والقدرة على " التذؤب مع الذئاب" كما تناولت طرق إعدادهم إعدادا رياضيا وفنيا وتدريبهم على الكهرباء واللاسلكي والتصوير والاختزال والتمثيل وعمل المكياج وتغيير الزي وقيادة وسائل المواصلات؛

وكان الإعداد يشمل أعمال الفدائيين وحرب العصابات والتدريب على قنابل مولوتوف وتخريب المواصلات والسكك الحديدية واستخدام المفرقعات والألغام والأسلحة النارية وغيرها وهم برنامج طموح كما هو واضح .

وقد جهز هذا الجيش السري بالرءوس المفكرة والعقول المدبرة والمال الوفير والأسلحة والمفرقعات, والذخائر ووسائل النقل وأدوات التراسل والإذاعة فضلا عن الأوكار فى مختلف الجهات فى المدن والريف .

وكان الهدف أن يتمكن هذا الجهاز السري من الحصول على بيانات مفصلة عن منشآت الحكومية من وزارات ومحافظات ومديريات وأقسام ومراكز ونقط البوليس والسجون ومكاتب التلغراف والتليفون والبريد وغيرها وعن المواصلات من سكك حديدية وترام وطرق زراعية وخطوط الأوتوبيس .

على أن جزءا هاما جدا من الإعداد كان يتمثل فى الإعداد الروحي والديني لإقناع العضو بمشروعية الأعمال التي يقوم بها فقد نقلنا عن المجيد حسن أنه قرر الالتحاق بالنظام الخاص بعد أن أقنعه أحمد حجازي بأن " الدعوة لا ينقصها لتصير شبيهة بالدعوة المحمدية بتنفيذه "

ويقول:

" كنا ندرس فى النظام الخاص بجمعية الإخوان دراسات مختلفة منها القانون وكنا نتعلم أن مثل هذه الأعمال لا تخالف الدين لأن هذا هو الجهاد ".

وفيما يبدو أن فكرة الجهاد فى أذهان أفراد الجهاز السري كانت منصرفة فى البداية إلى الإنجليز وتحرير بلادهم أو هكذا أوحي بها رؤسائهم أو أمراؤهم .

ثم جري تحويل أفكارهم إلى الداخل تدريجيا فقد أورد عبد المجيد حسن فى اعترافاته أنه بينما كان يحضر أحد الاجتماعات فى بيت جمال فوزي:

" تلا علينا أوراقا مطبوعة على الآلة الكاتبة على ما أذكر تتضمن قصصا وروايات حدثت فى صدر الإسلام ومما ذكر أن قتل المسلمين الذين يثبت أنهم يعاونون الأعداء مقرر فى الشريعة الإسلامية فى عهد سيدنا محمد
وكانت هذه أول مرة يشير فيها النظام الخاص إلى تبرير قتل احد من المسلمين لأنه لم يكن معروفا لدي جميع الأفراد أن من تعاليم هذا النظام شيئا من هذا وكانت هذه أول مرة أسمع فيها مثل هذا الحديث وبأن الإسلام يجيز قتل المسلم الخائن إذا ثبت ذلك"

وقد ذكر أن أشد وسائل التأثير وقعا عليه كانت:الدراسات الروحية والبيعة والاعتقاد بمشروعيته الأعمال .

وتتمثل أهمية هذا العنصر من عناصر التأثير ليس فقط فى دفع عبد المجيد حسن إلى اغتيال النقراشي دون أحجام أو تردد وكما رسم له وإنما تتمثل فى أن زوال هذا العنصر فيما بعد قد دفع عبد المجيد حسن إلى الاعتراف بكل ما صدر عنه .

فقد استطاعت حكومة السعديين بذكاء استصدار بيان من الشيخ حسن البنا يظهر فيه أسفه على حادث اغتيال النقراشي وفيه معني استنكار الجريمة ونشر هذا البيان فى الصحف يوم 11 يناير 1949.

وقد أطلع النائب العام عبد المجيد حسن على هذا البيان . فكان له أثر كبير فى حملة على الاعتراف . فمع تمسكه فى البداية بالإنكار إلا أن مفعول البيان ثم بيان هيئته كبار العلماء وقتذاك قد دفعه إلى التفكير ثم الاعتراف .

يقول:

" أطلعني النائب العام فى أحد أيام التحقيق على بيان نشره الأستاذ حسن البنا نفي فيه أنه يعلم شيئا عن الجريمة وانه يبرأ منها ومن مرتكبها مستندا فى ذلك إلى أحاديث وآيات فعجبت لذلك كل العجب؛
كما أني علمت أن هيئة كبار العلماء أصدرت بيانا عن هذا الحادث فأطلعت عليه وعقب ذلك أردت أن أعلن جميع أفراد النظام الخاص بأنه قد غرر بنا جميعا ولست أنا وحدي وأن نفس التأثير الذى كان واقعا على كان أيضا واقعا عليهم .

وهذا الكلام معقول لأن مثل تلك التربية الدينية وذلك الإعداد والتدريب الروحي والخلقي الكبير لعبد المجيد حسن ما كان ليحمله بأى ثمن ولو كان حياته على أن يشتري ديناه بآخرته ولكن زوال التأثير كان له مفعول فى دفعه إلى الاعتراف .

على كل حال فإن هذا الإعداد للجهاز السري ما كان ليتم بين يوم وليلة وإنما استغرق وقتا طويلا وقطع مراحل كثيرة وإن كانت الأدلة تشير إلى أنه قد بلغ درجة عالية من الاكتمال قبل حرب فلسطين فقد أنشئت الخلايا وحصل التدريب وحشدت المعدات .

وقد تضخم جيش الجوالة فى تلك الأثناء ففي عام 1942 كان تعداده 2000 جوال وفى العام التالي وصل إلى 15000 جوال حيث بدأت الفكرة تنتعش فى الريف وفى سنة 1945 وصل إلى 45,000 جوال وفى العام التالي وصل إلى 60 ألفا . وفى نهاية 1947 بلغ تعداد الجوالة 75,000 وظل الرقم ثابتا قرار الحل .

وقد تغلغلت تنظيمات الإخوان فى الجيش والبوليس وكانت تعد تنظيمات سرية بحكم طبيعة عمل الضباط فعندما سئل حسين أبو سالم أمام محكمة الشعب عما إذا كان يعرف أن هناك تنظيما عسكريا بجان التنظيم الخاص السري أجاب:

"الإخوان اللي فى الجيش أو فى البوليس دائما من يوم ما أصبح فيه إخوان فى الجيش والبوليس تنظيمهم يعتبر بالنسبة للجماعة تنظيم سري لأن طبيعة عملهم كضباط فى الجيش أو البوليس تجعله يتردد على شعب الإخوان"

وكان التنظيم السري يتبع المرشد العام مباشرة ولكن ليس معني ذلك أنه كان يدي شئونه بنفسه وإنما كان يديره بواسطة جهاز خاص . وكان أول رئيس لهذا الجهاز هو عبد الرحمن السندي وكان يعاونه مجموعة من الإخوان عرف منهم أحمد زكي وأحمد عادل ومحمود الصباغ ويلي هؤلاء رؤساء المناطق وهم غير رؤساء مناطق الشعب وهكذا .

وكان للجهاز الخاص ميزانية مستقلة عن ميزانية النشاط العام للإخوان التى كانت تتكون من الاشتراكات وقد بدأ جمع الاشتراكات من النظام الخاص فى سنة 1944 أو 1945 وكانت تنفق على التسليح ومتطلبات الجهاز السري ونظرا لصغر حجم الجهاز السري بالنسبة للتنظيم العلني؛

فأغلب الظن أن الميزانية العامة كانت تسد العجز فى الميزانية الخاصة وكانت هذه الميزانية العامة ضخمة فقد كان متوسط الاشتراك الشهري للفرد عشرة قروش وإذا صدق الرأى الذي يقول أن عدد الأعضاء كان يبلغ نصف مليون عند حل الجماعة فى ديسمبر 1948؛

فإن المبلغ الشهري المحصل كان يبلغ 50,000 جنيه أما إذا كان العدد مائتي ألف طبقا لما أورد حسين أبو سالم فإن المبلغ المحصل يبلغ 20,000 جنيه هذا طبعا عدا ميزانية النظام الخاص والمبالغ الأخري التي يتبرع بها الأثرياء من أعضاء الجماعة .

وقد اعتمد البنا فى تكوين الجهاز السري عل عناصر عمالية وبورجوازية صغيرة تتكون من موظفين وحرفيين وطلبة وقد استلفتت هذه الملاحظة نظر رئيس نيابة أمن الدولة مصطفي الهباوي فى مرافعته أما محكمة الشعب فقال:

"ولعلكم يا حضرات القضاة لاحظتم على الشهود أن هذه الجمعية كانت حريصة كل الحرص على أن تختار فى نظامها السري او الخاص طائفة من الفقراء .
فقد شهدتم الحداد،والمطبعجي،والسمكري ،والعامل فى وزارة الصحة ولعل هدفها فى اختيار هؤلاء الفقراء أنها أرادت بذلك أن تستغل عامل الفقر فى هؤلاء الناس فسلكتهم فى هذا النظام السري الفدائي الإرهابي لتثير فيهم غريزة الحقد على هذا المجتمع؛
وهي غريزة تجعلهم أكثر تعصبا للمبادئ المخرية السفاكة وفى جلسة 13 نوفمبر 1954 أبدي رئيس محكمة الشعب جمال سالم سخريته من هذا التكوين الاجتماعي للنظام السري قائلا :" يعني الحمد لله كل الجهاز السري خردواتية وسمكرية وموظفين فى الدرجات الصغيرة مالقتش مهندس ولا واحد مدير إدارة"

الفصل الثالث:الإخوان المسلمون والعنف 19441948

رأينا كيف أن فكرة النظام الخاص قد نشأت فى أعقاب الاصطدام بالسلطة وذلك لحماية الدعوة والدفاع عنها عند اللزوم وذكرنا دور القصر والسعديين فى إخراج حسن البنا ورفاقه من المعتقل وقد سقط حكم القصر بعد الإفراج بشهرين , وتولت حكومة الوفد وحدث التهادن بين الفريقين .

وفى ظل الحكم الليبرالي لوزارة الوفد لم تنشأ الحاجة بالإخوان لاستخدام العنف فمع أن الوزارة أغلقت جميع الشعب فيما عدا المركز العام فى نهاية عام 1943 إلا أن الموقف تغير فى بداية العام التالي؛

فقد قامت مجموعة من أعضاء الوفد البارزين معظمهم من الوزراء بزيارة المركز العام وعادت العلاقات إلى التحسن وعند نهاية حكم الوفد كانت حركة الإخوان قد بلغت درجة من القوة دفعت البنا إلى الاعتقاد فى إمكانية الوصول إلى الحكم عن طريق الانتخابات البرلمانية عند سنوح الظروف المناسبة .

على أن القصر لم يلبث أن يمكن فى أكتوبر 1944 من أحداث انقلاب دستوري كبير أخرج الوفد بمقتضاه من الحكم وأتي بعهد جديد يتلخص برنامجه فى شئ واحد هو الانتقام من الوفد لموقفه فى حادث 4 فبراير والقضاء عليه قضاء مبرما والإعفاء على أثره نهائيا وقد تولي رياسة الوزارة الانقلابية الجديدة احمد ماهر باشا زعيم الحزب السعدي .

ولم يغفر القصر أو الحزب السعدي للإخوان مهادنتهم للوفد فقد رشح البنا نفسه لعضوية مجلس النواب فى دائرته الإسماعيلية كما رشح خمسة من زملائه أنفسهم فى دوائر أخري ولكن الجميع سقطوا فى الانتخابات؛

وكان البنا قد نجح فى انتخابات الدور الأول ولكن أعيد الانتخاب بينه وبين منافسه لفروق يسيرة مفتعلة بين الأصوات واسقط رغم التأييد الساحق له من أهالي الإسماعيلية .

وكان ذلك أول تحد للإخوان فى دورهم الجديد وقوتهم التي وصلوا إليها وقد قبلت الجماعة التحدي فحين أعلن أحمد ماهر باشا عن عزمه على إعلان الحرب على المحور عارضه الإخوان وكتبوا إليه بالعدول عن ذلك

واتفقوا فى ذلك منع الوفد والعناصر الوطنية الأخرى ولكن أحمد ماهر مضي قدما فى عزمه وألقي بيانا يوم السبت 24 فبراير 1945 وافق فيه على إعلان الحرب ولم يكد ينتهي من الإدلاء ببيانه حتي أطلق عليه محمود العيسوي الرصاص بينما كان يجتاز البهو الفرعوني فأودي بحياته .

ويعتبر دور الإخوان فى هذا الحادث ما يثير مناقشات كبيرة فقد أعترف القاتل بانتمائه للحزب الوطني وبناء عل هذا الإصرار أطلق سراح البنا والسكري وعابدين وبعض الإخوان الذين اعتقلوا بتهمة الاشتراك فى الاغتيال .

ولكن بعض الآراء تؤكد أن محمود العيسوي كان من الإخوان المسلمين ومن غلاتهم وأنه تستر تحت الحزب الوطني حتي لا يضر جماعته فقد روي محمد على أبو طالب أنه سمع من الأستاذ خالد محمد خالد أن الشيخ سيد سابق

وهو من زعماء الإخوان والتنظيم وقد أفتي بمشروعية اغتيال النقراشي باشا فيما بعد قد أخبره بعد مقتل أحمد ماهر باشا بأن محمود العيسوي كان من صميم الإخوان المسلمين ولم يكذب خالد محمد خالد أو الشيخ سيد سابق هذا اللام .

وقد استدل أبو طالب على رأيه بأنه وزارة أحمد ماهر كان فيها وزيران من الحزب الوطني هما:حافظ رمضان باشا رئيس الحزب الوطني وزكي على باشا وهو من زعماء الحزب منذ نشأته وكان أولي أن يحاسبا على اشتراكهما فى هذا الجرم وهو ما لم يحدث .

ولمناقشة هذه القضية لدينا للملاحظات الآتية:

  1. أن الكثيرين من المصريين كانوا يجمعون فى ذلك الحين بين انتماءين الانتماء لحزبهم والانتماء للإخوان المسلمين بل يذكر أحمد حسين أن رؤساء الأحزاب وأقطاب السياسة والحكومة أقبلوا على تأييد الجماعة والتشرف بالانتساب إليها فمرة حامد جودة ومرة المرحوم صبري باشا وفؤاد سراج الدين وثالثة صدقي ومن ثم فإن انتماء محمود العيسوي إلى الحزب الوطني لا يحول دون إنتمائه إلى الإخوان المسلمين .
  2. لم يكن الحزب الوطني فى ذلك الحين حزبا ثوريا بل رجعيا فقد كان من أحزاب القصر وقد باع زعماؤه ورؤساؤه مبادئهم فى سبيل الحكم منذ اشتركوا فى برلمان صدقي باشا الرجعي .وقد تسببت مواقف وزعمائه فى انفصال شبابه عنه وألفوا تحت رئاسة فتحي رضوان اللجنة العليا لشباب الحزب الوطني.

وعندما قام فاروق بانقلابه الذي أتي بوزارة أحمد ماهر إلى الحكم اشترك فى هذه الوزارة رئيس الحزب الوطني حافظ رمضان باشا ومع أنه قدن استقالته إلى الدكتور أحمد ماهر عندما عرف بعزمه على إعلان الحرب إلا أن ذلك لم يكن باعترافه نفسه ناجما عن شعوره بأن إعلان الحرب سوف يلحق ضررا بمصر وإنما لأسباب شخصية محضة ألا يتناقض مع ماضيه .. ففي شهادته أمام المحكمة العسكرية فى قضية اغتيال الدكتور أحمد ماهر باشا سأله الدفاع عن أسباب استقالته فقال :" ما كنتش شايف خطر ولكني كنت أعتقد أن مافيش مصلحة وما أردتش أن أتناقض مع موقفي السابق فقدمت استقالتي من الوزارة . وقد سألته المحكمة:هل هناك خطر أو ضرر أصاب مصر من إعلان الحرب فكرر كلامه قائلا :" لا وكنت أعلم أنه لا يوجد ضرر وإنما أردت فقط ألا أتناقض مع ماضي " بل لقد سحب محمد حافظ رمضان استقالته بعد اغتيال أحمد ماهر باشا وقال فى تبرير ذلك للمحكمة " وجدت أن من الواجب أن أبقي فى الوزارة من باب استنكار الحادث وخصوصا أنني موش شايف خطر من دخولنا الحرب ".ومثل هذا الحزب المتواطئ مع القص والذي أكتفي منذ زمن بعيد بالكفاح الشكلي لم يكن ليجتذب شابا ملتهب الحماسة والوطنية مثل محمود العيسوي أو يلهمه فكرة اغتيال أحمد ماهر باشا والأقرب للتصديق أن يستلهم محمود العيسوي هذه الفكرة من تنظيم يعد لهذا العمل وهو الإخوان المسلمون الذين أعلنوا معارضتهم الصريحة لإعلان الحزب ,ويملكون جيشا سريا بلغ درجة طيبة من التنظيم ولعل انتساب محمود العيسوي إلى الحزب الوطني جاء من أنه قضي مدة ترينه كمحام فى مكتب عبد الرحمن الرافعي . وفيما يبدو فإنه لم يكن محل رضا او تقدير من رؤسائه فقد وصفه عبد الرحمن الرافعي بأنه :" شاب رقيق الحال غير ناجح فى المحاماة ولا ملتفت لعمله مع أنه كان يحمل دبلوم القانون الخاص ودبلوم القانون العام وكان يعد رسالة لنيل الدكتوراه فى الحقوق وهذا يدل على أن انتهاء محمود العيسوي للحزب الوطني كان انتماء صوريا يخفي انتماءه لجماعة الإخوان المسلمين .

  1. إن تاريخ الاغتيالات السياسية قد دل على أنها لا تنبع عادة من فرد وإنما من تنظيم هكذا حدث فى اغتيال بطرس غالي باشا ومقتل ومحاولات قتل إسماعيل صدقي باشا فى المدة من 19301934 ثم محاولة اغتيال مصطفي صدقي باشا على يد أحد أعضاء مصر الفتاة فى نوفمبر 1937 واغتيال أمين عثمان باشا سنة 1946 ثم حوادث الاغتيال التى قلم بها الإخوان عامي 1948و1949.
  2. من الثابت أن البوليس فى مصر حتي حل الإخوان المسلمين فى 8 ديسمبر 1948 لم يكن قد اتخذ أى إجراء وقائي ضد نشاط الإخوان المسلمين وبالتالي فلم تكن لديه أية سجلات لأعضاء الإخوان ولم يكن يعرف من فيهم المتطرف وغير المتطرف وعلى ذلك فلم يكن فى وسعه إثبات إنتماء محمود العيسوي للإخوان المسلمين وقد استفادت الجماعة من غفلة البوليس الذي كان مشغولا بالجماعات الشيوعية والأحزاب السياسية الأخري فى إنشاء جيشهم العلني وجهازهم السري .

وعلى كل حال إذا صح أن اغتيال أحمد ماهر باشا كان من تدبير الإخوان المسلمين فإن هذه تكون المرة الأولي التي يستخدمون فيها العنف وفى الفترة التالية كانت حركة تسير فى بحر هائج مضطرب للسباب الآتية:

أولا: كان انتهاء الحرب فى مايو 1945 قد فتح باب الكلام فى القضية الوطنية واستنفر كافة القوي الوطنية فى مصر للنضال الوطني وكان لابد أن تقحم القضية نفسها على حركة الإخوان التى كانت تكرس نفسها للحكومة الإسلامية فلم يعد فى وسعهم فى وسط المد الوطني العالي الذى أعقب الحرب شغل بال الرأي العام بالحديث عن الحكومة الإسلامية كما كان الحال قبل الحرب؛
وإنما كانت قضية التحرر الوطني مقدمة فى ذلك الحين على الحكومة الإسلامية ولما كان الإخوان قد آثروا موقف السلامة منذ المحنة الأولي وطوال مدة الحرب وامتنعوا عن أى نشاط ضد الإنجليز فإن دخولهم المعترك الوطني كان يعمل معه خطر الإضرار بمسيرة الدعوة وتعريضها للهزات السياسية قبل أن تنضح تماما للقفز على الحكم وبالتالي كان على الشيخ حسن البنا اتخاذ موقف سياسي حذر يضمن حماية الدعوة من الأخطار .
ثانيا: المتغيرات الاجتماعية والاقتصادية التي طرأت على مصر بعد الحرب ونقلت النضال الوطني فيها إلى مستوي جديد فإن ظروف الحرب كانت قد مكنت الرأسمالية المصرية من توسيع نشاطها فى كافة المجالات وأثارت شهيتها للمزيد من الربح والاستغلال فى الوقت الذى تردت فيه أوضاع الفلاحين المعدمين والعمال الزراعيين والصناعيين والبورجوازيين الصغار بصورة كبيرة .
وقد أعطي ذلك للنضال الوطني بعدا اجتماعيا خطيرا لم يسبق له مثيل فلم تعد قضية التحرر الوطني تعني فى نظر الجماهير المصرية التحرر من الإنجليز بل أصبحت تعني أيضا التحرر الاجتماعي وضرب مصالح القصر والطبقة الإقطاعية والرأسمالية الملتفة حوله.
ثالثا: كان من الطبيعي أن تفر هذه الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية قوي سياسية جديدة لم يكن لها نشاط فعلي على طول الفترة السابقة منذ نشأة حركة الإخوان عام 1928 وهي القوي الشيوعية فحين ظهرت حركة الإخوان فى ذلك العام كانت الحركة الشيوعية المصرية قد ضربت بقسوة وصفيت تقريبا منذ عام 1925
وبالتالي لم تكن حركة الإخوان تحس بأى خطر من هذه الناحية وطوال الثلاثينيات سيطر المد الفاشي الذى كانت حركة الإخوان المسلمين أحد روافده فى الوقت الذى أقفزت فيه ساحة العمل الشيوعي تحت عوامل الخيانة وتتبع البوليس ولم يكن أمام الإخوان من القوي السياسية سوي القوي الليبرالية الممثلة فى الوفد الذى شاهدنا علاقاتها به فيما سبق؛
ولكن ظروف الحرب هيأت الفرصة لحركة شيوعية عارمة تمتاز بغلبة العنصر الوطني وسيطرته فيها بعد أن استبعدت ظروف الحرب العناصر الأجنبية وكان على رأس هذه الحركة جماعة "الفجر الجديد" التى عرفت بموقفها التحالفي النقدي من الوفد وصلتها بالطلة الوفديين و"الطليعة الوفدية"
وجماعة الحركة الشيوعية القوية تمثل بالنسبة للإخوان ما كان يمثله معسكر الإلحاد والإباحية عند نشأة هذه الجماعة وهو المصطلح الذى كانت تطلقه على معسكر التغريب والعلمانية .
رابعا: لم تكن حكومة السعديين قد اغتفرت للإخوان ما اعتبرته تحالفا من جانبهم مع حكومة الوفد الأخيرة ولم تكن لترضي منهم بأقل من الخصومة الصريحة للوفد وتنكرهم له إذا ساءوا الاستمرار فى نشاطهم ولم تكن الاستجابة لهذا الطلب هينة إذ كان معناها أن تخسر الجماعة الجناح اليميني فى الوفد الذى ساعدهم أثناء الحرب وتغاضي عن نشاطهم فى أسوأ الظروف وكانت فى الجماعة أصوات قوية تحذر من هذا الاتجاه على رأسها أحمد السكري.
كل هذه الظروف الاجتماعية الاقتصادية والسياسية كانت تدفع بالشيخ حسن البنا إلى أحضان معسكر القصر فلم يكن يجمعه بمعسكر الوفد والشيوعيين من نقاط الالتقاء سوي المطالب الوطنية فى الوقت الذي كان يجمعه بمعسكر القصر العداء الشديد للشيوعية وكراهية الدستور والحياة النيابية.
فضلا عن ذلك فإن الدخول فى تحالف مع الوفديين والشيوعيين ضد الإنجليز والقصر يعرض الحركة للحل والتصفية أما التحالف مع القصر الذي كان فى ذلك الوقت يقف موقفا معتدلا من الإنجليز فيمكن أن يضمن للحركة الوقت الكافي والفرصة المطلوبة لبلوغها درجة القوة التي تعتمد فيها على نفسها وتحقق غاياتها.

ولكن ما السبيل إلى التقارب مع القصر يذكر " ميتشل" أن زملاء البنا المقربين أكدوا أن من بين أحلامه الكبيرة وقتذاك أن يستقبل فى الحضرة الملكية وقد أورد أنور السادات هذه الرغبة الملحة فى مذكراته المنشورة تحت عنوان :" صفحات مجهولة ".

فقد ذكر أنه بعد هربه من المعتقل فى نوفمبر 1944 عاود اتصاله بالشيخ حسن البنا شعورا منه بأن قوة الإخوان هي القوة الوحيدة القادرة فى الميدان وقد تبسط معه البنا "بصورة لم يسبق لها مثيل " حسب قوله "

وأفاض كثيرا وشرح لى متاعبه التي تأتي من ناحيتين:

ناحية الملك وناحية الأجانب وقال لى أن الملك قد بدأ يشعر شعورا قويا بخطورة دعوة الإخوان ولما كان يسمعه من أن دعوتهم تقوم على أن يكون الملك بالمبايعة لا بالوراثة وقال لى أن الملك يدبر أمره ليبطش بهذه الحركة وأنه يخشي أن يضرب الملك ضربته والحركة لم تبلغ بعد أوج قوتها .

واستطرد بعد ذلك إلى ذكر طرف آخر من متاعبه وكان هذا الطرف هو موقف الأجانب من الدعوة فقد بدأ يشعر بأن الأجانب يرهبون دعوته ويعتقدون أنها إذ تقوم على وجوب الأخذ بشريعة الإسلام ستتعرض حتما لأعمالهم وأموالهم وحرياتهم الممنوحة لهم بمقتضي لقانون السائد والدستور .

" وقال لى أن هذه النظرة الموحدة إلى دعوته من جانب الملك ومن جانب الأجانب تجعل الدعوة فى خطر جسيم فما أيسر أن تتحول النظرة الموحدة إلى تحالف عملي للقضاء على الدعوة وعلى الجماعة التي تدعو إليها ويومئذ لا يعرف من أين تصوب إليه الضربات وقال لى أنه يريد أن يضع حدا لهذه المتعب وأنه يعتقد أن الأجانب يمكن أن يطمئنوا إلى الدعوة لو اطمأن إليها الملك .

ونظر فى عيني طويلا وهو يقول:

"أنا أستطيع أن أكسب طمأنينة الملك لو تقابلت معه وكان وجهه ينبئ فعلا عن الثقة الكبيرة وهو يصف لى كيف يستطيع أن يزيل من نفس الملك جميع الشكوك والأوهام لو تيسرت له مقابلته مرة واحدة ثم أوضح لى أنه لا يريد أن يبدأ مع الملك سياسة وفاق أو تعاون ولكنه يريد أن يشيع جوا من الطمأنينة فى نفس الملك يجنب به سفينة الإخوان أية عقبات تعترض الطريق وقصد رحمه الله إلى هدفه بعد ذلك مباشرة فقال لى:أنت تعرف يوسف رشاد قلت:نعمأعرفه وبيني وبينه صداقة كبيرة ومودة "

فقال:

"ويوسف اليوم ذو حظوة فلو استطعت أن تشرح هدفي وأن تفهمه أني لست خطرا على الملك ولا أريد أن أكون خطرا لأمكنه إقناع الملك بمقابلتي" وأجبته فناقشني فيها ثم وافق على أن يلعب الدور وعندما رأيت يوسف رشاد بعد ذلك قال لى:
" لقد فاتحت الملك فى هذا الأمر فى محادثة تليفونية بيني وبينه وإذا به يقطع حديثي قطعا ويوجهه وجهة أخري وقابلته بعد ذلك فقال لى : كيف تكلمني تليفونيا فى أمر كهذا؟ ألا تعلم أن حسن رفعت يراقب التليفونات؟".

ثم يقول السادات أنه عاود الإلحاح على يوسف رشاد وفي هذا المرة استطاع يوسف الحصول من الملك على إذن بأن يقابل هو أولا حسن البنا ويستمع إليه وينقل حديثه إلى الملك ليري رأيه .

ولكن فاروق عاد فطلب منه إلغاء هذا الإذن بشأن مقابلة البنا ويئس السادات وأبلغ البنا بيأسه ومرت الأيام وسقطت الأحكام العرفية ( فى 4 أكتوبر 1945) وكان السادات ببيته بعزبة النخل فى إحدي الليالي حيث زاره البنا ومعه محمود لبيب وأخذ البنا يتحدث عما يمكن أن تجنبه البلاد إذا هدأت شكوك الملك فى الإخوان .

وفهم السادات أنه يريد منه إعادة الكرة فتحدث ثانية مع يوسف رشاد وكان فى الإسكندرية إلى جوار الملك وأقنعه بمعاودة المحاولة ولكنه أبلغه ان الملك غضب منه وأقصاه عن صحبته عشرة أيام وعندما عاد يقربه قال له:

" إياك أن تفاتحني مرة أخري فى هذا الموضوع على أن فاروق عاد فطلب إلى يوسف رشاد الاتصال بحسن البنا والاستماع إليه فالتقي به وتحدث معه ثلاث ساعات وخرج من المقابلة مقتنعا تماما بخلوص نية البنا نحو الملك ولكنه عندما عاد أبلغ الملك بذلك ضحك وقال له:" حسن البنا ضحك عليك "

ثم يقول السادات أنه بعد أعوام من ذلك قال له يوسف رشاد أن الملك فى أواخر عهد إبراهيم عبد الهادي قال له :" إحنا غلطنا فى ضربة الإخوان وحقنا نرجع لسياستنا القديمة "... وسأله السادات :" ما هي السياسة القديمة ؟ فرد عليه يوسف رشاد قائلا:صدقني أنا لا أدري . ولكن يبدو أن صلة أخري قد حدثت بين حسن البنا وبين الملك عن طريق غير طريقي وأن الملك اتخذ لفترة قصيرة خلال عام 1946 موقفا معينا من الإخوان ثم عدل بعد حرب فلسطين "

على أنه يملك تفسير تغير موقف فاروق وقبوله التصالح مع البنا بتغير موقف البنا وبرهنته عمليا فى اتجاه العداء مع الوفد وفى اتجاه تقبل عهد الانقلاب وتأييده ففي ذلك الحين كانت الجامعة قد أصبحت مسرحا للصراع بين الوفد والإخوان .

وكانت قد انقسمت إلى معسكرين:معسكر الوفد والشيوعيين فى جانب ومعسكر الإخوان والحزب الوطني ومصر الفتاة فى جانب آخر .

وقد بدأ الصراع حين دعت مجموعة من الطلبة فى أواخر صيف 1945 إلى مؤتمر لبحث القضية الوطنية وتحديد ما يقصد بالجلاء الذي تريده مصر:هل جلاء عسكري فحسب أم هو جلاء سياسي واقتصادي وعسكري ؟.

وكيف يكون التخلص من الاستعمار:هل يكون بسياسة المفاوضات أم يكون بكفاح يشترك فيه الملايين ؟.على أن الإخوان سارعوا إلى عقد مؤتمر يوم 6 أكتوبر تحت قيادة لنبا قرر إعطاء الحكومة النقراشية الفرصة لمعالجة القضية الوطنية وتأييدها تأييدا تاما .

كما قرر رفع مذكرة إلى النقراشي تحد الحد الأدني من المطالب الوطنية وعندما عقد الطلبة مؤتمرهم فى اليوم التالي 7 أكتوبر أراد مندوب الإخوان الحصول على موافقتهم على مقررات مؤتمر الإخوان يوم 6 أكتوبر والاكتفاء بذلك .

ولكن الطلبة قرروا الاستمرار فى دراسة القضية مما أدي إلى انسحاب الإخوان من المؤتمر وجاء قرار الطلبة مختلفا عن قرار مؤتمر الإخوان أن ورد به أن الطريق الكفاح الشعبي المصري والسوداني وان الاستقلال الصحيح ليس هو مجرد الجلاء العسكري وإنما الاستقلال الذي تنال مصر من ورائه نهضة اقتصادية ونهضة اجتماعية .

وقد كانت أهمية هذا الموقف من جانب الإخوان بالنسبة للقصر تتمثل فى أنه يعد تعبيرا صريحا عن ثقتهم وتأييدهم لحكومة النقراشي باشا فى الوقت الذي كان الوفديون والشيوعيون يشكون فى قدرة هذه الحكومة على حل القضية الوطنية ويطالبون بإجراء انتخابات جديدة حرة ومعني ذلك تأييد الإخوان لعهد الانقلاب الذي قام به فاروق وعزمهم على العمل فى ظله.

وقد كان هذا هو عربون التقارب العملي ومزيل الشكوك فى ولاء الإخوان للعرض على أن استهانة الإنجليز بحكومة النقراشي التي تبدت فى مذكرة 26 يناير 1946 التي وردت بها على المذكرة المصرية فى 20 ديسمبر 1945 وإبداء عزمها على الإقلال من شأن القضية الوطنية عن طريق إرسال سفيرها إلى مصر لإجراء محادثات تمهيدية وإصرارها على سياستها الاستعمارية..

قد أدي إلى استنكار جموع الأمة وسخطها وفى هذا المناخ الوطني العارم طرح الطلبة خلافاتهم الحزبية وحشدوا صفوفهم وقرروا عمل مؤتمر عام يوم 9 فبراير فى الجامعة أسفر عن قرار بتسيير مظاهرة سمية إلى قصر عابدين

وكانت قيادة هذا اليوم للإخوان المسلمين وأراد النقراشي باشا تلقين الطلبة درسا حتى يمتنعوا عن القيام بأية مظاهرات فى المستقبل فأصدر أوامره للبوليس باعتراض المسيرة علي كوبري عباس. وانتهي اليوم بإصابة 84 من الطلبة بإصابات بليغة.

وشعر فاروق بحماقة الإجراء الذى اتخذ وكان على النقراشي أن يدفع الثمن فزار فاروق الجامعة فى اليوم التالي ودعا الطلبة إلى زيارته بالقصر حيث لمح إلى إقالة النقراشي باشا . وفى اليوم التالي كان مصطفي مؤمن زعيم الإخوان فى الجامعة يقود مظاهرة للإخوان خرجت من الجامعة إلى القصر تحت حماية البوليس هذه المرة وفى اليوم التالي سقطت وزارة النقراشي باشا وخلفه إسماعيل صدقي باشا.

كان تعيين صدقي باشا صاحب التاريخ الأسود فى الحياة السياسية المصرية على رأس الوزارة الجديدة صدمة كبري للقوي الوطنية فيما عدا الإخوان المسلمين ... بل ينقل ميتشل رواية تذهب إلى أن البنا قد أخذ رأيه فى تعيين إسماعيل صدقي باشا فى فبراير 1946 وهي مبالغة غير مقبولة .

على أن الشئ المحقق أنه فى الوقت الذى استقبلت جماهير الأمة وقواها الوطنية بالجزع والتشاؤم عهد " جلاد الشعب " وبطل العنابر وقاهر العمال بطل المنصورة والبداري وحلوان وأخطاب ومزيف إرادة الأمة بنسبة 67% من مجموع الناخبين سنة 1931 وفى الوقت الذى انكشف للأمة المضون الطبقي للنضال الوطني الامبريالي الرأسمالي فى مصر وتأكدت أهمية البعد الاجتماعي للنضال لوطني فى هذا الوقت انفرد الإخوان المسلمون بالتحالف مع إسماعيل صدقي باشا .

فقد زار صدقي باشا مركز الإرشاد وبادر الإخوان إلى تأييده وروحوا لما قاله فى البداية عن عزمه على خدمة بلاده وعدم استعمال العنف وعلق زعيم الإخوان فى الجامعة على وعد إسماعيل صدقي باشا بأية من القرآن:" وأذكر فى الكتاب إسماعيل إنه كان صادق الوعد وكان رسولا نبيا ".

وقد حصل الإخوان على ثمن التحالف مجموعة من التسهيلات الرسمية التي ينقل ميتشل منها

" التي بدأت تصدر من مايو 1946 وامتيازات فى شراء ورق الطباعة بالسعار الرسمية مما يعني توفير ما بين 20 و30 فى المائة من أسعار السوق السوداء ثم امتيازات للجوالة تتمثل فى استخدام المعسكرات والتسهيلات الحكومية ومنحها قطعا من الأرض لإقامة المباني اللازمة فى المناطق الريفية فضلا عن الإعانة المالية التي كان يتم تمريرها عن طريق وزارتي المعارف والشئون الاجتماعية بوصفها مساهمات وإعانات حكومية مشروعة للخدمات التعليمية والاجتماعية.

وفى الفترة التالية كان منحي الإخوان فى العمل السياسي هو الوقوف فى وجه الشيوعيين والوفديين ومعارضة المجتمعات الطلابية التى تنتمي لهذين الفريقين وهو منحني يشكل مباشر هدف القصر فى تمزيق القوي الوطنية فحين تكونت

" اللجنة التنفيذية العامة للطلبة" بالانتخاب ألف الإخوان " لجنة الطلبة التنفيذية العليا فى المركز العام لتحطيم قرارات اللجنة المنتخبة ومهاجمة نشراتها بحجة أنها شيوعية تتضمن مصطلحات روسية مثل "" الكفاح التحريري" و" المطالبة بالجلاء الاقتصادي " و" الكفاح الشعبي " و " يحيا اتحاد الطلبة والعمال " .

وعندما أنشئت " اللجنة الوطنية للعمال والطلبة وقادت مظاهرات يوم الجلاء 21 فبراير بادر الإخوان إلى تشكيل " اللجنة القومية منهم ومن شابا مصر الفتاة وحزب الفلاح الاشتراكي وجبهة مصر لعلي ماهر والحزب الوطني وعين صدقي باشا محمد حسن العشماوي وزيرا للمعرف ممثلا للحكومة فى اللجنة .

وعندما أرادت هذه اللجنة القومية تحت ضغط شباب مصر الفتاة والحزب الوطني مواجهة صدقي باشا وتحذيره من تسويف الإنجليز الذي قصدون به تفويت فرصة عرض قضية مصر على مجلس الأمن ومطالبته بالحريات العامة انفصلت جماعة الإخوان عن اللجنة وأعلنت أن مهمتها كانت محدودة بالدعوة إلى اعتبار يوم 4 مارس يوم حداد عام؛

وقد انتهت هذه المهمة بانتهاء هذا اليوم وفى يوم 21 مارس أصدر مكتب الإرشاد بيانا أعلن فيه أنه يعتذر عن عدم الاشتراك مع أية هيئة أو حزب او جماعة فى تشكيلات أو لجان لا تحمل طابع الوحدة التامة الحقيقية لجميع الهيئات التي تمثل الشعب .

وسرعان ما تصاعدت الاحتكاكات بين جماعة الإخوان والوفديين وشهد عام 1946 أعنف الاشتباكات ولم يتردد الإخوان المسلمون فى استخدام الوسائل الفاشية والهجوم على الشباب والطلبة بالعصي والخناجر وكان طبيعيا كما ذكر أحمد حسين أن تقف الحكومة إلى جوار الإخوان المسلمين فى كل صدام يقع بينهم وبين الوفد؛

بل كانت تحميهم وتشد من أزرهم ما استطاعت إلى ذلك سبيلا ففي يوم 6 يوليو 1946 وقع اصطدام فى مدينة بور سعيد بين أعضاء الجمعية وخصومهم استخدمت فيه القنابل والأسلحة وأسفر عن قتل أحد خصومهم وإصابة آخرين؛

وقد حاصرت الجماهير الوفدية الشيخ حسن البنا فى أحد المساجد لم ينجح فى الإفلات من الخطر إلا بأعجوبة وأحرقت دار الإخوان ببور سعيد وقد أورد أحمد عمار بك وكيل وزارة الداخلية نماذج من هذه الاشتباكات فأشار إلى حادث مدرسة شبين الكوم الذى بدأ الإخوان فيه بالهجوم على الوفديين؛

كما أشار إلى قضية ألقيت فيها قنابل من جماعة الإخوان فى الإسماعيلية وحكم فيها بإدانتهم وأورد أحمد حسين إحدي الوقائع التي تبين سطوة الإخوان فى عهد الانقلاب فذكر أن بعض التعليمات كانت قد صدرت من الحكومة بمنع سير أية طوابير أو مواكب فى الشوارع؛

وقد أورد مأمور قسم الخليفة تطبيق هذه التعليمات على جوالة الإخوان فخرج بعسكره وجنوده ليحولوا بينهم وبين السير أبوا ووقع صدام خطير ترتب عليه أن عوقب مأمور الخليفة على موقفه واصطدامه بالإخوان وسوي الموقف بإقامة احتفال ضخم لجوالة الإخوان أمام قسم الخليفة كمظهر لانتصار الإخوان المسلمين وسلطانهم .

بل لقد ذلل أحمد حسين على مدي نفوذ الجماعة فى ذلك الحين فذكر أن البنا كان يتصرف فى ذلك الحين كأنه "وزير الداخلية " وأورد ورقة مضبوطة من أوراق الجماعة موجهة من شعبة المحجر إلى المرشد تخطره فيها باعتزامها الاجتماع كل خميس فى دار الشعبة تطلب منه اتخاذ الإجراءات لكفالة حرية هذا الاجتماع وقد أشر عليها الشيخ حسن البنا بإخطار المحافظة وبوليس قسم الخليفة باعتماد شعبة المحجر كي لا يتعرض أحد لاجتماعها "

وقد علق أحمد حسين على ذلك قائلا:

" ماذا تكون الصولة أكثر من هذا؟ وماذا يكون النفوذ فى ذروته العليا أكثر من هذه التأشيرة التي تشبه أن تكون تأشيرة وزير الداخلية .وكان من الطبيعي أن تسئ أعمال العنف بين الإخوان والوفدين فضلا عن مظاهر التحالف بينهم وبين إسماعيل صدقي باشا صاحب التاريخ المعروف إلى سمعة الإخوان المسلمين خصوصا عندما بدأت تظهر النتائج الهزيلة لمفاوضات صدقي بيفن .
ولم تلبث أن أخذت تثور الاعتراضات داخل صفوفهم من جانب الفرق الذي كان على صلة بالجناح اليميني من الوفد أثناء حكومته الأخيرة وعلى رأسه أحمد السكري .

فقد كان من رأي أحمد السكري أن جماعة الإخوان المسلمين يمكن أن تصبح قوة ذات شأن أكبر فى مصر فى حالة واحدة وهي أن تدخل فى وحدة عضوية مع الوفد وأنه إذا أرادت الجماعة أن تمارس وجودا انتخابيا نقل أو تمسك بالسلطة فعليها أن تعمل من خلال الوفد أو تستند إليه؛

وقد تصور السكري دور الإخوان المسلمين على أن يحقق التأمل الروحي للوفد كذلك رأي فى نفسه الزعيم السياسي للإخوان المسلمين بينما رأى فى حسن البنا مرشدهم " الروحي" حيث يعملون جميعا كجزء من وحدة لا تقاوم باعتبارهما معا حزبي الشعب كما اعترض السكري على سيطرة البنا الطلقة على الجماعة وتحكمه التعسفي فى مصيرها السياسي .

وفى خلال عام 1946 كان الخلاف بينه وبين الشيخ حسن البنا مكتوبا لا يعرفه إلا الخاصة ولكنه تفجر فى ربيع العام التالي وأسفر عن طرد السكري من الجماعة.وقد عين صالح عشماوي رئيس التنظيم السري خلفا لأحمد السكري .

وهذا ما دعا بعض الباحثين إلى الربط بين هذه الأزمة وهذا التعيين وبين اكتمال التنظيم السري فى ذلك الوقت وفى الواقع أن اكتمال التنظيم السري إنما سمحت به علاقة التحالف القائمة بين الإخوان والسلطة واعتقاد هذه السلطة أن نشاط الإخوان إنما لخدمة الأهداف المشتركة وهي ضرب الوفد .

وهذا ما تؤكده شواهد كثيرة فيذكر عبد المجيد حسن قاتل النقراشي باشا أنه ذهب يتدرب فى جبل المقطم مع آخرين على استخدام الأسلحة وهي بنادق ومسدسات وقنابل وكان يدربهم السيد فايز الذى كان يرتدي ينطلونا كاكي اللون وقميصا كاكي اللون أيضا ينصف كم وقبعة تشبه قبعات جنود الجيش البريطاني (أى زي شبه رسمي) ووجد فى الجبل أسلحة وذخائر فى بعض الخيام؛

وقد علم بعد يومين من زملائه أنه قد قبض على السيد فايز ومعه أفراد يتدربون فى الجبل على استعمال السلاح ولكن لم يلبث أن أطلق سراح المقبوض عليهم بعد يومين بدعوي أن هذا لا يخالف القانون وأن هذه الأعمال التي يقوم بها الإخوان تتفق وتعاليم الإسلام واستدل على ذلك بأن " هذا التدريب كان تحت سمع الحكومة وبصرها ".

قد ذهب إلى حد القول بأن الإخوان كانوا يضعون القنابل فى الجامعة فروي أنه:

"قبيل ليلة عيد الميلاد سنة 1946 ذهبت أنا وحسين عبد السميع إلى الجامعة وكانت محاصرة وتمكنا من تسلق سور كلية الزراعة وقصدنا إلى الدواليب الخاصة وأعطاني عبد السميع مفتاحا لاحتفظ به وفتح هو بمفتاح آخر أحد هذه الدواليب ونظر فيهم كما نظرت أنا أيضا فشاهدت تسع أو عشر قنابل ".

وقد اتهم أحمد حسين السلطة بأنها كانت تشجع الإخوان المسلمين على المزيد من ارتكاب الجرائم فقال :

" إنهم عقب كل حادثة من هذه الحوادث كانوا يلقون تشجيعا وتأييدا لأنها كانت تظهر ما توصلوا إليه من القوة وأنهم صالحون كل الصلاحية للمهمة التى يراد منهم القيام بها وهي كما قلت القضاء على حزب يراد القضاء عليه بأى ثمن من الأثمان (الوفد) ولو حساب القانون وعلى حساب الأمن والسلام.
وقد كان الستار الذي يخفي تحته الإخوان المسلمين تدريبهم واستعدادهم وتخفي الحكومة بدورها تغاضيها عن هذا التدريب والاستعداد هو قضية فلسطين وقضية فلسطين هي شعار حقيقي بالنسبة للإخوان ولكنه ستار مزيف بالنسبة للحكومة صدقي باشا وحكومة النقراشي باشا التي خلفتها .

بمعني أن هذه القضية كانت تتقدم بالنسبة لشباب الإخوان محورا إسلاميا مثاليا يستقطب اهتمامهم ومجالا حقيقيا للجهاد تفرغ فيه شحنة حماستهم ولا يستطيع أحد أن ينكر إخلاص شباب الإخوان المسلمين لقضية فلسطين وضغطهم على قيادتهم للسماح لهم بالجهاد فى فلسطين

وقد عبر عبد المجيد حسن عن ذلك تعبيرا قويا فقال:

"بدأ مشكلة فلسطين تأخذ دورا جديا واعتقدت كما أعتقد جميع أفراد "النظام الخاص" أن وقت الجهاد من أجله نعد وندرب قد جاء و أنا سنرسل جميعا إلى فلسطين للقتال هناك .

وكانت القيادة تبلغنا أن الوقت سيأتي قريبا للجهاد وأن الغرض من إعداد الفرق هو أن نجاهد فى فلسطين بعد تدريب أفرادها على استعمال السلاح ليس السلاح بمعناه فقط إنما كانت هناك إجراءات العصابات وحقول الألغام وكانت القيادة دائما تماطل فى كثرة طلباتنا بالذهاب إلى فلسطين.

والظاهر أن أفراد المجموعة قد فكروا فى الخروج على النظام ورغبوا فى القتال فى فلسطين ولما شعرت القياد بشدة الضغط عليها قالت لنا:إن الجهاد ليس مقصورا على فلسطين وأن الصهيونيين ليسوا فقط فى فلسطين وإنما هم موجودين أيضا داخل البلاد المصرية وأن على "النظام الخاص" أن يوجه إليهم نشاطه وجهاده "

لا نستطيع إذن أن ننكر على شباب الإخوان المسلمين حماسهم وإخلاصهم لقضية فلسطين ولكن لا نستطيع فى الوقت نفسه إنكار أن التدريب علي السلاح أما بالنسبة للحكومة فمن المحقق أنها اتخذت من قضية فلسطين شعارا تخفي تحته تغاضيها عن استعدادات الإخوان لاستخدامهم فى محاربة الوفد .

وقد كان فى وسعها منع هذا النشاط ومطالبة الإخوان بممارسة تدريباتهم فى الأماكن الرسمية التي حددتها لهذا الغرض وهذا ما عبر عنه عبد الرحمن عمار بك وكيل وزارة الداخلية فى شهادته أمام المحكمة فى قضية مقتل النقراشي باشا

فقد قال:

" إن جماعة الإخوان كانوا على أثر كل حادث يتمسحون بقضية فلسطين وكنت متوقنا أن هذا التمسح باطل ولا أساس له لأنهم إ1ذا كانوا يقصدون حقا خدمة فلسطين لتوجهوا إلى مكان التدريب الذى أعدته الحكومة فى "هاكستيب" ظاهرين لا متخفين لا أن يذهبوا غلى جبل المقطم فنعرف شخصياتهم أو نياتهم "

كانت الحكومة إذن تعرف تمسح الإخوان المسلمين فى قضية فلسطين من أجل التدريب والاستعداد باطل ولكنها كانت تتغاضي لأغراض أخري غير قضية فلسطين ولذلك حين قبض على جماعة المقطم التي ورد ذكرها حفظت النيابة الدعوي ضد أفرادها

وكان مما ورد فى قرار الحفظ:

وحيث أنه فيما يتعلق بتهمة إحراز السلاح والذخيرة المنسوبة إلى الأشخاص المضبوطين فالتهمة ثابتة قبلهم من اعترافهم الصريح غير أنه من ناحية أخري فإن الغرض الذى من أجله اجتمعوا وأنفقوا من أموالهم إنما هو غرض نبيل دعت إليه ضرورات الحالة فى فلسطين فى ذلك الوقت فدفعتهم نخوتهم الوطنية وشعورهم العربي إلى نصرة إخوانهم فى فلسطين مجاهدين بأموالهم وأنفسهم؛

فضلا عن أن الظروف السياسية قد تطورت فيما بعد واندفعت الدولة بجيوشها وأفرادها ودخلت فى معترك حرب نظامية مع عصابات اليهود فالتقي غرض الأفراد مع هدف الدولة نري مع الموافقة لذلك:

أولا: حفظ جناية الشروع فى القتل قطعيا لعدم الجناة .
ثانيا: حفظ جنحة إحراز الأسلحة والذخيرة قطعيا لعدم الأهمية".

يتضح من ذلك أن علاقات التحالف بين جماعة الإخوان وعهد الانقلاب قد هيأت لهم المناخ الملائم لإتمام تدريبهم واستعدادهم فضلا عن تطوير الجهاز السري وفيما يتصل بالسلاح فإن الحكومة قد منحت للإخوان فرصة العمر للتسليح حتي أسنانهم من خلال قضية فلسطين

ويشرح ذلك أحمد حسين فيذكر أنه عندما تطورت قضية فلسطين استقر رأي الحكومات العربية فى البداية على عدم التدخل السافر وأن تقوم به الجامعة العربية كهيئة مستقلة تعتمد على الهيئات والجماعات الشعبية واتخذت الهيئة العربية العليا مصر مقرا لها؛

ونظم الأمر بين الهيئة والإخوان تحت إشراف الحكومة وموافقتها على أن يتولي الإخوان جمع السلاح لحرب فلسطين وأعطي مندوبو الإخوان التصريحات اللازمة لجمع السلاح فذهبوا إلى الصحراء الغربية بمعاونة رئيس أركان مصلحة الحدود وجمعت الأسلحة وحشدت وكان ذلك عملا قانونيا بحتا فى ذلك الوقت وكانت الهيئة العليا تتريث النقل!

وأحيانا كانت تكلف الإخوان بمهمة إصلاحها وجعلها فى حالة جيدة! ولقد فتح الإخوان ورشا للسلاح للقيام بهذا العمل وكان تحت سمع الحكومة وبصرها "

ولم ينكر الإخوان ذلك, بل كان من وسائل دفاعهم عن أنفسهم عندما صدر قرار الحل . فقد ورد فى بيانهم تحت عنوان :" قضيتنا" أن الإخوان المسلمين " كانوا هم الهيئة العاملة النشيطة التي ساعدت الهيئة العربية العليا فى الحصول على أسلحة من مختلف الأماكن وساعدت إخوان فلسطين عند حضورهم إلى مصر لمشتري السلاح بكل ما استطاعت من مساعدة وساعدت الجامعة العربية رسميا فى هذا السبيل وجهزت معسكرا كاملا باسم الإخوان فى السويس ثم فى النصيرات وفى البريج "

وكان من الطبيعي أن ينعكس ذلك على الجهاز السري فقد اكتمل هيكلة فى ذلك الوقت ووضعت القواعد التي تحدد مهامه وطرق إصدار الأوامر وتسلسلها والسلطات والمسئوليات والشفرة الملائمة والمعدات وازداد عدده زيادة ملحوظة من خلال عملية التجنيد عبر ضباط الجيش وكانت علاقة البنا بالتنظيم فقد انتقلت من صالح عشماوي إلى عبد الرحمن السندي . ثم تولي البنا الاتصال المباشر فى النهاية

ولم تلبث تطورت القضية الفلسطينية أن دفعت بالإخوان إلى قلب المعركة فقد أرسل المركز بمائة متطوع إلى معسكر قطنة بسوريا كما أقاموا بإذن الحكومة معسكرا خاصا بالقرب من العريش يمارسون فيه التدريب؛

وكان يتسع لما يزيد على مائتي منهم يمدهم المركز العام بكل ما يحتاجون إليه من أدوات وتموين وسلاح وعتاد وفى مارس 1948 دخلوا فلسطين واحتلوا هناك معسكر النصيرات جنوبي غزة وقد رابط الإخوان فى " صور باهر " وفى " بيت لحم" وعلى مشارف القدس واقتحموا " راما تراحيل " فى جبهة الوسط واحتلوا معسكر النصيرات والبريج ونسفوا مستعمرة " ديروم"

واشتركوا فى معارك " عسلوج" وحاصروا " المستة وبيروت إسحق" وترددت نقطهم الثابتة والمتحركة فى كل مكان فى جبهة الجنوب واستشهد منهم قرابة المائة وجرح نحو ذلك وأسر بعضهم وكانوا مثال البسالة وحب الاستشهاد .

وهناك دلائل على أن هذه الخسائر لم تؤثر على جيش الجوالة أو التنظيم الخاص فيري البعض أن رؤساء الجمعية كانوا حريصين على ألا يتطوع من جماعة الإخوان إلا الأعضاء المنتمون للنظام الظاهري وإلا يبعثوا من أعضاء النظام السري إلا قلة أن يحتفظوا بالكثرة منهم لما أسموه بالجهاد الداخلي؛

ويؤيد البنا نفسه هذا الرأى دون وعي ففي مذكرته ردا على مذكرة عبد الرحمن عمار ما يفيد بأنه دفع بالآف من الإخوان للتدريب فى معسكر الحكومة فقد ذكر أنه حين أعدت الحكومة معسكرها بهاكستيب لتدريب المتطوعين تقدم إليه أكثر من ألف خانتخب منهم أكثر من ستمائة على دفعات جهزتهم الحكومة ودخلوا مع القوات النظامية وواضح أن هذا العدد الذى أرسل للتدريب لم يسبق له التدريب وإنما تنتمي غالبية للإخوان المتحمسين الذين لم يشتركوا فى الجيش العلني (الجوالة) أو السري للإخوان .

على أن البنا لم يكن ليستطيع الاحتفاظ بالنظام الخاص بعيدا عن المعركة فكرسه للاعتداء على اليهود المصريين خصوصا بعد الغارات الجوية الإسرائيلية على مصر ويعترف عبد المجيد حسن بذلك فيقول أنه بعد دخول الجيش المصري فلسطين بثلاثة أو أربعة أيام أبلغ ان النظام سيبدأالعمل "؛

وفى شهر رمضان سنة 1948 وكان فيه غارات جوية كثيرة من الطائرات الصهيونية تقرر أن نقوم بمهاجمة محال اليهود فى مصر ردا على الغارات الجوية وقد بدأت الحوادث ومنها حادث نسف محل شيكوريل ولم تنكر مذكرة الإخوان إنكارا باتا مسئولية الإخوان عن هذه الحوادث ولكنها أنكرت مسئولية قيادة الهيئة .

وعللت السبب بأنه يرجع إلى موقف المواطنين الإسرائيليين (أى اليهود المصريين) الجامد من مساعدة كثير من العناصر اليهودية فى مصر لصهيونيين فى فلسطين مساعدة كبري كان لها أثر بالغ فى ترسيخ أقدامهم وتنظيم مستعمراتهم وإمدادهم بالسلاح والمال هي أسباب صحيحة فى مجملها .

وفى الفترة من يونيو إلى نوفمبر 1948 تركز نشاط الجهاز السري على الممتلكات اليهودية ففي 20 يونيه 1948 وقع انفجارا نفى حارة اليهود

وفى 20 يوليو حدث انفجار لغم فى الممر الواقع بين محلات " أركو"و" شيكوريل" أمام سينما مترو بول وفى 28 يوليو حدث انفجار بمحل داود عدس للأقمشة بشارع عماد الدين؛

وفى أول أغسطس حدث انفجار آخر بمحلات بنزايون بشارع محمد فريد وبعد يومين أى فى 3 أغسطس انفجرت عبوة شديدة بمبني شركة أراضي الدلتا المصرية بالمعادي؛

وفى 22 سبتمبر حدث انفجار آخر بحارة اليهود وبعد أسبوع واحد أى فى 29 سبتمبر حدث انفجار بمخزن محلات شيكوريل بحلمية الزيتون وكان أقسي الانفجارات وأشدها ضررا ما وقع بشركة الإعلانات الشرقية يوم 22 نوفمبر مما ترتب عليه تصدع وتخريب جميع العمارات والمنازل والحوانيت فى مكان الحادث والمناطق المجاورة .

وفى تلك الثناء كان الشباب المصري يجرفه الحماس الوطني ويجذبه العمل السري للنضال ضد الإنجليز خصوصا بعد يوم الشهداء 4 مارس 1946 فى الإسكندرية الذى دعت إليه اللجنة القومية التى ألفها الإخوان وقتل الجنود البريطانيون فيه 28 وجرحوا 342؛

وفى خلال أسبوع واحد من يوليو 1946 ارتكبت أربعة حوادث ضد الجنود البريطانيين فى سياراتهم وأماكن لهوهم باستخدام القنابل والمسدسات والبنادق أسفرت عن إصابة 128 شخصا وقبض على أحد عشر متهما فر منهم ثلاثة من سجن الحد راء من خلال ثغرة فتحوها فى نافذة السجن فى شهر أكتوبر 1946..

وجرت محاكمتهم أمام محكمة مشكلة برياسة القاضي أحمد الخازندار الذي كان قد سبق له أن حاكم قاتلا عرف باسم " سفاح الإسكندرية" وحكم عليه بالسجن سبع سنوات ولكنه حكم على المهتمين بأحكام قاسية تراوحت بين العشر والثلاث سنوات .

ولم يكن أحد المتهمين ممن ينتمون إلى التنظيم الخاص فى جماعة الإخوان المسلمين ولكن بعد ثمانية أشهر من الحكم أى فى يوم 22 مارس 1948 قتل القاضي أحمد الخازندار بواسطة اثنين من شباب الإخوان المسلمين انتقاما للحكم الذي أصدره فى قضية القنابل

وقد أنكرت قيادة الإخوان مسئوليتها عن هذا العمل ولكنها ذكرت ما يبرره قائلة:

" جاءت أحكام الخازندار بك رحمه الله على الطلاب ع الذين ألقوا القنابل على أندية الإنجليز بالإسكندرية صارمة قاسية .
إذ حكم على كل طالب منهم بعشر سنوات مع أنه أصدر على "حسن قناوي" سفاح الإسكندرية مثلا حكما بسبع سنوات وكان الطلبة يتصورون أنهم يستطيعون بحركاتهم هذه أن يحققوا أهداف الوطن ويزعجوا الإنجليز فلا يتشددون مع المفاوضين المصريين ومثل هذه الأحكام فى عرفهم تعوق نشاط الحركة الوطنية فيما يعتقدون "

على كل حال ففى أواخر سنة 1948 كان الإخوان المسلمون قد أصبحوا أشبه بدولة داخل دولة بأسلحتها وجيشها ومصانعها وشركاتها ومدارسها ومستشفياتها ولم يبق سوي القفز على السلطة ولكن فى 8 ديسمبر 1948 اصدر محمود فهمي النقراشي باشا قرار بحل الجماعة وانتقض بالاعتقال والمصادرة على أعضائهم ومنشآتهم وأموالهم فانتهت صفحة حافلة من نشاط الإخوان المسلمين وبدأت صفة أخري .

والسؤال الذى يطرح نفسه: ما هي دوافع حل جماعة الإخوان المسلمين لدينا فى هذا الصدد نوعان من الدوافع ..الدوافع التي قدمتها حكومة النقراشي باشا والدوافع التي أفترضها الإخوان .

وفيما يتصل بدوافع الحكومة فتقوم طبقا لمذكرة الحل على أربعة أقسام من التهم التهمة الأولي أن الجماعة كانت تهدف إلى قلب النظم السياسية للهيئة الاجتماعية متخذة فى ذلك طرقا إرهابية بواسطة فريق من أعضائها دربوا تدريبا عسكريا وأطلق عليهم فريق الجوالة

والتهمة الثانية الاشتباكات التى جرت بين الجماعة وخصومها وأعمال العنف الممثلة فى إلقاء القنابل فى عدة أماكن بالقاهرة يوم 24 ديسمبر 1946 وفى الإسماعيلية سنة 1947 والتهمة الثالثة تتعلق بوقائع تدريب الجماعة على السلاح وصنع القنابل والمفرقعات ..

وتخزين السلاح بعزية محمد فرغلي الذى عثر عليه يوم 22 أكتوبر 1948 أما القسم الرابع من الفهم فيتعلق بقيادة الإخوان فى الريف واتخاذها موقفا معاديا وتحريضا ضد كبار الملاك.

ويتضح من ذلك أن مذكرة الحل قد استبعدت حوادث العنف التي ارتكبتها الجماعة ضد اليهود والإنجليز والتى أشرنا إليها أما حوادث العنف التي أشارت إليها والتى تتصل بإلقاء القنابل يوم 24 ديسمبر 1946 فلم تثبت إدانة الإخوان فيها؛

حادث إلقاء القنبلة بفندق الملك جورج بالإسماعيلية سنة 1947 ثبت أن المتهم فيه غير مسئول عن عمله وسقط الاتهام ضده وأما مخزن السلاح فى عزبة محمد فرغلي فالثابت أن محمد فرغلي كان رئيس معسكر النصيرات أولا ومعسكر البريج ثانيا بجوار غزة..

وكان رئيسا لمتطوعي الإخوان فى المنطقة وأقرته قيادة الجيش المصري كما كا ممن سهلوا لعبد القادر الحسيني الحصول على ما يريد من السلاح وقد سألت النيابة الشيخ بعد اكتشاف السلاح بعزبته وأفرجت عنه .

كذلك فإن المذكرة فى إثباتها سعي الجماعة لقلب نظام الحكم لم تستند إلى أدلة حديثة اكتشفتها وإنما استندت إلى تحقيقات قديمة خاصة بشراء السلاح من المحور وقد برئ فيها الإخوان.

أما التهمة الخاصة بالاشتباكات مع الوفد فلا يمكن أن تكون حكومة النقراشي حادة فيها لأنها وحكومة صدقي باشا قبلها كانت المحرضة الأساسية فى هذه الأعمال ولم تكن العلاقة تحسنت بينها وبين الوفد على نحو يضع تلك المسألة فى اعتبارها عند التفكير فى حله .

بقيت التهمة الخاصة بموقف الإخوان من كبار الملاك وتقوم على ثلاث وقائع حرق أحطاب لأحد الملاك بناحية كفر بداري وهي فى يوم 18 يناير 1948 والثانية فى 3 فبراير 1948 وهي تحريض أهالي كفر البرامون على التظاهر لزيادة أجورهم وإرغام تفتيش أفيروف الذى يقع بزمام القرية على تأجير أراضيه مقسمة على الأهالي بإيجار معقول؛

وحدث اشتباكات مع رجال البوليس عند محاولة قمع الفتنة والثالثة فى 16 يونيه 1948 وهي تحريض عمال تفتيش زراعة محلة موسي التابع لوزارة على التوقف عن العمل والمطالبة بتملك أراضي التفتيش .

وقد فند الشيخ حسن البنا ما جاء بخصوص الواقعتين الأوليين . فقد ذكر أن أساس النزاع فيها أن كلا من عمدة كفر بداري ومنية البراموني كن يريد ألا تقوم فى القرية أية جماعة يكون لها مظهر وكيان وكلا العمدتين صهر لخر وخطتهما فى ذلك واحدة

وقد كان الإخوان هدفا لاضطهادهما اضطهادا قاسيا ومعني ذلك بوضوح أن النزاع لم يكن لأسباب اجتماعية تتعلق بالنظام الاجتماعي وعلاقات الإنتاج فى الريف؛

وإنما كان لأسباب حزبية أما الواقعة فتتصل بأراضي تابعة للدولة لا للأفراد وبالتالي فهي بعيد عما يمكن أن يكون موقفا متطرفا من الملكية الفردية من جانب الإخوان تتخوف منه حكومة النقراشي باشا ومن الطريف مع ذلك أن اعتبر الإخوان فيما بعد هذا الاتهام فى الواقعة الثالثة التى لم يتعرض لها البنا فى تنفيذه عملا من أعمال محاربة الإقطاع يفاخرون به بعد ثورة 23 يوليو .

يتضح من ذلك كله أنه لا يوجد من الأسباب التى قدمتها حكومة النقراشي باشا سبب واحد مقنع يمكن أن يدفعها إلى إنهاء لتحالف بينها وبني جماعة الإخوان والانقضاض عليها وحلها ومحاولة تصفيتها وبقي علينا أن نبحث فى الرأي الأخر رأي الإخوان أنفسهم .

لقد أقام الشيخ حسن البنا رأيه فى دوافع حل جماعته على افتراض أساسي هو التدخل الأجنبي ... ففي رده على مذكرة عبد الرحمن عمار بك عن جماعة الإخوان قال إنه:

" مستحيل أن يكون الدافع الحقيقي لهذه الخطوة الجريئة من الحكومة مجرد الاشتباه فى مقاصد الإخوان أو اعتبارهم مصدر تهديد للأمن والسلام وهو مالم يقم عليه دليل ولا برهان ولكت الدافع الحقيقي فيما نظن هو انتهاز الأجانب فرصة وقوع بعض الحوادث مع مع اضطراب السياسة الدولية؛
وقلق الموقف فى فلسطين وتردد سياسة مصر بين الأقدام والأحجام فشددوا الضغط على الحكومة وقد صرح بذلك سعادة عمار بك نفسه وأقر بأن سفراء بريطانيا وأمريكا وفرنسا قد اجتمعوا فى فايد وكتبوا لدولة النقراشي باشا فى صراحة بأنه لابد من حل الإخوان المسلمين "

وقد أورد بيان الجماعة بعنوان:" قضيتنا "

إيضاحات أكثر فى هذا الصدد فذكر أن عبد الرحمن عمار أقر بنفسه للأستاذ المرشد العام أن مذكرة قدمت إلى النقراشي باشا من سفير بريطانيا وسفير فرنسا والقائم بأعمال سفارة أمريكا بعد أن اجتمعوا فى فايد فى 6 ديسمبر تقريبا يطلبون فيها المبادرة بحل الإخوان المسلمين وعقد بيان الجماعة مقارنة بين موقف الاستجابة من جانب النقراشي باشا لهذا الطلب والموقف الذي وقفه مصطفي النحاس باشا فى عام 1942 ."

فقد طلبت السفارة من رفعة النحاس باشا فى سنة 1942 والحرب العالمية على أشدها والألمان على الأبواب حل الإخوان المسلمين وتعطيل نشاطهم فأبي أن يجيبها إلى ذك واكتفي بإغلاق الشعب كلها مع بقاء المركز العام إلى حين .

وقد أضاف بيان الجماعة أربعة دوافع أخري على النحو الآتي:

أولا: التمهيد للمفاوضات المنتظرة بين الحكومة والإنجليز بحل الإخوان وشغلهم بأنفسهم عن مجريات الأمور وتقلبات الأحوال .
ثانيا: الخوف من ردود فعل الإخوان إزاء فشل الحكومة فى حل قضيتي فلسطين والسودان والخوف من القيام بثورة لهذا السبب وعلى حد قول البيان :" تعلم الحكومة تمام العلم معرفة الإخوان الدقيقة ببواطن الأمور وأسباب هذا الفشل وتشعر بأنهم سيشددون عليها الحساب . فأرادت أن تسبقهم إلى ذلك ولكن الإخوان لم يكن منهم إلا ضبط الأعصاب ".
ثالثا: الخوف من مواجهة الإخوان فى الانتخابات القادمة خصوصا والقائمون فى الحكم " يعلمون مدي تغلغل فكرة الإخوان فى نفوس الشعب ومختلف طبقاته بخاصة فى القري والريف فكان طبيعيا أن يحسبوا حساب منافستهم فى هذا الميدان وأن يحاولا بمثل هذه الضربة أن يباعدوا بينهم وبين بعض الجمهور ويشوهوا جهادهم ".
رابعا: تحالف اليهودية العالمية والشيوعية الدولية والدول الاستعمارية وأنصار الإلحاد والإباحية على الدس للإخوان لدي الحكومة لأنهم يرون فى الإخوان ودعوتهم " السد المنيع الذي يحول بينهم وبين ما يريدون من تحلل وفوضي وإفساد "

وإذا صرفنا النظر عن السبب الأخير الذى لا يستحق الوقوف عنده بالمناقشة وتناولنا التدخل الأجنبي فإن المقال الذى كتبه شمس الشناوي فى مجلة الدعوة يحتوي على معلومات مختلفة بعض الشئ لما ورد فى بيان الإخوان

فقد ذكر أن اجتماع السفراء الأجانب الذى قرروا فيه اتخاذ الإجراءات اللازمة لحل الجماعة الإخوان كان فى 10 نوفمبر 1948 وليس فى 6 ديسمبر كما ورد فى البيان؛

وقد أضاف أنه فى 20 نوفمبر 1948 أرسل رئيس المخابرات البريطانية إلى قائد القوات المسلحة البريطانية فى مصر أن خطوات دبلوماسية ستتخذ لحل جماعة الإخوان المسلمين وأخطرت السفارة البريطانية النقراشي بهذا القرار مشفوعا بتبليغ شفوي أنه إذا لم تحل جماعة الإخوان فستحتل القوات البريطانية القاهرة والإسكندرية .

وقد ذكر الشناوي أن الصورة الزنكوغرافية لقرار السفراء موجودة لديه ولكنه لم ينشرها بمقالة على أن عبد الرحمن عمار وهو الذي أسند إليه بيان الإخوان الاعتراف بالتدخل الأجنبي وأنه مصدر خبره أنكر هذه الواقعة إنكارا باتا ففي أثناء المحاكمة فى قضية مقتل النقراشي باشا..

سئل عما إذا كان يعلم أن هناك اجتماعا عقده سفراء دول فرنسا وانجلترا وأمريكا فى فايد قرروا فيه مطالبة الحكومة بحل الإخوان فى مذكرة طبعوها ووزعوها سرا ليوهموا الناس بأن النقراشي باشا حين قرر حل الإخوان كان تحت تأثير أجنبي وهذه واقعة لا ظل لها من الحقيقة".

ومع ذلك فلم نكن لنستبعد واقعة التدخل الأجنبي خصوصا بعد انهيار الأمن والنظام فى مصر على النحو الذى ذكرناه لولا أن مذكرة الحل التي استندت إليها الحكومة قد خلت كما رأينا من الحوادث التي يمكن وحدها أن تدفع السفراء إلى اعتبار الإخوان مسئولين عن انهيار الأمن والتدخل من ثم لحل جماعتهم؛

أما وقد أغفلت مذكرة الحل هذه الحوادث فمعناه الوحيد أن السفراء لم يكونوا يملكون أدلة على دور الإخوان فى هذه الحوادث ويكونوا قد فقدوا المبرر لمطالبة بهذا الحل وعلى كل حال فلم أجد فى الوثائق البريطانية أثناء غقامتي فى لندن وترددي على الأرشيف البريطاني ما يؤكد هذا التدخل .

أما مسألة التمهيد للمفاوضات كدافع لحل الجماعة فما نظن أن هذا السبب كاف فلم يرفض الإخوان منذ البداية مبدأ التفاوض بل لقد طالبوا بإتاحة الفرصة للنقراشي باشا فى حكومته الأولي لمعالجة القضية الوطنية عن طريق التفاوض؛

كما طالبوا بالوقوف وراء صدقي باشا لنجاح المفاوضات التى كان يجريها فى الوقت الذى كان الوفد يرفض تمثيل النقراشي وصدقي للشعب المصري فى المفاوضات وعندما عرف الإخوان يعزم النقراشي على رفع القضية إلى مجلس الأمن بعد فشل مفاوضات صدقي باشا عدلوا عن مبدأ المفاوضات ودعوا فى جريدتهم إلى عرض القضية على مجلس الأمن؛

وقد استمرت علاقتهم طيبة بحكومة النقراشي باشا فساندوا النقراشي فى مجلس الأمن نظموا له الاستقبالات عند عودته وظلت علاقتهم بالنقراشي طيبة وأسندت إليهم مهمة التعاون مع الهيئة العربية العليا وجمع السلاح لحرب فلسطين وكانت تدريباتهم واستعداداتهم وتخزينهم للسلاح يتم تحت بصر حكومة النقراشي باشا تحت ستار قضية فلسطين .

ومن ثم فلم تكن حكومة النقراشي لتخشي مواجهة معهم لو قررت المفاوضات فتسارع بحل جماعتهم قبل القيام بها.بقيت مسألة خوف حكومة النقراشي من ردود فعل الإخوان إزاء فشلها فى حل قضيتي فلسطين والسودان وإدراكها معرفة الإخوان الدقيقة ببواطن الأمور وأسباب هذا الفشل؛

وهذا السبب يمكن قبوله فقط لو أن الإخوان قد اثبتوا أنهم يعرفون بالفعل بواطن الأمور وأسباب الفشل ولكن الثابت تاريخيا أنهم لم يلعبوا أى دور هام فى الكشف عن فضائح معركة فلسطين وإنما الذى حمل لواء هذا الكشف عما حدث من تلاعب فى صفقات الأسلحة والذخائر للجيش هم السعديون والأحرار الدستوريين أنفسهم الذين كانت تتألف منهم حكومة النقراشي التي قامت بحل الجماعة بالإضافة إلى دور اليسار والمستقلين الأساسي فى فضح هذه الصفقات على الرأى العام والذى قاده أحمد بهاء الدين وإحسان عبد القدوس فى مجلة "روز اليوسف"

بقي السبب الأخير وهو خوف القصر وحكومة النقراشي باشا من تزايد قوة الإخوان المسلمين فى الحياة السياسية وهو الدافع الحقيقي قد تزايدت إلى الحد الذى لم يعد يمكنه السيطرة عليها وان سماحة لها بالنمو إلى مالا نهاية سوف يجعله فى النهاية أول ضحاياها؛

بل لقد شعر بأنه فى رغبته فى ضرب الوفد ساعد على تنمية قوة هي أخطر بكثير من الوفد فالوفد فى نهاية الأمر هو حزب ليبرالي لا يلجأ إلى الأساليب الفاشية فى التعامل مع الخصوم أما الإخوان فإن استخدامهم لهذه الوسائل لا حدود لها وفى حالة الاحتكام إلى الأمة مرة أخري فإن القصر يمكنه التغلب على الوفد بتزييف الانتخابات؛

كما يفعل مرارا ولكن بالنسبة لقوة مسلحة كقوة الإخوان المسلمين فإن استخدام التزييف سوف يؤدي إلى صدام وكارثة وعلى هذا النحو وشيئا فشيئا وهكذا يستبدل القصر بخصم مجرد من السلاح مثل الوفد خصما مدججا بالسلاح مثل جماعة الإخوان .

ولكن كيف تنقض الحكومة على جماعة الإخوان دون أن تتعرض لانتقام جهازها السري لا تعلم عن أسراره شيئا؟هنا تظهر أهمية حادثة ضبط سيرة الجيب بطريق الصدفة فى يوم 15 نوفمبر .

ففي خلال وقت وجيز بعد الواقعة كانت السلطة قد وضعت يدها على اثنين وثلاثين من قادة الجهاز السري وعلي رأسهم عبد الرحمن السندي رئيس الجهاز .

ومن خلال مجموعة الأوراق والوثائق التي عثر عليها فى السيارة الجيب والحافظة الجلدية وملف المذكرات والأجندة ومحافظ الجيب والسجلات الشخصية الأخرى التي عثر عليها فى منازل المقبوض عليهم تبنيت فى وضوح لأول مرة معالم التنظيم السري و وأمكن تقويض شبكة الاتصالات فى التنظيم تماما كما قوضت كل وسائل الانضباط .

وبلغ من ثقة النقراشي باشا فى السيطرة على الأمور وعزل البنا عن التنظيم أنه رفض اعتقاله فيمن اعتقل من أعضاء مكتب الإرشاد وكانت إجابة النقراشي باشا :" لا خطر منك بعد أن قصصنا أجنحتك"

وقد بلغ من أهمية وثائق قضية الجيب أن حاول الإخوان التخلص منها بعد ذلك بطريقتهم الخاصة فأعدوا شحنة ناسفة وضعت فى محكمة الاستئناف يوم 13 يناير 1949 لإتلاف أدلة الاتهام ضدهم ولكن أمكن ضبطها وإبعادها حدث انفجرت خارج المحكمة وأصابت 25 مواطنا بجروح مختلفة .

على كل حال فلم تكد تمضي عشرون يوما على ضبط سيارة الجيب حتى انتهز النقراشي باشا فرصة القلاقل التي وقعت فى الجامعة يوم 4ديسمبر ومصرع سليم زكي حكمدار القاهرة بقنبلة ألقيت عليه من سطح كلية الطب بقصر العيني فاتهم الإخوان المسلمون بقتله وبعد صدور الاتهام صدر الأمر صحيفة الجماعة وفى يوم 8 ديسمبر كان قد صدر قرار حل الجماعة .

وهكذا انتهي التحالف بين الإخوان والقصر نهاية مأساوية وصدقت الحكمة التي تقول بأن الأخطاء التي ترتكب فى حق الديمقراطية تقتص لنفسها من فاعليها.

وقد سارت الأمور بعد ذلك فى طريقها المحتوم فقد نشبت الحرب بين الحكومة الإرهابية للقصر وبين الحكومة الإرهابية السرية للإخوان فعلي الرغم من أن التنظيم السري كان مضروبا إلا أنه تمكن من الانتقام من النقراشي باشا؛

وتقاضي منه حياته ثمنا للحل يوم 28 ديسمبر أى بعد عشرين يوما فقط وقد ردت حكومة القصر الإرهابية بقتل الشيخ حسن البنا بمحاولة قتل إبراهيم عبد الهادي باشا رئيس الحكومة يوم 5 مايو 1949 أى بعد ثلاثة أشهر فقط ولكن الاعتداء وقع على رئيس مجلس النواب حامد جودة الذى نجا بأعجوبة وهكذا غاب القانون وسادت شريعة الغاب .

الحصاد المر للعنف

والسؤال الذى يطرح فى نهاية هذه الصفحة من صفحات العنف فى مصر ما هو حصاد هذه الفترة ؟

والرد أن هذا الحصاد خسارة محققة أصابت مصر فبفضل التخطيط الأخرق لحوادث العنف التى ارتكبها التنظيم السري لجماعة الإخوان ضد اليهود والإنجليز كانت الغالبية الساحقة من الضحايا من المصريين وليسوا من اليهود أو الإنجليز .

فقد كانت المتفجرات توضع فى المحلات الكبرى والسينمات والمباني والشركات المملوكة لليهود أو الإنجليز ولكنها كانت تغص بالمصريين فتتخرب بعض الجدران وتزهق أرواح المئات من الأبرياء ويتشوه الكثيرون .

ولو أن هذه العمليات كانت تتم ضمن عملية كبري للاستيلاء على السلطة وإقامة الحكومة الإسلامية لكان لها ما يبررها ولكانت ثمنا بخسا لهدف أسمي ولكنها قامت لغير غرض ثوري حقيقي ففقدت قيمتها النضالية واتسمت بالطيش والاستخفاف بأرواح الناس وعدم المسئولية وكان من حسن حظ مصر أنها لم تحكم بهذه العقلية التخريبية .

وكما أن العنف الذى استخدمه الإخوان أصاب الجماهير المصرية فإن العنف الذى استخدمته حكومة القصر أصاب الجماهير المصرية أيضا فقد لجأت حكومة إبراهيم عبد الهادي إلى استعمال اشد أساليب الضغط على الحريات وفتحت المعتقلات ومارست أبشع أنواع التعذيب والإرهاب والتخويف؛

ولأول مرة تعدي اضطهاد المعتقلين من الإخوان إلى ذويهم وأقاربهم وعائلاتهم فكانت سابقة مشئومة اتبعها فيما بعد زبانية ثورة 23 يوليو وقد استغلت الحكومة مناخ الإرهاب فى ضرب القوي الوطنية التقدمية وإجهاض الحركة الوطنية وتصفية حركة المقاومة ضد الإنجليز فكانت فترة قمع لم يسبق له مثيل .

وهكذا يختلف العنف الثوري ن العنف غير الثوري فالعنف الثوري فيه نفحة من بناء ولكن العنف غير الثوري ليس فيه سوي الهدم والتخريب والعنف الثوري يصيب أعداء الجماهير ولكن العنف غير الثوري لا يصيب سوي الجماهير فى الصميم.

الفصل الرابع :الصراع بين الهضيبي والسندي

انتهت تجربة العنف من جانب الإخوان بحل جماعتهم وقيام عهد إرهاب على يد حكومة السعديين وانتهاء التحالف التاريخي بينهم وبين القصر ولكن نضال القوي الوطنية الديمقراطية فى تلك الأثناء قدم للإخوان خدمة عظيمة فقد حقق انتصاره على القصر؛

واضطره إلى إنهاء حكم السعدين وجاءت النهاية فى 2 يوليو 1949 بعد أن استر ستة أشهر فتألفت وزارة ائتلافية برياسة حسين سري باشا اشترك فيها الوفد تمهيدا لعودة الحالة إلى مجاريها الطبيعية عن طريق إجراء انتخابات حرة وقد أفرجت هذه الوزارة عن معظم لمعتقلين السياسيين ومنهم الإخوان المسلمون وفى يوم 3 يناير 1950 فاز الوفد بأغلبيته المعهودة وشكل الحكومة الجديدة فى 12 يناير 1950.

وقد استأنفت قيادة الإخوان نشاطها سريعا عقب الإفراج تحت قيادة صالح عشماوي نائب البنا ورئيس التنظيم السابق وبدأ البحث عن مرشد جديد لجماعة وظهرت تجمعات:

الأول: متطرف وعلي رأسه صالح عشماوي
الثاني: محافظ وعلى رأسه عبد الرحمن البنا شقيق حسن البنا
الثالث:معتدل وعلى رأسه أحمد حسن الباقوري

واستقر الرأى حلا للنزاع ومنعا للانقسام على اختيار عضو من خارج مكتب الإرشاد والجمعية التأسيسية ليكون مرشدا وكان هذا المرشد الجديد هو حسن إسماعيل الهضيبي الذى عمل بالقضاء نحو سبع وعشرين سنة واتصل بالشيخ حسن البنا حوالي سنة 1942 وبقيت علاقته به حتي مصرعه .

لم يكن اختيار حسن الهضيبي مرشدا عاما لجماعة الإخوان بعيدا عن الصراع التقليدي الدائر بين القصر والوفد وكان الوفد قد توهم أن النكبات التي أصابت الجماعة على يد حلفاء الأمس سوف تدفعهم إلى إعادة النظر فى سياستهم فأخذت جريدة المصري منذ ترك إبراهيم عبد الهادي باشا رئاسة الوزارة فى يوليو 1949 تتبني قضية الإخوان؛

وتحسنت بالفعل العلاقة بين الوفد والجماعة وأعلن صالح عشماوي المتحدث باسم الجماعة انه ليس هناك تنافس بين الجماعة والوفد وجرت المفاوضات بين الحزب والجماعة حول إعادة الإخوان إلى الحياة الشرعية؛

وكان مثل الوفد هو رئيس الجناح اليميني فؤاد سراج الدين باشا وممثل الإخوان مصطفي مؤمن على أن الصيغة التوفيقية التي تم التوصل إليها لم تلق تأييدا من الجماعة وخصوصا من الجناح المتطرف الذي يتزعمه صالح عشماوي الذي كان ما يزال يدير شئون الجماعة قبل تعيين الهضيبي؛

وكانت هذه الصيغة تقوم على السماح للجماعة قبل تعيين الهضيبي وكانت هذه الصيغة تقوم على السماح للجماعة بأن تستأنف نشاطها بصورة غير رسمية وتحت اسم جديد حتي يتم رفع الأحكام العرفية فتستأنف نشاطها رسميا وتستخدم اسمها القديم وكان الاسم الذى اقترحه مصطفي مؤمن للجماعة هو:"النهضة الإسلامية"

ولم يكن هذا الخلاف بين صالح عشماوي ومصطفي مؤمن فى ذلك الحين إلى صبغ الجماعة بالصبغة الديمقراطية وفى نهاية عام 1951 استطاع صالح عشماوي استصدار قرار من مكتب الإرشاد بطرد مصطفي مؤمن من الجماعة على أساس أنه انحرف عن مبادئ الإخوان

كان رفض المصالحة مع الوفد من جانب الجماعة فى ذلك الحين استمرارا لموقفها التقليدي من الصراع الدائر بين الوفد والعرش والذي كانت تجد نفسها فيه فى معسكر واحد مع القصر فلم يكن يجمعها بالوفد من أوجه الالتقاء كما ذكرنا غير الأهداف الوطنية أما القصر فكان يجمعها به العداء الشديد للشيوعية الديمقراطية الليبرالية .

فضلا عن ذلك فإن حكم القصر مديد طويل أما حكم الوفد قصير لا يكاد يعد فى تاريخ الحياة النيابية فقد حكم فى الفترة التي مارس فيها الإخوان حياتهم ونشاطهم منذ نشأتهم فى عام 1928 حتي أوائل عام 1950 وهي مدة 22 عاما خمسة أعوام فقط وبالتالي فإن التحالف معه لا يعول عليه إذ سرعان ما يعود الحكم إلى القصر بانقلاب من الانقلابات الدستورية التي شهدتها الحياة السياسية فى مصر منذ صدور دستور 1923.

يضاف إلى ذلك أن التحالف مع الوفد يعني استمرار القيادة للوفد وأسوأ من ذلك الالتزام بالأساليب الليبرالية فى الممارسة السياسية واحترام الدستور ودعمه؛

أما التحالف مع القصر فيطلق المجال للأساليب الفاشية والممارسة غير الديمقراطية التي يقوم عليها نظام الجماعة ويهز الاستقرار السياسي ويتيح الفرصة للانقلاب على الحكم وإقامة الحكومة الإسلامية ولابد أن نأخذ فى الاعتبار فى هذا التحليل؛

إن هذا الموقف من الوفد والحياة الليبرالية الذي اتخذه الإخوان طوال الفترة قبل وصول الوفد إلى الحكم فى عام 1950 ثم اتخذوه فى فترة حكمه من 12 يناير 1950 إلى 26 يناير 1952 سوف يتخذونه أيضا بعد قيام ثورة 23 يوليو وخلع فاروق..

فسيقفون فى وجه عودة البرلمان الوفدي المنحل ودستور 1923 ويساندون النزعة الدكتاتورية للثورة ويشجعونها حتي تعصف بهم فى 14 يناير 1954 ومع ذلك لا يستفيدون من الدرس ويعودون بشكل مذهل إلى الوقوف إلى جانب الدكتاتورية فى أزمة مارس 1954 ويتخلوا عن القوي الديمقراطية التقدمية .

وقد أكدت جريدة الإخوان فى أكتوبر 1951 موقفها من الحياة الدستورية فى مصر فكتبت تقول:

"إن المشكلة هى فى نظام الحكم المتبع فى مصر لقد جربت مصر كل النظم منذ سنة 1924 حتى الآن وفشلت كل النظم فى سد الثغرات المفتوحة فى نظام الحكم كما فشلت فى منع تسرب الفساد ولقد حكمت مصر حكومات تستند إلى البرلمان وحكومات ألغت البرلمان وأوقفت الدستور وحكومات ألغت الدستور وجاءت بدستور جديد.
وأخذت مصر نظم الحكم من فرنسا وإيطاليا وبلجيكا وألمانيا .ولكن شيئا واحدا لم يتغير ولن يتغير ذلك هو الفساد الذي تغلغل واشتد فى جميع المرافق ... بقي دواء واحد لم يجربوه وهو التشريع الإسلامي ونظام الحكم الإسلامي"

والمغالطة الواضحة فى هذا الكلام هي الإخفاء المتعمد لدور القصر فى إفساد الحياة النيابية وبالتالي دور من ساعد القصر على هذا الإفساد وقبل التحالف معه ضد القوي الديمقراطية وفيهم نفس جماعة الإخوان !.

والأسوأ من ذلك أن الإخوان كانوا فى ذلك يغالطون أنفسهم ويتخلون عما كانوا يحاجون به جماعة مصر الفتاة فى عام 1938 من صلاحية النظام البرلماني القائم لقيام التشريع الإسلامي

فقد ذكروا أنه:

" إذا اجتمع تحت قبة البرلمان نواب مسلمون أمكن القضاء على كل منكر بقوة القانون وحكم النظام " .

ومعني ذلك أن مساندة الدستور ودعم الحياة النيابية يمكن أن يأتي بغالبية إسلامية إلى البرلمان تفرض التشريع الإسلامي ولكن هذا كان قبل نظام الرحلات إلى نظام الجوالة وقبل نمو قوة الجوالة لتصبح جيشا شبه عسكري للجماعة؛

وقبل إنشاء النظام السري أى قبل أن تستكمل الجماعة أدواتها غير الديمقراطية لعرض الحكومة الإسلامية على كل حال فإن رفض المصالحة مع الوفد وفصل مصطفي مؤمن كان يحمل معني التلميح للقصر بالاستعداد للتعاون وكان تحسن العلاقات المؤقت بين الجماعة والوفد قد بث الرعب فى قلب فاروق وجعله يحسن بعواقب ضربة الإخوان .

وفى ذلك يروي أنور السادات روايته التي يذكر فيه أنه سمع من يوسف رشاد أن الملك فى أواخر عهد إبراهيم عبد الهادي قال له :" إحنا غلطنا فى ضربة الإخوان وحقنا نرجع لسياستنا القديمة ".

وهناك عدة أسماء ترويها المصادر لعبت أدوارا فى تحسين العلاقات بين فاروق والإخوان منها مزراحي باشا محامي الخاصة الملكية الذي ذكرت جريدة "اللواء الجديد " أنه لعب دورا فى تحسين العلاقات بين الملك والجماعة وهناك محمد حسن العشماوي المستشار الملكي والسيد نجيب سالم ناظم الخاصة الملكية وصهر الهضيبي .

وفيما يبدو فإن مجال التنازل من جانب الإخوان فى مقابل عودتهم إلى الشرعية وعودة أموالهم المصادرة كان فى تعيين مرشد جديد يحظي برضاء الملك وتأييده وتتفاوت الروايات حول دور فاروق فى هذا التعيين فتذهب أكثر الروايات تطرفا إلى أن فاروق قد

" رفض التعيين وتذهب رواية أخري إلى أن الملك أيد التعيين بينما تذهب الرواية الثالثة إلى أن الإخوان كانوا يرغبون فى إرضاء الملك وبث الطمأنينة فى نفسه عن طريق تعيين صهر ناظر الخاصة مرشدا عاما لهم وكان صالح عشماوي وجماعته يرددون أن فاروق كان له دور فى التعيين "

ومن سوء حظ الإخوان أن علاقات الهضيبي بالقصر بعد تعيينه مرشدا عاما لا تدع للباحث مجالا لنفي هذه الروايات على أسس سليمة فقد أينا من رواية أنور السادات كيف سعي الشيخ حسن البنا سعيا شاقا لمقابلة فاروق

وكيف فشل فى ذلك ولكن الأمر أختلف بالنسبة للهضيبي فلم يكد يمضي شهر واحد على تعيينه حتى كان يركب عربة ملكية فى يوم 14 نوفمبر 1951 فى طريقه إلى القصر الملكي للقاء فاروق قد روي بنفسه فى مقابلة صحفية بعد الثورة إن هذا اللقاء تم باستدعاء من فاروق .

وفى هذا اللقاء طلب فاروق من الهضيبي تطهير الجماعة من العناصر الثورية واتخاذ خطة المهادنة والسلام مع الإنجليز كما ذكره بوعد حسن البنا إلى كريم ثابت سنة 1948 بأن تتخذ الجماعة خطة المعاداة للشيوعية.

وقد تكررت زيارات المرشد للملك بعد ذلك فى فترة كان الشعور الوطني يقف فيها موقفا معاديا بدرجة لم يسبق لها مثيل لفاروق حتي كان يوم 16 يناير 1952 حين توجه الهضيبي إلى القصر الملكي مهنئا بمولد ولي العهد أحمد فؤاد .

وقد حرص الهضيبي على مجاملة فاروق فى تعيين الوقت الذي استقبلت فيه القوي الوطنية هذا التعيين باعتباره تآمرا من جانب القصر على الحركة الوطنية وأخذت المظاهرات العدائية تتجمع وتسير فى الشوارع منذ يوم 25 ديسمبر ضد فاروق وأخذت الهتافات العدائية ضده تسمع لأول مرة مدوية فى فناء الجامعات وفى الشوارع والميادين أرسل الهضيبي إلى حافظ عفيفي برقية يهنئه فيها بتوليه منصبه.

وتؤكد بعض أقوال الإخوان أن بعض زيارات المرشد للملك فاروق كانت سرية . فقد ذكر عبد العزيز أحمد حسن أمام محكمة الشعب أن الهضيبي زار فاروق " وجاء وقال أن المقابلة لم يعرفها أحد واتفقوا على أن غرضها يكون سريا وقال أنها زيارة كريمة لملك كريم".

وقد حدد الهضيبي موقفه من النضال الوطني والعنف فى إطار هذه العلاقة مع الملك فقد أعلن لمجلة "الجمهور المصري " يوم 15 أكتوبر 1951 أى بعد أسبوع واحد من إلغاء المعاهدة بان أعمال العنف لا تخرج الإنجليز من البلاد :" هل تظن أن أعمال العنف تخرج الإنجليز من البلاد ؟".

إن واجب الحكومة اليوم هو أن تفعل ما يفعله الإخوان المسلمون من تربية للشعب وإعداده فلك هو الطريق لإخراج الإنجليز وخطب فى عشرة آلاف من شباب الإخوان المسلمين قائلا :" اذهبوا واعكفوا على تلاوة القرآن الكريم " وقد رد عليه خالد محمد خالد فى روز اليوسف بمقال تحت عنوان :" أبشر بطول سلامة يا جورج"

قال فيه:

" الإخوان المسلمون كانوا أملا من آمالنا لم يتحركوا ولم يقذفوا فى سبيل الوطن بحجر ولا طوية !. أفي مثل هذه الأيام يدعي الشباب للعكوف على تلاوة القرآن الكريم ؟
ومرشد الإخوان يعلم أولا يعلم أن رسول الله وخيار أصحابه معه قد تركوا صلاة الظهر وصلاة العصر من أجل معركة ويعلم أو يجب أن يعلم أن رسول الله نظر إلى أصحابه فى سفره فإذا بعضهم راقد قد أعياه الصوم وبعضهم مفطر قام بنصب الخيام فابتسم لهم ابتسامة حانية راضية
وقال:" ذهب المفطرون اليوم بالأجر كله".فلقد وجد الوطن قبل أن يوجد الدين وكل ولاء للدين لا يسبقه ولاء للوطن فهو ولاء زائف ليس من روح الله ".

وكتب إحسان عبد القدوس يوم 27 نوفمبر 1951 أثناء اشتداد معركة القنال تحت عنوان:

"الإخوان إلى أين وكيف" ينعي عليهم عدم مشاركتهم فى معركة القنال ويقول أن هذه هى أيام امتحان الأول للإخوان عقب محنتهم فإما أن يكونوا أقوياء بإيمانهم وإما فقدتهم مصر؛
وفى نفس العدد كتبت المجلة تشير إلى مقابلة ملكية بين الهضيبي وفاروق وقد أعترف محمد فرغلي بأن الذى يشترك فى معركة القنال من الإخوان " عدد بسيط" كما هو متمثل فى مواجهة جماهيرية عامة مع جنود الاحتلال وبين العنف الإجرامي الذى تمثل فى دس القنابل والمتفجرات بين الجماهير المصرية.

وللأمانة التاريخية فإن هذه التصرفات من جانب الهضيبي قد عزلته عن قاعدته الجماهيرية المكونة من شباب الإخوان المتدين والمتحمس للجهاد فى سبيل قضية بلده كانت مجلة الدعوة تعبر فى إطار إيديولوجيتها عن هذه القاعدة الجماهيرية

فقد أيدت النحاس باشا فى إلغائه معاهدة 1936 وشاركت فى المطالبة بالكفاح المسلح ضد الإنجليز والوقوف ضد أعداء الشعب وعندما عين الملك حافظ عفيفي رئيسا للديوان كتبت تهاجم هذا التعيين .

وقد تسببت هذه السياسة فى تبرؤ الهضيبي منها علانية فقد أذاع عبد الحكيم عابدين سكرتير عام الجماعة بعد مهاجمة الجريدة لحافظ عفيفي بيانا نصه:يقرر المركز العام للإخوان المسلمين أن مجلة الدعوة لا تصدر عنه ولا تنطق بلسانه ولا تمثل سياسته وأنها صحيفة شخصية تعبر عن آراء صاحبها ولا تتقيد دعوة الإخوان المسلمين بما ينشر فيها".

وقد قابل الهضيبي حماسة شبابا الإخوان بالتثبيط. فعندما أصدر بعض شباب الإخوان من طلبة الجامعات والمعاهد العليا عدة قرارات تقضي بتجريم العودة إلى المفاوضات .

وتحريم التعاون مع الإنجليز وقطع العلاقات الاقتصادية والسياسية معهم علق الهضيبي على هذه القرارات لجريدة الجمهور المصري بأنها لا تلزم الجماعة:

" لا قيمة لقرارات تصدر من غير المركز العام للإخوان المسلمين "

وقرر أن الكفاح العملي قد يأخذ صورا مختلفة غير مقاطعة الإنجليز وعندما سرت الإشاعات بأن جماعة الإخوان قد طلبت إلى الحكومة تدريب 16 ألف شخص من الإخوان على حمل السلاح نفي الهضيبي أن فى نية الجماعة التقدم بمثل هذا الطلب وأعلن أن القوة التي يدعو إليها الإخوان هى القوة الروحية " أما " القوة المادية " فهي من اختصاص الحكومة , فإذا قصرت فى ذلك , فنحن لا نستطيع أن نفعل شيئا أكثر من مطالبتها بالقيام بالواجب".

ولقد كان من الطبيعي أن تدفع هذه السياسة التي يقودها الهضيبي إلى مواجهة بينه وبين التنظيم الري وطبقا لما ذكره فإنه حين تولي قيادة الإخوان فى أكتوبر 1951 لم يكن يعلم بأ، هذا التنظيم ما يزال قائما " لما جيت فى الإخوان المسلمين فى سنة 1951 تبين لى أن عندهم شئ اسمه " النظام الخاص "

فأنا سألت:

" أيه الغرض من هذا النظام ؟" وأيه مرماه؟ وإيه تعملوا بيه؟ خصوصا بعد ما ثبت أنه ارتكب جرائم قبل ذلك فى السنوات 1946، 1947، 1948 وكل هذه الجرائم التى ارتكبت طبعا انحراف وخروج عن الغرض الأصلي ن هذا النظام وهو إعداد الفرد المسلم إعدادا صالحا للدفاع عن الوطن الإسلامي"

ثم يقول الهضيبي أنه أراد

" تصفية هذه المسألة ويعرف الأعضاء فى هذا النظام وهو إعداد الفرد المسلم إعدادا صالحا للدفاع عن الوطن الإسلامي" ثم يقول الهضيبي أنه أراد " تصفية هذه المسألة يعرف الأعضاء فى هذا النظام "

"فما أمكناش نتوصل لحاجة وأقول لك يمكن السبب أن بعض الإخوان بتوع النظام ما سثقوش فى طبعا وهم ناس يعني يمكن يفتكروا أنهم مجاهدين أكثر شوية وأنا راجل كبير "

وعلى هذا النحو بدأ الصراع على التنظيم السري الذي استمر إلى ما بعد ثورة 23 يوليو وكان له أخطر الآثار على حركة الإخوان .

ومع أنه لا توجد معلومات كافية عن تطورات هذا الصراع إلا أن ما هو متاح من هذه المعلومات يكفي لتقرير حقيقة هامة هي أن الهضيبي لم يكن طرفا وحيدا فى هذا الصراع فى مواجهة التنظيم السري بل كانت تؤيده غالبية قيادات الهيئة التأسيسية الذين ألقوا على عاتق التنظيم السري مسئولية النكبات التى ألحقت بالجماعة.

وبالتالي فإن سياسة الهضيبي تجاه القصر والنضال الوطني والعنف . لم تكن سياسته وحده بل تشترك معه فيها هذه القيادات.

وقد شرح محمد خميس حميدة هذه المسألة شرحا جديا فقال:

" لما جاء الأستاذ الهضيبي جه معاه الأستاذ عبد القادر عودة وكيل الجماعة .وكنا أمام وضعين:الدعوة ككل وجهاز بذاته قائم فيها وهذا الوضع كان بيتعب الجماعة إذ كان فيه ثنائية وقد رأي الإخوان أعضاء الهيئة التأسيسية أن هذا الوضع ما يكونش موجودا أصلا؛
ولابد أن الدعوة تبقي توجيه واحد وسياسة واحدة ومنهاج وتفكير واحد وقد حاول الأستاذ عبد القادر عودة فى الفترة الأولي أن يعالج هذه المشكلة ويظهر أنها أخذت فترة طويلة وما عولجتش فالأستاذ الهضيبي بعت لى جواب يقول إن المشكلة أن الدعوة كبيرة وفيها ثنائية والجماعة فيها اضطراب ".

ثم يذكر محمد خميس حميدة أن هذه المشكلة لم تكن جديدة مع مجئ الهضيبي وإنما ترجع إلى ما قبل تعيينه فقد كان فريق من الإخوان يري أنه لا داعي لهذا الوضع ولا النظام السري ولا التشكيلات لأن مالهاش أصل فى دعوة الإخوان المسلمين؛

ويكتفي بأن الإخوان أنفسهم بالتربية المتكاملة ولما تيجي أى حاجة أو أى حركة عامة يبقي يندب لها من الجماعة واللي يتطوع يتطوع وفريق يري أنه لا مانع من أن الإخوان اللي يعرفوا تدريب يبقوا قائمين بأسلحتهم؛

وإذا كان فيه حاجة يبقوا يروحوا وده لتحقيق فكرة الجهاد أن الحوادث التي حصلت جعلتهم يقولوا:

إيه يكون وضع الجماعة إذا حصل أن بعض الشبان تورطوا ويورطوا الجماعة ويعرضوها لهزات وإذا دعت الحاجة إلى تطوع الأفراد يبقي يتطوعوا زي الأفراد الآخرين (من غير الإخوان) وعلى ذلك فإن هذا الفريق كان ير يمنع التربية العسكرية وأنه من المستحين التربية فقط مطلق التربية أما بعد بعض الشباب إعدادا عسكريا فلا داعي له .

ويتضح من ذلك أن الصراع بين الهضيبي والنظام الخاص كان يعكس انقساما داخل الجماعة من قبل مجيئه واشتد بعد مجيئه بين فريقين:أحدهما يريد إنهاء هذا النظام والآخر يتمسك به؛

ومن الواضح أن الفريق المعتدل كان يمثل الغالبية بدليل أنه نجح فى تعيين الهضيبي مرشد عاما مخالفا فى ذلك كل القواعد القانونية التى وضعتها الجماعة لتعيين المرشد؛

وبالتالي فإن سياسة الهضيبي تجاه القصر والحركة الوطنية والعنف لم تكن كما ذكرنا سياسته وحده بل كانت تعبيرا عن رأي ذلك الفريق وها يفسر ان الهضيبي عند ذهابه إلى قصر عابدين فى زيارته الأولي تبعه ثلاثون ن أفراد الجماعة سجوا أسماءهم فى سجل التشريفات فكانت زيارة باسم الجماعة .

فى ذلك الحين كان على رأس النظام الخاص عبد الرحمن السندي يعاونه أربعة هم : أحمد حسنين ومصطفي مشهور ومحمود الصباغ وأحمد زكي حسن وقد جري الصراع بين هذه المجموعة وبين الهضيبي

وكما يقول محمد فرغلي:

فى الوقت الذى كان الهضيبي لا يريد أن يكون النظام موجودا وقف عبد الرحمن السندي فى وجه المرشد باعتبار أن هذا الجهاز هو خلاصة الجماعة ولا يمكن بحال من الأحوال أن يلغي هذا النظام ولابد من بقائه واستمراره

وقد ذكر محمد خميس حميدة أن عبد الرحمن السندي " من أول قيام الأستاذ الهضيبي كمرشد " حدثت بينه وبين الهضيبي " بعض الأمور " وأنه كان هناك " نفور باستمرار" فقد كان السندي يري أن الهضيبي " ما كناش يجب أن يكون مرشدا " لأنه " موش من الجماعة وما كانش متصل بيها فى يوم من الأيام ومجيئه موش من الناحية القانونية "

وقد علق محمد خميس حميدة على ذلك قائلا:

"وكان ده أي كثيرين" يسبب لها متاعب "وأنه " كانت له أخطاء فى الماضي ... من أيام حكاية الخازندار ... أخطاء من غير شك كان وجودها خطأ فى الجماعة .
وكان من الطبيعي ان ترتب على هذا العداء بين الهضيبي والسندي أن فقد الهضيبي سيطرته على التنظيم السري إذ لم يعد عبد الرحمن السندي ينفذ أوامر المرشد العام

وعلى حد تعبير محمد فرغلي:

" عبد الرحمن السندي كان يري فى نفسه سلطة عليا فكان مرة يخضع للمرشد ومرة أخري يخرج عنه وسنري أن هذا الوضع قد ترتب عليه نتائج بالغة الخطورة بعد ثورة 23 يوليو.
على كل حال فإن الخلاف بين الهضيبي والسندي كان لابد أن يكون له آثاره داخل الجهاز السري نفسه فانقسمت قياداته إلى قسمين:فريق عبد الرحمن السندي ومعه أحمد حسنين ومصطفي مشهور ومحمود الصباغ وأحمد زكي حسن وفريق آخر على رأسه خميس حمدي ويوسف عبد المعطي ورفيق سالم .
ولمعالجة هذه الأوضاع والانقسامات كون الهضيبي لجنة مكونة من محمد خميس حميدة وعبد العزيز كامل والدكتور حسين كمال الدين وأخذت هذه اللجنة فى دراسة المشكلة من جميع جوانبها وسرعان ما اكتشفت تعذر حل التنظيم السري لارتباطه بفكرة الجهاد من جهة ولأن طبيعة التنظيم تجعله مما يخشي باسه .
لذلك فقد توصلت إلى حل وسط يتمثل فى محاولة إزالة " الثنائية " بين التنظيم العام والتنظيم الخاص عن طريق إدماج الأسر التي تنتمي إلى التنظيمين فى قسم واحد يسمي باسم " قسم الأسر " يخضع لتوجيه واحد وأوامر واحدة تصدر من مكتب الإرشاد .
كما اتفقت اللجنة على إزالة السرية تدريجيا عن النظام الخاص عن طريق إدخال أكبر عدد ممكن من الإخوان فيه وكان ذلك اقتراح الدكتور حسين كمال الدين ونظرا لعجز اللجنة عن إخراج عبد الرحمن السندي
فقد بقي فى التنظيم السري وعين حلمي عبد المجيد رئيسا للجهاز وقد اضطر الهضيبي إلى قبول هذه الصيغة وإقرار السندي داخل التنظيم ..

وفسر هذا القبول تفسيرا بسيطا جدا قائلا:

" إحنا جاهدنا إننا نخرج الناس اللي ارتكبوا أو قبل أنهم كانوا فى الجهاز السري فما عرفناش كما استمر الجهاز السري بالبوليس على رأسه صلاح شادي والجهاز الخاص بالجيش وعلى رأسه أبو المكارم عبد الحي .
وبقيت مسألة الأسلحة الموجودة لدي الجهاز الخاص ولم يكن فى وضع اللجنة أن توصي بشئ بشأنها إذ لم تكن تستطيع تسليمها لحكومة القائمة فضلا عن أن النظام السري ظل قائما فبقيت فى حوزة الجهاز وكان جزء من هذه الأسلحة قد نقلته الجماعة من ثكنات وبيوت الضباط الأحرار يوم حريق القاهرة قد بقي فى مكانه من عزبة حسن العشماوي حتي أخرجه عبد الناصر منها بعد محاولة اغتياله يوم 26 أكتوبر 1954 واتخذ قرينه ضد الجماعة.
على كل حال يتضح من هذه التعديلات التى أدخلتها اللجنة على النظام السري أنها لم تكن بذات قيمة كبيرة فقد بقي التنظيم بكامل تسليحه وبقي السندي فيه بل عاد إلى قيادته بعد فترة كما زاد عدده تحت فكرة أن زيادة العدد تزيل السرية كما زادت حدة الثنائية بسبب الخلافات التى استمرت بين الهضيبي وعبد الرحمن السندي وبقيت التشكيلات الخاصة بالبوليس والجيش تحت قيادتها دون مساس
على أنه لما كانت القيادة السياسية للإخوان قد وقعت فى يد المعتدلين وعلى رأسهم حسن الهضيبي فإن هذا يفسر هذه الظاهرة التى لم تحدث فى عهد الشيخ حسن البنا...
وهي ظهور شخصيات شابة إلى جانب الهضيبي تعوض الضعف الكامن فيه وتملك القدرة على التكيف بين الاعتدال والتطرف داخل الجماعة وفى يد هذه العناصر الشابة وقعت كل الاتصالات بين الجماعة والقوي السياسية الخارجية العلنية والسرية وكان أبرز هذه العناصر صالح أبو رقيق وحسن العشماوي الذين كان يملكان كما يقول محمد فرغلي تأثير على الهضيبي .
وقد كان من خلال هذين العضوين أن أقيمت جسور العلاقة بين الإخوان وحركة الضباط الأحرار فقد كان حسن العشماوي حسب قوله أحد سبل الاتصال بين الضباط الأحرار والإخوان فى أمور معارك قناة السويس؛
والسبيل الوحيد فى غيرها من الأمور ومن خلال هذه الصلة كانت الجماعة تشتري السلاح من الضباط الأحرار ويتم التعاون بينها وبينهم فى بعض العمليات القليلة التى اشترك بها الإخوان فى معركة القنال كما فى حالة اللغم البحري الذي أذن فؤاد سراج الدين وهو وزير خارجية حكومة الوفد الأخيرة بنقله بالقطار إلى القنطرة لتفجيره فى إحدي ناقلات البترول أو بوارج البحرية البريطانية .
وقد جري التعاون بين هذه المجموعة الشابة من الإخوان وبين الضباط الأحرار أثناء حريق القاهرة يوم 26 يناير 1952 حين اتصل عبد الناصر بصالح أبو رقيق لإبلاغه بانه سوف يجري تفتيش مكاتب الضباط فى المعسكرات؛
حيث توجد أسلحة مخبأة وطلب المساعدة فى نقل هذه الأسلحة فأرسل عربات لنقلها سارت بها وسط شوارع القاهرة المحترقة ووضعت فى جراج بين حسن العشماوي ثم نقلت إلى عزيته فى مديرية الشرقية بعد أن أحضر عبد الناصر تصميما هندسيا لمخزن الذخيرة.
وقد كان من خلال هذه الصلة بين صالح أبو رقيق وحسن العشماوي وبين تنظيم الضباط الأحرار أن قبل الإخوان مساندة حركة الضباط للثورة وكان الرأى منقسما داخل الجماعة تجاه هذه المسألة

وكما يقول حسن العشماوي:

" فإن بعض الزملاء الذين لم نسمع لهم يومئذ! رفضوا إلى آخر لحظة قيام الجيش بحركة عسكرية كخطوة نحو الثورة العامة لأنهم لا يثقون فى حركات الجيوش أما المحتمسون منا ومن غيرنا المؤلمون كثيرا فى مستقبل الحرية فلم يستمعوا إلى الزملاء الذين أشرت إليهم ورأوا مخاطر مشاركة العسكريين فى الثورة أهون من بقاء النظام القائم فى مصر".
وكان صالح أبو رقيق أول من علم بميعاد الثورة قبل وقوعها ففي صباح اليوم السابق على الثورة مباشرة

كما يقول كمال الدين حسين:

"ذهبنا الرئيس الراحل (عبد الناصر) وأنا إلى السيد صالح أبو رقيق وكان من قادة الإخوان المسلمين وأخطرناه حسب اتفاقنا المسبق بموعد الثورة بهدف كسب تأييدهم لثورتنا؛
كما اتفقنا معه على أن تقوم قوات من متطوعي الإخوان بالمعاونة مع وحدات الجيش للسيطرة على طريق السويس لصد أى هجوم انجليزي محتمل أن يتحرك نحو القاهرة صباح يوم الثورة؛

وقد اتصل صالح أبو رقيق بالهضيبي فى الإسكندرية حسب قوله لى وحصل على موافقته على مساندة الحركة وبذلك بدأت صفحة جديدة فى تاريخ الإخوان .

الفصل الخامس:الإخوان والثورة

عندما أيد الإخوان المسلمون الضباط الأحرار " فى القيام بثورة 23 يوليو كانوا يتصورون أن هذه الثورة قامت لحسابهم وأنهم سوف يحققون من خلالها التغيير المنشود؛

ويرجع السبب فى هذا التصور إلى أنهم اشتركوا فى قيامها على نحو لم يسبق له مثيل فى أى انقلاب من انقلابات القصر وهذا ما دعاهم إلى الوقوف بكل قوة فى وجه فكرة عودة البرلمان الوفدي الأخير إلى الاجتماع التى كانت مطروحة على بساط البحث فى الأيام الأولي بعد ممثلي الشعب قبل أن تخلب لب الضباط وبعضوا عليها بالنواجذ وهو ما حدث بالفعل .

فقد سارعوا فى يوم أول أغسطس إلى إصدار بيان عن الإصلاح المنشود في للعهد الجديد هاجموا فيه الحياة النيابية السابقة هجوما شديدا وأعلنوا أن التجارب الدستورية التى سلفت دون استثناء " لم تقدم نيابة صالحة ولا تمثيلا صحيحا "

وأن الحياة البرلمانية " فى كافة العهود الحزبية" انتهت إلى أن أصبحت أداة تعطي شهوات الحكام ومظالم السلطان صيغة قانونية.

ومع أنهم طالبوا بإلغاء الأحكام العرفية وسائر القوانين الرجعية المنافية للحريات إلا أنهم أعتبروا دستور 1923 "لا وجود له من ناحية الواقع ولا من ناحية الفقه" وطالبوا بإسقاطه والمسارعة بعقد جمعية تأسيسية لوضع دستور جديد " يستمد مبادئه من مبادئ الإسلام الرشيدة فى كافة شئون الحياة ".

وبعد أسبوع واحد من هذا البيان كان سيد قطب يوجه رسالة أخري فى جريدة الأخبار إلى اللواء محمد نجيب يطالب فيها بإقامة "دكتاتورية عادلة نظيفة "؛

وقصر الحرية السياسية على " الشرفاء " فقط وحرمان " الملوثين" وكانت حجته أن الشعب قد احتمل " دكتاتورية طاغية باغية شريرة مريضة مدى خمسة عشر عاما أو تزيد أفلا يحتمل دكتاتورية عادلة نظيفة ستة شهور؟" ولم يذكر سيد قطب بطبيعة الحال دور الإخوان فى التحالف مع تلك الدكتاتورية الطاغية الشريرة المريضة ّ.

وللحقيقة التاريخية فإن سيد قطب أعتبر الشيوعيين من " الشرفاء" فى ذلك الحين ففي مؤتمر الإخوان المسلمين الصحفي بشأن المسجونين السياسيين طلب للشيوعيين الحرية " كغيرهم ممن كانوا يكافحون الطغيان " ووصفهم بأنهم " من الشرفاء الذين ينبغي أن نقارعهم الرأي بالرأي والحجة بالحجة ولا نلقاهم بالحديد والنار".

وللحقيقة التاريخية أيضا فإن سيد قطب ما لبث أن عدل عن هذا الرأي فى الشيوعيين بعد ثلاثة أيام فقط بمناسبة حوادث كفر الدوار فقد سارع بإلصاقها بالشيوعيين دون تحقيق وكتب مقالا مؤثرا ذكر فيه أنه كان يحترم الضمير البشري من أن يكون من الدنس إلى حد أن يحارب عهدا كالعهد الذي أشرق فجره منذ أيام ولكن كم يخطئ الإنسان فى تقدير مدي الدنس الكامن فى بعض قلوب الناس ".

على أن تطور العلاقات بين الإخوان والثورة لم يلبث أن دفع بالإخوان وبضميرهم البشري إلى الوقوع فى " الدنس" نفسه الذى أعتقد سيد قطب أن الشيوعيين وقعوا فيه دنس محاربة العهد الجديد.

فلم يكد يمضي وقت طويل حتي تبنيت الجماعة أن الثورة لا تنوي أن تمضي إلى جيوبهم أو تخضع لهيمنتهم وإنما تؤثر الحكم لحسابها الخاص وكانت المناسبة عند ظهور مشروع الإصلاح الزراعي .

فمع أن الإخوان طالبوا فى بيان أول أغسطس السالف الذكر بتحديد الملكية بعبارات لا لبس فيها لا غموض إلا أن الحد الأدنى وضع وهو مائتا فدان لم يلق منهم قبولا فقد كانوا يرون كما قال لى صالح أبو رقيق أن يكون الحد الأقصي خمسمائة فدان ويتولي حق الإرث تفتيت هذا الحد فيما بعد على أن عبد الناصر رفض هذا الطلب فى المقابلة التي جرت بينه وبين الهضيبي فى بيت صالح أبو رقيق.

وهنا أوضح المرشد فى صراحة أنه لكي يؤيد الإخوان الثورة فإنه يري عرض الأمور التى تتخذها الثورة عليها قبل إقرارها.

ولكن عبد الناصر رد بأن يعني وضع الثورة تحت وصاية الجماعة وأنه يقبل فقط التشاور فى السياسة العامة "مع كل المخلصين" من أهل الرأي دون التقيد بهيئة ن الهيئات.

كان معني هذه الواقعة للإخوان أن الدكتاتورية التي كانوا يطمعون فى أن يصيبوا بها الوفد أو الشيوعيين والأحزاب الأخرى سوف تكون دكتاتورية عامة تشمل الجميع وعندئذ انقسم الرأى فى الجماعة فقد رأى البعض أن تتحفظ الجماعة فى إظهار تأييدها للثورة؛

حتي لا تتيح لها الفرصة للاستفادة من هذا التأييد فى توطيد أقدامها ثم الاستدارة إليها فى النهاية إما البعض الآخر فرأى ضرورة استمرار الجماعة فى إظهار تأييدها للثورة حتي تبقي على الدوام قريبة منها وحتي لا تترك لها الفرصة لطلب التأييد من غيرها .

وقد حانت الفرصة لاختيار قوة هذين الرأيين حين أطاح مجلس قيادة الثورة بوزارة على ماهر وأسند رئاسة الوزارة إلى اللواء محمد نجيب ففي 7 سبتمبر 1952 قرر المجلس اشتراك الإخوان المسلمين فى الوزارة الجديدة واتصل عبد الناصر تليفونيا بحسن العشماوي يدعوه لمقابلته فى إدارة الجيش فى الصباح الباكر .

وفى هذا اللقاء وعلى حد قول العشماوي:

" أبلغني اعتقال ثلاثة وسبعين شخصا من رجال السياسة والقصر الملكي وعرض على اشتراك الإخوان فى الوزارة على أن أكون أنا أحد الوزراء وقد تركت مسألة دخول الإخوان الوزارة ليقررها كتب الإرشاد... وكان من رأيي الموافقة على أن يدخل الإخوان الوزارة حتي يكونوا على بينة من سير الأمور وحتي لا نترك الانتهازيين والمنافقين يلتفون حول عبد الناصر وزملائه يوجهونهم إلى السيطرة والاستبداد.
وفيما يبدو أن الهضيبي لم ينتبه لخطورة الاشتراك فى الوزارة عندما اتصل به عبد الناصر تليفونيا فى حضور حسن العشماوي يطلب إليه ترشيح ثلاثة للوزارة فقد رشح له بصفته الشخصية كلا من منير دلة وحسن العشماوي ومحمود أبو السعود
وكان القائم مقام يوسف صديق حاضرا هذا الحديث فشكك فى أهلية الإخوان للوزارة فاستدل حسن العشماوي بالشيخ حسن الباقورئ على وجود كفاءات فى الإخوان فقبله عبد الناصر على الفور وتحمس له فأصبح مرشحا أساسيا على أن الهضيبي الحصيف لم يشأ البت فى هذه المسألة الخطيرة بمفرده فأحالها إلى مكتب الإرشاد .

وقد تغلب الرأى المعارض داخل المكتب بصورة حاسمة لمسألة الاشتراك على أساس أن الاشتراك يقوي الثورة ويضعف الإخوان أما أنه يقوي الثورة فلأنه يعطيها لون إسلاميا يبرر مكانتها وسط الجماهير المصرية المسلمة ويمنحها ولاء الإخوان فى كل مكان وأما أنه يضعف الإخوان فلان الاشتراك بهذا العدد القليل يضع سلطة القرار فى يد الضباط ويحمل الإخوان أخطاء الثورة وأوزارها؛

وقد عبر محمد خميس حميدة عن ذلك فى استحياء أمام محكمة الشعب فذكر أن ما قاله مكتب الإرشاد وقتذاك هو أن "وجود الإخوان فى الوزارة قد يثير أشياء ما فيش داعي لها فقد يقول البعض ان الإخوان مشتركين فى الحكم أو أ، الثورة طلعت ليس لها لون خاص وربما وجود الإخوان فيها يعطيها لونا خاصا " وقد بلغ من اقتناع مكتب الإرشاد بهذا القرار أنه حين قبل الشيخ أحمد حسن الباقوري الوزارة قرر فصله .

كانت تلك أول مواجهة علية بين الإخوان والثورة فقد سحبوا من الثورة الصبغة التى كانت تود أن تستند إليها فى مواجهة القوي السياسية الأخري وهى الصبغة الإسلامية ورفضوا تحمل تبعات الحكم؛

وقد أدركت جماعات داخل الإخوان أن الثورة لن تغفر هذا الموقف فبرز رأى يري أنه طالما أن الثورة تتجه نحو الانفراد بالحكم وإقامة دكتاتورية ليست عادلة ولا نظيفة غير إسلامية فمن الأفضل القضاء عليها قبل أن تسيطر .

وكان هذا الرأى يستند إلى أن الجماعة لا تزال فى وضع يمكنها من هذه الضربة فقد كان طريق السويس ومناطق القنال مخفورة بمجموعة من الفدائيين كما كانت السفارات الأجنبية والمراكز الحساسة فى القاهرة والأقاليم ومنازل عبد الناصر وزملائه وأشخاصهم يحرسها مجموعات من الإخوان فى زي مدني ليدفعوا عنها أى اعتداء من جانب المتطرفين .

على أن هذا الرأى كان يلقي الاعتراض من حسن العشماوي ومن معه ممن كانوا يثقون فى عبد الناصر وهو ما ندموا عليه بعد ذلك ندما بليغا .

فيقول

" لقد علمتني الأيام كم كنت مخطئا فى تقدير أهمية وزارة الرئيس نجيب كنقطة تحول لثورة 23 يوليو 1952 ولو كنت ممن يندمون على الماضي لندمت على أني لم أستمع إلى قول الناصحين لى أن على تلك المجموعة قبل أن تسيطر؛
وكنا وقتذاك قادرين على ذلك ولكني لم أقبل أى محاول للقضاء على عبد الناصر وزملائه ووقفت ومن يري رأيي ندفع عنهم أى أذي واستمر عبد الناصر فى خطته يصفي الجيش من منافسيه ويصفي جبهة الشعب من معارضيه مستعينا بكل منهم على الآخر .
فى ذلك الحين لم يكن عبد الناصر فى الحقيقة هو الذى يسيطر على الحكم بل كان مجلس قيادة الثورة إذا كانت القرارات تتخذ بأغلبية الأصوات وكانت عناصر أخري مدنية تدفع الثورة دفعا فى طريقها الدكتاتوري وعلى رأسها سليمان حافظ وكيل مجلس الدولة؛
الذى كان بحكم انتمائه إلى الحزب الوطني يكن كراهية والحقد للوفد ويعمل على القضاء عليه ولم يكن الضباط يمانعون كثيرا فى الانصياع لرغبات أعداء الوفد وقبول خدماتهم التي يتطوعون بها طالما أنها تمكن لهم فى الحكم وكان من المشروعات التي تفتق عنها ذهن سليمان حافظ وقتذاك لضرب الوفد هو قانون تنظيم الأحزاب السياسية رقم 179 لسنة 1952 الذى قصد به أن يكون مقدمة لحل الوفد.

على أن هذا القانون ما لبث أن أصاب الإخوان بإصابة مباشرة ورد فى الفقرة الثانية من المادة الأولي منه أنه:

" لا يعتبر حزبا سياسيا الجمعية أو الجماعة التي تقوم على محض أغراض عملية اجتماعية أو ثقافية أو دينية وبذلك ترك لجماعة الإخوان المسلمين حق اختيار أن تعلن نفسها جماعة دينية بحتة وبذلك تكون قد فقدت الحق فى مزاولة النشاط السياسي ولا تكون فى حاجة من ثم إلى تقديم أخطار بإعادة تكوينها أو الإفصاح عن صفتها السياسية بصورة علنية ويكون ذلك بتقديم أخطار بإعادة تكوينها طبقا للقانون .

وقد انقسمت الجماعة قسين فبينما كان رأى المرشد حسن الهضيبي عدم تقديم أخطار لإعادة تكوين الجماعة واعتبارها جمعية بعيدة عن مزاولة النشاط السياسي كما معظم أعضاء الهيئة التأسيسية يعارضون وقد استقر الرأى على حل وسط يتيح للجماعة مزاولة النشاطين..

وهو فصل العمل الديني عن العمل السياسي فتحتفظ الجماعة بصفتها الدولية كجماعة دينية وتتولي بهذه الصفة العمل الديني ويتولي العمل السياسي شطر منها كحزب أو هيئة سياسية تقدم الأخطار باسمها وتنفيذا لهذا الرأى سارع حسن الهضيبي فى أواخر سبتمبر 1952 بتقديم أخطار عن إيداع مالية الهيئة البالغ قدرها 7935 جنيها بالبنك العربي المصري قبل أن يبلغ عن قانون الهيئة أو نظامها أو أسماء الأعضاء المؤسسين .

على أن هذا الحل لم يلبث أن آثار صعوبات أو جدت كثيرا من الجدل بين أعضاء الجماعة فطبقا لما أوردته جريدة الأخبار فى ذلك الحين فإن هذه الصعوبات كانت تتمثل فى الآتي:

أولا: الموظفون المحرم عليهم الاشتغال بالحزبية يؤلفون الجزء الأكبر من قاد الإخوان فالسكرتير العام وأمين الصندوق ستة آخرون من أعضاء مكتب الإرشاد والبالغ عددهم إثنا عشر عضوا موظفون .وتطبيق القانون الجديد عليهم معناه استبعادهم من مركز القيادة واعتبراهم أعضاء غير مؤسسين .
ثانيا: الأموال التى أودعها المرشد للإخوان فى البنك وأبلغ عنها وزير الداخلية هى أموال " الجماعة " الدينية وأموال " الهيئة" السياسية معا ولكن إذا انفصلت " الجماعة" عن " الهيئة" كما يقضي القانون فإنها ستنفصل دون أن يكون لها مال لأن هذه الأموال أودعت باسم الهيئة وباسم الشطر السياسي منها دون سواه .
ثالثا:الطلبة والجوالة يكونون جزءا كبيرا من قاعدة الإخوان المسلمين فى نشاطهم السياسي والغالبية العظمي من هؤلاء لا تزيد أعمارهم على واحد وعشرين عاما مما يقتضي أبعادهم عن النشاط السياسي الأمر الذى يؤثر فى قوة الأحزاب كحزب.

وقد أثارت تلك الصعاب كثيرا من الجدل بين أعضاء مكتب الإرشاد فى القاهرة ورؤساء المناطق فى الأقاليم ومن أجل ذلك دعيت الجمعية التأسيسية للهيئة للانعقاد لحسم الموضوع .

وقد تم عقد الجمعية التأسيسية للإخوان مرتين ولم يسفر الاجتماعان إلا عن تمسكها باعتبار الإخوان هيئة سياسية. فبالإضافة إلى أن هذا الحل يمنع الازدواجية فإنه يتفق مع فكرة الإخوان وفهمهم للإسلام وهو أنه لا يفرق بين الدين والدولة..

ولذلك حين حدث فى الاجتماع الثاني أن تغيب المرشد لمرضه انتهز بعض أعضاء مكتب الإرشاد الفرصة ليصروا على تقديم الأخطار جامعا شاملا للجماعة كلها كحزب ولما كانوا أغلبية فقد أرسلوا الأخطار فى اليوم التالي (يوم 8 نوفمبر 1952).

وقد كان عدد الأعضاء المؤسسين الذين تضمنهم الأخطار ثلاثة فقط اختارهم مكتب الإرشاد من أعضائه وهم:السيد محمد حسني عبد الباقي وقد اعتبر ممثلا للقاهرة والدكتور محمد خميس حميدة ممثلا للوجه البحري ومحمد فهمي أبو غدير المحامي ممثلا للوجه القبلي؛

ولم يتضمن الأخطار المرشد وبقية أعضاء المكتب وقد سبق فى تفسير ذلك أن مكتب الإرشاد العام حينما أراد اعتبار أعضائه جميعا هم المؤسسون أتضح له أن المرشد العام غير مقيد فى جداول الانتخابات البرلمانية وأنه لا مفر من عدم وضع أسمه بين أسماء المؤسسين طبقا للقانون الذي كان يشترط لتقييد فى جداول الانتخابات فى عضو الهيئة التأسيسية؛

وقد خشي المكتب أن يؤدي وضع أسماء أعضائه جميعا دون اسم المرشد فى قائمة المؤسسين إلى تصديق إشاعة أن هناك خلافات داخل الهيئة فاتفق المؤسسين على الاكتفاء باختيار ثلاثة من الإخوان القدامي ممن لم يقترن أسماؤهم فى الصحف بأنباء الإخوان .

على أن هذا الذى أراده الإخوان من إخفاء معالم الخلاف لم ينجح لأن المرشد لم يكد يعلم بالأخطار حتي امتنع فى منزله وقرر الاستقالة ما لم تعدل الهيئة التأسيسية عن قرارها وقد اتفق معه بعض الإخوان على دعوة الهيئة مرة ثالثة لإعادة النظر !

ولكن الآخرين صارحوه بأنه بعد أن اتخذت الهيئة قرارها مرتين فلا داعي لإعادة النظر ولم تلبث أن جرت اجتماعات لبعض كبار الإخوان لاختيار مرشد جديد فى حالة إصرار الهضيبي على الاستقالة؛

بل أن البعض كان يحبذ فى الحقيقة اتخاذ هذا الإجراء لو تيسر ذلك فعلي حد قول أحد كبار الإخوان فى ذلك الحين:

" إن كثيرا من زملائه يرون أن استمرار الدعوة التي يقوم بها الإخوان تتطلب أن يكون لهم مرشد لا يفكر فى الاستقالة من حين لآخر ولا يلوح بها على أن المسألة انتهت بسفر عبد القادر عودة وكيل الإخوان إلى الإسكندرية لمقابلة الهضيبي ثم عودته منها ليصرح بأن " المرشد باق ... باق "!

على كل حال فقد عبر الإخوان فى أخطارهم الذي قدموه طبقا للقائمين عن رأيهم فى الاشتغال بالسياسة فى صراحة تامة فقد أعلنوا أن " أهداف الإسلام وغاياته تشمل شئون الحياة لها والإسلام لا يفرق بين الدين والدولة "

والإخوان المسلمون حيثما يزاولون نشاطهم المتعدد الألوان ليس لهم الخيرة فيما يأخذونه وما يدعون فإذا اشتغل الإخوان بسياسة مصر الداخلية والخارجة فيما يشتغلون فإنما يشتغلون بأمر الإسلام وينزلون على حكم الدين ويمارسون نشاطا دينيا محضا هو فرض على كل مسلم مهما كانت صفته .

فإن لم يكن بد من إخضاع نشاطنا السياسى لقانون الأحزاب فإننا نقدم إليكم وجهة نظرنا مصحوبة بالقانون الأساسي لهيئة الإخوان المسلمين بأسماء الإخوان المؤسسين.

وقد صدر القانون الأساسي بمقدمة ورد بها أنه فى 8 سبتمبر 1945 وافقت الجمعية العمومية للإخوان المسلمين على قانون النظام الأساسي للهيئة؛

وأصبح نافذا من هذا التاريخ ولما تطورت الدعوة واتسعت ميادين نشاطها وعلى ضوء التجارب التى مرتبها خلال هذه الفترة رأى المرشد العام للإخوان المسلمين أن يقترح على الهيئة التأسيسية المنعقدة فى أوائل عام 1948 إدخال بعض التعديلات فوافقت الهيئة على ذلك وأقرت تأليف لجنة من الأساتذة طاهر الخشاب وصالح عشماوي وعبد الحكيم عابدين لإجراء هذا التعديل وتمت الموافقة عليه 21 مايو من السنة نفسها .

وقد تضمن القانون الأساسي ثمانية أبواب وصفت فيها الهيئة نفسها بأنها " هيئة إسلامية جامعة تعمل لتحقيق الأغراض التي جاء من أجلها الإسلام الحنيف وما تيصل بهذه الأغراض "

وذكرت من هذه الأغراض نشرح دعوة القرآن الكريم شرحا يردها إلى فطرتها وشمولها ويعرضها عرضا يوافق روح العصر وتقريب وجهات بين الفرق الإسلامية المختلفة وتنمية الثروة القومية وحمايتها وتحريرها والعمل على رفع مستوي المعيشة تحقيق العدالة الاجتماعية والتأمين الاجتماعي لكل مواطن والمساهمة فى الخدمة الشعبية ومكافحة الجهل والمرض والفقر والرذيلة وتشجيع أعمال البر والخير .

وتحرير وادي النيل والبلاد العربية جمعاء والوطن الإسلامي بكل أجزائه من كل سلطان أجنبي ومساعدة الأقليات الإسلامية فى كل مكان وتأييد الوحدة العربية تأييدا كاملا والسير إلى الجامعة الإسلامية وقيام الدولة المصلحة التي تنفذ أحكام الإسلام وتعاليمه وتحرسها فى الداخل وتبلغها فى الخارج ومناصرة التعاون العالمي.

ويلاحظ فى هذا البرنامج أنه يحمل أيديولوجية الإخوان فى الرجوع بالإسلام إلى تعاليمه الأولي:

"رد دعوة القرآن الكريم إلى فطرتها وعرضها عرضا يوافق روح العصر " وشمولية الإسلام قيام الدولة الصالحة التى ينفذ أحكام الإسلام وتعاليمه عمليا " والجامعة الإسلامية: فهي نهاية المطاف بعد الوحدة العربية ولكن البرنامج يخلو من شئ عن " الخلافة من علاقات الإنتاج فلا شئ أكثر من " تحقيق العدالة الاجتماعية " وهو نص مائع وهو يتحدث عن " تحرير الثروة القومية " ولا يحدد المغتصب ولا الوسيلة .

وقد حدد القانون الوسائل التي يعتمدها الإخوان لتحقيق البرنامج السالف الذكر وتتلخص فى الدعوة بطريق النشر والإذاعة وتجهيز الوفود والبعثات فى الداخل والخارج وتربية الإخوان وتكوينهم تكوينا صالحا بدنيا بالرياضة وروحيا بالعيادة وعقيلا بالعلم والتوجيه عن طريق وضع المناهج الصالحة فى كل شئون المجتمع والعمل وذلك بإنشاء مؤسسات اقتصادية واجتماعية ودينية وعلمية وإقامة المساجد والمدارس والمستوصفات والملاجئ ولم يتحدث عن السعي إلى الحكم.

وفضلا عن ذلك فقد حدد القانون الهيئات الإدارية الرئيسية للإخوان على النحو الآتي:

أولا المرشد العام وهو الرئيس العام لهيئة مكتب الإرشاد وللهيئة التأسيسية ثانيا مكتب الإرشاد العام وهو الهيئة الإدارية العليا للإخوان المسلمين والمشرف على سير الدعوة والموجة لسياستها وإداراتها ثالثا التأسيسية وهي مجلس الشوري للإخوان والجمعية لعمومية لمكتب الإرشاد وقد حتم القانون على المرشد الدعوة إلى مؤتمر عام كل سنتين من رؤساء شعب الإخوان للتفاهم فى الشئون المختلفة التي تتصل بالدعوة واستعراض خطواتها

على هذا النحو كون الإخوان قد عبروا عن تصميمهم على التحول إلى حزب سياسي والدخول فى المعترك السياسي بكل ما يحمله ذلك من معان ونتائج على أن وجود الجناح المؤيد للثورة داخل الجماعة قد أنقذها من الخضوع لقرار حل الأحزاب؛ فقد تم الاتفاق على أن تطلب وزارة الداخلية من الجماعة تفسيرا عما إذا كانت أهدافها ستعمل على تحقيقها عن طريق.

أسبا الحكم كالانتخابات وإن يكون رد الإخوان بالنفي ويعترف حسن العشماوي بدور عبد الناصر فى هذا الشأن فيقول:

"وقد بذل عبد الناصر فى هذا السبيل جهدا لا أنكره برغم معارضة بعض زملائه له وبرغم ما وجد فى هذا السبيل من متاعب من الإخوان أنفسهم الذين لم يكن لزاما على أن أبلغهم بما أسره إلى عبد الناصر "

وعلى كل حال فإن الجماعة كانت قد احتاطت لذلك فى قانونها الأساسي كما ذكرنا فلم تذكر شيئا عن عزمها على تحقيق برنامجها عن طريق الحكم واكتفيت بإضافة عبارة تقول :" وعلى وسيلة أخري مشروعة " فصار نص الفقرة :" يعتمد الإخوان المسلمون فى تحقيق هذه الأغراض على الوسائل الآتية وعلى كل وسيلة أخري مشروعة ".

على كل حال ففي ذلك الحين كانت الثورة قد فقدت تأييد جميع القوي السياسية فى مصر فيما عدا الإخوان ففي يوم 10 ديسمبر أعلنت سقوط دستور 1923 وفى 16يناير صوبت ضربتها إلى الوفد بقانون حل الأحزاب وفى يوم 18 يناير أصدرت مرسوما بقانون باعتبار التدابير التى اتخذها " رئيس حركة الجيش " من أعمال السيادة العليا أى لا تخضع لرقابة القضاء وفى يوم 10 فبراير أعلنت دستور الانتقال الذى أكملت به استيلاءها على السلطة من الناحية القانونية .

ولم يكن لدي الإخوان ما يدفعهم لمعارضة هذه القرارات والقوانين جميعها لأنها كانت تسير وفق مصلحتهم فى التخلص من أعدائهم القدامي:

الوفديين والشيوعيين ولقد اعتبرت الجماعة فترة السنوات الثلاث لدستور الانتقال فترة:
" معقولة لعمل الإجراءات التطهيرية اللازمة قبل الوصول إلى أوضاع برلمانية سليمة ونظيفة وكان أكبر ما يهم الإخوان فى هذه الإجراءات هى أنها تترك لهم الساحة لفرض شروطهم على الثورة مقابل التأييد وهو ما سارعوا إليه بعد اعتقال عدد من ضباط المدفعية يوم 15 يناير بدعوي تدبير مؤامرة لاغتيال ضباط الثورة .
فقد حضر إلى مكتب عبد الناصر كل من صلاح شادي ومنير دلة وطلبا إليه : تكوين لجنة من هيئة الإخوان تعرض عليها القوانين قبل صدورها للموافقة عليها ".

ولكن عبد الناصر وفقا لرواية الرسمية رد قائلا:

" لقد قلت للمرشد سباقا أننا لن نقبل وصاية وأنني أكررها اليوم مرة أخري فى عزم وإصرار وقد برر منير دلة هذا المطلب بأنه كان رأيا شخصيا وما كان يمثل أى الجماعة ".

وفى الفترة التالية كان الصراع يدور بين أضلاع مثلث جدلي يقف فى جانب منه الإخوان وفى الجانب الثاني الثورة وفى الجانب الثالث الإنجليز؛

ففى الوقت الذى كانت الثورة تسعي حثيثا لحصول على مكسب سياسي فيما يتعلق بالقضية الوطنية عن طريق التفاوض مع الإنجليز تعزز مركزها فى الجبهة الداخلية اتجه الإنجليز إلى القوة السياسية الوحدة الباقية فى الساحة الشعبية وهى قوة الإخوان للحصول منها على ما عجزت عن تحصيله من الثورة وسحب السجادة من تحت أقدامها وفى الوقت نفسه كانت الثورة تستغل الخلافات داخل الإخوان لأحداث انشقاق بينهم على اعتبار أن كل قوة تنتقص منهم تضاف لحسابها .

وبالنسبة للمفاوضات بين الإنجليز والإخوان فكما هى العادة فى كل مفاوضات لا تستند إلى جبهة داخلية قوية فإن الصراع المكتوم بين الثورة والإخوان كان له تأثيره فى موقف الاعتدال الذى وقفته الجماعة أثناء المفاوضات خوفا من الحرب فى جبهتين:

جبهة الثورة وجبهة الإنجليز فقد وافقت الجماعة على ما قبله عبد الناصر فى اتفاقية الجلاء بعد ذلك بعام وهو بقاء خبراء انجليز فى قاعدة قناة السويس وحق عودة القوات البريطانية إلى القناة واستخدام القاعدة فى حالة وقوع هجوم مسلح من دولة من الخارج على أى بلد يكون طرفا فى معاهدة الدفاع المشترك بين دول الجامعة العربية وعلى تركيا والتشاور على العودة فى حالة خطر الحرب .

وقد أدرك الإنجليز من خلال هذه المفاوضات أن الإخوان ليسوا بالتطرف الذي كانوا يخشون فقد قبلوا التفاوض معهم كما قبلوا الأسس السالفة الذكر للإنفاق .

واثبتوا بذلك أنهم أكثر اعتدالا من الوفد الذى ألغي معاهدة 1936 ونص فى برنامجه عقب قيام الثورة على :" نبذ المفاوضة و نبذ النواة ونبذ الدفاع المشترك ومشروع قيادة الشرق الأوسط" .

وكان الإخوان يسعون فى الحقيقة إلى ترك هذا الانطباع لدي الإنجليز فقد ذكرنا أن موقف قيادتهم أثناء معركة القناة سنة 19511952 كان موقفا متخاذلا فقد تبرأت تماما من كل شبهة تتعلق بالاشتراك فى العمل الوطني وتبرأت من دعوة شباب الإخوان إلى مقاطعة الإنجليز؛

وتبرأت من استخدام القوة أو نية استخدامها وتبرأت من مجلة الدعوة حين هاجمت تعيين حافظ عفيفي لضرب الحركة الوطنية وفى الفترة التي أباح فيها بعض علماء الدين مثل الشيخ أبو العيون سكرتير عام الأزهر والشيخ على الخفيف دماء العنف كوسيلة لإخراج الإنجليز .

وقد كان قبول قيادة الإخوان المسلمين لأسس الاتفاق السالفة الذكر مقصودا به إقناع الإنجليز بمزايا الإخوان وقد عبر الهضيبي عن ذلك فى صراحة تامة قائلا :" أنا على ثقة من أن الغرب سيقتنع بمزايا الإخوان المسلمين وسيكف عن اعتبارهم شبحا مفزعا كما حاول البعض أن يصورهم "

والتبرير الذى نراه لهذا المسلك هو أن إقامة الحكومة الإسلامية كان الهدف الاسمي للإخوان المسلمين وكانوا على استعداد لتقديم كثير من التضحيات فى سبيل الوصول إليه بدليل أن نفس قيادة الإخوان رفضت معاهدة الجلاء التى أبرمها عبد الناصر رغم موافقتهم على أسسها لأنها تمت لحساب دكتاتورية عبد الناصر وليست لحساب الحكومة الإسلامية

الفصل السادس:الصراعات الداخلية بين الإخوان المسلمين

رأينا كيف كان الصراع يدور بين أطراف مثلث جدلي يقف فى جانبيه الإخوان وفى الجانب الثاني الثورة وفى الجانب الثالث الإنجليز .

وفى ذلك الحين وبينما كانت نذر الصراع على السلطة نظهر بين الإخوان المسلمين والثورة أخذ عبد الناصر فى ضرب الإخوان من الداخل باستغلال الصراعات التى تفاقمت بينهم بين جماعة حسن الهضيبي وجماعة صالح عشماوي من جهة أخري؛

وكان قد نجح حسب قول حسن العشماوي فى أن يضم إلى صفة كثيرا ممن لا أنكر إخلاصه وفضله ولكن الظروف كانت مواتية لخروجهم عن وحدة الصف وقد قدر للصراع الثاني ان يفجر الصراع الأول على نحو لم يسبق له مثيل .

فقد رأينا كيف دب الصاع بين عبد الرحمن السندي والمرشد العام حسن الهضيبي منذ اليوم الأول لتعيينه مرشدا وكيف عجزت اللجنة التي تشكلت من محمد خميس حميدة وعبد العزيز كامل والدكتور حسين كمال الدين عن معالجة المشكلة علاجا جذريا..

وانتهت إلى إنشاء قسم الأسر لإزالة السرية تدريجيا وكان من الطبيعي أن تثبت هذه المعالجة عدم جداولها فقد استمر النزاع بين الهضيبي والسندي وأصبح الهضيبي معزولا تماما عن التنظيم لا يدري شيئا عنه وهذا ما يؤكده محمد خميس حميدة؛

فقد ذكر أنه بعد أن انتهت مهمة اللجنة عاد إلى المنصورة وكان ذلك قبل الثورة وفى فبراير 1953 جاء إلى القاهرة وانتدب نائب مرشد ووجدت الحالة متحسنش والاضطراب قائم فى صفوف الجماعة ومشكلة النظام " السري" ما زالت متعسرة وماتمتش حاجة كما يجب أن يكون .

فقابلت عبد الرحمن السندي وقلت له:

" أن وضع الجماعة بهذا الشكل مقلق وإحنا بنلتقي جميعا على الدعوة العامة وما بنلتقيش على أفراد لازم تحل هذا الوضع لأن الإخوان مرتبطين بك ارتباك كبير".

فوافق على الاشتغال فى قسم الرياضة ومشيت الأمور مدة حوالي شهرين وبعدين حصل اضطراب وجه عبد الرحمن السندي : وقال " إن حسن الهضيبي بيعمل نظام جديد فسألت الهضيبي:فيه نظام جديد بيتعمل؟ فقال:أبدا ولكن عبد الرحمن قال لى أن فيه استحالة ولا يستطيع أن يسير فى العمل أو يتعاون مع المرشد .

كان تنحي عبد الرحمن السندي عن رئاسة التنظيم والاشتغال فى قسم الرياضة هزيمة لفريق التعاون مع عبد الناصر الذى كان قد استطاع اجتذاب السندي إليه .

وانتصارا لفريق الهضيبي الموالي لفكرة الوصاية على الثورة . لذلك هب عبد الناصر يطالب الإخوان بحل تنظيمهم السري حماية لحركة الجيش .

فقد استدعي محمد خميس حميدة والسيد سابق والباقوري ومحمود عبد اللطيف (سكرتير وزير الأوقاف) إلى مجلس قيادة الثورة فى الجزيرة؛

وحضر الاجتماع فى مجلس قيادة الثورة جمال عبد الناصر وأنور السادات وصلاح سالم وكمال الدين حسين وتناول عبد الناصر فى حديثه موقف الإخوان فى رحلة الصعيد وقال إن للإخوان تشكيلات فى الجيش وهو لا يريد هذه التشكيلات لأن وجودها يؤدي إلى اضطرابات ما يصحش أنها تكون موجودة كما أنه لا يريد وجود تشكيلات فى البوليس كذلك ثم تناول النظام السري بشكل عام وقال : "إن التنظيم السري ما يكونش موجود "

على أن مطالبة عبد الناصر بحل التشكيلات الإخوانية والتنظيم السري لم تلق إلا استجابة شكلية فقد أبلغ محمد حميدة المرشد العام ما دار من حديث مع عبد الناصر فى هذا الشأن ولكن المرشد رد بأنه لا توجد تشكيلات خاصة للإخوان فى الجيش " إلا أننا نعطي فكرة إسلامية للجنود "

وقد رد عليه محمد خميس حميدة قائلا:" طيب دي موش محتاجة لتشكيلات" أما بخصوص تشكيلات البوليس فقد كان يقوم بها صلاح شادي وقد تعهد يمنعها "ولكن بعد فترة ظهر أن فيه تشكيلات فى الجيش وتشكيلات فى البوليس ".

وفى الواقع أن الصراع على التنظيم السري بين عبد الرحمن السندي والهضيبي كان قد اشتد فى تلك الفترة فقد قبل عبد الرحمن السندي كما رأينا التنحي عن رئاسة التنظيم والاشتغال فى قسم الرياضة على أساس ما قيل له من أن فيه الجماعة متجهة إلى حل التنظيم وقد حل محله زميله محمود الصباغ .

ولكنه ما لبث بعد فترة وجيزة أن تبين له أن الهضيبي يقوم بتكوين تنظيم جديد من أنصاره وأنه يعمل فى الوقت نفسه للتخلص منه وهنا التقي بالمرشد وواجهه وخرج من المقابلة بانطباع أنه " لا فائدة وأنه من المستحيل التعاون مع المرشد "

وقد جرت الأمور بعد ذلك فى طريق تصادم دموي فإن الهضيبي كان قد استطاع أن يضم إليه المهندس السيد فايز وهو الرجل الثاني فى التنظيم فأتيحت له بذلك الفرصة للنفاذ إلى أسرار الجهاز السري ومعرفة أفراده ولكن فى يوم 19 نوفمبر 1953

أى فى اليوم الذي كان مقررا أن يتسلم فيه من السيد فايز تقريرا يشمل تفاصيل وبيانات الجهاز السري تلقي السيد فايز طردا من الديناميت فى شكل هدية من الحلوي بمناسبة مولد النبي انفجر فيه وفى شقيقه .

وقد كان هذا الحادث ذروة الصراع بين عبد الرحمن السندي والهضيبي وضربة موجهة إلى الأخير وفريقه ولما كانت كل الجهود التي بذلت إلى ذلك الحين لقطع الصلة بين السندي والتنظيم السري قد أثبتت عدم جدواها سبب سيطرة السندي على التنظيم بواسطة مجموعته فقد بدا أن الطريق لإبعاد السندي هو طرده ومجموعته من الجماعة بأسرها؛

ولما كان مثل هذا القرار لا يصدر إلا عن مكتب الإرشاد ففي نفس يوم الحادث دعا الهضيبي إلى عقد اجتماع لمكتب الإرشاد لاتخاذ قرار بطرد السندي ومجموعته ويقول ميتشل أن الأصوات كانت متساوية أى خمسة إلى خمسة وقد حسم صوت الهضيبي الأمر وصدر قرار مكتب الإرشاد بفصل كل من عبد الرحمن السندي ومحمود الصباغ وأحمد زكي وأحمد عادل .

ويفهم من كلام يوسف طلعت رئيس التنظيم السري الجديد بعد عبد الرحمن السندي أنه كانت هناك لجنة عليا تشرف على الجهاز السري مكونة من الشيخ سيد سابق والشيخ محمد فرغلي والدكتور محمد خميس حميدة ومحمود الصباغ وأحمد زكي وأحمد عادل وعبد الرحمن السندي؛

وهذه اللجنة تؤدي بالنسبة للتنظيم السري نفس الدور الذي تؤديه الهيئة التأسيسية للإخوان المسلمين وقد جري خلاف داخل اللجنة فقد كان البعض يري أن عبد الرحمن السندي هو مؤسس هذا النظام؛

بينما كان البعض الآخر خصوصا محمد فرغلي ينكر ذلك وقد انتهي الخلاف بفضل السندي ورفاقه وقد دار نقاش حول من يخلف السندي واستقر الرأى على اختيار يوسف طلعت وهو تاجر حبوب كان على صلة بحسن الهضيبي قبل أن يكون مرشدا وعمل على انتخابه مرشدا عاما رئيسا للتنظيم فعين بعد موت السيد فايز بيومين .

وقد فجر فصل عبد الرحمن السندي ورفاقه الثلاثة أكبر انقسام وقع فى الإخوان المسلمين إلى ذلك الحين فقد انتهز خصوم الهضيبي ظروف فصل هؤلاء الأعضاء دون تحقيق أو حيثيات فصل لتحريك القاعدة الشبابية للإخوان ضد الهضيبي مطالبة بإجراء تحقيق فى أسباب هذا الفصل .

وقد أحرج الهضيبي ولم يجد ما يقوله إلا أن " للمكتب أن يصدر ما يشاء من قرارات ولا يسأله أحد عن الأسباب والإسلام لا يعرف قداسة لمخلوق".

وبذلك تحولت قضية الصراع على التنظيم السري إلى قضية صراع على الديمقراطية داخل الإخوان وتلك كانت الصورة التي خرجت بها إلى الرأي العام فى أواخر نوفمبر وديسمبر 1953.

فقد وصف صالح عشماوي رئيس تحرير مجلة الدعوة المناهضة للهضيبي الأربعة المفصولين بأنهم:

"من صفوة الإخوان العاملين الذين لهم سبقهم وبلاؤهم فى الدعوة وروي ما حدث فذكر أن بعض الإخوان حاولوا الاستفهام من أعضاء مكتب الإرشاد أو الهيئة او المرشد العام عن أسباب فصل هؤلاء الأربعة فلم يفلحوا
" وكانت النتيجة أن ضاقت السبل ببعض المنكرين فاتجهوا إلى المركز العام واعتصموا وأعلنوا أنهم لن يخرجوا حتي تصحح الأوضاع وتسير الأمور فى مجراها الطبيعي"

وكانت المطالب التى تقدم بها المعتصمون فى ذلك الحين تقضي باعتبار قرار فصل الأعضاء الأربعة وقفا مؤقتا تشكيل لجنة للتحقيق ووقف مكتب الإرشاد حتي الهيئة التأسيسية فى أمر وجوده مستقبلا وإنشاء لجنة من هؤلاء الأعضاء أنفسهم لإدارة التنظيم لحين اجتماع الهيئة التأسيسية .

وفى المساء توجه إلى مكان الاعتصام عدد من أعضاء الهيئة التأسيسية على رأسهم صالح عشماوي ومحمد الغزالي وأحمد عبد العزيز جلال وسيد سابق وعبد العزيز كامل وطاهر الخضري وعبده قاسم ومحمد سليمان ومحمد الخضري وعبد القادر عودة وذلك للتفاهم مع المعتصمين.

وبطبيعة الحال فإن موقف الثلاثي صالح عشماوي ومحمد الغزالي وأحمد عبد العزيز كان منحازا لمطالب المعتصمين فقد أوردت مجلة الدعوة أن

"الوفد الذى توجه إلى المركز العام حاول التفاهم مع المعتصمين وعدهم بأن تنظر ظلامه أى متظلم وتبرئة كل غير ذى ذنب ومعاقبة كل مسئ تقاليدنا الإسلامية وآدابها ".

وسرعان ما تطور الموقف حين أرسل الأعضاء الموجودون فى المركز العام وفدا منهم إلى بيت المرشد لمناقشة الموقف معه وكان هذا الوفد مكونا من محمد الغزالي وأحمد عبد العزيز وعبد القادر عودة وطاهر الخشاب ومحمد سيلمان؛

ولم يكن المرشد موجودا ولكن بيته كان يغص بأنصاره وعلى رأسهم:

صالح أبو رقيق وحسين كمال الدين وعمر الأميري وهارون المجددي وفريد عبد الخالق وعبد البديع صقر؛
وهناك فى هذا الجو المحموم بالصراع أخذت الأمور تمضي فى شكل مواجهة بين أنصار الهضيبي وأنصار خصومه من المعتصمين فقد أبدي بعض أنصار الهضيبي استعداده للزحف بجمع أكبر على المركز العام أخذ البعض يصدر الأوامر لتجميع شباب الإخوان من الشعب .
وعندما تبين صالح عشماوي ورفاقه عجزهم عن إقناع مجموعة الهضيبي بخطورة الموقف عملوا على إصدار بيان إلى الإخوان المسلمين يعلنون فيه دعوة الهيئة التأسيسية فى اقرب فرصة للفصل فى النزاع وإلزام الفريقين بقرار فى الوقت الذى توجه فيها عبد العزيز كامل إلى المعتصمين وطلب إليهم الانصراف فانصرفوا قبل الفجر على وعد منه " بتسوية الأمر كما يحبونه ".
وعلى هذا النحو كشف صالح عشماوي ورفاقه موقفهم علنا فى جبهة المفصولين وأصبح الصراع بذلك سافرا بينهم وبين الهضيبي ومجموعته وفى الفترة التالية أعلنت مجلة الدعوة الحرب على الهضيبي وأنصاره؛
فقد وصفت قرار فصل الجماعة بأنه " بشع معيب" ووصفت الخلاف الدائر بأنه ليس خلافا على أشخاص وإنما " لمعالجة أوضاع خاطئة" وفى يوم 8 ديسمبر كتب صالح عشماوي " ما كان الإسلام أبدا" وهو القائم على أساس الشوري دين استبداد ولكن قرار الفصل الأخير جاء فريدا فى نوعه وسابقة خطيرة فى تاريخ الجماعة ليس لها مثيل .ولهذا قام الإخوان يطالبون بتصحيح الأوضاع "

وفى 15 ديسمبر شبه خصومه " بالميكروبات" وأعتبر ما حدث فى الإخوان نوعا من " الصدمة القوية " أو " الحرارة العالية " وقال إنه

" كان من أثر هذه الصدمة أن زالت الغفلة ودبت اليقظة وانتشر الوعي ولم يبق إلا أن تسلط الأضواء على الوقائع والأحداث حتي تنكشف على حقيقتها وتبدو الأشخاص عارية على طبيعتها وعندئذ ستموت الميكروبات فى أماكنها وفى يوم 8 ديسمبر وصف محمد الغزالي خصومه بأنهم "يريدون أن يبرزوا يحبون بجنون أن يظهروا وكيف يتم لهم هذا على أنقاض الآخرين .
فليهدموهم وليلحوا فى هدمهم وليدأبوا ما استطاعوا على الكيد لهم ونسي أولئك النفر أن هدم الأقوياء لن يضفي لى الضعاف أى لون من ألوان القوة ".

وكان من الطبيعي أن يضعف هذا الانقسام من فريقي الإخوان وأن يكون هذا الضعف لحساب عبد الناصر فقد أحس فريق الهضيبي يتفوق خصومه الذين كانوا يملكون جهازا إعلاميا ضخما ممثلا فى مجلة الدعوة فضلا عن " التنظيم السري" الذى كان ما يزال تحت سيطرة السندي رغم خروجه منه فالتجأ الشيخ محمد فرغلي والسعيد رمضان مندوبين عن مكتب الإرشاد إلى عبد الناصر طلبا للتدخل ضد الفريق الأخر .

ولم يكن عبد الناصر الحصيف ليبلغ الطعم ويتدخل ضد فريق يحتج على فصل عبد الرحمن السندي وأنصاره سياسة التعاون مع الثورة فى التنظيم السري وطبقا للرواية الرسمية فإنه أبدي رأيه بأنه لا يستطيع التدخل بالقوة حتي لا تتضاعف النتائج وأنه يري أن يتصالح الفريقان ويعملا على تصفية ما بينهما؛

فطلب محمد فرغلي منه التوسط وأن يجمعه بصالح عشماوي وجاء صالح عشماوي ومعه الشيخ سيد سابق وكان من الطبيعي أن يقف عبد الناصر فى صف صالح عشماوي وفريقه فتم الاتفاق على تشكيل لجنة تحقيق يوافق على أعضائها صالح عشماوي تبحث فيما نسب إلى الإخوان الأربعة المفصولين على ألا يعتبروا مفصولين بل تحت التحقيق".

وقد فوجئ فريق الهضيبي بهذا الاتفاق . ورفض الاعتراف به فوقفا لما رواه صالح عشماوي فإنه استدعي فى اليوم التالي لمكتب عبد القادر عودة وأخبره هذا أن الشيخ محمد فرغلي قال أنه لم يحدث اتفاق على شئ وأن الأستاذ عبد الحكيم عابدين قال إن المسلمين يسعي بذمتهم أدناهم وأنه لو ثبت أن الأستاذ فرغلي وافق على هذا الاتفاق سينكره المكتب .

على أن قيادة الجيش أصدرت مؤيدا حدوث اتفاق على تكوين لجنة تحقيق فلم يعد مفر أمام الهضيبي من تكوين هذه اللجنة ولكنه فى نفس الوقت كان يوجه ضربة كبيرة لصالح عشماوي وفريقه ففي يوم 9 ديسمبر 1953 أذاع مكتب الإرشاد قرار لمجلس العضوية بفصل صالح عشماوي ومحمد الغزالي وأحمد عبد العزيز جلال .

وقد سارع الأعضاء الثلاثة إلى تقديم طلب للحضور أمام الهيئة التأسيسية لشرح قضيتهم وفى الاجتماع المذكور وقف صالح عشماوي يغمز الهضيبي فى ظروف تعيينه ويشرح كيف أراد الأستاذ منير دلة تعيين مرشد عام للجماعة؛

واقترح اسم الهضيبي الذي لم يكن معروفا لأحد من الإخوان فى ذلك الوقت إلا لعدد قليل وكيف ساق فى مزايا هذا الحل أنه يجمع شمل الإخوان ويمنع تنازعهم وكيف " ذكروا اعتبارات أخري ومزايا لهذا الاختبار لا محل لذكرها الآن !"

وكان صالح عشماوي هنا يلمح إلى إرضاء القصر فقد كان يردد هذه المسألة على مسامع بعض قيادات التنظيم السري وقد ذكر محمود الحواتكي أنه سمع من صالح عشماوي وجماعته أن الملك كان له رأي فى تعيين الهضيبي .

ثم وقف أحمد عبد العزيز جلال يتهم أنصار الهضيبي الذين كانوا فى بيته يوم الاعتصام بالاستهانة ومحاولة تعريض الجماعة للكوارث بدعوتهم إلى مواجهة المعتصمين بالقوة وكيف لاحظ أن بعض الإخوان المسئولين فى المناطق أخذوا يرسلون فى جميع بعض الإخوان من بيوتهم وأنكر أنه ورفيقته صالح عشماوي ومحمد الغزالي قد دروا المظاهر بالمركز العام وتكلم محمد الغزالي فأعلن أنه يحتقر التهم المنسوبة إليه !"

وهنا قام عبد العزيز كامل وهو من مجموعة صالح عشماوي وكان قد قدم استقالته من رياسة لجنة العضوية وأجري مناورة ماهرة فقد اقترح " النظر فى موقف كل واحد من الثلاثة على حدة" وفطن أنصار الهضيبي للمناور وطبقا لما ذكرته الدعوة فقد ثار فى وجهه صالح أبو رقيق وعبد البديع صقر وعبد المعطي بهجت وأسكتوه عن الكلام كما ثار الهضيبي قائلا : يجب أن يفصل الجميع.

وقد حاول حلمي نور الدين تأييد رأى عبد العزيز كامل فثار فى وجه فريق الهضيبي وسحبوا منه الكلمة وفى أثناء هذه الجلسة كان الشيخ محمد فرغلي ينتقل بين صفوف الإخوان القادمين من الأقاليم كما وقف فى الاجتماع يهاجم صالح عشماوي ويحمله مسئولية ما حدث من شباب الإخوان فى المركز العام .

وفى وسط هذا الجو المحموم وقف الهضيبي ودعا بصورة تهديد حسب رواية الدعوة من لا يوافقون على الفصل بالوقوف !. فطلب أنصار عشماوي أخذ الرأى بالطريقة السرية فقامت عاصفة من المقاطعة وتتابع المعترضون على الفصل حتي بلغوا 28 عضوا؛

وكان عدد الحاضرين عند التصويت فى تلك الساعة المتأخرة من الليل ستين عضوا ومنهم أعضاء مكتب الإرشاد ولجنة العضوية وعددهم تسعة عشر وقد لاحظ الدكتور كمال خليفة أن هؤلاء يجب إسقاطهم فلم يسمع له أحد فدعا إلى أخذ الرأي بالطريقة السليمة وهى أن يقف الموافقون على قرار الفصل .

ولكن الهضيبي لم يوافق اكتفاء بما جري من تصويت وتقول " الدعوة " أن الواقفين حول المرشد تعالت أصواتهم بأنهم أخذوا السماء الذين عارضوا قرار الفصل وأن كل من يظهر عطفا على المفصولين سيحال إلى لجنة العضوية والتحقيق ويؤخذ بمنتهي الشدة.

على كل حال فبعد هذا الانتصار الكبير لجناح الهضيبي بفضل عبد الرحمن السندي ورفاقه أولا وبفصل صالح عشماوي ورفيقيه ثانيا أخذ يمارس سيطرته على التنظيم السري فأقام جهاز إشراف على التنظيم مكونا من " إبراهيم الطيب مسئولا عن القاهرة وأحمد حسنين مسئولا عن الأقاليم وبقي صلاح شادي مسئولا عن البوليس وأبو المكارم عبد الحي مسئولا عن الجيش وأما الهيئة العليا القديمة التى كانت تشرف على الجهاز فاستبدل بها" "اللجنة العليا للجهاد " التي تمثل السلطة العليا للتنظيم؛

وكانت تتكون من الشيخ محمد فرغلي ومحمود عبده وصلاح شادي وأبو المكارم عبد الحي والدكتور محمد خميس حميدة ويوسف طلعت وعبد المنعم عبد الرؤوف وكان صالح أبو رقيق ومنير دلة والدكتور حسين كمال الدين من أعضاء مكتب الإرشاد الذين لهم صلة بالجهاز .

ولم يلبث المسرح السياسي أن أخذ يتهيأ لصدام خطير بين الثورة والإخوان فلم يعد فى وسع عبد الناصر بعد انتصار الهضيبي أن ينتظر حتي يعيد تنظيم جهازه السري ليضرب به الثورة .

ويقول حسن العشماوي أن عبد الناصر قد صارحه أكثر بعزمه على حل الإخوان وأنه " يحس من الإخوان بجفوة نحوه ونحو سياسته "" دعاني أكثر من مرة إلى التعاون معه بعيدا عن نطاق الجماعة فلم يجد مني قبولا وكانت أحاديث طويلة وقف كل منا فيها موقفه ولم يبد أى تقارب بيننا"

وفى ذلك الحين كانت ظروف الصراع بين عبد الناصر ومحمد نجيب تقرب بين الأخير وبين الإخوان تطبيقا لما رواه الصاغ حسين محمد حمودة وهو من ضباط الإخوان الذين كلفوا بتكوين شعب فى القوات المسلحة؛

ففي أواخر ديسمبر 1953 أو أوائل يناير 1954 استدعي لاجتماع عقده المرشد الهضيبي فى أحد بيوت الإخوان وحضره كل من الصاغ صلاح شادي وخليل نور الدين والدكتور غراب؛

وأبلغ الهضيبي الحاشرين أن اللواء نجيب اتصل به عنر طريق كل من محمد رياض ياروه الخاص, وحسن العشماوي عن الإخوان وأن اللواء نجيب قد أفهمه أنه " مطرشق" من أعضاء مجلس قيادة الثورة بسبب الحكم الدكتاتوري فى البلاد وأنه يرغب فى إقامة حكم نيابي دستوري حسب رغبة الهيئات الشعبية ومنها الإخوان .

وأنه يريد " الاستعانة بالأستاذ الهضيبي وجماعة الإخوان المسلمين لعمل أى ترتيب للتخلص من هذا العهد" ثم قال الهضيبي:

" وأنا جبتكم باعتبار أنكم ضباط فى الجيش ومن الإخوان لأن أبو المكارم كان فى المستشفي والصاغ صلاح شادي مسئول عن البوليس ويوسف طلعت مسئول عن المدنيين وأنا ما أدخل شفى التفصيلات والمسائل دي عليكم بحثها وابقوا بلغوني بالنتيجة".

وقد اجتمع حسين حمودة مع أبو المكارم وخليل نور وصلاح شادي ويوسف طلعت فى بيت أبو المكارم لبحث الموضوع ولكن يوسف طلعت أبدي رأيه بتعذر عمل فى ذلك الظروف .

نظرا لأن عبد الرحمن السندي كان معاكسا فى تسليم الناس ويشرع فى تعبئة ناس تانيين وأنه لا يمكن عمل إجراء إلا بعد سنة حيث يتوقع أن يكون لديه عشرة آلاف من الإخوان كذلك ذكر صلاح شادي أن كل من عنده من الضباط هم تسعة عشر ضابط بوليس وبعضهم متفرق فى المديريات ويتعذر عمل شئ .

وبالنسبة للجيش قيل أن عدد الضباط فى الجيش قليل وفى الوقت نفسه " ما نقدرش نفاتح كل واحد لأن دي مسائل عايزة ثقة" . وعلى ذلك أسفر الاجتماع عن قرار بتعذر اتخاذ أى إجراء فى هذا الشأن .

وقد أورد اللواء محمد نجيب فى مذكراته مزيدا من التفصيلات عن هذه الاتصالات وأن ذكر أن الإخوان هم الذين حاولوا الاتصال به عن طريق محمد رياض الذي اتصل به حسن العشماوي ومنير دله فى ديسمبر 1953 وطلبا إليه تدبير مقابلة سرية مع محمد نجيب لكن محمد نجيب رفض المقابلة السرية واقترح مقابلة علنية فى منزله أو مكتبه فاعتذروا عن ذلك وطلبوا تفويض مندوب عنه لمفاوضتهم فعين محمد رياض الذى اجتمع بحسن العشماوي ومنير دله عدة مرات .

وكانت شروط محمد نجيب للتعاون تتلخص فى إنهاء الحكم العسكري وعودة الجيش إلى ثكناته وإقامة الحياة الديمقراطية البرلمانية وعودة الأحزاب وإلغاء الرقابة على الصحف .

ولكن الإخوان رفضوا ذلك وطالبوا ببقاء الحكم العسكري القائم وعارضوا إلغاء الأحكام العرفية وطالبوا باستمرار الأوضاع كما هي على أن ينفرد محمد نجيب بالحكم ويتم إقصاء عبد الناصر وباقي أعضاء مجلس قيادة الثورة وأن تشكل حكومة مدنية لا يشترك فيها الإخوان ولكن يتم تأليفها بموافقتهم .

وأن يعين رشاد مهنا قائدا عاما للقوات المسلحة وأن تشكل لجنة سرية استشارية يشترك فيها بعض العسكريين الموالين لمحمد نجيب وعدد مساو من الإخوان المسلمين وتعرض على اللجنة القوانين قبل إقرارها كما يعرض عليها السياسة الرئيسية للدولة وكذلك يعرض عليها أسماء المرشحين للمناصب الكبري

ويقول محمد نجيب أنه رفض هذه الاقتراحات جميعها لأنها حسب قوله تؤدي إلى سيطرة الإخوان المسلمين على الحكم دون أن يتحملوا المسئولية وانتهت هذه المفاوضات بالفشل .

ونلاحظ أن رواية محمد نجيب تتفق تماما مع ما نعلمه عن سياسة الإخوان التى جري شرحها فيما سلف والتي تقوم على معاداة عودة الوفد وإيثار قيام دكتاتورية عادلة نظيفة أى لحسابها وعدم المشاركة فى الحكم علنا وإيثار التحكم فيه من وراء ستار تحاشيا للمسئولية.

إلى كل حال ففي تلك الظروف التي جرت فيها اتصالات محمد نجيب بالإخوان أبلغت المخابرات المصرية بعودة الاتصالات بين الإخوان والإنجليز استنادا إل رؤية سيارة أوستن أمام منزل المستر كرزويل المفوض البريطاني ببولاق الدكرور .

مرتي فى يوم 10 يناير 1954 وكان حسن العشماوي يملك مثل هذه السيارة وسواء أكان صحيحا هذا الاستنتاج من جانب المخابرات المصرية أم أن الصحيح هو رواية الإخوان عن أن هذه السيارة قد ثبت فيما بعد أنها لسكرتيرة المستر كرزويل!

فقد حسمت هذه المسألة الأمر فبعد ثلاثة أيام فقط أى فى يوم 14 يناير 1954 صدر قرار مجلس قيادة الثورة باعتبار جماعة الإخوان المسلمين حزبا سياسيا يطبق عليها أمر مجلس قيادة الثورة الخاص بحل الأحزاب السياسية؛

وفى اليوم السابق 13 يناير كانت السيارات تقطع شوارع القاهرة تجمع الإخوان من بيوتهم وكانت القطارات قادمة من الأقاليم تحمل المعتقلين من الإخوان .

وهكذا وكما دفع الإخوان فى 8 ديسمبر 1948 ثمن مساندتهم لدكتاتورية القصر دفعوا فى 14 يناير 1954 ثمن مساندتهم لدكتاتورية الثورة أنهم لم يتعلموا أن الأطباء التى ترتكب فى حق الديمقراطية تنتقم من فاعليه ؟.

الفصل السابع:الإخوان بين أزمتي فبراير ومارس 1954

أصبح الإخوان المسلمون فى السجون مرة أخري بعد خمس سنوات من حل جماعتهم الأول فى عام 1948 . ولكن الانفجار الذى وقع فى مجلس قيادة الثورة بين اللواء محمد نجيب والضباط الصغار وعلى رأسهم عبد الناصر أتاح لهم الفرصة ليلعبوا دورا جديدا.

ففي يوم 23 فبراير كانت سلسلة التجاهلات والتحديات من جانب مجلس الثورة للواء محمد نجيب قد بلغت درجة من الإثارة دفعت اللواء إلى تقديم استقالته ورج من مقر القيادة تاركا الضباط يواجهون أخطر أزمة تهدد الثورة؛

وانقسم الرأي فى المجلس إلى قسمين: فينما رأى البعض قبول الاستقالة رأى البعض الآخر الإقالة وإعلان ذلك على الناس . وتغلب الرأى الأول وقرر المجلس تعيين جمال عبد الناصر رئيسا لمجلس الوزراء ورئيسا لمجلس قيادة الثورة .

ولكن الموقف انفجر فى سلاح الفرسان عندما وصل إليهم نبأ تنحيه محمد نجيب وأصر الضباط على عودة محمد نجيب بلا سلطة كرئيس لجمهورية برلمانية .

واضطر عبد الناصر إلى الإذعان وأوصي مجلس قيادة الثورة بإسناد الوزارة إلى خالد محيي الدين وتوجه الأخير إلى اللواء فى وفد بتكليف من مجلس الثورة واستطاع الحصول على موافقته على العودة على هذا الأساس .

ولكن نبأ تصفية الثورة صدم ضباط الصف الثاني من الضباط الأحرار فى الأسلحة الأخرى الذين تمتعوا بالسلطة وخشوا أن تفلت منهم مع انتصار محمد نجيب وأعطي إسناد الوزارة إلى خالد محيي الدين المعروف بميوله الماركسية انطباعا بأن سلاح الفرسان قد دبر انقلابا شيوعيا فأخذت أعداد هؤلاء الضباط تتوافد على مبني القيادة بكوبري القبة ليعلنوا تشبثهم بالثورة

واتخذ الأمر شكل مواجهة حادة بين سلاح الفرسان من جانب وبقية الأسلحة الأخرى من جانب آخر وانقلبت كفة الميزان مرة أخري لصالح الدكتاتورية وواجه خالد محيي الدين ومحمد نجيب الاعتداء والاعتقال.

على أن الجماهير التي خاب أملها فى الثورة وثار سخطها ومرارتها لحكمها الدكتاتوري تحركت فى هذه اللحظات الحرجة لتقلب الموقف مرة أخري فى اتجاه الديمقراطية .

ففي الوقت الذى كان مجلس قيادة الثورة يناقش مصير اللواء محمد نجيب وخالد محيي الدين كانت جموع هائلة تتحرك من قواعد الإخوان المسلمين والوفد والحزب الاشتراكي تطالب محمد نجيب أو الثورة إلى السجن يا جمال إلى السجن يا صلاح (سالم).

ولقد كانت هذه المظاهرات هى التى رآها صلاح سالم وهو يتوجه إلى بيت أحد أصدقائه ليستريح عنده بض ساعات تهيئا للعودة إلى مجلس الثورة لاتخاذ قرار فى شأن محمد نجيب فعاد بسرعة إلى عبد الناصر الذى كان قد حصل على تفويض من زملائه بإتخاذا أى قرار قد تقتضيه الظروف أثناء غيابهم وأبلغه بالحشود اتى رآها فى ميدان عابدين وابدي رأيه بضرورة عودة محمد نجيب .

فلم حير عبد الناصر جوابا . وعندئذ قام صلاح سالم بوصفه وزيرا 1954 يعلن فيها عودة محمد نجيب وفى اليوم التالي 28 فبراير خرجت مظاهرات الابتهاج إلى عابدين تطالب محمد نجيب بالإفراج عن المعتقلين ولكنها اصطدمت اصطداما دمويا بالبوليس عند كوبري قصر النيل واضطر محمد نجيب إلى الاستعانة بعبد القادر عودة لتهدئة الجو وصرف المتظاهرين وأى دور لعبته قواعدهم ؟.

بالنسبة لقيادات الإخوان السياسية وحتى نفهم حقيقة الدور الذي لعبوه ينبغي أن نعرف هذه الحقيقة هى أن الثورة على الرغم من قيامها بحل الإخوان فى يوم 14 يناير 1954؛

إلا أن أملها فيهم لم ينقطع تماما . كما أن أمل الإخوان فى الثورة لم ينقطع . لقد كان يجمع بين الفريقين عامل هام مشترك هو العداء للديمقراطية والأحزاب الليبرالية والشيوعية .

وهى نفس العوامل التى كانت تجمع بينهم وبين فاروق قبل الثورة فضلا عن الخلافات التى وقعت بينهم وبين الثورة كانت من نوع الخلافات التي وقعت بينهم بين حكومة السعديين والقصر فى عام 1948 أى الخلافات بين الحليفين حين يحس أحدهما بأن قوة الآخر قد استفحلت إلى حد بات يهدده بالخطر ولكن كلا منهما كان يحس بحاجته إلى الآخر لأنه ليس له حليف سواه .

هذا يفسر الموقف الذى وقفه عبد الناصر من الجماعة بعد إعلان حلها : فلم يعمل على تصفيتها وإنما استمرت مجلة الدعوة فى الظهور ولم يعتقل من الإخوان سوي 450 فقط أفرج عن 20 منهم فى الحال .

وأما المسجونون فلم يتعرضوا للتنكيل الذي عرف به عهد عبد الناصر فيما بعد وعلى حد قول حسن العشماوي:" مرت الأيام ولا أحد يسأل عنا ولا أحد يحقق معنا ولا يعكر صفونا شئ إلا الشعور بأننا سجناء .

وأخذت اتجاهات عبد الناصر إزاء الجماعة تتكشف مع الوقت . فقد تركزت الحملة الصحفية التى أوعزت بها الحكومة على الهضيبي وأنصاره وأطهاره فى مظهر الخلف السئ لسف صالح .

واتضح الغرض جليا حين انتهز عبد الناصر فرصة الذكري الخامسة لاستشهاد البنا فى 12 فبراير 1954:" أشهد الله أني أعمل وكنت أعمل لتنفيذ هذه المبادئ وأفني فيها وأجاهد فى سبيلها ".

وقد كان معني ذلك بوضوح أن عبد الناصر كان يستهدف بالحل إسقاط مجموعة الهضيبي المناهضة للثورة وبين عبد الناصر لإعادة الجماعة من جديد واشترط عبد الناصر ثلاثة شروط:

  1. الابتعاد عن النشاط السياسي .
  2. إيقاف نشاط الإخوان داخل صفوف الجيش البوليس .
  3. حل التنظيم السري.

وقد كان عبد القادر عودة على استعداد للتفريط فى التنظيم السري ولكنه لم يكن على استعداد للتفريط فى الناشط السياسي. ويفهم مما ذكره أمام محكمة الشعب أنه كان يسمي لإقناع عبد الناصر بإبقاء هذا النشاط لصالح الثورة

وأن محاولة تصفية هذا النشاط لن تكون مجدية ولذلك كان من رأيه حسب قوله التعجيل بعودة الجماعة " ليمكن توجيه الإخوان والاتصال بهم لأن عدم الاتصال بهم قد يجعل الإشاعات توجههم توجيها غير سليم "

ثم يقول:

" وقد تكلمت معه فى هذا آخر مرة يوم أن على قبر الشيخ حسن البنا والرئيس جمال عبد الناصر قال لى أنه مسافر برج العرب بكرة .
فاتصلوا بالصاغ صلاح سالم واللي تتفقوا عليه أنتم الاثنين أنا أمشيه لكم فتقابلت معه فى وزارة الإرشاد وأبديت له الحجة فى إعادة الجماعة والسماح لى بالاتصال وعقد الاجتماعات العامة فوافق على فكرتي من الناحية المنطقية
وقال:أنا حأثير هذه المسألة فى مجلس الثورة فى الاجتماع المقبل ولكن لا أضمن أن يأخذ الأغلبية وفعلا اتصلن ببعض حضرات الأعضاء الذين يمكنني أن أتصل بهم وكان من الذين اتصلت بهم اللواء محمد نجيب .
فطلبت مقابلته فى ديوان رئيس الوزراء فقال: مافيش مانع عندي من إعادة الجماعة بس بشرط ألا يكون الهضيبي على رأسها فقلت: أرجو أن يكون هذا شرطا تتركوه لنا ونحن قادرون على تحقيقه فيما بعد "

يتضح من ذلك أن الاتفاق كان وشيكا بين الإخوان وعبد الناصر لولا الانفجار داخل مجلس قيادة الثورة بين محمد نجيب والضباط الصغار الذي فجر الشعور العام المضغوط دفع الجماهير إلى الشوارع يوم 27 فبراير غاضبة مطالبة بسقوط الدكتاتورية .

فهل كان لقيادات الإخوان دور فى تدبير هذه المظاهرات ؟. إن العرض السابق للمفاوضات بين عبد القادر عودة وعبد الناصر يستبعد عبد القادر والقيادات السياسية للإخوان من تدبير هذه المظاهرات . وفى الحقيقة أن الاتصالات بين الطرفين ظلت قائمة إلى يوم 27 فبراير.

فيذكر عبد القادر عودة أنه فى عصر يوم 27 فبراير علم من اليوزباشي محمد نصير بما حدث فى مجلس الثورة

" فاتصلت بجمال عبد الناصر فى بيته فقال: أحنا قدمنا استقالة والوزارة استقالت وعلمت من محرر فى المصري أن الإنجليز عند الكيلو 55 وأن الرئيس محمد نجيب بيعمل مشاورات علشان الحالة وقال لى:تروح دلوقت ربما يحتاج إليكم فى حاجة ".

وفى يوم 28 فبراير كان عندي قضية فى مجلس الدولة وخلصت منها ورحت المكتب فجاني واحد وقال إن فيه مظاهرة فى عابدين وأن التظاهرين أطلقوا النار فى قصر النيل وأن الإخوان عاملين هيصة .

فقلت له:روح شوف المسئول من الإخوان وخلوه يصرفهم فقابل شخص اسمه كمال السنانيري ولكن الإخوان مارضيوش ينصرفوا . فاتصل بى وقال لى:إعمل معروف تعال اصرفهم وذهبت لفض المظاهرة فوجدتهم يقولون إن اللواء محمد نجيب سيتكلم إليه .

وإذا كانت القيادات السياسية مستبعدة من تدبير هذه المظاهرات فهل قام التنظيم السري بتدبيرها؟ فى الواقع أن التنظيم السري كان له من الأسباب ما يدفعه للعمل ضد الثورة .

فقد كان حله مطلبا من المطالب الأساسية لعبد الناصر كما رأينا لإعادة الجماعة إلى الشرعية ومن الثابت من مذكرات عبد اللطيف البغدادي أن معلومات كانت قد وصلت إلى علم مجلس الثورة تتصل دون ريب بمظاهرات يوم 28 فبراير وليس بمظاهرات اليوم السابق التي فاجأت مجلي قيادة الثورة كما ذكرنا

وأجبرته على إعلان عودة محمد نجيب ,ونحن نري أن التنظيم السري كان له دور فى هذه المظاهرات الأخيرة دون ريب فإن كمال السنانيري الذي أشار إليه عبد القادر عودة فى كلمته السابقة كان رئيس فصيلة فى التنظيم السري .

ولكن كان غير مستبعد. فمن الثابت أن عبد القادر عوده لم يكن له صلة بهذا التنظيم وكان من أنصار فكرة حله . على أساس أنه يؤدي إلى وجود قيادتين فى الجماعة .

وفى هذه الحالة يكون الجهاز أو من بقي خارج السجن من أفراد الجهاز قد انصرفوا على مسئوليتهم الخاصة دون أوامر من عبد القادر عودة الذي كان يشرف وقتها على الجماعة بدلا من الهضيبي.

وأغلب الظن أن مظاهرات 27 فبراير كانت بوحي القواعد الشعبية لجماعة الإخوان المسلمين والوفد وبعض أجنحة من الحزب الاشتراكي وهي نفس العناصر التي اشتركت فى مظاهرات اليوم التالي ابتهاجا بانتصارها وعودة محمد نجيب بالنسب الآتية التى تمثلها أعداد المقبوض عليهم وهي : 45 من الإخوان المسلمين و20 من الحزب الاشتراكي المنحل و5 من الوفديين و42 آخرين طبقا لما أعلنته البيانات الرسمية .

على أنه منذ يوم 28 فبراير يبدأ دور جديد لعبد القادر عودة فقد توجه إلى المظاهر التي يزخر بها ميدان عابدين لفضها بناء على استدعاء كمال السنانيري ولكن وجوده وسط الجماهير أشعل حماسها كما أن حماس المتظاهرين أشعل حماسه فإذا به فوق أكتاف الجماهير !.

وقد كان هذا هو الوضع الذي وجده عليه محمد نجيب حين خرج إلى شرفة القصر فكتب فى مذكراته يقول:

" كانت هتافات الاحتجاج على الأعداء تتصاعد فطلبت من عبد القادر عودة أحد أقطاب الإخوان والذى كان محمولا على الأكتاف أن يصعد إلى الشرفة وقد ساعد ذلك فى تهدئة الجو وانصراف المتظاهرين بعد أن أخبرتهم بأني أمرت النيابة بالتحقيق فى الحوادث التي وقعت .
ولكن أثناء محاكمة عبد القادر عودة أمام محكمة الشعب تكشف النيابة عن الخطبة التى ألقاها عبد القادر عودة فى المتظاهرين من شرفة القصر فيذكر أنه خطب فى الجماهير قائلا :" حدث اليوم أن أطلق الرصاص على طلبة الجامعة وهو مظهر من مظاهر الدكتاتورية أن الإسلام وراء القضبان وأن المسلمين معتقلين ومسجونين فأفرجوا عنهم ".

وتثير هذه العبارة أشجان رئيس المحكمة جمال سالم . فيخاطب النيابة قائلا :" أنا حافظها من يوم 28 فبراير حافظها وموش مضطر إني أسمع كلامه !".

على هذا النحو وبفضل الروح الثورية التى انتقلت من الجماهير إلى عبد القادر عودة انتقل فجأة من موقع التعاون مع عبد الناصر إلى موقع التأييد لمحمد نجيب

ويقول عبد اللطيف البغداي:

" علمنا ونحن فى اجتماع مجلس الوزراء بأن عبد القادر عودة وهو أحد زعماء الإخوان المسلمين كان يخطب أيضا فى تلك الجماهير هو ومحمد مالك من الإخوان كذلك .
وكانا يهاجمان جمال عبد الناصر فى خطابيهما وكان على عبد القادر عودة أن يدفع الثمن غالبا ففي مساء اليوم نفسه أعتقل ومعه خمسة وأربعون من الإخوان المسلمين ووقفوا على أرجلهم فى السجن الحربي من الرابعة صباحا حتي السابعة يضربهم ضباط السجن وعساكره فى وحشية .

الإخوان وأحداث مارس 1954

على كل حال فقد أصبحت معظم قيادات الإخوان الآن داخل السجون وبذلك انعزلت عن الأحداث التالية التى وقعت فى مارس ولم تشارك فى النضال التاريخي الذي خاضته القوي الديمقراطية والتقدمية ضد الدكتاتورية .

وفى يوم 25 مارس كان هذا النضال الشعبي قد أجبر مجلس قيادة الثورة على اتخاذ قراراته المشهورة بالسماح بقيام الأحزاب وانتخاب جمعية تأسيسية انتخابا مباشرا حرا تكون لها السيادة الكاملة والسلطة الكاملة؛

وتكون لها سلطة البرلمان كاملة وتكون الانتخابات حرة وحل مجلس قيادة الثورة يوم 24 يوليو 1954 باعتبار الثورة قد انتهت وتسلم البلاد لممثلي الأمة وتنتخب الجمعية التأسيسية رئيس الجمهورية بمجرد انعقادها .

وعندئذ تهيأت الفرصة للإخوان للانضمام بكل قوتهم إلى الجماهير الديمقراطية والإجهاز على الدكتاتورية فقد جري التسابق بين عبد الناصر ومحمد نجيب على كسب تأييدهم وطبقا لم أورده صالح أبو رقيق فإن عبد الناصر أرسل إليهم فى السجن الحربي وفدا مكونا من الأستاذ محمد أحمد والمرحوم فؤاد جلال .

الذي ولي وزارة الشئون الاجتماعية فى حكومة محمد نجيب وبعدها وزارة الإرشاد القومي فى تعديل 9 ديسمبر 1952 والمرحوم "محيي الدين أبو العز " للتفاهم معنا على تعاون بيننا وبينه من أجل الصالح الوطني؛

وقلنا لهم:

"كيف ذلك وقد أصدرت الحكومة بيانا تتهمنا بمؤامرة وباتصالات كاذبة وبحيازة أسلحة للتآمر بعزبة حسن العشماوي مع أنها أسلحة عبد الناصر نقلناها بطلب منه من مكاتب فى الثكنات لرفع الحرج عنه ووضعناها فى عزبة حسن العشماوي بعلم وبرأي منه فكيف نخرج فى ظل اتهامات الحكومة أدري الناس ببطلانها وكذبها ؟.

وعرض الأستاذ محمد أحمد الأمر على عبد الناصر فاقترح أن يزور المرشد فى بيته ومعه كل الإخوة الذين جاء ذكرهم فى بيانات الحكومة وذلك بمجرد خروج المرشد فورا إلى بيته وحرصا على المصلحة قلنا :" لا مانع نتهم بالأمس بالخيانة ونطالب اليوم بمد أيدينا تعاونا وباسم المصلحة العامة "

وفعلا وصل السيد جمال عبد الناصر ومعه السيد صلاح سالم إلى بيت المرشد بعد خروجه من المعتقل ونقلت الإذاعة والصحف أخبار هذه الجلسة"

يتضح من ذلك أن شروط الإخوان كانت قاصرة على إطلاق الحرية لهم ورد اعتبارهم دون أية شروط أخري تتصل بعودة الديمقراطية وقد أوردت جريدة المصري أسس الاتفاق الذي تم بين الإخوان وعبد الناصر فى السجن الحربي بما لا يخرج كثيرا عما ذكره صالح أبو رقيق

وهي:

  1. تعود الجماعة إلى سابق نشاطها وكيانها بدون أى حد من حريتها إعادة أموالها المصادرة وشعبها ومركزها العام .
  2. الإفراج فورا عن جميع المعتقلين من الإخوان المسلمين مدنيين وعسكريين مع إعادة من فصل منهم إلى الخدمة العسكرية .
  3. أن يصدر مجلس قيادة الثورة بيانا يوضح فيه حقيقة الأسباب التى أ‘تبرها داعية إلى حل الإخوان ويكون هذا البيان نهاية فصل الختام فى هذه المسألة المؤسفة .

وقد سارع عبد الناصر لبعد الإفراج عن الهضيبي إل زيارته بمنزله بعد منتصف الليل وصرح الهضيبي بأن الإخوان المسلمين سيكونون " عونا للحكومة " على الإنجليز ورد إعتداءتهم .

على هذا النحو يكون عبد الناصر قد سبق اللواء محمد نجيب إلى الإخوان وقد أدرك الأخير هذه الحقيقة حين أراد الاتصال تليفونيا بحسن الهضيبي فى بيته فقيل له أنه " فى الحمام"

وكان يتوقع أن يرد الهضيبي على اتصاله ليشكره على سؤاله عنه:

"هنا وضح لى تماما أن جمال عبد الناصر قد اختار فى هذه المرحلة أن يمضي فى طريق الإخوان المسلمين وأنه اشتري صمتهم بإعادة جماعتهم وقد أغراهم ذلك على التهادن كفرصة انتهازية للقضاء تماما على فككرة عودة الأحزاب الحياة البرلمانية ثم الانفراد بالسلطة وهم لا يدرون أن هذه المهادنة كانت موقفا تكتيكيا لضمان سكوتهم فى محاولة القضاء على الديمقراطية وعلى شخصيا ثم تعد خطة جديدة للانقضاض عليهم بعد ذلك.
على أن محمد نجيب لم ييأس فقد عاود الاتصال مرة أخري تحت تأثير قائد حرسه محمد رياض .ويقول :
" اقترح محمد رياض الاتصال بالإخوان المسلمين الذين وقفوا بجانبي عند استقالتي فحذرته من ذلك لفقداني الثقة فى اتجاه بعض زعماء الإخوان ومعارضتهم قيام الأحزاب والحياة البرلمانية.
وعاد إلى محمد رياض فى اليوم التالي يبلغني أنه أرسل رسولا إلى حسن الهضيبي هو رياض سامي الذي أصبح بعد ذلك سفيرا لمصر فى إحدي الدول الإفريقية يستفسر عن حقيقة موقف جماعة الإخوان وقال حسن الهضيبي أنهم لم يتدبروا أمرهم بعد أنهم يفضلون الانتظار والهدوء حتي يتم الإفراج عن كافة المعتقلين ".

وواضح أن الإخوان فى هذا الموقف كانوا يراهنون على حصانهم المفضل وهو الدكتاتورية مدفوعين فى ذلك بكراهيتهم للوفد والحياة الليبرالية ولم يخف الهضيبي ذلك بل أعلنه بصراحة تامة فى المؤتمر الكبير الذى عقدته الجماع عقب الإفراج يوم 30 مارس 1954

قائلا:

" لقد ظهر رأى ينادي بعودة الأحزاب القديمة إلى الوجود مرة أخري وأني لفي عجب شديد من هذه الجرأة وهذا المنطق وأن الأحزاب والهيئات النيابية السابقة عانت منها الدولة أشد العناء فقد كان والدهم الفساد والمحسوبية وتفشي فيهم حب الذات
فلم يكن عملهم لوجه الله ولكن كان عملا لوجه الشيطان أفهم أن شخصا ينادي بعودة الحياة النيابية ولكن لا ينادي بعودة الأحزاب القديمة كى تباشر مهامها فنحن إذ نطالب بالحياة النيابية فإنما نطالب بحياة نيابية نظيفة سليمة مكفولة فى ظلها حرية الصحافة وحرية الاجتماع وحرية القول ".

ولم يتمكن أحد فى ذلك الحين من أن يسأل الهضيبي هذا السؤال كيف يمكن بناء حياة نيابية نظيفة سليمة إذا كان الحكم على الأحزاب القديمة ينزع من يد الشعب ويوضع فى يد هيئة مخاصمة لها مثل جماعة الإخوان؟.

وإذا كان فى وسع هيئة حزبية مثل الإخوان سلب هذا الحق من الشعب وفرض وصاية عليه بالتحالف مع العناصر الدكتاتورية فى ثورة 23 يوليو ألا تكون تلك هى الدكتاتورية الطاغية الباغية الشريرة التى تحدث عنها سيد قطب ونسبها إلى فاروق ؟.

وإذا كان السجن الحربي الذى عاش فيه الإخوان شهرين كاملين لم ينزع أوهام قيادات الإخوان فى إمكان قيام دكتاتورية عادلة نظيفة تحت اسم حياة نيابية نظيفة فهل يلومون إلا أنفسهم إذا قدر عليهم أن يدخلوا السجن بعد عدة أشهر لسنوات أطول ؟.

الفصل الثامن:عودة الصراع بين الإخوان والثورة

انتهت أزمة مارس بسلسلة من الإضرابات والاعتصامات السلطوية المدبرة التي قامت بها الطبقة العاملة بالدرجة الأولي وخاضت غمارها كشريك لا أداة وانهال عبد الناصر بالقمع والتصفية على كافة القوي الديمقراطية التقدمية التى خاضت ضده غمار الصراع.

فضرب الصحافة باسم تطهير الصحافة وقام بحل مجلس نقابة الصحفيين بحجة أن سبعة من أعضائه البالغ عددهم اثني عشر عضوا تقاضوا مبالغ من المصروفات السرية فى العهد الملكي . ولم يذكر فى قرار الحل بطبيعة الحال لماذا ترك هؤلاء دون إجراء طوال الفترة السابقة منذ ثورة 23 يوليو!.

كما أصدر قرارا بحرمان السياسيين الوفديين والأحرار الدستوريين والسعديين الذين تولوا الوزارة فى السنوات العشر السابقة على الثورة من 6 فبراير 1942 إلى 23 يوليو 1952 من كافة الحقوق السياسية وتولي الوظائف العامة وتولي مجال إدارة النقابات والهيئات واستدار إلى الجامعة فنح سلطات للمسئولين فيها لضمان انتظام الدراسة فيها جري الفصل والتنكيل بأستاذة الجامعات الذين اشتركوا فى النضال من أجل الديمقراطية أثناء الأزمة .

وهكذا لم يبق فى الساحة السياسية سوي الإخوان المسلمين وطبقا لطبيعة الأشياء فى مثل هذه النظم الدكتاتورية فإن الصدام بين الطرفين كان مسألة وقت .

ويتضح من المعلومات التى بين أيدينا أن أول صدام بين الفريقين كان حول المعتقلين فقد ذكرنا أن النقطة الثانية من نقاط الاتفاق بين عبد الناصر والجماعة فى السجن الحربي كانت تتضمن " الإفراج فورا عن جميع المعتقلين من الإخوان المسلمين مدنيين وعسكريين مع إعادة من فصل منهم إلى الخدمة العسكرية "

وقد أفرج عبد الناصر عن الإخوان المدنيين أما العسكريين فقد ماطل فى الإفراج عنهم وكان على رأس هؤلاء رؤساء الجهاز السري الإخواني فى الجيش وهم: البكباشي أركان حرب أبو المكارم عبد الحي وقائد اللواء الجوي عبد المنعم عبد الرؤوف والصاغ أركان حرب حسين حمودة والصاغ أركان حرب معروف الحضري .

وكان هؤلاء الضباط قد قبض عليهم فى أوائل مارس وكانت وجهة نظر الحكومة فى عدم تنفيذ هذا الشرط أن عدم محاكمة هؤلاء الضباط. وعودتهم إلى الخدمة العسكرية من نشأته أن يؤدي إلى إتاحة الفرصة لهم لإعادة التشكيلات فى الجيش؛

وكانت تعتبر الحاح الجماعة فى المطالبة بالإفراج عن هؤلاء الضباط وإعادتهم إلى وظائفهم العسكرية واعتبارها هذا الإجراء شرطا للتعاون بينها وبين الحكومة علامة على رغبتها فى تعزيز الجهاز السري وتقويته وقد ألغت الجماعة لجنة للالتقاء برجال الحكومة والتقاهم معهم على هذه المسائل ولكنها وجدت أعراضا .

ولم تلبث الثورة أن قدمت الضباط عبد المنعم عبد الرؤوف إلى المحاكمة وقد طلب من هيئة الحكمة العسكرية استدعاء محمد نجيب وعبد الناصر كشهود دفاع .

ولكن المحكمة رفضت طلبه فأعد خطة للهرب من سجنه ونفذها بنجاح ,قد قدر لهذا الضابط أن يلعب دورا هاما فى تطوير الجهاز السري مما سنتناوله فى حينه .

كانت المسألة الثانية التي وقع حولها الخلاف وأوجدت الشك فى نفوس الجماعة خاصة بالبند الثالث من بنود الاتفاق الذي تم فى السجن الحربي وهو الذي ينص على أن " يصدر مجلس قيادة الثورة بيانا يوضح فيه حقيقة الأسباب التى اعتبرها داعية إلى حل الإخوان "

وكانت أهمية إصدار هذا البيان جسيمة للجماعة لأنه يعد بمثابة إعلان حسن نوايا من جانب عبد الناصر إذ يقطع عليه الطريق لضربة جديدة يوجهها للإخوان على نفس أسباب الحل القديمة وقد ماطل عبد الناصر فى إصدار هذا البيان مما كان يعني أنه يدخر الأسباب القديمة لضربة جديدة .

وكما هى العادة مثل هذه الظروف حين يتبين أجحد الشركاء فى النظام الدكتاتوري أنه لا يسير لصالحه فيتذكر على الفور مزايا الديمقراطية فإن المرشد العام حسن الهضيبي سارع فى يوم 4 مايو إلى إرسال خطاب إلى عبد الناصر بهذا المعني فقد أشار فيه أولا إلى أسس الاتفاق الذى تم بينهما على بدء عهد جديد من التعاون

" وقد سلمتم يومئذ بوجوب الغاء قرار حل جماعة الإخوان المسلمين وبالإفراج عن جميع المعتقلين وبرفع الأثر الذي ترتب على بيان الحل رفعا صريحا يغنينا عن التعرض لمناقشة البيان "

وقال:

" وبصرف النظر عن أن هذه المسائل الخاصة بالجماعة لم ينته الرأى فيها إلى ما اتفق عليه فإن مصلحة الوطن تقتضينا أن نبذل من رأينا فى مشاكله ما ري أنه يدعو إلى اطمئنان الناس ويحقق الاستمرار "

وطالب الهضيبي بثلاثة مطالب هي:

  1. إعادة الحياة النيابية باعتبار أنها " الأساس السليم لك حكم فى العصر الحاضر والأمة لا تتعلم بإلغاء الحياة النيابية فى فترة الانتقال وإنما تتعلم بممارسة الحياة النيابية بالفعل ".
  2. إلغاء الإجراءات الاستثنائية الأحكام العرفية .
  3. إطلاق الحريات وخصوصا حرية الصحافة وحريات المعتقلين وبعض المحكوم عليهم من المحاكم الاستثنائية وقد وجد هذا الخطاب طريقة إلى الشراع المصري فى شكل منشور مما كان يعني عودة الصراع العلني .

على أن عبد الناصر كان يواجه الإخوان بأنهم إذا كانوا مخلصين فى دعوتهم إلى الحكم الديمقراطي بل إن مطالبة الإخوان بالديمقراطية كانت محل سخرية واستنكار نظرا لأن نظامهم الداخلي كان يقوم على أسس دكتاتورية بحتة فقد كانت هيئتهم التأسيسية وهي برلمان الجماعة قائمة على التعيين وليس الانتخاب؛

وكان جزء من مكتب الإرشاد المنبثق من الهيئة التأسيسية بالتعيين وفى الوقت نفسه لم يكن رأيه ملزما للمرشد الذي كان فى إمكانه الأخذ به أو تركه كما كان فى إمكانه اتخاذ أى قرار دون الرجوع إلى مكتب الإرشاد وإذا كان الأمر كذلك فإن جماعة الإخوان آخر من يصلح للمطالبة بالديمقراطية فى رأي عبد الناصر .

ولم تلبث الخلافات التى دبت داخل الجماعة بالنسبة للموقف من الثورة وقسمتها إلى ثلاثة أقسام:

قسم على رأسه البهي الخولي ويري الاستمرار فى تأييد الثورة وقسم على رأسه الهضيبي ويري أنه لا يمكن التعاون مع الثورة ولن يمكن التوصل إلى تعاون معها .
وقسم ثالث يحاول التوفيق بين الاتجاهين وعلى رأسه محمد خميس حميدة وكيل الإخوان ويمكن القول أن الهضيبي كان قد فقد ثقته تماما فى الثورة بعد أن أخلف عبد الناصر وعوده التى قدمها له فى السجن الحربي فيما يختص بكل من الإفراج عن العسكريين وإصدار بيان يبري ساحة الإخوان من التهم التى تضمنها قرار الحل ولذا يذكر محمد خميس حميدة عنه أنه كان يري أنه " موش ممكن أن نصل إلى تفاهم " و" موش عاوز تعاون مع الحكومة"

وعندما اشتد الخلاف فى الجماعة رأى الهضيبي أن يقوم برحلة إلى البلاد العربية يفسح فيها السبيل لأنصار التفاهم مع الثورة .

وفى ذلك يقول:

"أنا رحت علشان قبل أن الإخوان عايزين يتفقوا مع الحكومة ويظن أني واقف عقبة فى سبيل الاتفاق . قلت لهم:أنا ماشي وأنتم تعرفوا شغلكم على أن الهضيبي يدعي أنه كان يري أنه " لا يجد سببا للخلاف مع الحكومة " وهو أمر غير معقول يتناقض مع قوله السابق فلو كان صحيحا أنه لم يجد سببا للخلاف مع الحكومة لما اعتبر بحال عقبة فى سبيل الاتفاق ولما وجد نفسه فى حاجة إلى السفر ليفسح الطريق للاتفاق .

على كل حال فإن سفر الهضيبي قد أفسح السبيل بالفعل لفريق محمد خميس حميدة للسعي إلى تفاهم مع الثورة وكان محمد خميس حميدة قد تولي الإشراف على الجماعة بعد سفر المرشد باعتباره وكيل الإخوان

ففي نفس الشهر الذى غادر فيه الهضيبي مصر يونيه 1954 توجه محمد خميس حميدة ومعه عبد الرحمن البنا لمقابلة عبد الناصر للتباحث معه فيما اسماه " الأمور المعلقة "

ويقصد بها قرار الحل ومشكلة ضباط الجيش والإفراج عنهم وضباط البوليس وعودتهم للخدمة وقد رد عبد الناصر بأنه لا يمكن إقامة حكومة ديمقراطية مع وجود أجهزة سرية ترهب المواطنين وترهب الحكومة وترهب الرياسات القائمة عليها؛

ومن ثم فلابد من حل هذه الأجهزة وإذا كان الإخوان يريدون إثبات حسن نيتهم فهذا يأتي على ثلاث خطوات:تهادن فتفاهم فتعاون ووعد بإرسال خطاب بإلغاء الحل والتصرف فى مسألة الضباط

ويقول محمد خميس حميدة:

" خرجنا من عند الرئيس باستعداد كامل بأن نسير بهذا الوضع تهادن فتفاهم ثم تعاون وبدأنا نخطو خطوات فى هذا السبيل وكانت فرصة أن المرشد غائب فى سوريا ".

على أنه فى يوم 27 يوليو وقع عبد الناصر ع الإنجليز بالأحرف الأولي المبادئ الرئيسية لاتفاقية الجلاء ولم يكن حتي ذلك الحين قد بر بوعده فى تنفيذ بنود اتفاق السجن الحربي فكانت تلك هى الفرصة التى سنحت للإخوان لتحويل الصراع بينهم وبينه إلى قضية وطنية فقد أعلن الهضيبي من سوريا رفضه للأسس التى بينت عليها الاتفاقية مؤكداأن

" أية اتفاقية بين مصر وحكومة أجنبية ينبغي أن تعرض على برلمان منتخب بإرادة حرة بحيث تمثل إرادة الشعب المصري وعلى صحافة متحررة من الرقابة وتملك حرية المناقشة ".

وقد نشرت جريدة الهدف البيروتية هذا التعليق يوم 31 يوليو 1954

وهكذا استعار الهضيبي تكتيك الوفد الفضالي الذي استخدمه عام 1930 لإيقاف مشروع محمد محمود هندرسون حين رفض النحاس إبداء رأيه فى المشروع " إلا تحت قبة البرلمان المنتخب انتخابا صحيحا ".

على أن الإخوان فى الحقيقة كانوا آخر من يدينون مثل هذه الاتفاقية بين عبد الناصر وانجلترا لأنه سبق لهم أن قبلوا الأسس التى قامت عليها أثناء مفاوضاتهم مع إيفانز ولذلك حين ركز الهضيبي هجومه بعد ذلك؛

على أن الاتفاقية قد أعطت للإنجليز حقا فى العودة إلى القناة واعترفت للإنجليز بقناة السويس كقاعدة عسكرية يديرها عسكريون فى شكل مدنيين وربطت مصر والدول العربية بالمعسكر الغربي اعتبر عبد الناصر هذا الهجوم عملا من أعمال التضليل للرأي العام وأخذ يتصرف على هاذ الأساس فأخذ فى مصادرة نشاط الجماعة بكل ألوانه؛

واعتقل خطباء المساجد الذين هاجموا الاتفاقية وجري تفتيش بيوت الإخوان وإعتقال بعضهم وبذلك دخلت العلاقة بين الفريقين فى شكل صدام يتربص فيه كل منهما بالآخر وبلغت الأمور ذروتها حين عاد الهضيبي من سوريا يوم 22 أغسطس وحضر اجتماعا غاضبا للإخوان فى لقاء الثلاثاء الأسبوعي

و ارتفعت فيه صيحات تنادي:

" الموت للخونة" وتلا ذلك مهاجمة بيت المرشد أثناء غيابه ثم اختفاؤه فى بيت بمصر الجديد كان قد سبقه إليه حسن العشماوي وبعض زملائه وعمد كثيرون آخرون من الإخوان إلى الاختفاء فى أماكن متفرقة ومنذ ذلك الحين انتقل نشاط الإخوان الرئيسي من العلانية إلى السرية وتحولت الجماعة إلى جهاز سري كبير.

الفصل التاسع:التشكيل الجديد للتنظيم السري

فى ذلك الحين كان التنظيم السري تحت قيادة يوسف طلعت قد تعرض لتغييرات وتطورات هامة وكان يوسف طلعت قبل توليه رئاسة الجهاز بعد من الأعضاء المعروفين من قديم عن الشيخ حسن البنا؛

وكان يتولي باعترافه رئاسة النظام السري فى الإسماعيلية كما كان على صلة وطيدة بالهضيبي على الرغم من أن الأخير قد أنكر أمام محكمة الشعب معرفته به؛

فقد سعي كما يقول محمد فرغلي لاختيار الهضيبي مرشدا وسافر إلى الإسكندرية أكثر من مرة لإقناعه بقبول المنصب كما سعي لدي كثير من الإخوان ليطلبوا ترشيحه لمنصب المرشد؛

مع ذلك عندما أراد الهضيبي تعيينه لرئاسة الجهاز السري استشار محمد فرغلي رئيس منطقة الإسماعيلية التى كان يوسف طلعت محمد خميس حميدة وكيل الإخوان فوافق على اعتبار أن يوسف طلعت " كان من اللي راحوا فلسطين ومعروف فى الإخوان ومعروف فى النظام (الخاص)

ومعني ذلك بوضوح أن مكتب الإرشاد لم يكن بعيد الصلة عن تعيين يوسف طلعت وإنما أخذ رأيه فى تعيينه وفى ذلك يقول الهضيبي:

" لما جبنا يوسف طلعت جبناه على اتفاق بيننا وبين مكتب الإرشاد "

على أن هذا الكلام لا يجب أن يكون معناه أن مكتب الإرشاد كان يملك الحق فى تعيين يوسف طلعت فقد كان تعيين رئيس الجهاز من حق المرشد وحده كما يقول محمد خميس حميدة وأغلب الظن أن ظروف فصل عبد الرحمن السندي ورفاقه فى أعقاب حادث مصرع المهندس السيد فايز

بما اقتضته من تدخل مكتب الإرشاد فى هذا الفصل باعتباره صاحب الحق فى ذلك نظرا لأن فصله كان من الجماعة بأسرها وليس من الجهاز السري وحده هي التي أتاحت لمكتب الإرشاد مناقشة موضوعات الجهاز السري وكان بعيد الصلة عنها فى أيام الشيخ حسن البنا ولا يعلم بتفاصيل هذا الجهاز كما يقول إبراهيم الطيب.

على كل حال فبتعيين يوسف طلعت رئيسا للنظام الخاص تكون الفرصة قد سنحت للهضيبي لتنفيذ سياسته فيما يتعلق بهذا النظام وهي أن يتحقق الغرض الذي أنشئ من أجله وهو " إعداد الفرد المسلم إعدادا صالحا للدفاع عن الوطن الإسلامي "

وفى ذلك يقول:

" اتفقنا على أنه لا يجوز البتة ارتكاب أى جريمة من الجرائم ولا عمل أى عمل إرهابي " وقد أكد يوسف طلعت هذا اللام فذكر أن الهضيبي بعد أن عينه رئيسا للجهاز قال له:" مش عايز روح العصابة تهمين على الأفراد والتزمت والسرية".

على أن المهمة لم تكن بهذه السهولة فقد كانت روح السندي تهمين على الجهاز وكان أنصاره يمثلون الأغلبية فيه وفى ذلك يقول يوسف طلعت:

" كان عندي أمل أني أرتفع بهذا الجهاز إلى المعني الإنساني الصحيح ولكني وجدت فيه "جو مش طعم" لقيت فيه عناصر مش من الإخوان المسلمين عناصر لم يتربوا على دعوة الإخوان .
وأنا أحب أسجل دي وأقول أنه دخل فى الجهاز السري ناس مش من الإخوان المسلمين ولما جيت استلم الجهاز ده مش كله سلم أو كل الناس اللي فيه سلمت نفسها ناس سلمت نفسها وناس لا وظلت بعيدة وتهدد بالالتزام بالنظام والتزام الوضع القديم".

بل لقد وصل إلى حد بعض أنصار السندي أخذوا يتربصون بيوسف طلعت ومنهم محمد على أحمد وأحمد عادل وكمال يحيي وآخرون وقد تربصوا به ليروا خطته هل سيحل الجهاز ويصفيه أم سيبقي عليه كثرات موروث من عهد الشيخ حسن البنا! حسب قولهم ويقول يوسف طلعت " كنت تسمع كلام أنت خاين ! أنت عايز تسرح الجهاز !"

وهذا يثير حقيقة هامة هى أنه كان من المتعذر بالفعل حل الجهاز السري أو تصفيته حتى لو أراد الهضيبي ذلك أو مكتب الإرشاد وهذا ما اعترف به الهضيبي فقد ذكر أنه حين عين يوسف طلعت رئيسا للجهاز

" جبناه على اتفاق أنه يسير بالنظام نحو التصفية ولكن التصفية ليس معناها أننا نيجي نقول حلينا النظام فهذا لا يؤدي بنا إلى حاجة ولكن قلنا إننا نوجه الإخوان الوجهة الصحيحة من جهة ومن جهة أخري نكثر من عدد الذين يدخلون فى النظام حتى نذهب عنه صفته السرية ".

وقد قرر هذه الحقيقة أيضا محمد فرغلي فعندما سئل عن أسباب صعوبة حل الجهاز قال :" الصعوبة أن الجهاز يشمل عددا كبيرا من الشبان المتحمسين فى الإخوان فحله يثيرهم على من قام بهذا الحل "!

وقد سأله الدفاع:

"هل يفهم من هذا أن طبيعة الأنظمة السرية هي التصدي لمن يتعرض لها و يخرج عليها" فرد قائلا:" أعتقد ذلك "

وكان مقتل المهندس سيد فايز على يد أنصار عبد الرحمن السندي فى ذاكرة أعضاء الجهاز الموالين للهضيبي ويوسف طلعت فعندما سئل محمود الحواتكي وهو مدرس كيمياء وكان رئيسا لفصيلة سرية بالجيزة عما إذا كان "يتوقع أشياء تهدده لو أنه خرج على النظام " أجاب قائلا " أشياء تهددني؟ لا!"

ولكن عندما سئل عما إذا كان مطمئنا إلى أن خروجه من الجماعة لن يؤثر عليه؟ أجاب قائلا:

" مسألة الاطمئنان لم تكن متوفرة لى مائة فى المائة لسبب هو أن هناك إشاعات تقول أنهم قتلوا سيد فايز لأنه كان يحارب جبهة معينة فى النظام فإذا كان الأمر كذلك فيجوز يوجد من يفعل هذه الفعلة !"

وقد حاول محمود الحواتكي أن يفسر مسألة إرهاب النظام للخارجين عليه تفسير نظريا فذكر أن هناك فرقا بين " جماعة المؤمنين " و" جماعة الإرشاد" فإذا كانت جماعة الإخوان مثل " جماعة المؤمنين" فإن الأمر الذي يصدر منها يصبح ملزما أما إذا كانت " جماعة إرشاد" فأمرها لا يكون ملزما .

وقال إن الخارج على " جماعة المؤمنين " جزاؤه القتل فى الإسلام ولكن الخارج على " جماعة الإرشاد" لا يقتل وقد ذكر أن هذا التفكير لم يكن واضحا لدي التنظيم السري القديم ولكنه أوضحه للتنظيم الجديد.

ومع أنه من الصحيح أن الجهاز السري الجديد فى عهد يوسف طلعت لم يتركب حوادث ضد الخارجين إلا أن الروح القديمة هى التي كانت متأصلة باعتراف يوسف طلعت ولذلك يذكر محمد خميس حميدة أنه عندما وقع الخلاف بعد ذلك بين مجموعة الهضيبي ومجموعة محمد خميس حميدة وصلت تهديدات من الجهاز السري لبعض المعارضين للهضيبي مثل السيد حلمي المنياوي والسيد عبده قاسم كما اتخذ الأمر صورة مراقبة على بيوت بعض أعضاء الجماعة .

على كل حال ففي تلك الظروف التى عين فيها يوسف طلعت رئيسا للتنظيم السري جري اتصال محمد رياض ياور محمد نجيب بحسن العشماوي فى أواخر ديسمبر 1953 أو أوائل يناير 1954 طلبا لتحالف بين محمد نجيب والإخوان وقد جمع الهضيبي قادة الجهاز كما ذكرنا.

وقد أعتذر يوسف طلعت وقتذاك " لأنه" وفقا لكلام الضابط حسين حمودة لسة مستلم الجهاز جديد وعبد الرحمن السندي معاكس فى تسلمي الناس " وأنه أى يوسف طلعت بيشرع فى تعبئة ناس ثانية من الدعوة العامة ولو انتظرتم على سنة حيبقي عندي عشرة آلاف من الإخوان ".

على أنه لم ينقضي أسبوعان على هذا الاجتماع حتي كان عبد الناصر ينزل ضربته بالإخوان بقرار الحل فى 14 يناير 1954 وقام بحملة اعتقالات واسعة النطاق شملت كثيرا من أعضاء كما قبض على البكباشي أبو المكارم عبد الحي والصاغ معروف الحضري وقائد اللواء عبد المنعم عبد الرؤوف فى أوائل مارس .

وإزاء هذه المصيبة التى ألمت بالجماعة أخذت صفوفها تلتئم من جديد فنلاحظ أنه عندما خرج الهضيبي وعبد القادر عودة وعبد الحكيم عابدين وغيرهم من المعتقلين بالسجن الحربي يوم 25 مارس 1954 كان من بين الذين زاروا المرشد لتهنئته خصومه الذين طردهم من الجماعة؛

وهم: صالح عشماوي ومحمد الغزالي وعبد الرحمن السندي وأحمد زكي وأحمد عادل كمال ومحمود الصباغ وقد ذكرت الصحف أنهم زاروه مهنئين بالعودة ومجددين للبيعة"

ومع استئناف الجماعة نشاطها استأنفت أيضا إعادة تنظيم جهازها السري ولكن فى ظروف ملائمة هذه المرة لأن عبد الرحمن السندي وجماعته كانوا قد دخلوا فى مصالحة مع الهضيبي وبالتالي كفوا لحد ما عن مضايقاتهم ليوسف طلعت وتشير الأدلة إلى أن يوسف طلعت استأنف إعادة تنظيم جهازه السري فى أوائل أبريل أى غداة الخروج من المعتقل!

وهذا ما ذكره إبراهيم الطيب رئيس مناطق القاهرة وأكبر معاوني يوسف طلعت فقد قال:

" الذى حدث أننا أخذنا فى دور الإعداد والتكوين من بعد مارس 1954 وظل هذا الإعداد من الناحية التنفيذية ومن ناحية تجميع الأفراد وإعدادهم الإعداد الثقافي والروحي " وحدد توقيت إعادة التنظيم بأنه كان فى " أوائل أبريل. وقد أكد يوسف طلعت هذا قائلا أن إعادة التنظيم كانت " بعد الإفراج على طول "

والسؤال المطروح:هل حل يوسف طلعت القديم وأقام تنظيما جديدا ؟. أن الإجابة على هذا السؤال يجب أن تشتمل على أمرين:

الأول: التشكيلات والثاني الأفراد.
وبالنسبة للتشكيلات فإن التشكيل القديم للتنظيم السري كان يقوم على أساس الخمسات أى المجموعات التى تتكون من خمسة أفراد يرأسها واحد وتتدرج فى شكل هرمي بحيث يكون رؤساء الخمسات مجموعة أعلي يرأسها واحد يكون بدوره عضوا فى مجموعة أعللا يرأسها واحد حتي تصل إلى رئاسة عبد الرحمن السندي .

وبمعني آخر وإذا تناولنا النظام من أعلي إلى أسفل فإن عبد الرحمن السندي كان على رأس التنظيم يليه رؤساء هم:أحمد زكي وأحمد عادل ومحمود الصباغ ويلي هؤلاء رؤساء مناطق يليهم رؤساء آخرون وهكذا حتي يصل إلى الخلية الأولي؛

وكانت الشعبة المهمة بها عدة جماعات كما كان معظم النظام فى القاهرة وكان هناك فصل بين رؤساء الشعب ورؤساء النظام السري بمعني أن رؤساء الشعب لم يكن لهم اتصال تنظيمي برؤساء الجهاز الموجودين فى شعبهم .

ويرجع الفضل فى تغيير هذا التشكيل إلى الضابط عبد الرءوف وهو أحد أعضاء تنظيم الضباط الأحرار الأوائل الذين فصلوا قبل 23 يوليو لإصراره على الولاء لجماعة الإخوان المسلمين؛

وكان عبد المنعم عبد الرؤوف قد تقلي محاكمة عسكرية كما ذكرنا طلب فيها الاستماع إلى شهادة محمد نجيب وعبد الناصر كهود دفاع وعندما رفض طلبه هرب من سجنه وتوجه إلى المركز العام للإخوان طالبا إخفاءه؛

وقد كلف إبراهيم الطيب بهذه المهمة فنقله إلى بيت أحمد عيد بشبرا حيث استقر عنده مدة طويلة ثم نقل إلى بيت هنداوي دوير فى إمبابة وانتقل بعد ذلك إلى بيت مصطفي الزرقاني فى إمبابة أيضا وفى تلك الأثناء كان يجتمع به يوسف طلعت وإبراهيم الطيب.

وفى فترة اختفاء عبد المنعم عبد الرؤوف وضع خطة التشكيل الجديد للجهاز السري على أساس أن ينقسم إلى سبعات بدلا من خمسات وكل سبعة منها يطلق عليها اسم مجموعة ويتكون من كل ثلاث مجموعات فصيلة يضاف إليها مجموعة خدمات فيصير مجموع الفصيلة ثمانية وعشرين فردا يضاف إليهم رئيس الفصيلة "رديفة" (وكيله) فيكون مجموع الفصيلة ثلاثين فردا .

وتتكون من هذه الفصائل " المنطقة" التي قد يمون بها فصيلة أو اثنان أو ثلاث ويكون رئيسها المباشر إذا كان فى المنطقة فصيلة واحد أو اثنان وهناك ضباط اتصال فنيون يتبعون رئاسة الجهاز السري ويكونون صلة بينها وبين رئيس المناطق وهو إبراهيم الطيب وبينه وبين رؤساء الفصائل .

وهذا بالإضافة إلى ضباط اتصال إداريين ويتكون من المناطق الأقسام القطرية الكبري فقد قسم القطر المصري إلى ثلاثة أقسام:القاهرة ويرأسها إبراهيم الطيب والأقاليم ويرأسها أحمد حسنين ثم الإسكندرية.

كان هذا التنظيم على نسق نظم الجيوش النظامية التى كانت تتكون من فصائل منها قائد وتتكون كل منها من مجموعات تتسلح بمختلف أنواع الأسلحة وقد قبله يوسف طلعت على الفور لأنه مع الرغبة فى فتح التنظيم وإزالة السرية التى كان يكفلها نظام الخمسات القديم وقد شرح يوسف طلعت هذه المسألة فقال:إن النظام القديم كان "واخذ شكل التزمت شكل السرية" .

وقد قال لى الأستاذ الهضيبي:

ما تزمتهاش أفتح العملية دي . فقابلني عبد المنعم عبد الرؤوف وعرض على نظام الفصائل فأنا رأيت أن هذا النظام يفتح الحكاية المقفولة يفتح العملية شوية والتزمت الموجود ينحل. بعد كدة قابلت إبراهيم الطيب وأحمد حسنين وقلت لهم الفكرة دى كويسة أننا نعمم هذا المعني ".

هذا التشكيل الجديد للنظام السري لم يلبث أن حدد مسألة الأفراد فحتي ذلك الحين كان هذا النظام مقصورا على أفراد التنظيم القدامي ولكن التشكيل الجديد فتح الباب لدخول أفراد جدد من أعضاء النظام العام وفى ذلك يقول يوسف طلعت: إنه عندما تحدث مع إبراهيم الطيب وأحمد حسنين فى الأخذ بالتشكيل الجديد قالا له:

" طيب دي تبقي على أد نظام الإخوان" أى فى نطاق أفراد النظام القائم ولكنه رد قائلا :" أبدأ موش لازم كل راجل مسلم وعنده استعداد للجهاد خلاص يخش جوة الفصائل دي "

ومعني ذلك أن النظام الجديد أخذ يتكون من أفراد النظام القديم ومن أفراد النظام العام وبطبيعة الحال فقد أختار يوسف طلعت من النظام القديم الأعضاء الذين كانوا على خلاف فقد اختار يوسف طلعت من النظام القديم الأعضاء الذين كانوا على خلاف مع عبد الرحمن السندي ومجموعته .

ولذلك حين سئل السيد حسين أبو سالم رئيس منطقة وسط القاهرة فى التنظيم الجديد ومن أعضاء التنظيم القديم عن أسباب اختياره رغم أنه من "أعضاء جهاز عبد الرحمن السندي" رد قائلا "أنا ما كنتش من أتباعه !.أنا كل أمر يصدر من عبد الرحمن السندي كنت لازم أناقشه وده كان سبب سوء التفاهم بيني وبين السندي "

ومعني هذا الكلام أن النظام القديم الذي أقامه عبد الرحمن السندي فى عهد الشيخ حسن البنا قد حل بالفعل وأقيم مكانه نظام جديد . وهذا ما أثار ثائرة أعضاء الجهاز السري على يوسف طلعت بعد التحسن الذي طرأ على العلاقات بين السندي والهضيبي بعد خروج الأخير ورفاقه من السجن الحربي

وهذا ما يرويه يوسف طلعت قائلا:

" الجماعة القدام كانوا بيعتقدوا ومنهم عبد الرحمن (السندي) أننا بنعمل على تسريح هذا النظام وكانت التهم تترامي علينا لدرجة أن واحد قال لى : أن نظام الفصائل ده معناه تسريح النظام وأفتكر أن واحد اسمه يحيي عبد الحليم حط صباغة فى عيني وقال أنتم جماعة عايزين تعملوها جمعية دفن موتي وقال:أنتم عايزين تسرحوا دعوة الإخوان ".

على كل حال فقد هب يوسف طلعت لإعادة بناء الجهاز السري على أساس التنظيم الجديد وأخذ يجند أفرادا من النظام القديم وأفرادا من النظام العام على حد سواء ويمكن للنماذج الآتية التى نرويها على السنة أصحابها أن ترسم لنا صورة كافية لهذه العملية الفريدة؛

فقد روي محمد عبد المعز وهو من أفراد الجهاز السري القديم وكان قد جنده أحمد عادل أيام السندي زارني فى البيت صديق يدعي صلاح العطار ومعه يوسف طلعت وقالا :إحنا عارفين أنك كنت مع أحمد عادل كمال وفيه ناس تانيين كمان ودول إحنا عاوزين نضمهم إلى النظام الجديد. فقلت لهم لما استشرهم .. وفعلا قلت (لزملائي) على الحكاية فقالوا لى: اتركنا شوية .

فتركتهم شوية وبعدين حدث حل الإخوان الأخير وبعد حل الإخوان حضر لى إبراهيم الطيب فى البيت و قال لى:إحنا كلمناك علشان تشتغل ثاني فى التنظيم الجديد أننا سنعمل على أسس سليمة ونحاول أن نتفادى كل الأخطاء .. وعلى هذا الأساس قلت له:حاضر حأقول للإخوان وبعدين اتصلت به وقلت له أن الإخوان وافقوا على أنهم يعملوا فى النظام الجديد على الأساس السليم "

كما روي حامد عبد الفتاح نويتو أنه حتي مارس 1954 كان عضوا عاديا فى جماعة وبعدين مصطفي الورداني نائب الشعبة أداني ميعاد أروح له البيت فلقيت حلمي وحسن عبد العظيم ويوسف السيد وجه بعد كدة حسن عبد المنعم .

وقال لنا مصطفي الورداني أن فيه نظام عندنا فى الإخوان ننقي من الإخوان العاديين إخوان نحطهم فى جماعات وندربهم على أسلحة ونخليهم لوقت الحاجة أخذنا ميعاد من حسن عبد المنعم ورحنا فى يوم معين عنده فى البيت وكنت أنا ويوسف وحسن عبد العظيم وحلمي عرفة واجتمعنا فقال:

قبل أى حاجة لازم نقوي روحنا المعنوية ونحفظ سورة آل عمران وتفسيرها ونأخذ سيرة ونخش فى البرنامج الروحي ده فى الأول ومشينا على كده أربع اجتماعات وبعدين انضم سامي الكومي وهو وكيل نيابة وعبد الحي وأحمد حجازي,قال:دول حيبقوا معاكم فى الجماعة "

كما روي حلمي عبد السلام هلال قصة تجنيده فى الجهاز السري فذكر أنه التحق بالجماعة قبل أربع سنوات من محاكمته وعندما صدر قرار الحل " قفلنا الشعبة وما بقاش فيه حاجة خالص ومن مدة شهر ونصف وكان يوم جمعة بعد ما صلينا الجمعة رجعت على البيت وأثناء نومي فى البيت جاني واحد اسمه صلاح الدين عباس خليل وهو طالب وقال لى إيه رأيك؟

عاوزين نعمل مجموعة فقلت له إيه المجموعة دي ؟ فقال لى:أنت حاتتدرب وتحفظ قرآن وتتدرب على السلاح . قلت:علشان إيه؟. قال علشان يقوم كفاح شعبي .

وبعد 15 يوم بعثوا لى للحضور فى بيت واحد اسممه عبد القادر سيد حنفي سيلمان ولقيت هناك صلاح وعلي نويتو وثلاثة أربعة .. وكانت مجموعتي مكونة من:حلمي عبد السلام وصلاح خليل ومحمد محمود الشقيري وصفوت مسلم وعبد القادر حنفي ومحمد رهوني ويوسف غنام

كما روي محمد على نصيري مناسبة تجنيده فى الجهاز السري فذكر أنه اشترك فى المظاهرات التى خرجت أيام طرد محمد نجيب ولما طلعنا إلى قصر النيل البوليس أطلق علينا الرصاص وقتل اثنين من زملائنا فقلنا أن هذه يبقى شئ خطير وثارت ثورة الجامعة فواحد صاحبي أسمه حسين عرفني بهنداوي دوير

وطلب مني أن أنضم إلى مجموعته قلت:

ما اقدرش لأني ما دخلتش امتحان الدور الأول لأني كنت مريض وبعيدن دخلت المجموعة قبل الدور الثاني " ثم ذكر أن مجموعته كانت تتكون من السيد عواد وأحمد الفيومي وعلى شاهين ويوسف عليان وطلعت دلوقت " وقد اختير محمد على نصيري بعد ذلك لاغتيال عبد الناصر كما سيرد فى حينه .

وقد روي محمود الحواتكي أنه دخل النظام السري عن طريق يوسف هارون بعد خروجه من الاعتقال فقد

" قابلني الأستاذ يوسف هارون رئيس منطقة الجيزة ودعاني لأن اشترك فى النظام الخاص بالجيزة وكنت أنا قد سمعت عن هذا النظام فى سنة 1948" ثم ذكر أن النظام فى الجيزة شكل بعد الاعتقال بحوالي شهرين " فقد حدثني يوسف هارون فى هذا الأمر واحنا فى مارس يبقي فى أوائل يونيه أو منتصف يونيه"

ومعني ذلك أن الاتصال لإعادة بناء التنظيم الجديد بدأ فى مارس عقب الإفراج وتكون فى الجيزة بعد شهرين وقد ذكر محمود الحواتكي أن النظام فى الجيزة " شكل بأن اختير الإخوان الذين يفهمون الإسلام كما نظن فهما سليما " وذكر أن من الشروط التى كانت واجبة فى العضو أن يكون " عاقلا غير متهور وأن يكون فوق 21 سنة وأن يكون مستعدا للجهاد فى القضايا العامة وقت أن تكون البلاد فى حاجة إليه ".

وقد روي صلاح الدين أبو الخير وهو مهندس معماري كيف دخل الجهاز السري فذكر أنه كان نقيب أسرة عادية فى الإخوان وفى يوم جاءه محمود الحواتكي وقال له إحنا حنكون نظام جديد وحنكون حذرين علشان ما نقعش فى الأخطاء القديمة فأيه رأيك ؟.

فقلت له: ما فيش مانع فملكني مجموعة وإداني أسماء سبعة وقال : دول تجتمع معاهم فى أى مكان . وربطني بهم علشان نعمل مجموعة وكان البرنامج بتاعنا فى النظام له ناحيتان: ناحية تربية روحية ودراسات إسلامية وناحية عسكرية وهى تدريب على التشكيلات العسكرية والأسلحة لمن لم يتدرب وكان معظمنا مدرب فى الحرس الوطني"

كان أهم ما فى التنظيم الجديد إلى جانب تكوينه من أعضاء قدامي وأعضاء عاديين من النظام العام هو الربط بين النظام الخاص والنظام العام.

فحتي ذلك الحين كان هناك فصل تام بين رؤساء الجهاز العلني ورؤساء الجهاز السري بمعني أن رؤساء النظام العام لم يكونوا يعلمون شيئا عن النظام الخاص أو عن رؤسائه فى مناطقهم ولكن فى التنظيم الجديد أصبح رئيس المنطقة هو رئس جهازها السري؛

ومعني ذلك أن الجماعة قد تحولت إلى جهاز سري أو أن العمل السري قد أصبح جزءا من نشاط الجماعة العلني وهذا التطور يجعل الجماعة أخطر بكثير مما كانت أثناء حياة الشيخ حسن البنا حيث لم يعد هناك فصل بين العمل السري والعمل العلني واتسعت اختصاصات رئيس الجهاز السري لتشمل رؤساء الجهاز العلني .

وهذا ما تكشف أثناء محاكمات الإخوان فى حادثة المنشية فعندما سئل محمود الحواتكي عما إذا كان يعرف أن هنداوي دوير رئيس منطقة إمبابة هو رئيس جهازها السري أجاب قائلا :" طبعا ! رئيس المنطقة هو رئيس الجهاز السري " وقد سأله جمال سالم قائلا :" هل هذه قاعدة أتوماتيكية؟" فرد بالإيجاب قائلا :" نعم" .

وعندما سئل محمد عبد المعز عن وظيفته فى جماعة الإخوان قال:

قائم بأعمال رئيس منطقة شرق القاهرة .

فين؟ فى النظام السري وإلا فى النظام العلني ؟

فى النظام السري والنظام العلني ".

وقد عبر عبد العزيز أحمد وهو من الأعضاء القدامي ورئيس منطقة الفسطاط عن هذه النقطة تعبيرا بليغا فعندما سأله جمال سالم عما إذا كان " المسئول عن إخوان المنطقة يعتبر هو المسئول عن الجهاز ؟" أجاب قائلا:" أيوه لأن اللي ما ينفعش لرياسة الجهاز ما ينفعش لرياسة المنطقة !".

وهذا الكلام يظهر حقيقة أخري لا تقل أهمية هى أن إعادة بناء النظام الخاص قد ترتب عليها إعادة بناء النظام العام بحيث يتطابق مع النظام الخاص .

كما ترتب عليها أيضا تغيير قيادات النظام العام إذ استبعدت القيادات التى لا تصلح لرئاسة الجهاز السري وحلت محلها قيادات صالحة لرئاسة النظامين ففي منطقة إمبابة على سبيل المثال كان رئيسها الدكتور حسن الباشا وهو مدرس بكلية الآداب وكان لا يعلم شيئا عن النظام السري وكان المنطقة هنداوي دوير فأصبح هو رئيس الجهاز السري...

واستقال الدكتور حسن الباشا وأصبح هنداوي دوير رئيس المنطقة وفى منطقة الفسطاط عين لها عبد العزيز أحمد ويقول:" لما كلفت برياسة على صديق وأخري برياسة فتحي البوز وأن هذه الفصائل هى التي تعتبر هذا النظام " وهكذا .

ووفقنا للتنظيم الجديد للجهاز السري فإن القاهرة قد انقسمت إلى عشر مناطق يرأسها إبراهيم الطيب وهو محام يبلغ من العمر 32 سنة:

  1. منطقة وسط القاهرة. وقد عين لها السيد حسين أبو سالم وهو مأمور ضرائب يبلغ من العمر 30 سنة وكان رديفه (وكيله) فريد عوض وكانت هذه المنطقة تشتمل على ثماني شعب بولاق والتوفيقية وعابدين ودرب سعادة والجمالية والدراسة والموسكي والأزبكية وكان بها فصيلة من ثلاث مجموعات من أفرادها:عثمان عبد الله وإسماعيل عبد المعطي وصالح عطا ومحي محمد إبراهيم ومحمد محمود أحمد وفؤاد حجاج وصالح الحديدي ونجدي صالح وعلى قناوي ورفعت حسين .
  2. منطقة الفسطاط وكان يطلق عليها اسم منطقة الروضة قبل ضم حلوان إليها وقد عين لها عبد العزيز أحمد يحمل دبلوم الأقسام الصناعية السيارات وعمره 36 سنة وكانت تشتمل على شعب:حلوان وطره والمعادي ومصر القديمة وجزيرة الروضة وكان بها فصيلتان إحداهما برياسة على صديق والأخري برياسة فتحي البوز وكل فصيلة تتكون من أربع مجموعات يصل عددها إلى 30 عضوا .
  3. منطقة الجيزة وقد عين رئيسا لها يوسف هارون ومن بعده محمود الحواتكي ثم إسماعيل محمود يوسف وكان بها فصيلة يرأسها محمود الحواتكي مكونة من أربع مجموعات يرأسها صلاح أبو الخير وتوفيق شلبي وعبد الفتاح موسي والرابعة لم يكن رئيسها ثابتا.
  4. منطقة شرق القاهرة . وقد عين لها عبد المعز وهو معاون فني بوزارة الصحة متخرج من مدرسة الصناعات الزخرفية وعمره 32 سنة وكان بها ثلاث فصائل برئاسة كل من وائل شاهين وعبد المنعم إبراهيم وعبد الرحمن البنان وكانت الفصيلة الأخيرة مكونة من شعب سراي القبة وحمامات القبة ومصر الجديدة.
  5. منطقة جنوب القاهرة ويرأسها كمال السنانيري وكان السنانيري ممن قادوا ماهرات 28 فبراير 1954 .
  6. منطقة شمال القاهرة ويرأسها محمد شديد .
  7. منطقة المرج ويرأسها محمود يونس .
  8. منطقة عرب جهينة يراسها محمود يونس أيضا وكان قائد الفصيلة السيد عبد الله الريس وهو طالب بكلية الآداب ورديفه محمد الديب وكان قائد المجموعة الأولي سيد ناصر وقائد الثانية محمد سليمان الهضيبي وقائد الثالثة أحمد الصاقوري وقائد مجموعة الخدمات إمام حجر . وقد استبدل بسيد ناصر فيها بعد أمين درويش .
  9. منطقة بين السرايات ويراسها على الفيومي .
  10. منطقة إمبابة. وكان على رأسها هنداوي دوير. وقد كون هنداوى فصيلة مكونة من ثلاث مجموعات ومجموعة مخابرات وكانت المجموعة الأولي مجموعة وراق العرب ويرأسها صلاح عباس ومعه عبد القادر سليمان وحلمي عبد السلام وعبد الحميد البنا (عامل) ومحمود الفوتيري ويوسف همام ومحمد رءوف .

أما المجموعة الثانية فيرأسها علي نويتو وتتكون منه ومن مصطفي الورداني وعبد رب النبي عباس وسعد حجاج وعبد المنعم حفني ومحمد نجيب راغب وكانت المجموعة الثالثة مكونة من محمود الصياد وعبد العزيز شميس (خردواتي) وعبد المنصف البحيري.

وأما المجموعة المخابرات فكانت مكونة من يحيي سعيد وعبد القادر سليمان ومحمود عبد اللطيف ومحمد زكي وقد ذكر على نوتيو وهو موظف بالمساحة أنه كانت هناك مجموعة أخري على رأسها حسن عبد المنعم ومعه يوسف السيد وحامد نوتيو (مجلد) وحلمي عرفة (موظف) وعبد القادر سليمان (موظف).

ويتضح من كلام هنداوي دوير رئيس منطقة إمبابة أن هذا الجهاز كان مجرد تشكيل كونه مؤخرا ولم تتح له الفرصة للتدريب وقد ذكر أن السبب فى ذلك يرجع إلى كونه مؤخرا ولم تتح له الفرصة للتدريب وقد ذكر ان السبب فى ذلك يرجع إلى أنه كان لابد أولا من اختيار صلاحية الأفراد؛

"فإذا أثبت الشخص أن عنده استعداد نديله تدريبات عسكرية وبعد هذا إذا ثبتت صلاحيته نفهمه أنه فى النظام وبعدين نديله تدريبات عملية وهذه المراحل كلها لم تطبق فى إمبابة, وكل ما طبق أننا شكلناهم وعملناهم جماعات"

وعلى ذلك فإن المجموعة العاملة بالفعل كانت تتكون منه ومن محمود عبد اللطيف فقط بدليل يذكره وهو أنه حين تقرر اختيار واحد آخر ليقوم بنفس عمل محمود عبد اللطيف تم اختيار محمد على نصيري وهو من خارج المنطقة .

ونلاحظ فى هذا الصدد أن محمود عبد اللطيف الذى قام بمحاولة اغتيال عبد الناصر قد أضاف إلى ما ذكره هنداوي دوير من أعضاء مجموعته عضوا ثالثا اسمه سعد حجاج.

هذا فيما يختص بتنظيم القاهرة أما الأقاليم فكان يرأسها أحمد حسنين وقد عرف من أقسامها أقاليم الشرقية وشرق منطقة القنال والغربية والمنوفية والبحيرة وبني سويف وأسيوط والمنيا .

وكانت هناك فصيلتان فى كل من الإسماعيلية ،السويس ،والشرقية ،والغربية والمنوفية، وبني سويف. وكانت مجموعتان فى أسيوط ومجموعة فى كل من الفيوم والمنيا.

على كل حال فإن هذا الجمع بين رئاسة النظام العلني ورئاسة النظام السري قد أتاح الفرصة لرئيس التنظيمين لتسخير إمكانيات النظام العلني فى خدمة النظام السري . فوفقا لما ذكره إبراهيم الطيب رئيس مناطق القاهرة , كان كل رئيس منطقة يتبعه عدد من نواب الشعب يبلغ تسعة نواب يجتمعون معا ولهم ضابط اتصال بينهم وبين القاهرة .

وكانت مهمة نواب الشعب إعطاء معلومات لرئيس المنطقة وترشيح أسماء الصف الأول فى الشعب للنظام الخاص . وفى ذلك ذكر محمد عبد المعز رئيس منطقة شرق القاهرة أنه بعد إسناد المنطقة إليه طلبوا منا تكوين الصف الأول وجمع معلومات بعدد أفراده فى المنطقة .

فجمع الصف الأول وبعد ذلك قالوا لنا: عاوزين نكون الجماعة دول فى مجموعات من سبعات وكل أربع سبعات تكون فصيلة فقمنا بعمل هذا التنظيم وجمعنا المعلومات المطلوبة من نواب الشعب وكونا ثلاث فصائل فى منطقة شرق القاهرة .

وقد وضع نظام اتصال بين يوسف طلعت وإبراهيم الطيب و وبين إبراهيم الطيب ورؤساء الفصائل عن طريق ضباط اتصال فنيين يتبعون يوسف طلعت منهم : إسماعيل عارف ومهدي عاكف وكان هناك ضباط اتصال إداريون منهم:محمد عبد المعز وحسين شعبان.ويفهم مما رواه إسماعيل عارف أنه كان مسئولا عن الاتصال بأربع فصائل فقط .

فقد ذكر أن يوسف طلعت أخبره بأنه سيكون حلقة اتصال بينه وبين إبراهيم الطيب ثم قام بتوصيله بإبراهيم الطيب الذى صله بدوره بأربعة رؤساء فصائل لتوصيل الرسائل إليهم وتلقي رسائلهم .

أما هؤلاء الأربعة فهم: محمد يوسف زرئيس فصيلة السيدة زينب وفصيلتين أخرتين وعلي نويتو رئيس فصيلة إمبابة وفصيلتين أخرتين ومحمد عثمان عبد الله المسئول عن وسط القاهرة وعبد الرءوف (لم يذكر بقية اسمه) وكان هناك اتصال دوري تم كل أسبوع ومعني هذا الكلام أن ضباط الاتصال كانوا مكلفين بالاتصال بفصائل معينة .

وقد أقيم قسم قائمبذاته للمخابرات يرأسها صلاح عبد المعطي ويتبع يوسف طلعت مباشرة وكانت مراقبة أعضاء الجهاز وتقديم تقارير عنهم ليوسف طلعت تشتمل على زياراتهم واجتماعاتهم وملاحظة ما يطرأ على حالاتهم النفسية .

وقد ذكر صلاح الدين أبو الخير (مهندس معماري) ورئيس مجموعة فى فصيلة الجيزة أن هذه المخابرات كانت تتجسس على الشيوعيين وقال أنه يعرف أن الإخوان " ضبطوا خلايا من مدة " وقد سأله الدفاع قائلا :" هل كل الإخوان يحاربون الشيوعية؟" فأجابه قائلا :" طبعا لأنها ضد مصلحة البلد".

تسليح الفصائل

كانت الخطة الأساسية أن تزود مجموعات الفصائل بسلاح يكفي لأدائها المهام الموكولة إليها وهذا السلاح وفقا لرواية يوسف طلعت فى حدود :" مجموعة برن وثلاثة بنادق واستن. على أن محمد عبد المعز الذي قام بعمل رئيس منطقة شرق القارة ذكر أن إبراهيم الطيب أبلغه أن تسليح المجموعة سيتكون من:مسدس لرئيس المجموعة وثلاث بنادق ومدفعين استن.

وقد ذكر عبد العزيز أحمد رئيس منطقة الفسطاط أن تسليح المجموعة كان يتكون من 4 بنادق ومدفعين أستن ومدفع برن وقنبلتين لكل فرد وهذا التسليح يتفق مع عدد أفراد المجموعة فيحمل أربعة منهم بنادق ويحمل اثنان مدفعين "استن" ويحمل السابع مدفع برن؛

هذا بالإضافة إلى قنبلتين لكل فرد وكان تسليم السلاح يتم مباشرة بين أمين مخازن السلاح وقادة الفصائل وكان السيد عبد الله الريس وهو طالب بالآداب هو أمين مخازن السلاح وقد روي قصة تكليفه بهذه المهمة من قبل إبراهيم الطيب رئيس مناطق القاهرة فذكر أنه كلمه

" بأن أجرد الأسلحة الموجودة لدي الإخوان . فجردت الأسلحة الموجودة فى عرب جهينة وكفر حكيم والدقي وكلفت بنقل أسلحة إلى حلوان والمعادي فنقلتها فعلا"

ويلاحظ أن حلوان والمعادي كانت تتبعان منطقة الفسطاط ولذلك يذكر عبد العزيز أحمد رئيس المنطقة أنه شاهد السيد الريس يتصل بعلى صديق رئيس إحدي الفصليتين بالمنطقة و"ويتحدث معه فى الأسلحة" وكيفية إحضارها.

وكانت التعليمات بتوزيع السلاح تصدر من إبراهيم الطيب إلى السيد عبد الله الريس عن طريق ضباط الإتصال إسماعيل عارف . وهذا ما كشفه الأخير فقد ذكر أن إبراهيم الطيب " كان يوصلي أوراق أوصلها للسيد الريس علشان يوصل أسلحة إلى جهات معينة بالتعاون مع فؤاد مكاوي ".

وقال إن البيانات التي كانت فى الأوراق كانت تقضي بإرسال أسلحة إلى شبرا وحلوان ومصر القديمة . وقد وصل لشبرا ومصر القديمة 16 بندقية وعدد من القنابل وربما جلجنات وكانت مئولية السيد عبد الله الريس تتجاوز عملية توزيع السلاح إلى التفتيش عليه والتحقيق من صلاحيته للإستعمال .

ومع ذلك ففيما يبدو أن مسئولية السيد عبد الله الريس عن توزيع السلاح كانت قاصرة على بعض المناطق دون الأخري فقد ذكر محمود الحواتكي رئيس فصيلة الجيزة أن المسئول الأول والأخير عن السلاح كان محمد مهدي عاكف (وهو ضابط اتصال فني يتبع يوسف طلعت كما مر بنا)

وأن المفروض ان يكون الاتصال به وحده كما ذكر أن الاتصال بالسيد الريس كان محظورا وقال أن محمد مهدي عاكف كان يزور بعض الجماعات فى الجيزة وفى أماكن أخري .

وكان مخزن السلاح الرئيس الذي تجمع فيه الأسلحة الخاصة بمنطقة القاهرة وتوزع منه على مختلف الفصائل هو مخزن عرب جهينة وكان مقره مقابر أسرة المرشد حسن الهضيبي وكان أمين هذا المخزن هو إسماعيل الهضيبي ابن عم الهضيبي.

على أنه كان من الضروري أن يكون لكل منطقة مخزنها الخاص الذي كان غالبا ما يكون شقة فى أحد المباني ففي إمبابة حيث كان هنداوي دوير رئيسا للمنطقة كان هذا المخزن عبارة عن شقة كما ذكر علي نويتو؛

وقد ذكر أن هنداوي أتي له فى إحدي المرات بشيلة فيها قوالب ت.ن.ت وقنابل فاضية ولفة ثانية لا أعرف فيها إيه وهذه أول مرة وثاني مرة بعث شنطة وقال لى:" شيلها فى المخزن الذي كان عبارة عن شقة ساكن فيها عبد الحميد البنا "

وقد شرح السيد عبد الله الريس المسئول عن توزيع الأسلحة كيف كان يتم نقلها وتوزيعها على الفصائل فقال:

نقلت مرتين اثنين: المرة الأولي نقلت 16 بندقية فى أربع لفات كل بندقية فيها أربعة وعشرون مشعل مولوتوف وكل عشرة فى ربطة علشان نوديهم لفصيلة مصر القديمة وفصيلة حلوان وصلنا بعربة وكنا قد قمنا من عرب جهينة ومعنا محمد فؤاد مكاوي والسواق وكان منتظرنا واحد عند مصر القديمة اسمه محمود فقلت له:أنا حاقابل على صديق وبعدين رحنا وديناهم عند واحد اسمه السعدني فى حلوان.
وفى المرة الثانية قلت لمحمد فؤاد مكاوي تستني عند صديق فى مصر القديمة علشان تودي السلاح لعلي صديق فانتظرني وبعدين رحنا المعادي وطبيعي الأنواع كلها أنا لا أعرفها بالضبط وإنما على صديق طلع صندوق ذخيرة 303 وأخذ قنبلتين".

وكان التديب يتم فى بداية الأمر فى معسكر كرداسة وكان يقع على حدود الزراعة وجبل كرداسة وقد ذكر محمد عبد المعز رئيس منطقة شرق القاهرة أنه زار هذا المعسكر وعاينه هو وإبراهيم الطيب وكان يتولي التدريب فيه واحد اسمه الخضري وقد هاجم البوليس بعد ذك معسكر كرداسة؛

ولكنه لم يتمكن من القبض على أحد على أه يبدو أنه كان لكل منطقة أو عدة مناطق مدرب مسئول فقد ذكر محمود الحواتكي قائد فصيلة الجيزة أن محمد مهدي عاكف كان هو المسئول عن التدريب وقد ذكر يحيي سعيد أن عبد المنعم عبد الرؤوف قد تولي التدريب أيضا فى معسكر كرداسة قبل مهاجمته .

وتشير الأدلة إلى أن عبد المنعم عبد الرؤوف لم يكن يكتفي بالتدريب الفعلي بل كان يشرح لرؤساء الفصائل التكتيك العسكري فقد روي يحيي سعيد وكان عضوا فى منطقة إمبابة التي كان يختفي فيها عبد المنعم عبد الرؤوف أنه ذهب فى إحدي المرات فى رفقة علي نويتو إلى منزل مصطفي الورداني بالمنيرة وكان غائبا فى بلدته فوجدت شخصا متوسطا حليقا وقاعد يشرح على ترابيزة بعلب كبريت مناورات حربية وبيدرس فيها .

فقال لى علي نويتو هذا عبد المنعم عبد الرؤوف وقعدت معهم أكثر من ساعة وكان بيشرحها لأربعة أعرف منهم حسن عبد المنعم وعلي نويتو واثنين تانيين موش متذكر حقيقة من هم ".

وكانت مشكلة توفير السلاح اللازم للجهاز السري قد طرحت على بشاط البحث بين عبد المنعم عبد الرؤوف ويوسف طلعت عندما تقرر الأخذ بنظام "الفصائل" التى تتكون من سبعات فيذكر يوسف طلعت أنه قال لعبد المنعم عبد الرؤوف:" أجيب لك التسليح ه منين " وقال " التسليح لازم يكون كده"!. وقعدنا نراجع كشوف التسليح الموجودة عند الإخوان وهل التشكيل اللي عملناه ينفعه التسليح الموجود ويكفيه .

لقيناه ما يكفيش قال:" لازم تسعي لتسليح هذه المجموعات".

ويقول يوسف طلعت أنه تم شراء سلاح عن طريق الاكتتابات وجمع الأموال وضرب بعض الأمثلة ففي القاهرة عمل إبراهيم الطيب اكتتابا جمع منه بعض الأموال التي اشتري بها 18 مدفع برن وفى الإسماعيلية جمع يوسف طلعت بعض الأموال اشتري بها خمسة مدافع أستن وكذلك فقد صدرت أوامر لبعض المناطق بإعداد الزجاجات الفارغة لتعبئتها كقنابل مولوتوف.

وقد قدر محمد خميس حميدة عدد أفراد الجهاز السري عند تولي يوسف طلعت رئاسته بأنه كان " فى حدود ألف أو ألفين "... وقال:فى تقديري أن اشلبان الذين دربوا على السلاح فى حدود ألفين ولا يزيدون على هذا وهذا هو العدد الذى أعلمه وأنا أتكلم عن التقدير العام وكانت خطة يوسف طلعت الارتفاع بهذا العدد إلى عشرة آلاف كما ذكرنا .

وقد ذكر إبراهيم الطيب رئيس مناطق القاهرة ومساعد يوسف طلعت أنه علم من الأخير أن هناك قوات للإخوان موجودة فى إقليم الشرقية وشرق منطقة القنال وأنها مستعدة للقيام بحرب عصابات ضد الإنجليز فيما لو فكروا فى التدخل أثناء الاشتباك بين الإخوان والحكومة؛

وقال إن خطة عرقلة التدخل كانت تقوم على القيام بحرب عصابات ونسف طرق المواصلات والمنشآت التى يحتلونها وتقطيع إمدادتهم وعندما تشكك جمال سالم فى قدرة الإخوان على ذلك

ذكره إبراهيم الطيب بمساعدة الإخوان للثورة عند قيامها قائلا:

" بمجرد ما قامت الثورة كان فيه تقديم لقوات الإنجليز ولذلك الإخوان تقدموا ليكونوا تحت تصرف الثورة .

المجلس الأعلي للجهاد

والسؤال الآن: من كان المسئول الأعلي عن الجهاز السري هل كان المسئول الأعلي هو الهضيبي كما كان الحال أيام البنا أم كان ما أسماه يوسف طلعت فى ذلك الحين المجلس الأعلي للجهاد؟.

إن الإجابة على هذا السؤال ليست سهلة كما تبدو ويرجع السبب فى ذلك إلى تضارب الآراء فيها إلى حد كبير جعل منها أشبه بلغز من الألغاز؟.

وكان يوسف طلعت هو الذي أثار هذه المسألة حين سئل عمن كان يدير شئون الجهاز وممن كان يتلقي أوامره ولمن كان يتبع؟ فقد ذكر أنه أبعد أن اختير لرئاسة الجهاز دعاه الشيخ محمد فرغلي إلى بيته للقاء لجنة مكونة منه أى من يوسف طلعت ومن الشيخ محمد فرغلي إلى بيته للقاء لجنة مكونة منه أى من يوسف طلعت ومن الشيخ محمد فرغلي والأستاذ محمود عبده وأبو المكارم عبد الحي وصلاح شادي

وذكر أن الشيخ محمد فرغلي قال فى هذا الاجتماع:

" أننا نعتبر اللجنة العليا للجهاد فى دعوة الإخوان وهذه اللجنة هي التي تنسق قوي الإخوان "

واستطرد قائلا انه عقد هذا الاجتماع الأول حتي "يقول كل واحد اللى عنده".

وكان من رأى الشيخ محمد فرغلي أنه يجب ألا يقتصر عمل اللجنة على مصر و وإنما يجب أن تمتد أعمال الجهاد إلى أى بلد آخر ." وكانت أيامها حكاية مكراكش زادت شوية ".

ثم قال يوسف طلعت أن هذه اللجنة " كانت معمولة علشان آخر الأوامر منها " وحدد الوقت الذي تشكلت فيه هذه اللجنة بأنه كان فى أواخر مارس أوائل أبريل 1954 أى بعد الإفراج عن الإخوان بعد الحل الأخير .

وقد أيد إبراهيم طلعت مساعد يوسف طلعت ورئيس مناطق القاهرة وجود هذا المجلس فقد ذكر أنه كان للجهاز السري مجلس أعلى مكون من يوسف طلعت وصلاح شادي والشيخ محمد فرغلي والدكتور محمد خميس حميدة؛

وأن هذا المجلس كان يخضع مباشرة للمرشد العام ويتعاون معه فى إدارة الجهاز وقال إن هذا المجلس كان يتلقي الخطط العامة للعمل من المرشد فإذا استقر على خطة لابد موافقة المرشد على تنفيذها ثم ذكر أن هذا المجلس كان مستقلا تمام الاستقلال عن مكتب الإرشاد .

كذلك تحدث محمود عبده عن اجتماع دعاه إليه الشيخ فرغلي بمنزله بعمارة وهبة فى أغسطس وكان معه يوسف طلعت وأبو المكارم وصلاح شادي. على أن محمد فرغلي أنكر مسألة المجلس الأعلي للجهاد إنكارا قاطعا .

فحين تحدث عن النظام السري أوضح أن التشكيلات الخاصة بالبوليس والجيش والمدنيين كانت تتبع المرشد رأسا وأن رئيس كل تشكيل كان يتصل بالمرشد رأسا ويتبعه رأسا ولا يخضع لأى هيئة أخري من هيئات الجماعة وعندما سئل عما إذا لم يكن هناك بين رؤساء هذه التشكيلات وهم الصاغ صلاح شادي وأبو المكارم عبد الحي يوسف طلعت مجلس أعلى أو لجنة عليا؟ أجاب:" هؤلاء الثلاثة هم المسئولون عن الجهاز, ويعتبرون لجنة عليا ويرأسهم المرشد ".

وعندما ووجه بكلام إبراهيم الطيب بأنه كان مع الدكتور محمد خميس حميدة وصلاح شادي ..الخ . أعضاء فى اللجنة العليا للجهاز السري؟

قال بصورة قاطعة :" هذا غير صحيح فأنا لست عضوا فى هذه اللجنة ولا أعرف أن هناك لجنة عليا للجهاز السري أو النظام ألا من ذكرت" وقد سأله المدعي :"ولماذا يقول إبراهيم الطيب هذا القول؟ وما اذلي دعاه إلى أن يذكره ؟"

فرد قائلا :" لا أدري ما الذي يدعوه إلى هذا الإدعاء . وأنا أقول أن هذا كذب وغير صحيح وأقطع بذلك فيما يختص بنفسي "!

كذلك أنكر محمد خميس حميدة عضويته بالمجلس الأعلي للجهاد فقد سأله جمال سالم:

قرر إبراهيم الطيب أن هناك رئاسة عليا لنظام الجهاز السري , زى مجلس إدارة الشركات . منم يكونون مجلس إدارة الشركة ؟..
محمد خميس حميدة: الذي أعرفه هو يوسف طلعت . وهو يتصل مباشرة بالمرشد .فإذا كان المرشد قد عمل مجلسا فيكون هذا خاصا بالمرشد والذي أعلمه أن صلاح شادي ويوسف طلعت يتصلون مباشرة بالمرشد .
جمال سالم: قرر إبراهيم الطيب فى اعترافاته أن اللجنة العليا التي تترأس الجهاز السري مكونة من الاثنين ومن الشيخ فرغلي وسيادتك خميس حميدة.
محمد خميس حميدة: الذي أقوله عن نفسي أنى لست مسئولا لا عضوا أعلى ولا عضوا أصغر فى هذه التشكيلة وأشهد وأعترف بأنه ليس لى اتصالا بهذه اللجنة العليا و اللجنة غير العليا".
وفى موضع آخر أنكر الدكتور محمد خميس حميدة وجود مجلس أعلي للإشراف على النظام قائلا :
" ليس للنظام مجلس أعلي إنما هو يوسف طلعت فى نظامه وصلاح شادي فى نظامه كل واحد يتبع حسن الهضيبي مباشرة ".

ويتضح من ذلك أنه فى حين يعترف محمد فرغلي بوجود مجلس أعلي أو لجنة عليا للإشراف على الجهاز مع إنكار عضويته فإن محمد خميس حميدة ينكر وجود المجلس الأعلي أو اللجنة العليا أصلا ويقرر أن اتصال رؤساء الفروع الثلاثة للتنظيم السري كان بالمرشد بشكل مباشر .

وإزاء هذا الخلاف فإن شهادة حسن الهضيبي تعد ذات أهمية كبيرة . فقد ذكر أنه عندما اقر مكتب الإرشاد إقصاء عبد الرحمن السندي عينا ثلاثة من الإخوان علشان يبقوا متصلين بالنظام .

ووجه الصلة بينهم يعني اللي يتصل بهم عن طريق الشيخ محمد فرغلي. وأن الدكتور حسين كمال الدين لأن اللجنة مكونة من حسين كمال الدين وكمال خليفة والشيخ محمد فرغلي علشان بيقوا يلاحظوا هذه المسألة والشيخ محمد فرغلي عضو فى مكتب الإرشاد ويتصل بهم .

كما أني تركت العمل فيه للدكتور محمد خميس حميدة وترجمة هذا الكلام أنه تعينت لجنة من الدكتور حسين كمال الدين وكمال خليفة ومحمد فرغلي للإتصال بالنظام وكان ضباط الاتصال بين اللجنة والنظام هو الشيخ محمد فرغلي باعتباره عضو فى مكتب الإرشاد وكان محمد خميس حميدة مفوضا فى إدارة شئون الجهاز .

وفى موضع آخر سئل بواسطة رئيس النيابة:

  • هل حددتم أمام من يكون المسئول (يوسف طلعت) عن التنفيذ وكيفيته؟.
الهضيبي يوسف طلعت عين بقاله سنة وكسور ولم تحدث أى حادثة !.
  • رئيس النيابة وكان مسئول أمام مين ؟.
الهضيبي خميس وفرغلي .
  • رئيس النيابة بس ؟.
الهضيبي ويمكن أنا مش فاكر يمكن حسين كمال الدين .
  • رئيس النيابة فرغلي وخميس معا قررا أن المسئول الأول والأخير عن الجهاز السري هو المرشد العام
الهضيبي:قانونا كده صح ولكن عملا هم كانوا بيشوفوا كل حاجة "

وفى موضع ثالث بواسطة جمال سالم :

  • هل اطلعتم على الجهاز السري وتفاصيله؟
الهضيبي:ده موكول لخميس يشوفه هو وفرغلي .
الهضيبي:مسئول قانونا ولكن فعلا هم المسئولين .
  • جمال سالم:هل المسئول قانونا يزاول حقه القانوني أم لا ؟
الهضيبي:أنا لم أزاوله . وأنا قلت لك أنه صعب على أن أباشر جماعة الإخوان .

هذا الكلام للمرشد العام حسن الهضيبي يؤكد مسئولية الدكتور محمد خميس حميدة والشيخ محمد فرغلي عن الجهاز السري ولكنه لا يشير أية إشارة إلى المجلس الأعلي للجهاد بالصورة التى رواها يوسف طلعت وإبراهيم الطيب ومحمود عبده؛

وإنما يشير إلى لجنة للإتصال بالنظام عن طريق محمد فرغلي مع تفويض محمد خميس حميدة فى إدارة الجهاز ومعني هذا الكلام أن محمد فرغلي ومحمد خميس حميدة كانا مسئولين عن النظام بهذه الصفة وليس بوصفهما عضوين فى مجلس الجهاد الأعلي وأن الهضيبي لم يعين مجلسا أعلي للجهاد بالشكل الذي تحدث عنه يوسف طلعت ومحمود عبده وإبراهيم الطيب.

وإذا كان الأمر كذلك فهل كان مجلس الجهاد الأعلي من اخلاق الثلاثة ولا أساس له من الحقيقة؟. فى الواقع ان الأمر ليس كذلك وإنما كان مجلس لاجهاد الأعلي موجودا بالفعل ولكن الذي أنشه لم يكن الهضيبي؛

وإنما محمد فرغلي ومحمد خميس حميدة المسئولان عن النظام وبالتالي لم يكن له صفة رسمية بمعني أنه لم يكن فى تنظيم الجهاز السري لأن الذى يملك قانونا إنشاء مثل هذا المجلس هو الهضيبي الرئيس الأعلي للنظام الخاص؛

وعلى ذلك فإن إنكار محمد فرغلي ومحمد خميس حميدة كان منصبا على الشكل القانوني للمجلس بينما كان اعتراف يوسف طلعت وإبراهيم الطيب ومحمود عبده منصبا على الواقع الفعلي أما الهضيبي فإن إنكاره كان صحيحا لأنه لم يعين مجلسا بهذا الإسم ولم يكن التنظيم يحوي مجلسا بهذا الإسم .

وفى الواقع أن محمد فرغلي ومحمد خميس حميدة كان لابد أن يكون لهما دور فى الجهاز السري فقد كانا عضوين فى اللجنة القديمة التى كانت تشرف على النظام الخاص أيام عبد الرحمن السندي والتي كانت تتكون من:الشيخ سيد سابق ،والشيخ محمد فرغلي والدكتور محمد خميس حميدة ومحمود الصباغ وأحمد عادل ،وعبد الرحمن السندي . وهي التى كانت "تحل وتربط فى هذا النظام وكانت تتحك فيه " كما يقول يوسف طلعت.

وقد كان للدكتور محمد خميس حميدة دور فى إقصاء عبد الرحمن السندي عن التنظيم كما سبق أن ذكرنا حين نشب الخلاف بينه وبين الهضيبي قبل الثورة وكون الهضيبي لجنة من محمد خميس حميدة وعبد العزيز كامل والدكتور حسين كمال الدين لدراسة المشكلة فقررت تعيين حلمي عبد الرحمن رئيس للجهاز بدلا من عبد الرحمن السندي .

كما لعب محمد فرغلي دورا آخر لا يقل أهمية فى طرد عبد الرحمن السندي كلية من الجماعة بأسرها بعد مقتل سيد فايز . وقد كشف الهضيبي عن هذا الدور فذكر أن الشيخ محمد فرغلي عرض على مكتب مسألة إقصاء عبد الرحمن السندي من الجماعة؛

بجميع الظروف التي أحاطت بها وأفهمه أنه هو الذى ارتكب الحوادث فى الأول وأنه ما دام موجود فى الجماعة فإن اتصاله بالإخوان حتي ولو تنحي ظاهريا فإنه ما يديناش اطمئنان كافي على أننا ننفذ الخطة اللي إحنا عايزينها وبناء على ذلك أقر الإرشاد إقصاء عبد الرحمن السندي.

نحن إذن أمام عضوين غير عاديين من أعضاء الجماعة يملكان نفوذا وسيطرة فى النظام الخاص وفى النظام العام على السواء وقد أشرنا إلى تعيين يوسف طلعت رئيسا للجهاز السري وقلنا أنه لم يتم إلا بعد استشارتهما وموافقتهما باعترافهما وبإعتراف الهضيبي ولذلك فقد كان أمرا طبيعيا للغاية أن يكون لهما دور قيادي فى التنظيم السري الجديد برئاسة يوسف طلعت .

وهذا ما هب الشيخ محمد فرغلي للقيام به وممارسته بعد خروج الجماعة من السجن الحربي فى آخر مارس 1954 فقد روي يوسف طلعت كما ذكرنا أن الشيخ محمد فرغلي دعاه وكلا من صلاح شادي ورئيس تشكيل البوليس وأبو المكارم عبد الحي رئيس تشكيل الجيش وقال:" أننا نعتبر اللجنة للجهاد فى دعوة الإخوان ودى اللجنة العليا لجهاد ".

وقد كان هذا الكلام لمحمد فرغلي تعبيرا عن الواقع الفعلي وسواء سمي هذا الأمر باللجنة العليا للجهاد أم لم يسم على الإطلاق لأن رئاسة الجهاز السري الفعلية كانت فى يد رؤساء التنظيم الثلاثة المسئولين عن البوليس والجيش والمدنيين وفى يد محمد فرغلي خميس حميدة الموكل إليها من قبل المرشد شئون هذا الجهاز قد ضم محمد فرغلي محمود عبده رئيس مكتب إداري القاهرة إلى هذه اللجنة للإستعانة بخبرته فى هذا الميدان .

وعلى كل حال فقد أعترف محمد فرغلي بدوره فى رئاسة الجهاز بصورة حاسمة دون أن يدري حين تعرض للإتصالات التى جرت بين الإخوان والثورة فى أعقاب الإفراج عنهم من السجن الحربي للقيام بنشاط فى القنال ضد الإنجليز؛

وكان عبد الناصر قد شعر بحاجته إلى مثل هذا النشاط فى القناة بعد أن أعلنت الحكومة البريطانية فى 23 مارس 1954 قطع المفاوضات مع مصر حتي تتخذ السلطات المصرية الإجراءات الكفيلة بحماية أرواح البريطانيين وممتلكاتهم

فيقول محمد فرغلي:

" أردنا أن نتعاون مع بعض رجال الثورة حينما كان يراد القيام بحركة فى القنال واتصلت أنا بأحد الضباط القائمين على هذا الأمر وكان هناك ضباط موجود ونفى المنطقة كل واحد يختص بجهة معينة فأنا اتصلت بالهضيبي وقلت له:
أننا فى منطقة القنال لابد أن نتعاون مع رجال الثورة فى أى عمل يطلب منا فى مقاومة الاستعمار وطلبت من يوسف طلعت بالذات أن يختار من كل منطقة من المناطق اللي معين فيها ضابط من ضباط الثورة شخص مسئول (من الجهاز السري) ليتصل به (بالضابط) ويتعاون معه فيما لو طلب ذلك؛
وفعلا تم هذا واختار الأسماء وقدم لى هذه الأسماء ودعونا هؤلاء الأشخاص فعلا واجتمعوا فى إدارة الحرس الوطني بحضور الصاغ كمال الدين حسين عضو مجلس قيادة الثورة وبعض الضباط وجاء مندوب من كل منطقة ممن المناطق . فعرفت هؤلاء المندوبين وعرفت أنهم مسئولون لهم صلة بأوضاع النظام فى هذه المناطق ".

وهذا الكلام حاسم فى إثبات دور محمد فرغلي فى رئاسة الجهاز السري حيث قد اعترف بانه أصدر التعليمات ليوسف طلعت للإتصال بندوبيه فى مناطق القنال للتعاون مع ضباط الثورة وبا، يوسف طلعت قدم له الأسماء وهذا لا يحدث إلا إذا كان محمد فرغلي فى وضع يسمح له بإصدار التعليمات لرئيس الجهاز السري وإلا لأصدر الهضيبي هذه الأوامر مباشرة إلى يوسف طلعت باعتباره الرئيس المباشر .

سلطة اتخاذ القرار فى الجهاز السري

يتضح من ذلك أن الهضيبي قد فوض بالفعل اختصاصاته ف إدارة شئون الجهاز السري الإدارية لمحمد حميدة ومحمد فرغلي ولكن يلاحظ من الثال السابق أن محمد فرغلي لم يصدر تعليماته ليوسف طلعت إلا بعد أن حصل نفسه على موافقة الهضيبي وهذا يثير قضية من فى يده سلطة إصدار القرار فى الجهاز السري؟

لقد ذكر محمد فرغلي ومحمد خميس حميدة أن سلطة اتخاذ القرار كانت فى يد الهضيبي بصورة قاطعة فقال محمد فرغلي:" رئيس هذا النظام( يوسف طلعت) مسئول مسئولية مباشرة أمام المرشد العام ويتلقي منه الأمر مباشرة ولا يتلقي من أى شخص آخر "

وفى موضع آخر سأله جمال سالم:

  • من الذي على رأس النظام السري؟
يوسف طلعت؟
بأمر المرشد.
نعم.

وفى موضع ثالث سأله المدعي:

  • هل إذا أقر المجلس الأعلي لهذا أمرا أراد تنفيذ هل تبت هذه اللجنة فى هذا الأمر ثم تأمر بالتنفيذ دون الرجوع إلى المرشد الرئيس الفعلي لتأخذ موافقته؟
أعتقد لابد من الرجوع إلى المرشد.
  • ليه؟
لأنه الرئيس الأعلي .

وقد أكد محمد خميس حميدة أيضا سلطة الهضيبي فى إصدار الأمر فقد سأله وكيل النائب العام عمن يرأس يوسف طلعت فقال:

المرشد.
  • هل يستطيع يوسف طلعت أن يتصرف من غير موافقة المرشد؟
لا.
  • يعني لابد أن المرشد يوافق علشان يعطي الأمر وينفذ؟
أيوه.
  • أعد الكلام من فضلك
رئيس الجهاز السري هو يوسف طلعت ولا يمكن لرئيس الجهاز السري أن يتصرف إلا أخذ أمرا من المرشد .

وفى موضع آخر القضية بصورة حاسمة قائلا:

لايمكن أن ينفذ شئ فى الجهاز إلا إذا صدر به أمر من رياسة الجهاز.
حميدة يعني حسن الهضيبي يدي ليوسف طلعت وده يدي للمسئول اللي بعده منه وهو إبراهيم طلعت رئيس منطقة القاهرة وده يدي لرؤساء الفصائل .

على أن الهضيبي أنكر تماما مباشرته لهذا الدور وكانت عبارته فى هذا المجال :" أنا لا أباشر التنفيذ".

بل لقد أنكر صلته بيوسف طلعت فى رئاسة التنظيم فعندما سئل:

ما تجهتش له . ما أعرفش يوسف طلعت معرفة دخائل ما أعرفش إيه فى نفسه واحد حجه علشانيكون ئيس لقسم:ده ينفع قالوا : ايوه ينفع.
  • إذا قال لك كلام تثق فيه أم لا ؟
ما جربتوش فى أى شئ وما كنت محتاج أني أجربه .

وقد برز الهضيبي عدم مباشرته سلطته فى إدارة الجهاز بقوله:

" أنا ما كنتش قادر على تنفيذ اختصاصات الرئيس السابق . ولو بحثت الحقيقة تجد أنه فى سنة 1951 كنت مريض وأصبت بالشلل وأنا فى محكمة النقض والإبرام.... ولكن الإخوان الحوا على فى أن أقبل (منصب المرشد) وقالوا:احنا موش عايزين منك حاجة .
احنا نجيب لك الأوراق واللي يعجبك تمضيه واللي ما يعجبكش ما تمضهش فقبلت على هذا الشرط . ولكن بعد ذلك وجدت أن الذي وعدوني به من انجاز العمل باسطتهم لم يتحقق ... وبعد خمسة أو ستة أشهر رأيت أن العمل وقف فى الإخوان وبعض الأعضاء يوجهون اللوم للمرشد قلت لهم طيب يطلع المرشد !
فما رضيوش فجبت الدكتور خميس علشان يتولي التنظيمات الإدارية والأعمال الإدارية ومن وقتها وأنا لا أجد فى كل شهر جواب امضيه وبس وإنما كانت مهمتي قاصرة على زيارة البلاد واستقبال اناس ومراسلي الصحف "

ولكن ما هي رواية يوسف طلعت فى هذا الشأن وهو الذي يستطيع أن يحسم الأمر ويحدد ممن كان يتلقي أوامره؟ وهناك روايتان ليوسف طلعت بهذا الصدد:الأولي وتؤيد رواية الهضيبي والثانية وتؤيد رواية محمد خميس حميدة ومحمد فرغلي !.

  • وبالنسبة للرواية الأولي فقد سئل بواسطة الدفاع: هل قابلت المرشد بعد تعيينك ؟
أيوه.
  • قال لك أيه؟
قال:" موش عايز روح العصابة تهيمن على الأفراد والتزمت والسرية عايز دي تنشال .
  • هل قابلت المرشد تعرض عليه حاجة خاصة بالجهاز بعد هذه التنظيمات؟
تفصيلات؟
  • أيوه.
لا.
  • أمال كنت تتكلم مع مين فى شئون الجهاز الذى توليت رئاسته؟.
  • كنت بتقدم حساب للمرشد عن الجهاز فى المأمورية التى كنت مكلفا بها ؟.
حساب إيه؟ أفراد واللا سلاح؟
  • يعني كنت له تقارير عن تنظيم ،تسليح ،حساب الأفراد الاشتراكات مقدار تقدم التدريب؟
مرة قلت له علشان حكاية الاختلافات وقلت له ربنا يسهل
  • كنت تتصل بالدكتور خميس في هذا الشأن؟
الأول، لغاية ما زعلنا من بعض.
  • هل كان هو الواسطة بينك وبين المرشد؟
أيوة ( )

أما الرواية الثانية ليوسف طلعت، فكانت ردا على سؤال لرئيس المحكمة:

حسن الهضيبي كان مرشد الإخوان ... يعني لو انشال وجبنا واحد تاني ابقى تبعه. النظام والعرف كده.
  • هل يمكن أن تعمل حاجة بالجيش بتاعك من غير ما تأخذ موافقة من المرشد؟
موش ممكن.
  • يعني في أي عمل كبير: تروح تحارب في فلسطين مثلا مش لازم تأخذ موافقته؟
أيوة ( )

هاتان الروايتان اللتان أدلى بهما يوسف طلعت، وتبدوان متعارضتين، ولكنهما ليستا كذلك عند إمعان النظر، فقد أنكر يوسف طلعت أنه يعرض التفصيلات على الهضيبي، وهو ما يتفق مع رواية الهضيبي التي روى فيها أنه ليس على صلة وثيقة بيوسف طلعت، وكان نص عبارته: "أنا ما ليش صلة به كثير، أنا لا أباشر التنفيذ".

كما تتفق مع رواية محمد خميس حميدة التي روى فيها أن يوسف طلعت لا يستطيع أن يتصرف بدون أمر من المرشد، ومعنى ذلك أن الهضيبي لم يكن يرجع إليه في التفصيلات، وإنما في الخطوط العريضة أو الجليل من الأمور، حيث لم يكن يوسف طلعت يستطيع التصرف فيها بدون أمر أو موافقة المرشد. وفي ذلك إثبات لمباشرة الهضيبي اختصاصاته، وأنه إليه وحده الأمر في اتخاذ القرار.

وهذه النتيجة معقولة تماما ولا يتصور عكسها، بدليل أن الذي أتى بيوسف طلعت إلى رئاسة التنظيم السري، إنما هو الخلاف الذي حدث بين الهضيبي وعبد الرحمن السندي بسبب عدم خضوع الأخير لأوامر المرشد، صحيح أن الخلاف بدأ بسبب رغبة الهضيبي في إلغاء النظام؛

ولكن بعد أن قبل بقاءه استمر الخلاف أيضا لرفض عبد الرحمن السندي الخضوع له، فقد قرر محمد فرغلي أن المدة التي قضاها عبد الرحمن السندي، وهي أكثر من سنة، كانت "تتخللها فترات خلاف وفترات وفاق، وفي فترة الوفاق كان يستجيب فيها عبد الرحمن السندي للهضيبي".

ثم قال:

"إن أوضاع الجماعة تقتضي أن رئيس النظام خاضع للمرشد، فإذا اختلف رئيس النظام مع المرشد، يجب أن يتنحى رئيس النظام، بقطع النظر عن بقاء النظام ذاته" ( )

وعلى ذلك فإن إنكار المرشد مسئوليته عن مباشرة التنفيذ، لا يعني أنه قد تخلى عن مسئولية اتخاذ القرار، أو أن رئيس النظام السري يوسف طلعت كان يستطيع أن يتصرف بالجهاز كما يشاء دون الرجوع للمرشد.

ولقد باشر محمد خميس حميدة في الفترة الأولى شئون الجهاز مع يوسف طلعت باعتباره واسطة بينه وبين المرشد، ولكن بعد أن دب الخلاف بينهما، توقف هذا الاتصال وقد عبر يوسف طلعت عن ذلك بقوله إنه كان يتصل بالدكتور خميس: "لغاية ما زعلنا من بعض".

ولكن هذا الخلاف بينهما لم يكن خلافا شخصيا، وإنما كان انعكاسا للخلاف بين فريقين في الإخوان: فريق على رأسه الهضيبي، وفريق على رأسه محمد خميس حميدة وقد انحاز الجهاز السري إلى فرق الهضيبي كما سوف نرى.

الفصل العاشر:انتقال الإخوان إلى العمل السري

في تلك الأثناء كانت العلاقات بين الإخوان المسلمين وعبد الناصر قد تطورت بعد التوقيع على المبادئ الأساسية لاتفاقية الجلاء، عندما اعتزمت الجماعة تحويل الخلاف بينها وبين الثورة إلى قضية وطنية، وعندئذ أخذ عبد الناصر في معاقبة الجماعة

على النحو الذي يرويه الهضيبي في خطابه إلى الإخوان المسلمين يوم 9 سبتمبر 1954 قائلا:

"عدت من رحلتي إلى البلاد العربية، فوجدت الأمور أكثر تأزما، ووجدت الشائعات تقول إن الإخوان المسلمين لا يتعاونون مع رجال الانقلاب، وتهديدات بحلهم، وتنقلات للموظفين (من الإخوان) بالجملة، واتهامات باطلة، ومصادرة لجميع ألوان النشاط حتى الرياضي، ومنع لصلاة العيد في فضاء المدينة، واعتقال لخطباء المساجد، وتفتيش بيوت الإخوان، واعتقال بعضهم، ووجهت إلينا حملة صحفية ظالمة؛
ولم يسمح لنا لا بالكتابة، ولا بالقول في محافلنا، وكنا قد أصدرنا مجلة الإخوان المسلمين، فضيق عليها وشطبت منها المقالات والتعليقات والأنباء، حتى الآيات القرآنية والأحاديث النبوية، فأوقفناها مضطرين لأنها أصبحت لا تعبر عن شئون الدعوة في قليل أو كثير؛
وكان مما وقع منهم في محافلهم أن جعلوا يحرضون بعض الناس على الإخوان المسلمين، ويغرونهم بهم، وأخذت الجرائد، وهي لا تكتب إلا ما تبيح الحكومة بنشره، تشكك الناس في الإسلام وحكم الإسلام، ودأب خطباؤهم في محافلهم على مثل ذلك متمثلين ببعض الدول التي تدعي الحكم بالإسلام، وهي أبعد ما تكون عنه ...
هذا ما وجدته عند عودتي، ولا أظن إنسانا عنده مسحة من عقل يستطيع أن يحمل الإخوان المسلمين تبعة ذلك، ولا أن يجد مبررا له عند رجال الحكومة. ( )

في تلك الظروف فاجأ الهضيبي الحكومة والإخوان باختفائه عن الأنظار، واختفى معه عدد من قادة الجماعة، ومنذ ذلك الحين بدأت صفحة جديدة فهل كان هذا الاختفاء تمهيدا لعمل جديد، أم كان اختفاء اضطراريا تحت ضغط الإرهاب الحكومي؟

أغلب الظن أن السبب الأخير كان وراء الاختفاء، فقد ذكر حسن العشماوي في مذكراته أن ما دعا الهضيبي إلى الاختفاء هو ما تأكد له

"وما تأكد لنا من أنه قد صدر أمر بالقبض عليه نتيجة اجتماع عام عقده في المركز العام للإخوان، ورد فيه على اتهامات جمال عبد الناصر" ( )

وقد روى محمد خميس حميدة ما يؤيد هذا الرأي، فقد ذكر أن "رجال البوليس راحوا سألوا عن المرشد في البيت، فظن أنه مطلوب للاعتقال أو القبض عليه، فقال: أنا حاسلم نفسي للبوليس" ( )

وروى محمد فرغلي أن الهضيبي صارح بعض الإخوان الذين زاروه في مخبئه بأنه

"يخشى على نفسه الاغتيال، وأنه اختفى حتى لا يحمل الجماعة تبعة ذلك، ومن جانب آخر ليعطي بعض الإخوان الذين يريدون التفاهم مع الحكومة فرصة لهذا التفاهم" ( )

وقال محمد فرغلي أنه زار الهضيبي مع بعض الإخوان "وسألناه عن سبب الاختفاء، فقال: أنا اختفيت لأنه بلغني أخبار يقين بأني مهدد بالاغتيال" ( )

وقد اعترف الهضيبي بهذا السبب نفسه، فعندما سئل عن سبب اختفائه، قال:

"قيل لي إن الحكومة تريد اغتيالي" وقد سئل عمن أبلغه ذلك فقال: "يمكن عبد القادر، يمكن خميس ... موش متحقق" ( )

وإذا كان هذا هو سبب الاختفاء، فهل كان الهدف منه الاستعداد للمعركة أم الانسحاب من المعركة؟

يقول الهضيبي أنه أراد من اختفائه "الاعتزال" ويذكر السبب في ذلك فيقول إنه حين عاد من سوريا وجد أن الإخوان يتكلموا كثيرا، ولا يتفقون على شيء، "وإكمالا للخطة بتاعتي من البعد عنهم حتى لا يظن أني مؤثر فيهم، اعتزلت" ( )

على أن رواية محمد خميس حميدة في هذا الشأن تنقض هذا الكلام، فقد ذكر أنه ذهب إلى الهضيبي في مكان اختفائه لمطالبته بأن يترك لمكتب الإرشاد التصرف في كل ما يتعلق بالجماعة، "فقال لي: أنا حر، أدي اللي عاوز أديله، أنت وكيل في غيابي فقط، وأنا موجود" ( )

وقد يكون مفيدا في إلقاء الضوء على هذه المسألة أن نذكر أن الهضيبي لم يختف وحده، فقد سبقه إلى الاختفاء يوسف طلعت بفترة وجيزة ( )

كما اختفى معه كل من صلاح شادي، ومحمود عبده، وحسن العشماوي، وكمال عبد الرازق، وصالح أبو رقيق، ومنير دلة، وعبد القادر عودة ( )

ولما كان عبد المنعم عبد الرؤوف مختفيا قبل ذلك منذ هروبه، فمعنى ذلك أن رؤساء تشكيلات التنظيم السري كانوا في الاختفاء، وكان هؤلاء بالإضافة إلى القادة الآخرين السالف ذكرهم هم الذين أخذوا كما يقول محمد خميس حميدة يديرون سياسة الإخوان في تلك الفترة ( )

ومعنى هذا الكلام بوضوح أن الجماعة انتقلت من العمل العلني إلى العمل السري، وتحولت من جماعة علنية إلى جماعة سرية، وهذا ما يصوره لنا حسن العشماوي في مذكراته، فيذكر أنه في فترة اختفاء الهضيبي في القاهرة "اجتمع مع زملائه أعضاء مكتب الإرشاد مرتين، فضلا عن اجتماعات تكميلية تمت مع من أراد الاجتماع بهم من الأعضاء".

وهذه الاجتماعات تمت في سرية تامة، حيث

"كان الأستاذ الهضيبي في المرتين يحدد لنا الموعد في الليلة السابقة مباشرة على الاجتماع، تاركا لنا تحديد مكانه، وعلينا ألا نخبر أحدا بمكان الاجتماع أو زمانه، إلا قبله بدقائق".

وقد بلغ من أحكام السرية:

"أننا أنفسنا، يا من كنا نقوم بتنظيم الاجتماع، لم نكن نستطيع أن نعلم مكانه تحديدا إلا قبله بساعات قلائل، لأننا كنا ننتهز الفرص لنعثر على مكان مناسب يتم فيه الاجتماع، ثم نعتبر هذا المكان بعد ذلك منطقة مكشوفة محرمة علينا أن نرتادها، وكنا نجمع الأعضاء في مكان الاجتماع أولا، ثم ننقل الأستاذ الهضيبي، تحت العيون التي لا تغفل، من مكان سكناه إلى مقر الاجتماع، ونرجع به قبل أن يغادر المكان غيره" ( )

ولا شك أن المسئول عن هذه النتيجة، وهي تحول الجماعة من العمل العلني إلى العمل السري، هو النظام الديكتاتوري الذي فرضه عبد الناصر بعد انتصاره على القوى الديمقراطية والتقدمية في أزمة مارس، والذي منع فيه جماعة الإخوان من إبداء رأيها في المعاهدة في إطار ديمقراطي..

واعتبر نشاطها في معارضة هذه المعاهدة نشاطا يستحق من يقوم به الاعتقال والتنكيل، فمن المحقق أنه كان لجماعة الإخوان الحق في معارضة المعاهدة، وممارسة هذه المعارضة علنا بكل الوسائل المشروعة، دون أن يترتب على ذلك أي صدام مع الحكومة؛

فهذا هو المفروض في النظم الديمقراطية التي تؤمن بحرية الشعب في ممارسة الحكم، وكان في وسع عبد الناصر الدعاية للمعاهدة بكل ما يملك من وسائل الإعلام، وما يسخره من أقلام، وفضح قبول الإخوان للمبادئ التي قبلها هو أساسا للمعاهدة؛

ولكن عبد الناصر لم يكن يؤمن بالأساليب الديمقراطية في ممارسة الحكم، مما اضطر الإخوان للنزول تحت الأرض ومباشرة نشاطهم بشكل سري، وقد كان على الإخوان في ذلك الحين أن يدفعوا ثم وقوفهم إلى جانب الدكتاتورية، وأن يدركوا أن نيران الدكتاتورية لا يمكن أن تقتصر طويلا على خصومهم الوفديين والشيوعيين، وإنما لا بد أن يصل لهبها إليهم ليحرقهم.

ومن المثير أن الإخوان عرفوا هذه الحقيقة متأخرا حين أخذ الخلاف بينهم وبين عبد الناصر يأخذ شكل صدام خطير، فقد روى سيد قطب، الذي كان في تلك الفترة يرأس تحرير جريدة "الإخوان المسلمون" التي صدر العدد الأول منها في مايو 1954 ( )

أنه توجه إلى بيت الهضيبي في الأسبوع الأول من عودته من سوريا أي في أواخر أغسطس "وأعدت عليه الاقتراح الذي كنت أقترحه دائما، وهو أن على الإخوان المسلمين أن يقوموا بواجبهم في المطالبة برد الحريات الشعبية، وخاصة الضمانات القانونية؛

كنت أود، وكنت أدفع الجماعة أن تكون جماعة شبابية، أي أن تطالب بقضايا الشعب مطالبة علنية، وتؤدي دورها في هذا باعتبارها أكبر جماعة في البلاد، ومن واجبها ألا تترك قضية أو مظلمة من مظالم الشعب إلا وتتبناها وتدافع عنها، وتخرج إلى الطريق، إلى الناس، وتذكر لهم أغراضها، وتقود الحركة الشعبية ( )

على أن أجهزة الرقابة في نظام عبد الناصر وقفت بالمرصاد لجريدة الإخوان المسلمين حين أرادت أداء هذا الدور، حتى أنها كما ذكر الهضيبي في خطاب 9 سبتمبر "كانت تشطب آيات القرآن والأحاديث النبوية"

وبذلك أصبحت الجريدة "لا تعبر عن شئون الدعوة في قليل أو كثير"، وعندئذ قرر سيد قطب إغلاقها، وعلى حد قوله: "أغلقت الجريدة باختياري، لأني لم أستطع أن أنشر فيها ما أريد بسبب الرقابة" ( )

حرب المنشورات

في ذلك الحين، تركز نشاط الجماعة في المنشورات، لتعبئة الرأي العام ضد المعاهدة، وكان يقوم على هذا النشاط الجهاز السري بقيادة يوسف طلعت، الذي كانت أجهزته المنبثة في القطر تتولى توزيع المنشورات على أوسع نطاق ممكن.

وسلاح المنشورات لم يبرز في الحقيقة مع عملية اختفاء الهضيبي وكبار قادة الإخوان، وإنما برز أثناء حل الجماعة في 14 يناير 1954 وفترة الاعتقال بالسجن الحربي، وفي ذلك يقول محمد خميس حميدة: "وإحنا في المعتقل كان فيه منشورات يوسف طلعت" ( )

وفي ذلك الحين صدرت نشرة منتظمة بلغ عدد الأعداد التي صدرت منها حتى فبراير 1954 خمسة.

وكانت هذه النشرات والمنشورات تستخدم لغة الدين في إثارة روح الحماسة والتضحية والفداء في نفوس الإخوان، وعلى سبيل المثال، فقد صدر في العدد الخامس من نشرة الإخوان المسلمين في فبراير 1954، تحت توقيع حسن الهضيبي ما يلي:

  • "يا شباب الإخوان، تعالوا نشتري الجنة بسياط العذاب وبرصاص أعداء الله.
  • تعالوا نرق الدم المسفوك والدم الساخن، ليكون أوسمة نحلي بها صدور الشهداء
  • تعالوا نشم أريج الجنة، فداء لله وللدين.
  • وتعالوا ننعم النظر إلى جمال الله وصحبة رسول الله.
  • تعالوا إلى ما وعد الله في كتابه الكريم: "وجوه يومئذ راضية"، و "بشر المؤمنين".والله أكبر ولله الحمد" ( )

وقد توقفت المنشورات بعد الإفراج عن الجماعة، لتستأنف مرة أخرى عندما عاد الخلاف مع عبد الناصر، وأخذت الرقابة تمنع جريدة "الإخوان المسلمون"، التي يديرها سيد قطب، من نشر ما لا يتفق مع رأي النظام؛

فقد أصدر النظام السري مجلة سرية بعنوان: "الإخوان في المعركة"، تشير الدلائل إلى أنها كانت تصدر في وجود المجلة العلنية قبل إغلاقها، وتنشر فيها ما لا تجيز الرقابة نشره فيها، فقد ورد على لسان محمد خميس حميدة، في معرض تدليله على معارضة مكتب الإرشاد لهذه النشرات: "إحنا قلنا إن اللي يصلح (من المقالات) ننزله في الجريدة، وننزله إحنا يا مكتب الإرشاد، ليه نطلع منشورات؟" ( )

على أن الهضيبي كان موافقا تماما على هذه النشرات، ويشجع على صدورها، بل لقد كان صاحب فكرة طبع المقالات التي تصادرها الرقابة وتمنع نشرها في المجلة العلنية، في شكل منشورات؛

فقد روى سيد قطب أنه زاره بعد عودته من سوريا، وشكا إليه من أنه لا يستطيع أن ينشر في الجريدة ما يريد بسبب الرقابة، وأنه بقيت لديه تعليقات كثيرة لم يسمح الرقيب بنزولها، وأننا لا نستطيع أن نوصل صوتنا إلى الشعب"!

وقد رد عليه المرشد قائلا:

"إن مكتب إداري القاهرة (ويرأسه محمود عبده) () له إمكانيات، ويطبع منشورات الإخوان، فيمكن أن يطبع هذه المقالات والتعليقات التي تقف الرقابة دونها"،

ويقول سيد قطب إنه ذهب بعد ذلك إلى رئيس مكتب إداري القاهرة لهذا الغرض، فأخبره بأنه لا يملك سوى "ماكينة صغيرة"، فعاد إلى المرشد، الذي أمر فورا بصرف ثمن ماكينة رونيو جديدة لهذا الغرض بلغ ثمنها 180 جنيها ( )

ومع تصاعد الصراع بعد هجوم المرشد على توقيع مبادئ اتفاقية الجلاء، أخذت المجلة السرية تتجاوز حدودها الموضوعية في النقد والهجوم، فقد احتوى أحد هذه الأعداد، إلى جانب الهجوم على المعاهدة، على اتهام لعبد الناصر بأنه قد أثث بيته بمفروشات من القصور الملكية المصادرة عن طريق لجنة جرد القصور، وكان هذا الاتهام باطلا باعتراف محمد خميس حميدة نفسه الذي ذكر أنه يعرف أنه لا يوجد في بيت عبد الناصر من الأثاث "سوى العفش اللي كان فيه أيام زواجه" ( )

وقد أزعج هذا التجاوز الكثيرين داخل مكتب الإرشاد، ولما كان محمد خميس حميدة ينوب عن المرشد في الإشراف على الجماعة أثناء غيابه في البلاد العربية، فقد استدعى يوسف طلعت "وقلت له: ازاي العدد ده ينزل؟ وكيف تنزل أشياء من غير أن ترسلها لمكتب الإرشاد ويوافق عليها؟

قال: أنا آخذ أوامري من الهضيبي رأسا مش منك، وأنا مش بآخذ منك أي شيء، قلت له: المرشد مش موجود هنا الآن، وأنا قايم بعمل المرشد مع مكتب الإرشاد، قال: "ولو، إحنا نتصل به في سوريا" ( )

وكان حميدة قد علم بالعدد قبل صدوره، وطلب عدم إصداره، وفوجئ بنزوله.وقد اعترف يوسف طلعت بهذه الواقعة، فقد روى أن محمد خميس حميدة كلمه في مسألة نشرة "الإخوان في المعركة"، وقال له: "دي ما تنزلهاش، قلت له: يا دكتور، دي نزلت!

فقال لي: ازاي تنزلها من غير إذني؟ وبعدين قال لي: "لما أقول لك ما تنزلهاش تبقى ما تنزلهاش". فأنا قلت له: "هي المسألة مسألة رأي، وأنا وزعت النشرة" ... وحصلت مناقشة، وقال: "انصرف" وسيبنا الموضوع. ( )

في ذلك الحين كان سيد قطب يرأس تحرير مجلة "الإخوان في المعركة" السرية، وهذا ما يفهم من كلام يوسف طلعت، فقد روى أنه كان يتلقى من سيد قطب "شوية مقالات" وعندما سأله رئيس المحكمة جمال سالم عمن يقوم بتحرير الأخبار، تهرب يوسف طلعت قائلا:

موش فاكر حاجة من الأخبار، ويعني حتهمك حقيقة هذه الأخبار؟
أيوة يا فندم ( )

على كل حال، فقد استمرت مجلة "الإخوان في المعركة" في الصدور بعد مجيء الهضيبي، باعتراف حميدة، الذي يذكر أنه عرض على الهضيبي قصة الخلاف بينه وبين يوسف طلعت بخصوص المجلة، فرد عليه قائلا: إن "الإخوان متضايقين منك في الوضع ده، لأنك مش مريحهم، وسياستك مش عاجباهم"

وقد سأله وكيل النائب العام:

  • سياسة إيه؟
سياسة المهادنة مع الحكومة" ( )


ولم يلبث نشاط المنشورات أن ازداد بعد اختفاء الهضيبي ومساعديه، يقول حميدة: "في الفترة الأخيرة، المنشورات كانت بتنزل من غير ما نعرف والأمور كانت تدار دون علمنا"

وقد سأله جمال سالم:

  • من الذي كان يديرها؟
المرشد مع الإخوان المختفين معه ( )

كان أبرز المنشورات التي ظهرت في ذلك الحين، المنشور الذي صدر باسم اللواء محمد نجيب، رئيس الجمهورية، ضد المعاهدة، وقد ذكر محمد نجيب أنه كتب آراءه في المعاهدة في مذكرة أرسلها، ولكن هذه المذكرة " وصلت إلى الإخوان المسلمين، الهيئة الوحيدة المنظمة والمصرح بوجودها، عن طريق لا أعرفه، فقاموا بطبعها، وتوزيعها منشورا" ( )

وقد روى إبراهيم طلعت، رئيس مناطق القاهرة، أنه وجد مذكرة محمد نجيب مع عبد القادر عودة، في شكل "ورقة مكتوبة بالرصاص، مسودة بدون توقيع".

وقد سأله عبد القادر عودة عما إذا كان يعرف مكانا يستطيع فيه طبع هذا الكلام، فأخبره بأن "فيه بعض الإخوان الذين يستطيعون القيام بطبع هذا الكلام، وفعلا أخذنا هذه الورقة، وقمنا بطبعها، ووزعت على رؤساء المناطق، فقاموا بتوزيعها( ) وكان نقد الرئيس نجيب قائما إلى مصر واستغلال الموانئ والمطارات ( )

أما المنشور الثاني، فكان بقلم سليمان حافظ، وكان سليمان حافظ، الذي كان يشغل منصب وكيل مجلس الدولة عند قيام الثورة، قد لعب دورا أسود في تحويل مسارها إلى الطريق الدكتاتوري منطلقا في ذلك من موقف حزبي متعصب ضد الوفد، حيث كان من رجال الحزب الوطني قبل الثورة.

وقد وضع خبرته القانونية في خدمة النزعة الدكتاتورية لضباط الثورة، وقد تخلص عبد الناصر منه كما تخلص من غيره من رفاق الطريق ممن أدوا أدوارا ضد الوفد وضد الديمقراطية، ولكنه عاد في ذلك الحين يتذكر الديمقراطية ويبحث عن دور جديد يكفر به عن خطاياه، وكانت اتفاقية الجلاء هذه المناسبة المختارة، وكان المنشور في الأصل حديثا للنشر في جريدة "الإخوان المسلمون" ثم تحول إلى منشور بعد تعذر نشره وتوقف الجريدة، وصدر تحت عنوان: "حديث وزير سابق" ( )

وفيما عدا هذين المنشورين، فقد اتبعت المنشورات الأخرى نفس أسلوب استخدام لغة الدين في تعبئة المشاعر ضد النظام استعدادا للإطاحة به عند سنوح الظروف المناسبة، ففي منشور بعنوان:"مناجاة"، ورد به الآتي:

"اللهم إنك تعلم أن أعداءك قد فجروا في الأرض، وألحدوا في أسمائك وحاربوا قرآنك، وعطلوا قيوده، وفتنوا المؤمنين من عبادك.
"اللهم أزل دولتهم، واكسر شوكتهم، وفرق جمعهم، واجعل بأسهم بينهم، وانصرنا عليهم يا خير الناصرين.
"اللهم إنك ترى أن السجون قد غصت بعبادك المؤمنين، وأنت وحدك سبحانك تعلم سرهم ونجواهم، وهم عبادك يعملون لدعوتك ..." ( )

وقد صدر منشور من المرشد العام مؤشر عليه في 5 أكتوبر 1954، يحمل نفس النبرة، نبرة الإثارة الدينية، ويدعو إلى الاستعداد لحمل السلاح قائلا:

"إلى جنود الله في أرضه، يأمرنا الله في كتابه العزيز بقوله تعالى:
"وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم، وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم".
"فيا أيها الأخ الكريم، قد جاء يومك، وعليك أن تستعد وتتأهب .. فأمامنا أعداء وليس عدوا واحدا، ألا وهم: الكفرة، والفجرة حكام هذا الوطن العزيز .. هؤلاء الذين ليس في قلوبهم مسة من الرحمة أو ذرة من شفقة، وهذا الشعب البائس، الذي يحكمه الطغاة، لا يصح أن يعيش في هذه الذلة والمسكنة.
"ألا تعلم أيها الأخ أنهم يشردون أطفالك باعتقالاتهم الجنونية، وربما يحتاج الأمر إلى استعمال القسوة في معاملتهم، فعلى كل أخ يعتز بدعوته أن يستعد بكل ما عنده من مال وسلاح، إلى أن يحين اليوم الموعود" ( )

الاتصالات بين الإخوان المسلمين والشيوعيين

في تلك الأثناء كانت الظروف قد أخذت تجمع بين أقصى اليمين وأقصى اليسار ممثلين في الإخوان المسلمين والشيوعيين، فقد جرت اتصالات بين الفريقين لتنسيق التعاون بينهما في إسقاط نظام عبد الناصر.

ولم تكن هذه الاتصالات هي الأولى، فقد سبقتها اتصالات أخرى في العام السابق 1953، حين أخذ التنظيم الشيوعي "حدتو" (الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني) في إنشاء جبهة وطنية ديمقراطية على مستوى الطلبة لمحاربة حركة الجيش، وجرى الاتصال بالإخوان المسلمين عن طريق عبد الحفيظ الصيفي الذي كان يحمل اتجاهات تقدمية، وقد قبل الإخوان الدخول في الجبهة بطريقتهم الخاصة في عدم التورط؛

فقد أبدوا تعذر إصدار بيان بانضمامهم إلى جبهة من الشيوعيين والوفديين، ولكنهم سمحوا لمندوبي الجبهة بالاتصال بشباب الإخوان المسلمين من الطلبة .. وجرى التنسيق بالفعل بين الجبهة وهؤلاء الشباب والطلبة، الذين يذكر منهم زكي مراد فتحي البوز ( ) وهو من أعضاء الجهاز السري كما مر بنا.

وقد عبر الهضيبي بعد ذلك عن موقف متغير من الشيوعيين، فقد أعلن في تصريح له أن " الشيوعية لا تقاوم بالعنف والقوانين"، وقال إنه "لا مانع لديه من أن يكون لهم حزب ظاهر، والإسلام كفيل بضمان وسلامة الطرق التي تسلكها البلاد" ( )

وقد كانت الظروف في صيف عام 1954 شبيهة تماما بظروف صيف عام 1953، من حيث أن جميع القوى الوطنية والديمقراطية كانت مضروبة وكانت علاقات الإخوان المسلمين بالثورة تشبه لحد كبير علاقتها بها قبل عام مضى، من ناحية أنها كانت تسير في طريق صدام محتوم، وبذلك تهيأت الفرصة للقاء بين الإخوان والشيوعيين مرة أخرى.

وتشير الأدلة إلى أن الخطوة الأولى في سبيل هذا اللقاء كانت من جانب الحزب الشيوعي، ففي 19 يونيو 1954 أعلنت جريدة "راية الشعب"، لسان حال الحزب الشيوعي المصري، الذي كان يرأسه الدكتور فؤاد مرسي أن المقاومة ضد الثورة تقودها قوتان رئيسيتان هما: الحزب الشيوعي وجماعة الإخوان المسلمين، وأوصى نفس المقال بوجوب بذل الجهد المشترك من أجل إسقاط حكومة عبد الناصر، وقد تجدد العرض في شهر يوليو التالي ( )

وفي نفس الوقت تقريبا كانت العلاقات بين الطلبة الشيوعيين والطلبة من الإخوان في الجامعة تسير في طريق تحالف .. فقد جرت اتصالات بينهم لعقد مؤتمر عام في الحرم الجامعي، وافق فيه الطلبة الإخوان على الاشتراك فيه باعتباره فرصة سانحة للإعراب عن شعورهم بعد إعلان الطلبة الشيوعيين تضامنهم معهم في هذا الشأن، وكان ممثل الطلاب الإخوان هو الطالب محمد علي نصيري، وهو أحد أعضاء الجهاز السري كما مر بنا.

وفي يوليو 1954 جرى أول اتصال بين مندوب عن الحزب الشيوعي وسيد قطب، رئيس تحرير جريدة "الإخوان المسلمون" وكان يرمز إليه في هذه الاتصالات بحرفي س . ق . ووفقا لتقرير مندوب الحزب الشيوعي الذي أجرى الاتصال، وهو بتاريخ 16 يوليو 1954، فإن النقاش دار حول الأهداف المشتركة للجماعتين، وقد اتفق فيه على أن معارضة ارتباط البلاد بمعاهدة أحلاف مع الأعداء، وإسقاط الحكومة يمثلان هدفا مشتركا للجماعتين، أو على حد التعبير الذي

ورد في التقرير:

"إن الوطني الآن هو الذي يعارض أن ترتبط بلاده بمعاهدة أو حلف مع الأعداء، والوطني هو الذي يكافح من أجل إسقاط الحكومة التي وضعها الأعداء على نفوسنا لتربطنا بعجلته وحروبه".

كما كان من رأي الحزب الشيوعي الدعوة إلى قطع المفاوضات وإلغاء الأحكام العرفية وغيرها مما يقيد الحريات، وهو ما وافق عليه سيد قطب "من حيث المبدأ موافقة تامة".

وقد جرى الحديث عن أن

"هناك نفرا من الإخوان الخونة الذي يسيرون وفق خطط الاستعمار، وقد أعلمني رسول الإخوان المسلمين أن المرشد قد ترك مصر للخلاف الذي بينه وبين دعاة التعاون مع الحكومة".

وكان من رأي الحزب الشيوعي أن

"الطريقة الوحيدة لإسقاط الحكومة لا يمكن أن تنجح إلا إذا قامت الحركة من خارج الجيش، وعلى الشعب أن يقاوم لإسقاط الحكومة الحاضرة".

وقد جرى اتصال آخر تضمنه تقرير بتاريخ 20 أغسطس 1954، لدراسة الأعمال التمهيدية اللازمة لتجميع القوى، وتناول الحديث سلاح المنشورات، فأوضح مندوب الإخوان أن الجماعة أصدرت عشرة آلاف منشور وستصدر غيرها؛

وقد بين مندوب الحزب الشيوعي أن هذا السلاح لا يكفي بل يجب أن تكون هناك أعمال إيجابية لتشجيع الجماهير على التجمع في عمل نهائي حاسم، وقد نوقشت فكرة المظاهرات كوسيلة لعمل مشترك، وكان رأي مندوب الإخوان أن الاشتراك فيها يعرض الجماعة لحل سريع؛

وأن "علينا أن نرتب عملا مشتركا مدروسا"، بينما كان من رأي مندوب الحزب الشيوعي أن انسحاب الإخوان من الاشتراك في المظاهرات يعرضهم أمام الجمهور لموقف سيء، وقد أبدى رسول الإخوان المسلمين إمكان الاشتراك في المظاهرات، على ألا تستعمل هتافات الإخوان المعروفة، وهي: الله أكبر ولله الحمد ( )

ويلاحظ على هذين التقريرين أنهما يحملان بالفعل وجهة نظر الحزب الشيوعي المصري في الحركات التي تقوم بها الجيوش، وهي وجهة نظر تتسم بالشك، فحين سئل رأيه من قبل قيام ثورة 23 يوليو في حركة يقوم بها الضباط، أبدى حذره وتخوفه على أساس أن الجيش لا يضمن ..

وبعد قيام الحركة في 23 يوليو، خاطبها مخاطبة ودية لمدة ثلاثة أيام، ثم هاجمها في اليوم الرابع أي في يوم 26 يوليو 1952 في منشور مشهور باسم "الخدعة الكبرى" وصفها فيه بأنها "انقلاب عسكري له طبيعة فاشية" ( )

كذلك يلاحظ أن المعلومة التي وردت في التقرير الأول والخاصة بأن المرشد قد ترك مصر إلى البلاد العربية للخلاف بينه وبين دعاة التعاون مع الحكومة، هي معلومة صحيحة اعترف بها الهضيبي نفسه فيما بعد أثناء محاكمة الإخوان في حادث المنشية، كما مر بنا.

وعلى كل حال، فقد أكد لي الدكتور فؤاد مرسي، وهو رئيس الحزب الشيوعي في ذلك الوقت، هذا الاتصال الذي تم بين الحزب وسيد قطب، وذلك في أحد لقاءاتنا.

وتبقى هذه النقطة:

هل كانت هذه الاتصالات بموافقة الهضيبي؟ والرد على ذلك أنه لا توجد معلومات كافية، ولكن قد يفيد أن هذه الاتصالات السالفة الذكر قد تمت أثناء غياب الهضيبي في البلاد العربية، وقد ذكر البعض أن كبار المسئولين في الجماعة قد نبهوا إلى حماقة التحالف مع الشيوعيين، واستحالة هذا التحالف من الناحية الإيدلوجية؛
وبالتالي فلم يتمخض من النتائج الظاهرة لهذه الاتصالات إلا التعاون بين الطرفين في مجال توزيع المنشورات، فقد قبض على اثنين من الإخوان بينما كانا يوزعان منشورات الحزب الشيوعي المصري، وقدما إلى المحاكمة أمام المحكمة العسكرية العليا ( )

الفصل الحادي عشر:التمزق الداخلي في الإخوان

بينما كانت جماعة الهضيبي تنتقل من العمل العلني إلى النشاط السري، تحت وطأة أجهزة القمع لجهاز عبد الناصر، مستعينة بالجهاز السري الذي كان يدين بالولاء للهضيبي، كانت هذه الجماعة تتعرض لعداء ومعارضة من فريقين هامين في الإخوان:

الفريق الأول، فريق محمد خميس حميدة، وكيل الإخوان ونائب المرشد أثناء اختفائه.
والفريق الثاني، فريق صالح عشماوي ورفاقه المفصولين من الجماعة. وبالنسبة لفريق صالح عشماوي، فقد كان يستمد خطورته وأهميته من مجلة الدعوة لسان حاله، التي كانت مستمرة في الصدور وقتذاك، وتمثل بكتابها وقرائها من الإخوان وغيرهم قوة ضغط رهيبة على الهضيبي وفريقه.

وكان صالح عشماوي ورفاقه المفصولون قد زاروا الهضيبي بعد خروجه من السجن الحربي يوم 25 مارس، مهنئين بالعودة ومجددين للبيعة كما ذكرنا واستأنفت الجماعة نشاطها في جو يبشر بالأمل، "وظن الجميع" كما يقول صالح عشماوي "أن الصف قد توحد، والشمل قد التأم"

وأخذ المفصولون يترددون على المركز العام للإخوان، ولكن التساؤل كان يدور بين الكثيرين عما إذا كانت قيادة الإخوان سوف تصدر قرارا بعودة هؤلاء المفصولين رسميا إلى الجماعة، ومتى يحدث ذلك؛

ثم جاءت المفاجأة في النشرة السرية للإخوان التي صدرت في ذلك الحين تحمل الإجابة على هذا السؤال، فقد ورد فيها:

"يتساءل الإخوان عن موقف بعض الناس المفصولين الذين يترددون على المركز العام، وجوابنا إلى الإخوان أن عليهم أن يقاطعوهم وينأوا بجانبهم عنهم"

وقد كانت تلك بداية معركة حامية بين مجموعة الدعوة ومجموعة الهضيبي، فقد شعر المفصولون بوقع الإهانة، خصوصا عندما تحدثت عنهم النشرة بوصفهم "بعض الناس"، وليس "بعض الإخوان" ( )

وقد قام هجوم مجلة الدعوة على نفس الأساس القديم، وهو أن جماعة الإخوان المسلمين تدار بطريقة استبدادية بواسطة نفر محدود منها، ويستأثر بالقيادة فيها "الجدد" (تقصد الهضيبي)، وأن هذا النوع من القيادة يخالف مبادئ الإسلام التي تقوم على مبدأ الشوري ( )

وقد وصف أحمد عادل كمال، المساعد السابق لعبد الرحمن السندي في التنظيم السري، أحوال الجماعة في ذلك الحين بأنها تنقسم إلى مجموعتين:

مجموعة ساخطة على القيادة لا يفتأ أفرادها يرددون في وصفها عبارات: الدخلاء، المغرضون، الماسون، الظالمون، المحدثون، الوارثون، الانحراف ... إلخ وهي مجموعة المفصولين، والمجموعة الثانية، وهي مجموعة القيادة، تكثر كما قال من
"الفصل، والاتهام، والإيقاف، والاستغناء عن الأعداد الغفيرة من الإخوان، والشك، والاتهام والمقاطعة، والخصام ... إلخ" وقال: "هذا وذاك هما شقا الرحى اللذان كنا طحنا بينهما طوال شهور تسعة، ولا حول ولا قوة إلا بالله" ( )

وقد هاجم أحمد أنس الحجاجي مجموعة الهضيبي قائلا:

"إن السفينة في خطر، وإنكم أحدثتم فيها خروقا عدة من حيث تشعرون أو لا تشعرون، ومحال أن يكون مقصدنا التشهير والتعريض، إن دورنا معكم هو دور حارس السفينة وحاميها؛
وفي الوقت الذي كان يجب أن يكون فيه صوت الدعوة وصوت الإسلام هو صاحب الأمر، وهو القول الفصل في هذا الوقت، نرى الصف الإسلامي آخر الصفوف، وحتى مهمة النصيحة الهينة لم ندركها، وما ذاك إلا لأننا مشغلون بحرب داخلية، وإذا قال الناس عنا ذلك غضبنا عليهم وشتمناهم" ( )

في ذلك الحين طلبت "الدعوة" التحكيم فيما شجر من خلاف:

"إننا نطلب تحكيم القرآن وشرع الله، وماذا نخشى؟ ولماذا ندعي لبعض الأشخاص القداسة فلا نناقش أقوالهم، ولا يحاسبون ولا يناقشون؟" ( )

وكانت "الدعوة" تعلق آمالها في التحكيم على الهيئة التأسيسية التي أظهرت في ذلك الحين عجزا واضحا عن القيام بدورها في شئون الجماعة تحت سيطرة الهضيبي ومجموعته؛

فقد كتبت تصف الهيئة التأسيسية بأنها هي الجهة التي من شأنها أن يرد إليها كل أمر في الجماعة، وهي التي تنتخب مكتب الإرشاد العام والمرشد العام، وهي التي تناقشهم الحساب وتعرض عليها أعمالهم ( )

وقد نعت عليها أنها بعد الحل الأخير للإخوان، كانت "بعيدة عن النشاط الجبار الذي يقوم به الإخوان العاملون" وأنه "في التجربة الأخيرة التي مر بها الإخوان، وما صاحبها من فتن كقطع الليل المظلم، لم يسمع صوت الهيئة التأسيسية إلا مرة واحدة، ثم سكت الصوت ولم يسمع" ( )

ولما كان التنظيم السري برئاسة يوسف طلعت في صف الهضيبي ومجموعته، فقد تعرض لهجوم الدعوة، التي تحدثت عن نشرته السرية "الإخوان في المعركة" وفضحت بذلك سريتها، وقد استشهد ببعض ما ورد فيها، في معرض الدفاع ضد المعارضين، ووصفتها، نقلا عن بعض الإخوان، بأنها: "نشرة مدسوسة" وأن "كثيرا مما فيها لا يتفق وشرع الله" ( )

وبالنسبة للموقف من الثورة، فقد اتخذت مجموعة صالح عشماوي موقفا حاسما مؤيدا للثورة في وجه مجموعة الهضيبي، فقد أكثرت من الاعتراض على خطة الهضيبي في العداء للثورة، وكتب صالح عشماوي يقول

"إنه لن يستفيد من هذا الخلاف إلا المستعمرون والصهيونيون والشيوعيون والملكيون والإقطاعيون وكل خصم لدود لمصر والمصريين وللعرب والمسلمين" ( )

لهذا السبب رأت مجموعة "الدعوة" أن الدواء الوحيد للداء الذي تعاني منه الجماعة ينبني على التسليم بحقائق ثلاث:

الأولى: أنه يجب التئام الشمل وجمع الصفوف
والحقيقة الثانية: أنه لن يستفيد من التشاحن بين الإخوان المسلمين والثورة غير أعداء الوطن والدين
والحقيقة الثالثة: هي أن الهيئة التأسيسية في يد أعضائها كل شيء، فهي تملك إلغاء قرارات الفصل والإيقاف التي صدرت بالنسبة لأعضاء في الهيئة التأسيسية وخارجها في مختلف الشعب في القاهرة والأقاليم ( )

وحين هاجم الهضيبي اتفاقية الجلاء وهو في سوريا، لقي التنديد الشديد من صالح عشماوي، الذي رأى أن الهضيبي ما كان له أن يدلي بمثل تلك التصريحات قبل العرض على الهيئة التأسيسية؛

فكتب يقول:

"على أثر إذاعة الخطوط الرئيسية لاتفاقية الجلاء، أذاع الأستاذ الهضيبي، وكان يومئذ في بيروت، بيانا نشر في الصحف وأذيع من محطات الإذاعة المختلفة، وفيه نقد شديد لهذه الاتفاقية، وهجوم عنيف على رجال الثورة في مصر

وموقف خطير كهذا، يربط الإخوان جميعا، ويحملهم نتائج بعيدة المدى لا يملك تقريره المرشد وحده، ولا أعضاء مكتب الإرشاد مجتمعين، لأن قانون الإخوان يقضي، في مثل هذه المواقف، بدعوة الهيئة التأسيسية؛
وهي التي تمثل الإخوان وترسم سياستهم، إلى الاجتماع لبحث هذه الاتفاقية في عمق، ودراستها دراسة مستفيضة، وعلى ضوء ما يدور من مناقشات، تحدد الهيئة التأسيسية موقف الإخوان من الاتفاقية، ومن الذين قعوها، فهل حدث شيء من ذلك؟
كان الأستاذ الهضيبي في بيروت، وكان يستطيع أن يستقل أول طائرة إلى مصر، وكان يستطيع أن يدعو الهيئة في أيام بل في ساعات ولكن الأستاذ الهضيبي سارع إلى إعلان رأيه، وربط الإخوان جميعا بهذا الرأي، ثم عاد إلى القاهرة، ولكنه لم يتدارك ما فات، بل تجاهل المكتب، وتجاهل الهيئة" ( )

وعندما اختفى الهضيبي، شنت عليه الدعوة حملة شديدة، واعتبرت هذا الاختفاء حركة من الحركات البهلوانية، وأطلقت على الهضيبي اسم "المختفي الأعظم"!

وكتب أمين إسماعيل يصف هذا الاختفاء بأنه "عجز عن مواجهة الأحداث" وأنه "هرب من الذين يريدون أن يناقشوه الحساب، حساب سياسته الفاشلة التي أودت بالدعوة وبالجماعة إلى ما آل إليه الأمر من تفكك بعد ترابط، وتباغض بعد ألفة، وانحراف بعد استقامة" ثم قال

"إن الإسلام لا يقر مثل هذه الحركات البهلوانية التي يجيدها المهرجون الذين يعملون في سرك. وماذا تجني الفكرة الإسلامية من هذا الاختفاء؟ وماذا يعود على المسلمين وبلاد المسلمين من النعامة التي دفنت رأسها في الرمال فلا ترى شيئا ظنا منها أن أحدا لا يراها ما دامت هي لا ترى أحدا"؟

ثم تساءل:

"أين كان هذا الاختفاء في عهد فاروق وعهد حافظ عفيفي، الذي كان طلاب الإخوان يهتفون ضده في كل مكان، بينما كان المختفي الأعظم يقدم له أصدق التهاني في قصر عابدين في ذلك الآوان؟.
وبينما كان شباب الإخوان ينزعون رسوم فاروق وصوره ويمزقونها ويدوسونها بالأقدام، كان المختفي الأعظم ينزع رسم حسن البنا ليضع مكانه رسم فاروق؟" ()

وكتب صالح عشماوي يهاجم هذا الاختفاء ويقول:

"اختفى الأستاذ الهضيبي في مكان ما، وأخذ يقود شباب الإخوان في صراع عنيف مع رجال الثورة، فلا عجب إذا ثار كثير من أعضاء الهيئة على هذا الوضع الذي يخالف الشورى التي قررها الإسلام، والتزمت به الجماعة منذ عهد الإمام الشهيد!" ( )

وكان رأي صالح عشماوي في اتفاقية الجلاء يتناقض على خط مستقيم مع رأي الهضيبي ومجموعته وأنصاره، فقد كتب يصف هذه الاتفاقية بأنها:

"تتضمن مزايا لا ينكرها إلا مغرض، والرئيس جمال عبد الناصر وزملاؤه المفاوضون قد بذلوا أقصى ما يستطيعون للوصول إلى هذه النتيجة، وهم بهذا يستحقون الشكر والتقدير، فقد كانوا من الشجاعة بحيث صرحوا أن هذه الاتفاقية ما هي إلا خطوة، فلم يضللوا الشعب أو يخدعوه" ()

في الوقت الذي كان الخلاف يشتد بين مجموعة المفصولين ومجموعة الهضيبي، كان هناك خلاف آخر يدب داخل الجماعة بين المجموعة التي تريد التفاهم مع الثورة، والتي كان يرأسها محمد خميس حميدة، ومجموعة المعارضة للثورة برئاسة الهضيبي.

فقد تصادف في ذلك الحين وفقا لتطور الأحداث أن الفريق المعارض للثورة برئاسة الهضيبي كان قد أصبح كله تقريبا مختفيا تحت السطح، بينما كان فريق التفاهم مع الثورة يعمل فوق السطح برئاسة محمد خميس حميدة .. وعندئذ كانت المشكلة هي: من الذي يدير شئون الإخوان؟ هل يدير شئون الإخوان الفريق المختفي تحت الأرض، أم يديرها الفريق الظاهر؟

وبطبيعة الحال فإن الأمر كان يتوقف على طبيعة الاختفاء: هل هو اختفاء للعمل وممارسة النشاط بحرية، أم للانسحاب؟ فإذا كان اختفاء للعمل، انتقلت الإدارة الفعلية الى أيدي الفريق المختفي، وأصبح الفريق الظاهر مجرد ستار، وإذا كان الاختفاء للانسحاب، فإن الفريق الظاهر تقع في يده إدارة شئون الجماعة.

على أن كل فريق كان يرفض حجة الآخر، فقد كان فريق خميس يرى في اختفاء الهضيبي وفريقه انسحابا يسوغ له تولي شئون الجماعة، بينما كان فريق الهضيبي يرى في وجود المرشد، حتى ولو في الاختفاء، ما يمنع خميس وفريقه من الانفراد بالإدارة، وهكذا نشأ الخلاف.

وقد شرح محمد خميس حميدة ذلك حين ذكر كما ذكرنا أنه ذهب إلى الهضيبي بعد اختفائه، وكان في مخبئه، وقال له: "حيث إنك حتختفي ومش عاوز تطلع، فلازم الجماعة يديرها مكتب الإرشاد". فرد عليه قائلا: "أنا حر، أدي اللي عاوز أديله، أنت وكيل في غيابي فقط، وأنا موجود"

كان فريق الهضيبي وقتذاك يتكون كما رأينا من رؤساء الجهاز السري الثلاثة، وهم: يوسف طلعت، وصلاح شادي، وعبد المنعم عبد الرؤوف، بالإضافة إلى محمود عبده، وحسن العشماوي، وصالح أبو رقيق، كمال عبد الرازق، ومنير دلة، وعبد القادر عودة؛

بينما كان فريق محمد خميس حميدة يتكون من: عمر التلمساني، وعبد المعز عبد الستار وأحمد شريت، ومحمد أسعد جودة، وفتحي الأنور، وعبد السلام فهمي، وحلمي نور الدين، ومحمد الخضري، وكما كان أمل مجموعة المنفصلين معلقا على الهيئة التأسيسية، فإن أمل مجموعة الهضيبي كان معلقا بها أيضا.

وكان الاجتماع السنوي للهيئة قد تحدد له يوم الخميس 9 سبتمبر 1954، وبذلك بدا أن معركة حامية سوف تدور بين أنصار الفريقين، وبطبيعة الحال كان لا بد للجهاز السري أن يكون له دور في تأييد الهضيبي، فقد أوردت "الدعوة" قبل الاجتماع بيومين أن "هناك تدبيرا من بعض الإخوان للزج "بإخوان المناطق والشعب" لمعارضة هذا الاجتماع أو الهتاف ضد الهيئة" ( )

وقد عقد الاجتماع فعلا، ولكن الهضيبي أرسل إليه من مخبئه خطابا تلي على أعضاء الجماعة بين فيه وجهة نظره في الخلافات الدائرة بين الجماعة والثورة من جهة، ومن معارضة اتفاقية الجلاء من جهة أخرى ...

وفي هذا الخطاب الهام، أوضح الهضيبي أن ما فعله الإخوان المسلمون من معارضة كل اتفاق مع المستعمرين ليس شهوة عندهم، وإنما هو أصل دينهم، فإن أحكام الإسلام تقتضي أنه إذا وطأت أقدام العدو أرض المسلمين، وجب على كل واحد منهم صغيرا أو كبيرا أن ينهضوا لدفع العدو أيا كان" وبالتالي "فليس لنا أن نرضى بوجودهم على أرض الإسلام بمقتضى اتفاقات نعقدها معهم، ولا أن نرضى بأي ارتباط كان".

ثم ذكر الجماعة بما قدمته من مساعدات "لرجال الانقلاب" منذ بداية الحركة "حتى تماسكوا وثبتت أقدامهم" وتعرض لقرار الحل في يناير 1954، واعتقال الإخوان، وإسناد شتى التهم إليهم، ثم الإفراج عنهم من غير تحقيق ولا سؤال، واستبقاء البعض الآخر في السجون، وقال: إن من حقهم أن يفرجوا عنا بلا كلام.

ولكن وهم يطلبون منا التعاون، فإننا نرجو أن يفرج عن جميع المعتقلين، وأن يلغى قرار حل الإخوان المسلمين، وأن يذكروا كلمة تنسخ أثر الكلام الذي قيل في تبرير الحل والاعتقال".

وبعد أن تعرض الهضيبي لفشل المفاوضات بين الجماعة والثورة في تحقيق هذه المطالب، تحدث عن حملة الحكومة على الجماعة، وألوان الحرب التي شنتها عليها؛

وقال إن:

"ما ذكرناه من رأينا في المعاهدة إذ كنا بسوريا، وما أصدره المركز العام من رأي كذلك في المعاهدة، هو الذي أغضب الحكومة وجعلها تصف الإخوان بما وصفتهم به من أنهم خونة وعمال هدم وتخريب شأنهم في ذلك شأن الشيوعيين والصهيونيين.

وقال إن ما فعلته الجماعة إنما كان

"بناء على أصل ديني أخذوا به في جميع البلاد الشرقية، وأخذوا به كلما همت حكومة أن تتفق مع الإنجليز في مصر".
"وقد كنا نظن أن هذه المعارضة مما تلجأ الحكومة لاستحداثها لو لم تكن حدثت، حتى تقوى مركزها في مفاوضة لم تتم ... وإذا كانت الحكومة مضطرة فإننا لسنا مضطرين للموافقة على المعاهدة، ... وينبغي أن يكون لكل رأيه فيها كما أن للحكومة رأيها، وكل منا يتحمل تبعة رأيه، وليس علينا إلا البلاغ، وليس من حق أحد أن يقضي في مستقبل أمة دون أن يرجع إليها ويتقيد بآرائها"

ثم طلب في النهاية من الإخوان أن:

"يكونوا مستعدين للموت في سبيل دعوتكم فإن من مبادئنا: الموت في سبيل الله أسمى أمانينا، والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون" ( )

وفيما يبدو أن قوة الحجة في هذا الخطاب، قد جعلت الهيئة تكفي بسماع الخطاب وإرجاء الاجتماع إلى يوم 23 سبتمبر وإن كان صالح عشماوي يسوق رأيا أكثر صحة وواقعية، فقد ذكر أن

"حاشية الأستاذ المرشد شعرت بالسحب التي تتجمع، فاحتالت على الهيئة بالخداع والإرهاب: أما الإرهاب، فقد تم بحشد شباب الشعب والجهاز السري لتحدي أعضاء الهيئة، وإلقاء الرعب في قلوبهم قبل الاجتماع؛
وأما الخداع، فتم في صورة عجيبة، وهي أنه قيل للأعضاء إن لجنة اتصال بالحكومة قد تكونت وبدأت عملها، وهي ترجو من الهيئة أن تفسح لها من الوقت ما يمكنها من تصفية الجو بين الحكومة والإخوان، وبذلك انتزعت الموافقة على تأجيل الجلسة لمدة أسبوعين" ( )

في ذلك الحين، كان الصدام المتوقع بين آونة وأخرى مع الحكومة، قد بدأ يلقي الرعب في قلوب الكثيرين من أعضاء الهيئة التأسيسية ومكتب الإرشاد، خصوصا ولما تكن قد مضت أشهر قليلة على محنة الحل والاعتقال والإيذاء؛

ولذلك اقتنع كثيرون بطريقة التماس التفاهم مع الثورة بأي ثمن، وكانت مجموعة صالح عشماوي، تحت إحساس قوي بخطورة الصدام مع الثورة على مستقبل حركة الإخوان، قد أخذت تطلق أجراس إنذار عالية تدعو فيها إلى أولوية حل النزاع مع الثورة على أي شأن آخر من شئون الجماعة" ( )

بينما كانت مجموعة محمد خميس حميدة تعطي الأولوية لتعديل القانون الأساسي حتى تنتزع السلطة من الهضيبي ومجموعته، ويكون مكتب الإرشاد هو "الذي يحمل أعباء الدعوة" ( )

وقد اشتد الصراع بين الاتجاهين قبل موعد اجتماع الهيئة التأسيسية في 23 سبتمبر، وكتب صالح عشماوي يقول:

"بعد غد الخميس، تجتمع الهيئة للمرة الثانية، وفي جدول أعمالها مشروع براق هو تعديل القانون، وإني أحذر إخواني أعضاء الهيئة من الوقوع في خديعة أخرى تصرفهم عما اجتمعوا من أجله، أن تعديل القانون واجب فعلا، وطالما نادينا به؛
ولكن هذا التعديل، الذي تأخر حتى اليوم، يمكن ان يتأخر لجلسة أخرى من غير ضرر، فلم يعد موضوع الساعة، وإنما هذه الخصومة الحقيقية بين الإخوان والحكومة هي المسألة البارزة التي يجب أن تتقدم على ما عداها، وأن يبت فيها بسرعة وحزم
وسنرى بعد غد إن كانت قيادة الإخوان قد انتقلت كما قال عبد الحكيم عابدين لمراسل جريدة عبرية تصدر في تل أبيب إلى دمشق، أم أن هذه القيادة، ممثلة في الهيئة التأسيسية، ما زالت في القاهرة؟" ( )

وقد عقد اجتماع الهيئة التأسيسية يوم 23 سبتمبر، برئاسة محمد خميس حميدة، وحضره نحو مائة عضو من 147 عضوا، وكانت فيه أغلبية كبيرة تعارض سياسة المرشد وتنقدها نقدا مرا، واستمر الاجتماع 18 ساعة، كان "الإخوان القدامى" حسب تعبير "الدعوة" يسيطرون فيه على الموقف؛

ووقف العضو الحاج محمد جودة يعبر عن وجهة النظر المعارضة للهضيبي، فأوضح أن ما يقال عن رفض الثورة إلغاء قرار الحل غير صحيح، فقد تسلم من رئاسة مجلس الوزراء خطابا يعلن فيه عبد الناصر أن القرار قد ألغي من 25 مارس 1954؛

وقد سلم هذا الخطاب إلى منير دلة قبل سفره إلى لبنان للحاق بالمرشد، (يلاحظ أن الملطوب لم يكن إلغاء الحل فقط، بل بيان من الثورة ينسخ أثر المبررات التي قيلت في بيان الحل)

كما كشف النقاب عن اللقاء الذي تم بين لجنة الاتصال التي تشكلت من مكتب الإرشاد وبين عبد الناصر، وقال إن عبد الناصر في هذا اللقاء نقد بيان المركز العام الخاص بالمعاهدة، وقارنه بما قبله الإخوان في اتصالهم بالإنجليز!!

واستشهد بالدكتور خميس الذي كان حاضر وقائع الاتصال نفسها، فوافق الدكتور على كل ما قاله الرئيس أمام أعضاء اللجنة جميعا، وتعرض محمد جودة لما حدث من تصريحات عبد الحكيم عابدين في دمشق

(والتي تم على أثرها تجريده من الجنسية المصرية ومعه كل من سعيد رمضان وسعد الدين الوليلي ومحمد نجيب جويفل وكامل إسماعيل الشريف، وكلهم من الإخوان، ومحمود أبو الفتح صاحب جريدة المصري بتهمة تشويههم لسمعة بلادهم في الخارج)

وقال إن الرسميين في الحكومة اتصلوا بالمسئولين في المركز العام، وسألوا عما إذا كان عبد الحكيم عابدين مسافرا بقرار، وأنه يمثل الإخوان، فأجابوا بالنفي، فطلبوا منهم بيانا بهذا المعنى، فأبوا، وقال: "وهكذا تطورت الأمور إلى ما وصلت إليه" ( )

استمر الاجتماع مدة 18 ساعة كما ذكرنا، في مناقشات وجدل طويل، وبعد هذه المدة المنهكة للقوى والأعصاب أخذ الأعضاء يغادرون الاجتماع للاستراحة، وانتهزت مجموعة الهضيبي الفرصة ولم يبق في الاجتماع أكثر من 25 عضوا

فاتخذت قرارا باسم الهيئة، بحل الهيئة التأسيسية، وتجديد البيعة للهضيبي مدى الحياة، وتعديل قانون الجماعة فيما يتعلق بانتخاب أعضاء الهيئة التأسيسية، وسلطة ومسئولية مكتب الإرشاد ... وأعلن عبد القادر عودة هذه القرارات للصحافة باعتبارها القرارات التي اتفق عليها الجميع ( )

وقد كان لهذه القرارات وقع الصدمة، ليس فقط في صفوف الحكومة، بل في صفوف مجموعة صالح عشماوي، التي كانت تعلق آمالا على انتصار المجموعة المعارضة للهضيبي يعيدها إلى صفوف الجماعة من جديد، ولذلك كتب صالح عشماوي مقالا خطيرا، يعد أساس فكرة التكفير والهجرة التي اعتنقتها "جماعة المسلمين" (التي عرفت باسم جماعة التكفير والهجرة) بعد عشرين عاما وهو بعنوان "هجرة وتمييز"

وفي هذا المقال الهام اتهم صالح عشماوي دعوة الإخوان بالانحراف والفساد، وأعلن يأسه التام من إصلاحها، ودعا إلى الهجرة لتمييز العناصر الطيبة من العناصر الخبيثة، وأرجع بداية فساد الجماعة "منذ جاء الأستاذ الهضيبي مرشدا، وبعد المقابلة الملكية الكريمة!! على وجه التحديد" حيث "بدأنا نشعر بالانحراف في دعوة الإخوان، وبالفساد يدب في أوصالها".

وتعرض للخداع الذي تعرضت له الهيئة التأسيسية في اجتماعها الأخير، وكيف استطاع الهضيبي "بواسطة بطانته وأتباعه أثناء اجتماع الإخوان، أن يختلسوا قرارا بحل الهيئة التأسيسية في صورة تعديل للقانون الأساسي للجماعة".

وقال إنه لا يهدف إلى تقرير بطلان هذا القرار فحسب، لأن الأمر أخطر من هذا وأدق، وإنما أستطيع أن أؤكد أنه لم يعد هناك أمل في إصلاح الهيئة وتنحية العناصر النفعية والانتهازية، التي تلتف حول الأستاذ الهضيبي، وتزين له سياسته وإن أدت إلى تحطيم الجماعة والقضاء عليها؛

فقد دلت التجارب على أن هذه العناصر لا تتورع عن الغش، والخداع، والتضليل، كما أنها لا تتردد في إشاعة الضغط والإرهاب لتصل إلى أهدافها وتحقق مآربها الشخصية؛

كما أثبتت الحوادث أيضا أن العناصر المؤمنة الطاهرة المخلصة لا تقوى على الحياة في هذا المحيط المتعفن، ولا تستطيع أن تعمل في هذا الجو الموبوء، ولم يبق هناك بد من هجرة هذه العناصر الطيبة التي تعمل لله ودعوته، وللإسلام وشريعته، لا تبغي من وراء ذلك مغنما إلى تربة صالحة لنمو الفكرة الإسلامية وازدهار الدعوة المحمدية، ولا بد إذن من تمييز المؤمنين الطيبين عن المنافقين الخبيثين".

ثم استدل صالح عشماوي بما فعله رسول الله من هجرته إلى المدينة، ثم عودته إلى مكة معقل الكفر وقلعة الشرك يومئذ، ففتحت أبوابها، وألقت زمامها للفاتحين من المؤمنين، وقال: "هذه سيرة الدعوة الأولى، وتلك سنة الله في الدعوات، ولن تجد لسنة الله تبديلا ولا تحويلا، فلا بد من هجرة، ولا بد من تمييز، وليس وراء ذلك إلا نصر من الله وفتح قريب، وبشر المؤمنين" ( )

على أن معارضي الهضيبي ما لبثوا، مع تزايد احتمالات الصدام، أن أخذوا يعدون لهجوم مضاد، في الوقت الذي جرت في أكتوبر اتصالات بين وفد مكون من محمد خميس حميدة، وأحمد شريت، ومحمد الخضري، وحلمي نور الدين وهم من أعضاء الهيئة التأسيسية، وبين عبد الناصر، للتوصل إلى اتفاق يزيل أسباب الصدام حول مسألتي اتفاق الجلاء والنظام الخاص ( )

وفي يوم 20 أكتوبر، أسفرت جهود الفريق المعارض للهضيبي عما عرف باسم "انقلاب في الإخوان المسلمين" ولم يكن في الحقيقة أكثر من انقسام، فقد عقد نحو 70 عضوا من أعضاء الهيئة التأسيسية المنحلة .. اجتماعا يوم 20 أكتوبر، واتخذوا فيه خمسة قرارات تقضي بالآتي:

  1. اعتبار فضيلة المرشد العام الأستاذ حسن الهضيبي في إجازة.
  2. إلغاء مكتب الإرشاد الحالي.
  3. إلغاء قرارات الفصل والإيقاف وحل الشعب، التي صدرت في السنوات الثلاث الأخيرة
  4. بطلان ما نسب للهيئة التأسيسية من اتخاذ قرارات بتعديل القانون الأساسي للجماعة (قرارات 23 سبتمبر).
  5. تكوين لجنة مؤقتة لإدارة شئون الجماعة، ريثما تجتمع الهيئة التأسيسية وتتخذ ما تراه لإقراره شئون الجماعة على أسس سليمة.

وقد وقع على هذا البيان 68 عضوا من الهيئة التأسيسية، وحمل الأستاذ البهي الخولي، عضو مكتب الإرشاد، هذه القرارات، نيابة عن الهيئة التأسيسية، إلى دار الإخوان، وأخطر بها مكتب الإرشاد.

وفي اليوم التالي، 21 أكتوبر، عقد اجتماع مشترك لمكتب الإرشاد وفي أعضاء الهيئة التأسيسية المنحلة تحت رئاسة الدكتور محمد خميس حميدة، في المركز العام، شهد مناقشات واشتباكات حامية بين أنصار الهضيبي المعارضين لعبد الناصر، وخصومه المؤيدين للتفاهم؛

وأسفر عن عدة قرارات أعلنها الدكتور محمد خميس حميدة تنص على ما يلي:

  1. ضم كل من محمد حلمي نور الدين، ومحمد الخضري، ومحمد أسعد جودة، ومحمد فتحي الأنور، ومحمد عبد السلام فهمي، (وهم جميعا من أعضاء الهيئة التأسيسية المنحلة ومن أنصار الدكتور خميس) إلى مكتب الإرشاد المؤقت.
  2. تأجيل إجراءات انتخابات أعضاء الهيئة التأسيسية إلى موعد يقرره المكتب المؤقت فيما بعد.

وقد نوقش في الاجتماع التعديل الذي يراد إدخاله في القانون الأساسي للجماعة بما يسمح بانتخاب أعضاء الهيئة التأسيسية، وذلك بأن يتولى مجلس إدارة الشعب انتخاب سبعة أعضاء عن كل شعبة، ويقوم ممثلو هذه الشعب باختيار 90 عضوا من أعضاء الهيئة التأسيسية التي تتكون من 120 عضوا، وتقوم لجنة العضوية التي يختارها هؤلاء التسعون عضوا بتعيين الثلاثين عضوا الآخرين. ( )

وقد كان معنى هذه التغيرات، إسقاط الحكم الفردي الذي كان يمثله الهضيبي، والذي ورثه عن المرحوم الشيخ حسن البنا، وانتقال القيادة إلى مكتب الإرشاد، الذي لم يكن له أية سلطة من قبل، وإشاعة الديمقراطية في تنظيم الجماعة عن طريق انتخاب الهيئة التأسيسية التي كانت العضوية فيها قائمة على التعيين؛

ولكن نظرا لأن هذه التغييرات قد تمت كما رأينا عما عرف باسم "انقلاب" في الإخوان المسلمين، فإنها لم تكن في الحقيقة سوى مظهر من مظاهر التمزق الذي كانت تعانيه الجماعة، والذي أفسح المجال بالضرورة للتنظيم السري للنزول إلى الميدان.

الفصل الثاني عشر:خطط الجهاز السري لإسقاط حكم عبد الناصر وحادث المنشية

رأينا مما سبق كيف انقسم الإخوان المسلمون بين مجموعتين تتنازعان الانتماء إلى الجماعة وتعلن أنه هي الإخوان المسلمون:

مجموعة الهضيبي في قيادة الجماعة، ومجموعة صالح عشماوي المطرود من الجماعة، وكيف انقسمت مجموعة الهضيبي داخليا بين مجموعتين، مجموعة متطرفة بقيادة الهضيبي نفسه، يساندها الجهاز السري
ومجموعة محمد خميس حميدة التي لا تحظى بتأييد الجهاز السري، وكان عبد الناصر يستغل بذكاء هذا الانقسام المعقد والمتعدد الأطراف، فيضرب مجموعة صالح عشماوي المؤيدة له بالمجموعتين الأخريين، ويجمع أطراف الموقف لصالحه.

كذلك رأينا احتدام الصراع بين هذه المجموعات الثلاث من الإخوان، الذي اتخذه صورة قاسية وغير كريمة من تبادل الاتهامات والاشتباكات اليدوية والاعتصامات والانقلابات، مما كان يميز الحياة الحزبية قبل الثورة التي كانت جماعة الإخوان تهاجمها بحجة أنها تمزق وحدة البلاد؛

وقد انتهى هذا الصراع الداخلي في الإخوان بانقلاب يومي 20 و 21 أكتوبر، الذي أسفر عن إسقاط الحكم الفردي والقيادة الاستبدادية التي أرسى الشيخ حسن البنا أسسها، وورثها الهضيبي؛

وانتقال القيادة إلى مكتب الإرشاد، ولكن نظرا لأن مجموعة الهضيبي لم تعترف بهذا الانقلاب، فلم يعد أن يكون مظهرا من مظاهر تمزق الجماعة، الذي أفسح المجال بالضرورة لنزول التنظيم السري إلى الميدان.

حادث المنشية

على هذا النحو كانت حركة الأحداث تدفع إلى صدام محتوم بين الإخوان وعبد الناصر، ففي ذلك الحين، وكما رأينا، كانت قيادة الإخوان المسلمين السياسية تتفسخ تحت وطأة الصراع الطويل الدائر منذ أزمة فبرايرمارس 1954؛

كما كان التنظيم العلني يتعرض لضربات قاصمة وانقلابات بتأثير السلطة، ومن الطبيعي في هذه الظروف أن يبرز دور التنظيم السري الذي أخذت الأنظار تتطلع إليه للإنقاذ والأخذ بالثأر، وهذا ما عبر عنه تعبيرا بليغا هنداوي دوير في شهادته أثناء المحاكمة

فقد ذكر أنه كان على أثر الخلاف الشديد الذي وقع في الهيئة التأسيسية، أن فقدت احترامها في نفوس الإخوان، كما فقد مكتب الإرشاد احترامه أيضا، لأنه لم يستطع أن يقوم بمهمته في توجيه الإخوان، حتى أصبحت التعليمات التي تصدر منه لا تلقى تأييد الإخوان".

"وفي هذه الفترة" كما يقول "وجدنا أن الأجهزة الإدارية في الإخوان أصبحت كلها معطلة، فيما عدا الجهاز السري في الإخوان، الذي أصبح يسيطر على الموقف، ويصدر تعليماته إلى الإخوان".

ومن الثابت من مذكرات حسن العشماوي، رغم حرصه الشديد وتجاهله حقائق الانقسام والتمزقات التي رأيناها أن فكرة استخدام العنف قد طرحت في الاجتماعات السرية لمكتب الإرشاد تحت رئاسة الهضيبي، وهذه نقطة جديدة تماما، لأن مكتب الإرشاد تنظيميا يعتبر بعيد الصلة عن الجهاز السري، ومعنى ذلك أن النشاط العلني قد أضيف لحساب النشاط السري؛

وقد وصف حسن العشماوي ذلك بقوله:

"حين نوقشت مسألة الموقف من الحكومة عموما، وما يمكن أن نقوم به وحدنا، ومتعاونين مع غيرنا، من أعمال، لتغيير الوضع القائم، ومنع استمرار الحكم العسكري المفروض على شعب مصر حين نوقشت هذه المواضيع
كان من المحزن حقا أن ينطوي على نفسه كل من يرى مهادنة الحكومة إيثارا للسلامة، أو عن اقتناع، فلم يجهزوا برأيهم في الاجتماعات الرسمية، وإن قالوه في أحاديثهم مع الأفراد في الخارج، ولذلك ظلت صور المقاومة هي وحدها مدار المناقشة".

ثم روى حسن العشماوي أنه طرحت في ذلك الحين:

"فكرة اختطاف بعض رجال البوليس الحربي والمباحث العامة، وأخذهم كرهائن مقابل من اعتقل من الإخوان، وكان الهدف من ذلك شل حركة الدولة، وإسقاط هيبتها، وجعل زملاء الرهائن أكرم معاملة للمعتقلين منا، وأكثر تحرزا في تنفيذ أوامر القبض بالجملة"
وقد أقر هذا الاقتراح بالفعل كما يقول حسن العشماوي وأعدت له وسائل تنفيذه، ثم أرجئ بعض الوقت، ثم عاد التفكير فيه بعد تزايد حملات الاعتقال وفصل الموظفين والطلبة من الإخوان، ولكن دوران عجلة الأحداث منع تنفيذه" ( )

كان التنظيم السري في ذلك الحين يقدم اقتراحاته، فقد اقترح عبد المنعم عبد الرؤوف بعد هروبه من السجن، إعداد أربع أو خمس فصائل مسلحة، ترتدي ملابس رجال البوليس الحربي، وتقوم باقتحام مجلس الوزراء، واحتلاله، وقد اعترف بهذه الخطة يوسف طلعت أثناء المحاكمة؛

فقد روى أنه عندما قابل عبد المنعم عبد الرؤوف بعد هروبه، أخبره بهذه الخطة وقال له: "عايزين ملابس عسكرية، وعايزين كام فضيلة: أربعة، خمسة مسلحة"

وقد سأله جمال سالم:

  • يعمل إيه بالفصائل؟
يقتحم مجلس الوزراء.
  • ويحتله؟
يوسف طلعت: أيوة .. لقد قال: "أعطني قوة ومالكش دعوة، أنت مني مالكش دعوة بالنواحي الفنية العسكرية".
  • رالرئيس: تنفيذا لاقتحام مجلس الوزراء، اشتريتم ملابس عسكرية؟
يوسف طلعت: أيوة يا فندم، وهم راحوا جابوها.
  • الرئيس: 42 عسكري بالبريهات الحمر؟
يوسف طلعت: أنا عارف بيريهات والا مش بريهات! أهي ملابس عسكرية وبس ( )
ثم قال: " أنا رحت لإبراهيم بركات، وقلت له: هل ممكن نشتري ملابس عسكرية؟ فقال لي : آه، ممكن. وأخذ مني 50 جنيها: مرة 10، ومرة 20 جنيه بالقطاعي" ( ) وقد تم بالفعل شراء 50 بزة عسكرية تم ضبطها بعد الحادث ( )

على أن هذه الفكرة كما يقول يوسف طلعت استبعدت، نظرا لتعذر توفير الإمكانيات، فقد جاء في قوله: "لما عجزنا عن إجابة مطالبه (عبد المنعم عبد الرؤوف)، اتسرحت الفكرة دي" ( )

وقد برزت على أثر ذلك خطتان:

الأولى، وتقوم على الاتفاق مع اللواء محمد نجيب على القيام بتحرك داخل الجيش بمساعدة القوات الموالية له، ليفرض على عبد الناصر وأعضاء مجلس الثورة الانسحاب إلى ثكناتهم، على أن يقدم له الإخوان المسلمون التأييد الشعبي اللازم.
وهذه الخطة كما هو واضح هي محاولة لتكرار ما حدث في أزمة فبراير، عندما تحرك سلاح الفرسان على أثر تنحية محمد نجيب لإعادته إلى رئاسة الجمهورية، وتحرك الإخوان المسلمون بمظاهراتهم الضخمة إلى ميدان عابدين لفرض عودته على مجلس الثورة.
وكانت هذه الخطة تلقى موافقة الهضيبي، ولكنه لم يجد طريقة لتنفيذها قبل توقيع المعاهدة، لأنه كان يعرف انصراف الجماهير، خصوصا الوفدية واليسارية، عن الإخوان المسلمين، بعد موقفهم الانتهازي في أزمة مارس، وتأييدهم لعبد الناصر ورفاقه مما مكنهم من ضرب القوى الوطنية الديمقراطية والتقدمية؛
لذلك أدرك الهضيبي أنه إذا قام الإخوان المسلمون بحركتهم تحت شعار عودة الحريات، فلن يصدقهم أحد، ويكونون منفردين، على أنه بعد توقيع المعاهدة، وإجماع كل القوى السياسية على معارضتها، عاد مناخ الجبهة من جديد، وانتعش الأمل في قيام مظاهرات ضخمة كتلك التي قامت يوم 26 و 27 فبراير 1954، ولذلك أعلن الهضيبي موافقته على هذه الخطة.

وهذا على كل حال ما كشفه سيد قطب في شهادته أمام المحكمة، فقد ذكر أنه حين قابل الهضيبي بعد عودته من سوريا

"أعدت عليه (الهضيبي) ما اقترحته قبل ذلك مرات، من أن الإخوان المسلمين يجب أن يؤدوا واجبهم في المطالبة بعودة الحريات الشعبية، والضمانات القضائية، لأن هذا واجبهم الذي عليهم أن يؤدوه لله وللشعب، وكان رده في المرات السابقة قبل أن يسافر، أن الإخوان المسلمين لا يجوز أن يقوموا بحركة منفردة؛
وأنه يجب أن يكون كل الشعب معهم، وأن يكون الجيش كذلك أو أغلبيته، وأنه يجب أن يكون كل الشعب معهم، وأن يكون الجيش كذلك أو أغلبيته، ولكنه في المرة الأخيرة، أجابني بأن هناك حركة سيقوم بها الجيش لإعادة الحريات الطبيعية، ولإعادة الضمانات القضائية
وأن أغلبية عظمى في الجيش ستقوم بهذا في حركة شبيهة بما حدث في سوريا من إجبار الجيش على أن يعود إلى الثكنات، وأن يسلم البلاد للرجال المدنيين، وقال إن الإخوان سيكون دورهم أن يقوموا بالتأييد الشعبي للحركة الجديدة حتى تتم".

كما ذكر سيد قطب أنه أراد التأكد من المرشد عما إذا كان قد وضع الترتيبات اللازمة لمواجهة الولايات المتحدة التي تؤيد بقاء عبد الناصر، وكذلك بعض البلاد العربية، فأجابه بأنه وضع الترتيبات الداخلية اللازمة لذلك،

وكانت العبارة التي ساقها سيد قطب في هذا الصدد قوله:

"كانت النقطة التي أحببت أن أتأكد منها (من الهضيبي) هي عن الموقف الدولي وموقف بعض البلاد العربية، لأني كنت أعتقد أن الموقف في مصر ليس منفردا، وإنما هو متصل بالموقف الدولي، وأن أمريكا بالذات قد تكون حريصة على بقاء الأوضاع الحالية، وكذلك الحال مع بعض البلاد العربية، وقد أجاب بأن هذا قد عمل حسابه، وأن الرئيس محمد نجيب سيظل على رأس الدولة، وسيعاونه الأشخاص الذي تكمل بهم هذه الضمانات".
  • وقد سأله وكيل النائب العام:ألم تسأل المرشد عن ما هي القوات التي ستتعاون معه في هذا، سواء من الجيش أو المدنيين؟
فرد سيد قطب قائلا: فهمت أن اللواء محمد نجيب سيكون على رأس قوات الأغلبية التي ستقوم بالضغط على بقية الجيش لتحقيق فكرة الرجوع إلى الثكنات، وإعادة الحكم للمدنيين ( )

ومعنى هذا الكلام أنه جرت اتصالات بين الهضيبي ومحمد نجيب لوضع هذه الخطة موضع التنفيذ، وهو ما لم ينكره محمد نجيب في مذكراته، ولكنه أعطى الانطباع بأن هذه الاتصالات تمت مع قائد حرسه محمد رياض، فقد ذكر أن محمد رياض أحيل إلى المعاش في شهر أكتوبر 1954 (وهو الشهر الذي جرت فيه محاولة الاغتيال) ثم صدر أمر بالقبض عليه لاتهامه بمحاولة عمل انقلاب ضد جمال عبد الناصر بالاشتراك مع الإخوان المسلمين! ( )

وقد أورد إبراهيم الطيب، رئيس مناطق القاهرة، أن الخطة التي أبلغه بها يوسف طلعت كانت تقوم "على أساس الاتفاق والتفاهم القائم بين الإخوان من ناحية، وبين اللواء محمد نجيب من ناحية أخرى، واللواء محمد نجيب معه كثير من وحدات الجيش مؤيدة لرأيه".

  • وقد سأله جمال سالم: كيف عرف أن كثيرا من وحدات الجيش مؤيدة لرأيه؟
فأجاب: هذا هو الذي ذكره لي يوسف ( )

وقد اعترفت الهضيبي بصعوبة بالغة بأنه سمح بعمل مظاهرات "بشرط أن تكون من جميع عناصر الأمة".

فقد سأله جمال سالم قائلا:

  • افرض أنه كان في إمكان يوسف طلعت أن يقوم بمظاهرات، وقام بمظاهرات، تبقى الحالة إيه؟
الهضيبي: ولا حاجة! ناس عملوا مظاهرة!
الهضيبي: إذا كان ممكن يعملوها.
الهضيبي: ولا حاجة!
الهضيبي: ما أعرفش.
  • جمال سالم: ما هو الوضع الذي تصل إليه حالة الأمن عندما تقوم هذه المظاهرات؟ هل تبقى مستتبة؟
الهضيبي: إذا تعرضت لها الحكومة تكون غير مستتبة، وإذا تركت الناس يقولوا رأيهم، تبقى مستتبة وينصرف كل واحد لحاله!
  • جمال سالم: وانت كنت تعرف أن الحكومة ستتعرض لهذه المظاهرات؟
الهضيبي: أنا شخصيا ما فرضتش هذه الفروض!
  • جمال سالم: هل تعلم أن المظاهرات ممنوعة بحكم القانون؟
الهضيبي: أعرف أنها ممنوعة، ولكن سبق أننا عملنا مظاهرات في مناسبات كثيرة علشان تطالب بحاجات!
الهضيبي: في 25 مارس، وفي 28 فبراير!
  • وفقد جمال سالم أعصابه فقال: "أنا مش بقول لك تقف أمام المحكمة علشان تترافع .. أنت واقف شاهد، رد على السؤل اللي يوجه إليك!
  • ثم سأل رئيس النيابة الهضيبي قائلا: قرر يوسف طلعت صراحة أنك سمحت له بقيام مظاهرات مسلحة؟
الهضيبي: لا، هو غلطان، هاته وشوف جسمه لعل عقله مش تمام؟ ( )

هذا إذن هو قصارى ما وافق عليه الهضيبي، وهو تكرار أحداث فبراير 1954:

أي حركة جيش تساندها حركة شعبية تتكون من كافة القوى الوطنية الديمقراطية، ويقودها الإخوان، وكان هذا التفكير يعتمد على حقيقة لصالح عبد الناصر، هي أنه لن يصطدم اصطداما دمويا مع الجماهير الشعبية إذا تبين له إصرارها على عودة الحياة الديمقراطية، وهو ما حدث بالفعل في أحداث فبراير ومارس 1954.

وقد عبر إبراهيم الطيب عن هذا التفكير بعبارة واضحة بقوله:

"سبق أن كانت هناك سابقة في حوادث 25 مارس وما سبقها، فإن سعادة الرئيس جمال لما وجد اتجاها معينا، كان يسلم به، فكان برضه مفهوما لدى الناس الذين يعدون هذا الإعداد، أنه من الجائز أن نحصل على المطالب التي تقوم بها الحركة بدون أي إراقة دماء. ( )

على أنه بالنسبة للتنظيم السري كان عليه أن يضع احتمالات الصدام المسلح بين قوات عبد الناصر والمظاهرة الشعبية، ومن هنا أخذت تتطور فكرة المظاهرة الشعبية السلمية إلى مظاهرة شعبية تحرسها قوات التنظيم السري الخاص بالإخوان، فإذا وقع الصدام بالفعل مع قوات عبد الناصر، بدأت هذه القوات في حملة اغتيالات لأعضاء مجلس الثورة.

وقد شرح هذه الخطة إبراهيم الطيب قائلا:

"كانت الخطة هي أن تقوم القوات الموالية للرئيس محمد نجيب مع القوات الشعبية معا، بالمطالبة بهذه المطالب، فإذا قامت هذه الحركة، وحصلت عليها اعتداءات، فإن هذه القوات ترد هذا الاعتداء بكافة السبل.
إبراهيم الطيب: كالاغتيالات.
إبراهيم الطيب: المعارضين من أعضاء مجلس القيادة.
إبراهيم الطيب: اللي علمته أنه اغتيال المجلس كله إذا حصل اعتداء أو ضرب.
إبراهيم الطيب: عدا أفراد معينين ( )

وقد كان صاحب الفكرة في المظاهرة المسلحة هو عبد المنعم عبد الرؤوف كما اعترف بذلك يوسف طلعت أمام المحكمة .. فوفقا لكلامه:

"في يوم قابلني عبد المنعم عبد الرؤوف، وعرض علي فكرة المظاهرات المسلحة: مظاهرات تحميها قوات مسلحة، علشان لو حصل اعتداء عليها، هذه القوات ترد الاعتداء، وبعدين يعقبها اغتيالات عامة لأفراد من مجلس قيادة الثورة".
فرد عليه قائلا:لا، حيقتلوا بعض أفراد مجلس الثورة!
يوسف طلعت: ما هو أنت منهم!
وأردف يوسف طلعت قائلا:عاوز الحق، أنا أقسمت أن أقول الحق، وأنا حسبي أن أقول الحق وبس، أما النتائج فهي في يد الله تعالى، هو الذي يتصرف في أقدار الناس، وأنا فاهم أنني أتكلم للتاريخ، وحاقول كل غلطة عملتها".
ووفقا لما ذكره يوسف طلعت، فإن الخطة كانت تتضمن أن يتولى عبد القادر عودة تدبير هذه المظاهرات، ويتولى النظام السري حمايتها ... وعلى حد قول يوسف طلعت:
عبد القادر مسئول عن إخراج المظاهرات، وأنا مسئول أن أساعد عبد المنعم (عبد الرءوف).
يوسف طلعت: أيوة نجيب الأفراد اللي تحميها، أما جمع المظاهرات فهذه مش شغلتي، دي عبد القادر يعملها ( )

وقد دخلت احتمالات تدخل الإنجليز لإحباط الخطة في الاعتبار، خصوصا بعد أن أبرم عبد الناصر معهم المعاهدة، واكتسب تأييدهم لنظامه، ولذلك تضمنت الخطة الاستعدادات اللازمة لمواجهة هذا التدخل ..

فقد سأل جمال سالم إبراهيم الطيب أثناء المحاكمة قائلا:

  • "هناك قوات بريطانية مستعمرة موجودة في منطقة القنال، ما هو الاستعداد الذي اتخذتموه لمجابهة الإنجليز إذا ما فكروا في أن يدخلوا القاهرة؟
إبراهيم الطيب: أبلغني يوسف طلعت أن هناك قوات موجودة في إقليم الشرقية وشرق منطقة القنال، وهي مستعدة للقيام بحرب عصابات ضد المستعمر فيما لو فكر أن يحتل جهات أخرى؟
إبراهيم الطيب: قوات فصائل من الإخوان.
إبراهيم الطيب معترضا: لعرقلته!
  • جمال سالم: لو عندكم القوة دي ما استعملتوهاش ليه في القنال؟
إبراهيم الطيب: الإخوان اشتركوا في معركة القنال قبل حرق القاهرة!
إبراهيم الطيب: القيام بحرب عصابات، ونسف طرق المواصلات والمنشآت التي يحتلونها وتقطيع خطوط امداداتهم وتموينهم.
  • جمال سالم: لكن القوات الإنجليزية ما تتحركش في حالة نشوب معركة داخلية؟
إبراهيم الطيب: يجوز أن تتقدم هذه القوات لأي أخطار! وبمجرد ما قامت الثورة، كان فيه تقدم لقوات الإنجليز، ولذلك تقدم الإخوان ليكونوا تحت تصرف الثورة.
  • جمال سالم ثائرا: تحرقوا البلد، وتنسفوا المنشآت، وتنسفوا الطرق وتنسفوا الكباري، ما فكرتوش في الأموال وأصحاب رءوس الأموال يعملوا إيه في رءوس أموالهم؟ ... وحملة الأسهم والسندات من بورصة العقود وبورصة الأوراق المالية يحصل فيها إيه؟ ... والمواني والحركة التجارية يحصل فيها إيه؟ ... ما فكرتوش في تموين القاهرة، ما فكرتوش في البترول وحاييجي منين؟ .. ما هي الخطة التي وضعت؟ ... أو لم يكن هذا في الحسبان.
إبراهيم الطيب: كانت في الحسبان! ( )

ومن الثابت أن الهضيبي لم يوافق على استخدام العنف، ولهذا السبب كان يثور أثناء المحاكمة كلما ووجه ببعض أقوال الإخوان التي تدينه فقد سأله الدفاع قائلا:

الهضيبي: والله إذا كانوا قالوا كده، يبقوا على غير حق!
  • الدفاع: يعني كذابين؟
الهضيبي: يعني كذابين!
الهضيبي: أقسم بالله العظيم أني ما أمرت ...
الهضيبي مستدركا: هنداوي دوير جايز يكون موش كذاب ... هنداوي ناقل عن إبراهيم الطيب.
  • الدفاع: هل تقصد أن واحدا على الأقل من الاثنين كذاب؟
الهضيبي: إبراهيم وهنداوي كذابين إن كانوا نقلوا عني.
  • الدفاع: تقسم على هذا؟
الهضيبي: أقسم على هذا: والله العظيم إني لا أمرت، ولا كلمت واحدا في هذه الجريمة( )

وقد أبدى الهضيبي في موضع آخر استنكاره للإرهاب قائلا:

"أنا لا أقر الإرهاب كوسيلة لأي شيء ... وأنا قلت كده: قلت إن الإرهاب ضار بالجماعة وضار بالإسلام، وضار بمصر، وحذرت أكثر من مرة، ونشرت هذا الرأي بين الإخوان. ( )

وعلى كل حال، فقد اعترف يوسف طلعت، وهو الذي يتلقى أوامره من الهضيبي، بأن الهضيبي لم يوافق على استخدام العنف، فقد ذكر أنه حين حمل خطة المظاهرة المسلحة التي دبرها عبد المنعم عبد الرؤوف إلى الهضيبي رفض الموافقة على أكثر من المظاهرة السلمية

وقال له:

اسمع يا فلان، أنا نفسي تجزع من حكاية الاغتيالات، دي عملية تسيء لسمعتكم وسمعة الجماعة، وإذا كان تقدروا، اعملوا مظاهرات سلمية تشترك فيها الهيئات، وتحددوا المطالب بإطلاق الحريات العامة، وحرية الصحافة، والإفراج عن المعتقلين، وعمل برلمان تعرض عليه الاتفاقية.

ثم ذكر يوسف طلعت أن الهضيبي طلب إليه الاتصال بعبد القادر عودة في شأن تدبير هذه المظاهرة السلمية (مما يدل على اختصاص عبد القادر عودة بهذا النوع من المظاهرات).

وقد كلف يوسف طلعت إبراهيم الطيب بعرض هذه الفكرة على الأستاذ عودة، فقام بدوره بعرضها على لجنة خاصة بالمظاهرات، ولكن هذه اللجنة قررت إرجاءها ... ووفقا لكلام يوسف طلعت فإن إبراهيم الطيب جاء لزيارته وأبلغه بأن: "اللجنة مش موافقة على عمل أي شيء خالص بالمرة".

فقلت له: هل أفهم أنه إلغاء أم إرجاء، فقال لي: سوف أسأل عن ذلك، ثم عاد إلي وقال لي: تأجيل! وقد توجه يوسف طلعت بعدها إلى عبد القادر عودة وسأله عن سبب عدم الموافقة على المظاهرة، فطلب إليه الانتظار قائلا: "يا يوسف، طول بالك أحسن" فقلت له: طيب وانصرفت ( )

على هذا النحو، سقطت فكرة المظاهرة الشعبية، سواء في شكلها السلمي أو في شكلها المسلح الذي يعقبه اغتيالات وذلك بسبب خوف القيادة السياسية وترددها، وعندئذ أحس التنظيم السري بأنه لم يعد أمامه سوى الاعتماد على نفسه، والتصرف منفردا تبريرا لوجوده، ولما كانت فكرة المظاهرة قد استعبدت، وهي فضلا عن ذلك خارج نطاق اختصاصه فهذا يفسر الخطة الجديدة التي طرحها في ذلك الحين، والتي تقوم على البدء بالاغتيال!

فوفقا لما ذكره فتحي البوز المحامي، وهو رئيس فصيلة في التنظيم السري، فإنه تقابل مع إبراهيم الطيب قبل حادث المنشية بخمسة أيام، وعلم منه أن "مسألة اغتيال الرئيس جمال عبد الناصر أصبحت مقررة، وأن بعض الإخوان قد كلفوا بذلك".

ويقول إنه ناقش إبراهيم الطيب في الأمر قائلا: إن هذا "موضوع خطير، وسيأتي على البلاد وعلى الإسلام بالوبال وبنتائج لا يمكن تداركها".

على أنه لم يشأ الاسترسال في هذا الاعتراض حتى لا تحتد المناقشة، ولكنه سارع إلى الاتصال ببعض رؤساء الفصائل من الإخوان، وحذرهم من الاستجابة لهذه التعليمات، ومن هؤلاء محمود الحواتكي وإسماعيل عارف وعبد المتعال مدني ... كما اتصل بعبد القادر عودة في بيته، وطلب إليه منع التنفيذ، فأخبره عودة بأنه لا علم لي إطلاقا بهذه النية، وأنه كان في آخر مقابلة مع المرشد ولم يصرح له هذا بشيء ( )

كما روى محمود الحواتكي، وهو مدرس علوم، وفي التنظيم السري، أنه تقابل مع إسماعيل محمود يوسف، وهو مدرس مواد اجتماعية ورئيس فصيلة الجيزة، فأخبره هذا بأن التنظيم السري ينوي القيام بحركة تبدأ باغتيال عبد الناصر، يتبعها اغتيال أو خطف أعضاء مجلس قيادة الثورة والضباط الأحرار، ثم تقوم حركة شعبية ثورية مسلحة ... وأفهمه أن اسم اللواء محمد نجيب سوف يستغل في هذه الحركة، وقد يصدر بيانا يؤيد فيه هذه الحركة، وقد يمسك البلاد بعد انتهاء الحركة ( )

وقد روى إسماعيل محمود يوسف نفس القصة تقريبا، فقد ذكر أنه قبل الحادث بخمسة أيام، ر"سمع من عضو الاتصال أنه علم أن المسئولين ينوون القيام بحركة اغتيالات لأعضاء مجلس قيادة الثورة، ثم يقومون بحركة شعبية".

ونظرا لخطورة المسألة، توجه لزيارة محمود الحواتكي، وأبلغه بهذا الخبر، فنزل ومعه عبد الفتاح قرشي للاتصال ببعض المسئولين ثم عاد وأخبره بأنه قابل أحد الإخوان المسلمين، فنفى له الخبر قائلا إن المرشد لا يوافق عليه ( )

وهذه الاعترافات تتفق لحد كبير مع ما رواه هنداوي دوير المحامي، ورئيس منطقة إمبابة الذي عهد إليه من قبل رئيسه إبراهيم الطيب بالتنفيذ فقد روى أنه "قبل ن يتلقى تعليمات إبراهيم الطيب، كان الاتجاه في التنظيم يميل إلى المظاهرة الشعبية، ولذلك أخذ في تعبئة الناس ضد المعاهدة عن طريق المنشورات، "

حتى شحنت نفوس الإخوان شحنا شديدا، وأخذوا يتساءلون: ما المصير؟ حنعمل إيه؟ وفجأة وجدنا المنشورات انقطعت نهائيا! فسألت إبراهيم الطيب: أنتم عبأتمونا وفرغتونا ليه؟ .. فقال إن الاتجاه لن يكون شعبيا، لقد قررنا أن يكون اتجاها إرهابيا"

فقلت له: يا أستاذ إبراهيم، إن الاتجاه الإرهابي لن يؤدي إلى نتيجة، وذكرته بما تحمله الإخوان في أيام فاروق، وقلت له: إننا لن نجني والبلد شيئا من هذا الطريق، فقال لي: هناك خطة كاملة، وإحنا حننفذها.

واستطرد هنداوي دوير قائلا إنه:

"قبل الحادث بحوالي خمسة عشر يوما أو أكثر قليلا، جاءني إبراهيم الطيب، وقال لي: النظام قرر أن يعتدي أولا على الرئيس جمال عبد الناصر، وبعد ذلك يتخلص بتحديد اللفظ من الضباط الأحرار بأي صورة، سواء بالاعتقال أو بالخطف أو بالقتل".

فقلت له: هل حققتم المسائل إسلاميا؟ فقال لي: آه" ( )

ثم ذكر هنداوي دوير أن إبراهيم الطيب أتى له بمسدس لتسليمه لمحمود عبد اللطيف، وهو ما حدث بالفعل، وتسلم محمود عبد اللطيف المسدس، ولكن في تلك الأثناء قدم كل من محمود الحواتكي وعبد الفتاح قرشي لزيارة هنداوي دوير، وأبلغاه بأنهما علما أن المرشد العام غير موافق على الاتجاه الإرهابي وأنه صرح بأنه بريء من دم جمال عبد الناصر إذا قتل.

وعلى أثر ذلك طلب هنداوي دوير من محمود عبد اللطيف إيقاف التنفيذ، ولكن حين زاره إبراهيم طلعت في اليوم التالي، وعرض عليه حديث محمود الحواتكي، قال له: "الكلام ده غلط، والناس دول متصلين بالمفصولين وبالأستاذ البهي الخولي، وعاوزين يعطلوا شغلنا" فقلت له: يعني الأمر صدر من المرشد؟ فقال لي: "أيوة" ( )

وتشير الدلائل إلى أن التنظيم السري كان يدبر في تلك الأثناء اغتيال أعضاء آخرين من مجلس الثورة، فقد روى محمود عبد اللطيف أنه كلف مع سعد حجاج بدراسة بيت القائم مقام أنور السادات وجريدة الجمهورية، "لتحديد أسلم الطرق لاغتياله" "ورحنا هناك، وشفنا البيت والجريدة، وكان أن استقر الأمر على أنه (الاغتيال) يكون في الجريدة، وبعدين قال لنا استنوا لما تصدر أوامر، وبعدين انقطع ما جاش" ( )

وفيما يبدو أن الرأي استقر على التركيز على اغتيال عبد الناصر، باعتباره رأس النظام، فإذا سقط، سقط مجلس الثورة، ولذلك أحضر إبراهيم الطيب المسدس كما ذكرنا لهنداوي دوير ليعطيه لمحمود عبد اللطيف لهذا الغرض، ويقول هنداوي دوير إنه عقب تسلمه المسدس من إبراهيم الطيب؛

سأله قائلا: "ما هي الخطة يا سيد إبراهيم؟" ، فقال لي: "الخطة أن محمود يعتمد على مجهوده الشخصي في تتبع عبد الناصر، خصوصا وأنه بعد المعاهدة نزل الميادين وإلى الشعب، ويمكن أن ينال منه محمود" وفعلا قلت لمحمود هذا بالفعل ( )

كما ذكر هنداوي دوير أن إبراهيم الطيب وعده، قبل الحادث بثلاثة أو أربعة، بأن يحضر له "مدفعين" لاستخدامهما في عمل "كمين" لموكب عبد الناصر، و "لغم" ليتمنطق به محمود عبد اللطيف وينسف عبد الناصر ( )

ولكن محمود عبد اللطيف رفض فكرة "اللغم" عندما عرضها عليها هنداوي دوير، وآثر استخدام المسدس، فوفقا لكلام:

"هنداوي عرض علي الحزام الساعة الثانية عشرة ونصف ليلا لما رحت أخبره بالسفر، فقال لي: عندنا حزام تلبسه وتقابل الرئيس جمال عبد الناصر، وتعانقه وتتنفسوا أنتم الإثنين".
  • المدعي: شفت الحزام؟
محمود عبد اللطيف: لا.
محمود عبد اللطيف: قلت ما ينفعش علشان الزحمة.
  • المدعي: وأنت رايح تقتل الرئيس ما فكرتش تعمل إيه علشان تهرب؟
محمود عبد اللطيف: لا، ما فكرتش. هنداوي قال لي: الحرس سيطلق عليك النار وتموت.
  • المدعي: كنت عارف إنك رايح تموت؟
محمود عبد اللطيف: أيوة.
  • المدعي: ما فكرتش في طريقة للهرب؟
محمود عبد اللطيف: لا ( )

وفيما يبدو أن هنداوي دوير كان يتخذ فكرة الحزام ذريعة لتأجيل سفر محمود عبد اللطيف إلى الإسكندرية، لأن الحزام حتى ذلك الحين لم يكن قد وصله من إبراهيم الطيب، وإنما أحضره الأخير إليه في اليوم التالي، وهو يوم محاولة الاغتيال ( ) ولم ير محمود عبد اللطيف في الفكرة ما يجذبه لتغيير عزمه على السفر للقيام بمحاولته( )

على كل حال، يتضح من هذا العرض أن خطة الاغتيال كانت تقوم على أن يعتمد محمود عبد اللطيف على نفسه في تدبير مقتل عبد الناصر، أو على حد تعبيره: "دراسة طريقة اغتيال الرئيس جمال عبد الناصر" وقد عبر إبراهيم الطيب لهنداوي دوير عن ذلك بقوله: "الصعيدي يتتبع خصمه سنة كاملة لغاية ما يتخلص منه" ( )

وقد كان هذا هو سبب مفاجأة الجميع بالحادث، ذلك أن الأمر خرج من يد الجميع وأصبح في يد واحدة هي يد محمود عبد اللطيف، يقرر الشكل الذي يغتال به عبد الناصر، والوقت المناسب لذلك، منذ تسلم أداة القتل وهي المسدس من يد هنداوي دوير، بل يقرر أيضا المكان المناسب.

ومن المحقق أن المكان الذي قرر محمود عبد اللطيف تنفيذ جريمته فيه هو الذي فاجأ الجميع في التنظيم السري أكثر من أي شيء آخر، فكما يقول هنداوي دوير، كان "المفروض أن الحادثة دي تقع من محمود عبد اللطيف في مصر (يقصد القاهرة) ولكن هو جاني وقال لي: أنا مسافر إسكندرية!

ليه يا محمود؟ قال: والله أنا قرأت في جريدة القاهرة أن الرئيس مسافر إسكندرية. قلت له: يا محمود بلاش الحكاية دي. بلاش السفر لإسكندرية. قال: لا، أنا حاسافر، وفعلا سافر ( )

لهذا السبب كان يوم الثلاثاء 26 أكتوبر 1954 آخر يوم يتوقع فيه الإخوان المسلمون أن تقوم فيه محاولة اغتيال عبد الناصر، لا لشيء إلا لأن عبد الناصر كان في الإسكندرية وليس في القاهرة حيث يتوقع الجميع أن تقع فيها هذه المحاولة، ولهذا السبب جاء إبراهيم الطيب في نفس يوم المحاولة إلى هنداوي دوير، دون أن يعلم بسفر محمود عبد اللطيف، حاملا معه اللغم والطبنجة، وكان هناك؛

كما يقول هنداوي دوير ميعاد أن محمد علي نصيري يأتي لتسلم اللغم أو المسدس، ويؤدي نفس المهمة الموكولة لمحمود عبد اللطيف، كل من جانبه، على أن هنداوي دوير أخبر إبراهيم الطيب بسفر محمود عبد اللطيف إلى الإسكندرية، فوقع عليه الخبر وقع الصاعقة

يقول هنداوي دوير في روايته لهذه القصة:

"يوم الثلاثاء كان (إبراهيم الطيب) عندي، ولما قلت له إن محمود عبد اللطيف سافر إلى الإسكندرية، قال لي: "إيه؟" وقد عقب إبراهيم الطيب على هذا الكلام أمام المحكمة قائلا: "إحنا فوجئنا بهذا التكليف من الأستاذ هنداوي دوير، ودهشنا له" ( )

على أن هذه الدهشة لم تمنع هنداوي دوير وإبراهيم الطيب من مواصلة تدبير اغتيال عبد الناصر في حالة فشل مهمة محمود عبد اللطيف! فقد جاء محمد علي نصيري حسب الميعاد في الساعة الخامسة والنصف يوم الثلاثاء، بينما كان إبراهيم الطيب ما يزال في بيت هنداوي دوير، وقد عرض الأخير على نصيري اللغم والمسدس، ولكنه رفض اللغم قائلا: لا، ده ما ينفعش، وأخذ المسدس على أساس أن يقوم بنفس المهمة الموكولة لمحمود، على حد قول هنداوي دوير ( )

وفي تلك الأثناء كان محمود عبد اللطيف يؤدي مهمته، وعلى حد قوله، فإنه بد لقائه بهنداوي دوير ليلة الثلاثاء 26 أكتوبر، وحصوله على موافقته على سفره إلى الإسكندرية، مر في الصباح على زميله يوسف حجاج، "وقلت له بالأمر، فأبدى أسفه لأنه ما أحضرشي السلاح بتاعه علشان ييجي معايا!

وتوكلت، وسافرت إلى الإسكندرية في قطار الساعة التاسعة والنصف الذي يصل الساعة الواحدة تقريبا، وبعد كده رحت محرم بك، واتمشيت شوية، ودخلت مطعم، واتغديت، وبعدين رحت لوكاندة دارس السعادة وأخذت حجرة خاصة، وغيرت ملابسي، وفي الساعة الرابعة والربع نزلت على ميدان المحطة، ووجدت جماعة متظاهرين رايحين المنشية، فمشيت وراهم، وبعد ما وصلت الميدان وقفت، ولما جاء الرئيس، وهو يتكلم كلمته، أطلقت عليه طلقات من المسدس" ( )

وكما فوجئ إبراهيم الطيب بسفر محمود عبد اللطيف إلى الإسكندرية، فكذلك فوجئ يوسف طلعت رئيس التنظيم السري بمحاولة الاغتيال في الإسكندرية، فقد روى أن إبراهيم الطيب زاره بعد الحادثة في بيته؛

فسأله:

  • إيه الحكاية دي؟
قال لي: أخوك هنداوي تسرع ...
  • قلت له: يا راجل تسمح تبطلوا شغل، وتقعدوا ساكتين ( )

وعلى هذا النحو فإن السؤال الذي يثور: على من تقع مسئولية ارتكاب المحاولة؟ هل تقع على هنداوي دوير، أم على إبراهيم الطيب، أم على يوسف طلعت؟

بالنسبة لهنداوي دوير وإبراهيم الطيب، فإن الذي يحسم المسألة بينهما هو تقرير صفة الأمر الذي صدر من إبراهيم الطيب إلى هنداوي دوير: وهل كان أمرا تنفيذيا أم لا، لقد حدثت مواجهة بين الرجلين أمام المحكمة دبرها جمال سالم بمهارة ليطعن في أخلاق الإخوان المسلمين، ويظهرهم في مظهر الكذب وتبادل التهم

ففي أثناء شهادة إبراهيم الطيب، أحضر هنداوي دوير، وكرر عليه أقوله واعترافاته التي أوردناها فيما سبق، فأمن عليها واعترف بصحتها، فطلب إليه أن يعيد هذه الاعترافات، فأعادها؛

وسأل جمال سالم إبراهيم الطيب:

  • إيه رأيك يا إبراهيم؟
إبراهيم الطيب: الكلام لم يحدث على هذا الوجه، أنا كلمته على أساس عرض خطة عامة وتفاصيل على ألا يبدأ بأي عمل من الأعمال قبل تحرك قوات الجيش ضد القوات الشعبية.
إبراهيم الطيب: ما حصلش، وأنا لم أسلم إليه إلا الحزام.
إبراهيم الطيب: لا.
إبراهيم الطيب: أيوة.
إبراهيم الطيب: لا.
فأصر هنداوي دوير على أقواله، واستدل على ان الأمر كان تنفيذيا بما رواه من أنه بعد أن سلم لمحمود عبد اللطيف الطبنجة، جاءه محمود الحواتكي وأبلغه بعدم موافقة المرشد على الاتجاه الاغتيالي، فطلب إلى محمود عبد اللطيف إيقاف التنفيذ، ولكن إبراهيم الطيب حين زاره وعلم بأقوال محمود الحواتكي، قال له: "دول متصلين بالأستاذ البهي وبالجماعة المفصولين، وعايزين يعطلوا شغلنا، والأوامر دي صادرة من المرشد".

وقد علق إبراهيم الطيب على كلام هنداوي دوير قائلا:

حصل فعلا، ولكن بعد الاعتراض على الخطة، والاستعدادات لم تكن تمت، لم نعط أي أمر بالتنفيذ، باعتبارها لم تتم والأجهزة غير مستعدة .. إحنا فوجئنا بهذا التكليف من الأستاذ هنداوي دوير، ودهشنا له.
هنداوي دوير: سبحان الله!
هنداوي دوير: أنا قلت الحق، ويؤسفني أن ينكر جزءا من أقوالي.
هنداوي دوير: الإسلام لا يجيز الكذب على أي حال.

ثم عرض جمال سالم الطبنجة التي وقع بها الحادث على إبراهيم الطيب للتعرف عليها، فقال منكرا:

أنا لم اسلمه هذه الطبنجة إطلاقا!
هنداوي دوير: والله الإنكار ده ما لهوش داعي، لأن الأمور لا تؤخذ بهذه الصورة، وإذا كان الإنسان أخطأ يجب أن يتحمل خطأه ( )

ومن الواضح أن إبراهيم الطيب كان يخفي الحقيقة بإنكاره، فإذا كان قد أنكر أنه حدد محمود عبد اللطيف ليقوم بالحادث، فلم ينكر تسليم نصيري لهنداوي، وإذا كان قد أنكر أنه سلم الطبنجة لهنداوي، فإنه لم ينكر تسليمه الحزام الناسف!

فضلا عن ذلك فإنه أيد أقوال هنداوي دوير التي ذكر فيها أنه بعد أن أمر محمود عبد اللطيف بإيقاف التنفيذ، بناء على أقوال محمود الحواتكي القائلة بأن المرشد غير موافق على الاغتيال، تلقى تأكيدات من إبراهيم الطيب بأن الأوامر صادرة من المرشد بالفعل، فرفع بعدها اعتراضه على التنفيذ وأمر محمود عبد اللطيف بالمضي بعدها في مهمته؛

وقد اعترف محمود عبد اللطيف بواقعة الاعتراض والعودة إلى الأمر بالتنفيذ من جانب هنداوي، ففي روايته أمام المحكمة قال: "اللي حصل إن هنداوي دوير قبل الحادث بأربعة أو خمسة أيام، كان لسه ما ادانيش الطبنجة، قال لي: اوقف يا محمود، وأنا كنت بأستطيع وقتها بس، فوقفت، وما طلعتش، وبعدين قال لي: امشي زي ما أنت في طريقك" ( ) وهذه الواقعة تفيد أن الأمر كان تنفيذيا بالفعل.

فضلا عن ذلك فمن الثابت من أقوال كل من هنداوي دوير وإبراهيم الطيب أن الأخير زار الأول في نفس يوم الحادث ليعطيه الحزام الناسف، وقد أعطاه الحزام رغم أنه علم من هنداوي دوير بسفر محمود عبد اللطيف إلى الإسكندرية لاغتيال عبد الناصرن وذلك ليستخدمه نصيري في حالة فشل مهمة الإسكندرية

وقد جرت أقوالهما كالآتي:

قال هنداوي دوير:
"يوم الحادث بالذات، كان (إبراهيم الطيب) عندي الساعة اثنين ونصف، واتغدى عندي، وأنا كنت اتغديت في البيت، وهو كان جه من غير غدا، فجبت له غدا في أودة المكتب، وسلمني حزام فيه لغم، وشرح لي طريقة استعماله، وجاب لي طبنجة، وقال لي اديها لنصيري وأعرض عليه الحزام والطبنجة، وحتى أنا أبديت اعتراضات على الحزام،
فكان رده قال: "أنا دلوقت عندي اجتماع، وبعدين حابقى آجي آخذه، ولما عرضت الحزام على نصيري رفض، وفضل الحزام عندي".
إبراهيم الطيب: الكلام لم يحدث على هذا الوجه، أنا كلمته على أساس عرض خطة عامة وتفاصيل، على ألا يبدأ بأي عمل من الأعمال قبل تحرك قوات الجيش ضد القوات الشعبية، وأنا لم أسلم إليه إلا الحزام ( )

إذن فإن إبراهيم الطيب يعترف بأنه أحضر الحزام الناسف لهنداوي دوير، ولكنه يدعي أنه كان يكلمه "على أساس عرض خطة عامة وتفاصيل، على ألا يبدأ بأي عمل من الأعمال قبل تحرك قوات الجيش ضد القوات الشعبية".

ولكن إبراهيم الطيب ينسى أنه حين سلم الحزام الناسف لهنداوي دوير كان قد عرف منه أن محمود عبد اللطيف قد سافر إلى الإسكندرية لتنفيذ مهمة اغتيال عبد الناصر، فلو أنه كان يتكلم على أساس عرض خطة عامة وعدم التنفيذ إلا بعد تحرك قوات الجيش ضد القوات الشعبية، لأحجم عن تسليم الحزام الناسف لهنداوي دوير بعد أن رآه يسارع بالتنفيذ على هذا النحو!

ثبوت أن الأمر كان تنفيذيا يأتي إذن من ناحيتين: الناحية الأولى، تأكيدات إبراهيم لهنداوي دوير بموافقة المرشد على خطة الاغتيال، والتي أمر هنداوي محمود عبد اللطيف على أثرها باستئناف مهمته، والناحية الثانية، تسليم إبراهيم الطيب الحزام الناسف لهنداوي دوير لتسليمه إلى نصيري، رغم معرفته بأن هنداوي قد شرع بالفعل في التنفيذ وأطلق محمود عبد اللطيف إلى الإسكندرية.

أما مبعث الدهشة التي أصابت إبراهيم الطيب لسفر محمود عبد اللطيف، فهو توقعه أن يكون الاغتيال بالقاهرة وليس بالإسكندرية، فلما علم بموافقة هنداوي على السفر، اعتبر ذلك تسرعا، ولكنه لم يتخذ إجراء ضد هذا التسرع، بل كان الإجراء الوحيد الذي اتخذه هو تسليم الحزام الناسف إلى هنداوي لتسليمه إلى نصيري لتنفيذ مهمة محمود عبد اللطيف في حالة فشلها!

وفي الواقع أن الرواية التي يرويها هنداوي دوير لزيارة إبراهيم الطيب له يوم الحادثة تماما أن الأخير، بعد مفاجأة علمه بسفر محمود عبد اللطيف إلى الإسكندرية، ترك الأمور تسير في مجراها الطبيعي؛

فيقول هنداوي دوير:

"الساعة اثنين ونصف، جاني الأستاذ إبراهيم ومعاه اللغم والطبنجة، ويظهر أنه كان جاي في السكة ووراءه الأخر الأستاذ عبد العزيز كامل، وبهذه المناسبة أقرر أن الأستاذ إبراهيم الطيب قال لي ما تقولش الحاجات دي للأستاذ عبد العزيز كامل، لأنه معارض في هذا الاتجاه، ويمكن أن يقنعك بأنك تعدل عن تنفيذ الخطة!
وبعدين قعدت أنا وإبراهيم في أودة المكتب، وجبت له على صينية الشاي طبق خضار وشوية رز، وبدأ إبراهيم يتغدى، وحبة (وبعد قليل) جاء الأستاذ عبد العزيز كامل، وقعد إبراهيم وعبد العزيز يتغدوا، وفضلوا قاعدين ييجي ساعة ..
ودخلت أنا اللغم، وكان ملفوف في ورقة، وكذلك المسدس، في اودة من أود البيت، وبعدين الأستاذ عبد العزيز كامل جاله واحد فلسطيني من الإخوان، فنزل الأستاذ عبد العزيز، وبقيت أنا وإبراهيم، وقعدنا لغاية الساعة خمسة ونصف، وكان فيه ميعاد أن نصيري هييجي، فجاء، وعرضت عليه اللغم فقال لا ده ما ينفعش، وأخذ المسدس على أساس أنه يقوم بنفس المهمة الموكولة لمحمود عبد اللطيف، وعلى اثر ذلك انصرفنا: انصرف إبراهيم، وخرجت أنا لمكتبي" ( )

ومعنى ذلك أن إبراهيم الطيب لم يغادر بيت هنداوي دوير إلا بعد أن اطمأن إلى أن نصيري سوف يواصل مهمة محمود عبد اللطيف في حالة فشلها.

على أن الأمور سارت في طريق مضاد عقب فشل محاولة الاغتيال، وذلك بسبب اعترافات هنداوي دوير، الذي وصفه حسن العشماوي بأنه "عصبي المزاج، سريع الانفعال، بحيث لا يصح وضعه كمسئول في أي نظام سري" ( )

فلم يكد يعرف بفشل المحاولة، حتى سافر بزوجته إلى المنيا في نفس الليلة، وعاد في الصباح ليسلم نفسه لشرطة مركز إمبابة، وقد روى الواقعة بأسلوب يستحق التأمل، فقال:

"من حمد الله أن الرئيس ما اعتديش عليه، ونجا بحمد الله، بعد كده أنا قدرت أنه سيقبض علي، فأخذت الست بتاعتي الساعة 9.30 ونزلنا بسرعة، أخذنا قطار 10.15 من الجيزة، وروحتها المنيا، ورجعت صباحا في قطر التاسعة، ونزلت إلى مركز إمبابة وسلمت نفسي إلى البوليس.
وبينما أنا جاي في القطار، قدرت عدة مسائل منها: أن زعماء الإخوان المسلمين منقسمين على أنفسهم، وأن الدعوة في هذه الفترة يسيطر عليها أناس غير مسئولين وغير معروفين للإخوان، وأن الاتجاه الإرهابي اتجاه صورته الطبيعية الواضحة البسيطة أنه غير إسلامي، وأن القتل على هذه الصورة قتل غير إسلامي.
قدرت هذا، وقدرت أنه لو وقعت العمليات التي تحت يدي، ففيها إرهاق للإخوان وإرهاق للبلاد وعلى الأمن، وإذا كانت دي (المحاولة) ما أصابتش، يمكن حاجة ثانية تصيب، وقررت لذلك أن أسلم نفسي للبوليس، وأضع نفسي تحت تصرف المسئولين" ( )

وفي مرافعته عن نفسه نوه بما أداه "للعدالة" في هذا الصدد، فذكر أنه عندما سلم نفسه للسلطات المختصة وسلمها الأسلحة كان غرضه "هو أداء واجب علي لا أرضى له ثمنا، وإنما قمت به كواجب أشعر به شعورا تاما مطلقا لا يرد عليه أي قيد، وإلا كنت هربت، ولا أريد أن أقتضي ثمنا لأنني سلمت نفسي وسلمت الأسلحة والناس وأعنت العدالة" ( )

وللباحث أن يشعر بالأسف، لأن هنداوي دوير لم يفق على هذه المعاني إلا على صوت طلقات مسدس محمود عبد اللطيف، الذي سلمه إليه بنفسه ليعتدي على عبد الناصر، ولو أفاق قبلها لأنقذ الإخوان من نتائج مهلكة.

هذا على كل حال فيما يتصل بتحديد مسئولية كل من هنداوي دوير وإبراهيم الطيب في حادثة محاولة الاغتيال، أما بالنسبة ليوسف طلعت، رئيس التنظيم، فقد تمسك أمام المحكمة بأن الخطة كانت تقوم على قيام مظاهرة مسلحة يعقبها عملية الاغتيالات إذا اعتدي عليها

وليس اغتيالات تعقبها مظاهرات، وأهمية هذا الإصرار أنه يلقي على هنداوي دوير مسئولية التسرع بالتنفيذ قبل بدء المظاهرة المسلحة، ويلاحظ أن هذا ما تمسك به إبراهيم الطيب أيضا كما مر بنا.

وكان جمال سالم قد سأل يوسف طلعت قائلا:

يوسف طلعت: إيه الخطة دي؟
يوسف طلعت: في الأول، لا يا فندم!
  • جمال سالم: في التاني: المظاهرات أولا وبعدين الاغتيال؟
ريوسف طلعت: (في ذكاء) ما هو تمسكها من هنا، تمسكها من هنا، توصل لنفس النتيجة، والكلام اللي حصل بالضبط أن المظاهرات تكون مسلحة ويعقبها عملية الاغتيالات إذا اعتدي عليها ( )

ومغالطة يوسف طلعت هنا واضحة في محاولته إظهار المسألتين في صورة متساوية، وأن نتيجتهما واحدة، مع أن المسألة الأولى (المظاهرة المسلحة أولا) تنفي مسئوليته عن الحادث، بينما المسألة الثانية (الاغتيالات أولا) تثبت هذه المسئولية!

على أنه يتجاهل التطورات التي وقعت على الخطة الأولى (المظاهرة المسلحة أولا)، وهي رفض الهضيبي لها، ثم رفض لجنة المظاهرات لعبد القادر عودة لفكرة المظاهرة الشعبية غير المسلحة، مما أدى إلى التجاء التنظيم السري إلى الخطة الثانية (الاغتيالات أولا). ومن سوء حظ يوسف طلعت أنه قدم اعترافات في هذا الصدد تؤكد الخطة الثانية.

فقد اعترف بأنه هو الذي صنع الحزام الناسف، وسلمه إلى إبراهيم الطيب، وقد سأله جمال سالم قائلا:

  • علشان إيه؟
يوسف طلعت: قلت له: ده وسيلة من وسائل الاغتيالات!
يوسف طلعت: ما حددتش.
يوسف طلعت: أيوة ... أنا لا أنكر. ولما أعطى له حزام حيكون إيه إلا فكرة من أفكار الاغتيال؟ ( )

على أننا نلاحظ أن إبراهيم طلعت لم يسلم الحزام الناسف لهنداوي دوير إلا في يوم الثلاثاء 26 أكتوبر، وهو يوم ارتكاب الحادث، ولم يكن لديه من الأسباب ما يدعوه للاحتفاظ به في بيته بعد تسلمه من يوسف طلعت، وقد سلمه إبراهيم الطيب لهنداوي دوير للتنفيذ

لأنه كاما رأينا عرف منه بسفر محمود عبد اللطيف إلى الإسكندرية لاغتيال عبد الناصر، ومعنى ذلك أن الحزام الناسف كان وسيلة لتنفيذ الخطة الثانية (الاغتيالات أولا) وليس الخطة الأولى (المظاهرة المسلحة أولا).

ثانيا: أن توقيت صنع الحزام الناسف من قبل يوسف طلعت وتسليمه إياه لإبراهيم الطيب، كان بعد أن تحقق من رفض الهضيبي لفكرة المظاهرة المسلحة! ومعنى ذلك أن فكرة المظاهرة المسلحة لم تكن موجودة أصلا عند صنع الحزام، وبالتالي لم تكن موجودة الخطة الأولى (المظاهرة المسلحة أولا)، وإنما كانت الخطة الثانية (الاغتيالات أولا) هي الوحيدة الموجودة في الساحة.

وواقعة صنع الحزام الناسف بعد رفض الهضيبي لفكرة المظاهرة ثابتة باعتراف يوسف طلعت نفسه، فقد سأل المدعي يوسف طلعت قائلا:

يوسف طلعت: أيوة!
يوسف طلعت: أنا كنت باعمله أنا، وأعطيته للطيب قبلها (الحادثة) بثمانية أيام ... عشرة، حاجة زي كده.
  • المدعي: كان إمتى بالنسبة لتاريخ الحادث؟
يوسف طلعت: قبله بعشرة ... ثمانية .. أيام، حاجة زي كده.
  • المدعي: أنت قلت قبلها بخمسة أيام في التحقيق!
يوسف طلعت: لا، ثماني أيام تقريبا ( )

وواضح أن الخلاف على عدد الأيام لا قيمة له طالما أن يوسف طلعت اعترف بأن واقعة صنع الحزام الناسف وتسليمه لإبراهيم الطيب كانت بعد مقابلته للمرشد في الإسكندرية، وتحققه من رفض الأخير لفكرة المظاهرة المسلحة؛

فهذا الاعتراف يثبت تماما أن خطة "الاغتيالات أولا" كانت هي التي حملها لإبراهيم طلعت، وحملها هذا إلى هنداوي دوير، ليحملها هذا إلى محمود عبد اللطيف ومحمد علي نصيري، وبالتالي فهذا يثبت مسئولية التنظيم السري عن حادث المنشية مسئولية كاملة.

بقيت مسئولية القيادة السياسية للإخوان عن الحادث، وواضح مما ذكرناه أن هذه القيادة لم تكن قائمة من الناحية الفعلية، بعد أن دبت فيها الانقسامات، وتفسخت تحت ضغط الصراع مع عبد الناصر، حتى إن الهضيبي

كما يقول حسن العشماوي قدم استقالته إلى نائبه عبد القادر عودة في أوائل أكتوبر من الإرشاد العام، مكتفيا ببقائه عضوا في الهيئة، وطلب إليه عرضها على مكتب الإرشاد في الوقت الذي يراه مناسبا؛

ومنذ ذلك الحين اعتبر نفسه في حكم المستقيل من الرئاسة فعلا، وترك الأمر نهائيا لمكتب الإرشاد برئاسة نائبه عبد القادر عودة، كما وصف حسن العشماوي حالة الإخوان قبيل الحادث على هذا النحو:

"اعتزلت القيادة، واختلف أعضاء مكتب الإرشاد في كل خطوة، وكف المكتب التنفيذي عن الانعقاد، وتستر أعضاء الجهاز السري على أنفسهم وأفكارهم!" ( )

وقد رأينا كيف أن الهضيبي رفض فكرة العنف وسيلة لحل الخلاف الناشب بين الإخوان المسلمين وعبد الناصر، ولم يقبل إلا بعمل جماهيري تشترك فيه جميع الفرق السياسية، مما أجهض فكرة المظاهرة المسلحة التي حملها يوسف طلعت رئيس التنظيم السري، وبالتالي أبعد عن هذه القيادة السياسية تهمة إصدار الأمر بتنفيذ محاولة اغتيال عبد الناصر.

على أن عدم صدور أمر من القيادة السياسية للإخوان المسلمين للتنظيم السري بارتكاب حادث المنشية، ليس معناه إخلاء مسئوليتهما كلية من الحادث، فالتنظيم السري هو جهاز الإخوان المسلمين، وقد أنشأته القيادة السياسية لاستخدامه في تحقيق أغراضها وأهدافها بالقوة عند اللزوم، وإذا كانت قد فقدت سيطرتها على التنظيم، فإن ذلك لا يقلل من مسئوليتها بل يضاعفها.

ومعنى هذا القول أنه إذا كانت قد ثبتت مسئولية التنظيم السري للإخوان المسلمين عن حادث المنشية، فإن هذا يستتبع بالضرورة مسئولية القيادة السياسية، سواء أصدرت الأمر له أم لم تصدره.

والسؤال الذي يبقى: كيف سقط هذا التنظيم السري الكبير، الذي لم تشهد له مصر مثيلا في تاريخها، بكل هذه السهولة في يد بوليس عبد الناصر بعد فشل محاولة الاغتيال، ولم يتابع بقية الخطة في اغتيال أعضاء مجلس قيادة الثورة والضباط الأحرار؟

في الواقع إنه جرت محاولة بعد حادث المنشية لتنفيذ خطة احتلال مجلس الوزراء، التي كان عبد المنعم عبد الرؤوف قد اقترحها من قبل وأرجئ تنفيذها، وقد روى يوسف طلعت قصة هذه المحاولة على النحو الآتي:

"بعد الاعتداء على حضرة الرئيس، انتقلت من بيت أخويا، وقعدت ثلاث أو أربع أيام أدور على بيت، وحصل أن إبراهيم الطيب كان قد قال لي عن بيت في السيدة زينب، فلما رحت، لقيت عبد المنعم عبد الرؤوف هناك فقال لي:
  • إيه يا يوسف شغلكم ده؟
قلت له: خير، وربنا له حكمته.
  • فقال لي: ترجعوا لخطتي!
قلت له: خطة إيه؟
  • قال: خطة مجلس الوزراء.
قلت له: عندك إبراهيم الطيب تفاهم معاه.
  • فقال له: يا إبراهيم، أنت عندك سلاح أد إيه؟
قال له: فيه سلاح، وفيه رجال.

حبيت أتكلم معه، فقال لي:

  • اتفضل أنت أدخل المصلى، أنت مش خلاص سلمت لي إبراهيم، وهو قال لي فيه رجال وسلاح؟
قلت له: يا عبد المنعم، مش أتكلم؟
  • رقال لي: دي حاجات ملهاش شغل في الإسلام والله العظيم قال هذه الكلمة!! وقال لي: ده فن!
فقلت له: هو الفن العسكري مش برضه نوزنه بميزان الإسلام؟
  • قال لي: اتفضل ادخل المصلى ومالكش دعوة!
وبعدين أنا أخذت خاطري، وبكيت وتأثرت، ونزلت، فنزل لي إبراهيم وقال لي: ما تزعلش!!
  • فقلت له: إزاي، عاوز تحط في رقبتي حاجة من غير ما أشترك فيها؟
تفاوضوا مع بعض، وبعدين في يوم من الأيام، جاءني عبد المنعم عبد الرؤوف، وصحاني من النوم، وقال لي:
  • يا يوسف ... البوليس!
قلت: بوليس إيه؟

فأخذ ملابسه وقال القيامة .. ومن يومها ما شفتش وشه.

ثم يقول يوسف طلعت إن إبراهيم الطيب أخذه بعد ذلك إلى المنزل الذي توجد فيه مطبعة الإخوان ومنشوراتهم وأسلحتهم، ولكنه لام عليه وضعه في ذلك المكان، وطلب منه نقله إلى مكان بعيد، ولكن بعد يومين، ألقي القبض عليه ( )

وواضح من هذه الرواية أن كلا من عبد المنعم عبد الرؤوف وإبراهيم الطيب قد أراد تنحية يوسف طلعت عن العمل، مما يشير إلى عدم ثقتهما في استمراره في الاتجاه الإرهابي بعد فشل حادث المنشية؛

وهذا ما يشير إليه حسن العشماوي، فقد روى أنه بعد فشل محاولة الاغتيال، سأل يوسف طلعت "بوصفه رئيس الجهاز السري المسئول عنه وعما يضم من أشخاص وما يملك من سلاح"، عما ينوي عمله، ولكنه لم يجد منه جوابا، "لا بسبب قلة الرجال والاستعداد، ولكن لأنه كان يتخوف من أمرين يعوقانه عن التصرف، هما: التدخل الأجنبي إذا ثارت القلاقل في مصر، والتشفي ممن داخل السجون بقتلهم إذا أقدمنا على أي مقاومة سافرة للوضع العسكري القائم".

لقد كان هذا التخوف بشقيه كما يقول حسن العشماوي "يسيطر على ذهن يوسف طلعت إلى أبعد الحدود، حتى أعطاني صورة يائسة عن نية رفاقه".

ثم يذكر حسن العشماوي أنه خاطب يوسف طلعت قائلا:

"اختطوا خطة من اثنتين: استسلموا ولن أكون معكم أو أعلنوا مقاومة عامة سافرة، وليكن ضحاياها من الطرفين ما يكون وأنا عندئذ معكم" !

ولكن يوسف طلعت أخذ يتكلم عن استمرار التنظيم وإصدار المنشورات ومواصلة الاجتماعات، دون اللجوء إلى "المقاومة العنيفة العامة"، مما أغضب حسن العشماوي؛

وأجاب يوسف طلعت قائلا:

"وماذا بيدنا أن نفعل لنمنع ذلك"؟ فرد عليه العشماوي قائلا: "نقاوم ونموت في بيوتنا وفي الشوارع وفي الحقول، وإذا شقت عليك المعركة في القاهرة، فانقلها إلى الريف، وليقبضوا علينا جثثا هامدة فارقتها الحياة"، على أن يوسف طلعت رد قائلا: "لا زلت أخشى هذا الأسلوب العام، وعلى كل حال سأراجع زملائي ثم ألقاك". ولكن القبض على يوسف طلعت حال دون هذا اللقاء. ( )

في نفس الوقت الذي كانت تقوم فيه هذه المحاولة الفاشلة من جانب التنظيم السري، بعد فشل محاولة اغتيال عبد الناصر، لتنفيذ خطة احتلال مجلس الوزراء، ويلح حسن العشماوي على يوسف طلعت لشن حركة مقاومة سافرة عامة كانت هناك محاولة من نوع آخر تجري ن جانب القيادة السياسية ممثلة في عبد القادر عودة، نائب المرشد، لإجراء مصالحة مع عبد الناصر.

ففي يوم 28 أكتوبر، أي بعد حادث المنشية بيومين، وجه عبد القادر عودة خطابا إلى عبد الناصر يحمل أسس اتفاق جديد مع الإخوان، وقد بدأه بالقول بأنه سمع أن :" الذي حاول الاعتداء عليك يتمرن في مكتبي (يقصد هنداوي دوير) فإذا صح هذا، فإني أؤكد لك أني لا أعلم شيئا عن هذه الجريمة وإذا ثبت أن لي يدا في الجريمة فأنا أحل لك دمي".

ثم طلب عبد القادر عودة من عبد الناصر أن يقوم بمصالحة مع الإخوان كما فعل الإنجليز!:

"لقد استطعت يا أخي بما لك من حكمة واسعة الأفق، أن تمهد الجو بين مصر والإنجليز بعد نزاع دام سبعين عاما، وإني أحيي فيك سعة الصدر وسعة الأفق والتسامح، وأرجو أن تهيئ جوا من المودة بين الحكومة والهيئات، والحاكم والمحكوم، وأحب أن أطمئن أن حادث الإسكندرية لا يكون عقبة في سبيل ما دعوت إليه من التسامح".

ثم شرع عبد القادر عودة في طرح أسس المصالحة المقترحة، وهي لا تخرج عن الاستسلام التام لمطالب عبد الناصر السابقة، فقال:

لا زلت أذكر اقتراحاتك بحل الجهاز السري وتشكيلات الجيش والبوليس وعلى هذا الأساس أقترح ما يأتي:

أولا: من ناحيتنا:

  1. يحل النظام الخاص، ويسلم ما قد يكون لديه من أسلحة أو ذخائر في مدة تترواح بين عشرة أيام أو أسبوعين من بدء المدة التي توافقون فيها على هذه الاقتراحات.
  2. تبتعد الجماعة عن السياسة المحلية، وتصرف همها إلى الدعوة الإسلامية الدينية على الأقل حتى تنتهي فترة الانتقال.
  3. يتم تنظيم الجماعة على هذا الأساس في ظرف أسبوعين.
  4. تعمل الجماعة على إيقاف حملات الإخوان في الخارج في ظرف أسبوعين، ولو اقتضى الأمر إرسال مندوبين للخارج لتنفيذ هذا التعهد.

ثانيا: من ناحيتكم:

  1. إصدار قانون بوقف عمل قانون الأسلحة والذخائر لمدة أسبوعين لتمكين تسليم ما قد يكون موجودا من الأسلحة والذخائر دون خشية المحاكمة.
  2. إطلاق سراح جميع الإخوان المعتقلين بمجرد تنفيذ التعهد الأول، ثم النظر بعد ذلك في محو آثار الماضي، والسماح لي بأن أجتمع مع الإخوان الموجودين في السجن الحربي وسجن القلعة لأخذ موافقتهم على هذه المقترحات، والسماح بعقد الاجتماعات في الخارج للموافقة على هذه المقترحات.

على أن عبد الناصر أشر على هذه المقترحات بعبارة واحدة تقول: "خدعة جديدة" ( )

ومن الواضح أن عبد الناصر لم يكن لديه سبب واحد يدعوه إلى الموافقة على هذه المصالحة، فقد تخلص من جميع القوى السياسية السابقة على الثورة، وكان الإخوان آخر هذه القوى، وآخر عقبة أيضا في سبيل استخلاص السيطرة كاملة في يد الثورة؛

فضلا عن ذلك فإن بوليس عبد الناصر كان في ذلك الحين يسيطر على الموقف بعد تسليم هنداوي دوير نفسه واعترافاته، وتوالي سقوط أفراد الجهاز السري والقيادة السياسية، والزج بهم في المعتقلات، ومعنى ذلك أن عبد الناصر كان في يده كل الورق، بينما كان عبد القادر عودة يتوهم أنه يلعب بورقة التنظيم السري، ولكن التنظيم السري كان في ذلك الحين ورقة في مهب الريح.

الفصل الثالث عشر:المحاكمة

القاضي

كان من الممكن أن تجري محاكمة الإخوان المسلمين أمام محكمة مدنية، وتقضي مع ذلك بثبوت التهم على التنظيم السري، ولكن عبد الناصر أبى إلا أن تجرى المحاكمة في جو من الرهبة يذكر بمحاكم التفتيش؛

وقد لعب دور البطولة في خلق هذا الجو قائد الجناح جمال سالم، عضو مجلس قيادة الثورة، ورئيس محكمة الشعب، طوال جلسات المحاكمة التي بدأت من يوم 9 نوفمبر 1954، واستمرت تحت رئاسته إلى يوم 2 ديسمبر، لتستأنف المحاكم الفرعية مهمتها ابتداء من يوم 5 ديسمبر.

كان جمال سالم ينتمي إلى الجناح المتشدد من مجلس قيادة الثورة، الذي ينادي بالحكم الدكتاتوري، ويضم كلا من عبد اللطيف البغدادي، وحسن إبراهيم، وصلاح سالم، وعبد المنعم أمين، وكان يتميز عنهم بميوله الراديكالية، التي حملته على التفاني بإخلاص في تنفيذ مشروع الإصلاح الزراعي؛

ولكنه كان يختلف عنهم طباعا بسبب حالته الصحية، فقد كان يشكو من آلام مبرحة في معدته وأمعائه، كانت تؤثر بدورها على جهازه العصبي، فإذا ما فاجأته نوبة الآلام، تغير لونه، واصفر وجهه، وتحول إلى "إنسان عصبي للغاية" كما روى بعض من خالطوه.

ولهذا السبب كان جمال سالم على وجه التحقيق آخر من يصلح لرئاسة محكمة الشعب، فربما كان أشد القضاة ظلما لأنفسهم وللآخرين مرضى القرح المعدية، اللهم إلا إذا كان هذا الاختيار مقصودا بالذات لتحقيق الغرض الذي تحقق بالفعل أثناء المحاكمة، وهو الإرهاب: إرهاب الإخوان، وإرهاب الآخرين!

روى المهندس سيد مرعي، في مذكراته، إن جمال سالم وقد عرفه معرفة وثيقة بحكم اشتغالهما معا في تنفيذ مشروع الإصلاح الزراعي "كان يندفع في الغضب إلى غير حدود! ثم يعتذر ويصفو بعد ذلك"!

ورى مناسبة لقائه به أول مرة، فذكر أن هذا اللقاء "بدأ بأزمة عاصفة"، و "خناقة عنيفة" وذلك حين أبدى المهندس مرعي رأيه في مشروع الإصلاح الزراعي، في أول اجتماع للجنة العليا للإصلاح الزراعي، وأخذ يبين الثغرات الموجودة فيه.

فقد لاحظ كما يقول أن جمال سالم كان ينصت إليه طول الوقت، ولكن كانت تبدو على وجهه علامات الضيق والانفعال المكبوت.

"ولم أكد أنتهي من كلامي، حتى حدثت المفاجأة غير المتوقعة! وجدت كل شيء على مائدة الاجتماع يتطاير في الهواء!

فقد ضرب جمال سالم المائدة بقضبة يده في عنف وعصبية هائجا في وجهي:

"إننا لسنا تحت أمرك، ولسنا على استعداد لسماع كلامك"! ثم انطلق يقول في ثورة عارمة: "أنت واهم إذا تصورت أننا جئنا إلى هنا لكي نغير ونبدل وندخل تعديلات في الإصلاح الزراعي في أول اجتماع لنا، وما تقوله يعتبر تخريبا للقانون، وكل آرائك لا تؤدي إلى أي نتيجة".

ولوح جمال سالم بقبضة يده في الهواء، وازدادت ثورته وعصبيته، وقال محتدا: "هذا القانون لن يعدل فيه حرف واحد، لأنه يمثل أوامر مجلس قيادة الثورة، ولا بد أن ينفذ كما هو، وبدون تعديل أو تغيير"!

ويقول سيد مرعي إنه رد على جمال سالم قائلا:

"أنا لست ضد الإصلاح الزراعي، وما أقوله يصلح القانون أكثر مما تقول أنت"! فانتفض جمال سالم لهذا الرد وقال لي: "أنا لا أسمح لك بأن تكلمني بهذا الشكل ولا بهذا الأسلوب"!

وفوجئت به يقلب المائدة مرة أخرى ويضرب بقبضة يده عليها والجميع من حولنا صامتون مذهولون، لا ينطقون بحرف واحد، وأحسست بالموقف يتطور إلى أسوأ، وجمع أوراقي وقلت له: إنني مستقيل من هذه اللجنة".

ثم يقول سيد مرعي أنه فوجئ بعد ذلك بجمال سالم يزوره في بيته، ويعتذر إليه، يقول له: "أقول لك الحق، إنك أعجبتني أكثر من أي واحد آخر في اللجنة، لأن عندك شجاعة في الرأي أكثر منهم جميعا"!

ووجدتني أقول له:

"إذن هل شجاعة الرأي تدعوك لأن تكلمني بهذه الطريقة المهينة أمام الحاضرين، وتقلب مائدة الاجتماع مرتين؟" وأخذ جمال سالم يعتذر لما حدث، وقال بأسلوب الفلاح الشهم: "من أجل ذلك حضرت لك في بيتك، والآن أريدك أن تتعاون معي، وتنسى ما حدث".

بل يروي سيد مرعي مثلا أسوأ لطباع جمال سالم، فيقول إنه حين كان جمال سالم يتولى منصب وزير المواصلات وشئون الإصلاح الزراعي، اجتمع به مرة في مكتبه، وكان الخلاف بين محمد نجيب وعبد الناصر قد بدأ يطفو على السطح في ذلك الحين، فإذا بأحد المواطنين له مظلمة يأتي إلى فناء الوزارة ويهتف بحياة محمد نجيب وسقوط النظام!

فأمر جمال سالم بإدخاله إلى مكتبه، تحت إلحاح سيد مرعي عليه وصياح الرجل:

"وتصورت في البداية أنه يريد أن يعرف مشكلته ويريد حلها، ودخل الرجل: إنسان بسيط، يرتدي قيمصا وبنطلونا، والبؤس في مظهره، وقدم مذكرة بحالته يطلب فيها عملا، وعليها تأشيرة موجهة إلى جمال سالم يمرق بعينيه على سطور المذكرة، ويقرأ تأشيرة محمد نجيب، حتى ثار فجأة، وصاح غاضبا في وجه الرجل:
"هي الوساطات دي مش هاتنتهي؟ وهو إحنا قمنا بالثورة علشان الوساطات تستمر برضه؟" وقام هائجا مائجا من مكانه، وأمسك بالرجل من رقبته، وانهال عليه ضربا بقسوة وعنف، واصطدم الرجل بالباب، ووقع على الأرض، وأخذ يبكي من الألم".

ويقول سيد مرعي:

"شعرت بالقرف لهذا المنظر الغريب، واقشعر بدني من منظر الضرب المبرح، ولم أحاول التدخل خشية أن يتطور الموقف إلى أسوأ، وكنت في حالة عصبية شديدة لما حدث، وانتفضت واقفا، وجمعت أوراقي، وقمت مغادرا المكتب، وكان جمال سالم ممتقع الوجه مرتعش الأطراف، فقلت له: "أرى أن نكتفي بهذا القدر من العمل، لأني لا أستطيع التفكير بعد الذي حدث الآن".

وقال لي جمال سالم بضيق: "ما دخلك أنت في ذلك؟" ووجدت نفسي أنفجر بما يؤلمني، وقلت له:

"إن ما حدث اليوم في مكتب الوزير، ما كان يحدث أبدا أيام الأحزاب! إنكم تقولون إن الثورة قامت لتحافظ على كرامة الإنسان! أين هي هذه الكرامة التي أهدرتها لمجرد أن رجلا قدم لك شكوى من بؤسه وفقره، فتضربه بهذه القسوة! ما ذنبه في تأشيرة اللواء محمد نجيب؟"

"رد جمال سالم غاضبا: "هل تريد أن تسير البلد على كيفك؟ أنت تعمل في الإصلاح الزراعي، ولا شأن لك بهذا". قلت له: "أنا لن أستمر في العمل معك، ولن أمكث ولا دقيقة واحدة"!.

ويقول سيد مرعي إنه طلب إلى الرجل المتظلم أن يأتي إلى مكتبه في الإصلاح الزراعي، وعينه كاتبا في الأرشيف، ومرت أيام، جاءه بعدها جمال سالم، وطلب مقابلة الرجل: "واقترب منه، وأخرج عشرة جنيهات من محفظته وناولها للرجل، وهو يقول: "أنا متأسف يا إسماعيل، وأرجوك أن تقبل مني هذا المبلغ البسيط لأولادك!"

وثارت كبرياء الكرامة في عروق الرجل، وأشاح بوجهه عن يد جمال إسماعيل الممدودة إليه وهو يقول: "أنا لن آخذ منك شيئا، تضربني هناك، وتهينني، ثم تريد أن تعطيني عشرة جنيهات!" ورفض إسماعيل مصافحة جمال سالم، الذي كاد يثور مرة أخرى لولا أنني تدخلت بينهما ... " ( )

هذه إذن هي صورة رئيس محكمة الشعب، الذي جرت محاكمة الإخوان المسلمين أمامه، بريشة المهندس سيد مرعي، الذي عرفه عن كثب، ومع أن المهندس سيد مرعي يصف جمال سالم بأنه: "كان ثوريا مخلصا ما في ذلك شك".

وأن شخصيته "كانت تحمل في ثناياها مزيجا من الإنسانية الشفافة والرجولة الحقة". وأنه كان "شعلة من الذكاء المتوقد، وكان صريحا وواضحا كالخط المستقيم" إلا أنه بكل هذه "التركيبة" إذا صح التعبير، أو بمثل هذه الشخصية المركبة كان أبعد الناس صلاحية لأن يكون قاضيا، يمسك بيده سيف العدل!.

لقد عامل جمال سالم كبار قادة الإخوان في قفص الاتهام بقسوة شديدة، وسخر منهم، وأهانهم إهانات بالغة، وخرج بالمحكمة عن معناها الصحيح إلى ساحة للتشفي والانتقام، بل جعل قاعة المحكمة قاعة سباب وشتم من جانب واحد طبعا.

أراد وكيل النائب العام في إحدى المرات، أثناء مرافعته، اتهام عبد القادر عودة بأنه على الرغم من تحريم التشريع الإسلامي للربا، إلا أنه طلب لموكله في إحدى قضايا الكمبيالات فوائد! وكان غرض النائب العام من وراء ذلك اتهام الإخوان بأنهم يقولون ما لا يفعلون! ولكن هذا الاتهام استفز مشاعر عبد القادر عودة فهتف قائلا:

لا ! لم أطلب فوائد!

فإذا بجمال سالم يفقد أعصابه صائحا هائجا:

أنت قاعد في بيتكم؟ قاعد في مصطبة؟
عبد القادر عودة: بأنبهه بس علشان الواقعة!
جمال سالم: تسمح تقفل بقك وتقعد ساكت.

أراد عودة في مرافعته عن نفسه، التلميح بذكاء إلى أنه يحاكم بواسطة خصومه! وأنه مع ذلك يثق في عدالتهم! فقال:

"حضرات القضاة، أنا متهم بتهم لو صحت لكنت أنا الجاني وأنتم المجني عليه، ولست أعلم أنا جانيا ارتاح لأن يحاكمه مجني عليه ...!

ولكن جمال سالم انتفض قائلا مقاطعا عودة:

ليس لك الحق في هذا الاعتراض مطلقا!
عودة: أنا لا أعترض!
جمال سالم: ولا تلميحا!
عودة: أنا لا أتكلم في هذا، لو سمعت الجملة الثانية تريح نفسك!
جمال سالم: غير مسموح لك بأي اعتراض على تكوين المحكمة!
عودة: أنا لا أعترض، ولا أفكر في التعريض لا تلميحا ولا تصريحا.

وإذا سمحتم حضراتكم اسمعوا الجملة الثانية وأنتم ترتاحوا، ولكن حضراتكم أنا أشعر بارتياح وأنا أقف أمامكم!

ولكن جمال سالم زادت ثورته، وأعلن أنه يرفض هذا الأسلوب، الذي اعتبره مشابها لأسلوب محمد خميس حميدة قائلا:

كلام خميس حميدة مش عايزين! الشطر الأول والشطر الثاني مش عايزين! طريقة تفسير القرآن مش عايزين! تقدر تتكلم مضبوط اتكلم، ما تقدرش، نجيب لك محامي!
عودة: أنا متهم وفي الوقت نفسه أدافع عن نفسي.
جمال سالم: اتكلم زي ما أنت عايز، بس مضبوط! حتى للصبح، ولكن تضليل لا! .. أنا ما أحبش المتهمين المحامين، تحب تجيب لك محامي؟
عودة: لا! محضر الدفاع ولن أتكلم كثيرا!

ولم يتورع جمال سالم، أثناء مرافعة عبد القادر عودة، عن تحريف أقواله بجرأة، وتحميلها ما لا تحتمل من معاني، فقد أشار عودة إلى "استفادة" الثورة من جماعة الإخوان المسلمين عند قيامها، ومن النظام السري بالذات، ليدلل على أن الثورة كانت راضية عن هذا النظام، وأنه كان "قائما لأغراض شريفة"؛

فقال: "كانت الفكرة قائمة في أول قيام الثورة على الاستفادة من جهاز الإخوان، وهذا الجهاز بالذات ..".

ومع أن هذه حقيقة تاريخية سبقت الإشارة إليها، ومع أن جمال سالم يعرف هذه الحقيقة بحكم عضويته في "مجلس قيادة الثورة"، كما سمى فيما بعد إلا أنه انبرى بجرأة مقاطعا عودة ومتحديا:

والله؟ ما عندكش وثيقة بهذا؟
عودة: لا، ما عنديش وثيقة، ليس معي وثائق!
جمال سالم: أعد الجملة تاني! بقى الثورة لما قامت، قامت "معتمدة" على الجهاز السري؟
عودة: أنا ما قلت هذا! اللي قلته صحيح أنه بعد قيام الثورة زالت الظروف التي كان ..
جمال سالم مقاطعا: أعد الجملة تاني بتاعة الثورة لما قامت قامت على الجهاز السري بتاع الإخوان!
عودة: أنا لم أقل هذا!
جمال سالم: (مخاطبا كاتب المحكمة): اقراها له!

المختزل يتلو عبارة عبد القادر صحيحة:

" .. خصوصا وقد كانت الفكرة قائمة في أول قيام الثورة على الاستفادة من جهاز الإخوان وهذا الجهاز بالذات".

وكان من المفروض أن يخجل جمال سالم لأنه حرف كلام عبد القادر عودة، ولكنه استمر قائلا بجرأة:سامع! احنا بنتبلى عليك؟

عودة: أنا قلت "الاستفادة" مش "الاستعانة"!
جمال سالم: يعني باتبلى عليك؟ ( )

ولقد فند عبد القادر التهم الموجهة ضده تفنيدا رائعا، وأثبت أنه لم ترد ضده أية اتهامات على لسان المتهمين تفيد صلته بالجريمة ومع ذلك فقد حكم عليه بالإعدام، ونفذ فيه الحكم شنقا، لأسباب أخرى تتصل بدوره في مظاهرات فبراير المؤيدة لمحمد نجيب؛

إذ لم ينس جمال سالم كما سبق أن ذكرنا العبارة التي خاطب بها المتظاهرين، والتي اعتبر فيها إطلاق الرصاص على طلبة الجامعة "مظهرا من مظاهر الدكتاتورية" و "أن الإسلام وراء القضبان"، فكم كلفت هذه العبارة عبد القادر عودة حياته! ولهذا فإنه يدخل التاريخ من باب الشهداء.

ولقد كان استخدام جمال سالم للعبارة السوقية مما لم تشهد له قاعات المحاكم في مصر على طوال تاريخها مثيلا! طلب إلى أحد المتهمين، وهو عبد العزيز أحمد حسن، رئيس منطقة الفسطاط، شرح موضوع الاتفاق على قلب نظام الحكم، فبدأ هذا كلامه قائلا: "كان حضرة الضابط نصير قد سألني عن الخطة التي اتفق عليها، فقلت له أنا لا أعلم خطة".

وهنا قاطعه جمال سالم ثائرا:

"مش عاوز تقول لي فلان سألك! قل لنا الإجابة على السؤال! ومش عاوز أقول لك "بامية" تقول لي "فاصوليا"! لا تخرج عن الموضوع: "بامية" يعني "بامية" اتكلم معايا في "البامية" الطبيخ الوسخ بتاعكم ..." ( )

وفي أثناء شهادة محمد خميس حميدة، سأله جمال سالم عما إذا كان مكتب الإرشاد قد اتخذ إجراء في مايو 1953 لتصفية الجهاز السري وتسليم سلاحه كما طلب عبد الناصر، فرد محمد خميس حميدة بأنه لم يتخذ أي إجراء،

فسأله جمال سالم:

  • هل بلغ هذا الكلام للمرشد؟
فاستفسر محمد خميس حميدة عما يقصده جمال سالم قائلا:"كلام إيه؟ إن الحكومة عاوزة حل النظام؟"
  • جمال سالم ثائرا: لا؟ اللي أنا عاوزه أقتين بطاطس! إيه المصيبة دي؟ اتكلم يا راجل انت"( )

وكثيرا ما دخل في "قافية" مع المتهمين لإثارة ضحك الجمهور على المتهم.سأل محمد خميس حميدة عما حدث في الاجتماع الثاني بين قيادات الإخوان وعبد الناصر، ويبدو أن حميدة لم يسمع الشطر الأخير من عبارته فاستفسر قائلا:

مع الرئيس جمال!

وقد استغل بذكاء الجانب الدكتاتوري في تنظيم الإخوان ليحرمهم من الحق في محاسبة الثورة على دكتاتوريتها، وذلك بأسلوبه السوقي، فقد سأل خميس حميدة عما إذا كانت قرارات مكتب الإرشاد تعتبر ملزمة للمرشد أم استشارية؟ وعما إذا كانت تلغي قرارات المرشد؟ فأجاب خميس:

في الواقع أنها استشارية!

جمال سالم (مخاطبا الجمهور) مكتب الإرشاد رأيه استشاري وغير ملزم للمرشد العام للإخوان المسلمين! هل هناك دكتاتورية أكثر من كده؟ دكتاتورية مقنعة! كم واحد فيكم يعرف الكلام ده ... شفت التضليل باسم الدين؟

ثم يواصل أسئلته لخميس قائلا:

  • وهل رأي الجمعية التأسيسية استشاري أيضا؟
خميس حميدة: هي ملزمة!
  • جمال سالم ساخرا بطريقته الخاصة موجها كلامه للجمهور:
مكسورة من هناك، ونلحم (هنا)، والماسورة مكسورة وخربانة من عند الجيران! (ضحك) بالذمة ليه يرضى (خميس حميدة) يقعد في مكتب الإرشاد وده رأيه استشاري طرطور؟ (موجها الحديث لخميس حميدة): ما قلتش ليه مكتب الإرشاد يرضى يقعد طرطور؟
ويجيب خميس حميدة قائلا: مش رايحين نقعد طراطير!

ويسخر جمال سالم من صيغة المستقبل في عبارة خميس، إذ كان يعتقد كما يبدو أنه لم يعد هناك مستقبل للإخوان! فيقول ساخرا:

مش حنقعد! (ضحك) ()

وفي أثناء شهادة إبراهيم الطيب، أبدى هذا استعداده لإبداء وجهة نظره في أولوية الدفاع عن مصر أو البلاد الإسلامية من منظور الإخوان، فقاطعه جمال سالم قائلا: بلاش فلسفة في المسائل العسكرية!

فقال إبراهيم الطيب:

أنا مستعد أسكت!

فهاج جمال سالم قائلا:

مستعد إيه؟ انتب تتجنى علي؟ إحنا ولا بلد، والمحكمة اسمها محكمة الشعب، وكلنا متربيين في الحسينية وباب الشعرية ودرب الحجر، والناس كلها عارفة كده، وإحنا لم نتربى في قصور علشان ما نفهمش الحركات دي!رد على السؤال الذي يقوله الدفاع والتزم حدوده!
إبراهيم الطيب: صح! اتفضل يا فندم!
  • جمال سالم ثائرا: اقعد ساكت! وأنا اللي أقول لك اتفضل ( )

وبلغت مهارة جمال سالم حدا فائقا في الإيقاع بين رفاق السلاح في التنظيم السري، وتمثل ذلك بصفة خاصة في المواجهة المثيرة التي عقدها بين إسماعيل يوسف ومحمود الحواتكي، فقد سأل إسماعيل يوسف، الذي كان يقف في مواجهة محمود الحواتكي، قائلا:

  • يا إسماعيل! أنت قلت إنك توليت رياسة الفصيلة مؤقتا لحد الحواتكي ما يروح يشوف له شغل، والحواتكي يقول إنك كذاب!، وأنه سلمك رياسة الفصيلة نهائيا! هل أنت كذاب أم هو الكذاب؟
إسماعيل يوسف: هو كذاب!
إسماعيل يوسف: (مخاطبا الحواتكي): أنت كذاب يا حواتكي!
إسماعيل يوسف: أقسم بالله العظيم أنه كذاب، وأنه سلمني الفصيلة لمدة الشهر الأخير لأنه بيدور على شغل!
  • جمال سالم (مخاطبا الحواتكي): إيه رأيك يا حواتكي؟
محمود الحواتكي: أنا أطلب الاستماع إلى أقوال أعضاء الجماعات!
  • جمال سالم (مخاطبا الحواتكي): إيه رأيك في أقواله؟
محمود الحواتكي: هو كذاب!
محمود الحواتكي: أقسم بالله العظيم وبالقرآن، إن إسماعيل كاذب، وأنه استلم مني الفصيلة استلاما كاملا، وأنه باشر العمل في الفترة الأخيرة!
  • جمال سالم: يعني دلوقت مش واحد فيكم كاذب والآخر صادق؟
إسماعيل يوسف: مفيش شك!
محمود الحواتكي: مفيش شك!

جمال سالم في انتصار: هذه هي نتيجة دعوة الإخوان المسلمين بين اثنين متعلمين أرقى تعليم في البلد: واحد معه بكالوريوس كيميا ونبات ومعهد تربية، والآخر ليسانس آداب! والله، لولا احترام الآدمية، لكنت خليتكم أنتم الاثنين ضربتم بعض!" ( )

لقد استغل جمال سالم تلك اللحظات التعسة من لحظات الضعف البشري، حين تبدو الحياة فجأة للمناضل الذي وهب حياته للمبدأ، أثمن ما في الوجود! فيتخبط في لجة اليأس طلبا للنجاة، ويتخفف من كل ثمين بحمله، حتى ولو كان المبدأ الذي عاش به وعاش لأجله، فيخسر الاثنين معا: الحياة والمبدأ!

ولو كان ثمة داع يقتضيه إحقاق الحق لإجراء هذه المواجهة المخجلة، لغفر التاريخ لجمال سالم عقدها، ولكن المحاكمة كانت صورية، وكانت الإدانة مقررة في ذهنه، وهي نصيب كل من التحق بالتنظيم السري من قريب أو من بعيد، لقد كانت محاكمة للتنظيم السري في مجموعه، وليس محاكمة لأفراده.

ومع ذلك فقد كانت ثورة 23 يوليو آخر من يحق له محاكمة التنظيم السري للإخوان المسلمين، على الرغم من إدانتنا له إدانة كاملة من واقع دراستنا التاريخية ومن منطلقنا الفكري الليبرالي؛

فلم يكن وجود هذا التنظيم السري سرا بالنسبة لضباط الثورة، وقد استعانوا به في حماية الثورة عند قيامها، وتحالفوا مع الإخوان وهم يعرفون بوجود هذا التنظيم، بل استعانوا بفريق منه ضد الفريق الآخر لإخضاعه لسلطتهم، ومعنى ذلك قبولهم استمرار وجوده، ولكن لخدمة أغراض الثورة ضد خصومها السياسيين: الشيوعيين والوفديين!

فإذا دب الخلاف بين حلفاء الأمس، فلم يكن ثمة مبرر لامتهان قيادات الإخوان إلى الحد الذي رسمنا طرفا يسيرا منه، طالما أن أحكام الإعدام كانت مقررة سلفا، وطالما أنه تقرر إصابة الجماعة بعجز دائم يخرجها من الحياة السياسية المصرية، ويقضي على تأثيرها ما بقيت الثورة في الحكم.

المتهمون

قبض على محمود عبد اللطيف في أعقاب ارتكاب الحادث، وأوسعه الجمهور ضربا، وكان هذا الجمهور كما سبق أن ذكرنا يتكون من عناصر موالية لعبد الناصر ورجال المخابرات، وفيما يبدو أن سلطات التحقيق أكملت مهمة الجمهور سعيا وراء اعتراف محمود عبد اللطيف، فقد نشرت صورته جريدة الأهرام يوم أول نوفمبر، أي بعد خمسة أيام من الحادث وكان وجهه منتفخا من الضرب!

ونعتقد أن المناخ الجماهيري الموالي لعبد الناصر داخ السرادق، كان وراء اضطراب محمود عبد اللطيف عند محاولته اغتيال عبد الناصر، فطاشت رصاصاته ولم تصبه، فقد أثبتت إجراءات التحقيق أن أربع رصاصات استقرت في الدرابزين الرخامي المقام حول شرفة مبنى هيئة التحرير، وأن طلقتين استقرتا في جدار المبنى، وطلقتين أصابتا الأستاذ أحمد بدر، سكرتير هيئة التحرير رغم أن المسافة بين محمود عبد اللطيف وعبد الناصر كانت عشرين مترا!

وقد تخلص محمود عبد اللطيف فور ارتكابه الحادث من مسدسه بإلقائه على الأرض، حتى لا يضبط وفي يده سلاح الجريمة، وقد ضاع المسدس بين أقدام الجماهير، واصطدمت به قدم بناء شاب من أبناء الأقصر يدعى "خديو آدم" فالتقطه، وعندما تبين حقيقته خشي إظهاره فيظنه الناس شريكا في الجريمة؛

كما خشي إلقاءه على الأرض ثانية، بعد أن طبعت عليه بصماته فقادته غريزته إلى دسه في جيبه والخروج من السرادق الهائج، ولكن قريبا له نصحه بتسليمه طمعا في المكافأة في ثكنات مصطفى باشا بالإسكندرية، ولكن الصحف نشرت، بمانشتات عريضة أن خديو آدم قدم من الإسكندرية سيرا على قدميه لمدة ثلاثة أيام! ليسلم المسدس بنفسه لعبد الناصر ( )

وواضح تلفيق القصة تلفيقا ساذجا لإظهار التأييد الشعبي لعبد الناصر، الذي كان يفتقر إليه في ذلك الحين إذ أني لبناء بسيط مثل خديو آدم أن يقابل ببساطة عبد الناصر وهو في مركزه من السلطة وقتذاك!

وكما هي العادة في مثل هذه الروايات الملفقة، فإنها قلبت الغرض منها، إذ سخر الناس منها، وأتاحت للإخوان الفرصة للتشكيك في ارتكاب محمود عبد اللطيف للحادث اعتمادا على عدم ضبط أداة الجريمة معه!

ولكنهم نسوا تبرير وجود محمود عبد اللطيف، وهو عضو في التنظيم السري، في مكان الحادث! وهو أمر ثابت لا سبيل إلى المماراة فيه، فهل كان وجوده افتتانا بسماع خطب عبد الناصر وتشوقا لمشاهدته؟

وعلى كل حال، فقد تعرف محمود عبد اللطيف، وهنداوي دوير على المسدس، وكان من النوع الذي إذا أطلقت جميع رصاصاته ينفتح، ولكن أنكره إبراهيم الطيب أثناء المحاكمة، فعندما عرضه عليه جمال سالم سائلا:

رد قائلا: أنا لم أسلمه هذه الطبنجة إطلاقا!
إبراهيم الطيب: أنا متأكد يا فندم من كلامي!
والله الإنكار ده مالهوش داعي، لأن الأمور لا تؤخذ بهذه الصورة، وإذا كان الإنسان أخطأ يجب أن يتحمل خطأ ( )

فكانت هذه الإجابة أبلغ من أي رد في هذا المجال.وواضح أن هذا الموقف من جانب إبراهيم الطيب، يتمشى مع خطة دفاعه عن نفسه، التي قامت على إنكار إعطاء هنداوي دوير أية تعليمات بالتنفيذ، لأن اعترافه بتسليمه المسدس له يحمل معنى التنفيذ، وكان قد اعترف فقط بإعطائه الحزام الناسف، ضمن خطة الاغتيالات التي ذكر أنه أوقف تنفيذها.

على كل حال، فلا يجب أن يعول البعض كثيرا على قصة المسدس في إلقاء الشبهات حول قيام محمود عبد اللطيف باستخدامه في اغتيال عبد الناصر، تنفيذا لتعليمات الجهاز السري لأنه سواء وجد المسدس وقت الحادث، أو بعده، أو ضاع إلى الأبد! فلا تأثير لذلك على الحقائق المتعلقة بالموضوع وفقا للوثائق التاريخية كما سبق عرضه.

وقد تتابعت اعترافات المتهمين على بعضهم البعض، وتطوعوا جميعا بتفصيلات دقيقة تتناول شتى شئون العلاقات فيما بينهم داخل الإطار التنظيمي للجهاز السري، وعلى مستوى علاقاتهم الشخصية، ويرجع ذلك لأسباب شتى:

أولها: الضرب والتعذيب، وهو عامل هام لم يصمد أمامه كثيرون، فانتهت مقاومتهم، وتسابقوا إلى الاعتراف بكل شيء طلبا للنجاة.
ثانيا: اهتزاز ثقة الكثيرين منهم في النظام السري وجدواه أو فاعليته، خصوصا بعد ما ثبت من عجزه أمام أجهزة القمع البوليسية في الدولة في كل مناسبة اصطدم بها، سواء في عام 1948، أو في يناير 1954، أو بعد حادث المنشية، وربما كان هنداوي دوير خير من يمثل هذا الدافع.

وأهمية هذا الدافع تتمثل في الاعترافات المستفيضة التي أدلى بها أعضاء التنظيم السري وكشف أسراره، وقد تطوعوا فيها بتفصيلات دقيقة ومطولة، حتى أن بعضهم ألقى خطبا استغرقت ست صفحات من المحاضر الرسمية! ولم يجد جمال سالم فرصة يقاطعه فيها كما تعود أن يفعل مع الغير وهو هنداوي دوير.

ولذلك فإن الزعم الذي صدر عن بعض دوائر الإخوان بأن الأقوال التي أدلى بها المتهمون أمام المحكمة كانت من وضع البوليس السياسي، هو زعم يحمل معنى الاستخفاف بعقول الناس، لأنه لا يوجد بوليس في العالم يؤلف للمتهمين أقوالا يستغرق الإدلاء بها 1650 صفحة، ويحمل الناس على إلقائها كما يجري في المسرحيات! فقد رأينا مواجهات كما جرى بين محمود الحواتكي وإسماعيل يوسف، ورأينا صدامات في الرأي بين المتهمين وجمال سالم.

وليس معنى ذلك قبول هذه الاعترافات على علاتها، فهي لا تعدو بالنسبة للمؤرخ أن تكون "روايات تاريخية" يطبق عليها ما يطبق على غيرها من الروايات التي يرويها من لعبوا أدوارا في الأحداث من قواعد منهج البحث التاريخي لتحقيقها.

بل يمكن القول إن جمال سالم لم يكن مهتما بسماع كل تلك التفصيلات عن النظام السري وخلافاته! فقد حدث أن طلب الادعاء من محمد خميس حميدة الإدلاء للمحكمة بمعلوماته عن النظام الخاص، فأخذ يسهب في الإجابة عن هذا السؤال على مدى صفحتين من صفحات المحاضر الرسمية!

  • فقاطعه جمال سالم متبرما قائلا:تفتكر إن الإدعاء طلب منك الحضور علشان نسمع منك الحدوتة بتاعة المرة اللي فاتت؟ ( )

وفي الواقع أن اهتمام جمال سالم كان منصبا بالدرجة الأولى على الناحية السياسية من المحاكمة وليس على الناحية التاريخية، فقد كان يستهدف كشف موقف الإخوان من الاتفاق مع الإنجليز على شروط أقل من الشروط التي توصل إليها عبد الناصر في معاهدة الجلاء...

وذلك ليسلب حجة الإخوان في معارضة المعاهدة، وفي الوقت نفسه كان يستهدف كشف النظام الديكتاتوري للإخوان، ليسلبهم الحق في اتهام الثورة بالدكتاتورية، وربما كان في النموذج الذي أوردناه في الفصل السابق أثناء استجواب محمد خميس حميدة، والذي قال فيه جمال سالم عبارته المشهورة: "مكتب الإرشاد رأيه استشاري طرطور"، بناء على ذلك، خصوصا وهناك نماذج أخرى تحفل بها محاضر المحاكمة؛

وفي هذا النموذج حصل على اعتراف من محمد خميس حميدة بأن الهيئة التاسيسية للإخوان المسلمين، وهي برلمان الإخوان المسلمين، تتكون بالتعيين لا بالانتخاب!، ويخرج منها كل سنة عشرة، ويدخل غيرهم بنفس الطريقة، أي التعيين، ويختارهم الشيخ حسن البنا

وهذه الهيئة التأسيسية المعينة هي التي تنتخب، من بينها، مكتب الإرشاد، ولكنها لا تنتخب جميع أعضائه الخمسة عشر، بل تنتخب اثني عشر فقط، والثلاثة الآخرون يدخلون المكتب بالضم! وحتى هذا المكتب ليست قراراته ملزمة للمرشد بل استشارية!

لذلك التفت جمال سالم منتصرا إلى الجمهور في القاعة قائلا:

"هذه ديمقراطية الإخوان المسلمين اللي كانت حتطبق عليكم في الحكومة الآتية، اللي كانت حتكون تحت وصاية الإخوان المسلمين، شفتم البرلمانات والدستور والانتخابات المثالية اللي كانت حتطبق عليكم" ( )

أما الهدف الثالث الذي كان ينصرف إليه اهتمام جمال سالم، فهو إثبات صدور الأمر باغتيال عبد الناصر من التنظيم السري للإخوان المسلمين، وانتماء محمود عبد اللطيف لهذا التنظيم لتبرير تصفية قيادات الإخوان المسلمين المسئولة عن وجود هذا التنظيم جسديا عن طريق أحكام الإعدام والزج بهم في المعتقلات والسجون، وقد حصل جمال سالم على اعترافات كاملة من القيادات التي حوكمت في مجال هذه الأهداف الثلاثة.

وقد كان أول من مثلوا أمام المحكمة محمود عبد اللطيف، وقد اعترف بأنه "مذنب" وحين سئل عمن يرشحه للدفاع عنه، اقترح محمود سليمان غنام، أو مكرم عبيد، أو فتحي سلامة، وقد تملك الثلاثة الذعر لهذا الاختيار، ورفضوا جميعا أداء هذا الواجب!

فقد قال محمود سليمان غنام:

"أنا لا أوافق إطلاقا على الدفاع عن محمود عبد اللطيف، لأني أستنكر كل الاستنكار هذه الجريمة، وقلبنا وطنيا معكم، ولا أستطيع بأي حال من الأحوال تولي هذه المهمة والدفاع عن مجرم"!

وقال مكرم عبيد:

"هذا غريب! وأنا في حياتي لم أر هذا المتهم، ولا هو رآني، وأنا لا أستطيع الدفاع عمن يعتدي على جمال عبد الناصر، ماذا بقي بعد ذلك؟ هذا أمر خطير! أنا لا أمانع إذا كانت هذه جريمة قتل عادية، ولكن هذه جريمة موجهة إلى قلب الوطن".

أما فتحي سلامة، فلم يكتف بالاعتذار، بل أبى إلا أن يهين المتهم، فصرح علنا بأنه: "يحتقر هذا المجرم، فكيف أدافع عنه؟" ( )

وقد كن هذا الموقف من جانب المحامين الثلاثة غير كريم، ومتخاذل، وسقطة أليمة فضلا عن أنه مليء بالنفاق! فقد كانوا جميعا من القوى الديمقراطية دون ريب، التي كانت تطالب بعودة الحياة الدستورية، وكانت الجريمة التي وقعت على وجه التحقيق إحدى النتائج المباشرة للحكم الدكتاتوري وانعدام الحريات واضطهاد الرأي المخالف؛

وكان في الإمكان تحويل محاكمة الإخوان المسلمين إلى محاكمة للدكتاتورية، كما جرى على الدوام في تاريخ القضاء المصري الحديث، الذي كان حربا على الاستعمار والاستبداد، فقد حاكم الاستعمار في قضية أحمد ماهر المتفرعة عن قضية مقتل السردار عام 1926،

وحاكم العهد الدكتاتوري لمحمد محمود باشا، الذي عرف بحكم "اليد الحديدية" في قضية سيف الدين التي اتهم فيها مصطفى النحاس باشا في أوائل الثلاثينيات في قضية البداري عام 1933 وظل القضاء المصري يحاكم الاستعمار والاستبداد حتى قيام ثورة 23 يوليو!

ولكن ذلك كان في وجود أدنى من الضمانات الديمقراطية التي تكفل حرية الفرد، وكان هذا الحد متوفرا في ظل دستور 1923، رغم كل القيود الأوتوقراطية التي حفل بها! ولكن هذا الحد الذي يكفل حرية الفرد سقط مع سقوط النظام الليبرالي في يوليو 1952، وأخطر من ذلك أنه سقطت معه أيضا إنسانية الفرد على يد رجال السجن الحربي في أزمة مارس 1954!

فقد ذكرنا كيف انتهت مظاهرات الإخوان المسلمين في 28 فبراير 1954 باعتقال عبد القادر عودة ومعه خمسة وأربعون من الإخوان، ووقفوا على أرجلهم في السجن الحربي من الرابعة صباحا حتى السابعة، يضربهم ضباط السجن وعساكره بوحشية، كما ضرب أحمد حسين وعمر التلمساني، وطلبت الجمعية العمومية للمحامين من النيابة مساءلة المعتدين على المحامين المعتقلين، وذكرت اسم البكباشي أحمد أنور، مدير السجن الحربي، صراحة.

بل عندما حدث شك بسيط في أن الدكتور السنهوري، رئيس مجلس الدولة، سوف يعقد الجمعية العمومية لمجلس الدولة، لاستصدار قرار بمساندة الحريات سير مدير السجن الحربي مظاهرة يقودها حسين عرفة، وهو زوج أخته! اقتحمت مجلس الدولة، وضربت الدكتور السنهوري في عقر هذا الحرم المقدس!

لذلك كان في الإمكان تحويل محاكمة الإخوان إلى محاكمة للدكتاتورية وتصحيح خطى الثورة، لو توفرت الشجاعة للمحامين الثلاثة مع اقتدارهم، ولكن هذه الشجاعة خذلتهم في مناخ المعاملة البربرية التي تعامل بها الثورة خصومها، ولو أنهم اكتفوا بالامتناع عن الدفاع عن المتهم، لكان لهم ما يبرر ذلك، ولكن لا يوجد ما يبرر تفسيرهم هذا الامتناع بأسباب تدخل في صميم منافقة الثورة!

على كل حال فقد انتدبت المحكمة، للدفاع عن محمود عبد اللطيف، حمادة الناحل، وكان قد سبق له الدفاع عن مغتالي حسن البنا! فانتهت أزمة اختيار الدفاع.

كان محمود عبد اللطيف، وهو سمكري بإمبابة، ذا حظ بسيط من التعليم، فقد درس الابتدائية أربع سنوات في القسم الليلي، ورسب فيها! وقد سبق له أن اعتقل في عام 1949.

وقد اتهمه هنداوي دوير، رئيسه في التنظيم السري الذي أصدر إليه الأمر بالتنفيذ بأنه كان "متحمسا" لارتكاب الحادث! وأنه هو الذي اقترح عليه السفر إلى الإسكندرية ليقو بهذه المهمة، وكان الأصل أن يرتكب الحادث في القاهرة!

"ومعنى هذا" والكلام لهنداوي دوير أن محمود عبد اللطيف كان

"صاحب تفكير مستقل استقلالا كاملا، لا سيما وأنا أعلم أنه صاحب شخصية، ولا يتأثر بسرعة، وأنا بهذا لا أريد اتهامه، وإنما هذه هي الحقيقة، فهو شخص صاحب تفكير مستقل، ويحفظ جزءا من القرآن وكان متحمسا بالذات لهذا العمل، وأكبر دليل على هذا أنه هو الذي اقترح علي السفر إلى الإسكندرية"!

ولكن محمود عبد اللطيف اعترض على كلام هنداوي دوير قائلا:

"إنه (هنداوي) الرئيس بتاعي، ولو أراد عدم ذهابي إلى الإسكندرية، ما كنتش أقدر أعصي له الأمر، علشان هو رئيسي، فالحكاية مش حكاية تحمس".

وهنا سأل الدفاع هنداوي دوير:

"هل كان يمكن لمحمود عبد اللطيف، بوصفه عضوا في النظام السري، أن يخالف الأمر الذي صدر إليه؟".

وقد رد هنداوي دوير قائلا:

كان ممكن يا فندم، ودليلي على هذا، وهو صادق ولو سألتموه يقول لكم، أنني قلت له: فكر وشوف إذا كنت توافق على الفكرة أو لا، واقعد فكر ثلاث أيام، وأنت حر في هذا ولك مطلق الحرية، ومن حقك أن تقول لا، ولا ضير عليك في هذا، ومع ذلك جاءني وقال لي: "أنا مطمئن لأي عمل يصدر إلي". وكان من الممكن أن يخالف وأن يرفض هذا الطلب".
  • على الدفاع حين سأله قائلا:في حالة رفضه، هل سيستمر عضوا في الجهاز السري؟"
أجاب هنداوي دوير قائلا: طما أفتكرش! المعقول أن ينحى من الجهاز السري، ويظل عضوا في الإخوان المسلمين" ( )

وهذه الإجابة تقدم الشعرة الدقيقة بين مسئولية الجهاز السري عن ارتكاب الحادث، ومسئولية محمود عبد اللطيف، فصحيح أنه كان من حق محمود عبد اللطيف عدم تنفيذ الأمر الصادر إليه، ولكنه لم يكن حقا مطلقا لا يترتب عليه أي مساس بوضعه في الإخوان المسلمين

وإنما عليه أن يتحمل عاقبته، وهي طرده من الجهاز السري وعودته عضوا عاديا، أو ما هو أكبر من ذلك في ضوء تقدير قادة النظام الخاص!

فنلاحظ أن هنداوي دوير استخدم لفظ "المعقول" الذي يعني تقديره الشخصي، ولم يقل "المفروض" التي تعني وجود قاعدة محددة تحسم معاملة من يرفض تنفيذ الأمر من أعضاء الجهاز السري.

ومعنى ذلك بوضوح أن محمود عبد اللطيف لم يرتكب الحادث بصفته الشخصية وبدافع من الحماس الشخصي وحده، وإنما بوصفه عضوا في الجهاز السري، وتقديرا منه لعواقب رفضه التنفيذ، فالجهاز السري، من ثم، مسئول مسئولية كاملة عن الحادث.

ومع ذلك فلم يكن هنداوي دوير وحده من أدان محمود عبد اللطيف، فقد أدانه أيضا إبراهيم الطيب، رئيس هنداوي دوير، على أساس أنه فعله مختارا ... فقد سأله الدفاع قائلا:

إبراهيم الطيب: اعتقادي إنه لا شك في أنه كان هناك تأثير عليه، فقام بما قام به، وكان تأثيرا بشكل قوي.
إبراهيم الطيب: هو فاعل أصيل!!
  • الدفاع: ولكن هل تدخل الظروف التذي جرفه في حسابك؟
إبراهيم الطيب: لا شك!
  • الدفاع: هل من شأن الأجهزة السرية أن يحتفظ صغارها بإرادتهم كما يحددها القانون؟
إبراهيم الطيب: الذي أعلمه في هذا أن أي فرد لا يقوم بعمل ما إلا إذا كان متحمسا لهن وعارفا بتفاصيله، ومقدرا لنتائجه!
  • الدفاع: هل استغل جهله في ذلك؟
إبراهيم الطيب: لا يا فندم! .. استغل في ذلك تشبعه بالعمل الذي سيقوم به.
  • وهنا سأله الدفاع:هل كنت تقدم على ما أقدم عليه؟
فرد إبراهيم الطيب قائلا:لا ( )
وواضح أيضا أن تركيز إبراهيم الطيب على مسألة "الحماس" لارتكاب الحادث، كان أمرا حيويا في خطة دفاعه عن نفسه وعن التنظيم السري، لأنه يصور ارتكاب الحادث في صورة عمل أقدمت عليه مجموعة متحمسة دون الرجوع إلى قياداتها! ..

وهذا ما ركز عليه طوال المحاكمة ففي إجابة له على سؤال لجمال سالم قال:

في بعض الأحيان يكون الشخص متحمسا من تلقاء نفسه بدون صدور أوامر له، ففي بعض الأحيان كنا نلقى بعض الإخوان متحمسين، ولا يتقبلون أوضاع الجماعة.

وعندما سأله الدفاع عن تقديره لخطر الجهاز السري بعد ظهوره على النحو الذي ظهر به، علق هذا الخطر على اندفاع الأفراد إلى العمل بدون تلقي أوامر من القيادات!

وكانت إجابته:

"لا شك أن اندفاع الأفراد، دون أن يكونوا ملتزمين بالخطط الموجودة المتفق عليها من الرياسات، يحدث اضطرابا!
وعندما سأله الدفاع عما إذا كان يرى أن الجهاز السري يحمل خطرا على الوطن، علق هذا الخطر مرة أخرى، على اندفاع الأفراد إلى العمل دون رجوع إلى قياداتها، فقال:
على هذا النحو، (أي على النحو الذي تم به الحادث) يعتبر أن فيه خطرا على الجماعة وعلى الوطن. ( )

وقد جرت محاولة من جانب الدفاع للربط بين حادث محاولة الاغتيال وبين مؤامرة لافون الصهيونية المشهورة، التي كان قد أعلن عنها في بداية أكتوبر، فقد وجه هذا السؤال لإبراهيم الطيب:

هل كان من قبيل المصادفة وحدها، أن تكتشف وزارة الخارجية مؤامرة صهيونية هدفها الفوضى والحيلولة بين مصر وبين إكمال الاتفاقية في نفس الوقت الذي يبين فيه أن هناك جهازا سريا للإخوان هدفه الانقلاب عن طريق الفوضى، أو الفوضى عن طريق الانقلاب؟

وقد رد إبراهيم الطيب قائلا:

لا أعتقد أن الإخوان أداة الصهيونية.
  • الدفاع: ولو من غير اتفاق؟
إبراهيم الطيب: لا.

وهنا أراد جمال سالم أن يبرئ الإخوان من العمالة للصهيونية، لأن تاريخهم في النضال من أجل فلسطين كان يستبعد هذه التهمة، ولكن ليتهم الحركة بالعمل لحساب الاتحاد السوفيتي وهي تهمة لا تقل سذاجة عن الأولى!

فسأل إبراهيم الطيب قائلا:

  • ولما ييجي الإخوان (الأصل في المحاضر "الضباط" ولكن السياق يشير إلى الإخوان ويوجدوا حرب أهلية، ويخربوا الطرق والمواصلات ويخربوا المنشآت، والناس ما تلاقيش تاكل، ونعمل زي البلاد اللي حصل فيها كده، التي كانت تأخذ تموينها من روسيا! أقدر أعرف إنك ما كنتش بتشتغل لحساب إسرائيل، أقدر أفهم إنك كنت بتشتغل لحساب روسيا؟
  • لأن كل البلاد اللي عملت كده، كانت بتشتغل لحساب روسيا، وكانت بتجيلها إمدادات من روسيا، كانت تجيلها الذخائر والعتاد والملابس من روسيا، والأدوية والأكل وجميع المعدات الخاصة بطرق المواصلات والسكان أو كانت تجيلهم من أمريكا! فأي الطرفين كنت تعمل له: روسيا، أم أمريكا؟ طالما استبعدنا إسرائيل؟
إبراهيم الطيب: لا هذا ولا ذاك.
  • الدفاع (مصرا على اتهام حركة الإخوان بالعمالة للصهيونية).بماذا تعلل استنكار العالم الإنساني كله لأعمال الإخوان، فيما عدا راديو إسرائيل؟ .. فقد أقرها ودافع عنها!
إبراهيم الطيب: ما سمعتوش، وما سمعتش الصدى في الجرايد بره!
  • الدفاع: وإذا كنت أنا أنقل لك هذا الخبر، هل تصدقني؟
جمال سالم: (متدخلا بسخرية): هو لا يصدق إلا اثنين: يوسف طلعت، وحسين كمال الدين أستغفر الله العظيم: أنا قلت: اتنين؟ ، وهم ثلاثة! والثالث عودة" ( )

والأمر الملاحظ في هذا الحوار، هو خطة الدفاع! لقد كان الدفاع يتسابق مع المحكمة في محاولة إغراق الإخوان المسلمين!، متوهما أنه بذلك ينقذ عنق المتهم الذي يدافع عنه، وهو محمود عبد اللطيف، ونسي أنه يغرق موكله أيضا، لأنه كان مع الإخوان المسلمين في سفينة واحدة!

التبرؤ من التنظيم السري

انقسم المتهمون أمام محكمة جمال سالم إلى قسمين: قسم يشتمل على أعضاء التنظيم السري، وقسم يشتمل على القيادة السياسية للإخوان المسلمين، ومعنى ذلك أن المحاكمة لم تكن محاكمة للتنظيم السري وحده، وإنما كانت محاكمة للجماعة بأسرها، وهذا هو الهدف الأساسي.

وبالنسبة لأعضاء التنظيم السري، فمن الغريب أنهم لم يعكسوا أمام المحكمة قوة التربية الروحية التي عنيت قيادة الجماعة بغرسها فيهم وتنشئتهم عليها منذ التحقوا بالإخوان، وتدرجوا في العضوية حتى وصلوا إلى مرتبة "الإخوان المجاهدين"!

بمعنى أننا لا نجد في طول المحاكمة وعرضها موقفا يظهر فيه أعضاء التنظيم إيمانهم وقناعتهم بهذا التنظيم الذي انضموا إليه طواعية لا كرها! بل أظهر الجميع ندمهم واستغفارهم وإنكارهم له وتبرؤهم منه!

وكان أول هؤءلاء محمود عبد اللطيف نفسه، الذي ثبت تحمسه لارتكاب الحادث من أقوال هنداوي دوير، ومن اقتراحه السفر إلى الإسكندرية لاصطياد عبد الناصر، رغم أن الخطة لم يكن فيها سفر إلى الإسكندرية، وإنما تتم الجريمة في القاهرة!

فعندما سأله المدعي عن الأسباب التي دعته إلى محاولة اغتيال عبد الناصر، وإبدائه الاستعداد لقتل أنور السادات قبل ذلك، رغم أنهما مسلمان! رد قائلا:

مسلمين، ولكن فهمونا إنهم خارجين عن الإسلام!
  • من الذي أفهمك؟
هنداوي دوير؟
ثم استطرد محمود عبد اللطيف مجيبا: صحيح أنا أقدمت على العمل ده، وقبل أن أقدم عليه لم أكن أشعر بأي شيء! كان أمرا تطبيعيا! ولكن بعد أن أقدمت عليه، وشعرت بالندم، وشعرت بأني خاطئ، لأنه كان خلاف الإسلام! ( )

أما هنداوي دوير، فقد أوضحنا كيف انه أفاق بعد سماعه الحادث، فانهار، ونقل أسرته إلى بلدته المنيا، وعاد ليسلم نفسه، ويعترف الاعترافات التي أدت إلى القبض على التنظيم السري؛

وقد أعلن ندمه أمام المحكمة قائلا أنه لم يقدر الأمور تقديرا سليما إلا بعد ارتكاب الحادث:

"وأنا جاي في القطار، قدرت عدة مسائل، منها: أن زعماء الإخوان منقسمين على أنفسهم، وأن الدعوة في هذه الفترة يسيطر عليها أناس غير مسئولين وغير معروفين للإخوان! وأن الاتجاه الإرهابي اتجاه صورته الطبيعية الواضحة البسيطة أنه غير إسلامي! وأن القتل على هذه الصورة قتل غير إسلامي!
وقدرت أنه لو وقعت العمليات التي تحت يدي، ففيها إرهاق للإخوان، وإرهاق للبلاد، لذلك قررت أن أسلم نفسي للبوليس وأضع نفسي تحت تصرف المسئولين! ومن المؤسف أن هذه الاعتبارات ما قدرتهاش قبل الحادث، وهذا محل الأسف، والواقع أن الإنسان يظل يسير في الخطأ، ولا يعلم أنه خطأ، حتى يقع فيه" ( )

وقد حاول الادعاء إثبات أن هنداوي دوير لم يسلم نفسه بسبب هذه البواعث، وإنما لأنه "وجد أن محمود عبد اللطيف ذكر اسمه وقال إن أحد المحامين أمره بارتكاب الحادث" فنقل أسرته إلى المنيا، وعاد "ليرتب لنفسه الأمر"

وبالتالي فإن ما نسبه إلى نفسه من أنه عاد

"ليخدم العدالة غير صحيح، ودلل الادعاء على حجته بأنه لاحظ أن هنداوي دوير أنكر في المرحلة الأولى من التحقيق علاقته بالحادث، ولكنه بعد مواجهته بمحمود عبد اللطيف وسعد حجاج، انهار وبدأ يلقي بأقواله! ( )

على أن هنداوي دوير أصر على أن عودته إنما كانت بغرض

"أداء واجب علي، واجب أشعر به شعورا تاما مطلقا لا يرد عليه أي قيد، وهو تسليم الأسلحة للسلطات المختصة"، وأنه لولا شعوري بهذا الواجب "لكنت هربت" وفند حجة الادعاء التي أورد فيها أنه عاد لأنه وجد أن محمود عبد اللطيف ذكر اسمه في التحقيق
فقال أنه لم يرد أي شيء في الصحف لمدة ثلاثة أيام بعد الحادث عن اعترافات أدلى بها محمود عبد اللطيف، حتى يحق للادعاء الاستناد إلى ذلك، وبالتالي فقد كان في وسعه الهرب لمدة: "أسبوع واثنين وشهور"، ولكني عدت "وسلمت الأسلحة، والناس، وأعنت العدالة" "ولا أحب أن أقتضي على هذا ثمنا" ( )

وقد كان صحيحا ما ذكره هنداوي دوير عن عدم ورود شيء في الصحف المصرية عن اعتراف محمود عبد اللطيف بأنه أمره بارتكاب الحادث، ولم يكن في وسع الصحف أن تنشر مثل هذا الخبر في اليوم التالي مباشرة للجريمة، وهو اليوم الذي سلم فيه هنداوي دوير نفسه، وقد فحصت بنفسي هذه الصحف ولم يرد فيها أي ذكر لاعترافات محمود عبد اللطيف عن أحد المحامين!

وإذا كان الأمر كذلك، وكانت عودة هنداوي دوير لخدمة العدالة كما قال، فلماذا أنكر علاقته بالحادث في المرحلة الأولى للتحقيق كما ذكر الادعاء مستنداء إلى محاضر التحقيق؟

لعل إجابة هنداوي دوير تحدد الهدف من عودته تحديدا دقيقا، فقد ذكر أنه عاد "ليسلم الأسلحة" "ويعين العدالة" ولم يذكر أنه عاد ليعترف بدوره في الحادث، ولعله كان يأمل في النجاة من تهمة الاشتراك في تدبير الحادث، ومثل هذا الأمل الواهي يمكن فهمه في ظروف عصيبة كتلك التي كان يفكر فيها هنداوي دوير، والتي من شأنها أن تفقده القدرة على التفكير السليم.

وعلى كل حال، فما يهمنا في هذا المجال الذي نعالجه، هو ما يتصل بالندم والاستغفار من عضوية التنظيم السري من قائد هام من قادة هذا التنظيم، نيطت به بالذات أخطر مهمة في حياة الجماعة، وهي اغتيال عبد الناصر، بل لقد أعر هنداوي عن أمله بأن "يكون هذا آخر عهد الإخوان المسلمين بالنظم السرية، وأن تكون الطلقات الأخيرة آخر طلقات تسدد إلى صدر مصري بهذه الصورة الأسيفة التي آسف عليها أشد الأسف".

ولم يكن هنداوي دوير وحده في هذا الموقف، بل وقفه أيضا كما ذكرنا بقية أعضاء التنظيم السري، ففي شهادة محمد علي نصيري ادعى أنه دخل التنظيم السري، "دون أن أعرف قوانينه ونظمه معرفة وثيقة" وقد سأله جمال سالم كيف يسمح لنفسه أن "ينضم لجمعية سرية" دون أن يعرف نظامها وأغراضها؟ فأجاب بقوله: "إحنا كنا نعمل للوطن والإسلام"، وهنا سأله جمال سالم "من الذي يقرر الكفاح المسلح؟" فأجاب: "الحكومة" ( )

أما يحيي سعيد، فقد هاجم التنظيم، بل هاجم الدعوة! فقد ذكر أنه بعد فترة من عمله في الأسرة: "عرفت أنها كلام فارغ" وهذا زيف وخداع وغش ونفاق منهم، والمقصود جذب الناس إليهم" وقد سارع جمال سالم لتلقف هذه "الهدية" من الشاهد، فسأله مستدرجا:

  • علشان إيه؟ يجذبوا الناس إليهم؟
يحيي سعيد: علشان يلموا الناس حواليهم!
يحيي سعيد: يكسبوا الناس حواليهم!
يحيي سعيد: طبعا، أقل شيء! ( )

وقد ادعى السيد عبد الله الريس أنه كان يعارض سياسة التنظيم السري من قبل حادث محاولة الاغتيال! فقال:

أنا، كشاب، لم أفعل في حياتي ما يضر بلدي، ولم أكن أتصور.إلا حين بدأت الأسلحة توزع أننا نتخذ موقفا إيجابيا، أو أن الشعب سيحارب بعضه! .. لم أكن أتصور هذا مطلقا، وبدأت أفكر في هذه السياسة، ثم بعد ذلك بدأت أعارضها بشدة ... ( )

أما علي عبد الفتاح نويتو، فقد استند في تبرئة نفسه، إلى خطاب أرسله إلى إبراهيم الطيب يعارض فيه الاشتباك مع عبد الناصر في ذلك الحين وذكر أنه استمر في التنظيم خوفا من القتل!

  • وقد سأله جمال سالم عما إذا كان حقا يتوقع القتل؟ فأجاب قائلا:
أيوة!
علي نويتو: أيوة، ومع ذلك لم أطعهم!
  • الدفاع: رغم أنك تتوقع القتل؟
علي نويتو: خوفا من أن أفشي الأسرار يمكن يقتلوني، وأنا وفرت على نفسي هذا!
  • الدفاع: هل كان لديك مقتضيات تجعلك تظن أنهم قد يقتلونك؟ هل كنت تعلم أن الذي يخالف يتعرض للقتل؟
علي نويتو: أيوة!

على أن جمال سالم أثبت من نصوص خطاب علي نويتو إلى إبراهيم الطيب (وقد قرأها في المحكمة) أن سبب معارضته يرجع إلى شعوره بأن التنظيم ليس قويا بالدرجة الكافية للتغلب على عبد الناصر!

فقد كانت عبارات علي نويتو:

"خير لنا أن نستمر في أعدادنا سنتين بهذا النشاط، من أن ندخل معركة قد لا تكون في جانبنا، التدريب لا زال ضعيفا جدا جدا، ولا يسمح بالقيام بمهام كبيرة، وكان قد تقرر أن يدخل كل أخ معسكرا للتدريب، ولكن شيئا من هذا لم يتم، ورجال بدون تدريب لا يكفون لإحراز النصر"

وقد عقب جمال سالم على ذلك قائلا:

الثلاث فقرات اللي قرأتهم دول، ألا يدلوا، بأيمان الله اللي حلفتها يا أخ يا مسلم! ياللي حتقابل ربنا يوم القيامة! على أنك كنت متشككا في نتيجة المعركة، والأولى أن تنتظر إلى أن تدرب رجالك، حتى إذا وقعت المعركة، يكون النصر في جانبك؟"
علي نويتو: يمكن التعبير خانني! ( )

على أن موقف شقيق علي نويتو المتهم معه، وهو حامد نويتو كان بليغا في التبرؤ من التنظيم السري! فقد طلب من المحكمة أن يأتوا له بهنداوي دوير ليقتله! جزاء خديعته ولشقيقه، وكانت عبارته:جيبوا لي هنداوي، لأقطعه بيدي، لأنه غرر بنا وودانا في داهية"!

بل أنه عقد مقارنة لصالح الثورة بينها وبين جماعة الإخوان في مجال العمل الإسلامي.

فقال:

عملتم خيرا كثيرا، بفكرة المؤتمر الإسلامي، واتصلتم بالشعوب الإسلامية، والإخوان لو كانوا قعدوا ألف سنة ما كانوش يعملوها! ( )

أما محمود الحواتكي، فقد ذكر أنه لم يدخل التنظيم السري إلا على أساس "ألا يقوم بعمليات داخلية"، وأن يكون الغرض منه "تدريب الإخوان وإعدادهم وتفهيمهم القواعد الشرعية للجهاد"؛

وأنه قرر ترك الجماعة حين جاءت المعاهدة، وخرج المرشد العام إلى البلاد العربية، ورجع منها وبدأت العلاقة بين الثورة والإخوان تتأزم هنا حسب كلامه: "رأيت أن هناك هوى يتحكم في "راعي" الإخوان، خاصة في المعاهدة، فقررت ترك النظام الخاص" ( )

ولم يكن موقف صلاح الدين علي أبو الخير، بأفضل من المواقف السابقة، فقد أبدى رأيه بأن "النظام السري فقد فعلا أسباب وجوده، بعد ما طرد الملك، وبعد أن أصبح الإنجليز على وشك الخروج" " وما كانش حيعمل أي شيء من الحاجات دي أبدا" وأضاف قائلا أنه لم يطرأ في ذهن الإخوان أن أسباب وجود هذا التنظيم السري قد زالت" ( )

وقد أبدى السيد حسين أبو سالم ندمه لما أقدم عليه، بحجة أنه في ذلك الحين لم يكن "يبصر"! وأكثر من ذلك فقد اعترف بحق الحكومة في منع المظاهرات "بالقوة"!

  • فقد سأله جمال سالم:الحكومة تمنع المظاهرات إزاي؟
أبو سالم: بالقوة!
  • جمال سالم: ولما تعمل عمل تخلي الحكومة تضرب في الناس، إيه نتيجة ذلك؟
أبو سالم: نتيجته ضارة!
  • جمال سالم: وليه فكرت في العمل اللي نتيجته ضارة؟
أبو سالم: والله الواحد ما كانش بيبصر!
ده كان عمل خاطئ منى، وأنا نادم على التفكير في هذا ( )

أما محمد عبد المعز، الذي كان يقوم بعمل رئيس منطقة شرق القاهرة، فقد اعتبر معارضة المرشد العام ومكتب الإرشاد للاتفاقية التي عقدها عبد الناصر مع بريطانيا، "تضليل" للناس!

وقد التقط جمال سالم سريعا طرف هذا الخيط، فسأله قائلا:

  • كان تضليل؟
محمد عبد المعز: أيوة!
محمد عبد العزيز: من البيان الذي أصدره مكتب الإرشاد!
محمد عبد المعز: بخصوص الاتفاقية! كان تضليل!
محمد عبد المعز: أيوة ( )

وقد اتهم إسماعيل عارف، وكان حلقة الاتصال بين يوسف طلعت وإبراهيم الطيب، موقف الإخوان من الثورة بأنه "انحراف" فقد سأله جمال سالم مستنكرا عن الاضطهاد الذي تعرض له الإخوان من ثورة 23 يوليو؟ فرد قائلا:

لا شك أن الثورة في الأول قابلت الإخوان أكرم مقابلة.
إسماعيل عارف: انحراف ( )

بل إن إبراهيم الطيب، وهو رئيس مناطق القاهرة في التنظيم السري، قد اعترف بخطورة الجهاز السري "على الجماعة وعلى الوطن" فكما أوردنا في الفصل السابق فإن الدفاع سأله قائلا:

  • ما هو تقديرك لخطر الجهاز السري بعد أن بان على النحو الذي لم يكن تعرفه قبل أن يبين؟
وقد رد بأن اندفاع الأفراد إلى ارتكاب أعمال دون التزام بالخطط المتفق عليها من الرياسات، يحدث "بلبلة واضطرابا".
  • وقد أعاد الدفاع سؤاله بطريقة أكثر تحديدا:الجهاز السري! هل بان لك أنه يحمل خطرا على الوطن؟ فرد قائلا:
على هذا النحو يعتبر فيه خطر على الجماعة وعلى الوطن!

وقد كانت الصورة التي رسمها يوسف طلعت، وهو رئيس الجهاز السري، وأشد من وقفوا أمام جمال سالم أثناء المحاكمة صلابة كما سنوضح فيما بعد قائمة للتنظيم السري؛

فقد اعترف بأنه كان يعيش على رأس التنظيم "في تهديد ورعب" وأنه أراد أن "يرتفع بهذا الجهاز إلى المعنى الإنساني الصحيح" الأمر الذي يوضح أن الجهاز لم يكن يرتفع إلى هذا المعنى، رغم أنه من المفروض فيه أنه جهاز إسلامي يعمل في خدمة الإسلام والمسلمين!

ولم يتخلف المرشد العام حسن الهضيبي عن إدانة النظام السري قبل توليه الإرشاد العام، ووصفه بالانحراف، "بعد ما ثبت" حسب قوله "أنه ارتكب جرائم قبل ذلك في السنوات 1946 و 1947 و 1948، وكل هذه الجرائم التي ارتكبت طبعا انحراف وخروج عن الغرض الأصلي" ( )

  • "إيه رأيك في الإرهاب عامة؟" أجاب:
أنا لا أقر الإرهاب كوسيلة لأي شيء، وأنا قلت كده، قلت: إن الإرهاب ضار بالجماعة، وضار بالإسلام، وضار بمصر، وحذرت أكثر من مرة، ونشرت هذا الرأي بين الإخوان، وإن كان الهضيبي قد دافع عن التنظيم الذي أقامه.

ما هو معنى التبرؤ من التنظيم السري وإنكار الإرهاب، رغم أن محاولة اغتيال عبد الناصر تدخل في صميم الإرهاب؟ هل معناه جبن وخور في العزيمة من جانب أعضاء التنظيم دفعهم إلى التماس النجاة على حساب المبدأ الذي كرسوا حياتهم لأجله، والجماعة التي انتموا إليها طواعية واختيارا؟

في الواقع أن السبب يرجع إلى الإفاقة على الخديعة الكبرى، وهي الفرق بين الأهداف والمثل العليا التي التحقوا بالتنظيم السري لتحقيقها، وبين النتائج الهزيلة التي تمخض عنها التنظيم، وهي المحاولة الفاشلة لقتل رئيس الحكومة!

فالشباب عامة، يحب أن يموت مستشهدا في ميدان القتال لتحرير الوطن أو إعلاء نصرة الدين، وليس معلقا في أعواد المشانق متهما بالاغتيال والإرهاب.

وبمعنى آخر أنه يحب أن يموت منتميا إلى جيش وليس إلى عصابة سرية.وهذه الأهداف والمثل العليا هو الأسباب التي دفعت شباب التنظيم السري إلى الانضمام إليه، ففي طول محاكمة المتهمين وعرضها تسمع من المتهمين ألفاظ الجهاد والتحرير قرينة للتنظيم السري،

ففي محاكمة محمود عبد اللطيف يسأله المدعي:

  • فهمت إيه الفكرة من النظام السري؟
الفكرة هي الجهاد في سبيل الله ودراسة القرآن والسيرة، ده كل اللي فهمته!
  • الغرض منه إيه؟
محاربة أعداء الإسلام وأعداء الدعوة.

وفي موضع آخر يعطي محمود عبد اللطيف تصوره للجهاد، فيقول: "الجهاد جربناه قبل كده في كتائب الجامعة لما راحت القنال، كان الإنجليز منزعجين من الكتائب".

ويتحدث محمد علي نصيري، المرشح الثاني لاغتيال عبد الناصر، عن الجهاد أيضا يصورة مجسدة، فحين يسأله جمال سالم عن مهمة الجهاز السري، يرد قائلا:

كنا بنتمرن على القتال وحرب العصابات! (كانت حرب العصابات في ذلك الوقت تطلق على ما يعرف حاليا بغارات الفدائيين).
نصيري: سيد عواد قال: الغرض تكوين حكومة إسلامية، وطرد المستعمرين، وعمل جيش.

كذلك يتحدث علي عبد الفتاح نويتو عن الجهاد، فيروي أسباب التحاقه بالنظام الخاص بقوله:

الدين يحضنا على الجهاد في سبيل الله، وأنا عشان ما دخلتش الجيش، جيت اشتركت في الجيش الإسلامي عشان أحارب!

ويروي أخوه حامد نويتو سبب انضمامه فيقول:

كانوا بيقولوا: حنحتاجكم في حرب فلسطين، أو القنال، أو خارج البلاد وبندربكم علشان تكونوا مستعدين!

وحين يسأل جمال سالم إسماعيل محمود يوسف عن أسباب التربية العسكرية، يقول:

للجهاد!
إسماعيل يوسف: في القنال وفلسطين.

ويردد أيضا محمود الحواتكي كلمة الجهاد، حين يسأله جمال سالم عن الغرض من تشكيل النظام السري، فيقول:

الغرض من تشكيل هذا النظام السري من قديم، هو تمثيل فكرة الجهاد في الجماعة، الجهاد في فلسطين أو القنال أو غير ذلك من الأمور، وأنا شخصيا كنت مشتركا فيه على أساس أنه يمثل فكرة الجهاد.

كذلك يذكر صلاح أبو الخير الجهاد، فيقول: "الغرض الأساسي"، هو تكون مجموعة مسلحة مؤمنة، تدرب تدريب كويس، علشان تخدم الإسلام وتدافع عنه في أي وقت وفي أي مكان ( )

وهكذا، وكما اعترف بقية المتهمين، كانت فكرة الجهاد والقتال والتحرير هي الدافع لكل شاب من أعضاء الجهاز السري على دخوله، فلما وجدوا أنفسهم وراء القضبان بسبب محاولة اغتيال قام بها أحدهم تنفيذا لأوامر التنظيم، وشعروا بأن الشنق مصيرهم، انقلبوا على الجهاز السري، وتبرءوا منه جميعا، لأنه لم يعد يمثل في الوضع الجديد فكرة الجهاد؛

وإنما العنف الفردي، لقد أدرك أعضاء التنظيم السري وقتها أن قتل فرد لا يقضي على نظام بأكمله، فحتى لو قتل عبد الناصر، فإن خلفاءه سينكلون بهم، وهكذا ظهر إفلاس التنظيم السري الذي وهبوه حياتهم.

لذلك لا نرى في محاكمة أعضاء جماعة الإخوان المسلمين بطولات كتلك التي تميزت بها محاكمات الشيوعيين على يد نظام ثورة 23 يوليو! .. فقبل أربعة أشهر فقط من محاكمة جماعة الإخوان المسلمين، كانت الثورة تحاكم الشيوعيين أمام المحكمة العسكرية العليا برئاسة اللواء الدجوي، فيما عرف باسم " قضية الجبهة الوطنية الديمقراطية" وذلك بتهمة الاتفاق الجنائي على قلب نظام الحكم، والقضاء على طبقة الملاك، وسيادة الطبقة العاملة!

وقد جرت المحاكمة يومي 3 و 4 يوليو 1954، ولكن الشيوعيين هم الذين حاكموا الدجوي، فقد اتخذوا قرارا بما عرف باسم "الدفاع السياسي" وفيه يدافع المتهم عن تهمته ولا يدفعها، حتى ولو لم يكن هناك شيء ضده يثبت إدانته! وكانوا يصيحون في وجه الدجوي: أصدر أحكامك يا خائن! حتى اضطر إلى محاكمتهم فرادي، فكانت أول قضية فيها اتفاق جنائي، ويحاكم فيها المتهمون فرادى ( )

لم يكن الفرق بين الشيوعيين وأعضاء التنظيم السري للإخوان المسلمين فرقا في الشجاعة والفداء، وإنما في الاقتناع والإيمان، لقد كان الشيوعيون مقتنعين ومؤمنين بالقضية التي حوكموا لأجلها، أما أفراد الجهاز السري فلم يكونوا مقتنعين ولا مؤمنين بالقضية التي يحاكمون لأجلها، وهي محاولة اغتيال عبد الناصر! ولم يكونوا مستعدين للموت من أجل هذا الهدف الهزيل، ومن هنا كان الانهيار!

ولكن القليل منهم فهم مسرحية المحكمة، وأدرك مصيره مسبقا، وهو الشنق، فواجه جمال سالم بالسخرية والاستهزاء كما فعل يوسف طلعت، أو بالتصميم والثبات كما فعل إبراهيم الطيب، أو بقلة الاكتراث والردود المنطقية الجريئة التي كانت تعقد لسان جمال سالم، كما فعل الهضيبي، فكانت هذه المواقف مما أضاء محاكمات الإخوان.

الواجهة بين جمال سالم وقيادة التنظيم السري

لم يكن يوسف طلعت، رئيس التنظيم السري للإخوان المسلمين، من المثقفين الذين تكونت منهم قيادات هذا التنظيم، وإنما كان تاجر حبوب بسيطا لا يتجاوز الـ 43 عاما من عمره، وكان يعمل نجارا قبل أن يعمل تاجرا، ومن ثم فقد كان ذا حظ بسيط من التعليم، وكان يمثل "ابن البلد" المصري، بكل ما فيه من بساطة وجرأة وشهامة ومكر عند اللزوم!

وقد استغل هذه الصفات في مواجهة جمال سالم، فلم يكن يخاطبه باهتياب وخشية كما كان يفعل الآخرون، وإنما كان يخاطبة مخاطبة الند للند، ويرفع التكليف بينه وبينه كما لو كانا في الحياة العادية، وليسا في محكمة يقف فيها متهما أمام جمال سالم الذي يجلس على منصة القضاء!

ولهذا السبب لم ينل جمال سالم الفرصة ليخضعه لما أخضع له الآخرين من إهانات وسباب، إذ كانت سرعة بديهة يوسف طلعت تفسد هذه المحاولات أولا بأول، وفيما يبدو أن جمال سالم نفسه كان يعرف طبيعة يوسف طلعت، وتعجبه فيه شخصيته، لأنه كان يتبادل معه النكات لا الشتائم، ويعطيه قدرا أكبر من الاحترام؛

وقد أدى يوسف طلعت شهادته جالسا بحجة أنه متعب، وكان قد ألقى السلام على المحكمة والمشاهدين عند دخوله، فرد عليه جمال سالم بسخرية قائلا:

عليكم السلام ورحمة الله "سي يوسف".

مما أضحك الحاضرين.

وبدأ التراشق بعد فترة قصيرة، فحين أخذ يوسف طلعت يتعرض لدور عبد المنعم عبد الرؤوف، قاطعه جمال سالم قائلا: "غرقكم عبد المنعم عبد الرؤوف"، فرد عليه يوسف طلعت بدون مبالاة قائلا:

غرقني والا ما غرقنيش، أهو ده اللي حصل!

وعندما كان يوسف طلعت يتحدث عن قطع التسليح التي تتسلح بها الفصيلة، وضعها في صورة تقريبية قائلا:

ما أعرفش، مجموعة برن، وثلاثة بنادق، واستن حاجة زي كده!
  • فرد عليه جمال سالم ساخرا:حاجة تفرح بهاالعيال! (ضحك).

فطلب يوسف طلعت سماع هذا التلعيق من جمال سالم ثانية لأنه لم يسمعه، قائلا:

والله عاوز أسمع الكلمة دي لو سمحت!
فاعتبر يوسف طلعت هذا الكلام وعدا من جمال سالم، وخاطبه قائلا:خلاص، أنت قلت حا أقولها لك! ومن الطريف أنه ظل يلاحق جمال سالم على طول المحاكمة لكي يفي بهذا الوعد.

وكان جمال سالم على غير العادة يسايره ويعده خيرا! ففي إحدى المرات طلب من جمال سالم أن "يطول باله عليه" فرد عليه جمال سالم قائلا: حاضر، طلبك مستجاب، وإذا بيوسف طلعت يذكره بوعده قائلا:

بس لسه الكلمة ما قلتهاليش! أنا فاكرها، ولازم تقولها لي!

بل في نهاية شهادة يوسف طلعت عاد يذكر جمال سالم بكلمته! .. فحين طلب إليه الأخير الانصراف قائلا: "مع السلامة" قال له يوسف طلعت مازحا:

فين الكلمة اللي قلت أنك رايح تقولها لي؟

يوسف طلعت ساخرا: والله؟

وقد كان يوسف طلعت في أحد المواضع يشرح خطة الهجوم على مجلس الوزراء، التي أعدها عبد المنعم عبد الرؤوف، وقال إنه طلب إعداد "ملابس علشان التضليل" أي التمويه، فعلق جمال سالم على هذه العبارة قائلا:

طبعا حكاية التضليل أنتم شطار فيها قوي! فضحك يوسف طلعت!

وقد دأب يوسف طلعت على مخاطبة جمال سالم كما يتخاطب الأصدقاء في اللقاءات الودية، فقد كان يتحدث عن فكرة المظاهرة التي وافق عليها الهضيبي، فسأله جمال سالم عن صاحب فكرة حراسة التنظيم السري لهذه المظاهرة، وهل كان الهضيبي أم يوسف طلعت، وكان السؤال:

  • والحراسة دي من عندك؟ (أي نابعة من فكرك).
فرد عليه يوسف طلعت بالإيجاب قائلا: الشهادة لله يا شيخ، دي بيني وبين عبد المنعم (عبد الرءوف).
يوسف طلعت: آه.
يوسف طلعت: بالضبط.

ولم يكن يوسف طلعت يتردد في السخرية من بعض أسئلة جمال سالم، فحين اعترف بأنه أعطى الحزام الناسف لإبراهيم الطيب، سأله جمال سالم:

  • يعني فكرة الاغتيال موجودة؟
فرد عليه يوسف ساخرا:ولما أعطيه حزام حيكون إيه إلا فكرة من أفكار الاغتيال؟

وقد تعرض يوسف طلعت في إحدى المرات لخطر انقلاب جمال سالم عليه، حين أقسم "بحياة شرف" جمال سالم على صحة ما فهمه من تعليمات الهضيبي بإصلاح النظام السري، فقد ثار جمال سالم قائلا مهددا:

  • ما لكش دعوى بشرفي! أنا أكره اللي يقول لي كده! تحب أكرهك؟
يوسف طلعت مستدركا:لا أبدا!

وهذه العبارة من جمال سالم، بتلقائيته المعروفة، تفيد أنه لم يكن يكره بالفعل يوسف طلعت، رغم أن واجبه كان يقتضيه الحكم بإعدامه باعتباره رأس التنظيم السري؛

بل لقد أعرب جمال سالم فعلا في أثناء المحاكمة عن مشاعره تجاه يوسف طلعت، وبادله الأخير المشاعر! ... وكانت المناسبة حين طلب يوسف طلعت من جمال سالم أن يكون صبورا معه قائلا:

والنبي طول بالك علي شوية!
يوسف طلعت: عايز أقول إيه؟
يوسف طلعت: خلي أخلاقك وقلبك أحسن مننا!
يوسف طلعت: تعرف ليه إنك ما بتكرهنيش؟ علشان أنا ما بكرهكش! تعرف إنه لو كان في قلبي ذرة قد كده كراهية لك، تبقى أنت كمان مش حتتصور وشي! وأنت تؤدي واجبك.وهكذا كان الاثنان يتبادلان العواطف!

وقد دارت مناقشة طريفة بين يوسف طلعت وجمال سالم، حين وصفه الأخير بأنه "قائد" الجهاز السري، فقد رد عليه يوسف طلعت ساخرا:

قائد إزاي؟ يظهر إنك بتكبرني علشان تحط ... (والمحاضر لا تورد تكملة الجملة، وإن كانت تكملتها الطبيعية وفقا للهجة المصرية:"تحط راسي في الخية" أي تضع رأسي في حلقة حبل المشنقة) ثم استدار يوسف طلعت إلى الجمهور مستكملا كلامهالجماعة دول بيكبروا فينا، علشان يقطعوا رقبة واحد كبير؟
الحكاية كلها واحد: مش روح؟ إنما تكبر في وتقول: قائد ... مش قائد!
  • المدعي: مش رئيس أنت؟
يوسف طلعت بلهجة أولاد البلد:يا شيخ الله يكرمك! (ضحك) ( )

وهكذا كان يوسف طلعت يواجه المحاكمة باستخفاف وشجاعة نادرة ... لقد تساوت في نظره قضية الحياة والموت، وهو ما عبر عنه ببساطة شديدة في عبارته السالفة: الحكاية كلها واحد: مش روح؟" ومن سوء حظ الإخوان أن شهادته أمام المحكمة جاءت متأخرة، ولا ألهم بقية أعضاء التنظيم السري، من المثقفين! الشجاعة التي خذلت الكثيرين!

ومن الغريب، مع ذلك أن يوسف طلعت كان يخلو من تلك النزعة إلى سفك الدماء، والتي كانت تميز سلفه عبد الرحمن السندي الذي قاد العمليات الإرهابية خارج الجماعة وداخلها حتى مقتل المهندس سيد فايز! فحين قبض عليه، كان يقيم في بيت هو ترسانة مسلحة، ومع ذلك، لم يشأ إراقة الدماء، وسلم نفسه!

وقد ذكر المحكمة بهذا الموقف أثناء دفاعه عن نفسه قائلا:

لو كنت صحيح بتاع دم، أنا قبض علي في بيت فيه "استنات وقنابل"، وكنت عارف مصيري شكله إيه، وكان في إيدي سلاح، ولكن ضميري وقلبي لم يسمحا لي بأن أستعمل شيء من هذا!

وقد كشف أمام المحكمة أنه سلم الحزام الناسف إلى إبراهيم الطيب غير مستكمل التجهيز، حتى لا ينفجر قائلا:

الحزام يا فندم ويا حضرات القضاة إلى الآن ناقص! وما حدش عارف إيه اللي ناقص فيه! وأنا سلمته ناقص، ومش حاقول ناقص إيه لحسن واحد ابن حرام يستعمله! وإذا كنتم عاوزين أقول؟ أقول إيه اللي ناقص" ()

وكان يوسف طلعت هو الذي صنع الحزام كما ذكرنا.

وإذا كان هذا صحيحا، فإنه يكون دليلا على التردد الداخلي في نفس يوسف طلعت بإزاء اغتيال عبد الناصر، وهو تردد عبر عنه في أثناء المحاكمة قائلا:

والله أنا كنت بأسأل ربنا إنه يبوظ كل حاجة!
  • وقد رد عليه جمال سالم قائلا:الحمد لله ربنا استجاب لدعوتك، وبوظ كل حاجة!

وقد عبر عنها في موضع آخر قائلا:

أنا كنت باشتغل وضميري مش راضي! وعلشان كده كان كل حاجة يقولوها أو يدبروها أستخير الله فيها، فإن كانت لله تمشي، وإن ما كنتش لله ربنا يطبقها علينا، والحتة دي أخذتها من الأستاذ البنا!

على أنه من الواضح أن هذا التردد من جانب يوسف طلعت لم يكن له قيمة أو تأثير في سير الأحداث، فإذا كان قد أخفى عن إبراهيم الطيب أن الحزام الناسف كان غير تام الصنع، فإن إعطاءه له قد فهم من جانب إبراهيم الطيب على أنه تنفيذ خطة "الاغتيال أولا" وهو ما يعترف يوسف طلعت نفسه بأنه فهم طبيعي من جانب إبراهيم الطيب لواقعة تسليم الحزام؛

فقد ذكرنا أنه حين سأله جمال سالم عما إذا كان إعطاء الحزام يعني أن فكرة الاغتيال موجودة، رد قائلا:

أيوة، أنا لا أنكر، ولما أعطى له الحزام، حيكون إيه إلا فكرة من افكار الاغتيال؟

وعلى هذا النحو لم يكن لتردد يوسف طلعت في ارتكاب الحادث أي تأثير في منعه أو إعاقة تنفيذه، إذ كان يعتمد على استخارته لله، وعلى أنه إذا كان هذا العمل لله فسينجح، وإذا لم يكن لله فسيفشل ويتقوض كل شيء أو على حسب تعبير يوسف طلعت: "إن ما كنتش لله ربنا يطبقها علينا" ( )

فأي استخارة تاريخية من جانب رئيس أخطر جهاز سري شهدته مصر في تاريخها الحديث والمعاصر، في قضية يتوقف عليها حياة جماعة الإخوان المسلمين أو دمارها! بل أي مقامرة ترتدي ثوب الدين!

على كل حال، إذا كانت محاكمة يوسف طلعت تمثل الشجاعة والاستهانة بالموت، فإن النقيض منها يتمثل في محاكمة محمد خميس حميدة، وكيل جماعة الإخوان المسلمين.

ومن المحقق أن القسوة والازدراء اللذين عامل بهما جمال سالم محمد خميس حميدة، فضلا عما يكن قد حدث من إيذاء وتعذيب للرجل، قد أسهم في صنع الموقف الاستسلامي الذي وقفه طوال المحاكمة، والذي لم يكن يليق بمن يشغل مركزه القيادي في أخطر جماعة منظمة شهدها تاريخ مصر المعاصر!

فقد اعترف الرجل اعترافات مفصلة وبدون تحفظ، وسلم بما كان يدفعه إليه جمال سالم دفعا من إدانة لأعمال الإخوان، وكان كل استخذاء من جانبه يفتح شهية جمال سالم لمزيد من الضغط والقسوة في معاملته، مما كان يؤدي بدوره إلى مزيد من الاستخذاء، فكانت حلقة خبيثة ظللت محاكمات الإخوان بظلال سوداء.

فحين أراد محمد خميس حميدة الإشارة إلى زيارة عبد الناصر لبيت الهضيبي في أزمة مارس 1954، بعد اتفاق السجن الحربي الذي كسب به عبد الناصر تأييد الإخوان في صراعه مع محمد نجيب صاغ هذه الإشارة على أن زيارة عبد الناصر كانت "زيارة كريمة قام بها الرئيس جمال مع سيادته وزير الإرشاد القومي في منزل المرشد، أحب ان أسجلها حيث إننا نروي للتاريخ".

على أن وصف هذه الزيارة بأنها "زيارة كريمة" دفع جمال سالم إلى السخرية من الرجل، فقاطعه قائلا:

إذا كنت حتبتدي في القصص دي، نبدأ من الأول، من أول القصة.
محمد خميس حميدة: طيب!
محمد خميس حميدة: حاضر.
محمد خميس حميدة: ايوة.
محمد خميس حميدة: حاضر.
  • جمال سالم: ابتدى القصة من الألف ... الكلام المضبوط يمشي مسلسل.تقدر تقرأ الفاتحة بالعكس؟
محمد خميس حميدة: لا!
  • جمال سالم: طب اقرأ لنا من أول بسم الله الرحمن الرحيم! ( )

وقد ثار جمال سالم على محمد خميس حميدة لأنه خاطبه بلفظ "أستاذ" ناسيا وضعه العسكري، فقد رد عليه قائلا:

  • أنا مش أستاذ، خليك مؤدب!
حميدة: أنا متأسف، أنا آسف جدا! ( )

وقد أدان محمد خميس حميدة تسليح النظام الخاص عندما سأله جمال سالم عما إذا كان هذا التسليح يتفق مع العلنية، فقال:

غلط يا أفندم.
  • فرد عليه جمال سالم: أنا مش عايزك تقول غلط أو صح! إحنا قاعدين هنا نقول غلط أو صح؟ الجهاز اللي تكونه وتسلحه بأسلحة مهربة يبقى جهاز سري أو علني، أو سري علني؟
محمد خميس حميدة: سري ( )

وقد دفعه جمال سالم إلى الاعتراف بخطئه وخطأ اللجنة التي ألفها الهضيبي لحل مشكلة وجود عبد الرحمن السندي على رأس الجهاز السري، لأنها لم تضع تفاصيل للنظام الجديد الذي أقامته، فسأله قائلا:

  • أليس هذا خطأ؟
حميدة: خطأ.
حميدة: خطأ يا أفندم.
حميدة: مني ومن اللجنة!

جمال سالم: وما تأثير هذا الخطأ، وما انعكاساته على جماعة الإخوان المسلمين، باعتبارك رجل مسئول في الجماعة؟

حميدة: الخطأ اللي إحنا فيه أساء إلى الجماعة!

وهكذا كان محمد خميس حميدة يدخل عنقه شيئا فشيئا في حبل المشنقة.وقد اعتبر حميدة الاعتداء على جمال عبد الناصر عملا إجراميا يحول جماعة الإخوان المسلمين إلى جماعة إجرامية أو على حد قوله: "أن يقوم فرد من جماعة الإخوان باغتيال الرئيس جمال في وقت ... مش قادر أتصور أقول إيه؟ ... يكفي هذا! نقول إيه: أن يصبح الإخوان المسلمون إجراميين؟

حميدة: إلى أبعد حدود الغلط.

وقد وقع جمال سالم محمد خميس حميدة إلى الاعتراف بخطأ قيادة الإخوان المسلمين لأنها لم تلجأ إلى الحكومة لحل التنظيم السري عندما استعصى عليها تحت رياسة السندي، فقد رد قائلا:

ما اتصرفناش هذا التصرف، وأحب أقول لسيادة الرئيس أنها سلسلة أخطاء.
  • جمال سالم: زعق شوية! أنت كان صوتك مجلجل في الأول!
حميدة: سلسلة أخطاء كانت متتابعة .. كانت أخطاء مني ومن غيري!
حميدة: أخطأنا لأننا لم نفعل ذلك! ( )

ولعله من المفيد هنا أن نضع أمام القارئ صورة مقابلة لرد يوسف طلعت عندما سأله جمال سالم هذا السؤال، فقد كان سؤاله على النحو الآتي:

  • لماذا لم تذهب إلى الحكومة يا قصير الباع! يا قصير الذيل؟
فرد عليه يوسف طلعت قائلا:الحكومة ما تقدرش تحله
يوسف طلعت مصرا: آه!
  • جمال سالم ثائرا: إحنا حلينا سلسلة وسط أبوه! إحنا مش نحله هو، مش بس هو!

وكان جمال سالم يستفيد من اعترافات محمد خميس حميدة المتوالية بالخطأ، في تشويه صورة الإخوان أمام الجماهير، ولهذا السبب كان يبتز منه هذه الاعترافات بالخطأ لأشياء تافهة؛

فقد سأله لماذا لم يسأل عن سبب دعوته لحضور اجتماع مع عبد الناصر عند منير الدلة أثناء المفاوضات مع الإنجليز مع أن هذه مسألة شخصية لا تأثير لها في المحاكمة، وقد أجاب محمد خميس حميدة:

ما سألتش فيها أبدا، وحياة المصحف، وشرفي ما سألت!
حميدة: غلط!
  • جمال سالم مخاطبا الجمهور: يعني يا إخوانا يا مواطنين كل حاجة غلط في غلط في غلط في غلط ... ألف مبروك عليكم حكم الإخوان!

على أن استمرار محمد خميس حميدة في التسليم اللانهائي قد أدى به إلى تحميل الجماعة مسئوليات خطيرة، فقد سأله جمال سالم عن نتائج مطالبة الإخوان للثورة بالديمقراطية، بينما الديمقراطية مفتقدة في نظام الإخوان!

فرد قائلا:غلط وغير إسلامي!
محمد خميس حميدة: توصل إلى اضطراب وفتنة!
حميدة: فوضى!
حميدة: حرب أهلية.
حميدة: دمار.
حميدة: لا يا فندم ... هذا يخالف الدين الإسلامي ويخالف السياسة الإسلامية!
حميدة: طبعا يخالف المبادئ الإسلامية!

بل إن محمد خميس حميدة حكم على موقف الإخوان المعارض للمعاهدة بالخطأ، فقد تعرض بإشارة سريعة لخطبة حسن دوح في جامع الروضة بعد عودة المرشد من سوريا، فسأله جمال سالم:

  • قال إيه في الخطبة؟
حميدة: عارض الاتفاقية على المنبر، وتناول في الخطبة كلام لتجريح المعاهدة وتجريح للحريات؟
حميدة: لا! ما كان بحق ( )

وقد كان تنازل محمد خميس حميدة في مسألتي الديمقراطية والمعاهدة من أسوأ تنازلاته.على أنه إذا كان محمد خميس حميدة قد وقف هذا الموقف المتخاذل، تحت ظروف القهر والتسلط والتعذيب فإن الهضيبي وقف موقفا شجاعا، وكانت إجاباته جريئة ومفحمة في كثير من الأحيان، ولم يقدم فيها تنازلات.

فقد أنكر سرية التنظيم المطلقة، ووصفه بأنه "نظام فيه بعض السرية وبعض العلنية"، وقال إن يوسف طلعت كان معروفا أنه رئيس النظام!

  • المدعي: كان معروف لمين؟
الهضيبي: الناس كلها!

بل أنه دافع بجرأة عن تسليح النظام الخاص! فقد سأله المدعي كيف يتأتى تدريب الأفراد في النظام الخاص على إطلاق النار، بدون أسلحة؟ فرد قائلا:

يتأتى بشيئين: إعداد الأسلحة للجماعة، أو أن كل فرد يحاول أن يحضر السلاح بنفسه!
  • المدعي: هل ده عمل قانوني؟
الهضيبي: لا مش قانوني، ولكن البلد مليانة أسلحة! واللي يقدر يتعلم بالطريقة دي يتعلم، وإذا ضبط يبقى مرتكب جريمة إحراز سلاح!
  • المدعي: إزاي تسمح لنفسك بعمل مخالف للقانون؟
الهضيبي في إجابة مفحمة: في أول الثورة، ثلاثة من الإخوان المسلمين كانوا بيتدربوا على المتفجرات في صحراء المعادي، فقبض عليهم البوليس ... وبعدين الجيش نفسه (يقصد الثورة كما كانت تسمى في ذلك الحين) قال: دول بيشتغلوا بعلم الجيش ولمصلحته، فأقر المسألة؟
وهكذا استند الهضيبي بمهارة إلى إقرار الثورة لوجود التنظيم السري عند قيامها، وتشجيعها له، حين كانت متحالفة مع الإخوان ضد الوفد والشيوعيين!
وبناء على ذلك دافع الهضيبي عن بقاء التنظيم السري، واعتبر وجوده أمرا عاديا لا خطر مه ولا يشكل مخالفة قانونية! فقد سأله المدعي.
  • ما السبب في وجود هذا النظام بعد قيام الثورة؟
الهضيبي: النظام الخاص، بالصورة التي شرحتها، مفيش خوف منه، مفيش ضرر منه، وقد وجد بعد الثورة لأنه كان هناك إنجليز في البلد! ومن جهة أخرى إحنا بنقول: الوطن الإسلامي: يصح نروح في القنال، في إسرائيل في أي حتة ثانية، فالترتيب اللي عملناه هو لسد الفراغ! ولقد قلت إن ثلاثة من النظام وجدوا بعد الثورة يتدربون على المتفجرات، وأفرج عنهم!
  • المدعي: إيه السبب في وجوده بعد الثورة وبعد أن أنشئت معسكرات التدريب والحرس الوطني؟
الهضيبي: في نظرنا وجوده ما يضرش
  • جمال سالم متدخلا: مخالفين بذلك القانون الذي حكمت به طيلة مدة وجودك في القضاء؟
الهضيبي بجرأة: لا، مش مخالفين!
الهضيبي: قاعد ثلاث سنين من وقت ما جيب مرشد في 19 أكتوبر 1951 لحد أكتوبر سنة 1954 لم يحصل أي جريمة!
الهضيبي: إيش عرفني؟
ثم أنكر الهضيبي أن اختفاءه كان لتدبير الحادثة قائلا: "الحادث كان يمكن أن يدبر وأنا قاعد في المركز العام، في أي وقت من الأوقات، لو سمح لي ضميري بهذا!

بل لقد حاول الهضيبي تفنيد أن مسألة يمين الطاعة الذي يحلفه الإخوان للمرشد، تدخل في الناحية الدكتاتورية في تنظيم الإخوان، بحجة أن "كل الإخوان بيحلفوا يمين الطاعة: السمع والطاعة للمرشد، وهذا مفهوم أنه في غير معصية، لأن الإسلام لا يجيز أن يستمع إنسان لآخر في معصية!

على أن جمال سالم حاصره في هذه النقطة قائلا:

أنا لا أتكلم عن معصية، السياسة التنفيذية مش شرط أن تساوي معصية يمكن أن تكون سياسة بناء، ويمكن أن تكون سياسة هدم هل يمكن لأي جهاز أو قسم لجماعة الإخوان المسلمين أن يقوم بسياسة تنفيذية، أو ينفذ سياسة بدون موافقة المرشد؟
الهضيبي: لا يجوز... ! ( )

على أن قمة المواجهة بين الهضيبي وجمال سالم كانت حول حرية التعبير عن طريق المظاهرات، وتحديد المسئولية عن الاشتباكات التي تحدث بين الجماهير وقوات الحكومة في حالة قيام هذه المظاهرات..

فقد أبدى الهضيبي رأيه بصراحة كما ذكرنا بأن تعرض الحكومة للمظاهرات هو الذي يؤدي إلى عدم استتباب الأمن، بينما اعتبر جمال سالم السابقين الموقف الذي يمليه عليه وضعه من السلطة، فقد انحازت جماعة الإخوان إلى الجماهير، بينما انحازت الثورة إلى قوات الحكومة!

القضايا الفكرية التي طرحتها المحاكمة

كان من الطبيعي بالنسبة لقضية سياسية كبيرة كهذه القضية التي تحاكم فيها جماعة الإخوان المسلمين بأسرها أن تتفجر فيها كثير من القضايا الهامة، التي تشغل بال المجتمع المصري الحديث إلى يومنا هذا؛

مثل: الحكومة الإسلامية، وتطبيق الشريعة الإسلامية، وعلاقته مصر بالقضية الفلسطينية، والديمقراطية، ومشروعية قتل المسلم، وقد ألقيت فيها آراء هامة تشرح وجهة نظر المتهمين، على جميع مستوياتهم التنظيمية في النظام الخاص أو في القيادة السياسية، كما تشرح وجهة نظر المحكمة والدفاع، الأمر الذي يستوجب تناولها بالتحليل.

وبالنسبة للقضية الأولى، وهي الحكومة الإسلامية، فقد ردد المتهمون أمام المحكمة أن هدفهم الأسمى هو إقامة الحكومة الإسلامية، وقد دارت مناقشة هامة في هذا الشأن مع هنداوي دوير، عن كيفية إقامة هذه الحكومة، ومدى استعداد المجتمع المصري لتقبلها، ومدى استعداد الإخوان المسلمين أنفسهم لإقامة مثل هذه الحكومة، وما هو الشكل القانوني لهذه الحكومة.

وقد اتضح من المناقشة أن الإخوان المسلمين لم يقدموا اجتهادات فكرية في هذا الشأن، بل ولم يعنوا أنفسهم بتقديم هذه الاجتهادات، فقد سأل المدعي هنداوي دوير:

هنداوي دوير: هدفها الوحيد الحكم بالإسلام
فأجاب هنداوي دوير بالنفي.
  • فسأله المدعي:الحكم إزاي يكون؟
هنداوي دوير مستفسرا: يعني شكل الدولة؟
  • المدعي: شكل الدولة وقوانينها، هذه المسائل ألم يعمل لها أبحاث؟
فأجاب هنداوي: اتعمل لها أبحاث، ولكن في شكل فردي.
  • ثم عاد هنداوي سريعا فصحح إجابته منكرا وجود هذه الأبحاث قائلا:شكل الدولة، وكونه يبقى جمهوري أو ملكي، أو حكم على أي صورة من الصور المعروفة، لا، ما اتعملش شيء في هذا الصدد، وإنما الشكل كان يتحدد في صورة إسلامية تختلف عن الديمقراطية وعن الدكتاتورية وعن الشيوعية.
  • المدعي: يعني ما فيش تحديد، ولا نص مضبوط؟
فأجاب هنداوي دوير بالنفي.

وقد اتضح أن السبب في عدم عناية الإخوان المسلمين بتقديم اجتهادات فكرية بخصوص الحكومة الإسلامية وكيفية الحكم بالإسلام، يرجع إلى الاعتماد على أن "المكتبة الإسلامية مليئة" في هذا الصدد.

ففي إجابة هنداوي دوير على المدعي في هذا الشأن قال:

أيام الأستاذ البنا، طلب منه أن يكتب في هذا، فقال لي، أذكر بالضبط أنه قال لي: إحنا شبعنا كتب وكتابات، والمكتبة الإسلامية مليانة.
كانت فكرة الشيخ حسن البنا في عدم الدخول في الميدان النظري، هي الخوف من أن الدخول في هذا الميدان قد "يستهلك" الإخوان في التفاصيل الفرعية، ويفرق وحدتهم الفكرية حول المبادئ الأساسية للإسلام؛

وقد كشف هنداوي دوير عن هذا التفكير بقوله:

قلت للأستاذ البنا: إحنا عاوزينك تفضي شوية (تتفرغ) وتكتب لنا إيه اللي يطبقه الإخوان! وأذكر أنه قال في مناسبة ما: إن الناس يجتمعون على مبادئ، لا على تفاصيل، لأننا إذا دخلنا في التفاصيل فسنختلف ونتفرغ، ولا ننتهي إلى خير كثير، إحنا ماشيين على مبادئ إسلامية، ولو تعرضنا للتفاصيل، فيمكن ييجي فقيه ويختلف معنا، وجايز نستهلك في مسائل فرعية.

لهذا السبب كان البنا يرى أن مهمة الجماعة ليست تأليف كتب، وإنما تكوين أفراد! ففي حديث له مع هنداوي دوير في هذا الشأن، رواه في المحكمة، قال: "إن مهمتنا مش إننا نعمل كتب، بل مهمتنا أن نعمل رجاله".

وقد علق هنداوي دوير على هذا القول من جانب الشيخ حسن البنا قائلا: "معنى هذا أن مهمته أن يربي الأمة تربية إسلامية، تنتهي بأن تطبق ما هو موجود في المكتبة الإسلامية".

فأجاب قائلا: إعداد الفرد المسلم من حيث تطبيق الواجب عليه نحو الله.
هنداوي دوير: الصلاة والصوم! يعني إعداد الناس وتفهيمهم أن الإسلام دين صالح في كل مكان وزمان، وتكوين الجماعة التي تقوم على هذه المعاني، ولما تتكون غالبية الشعب على هذا النحو، ونيجي نطبق القرآن كما كان في أيام الرسول صلى الله عليه وسلم، يبقى معقول ومقبول.

على أنه وفقا لهنداوي دوير، لم يكن في مخطط الإخوان وقتذاك انتقال البلاد إلى الحكومة الإسلامية عن طريق إقامة حكومة إخوانية وإنما عن طريق حكومة انتقال تحت وصايتهم، ثم بعد ذلك ينتقل الحكم إليهم تلقائيا!.

ويرجع السبب في ذلك كما ذكر إلى عدم وجود برنامج للحكم الإسلامي معد سلفا يحكمون بمقتضاه، فحين سأله جمال سالم عما ويرجع السبب في ذلك كما ذكر إلى عدم وجود برنامج للحكم الإسلامي معد سلفا يحكمون بمقتضاه، فحين سأله جمال سالم عما إذا كان لدى الجماعة "مبادئ أو خطط ونقط موضوعة علشان الحكومة (الانتقالية) تيجي تشتغل على أساسها؟"

أجاب قائلا:

في الجماعة لأ، مفيش! وإنما في المكتبة الإسلامية مخلفات الأئمة الأربعة، وهي فيها ما يفي بهذا الغرض من الناحية الدينية.
هنداوي دوير: لا، ما كانش عندها، وعلشان كده هم كانوا بيؤخروا أنفسهم.
  • جمال سالم: إزاي بيؤخروا أنفسهم، وبدءوا بالعملية؟
هنداوي دوير: هم ما كانوش عاوزين ينفذوا الخطة فورا، لأنهم كانوا خايفين لينكشفوا!.

ثم قدم هنداوي دوير سببا آخر لتفضيل الإخوان الحكومة الانتقالية وتأخير أنفسهم، فقال:

الإخوان كانوا بيتهموا بأنهم عاوزين يصلوا للحكم، فيجوز هم عاوزين يداروا (يدرءوا) عن أنفسهم هذه التهمة.
  • جمال سالم معلقا: يعني هم كانوا عاوزين يجيبوا حكومة صورية تكون زي "الأراجوز".
هنداوي دوير: أيوة، المفروض هذا!

على أن هنداوي سبق له أن قدم سببين آخرين يمنعان في رأيه الإخوان من تولي الحكم فقال:

"لا يحكم الإخوان لسببين: الأول، أن بعض الإخوان ما يمثلوش الإسلام، وما يقدروش يطبقوا الإسلام، والسبب الثاني، أن البلاد غير مستعدة لتقبل النظم الإسلامية ككل لا يتجزأ، ولهذا يحسن أن نسير بالتدريج، ولذلك أقول أنه لم يكن في ذهن الإخوان أن يحكموا.
وعلى كل حال، فقد كانت فكرة الإخوان في وسيلة تطبيق الشريعة الإسلامية، تقوم على أن يتم ذلك عن طريق أن تقوم الحكومة الانتقالية بعمل دستور إسلامي، أو على حسب تعبير هنداوي دوير! "كان ثابت في ذهننا أن يعلن الدستور الذي يوضع، وتستقى مبادئه من المبادئ الإسلامية على أساس أنها مبادئ صالحة لحكم البلاد".

وقد طلب جمال سالم منه أن يضرب الأمثلة، فضرب المثل بالتشريع الجنائي والتشريع المدني في مصر قائلا:

مثلا التشريع الجنائي والتشريع المدني! .. التشريع المدني يستقي كل مبادئه من التشريعات الفرنسية" ( )

على أن الهضيبي، وهو مستشار سابق وأكثر علما من هنداوي دوير في الميدان القانوني، كان له رأي مخالف في مدى مطابقة القانون المدني والقانون الجنائي في مصر للشريعة الإسلامية، وهو رأي خطير، ويضاعف من خطورته أنه لا يصدر فقط عن علم من أعلام القانون في مصر، وإنما عن المرشد العام للإخوان المسلمين أيضا!

ويقوم هذا الرأي على أساسين:

الأول: أن القانون المدني في مصر يتفق مع الشريعة الإسلامية، فيما عدا الربا!
والثاني: أن القانون الجنائي، ولو أنه لا يتضمن الحدود الشرعية، إلا أنه من حق ولي الأمر إيقاف تطبيق هذه الحدود!

وقد حدثت مناقشة مثيرة حول هذه القضية حين أراد الدفاع عن محمود عبد اللطيف التعرض بحسن الهضيبي على أساس أنه قبل، وهو مستشار قضائي، الحكم بغير الشريعة الإسلامية! فسأله قائلا:

كم سنة، على وجه التحديد، اشتغل الأستاذ الهضيبي في القضاء قاضيا أو مستشارا في القضاء بوجه عام؟
الهضيبي: أنا تخرجت سنة 1915 وبقيت في المحاماة لمايو 1924، وعينت قاضيا في مايو 1924.
  • الدفاع: ومنذ ذلك التاريخ، أي قانون كنت تطبقه خلال هذه المدة؟
الهضيبي: القانون المدني والقانون الجنائي.
  • الدفاع: المطبقين في الدولة؟
الهضيبي: أيوة.
  • الدفاع: بطبيعة الحال، أقسمت على تطبيقهما؟
الهضيبي: طبعا.
  • الدفاع: هل كنت طوال هذه المدة راضي الضمير عن هذين القانونين؟
الهضيبي: وقد فوجئ، ضميري أنا؟
  • الدفاع: آه.
الهضيبي: فيها بيان
الهضيبي: على كيفك.
  • الدفاع: إذا كان مش طويل، وتحتمله الجلسة، اتفضل قوله.
الهضيبي: لا أبدا مش طويل، أنا أجد، مثلا، أن القانون المدني متفق مع الشريعة في كثير من المسائل، أو في كل المسائل! يعني تقدر ترجع القانون المدني إلى أصول شرعية فيما عدا مسألة الربا، فأنا، بنيتي، كنت أحكم في مسائل على اعتبار أنها متفقة مع الشريعة في القانون المدني.
  • الدفاع: وفي هذه الفرعية، وهي الربا: هل كنت تقضي بها أم لا؟
الهضيبي: في أكثر الأحيان كنت أخلي الناس تتنازل عنها، ولما ما يرضوش يتنازلوا عنها أحكم بها!
  • الدفاع: مخالفا الشريعة؟
الهضيبي: مخالفا الشريعة!
  • الدفاع: لأنك أقسمت على هذا؟
الهضيبي: أيوة.
  • الدفاع: وفي القانون الجنائي؟
الهضيبي: القانون الجنائي كله تعاذير، كله تعاذير وليس فيه من الحدود الشرعية شيء، ولكن الحدود الشرعية متى أوقفها ولي الأمر، علينا الطاعة، ونطبق القواعد المعمول بها: التعاذير.
  • الدفاع: هل يملك هذا؟ (ولي الأمر).
الهضيبي: يملك هذا.
  • الدفاع: هل أفهم من ذلك أنك طوال خدمتك الجنائية طبقت ما لم تقض به الشريعة في ظل هذا التفسير، وارتاح ضميرك لهذا؟
الهضيبي: لا مش كده، ما حصلش كده.
  • الدفاع: امال حصل إيه؟ أنت طبقت التعاذير، والتعاذير مش هي اللي وردت في الشريعة!
الهضيبي: لا، كل العقوبات التي نص عليها في القرآن والسنة، سبعة، وفيها جرائم بترتكب (بتتركب) عليها، فلولى الأمر أن يعذر عليها، وده عمل صح داخل في حدود اختصاصاته، فأنا قلت لحضرتك أن ولي الأمر أوقف الحدود لعلة في نفسه لا أعرفها، وهذا من حقه، فيبقى الباقي كله تعاذير مسموح بها شرعا".
  • الدفاع: معنى هذا أنك طوال مدة خدمتك الجنائية كنت راضيا عن نفسك، مستريح الضمير.
الهضيبي: أيوة ( )

وقد أثيرت أثناء المحاكمة المسألة القومية، وحدودها في ذهن الإخوان: هل تشعرون بالانتماء إلى مصر، أم إلى الوطن العربي، أم إلى الوطن الإسلامي؟ ومنها يتضح أن حدود كلمة الوطن في فكر الإخوان المسلمين نصب على الوطن الإسلامي كله، ولم ترد كلمة الوطن العربي على لسانهم؛

وتعكس هذه المناقشة موقف الفكر المصري من الفكرة القومية في ذلك الحين، وكان الدفاع قد أثار هذه القضية حين تحدث إبراهيم الطيب عن أغراض الجهاز السري في تحرير البلاد الإسلامية المستعمرة، فقد حاول الدفاع عن محمود عبد اللطيف أن يشكك في ولاء الإخوان ووطنيتهم، فتساءل قائلا:

فرد إبراهيم الطيب قائلا:لا شك أنه من واجبها!
  • الدفاع: هل ترى من الممكن، أو من ناحية المنطق، أن تحرر مصر بقاع الأرض من مستعمريها، قبل أن تحرر نفسها؟
إبراهيم الطيب: مع وجود القوات الإنجليزية، اشترك الإخوان في فلسطين، وهي غير مصرية.
  • الدفاع: وعلى هذا النحو تحاربوا في تونس والجزائر، وترجعوا بنفس النتيجة.
إبراهيم الطيب متسائلا: ما هي نفس النتيجة؟
  • الدفاع: أنا أسألك عنها!
إبراهيم الطيب: الذي أعلمه أن الإخوان يجب أن يقوموا بالواجب الذي عليهم، لا أكثر
  • الدفاع: هل من الدين، أو من الوطنية، أن يتطوع صاحب القوة للدفاع عن الغير، بينما هو في حاجة إلى الدفاع عن نفسه؟
إبراهيم الطيب: يحدث هذا في كثير من الحالات.
  • الدفاع: ألم تسمع الحديث الذي يقول: "ابدأ بنفسك ثم بمن تعول؟"
إبراهيم الطيب: الإخوان اشتركوا في فلسطين.
  • الدفاع: كان هذا دفاعا عن مصر، لأن إسرائيل تطمع فيها، فيبقى هذا دفاع عن مصر.( )

والمذهل في هذه المناقشة المثيرة، المنطلقان القوميان اللذان ينطلق منهما الإخوان المسلمون والدفاع عن محمود عبد اللطيف، في فهم قضية حرب فلسطين، فالإخوان ينطلقون من منطلق إسلامي بحت باعتبارها جزءا من العالم الإسلامي، بينما ينطلق الدفاع من منطلق مصري بحت، على اعتبار أن دفاع مصر عن فلسطين إنما كان دفاعا عن مصر، لأن إسرائيل تطمع في مصر ذاتها.

لذلك نرى أن هذه المناقشة تهم الحوار الحاد الدائر الآن في مصر بين الذين يرون أن مصر إنما كانت تحارب وتضحي من أجل فلسطين وبين الذين يرون أن مصر إنما كانت تحارب دفاعا عن نفسها.

فالملاحظة الجديرة بالذكر، أن الدفاع لم يكن يدين بفكر قومي عربي، كما أنه لم يكن يدين بفكر إسلامي في فهم المسألة القومية، وإنما كان يدين بالولاء للقومية المصرية وحدها، ومن هنا بالذات تكمن أهمية رؤيته لحرب مصر في فلسطين.

ذلك أنه إذا كان الفكر القومي المصري وقتذاك والفكر القومي العربي في مصر حاليا، فضلا عن الفكر القومي الإسلامي ممثلا في جماعة الإخوان المسلمين، قد اتفق على أن دفاع مصر عن فلسطين، إنما هو دفاع عن مصر ذاتها فإن الرأي الذي يقول إن مصر كانت تحارب من أجل فلسطين فقط، يكون منقطع الصلة بأي فكر قومي أصيل في مصر.

على كل حال فقد كان من الطبيعي أن تقود هذه المناقشة إلى حوار آخر حول العلاقة بين السياسة الإسلامية والسياسة الوطنية، فقد وصف إبراهيم الطيب جماعة الإخوان المسلمين بأنها "تعمل للإسلام عامة" فسأله الدفاع:

إبراهيم الطيب مكررا: السياسة الإسلامية.
فأجاب إبراهيم الطيب: هي تحرير جميع البلدان الإسلامية من المستعمر.
إبراهيم الطيب: نفس السياسة.
إبراهيم الطيب: السياسة الوطنية جزء من السياسة الإسلامية.
إبراهيم الطيب: نعم؟
  • جمال سالم ساخرا: علمنا مبادئ جديدة يا سقراط، يا ريته كان عايش علشان يلطم على المنطق الذي وصل إليه. ( )

وفيما يبدو أن هذه القضية كانت تستهوي الدفاع، الذي كان المفهوم القومي في نظره مفهوما مصريا بحتا، فحين قال الهضيبي أنه يرى أن الإرهاب "ضار بالجماعة، وضار بالإسلام، وضار بمصر"

أراد الدفاع أن يعرف ترتيب هذه المصالح في فكر الإخوان، وسأل الهضيبي أن يرتبها، فأجاب الهضيبي:

أولا الإسلام.
  • فسأله الدفاع: ثانيا الوطن؟
فأجابه الهضيبي: الوطن يدخل في نطاق الإسلام ( )

وقد دارت مناقشات طويلة حول مشروعية قتل المسلم، ومن الغريب ذلك الإجماع من أعضاء التنظيم السري، فضلا عن أعضاء القيادة السياسية للإخوان، على تحريم القتل السياسي، والأكثر إثارة للدهشة أن يكون على رأس هؤلاء هنداوي دوير الذي أعطى الأمر التنفيذي لمحمود عبد اللطيف باغتيال عبد الناصر.

  • فقد سال المدعي هنداوي دوير:هل هناك قتل إسلامي وقتل غير إسلامي؟
هنداوي دوير: الإسلام حدد خمس حالات، على سبيل الحصر، للقتل، ولا يجوز قتل المسلم إلا في حدودها، وليس منها طبعا فكرة الاغتيال السياسي، باعتبار أن القتل السياسي قتل عمد، وفاعله يدخل النار.

يجيب على ذلك بقوله:

أصبح القتل من تقاليد النظام السري من أيام الأستاذ البنا وقتل النقراشي والخازندار أي أنها أصبحت مسألة مفترضة.

وقد عاد المدعي في موضع آخر ليسأل هنداوي:إيه رأيك في الأسلوب الذي اتبع في القتل؟ .. وهل هو يتفق مع أسس وأحكام الإسلام؟

وقد رد هنداوي مؤكدا:
هذا الأسلوب، من حيث شرعية العمل في الإسلام، محرم، ومحرم على الإطلاق، أما كيف وافقت عليه؟ زي ما قلت لحضراتكم، إنه كان من تقاليد الجماعة في أيام الأستاذ البنا القيام بمثل هذا العمل، وعلى هذا الأساس أصبحت هذه التقاليد مستقرة، وإنما من الناحية الإسلامية لا يجوز القتل بهذه الصورة، وده اللي خلاني اهتزيت، وده خلاني سلمت للحكومة بكل الحاجات اللي عندي، علشان أوقف التيار الجارف للإرهاب. ( )

وقد اعتبر المرشد حسن الهضيبي ما ارتكبه التنظيم السري في سنوات 1946 و 1947 و 1948 "جرائم" وعندما سئل عن رأيه فيما أقدم عليه محمود عبد اللطيف من محاولة اغتيال عبد الناصر، أجاب قائلا:

أنا ما اعرفش إلا أنه إذا قال لي أي واحد أقتل شخصا، فلا يجوز أن أقتل، لأن هذه معصية.

وقد أدان إبراهيم طلعت قتل الخازندار بك، واعتبر أن هذا القتل يؤثر على رسالة القضاء، فقد سأله الدفاع:

  • هل تعتقد أن مقتل الخازندار الشهيد الحق من شأنه أن يعرض رسالة القضاء، وهي رسالة مقدسة، للمؤثرات ، أم لا؟
فأجاب إبراهيم الطيب: لا شك في هذا، وأنا مقتنع بهذا. ( )

كذلك يتضح من المناقشات التي دارت في المحاكمة مع أعضاء الجهاز السري ، أن فكرة مشروعية قتل المسلم قد نوقشت بين الأفراد، خصوصا بعد مقتل المهندس سيد فايز لخروجه على فريد عبد الرحمن السندي لتحديد مشروعية قتل الخارج على الجماعة، وقد قاد إلى تحديد صفة جماعة الإخوان المسلمين:

  • هل هي جماعة للإرشاد، أم هي جماعة المؤمنين؟

ويقول محمود الحواتكي أنه ناقش هذه المسألة مع إبراهيم الطيب قبل دخوله النظام:

"في هذه الجلسة تعرضنا لمسائل من شأنها الاتفاق على أمور رئيسية تسمح لي بالاشتراك في هذا النظام، منها، مثلا، أن جماعة الإخوان ليست زي "جماعة المؤمنين" فطبيعي فيه فرق كبير بين الاثنتين، لأنه لو كانت جماعة الإخوان زي جماعة المؤمنين، يبقى الأمر بتاعها ملزم؛
أما إذا كانت جماعة الإخوان كجماعة للإرشاد، فلا يكون الأمر ملزما، فالخارج على جماعة المؤمنين يقتل، أما الخارج على جماعة الإخوان المسلمين فلا يقتل.
محمود الحواتكي: كل من يخرج على جماعة المؤمنين جزاؤه القتل في الإسلام، وجماعة الإخوان ليست جماعة مؤمنين بل جماعة كجماعة الإرشاد وبالتالي فالخارج عليها لا يقتل، وهذا التفكير ما كانش واضح لدى النظام القديم.
ومع ذلك فمن الغريب أنه بعد كل هذا التأكيد بعدم مشروعية قتل المسلم لغرض سياسي، قتل الشيخ الذهبي بعد ربع قرن من هذه الأحداث على أيدي "جماعة المسلمين" التي عرفت باسم "جماعة التكفير والهجرة" ولكن عثمان بن عفان قتل من قبل على أيدي مسلمين أيضا، إذن فالقتل السياسي يتم باسم الدين على مدى أربعة عشر قرنا، فكم من الجرائم ترتكب باسم الدين. ( )

الفصل الرابع عشر:الإخوان المسلمون وحركة 1965

في السنوات التالية، أخذ يتكشف تحت القشرة الدكتاتورية للنظام الناصري جوهر ثوري مستعر، اتخذ شكل صدام مروع مع الاستعمار والإمبريالية، وكسر لاحتكار السلاح، ومقاومة باسلة للأحلاف، وتأميم قناة السويس؛

وبرزت الحركة التحريرية للقومية العربية على نحو لم يشهده تاريخ المنطقة من قبل، كما برزت حركة عدم الانحياز، واستدار النظام إلى الداخل لضرب الاستغلال بقرارات التأميم، والانطلاق قدما في ميدان التصنيع والبناء.

ومع هذا التحول الثوري العظيم، تغيرت مشاعر ومواقف القوى الديمقراطية والتقدمية تجاه عبد الناصر، وحظي بتأييد هائل أعاد إلى الأذهان تأييد الجماهير لسعد زغلول ومصطفى النحاس، وتعدى هذا التأييد إلى الجماهير العربية على طول وعرض المساحة العربية.

ومع اطمئنان عبد الناصر إلى صلابة الجبهة الداخلية، أخذ يفرج تدريجيا عن الإخوان المعتقلين، ففي منتصف 1956 أفرج عن أعداد من المعتقلين الذين لم يحكم عليهم، وفي عام 1960 بدأ بعض المحكوم عليهم بالسجن يخرجون بعد قضاء مدة العقوبة؛

وقد تكونت من بعضهم فيما بعد "مجموعات الخمسات"، أي الذين قضوا في السجن خمس سنوات، ثم حدثت إفراجات أخرى في سنة 1961 حتى سنة 1964 حين خرج جميع المحكوم عليهم، حتى هؤلاء الذين لم يكونوا قد أتموا بعد مدة العقوبة، وفي مايو 1964 أفرج عن سيد قطب بعفو صحي أيضا، ثم وضع قانون خاص للموظفين من الإخوان الذي فصلوا، للعودة إلى وظائفهم.

وقد خرج الإخوان المسلمون من كهوف السجون عاجزين تماما عن استيعاب التغييرات السياسية والاجتماعية التي حدثت أثناء محنتهم، أو فهم التحول الذي طرأ على القوى الوطنية والديمقراطية من موقف المعارضة والمقاومة للثورة في أزمة فبرايرمارس 1954 إلى موقف التأييد والمساندة في عام 1964؛

وفي الوقت نفسه لم يستطيعوا إدراك مغزى التغيير الاجتماعي الكبير الذي وقع أثناء وجودهم في السجون متمثلا في تحرير جماهير غفيرة من الفلاحين والعمال بقوانين الإصلاح الزراعي والتأميم وإنما خرجوا تملأهم فكرة واحدة هي "الانتقام لما جرى للجماعة سنة 1954".

في تلك الأثناء، كانت المعاملة غير الإنسانية لأسر المعتقلين من الإخوان، الذين فصلوا من وظائفهم وتركوا عائلاتهم دون معين، قد أوجدت بذور تنظيم جديد اتخذ مظهرا اجتماعيا بحتا ينحصر في جمع التبرعات لهذه الأسر؛

كما أن المحنة بطبيعتها وظروفها قد أوجدت تكتلا طبيعيا في مجتمع الإخوان المسلمين، انعزل بالضرورة عن المجتمعات الأخرى، التي وقفت موقف التجاهل من الإخوان تحت تأشير الخوف والرهبة من أجهزة عبد الناصر البوليسية، وكان هذا التكتل الإخواني هو التربة الخصبة التي القيت فيها بذور أيديولوجية إسلامية جديدة وضعها مفكر الإخوان الكبير سيد قطب.

وكان هذا التكتل الإخواني قد أخذ منذ عام 1957 يدخل في طور جديد، حين تقابلت زينب الغزالي مع عبد الفتاح إسماعيل في مكة، وتحدثا معا في وجوب "تنظيم صفوف الجماعة وإعادة نشاطها"

وتم الاتفاق على استئذان الهضيبي في ذلك عند عودتهما إلى مصر، وارتبطا معا:

"ببيعة أمام الله على أن نجاهد في سبيله، لا نتقاعس حتى نجمع صفوف الإخوان، ونفصل بيننا وبين الذين لا يرغبون في العمل أيا كان وضعهم ومقامهم".

وفي مصر تعددت لقاءات زينب الغزالي بعبد الفتاح إسماعيل، وأسفرت "دراساتهما الفقهية" حول قرار الحل، على أنه قرار باطل، كما أسفرت عن أن عبد الناصر ليس له أي ولاء، ولا تجب له طاعة على المسلمين، حيث إنه يحارب الإسلام، ولا يحكم بكتاب الله" ووضعت خطة عمل "تستهدف تجميع كل من يريد العمل للإسلام" لينضم إليهما.وقد حصلت هذه الخطة على مباركة الهضيبي.

وقد قامت خطة العمل التي أعدها عبد الفتاح إسماعيل وزينب الغزالي على أن يقوم عبد الفتاح إسماعيل "بعملية استكشاف على امتداد مصر كلها، على مستوى المحافظة والمركز والقرية" ، لمعرفة "من يرغب في العمل من المسلمين، ومن يصلح للعمل معهما، مبتدئين بالإخوان لجعلهم النواة الأولى لهذا التجمع"

وكان عبد الفتاح إسماعيل يعد تقارير عن كل منطقة يقوم بدراستها مع زينب الغزالي، وتعرض نتائجها على الهضيبي، الذي كان "تارة ما يعرض عليه، وتارة يعطي بعض التوجيهات" ( )

وكما هي العادة في التجارب السابقة، كان لا بد من التربية الروحية توطئة للانتقال إلى الخطوة التالية وهي الجهاد، وكانت هذه التربية تعتمد "فكريا" على كتابات البنا ومفكري الإخوان فضلا عن مصادر إسلامية قديمة، ولكن في سنة 1962، حدث انقلاب خطير في فكر الجماعة بظهور أيديولوجية إسلامية جديدة متكاملة ممثلة في كتاب سيد قطب: "معالم في الطريق".

قامت أيديولوجية سيد قطب على الأسس الآتية باختصار شديد:

  1. أن العالم المعاصر يعيش في جاهلية، لا تخفف منها شيئا هذه التيسيرات المادية الهائلة، وهذا الإبداع المادي الفائق.
  2. هذه الجاهلية تقوم على أساس الاعتداء على سلطان الله في الأرض، وعلى أخص خصائص الألوهية، وهي الحاكمية، أنها تسند الحاكمية إلى البشر، فتجعل بعضهم لبعض أربابا، لا في الصورة البدائية الساذجة التي عرفتها القيم الجاهلية الأولى، ولكن في صورة ادعاء حق وضع التصورات والقيم والشرائع والقوانين والأنظمة والأوضاع، بمعزل عن منهج الله للحياة، وفيها لم يأذن به الله.
  3. ترتب على هذه الجاهلية أي هذا الاعتداء على سلطان الله اعتداء على عباده، فما مهانة الإنسان عامة في النظم الجماعية (الشيوعية والفاشية) وما ظلم الأفراد والشعوب بسيطرة رأس المال والاستعمار في النظم الرأسمالية إلا من آثار الاعتداء على سلطان الله، وإنكار الكرامة التي قررها الله للإنسان.
  4. إن المنهج الإسلامي يتفرد عن كافة النظم بأن فيه وحده يتحرر الناس من عبادة بعضهم لبعض بعبادة الله وحده، والتلقي من الله وحده، والخضوع لله وحده، وهذا هو الشيء الجديد كل الجدة الذي نملكه ولا تعرفه البشرية، ولا تملك هي أن تنتجه.
  5. أن هذا الجديد لا بد أن يتمثل في واقع عملي، لا بد أن تعيش به أمة، أمة تقر عقيدة لا إله إلا الله، وأن الحاكمية ليست إلا لله، وترفض أن تقر بالحاكمية لأحد من دونه الله، وترفض شرعية أي وضع لا يقوم على هذه القاعدة، والأمة الإسلامية بهذه المواصفات قد انقطع وجودها منذ انقطاع الحكم بشريعة الله من فوق ظهر الأرض جميعا، ولا بد من إعادة هذه الأمة لكي يؤدي الإسلام دوره المرتقب في قيادة البشرية مرة أخرى.
  6. يترتب على هذا الكلام "إعادة إنشاء هذا الدين في نفوس الناس"، حتى لو كانوا يدعون أنفسهم مسلمين، وتشهد لهم شهادات الميلاد بأنهم "مسلمون"، فهؤلاء يجب أن يعلموا أن الإسلام هو إقرار عقيدة لا إله إلا الله بمدلولها الحقيقي وهي رد الحاكمية لله في أمرهم كله، وطرد المعتدين على سلطان الله بادعاء هذا الحق لأنفسهم".
  7. لكي يبدأ هذا "البعث الإسلامي" لا بد من طليعة، طليعة تعزم هذه العزمة، وتمضي في الطريق، تمضي في خضم الجاهلية الضاربة الأطناب في أرجاء الأرض جميعا، تمضي وهي تزاول نوعا من العزلة من جانب، ونوعا من الاتصال من جانب آخر بالجاهلية المحيطة، ولا بد لهذه الطليعة التي تعزم هذه العزمة من أن تعرف طبيعة دورها، وحقيقة وظيفتها، وصلب غايتها، ونقطة البدء في الرحلة الطويلة، ومن أن تعرف طبيعة موقفها من الجاهلية الضاربة الأطناب في الأرض جميعا.
  8. قد ينضم المجتمع الجاهلي القديم بكامله إلى المجتمع الإسلامي الجديد، وقد لا ينضم، كما أنه قد يهادن المجتمع الإسلامي الجديد أو يحاربه، وإن كانت السنة قد جرت بأن يشن المجتمع الجاهلي حربا لا هوادة فيها، سواء على طلائع هذا المجتمع نفسه بعد قيامه فعلا وهو ما حدث في تاريخ الدعوة الإسلامية منذ نوح عليه السلام إلى محمد عليه الصلاة والسلام بدون استثناء.

وطبيعي أن المجتمع المسلم الجديد لا ينشأ، ولا يتقرر وجوده إلا إذا بلغ درجة من القوة يواجه بها ضغط المجتمع الجاهلي القديم، قوة الاعتقاد والتصور، وقوة الخلق والبناء النفسي، وقوة التنظيم والبناء الجماعي، وسائر أنواع القوة التي يواجه بها ضغط المجتع الجاهلي ويتغلب عليه، أو على الأقل يصمد له.

بهذا الكتاب، لم يعد المجتمع الإسلامي المحيط بالإخوان المسلمين مجتمعا مسلما، وإنما أصبح مجتمعا جاهليا، وهذا هو أساس فكرة التكفير، وسيد قطب في ذلك صريح كل الصراحة فيقول:

"يدخل في إطار المجتمع الجاهلي تلك المجتمعات التي تزعم لنفسها أنها مسلمة، هذه المجتمعات تدخل في هذا الإطار لا لأنها تعتقد بألوهية أحد غير الله، ولا لأنها تقدم الشعائر التعبدية لغير الله أيضا، ولكنها تدخل في هذا الإطار لأنها لا تدين بالعبودية لله وحده في نظام حياتها؛

فهي وإن لم تعتقد بألوهية أحد إلا الله، تعطي أخص خصائص الألوهية لغير الله، فتدين بحاكمية غير الله، فتتلقى من هذه الحاكمية نظامها، وشرائعها وقيمها، وموازينها، وعاداتها وتقاليدها، وكل مقومات حياتها تقريبا، والله سبحانه يقول عن الحاكمين: "ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون".( )

على كل حال، إذا كانت هذه هي أيديولوجية سيد قطب، وهي تقوم على التربية الطويلة والتحول البطيء للمجتمع الجاهلي إلى مجتمع إسلامي، فكيف تورط في حركة 1965؟ لقد روى بنفسه هذه القصة في سرد أمين أثناء التحقيق معه في هذه القضية، فذكر أنه بعد الإفراج عنه بعفو صحي في مايو 1964، اتصل به عبد الفتاح إسماعيل وعرفه بمجموعة من الشباب هم: علي عشماوي، وأحمد عبد المجيد، ومجدي عبد العزيز، وصبري عرفة؛

وعرف منهم بعد لقاءات عديدة أن وراءهم عددا آخر من الإخوان المسلمين، وأن لهم تنظيما سريا يرجع غلى عدة سنوات سابقة، وأن هذا التنظيم كان قائما على أساس أنه تنظيم فدائي للانتقام مما جرى للجماعة في سنة 1954، أي لجماعة الإخوان المسلمين؛

ولكنهم بعد أن قرأوا كتاباتي وسمعوا بما سمعوا في هذه اللقاءات، يدركون الآن أن عملية الانتقام عملية تافهة بالنسبة لمستقبل الإسلام، وأن إقامة النظام الإسلامي تستدعي جهودا طويلة في التربية والإعداد، وأنها لا تجيء عن طريق إحداث انقلاب في القمة، وأنهم أصبحوا مقتنعين بذلك؛

ولكنهم أمام تنظيم قائم بالفعل، وكان قائما على عقلية أخرى غير هذه العقلية، وهم لا يملكون الآن حل هذا التنظيم وإعادة بنائه على الأسس التي فهموها من حديثهم معي، غير أنهم يمكنهم تحويل عقلية هذا التنظيم عن طريقهم هم إذا أنا بذلت معهم جهدا في إعدادهم وتربيتهم ليقوموا بتربية الآخرين من ورائهم.

"في هذا الوقت" كما يقول

"طلبوا مني قيادتهم في الناحية الفكرية فقط، على أساس أنهم هم الخمسة متولون قيادة التنظيم الفعلية، وسيتولون هم تحويل أفكار من وراءهم، وفعلا صارت المقابلات منتظمة في فترات تتراوح بين أسبوع وثلاثة أسابيع؛
وكنا نحدد في نهاية كل مقابلة ميعاد المقابلة التالية، وفي حوالي ديسمبر سنة 1964 أو يناير 1965 بدأوا يكشفون لي عن طبيعة هذا التنظيم، وفهمت أنه تكون من عدة تنظيمات قام بها هؤلاء الأفراد كل على حدة في أول الأمر، ثم تلاقوا في أثناء تحركهم، واستوثق بعضهم من بعض، فتم تكوين التنظيم برؤسائه الخمسة".

ثم يذكر سيد قطب أنه في إحدى المرات علم من علي عشماوي أنه حين كان بالسعودية سنة 1962 أو 1963 طلب من أحد الإخوان هناك مجموعة قطع أسلحة، وكتب له بها كشفا، وأنه فوجئ بخبر من هذا الأخ بأن هذه الأسلحة أعدت، وأنها ستصل عن طريق السودان؛

وقد ذكره سيد قطب بما اتفقا عليه من أن البرنامج قائم على اساس "التربية الطويلة المدى"، فرد عليه أنه لا يزال مقتنعا، ولكن الأسلحة التي أرسلت لا بد من استلامها لأن تركها يكشف التنظيم، وبعد مناقشات تقرر استلام الأسلحة، وكلف علي عشماوي بهذه المهمة وتخزينها.

ويقول سيد قطب إنه في تلك الأثناء نوقشت في عدة جلسات الإجابة على سؤالهم المتكرر التالي: ماذا نصنع إذا كنا في أثناء سيرنا السلمي الذي اتفقنا عليه، انكشف هذا التنظيم، وأخذنا لنعذب كما حدث سنة 1954

"ويقول إن إجاباته في البداية كانت غير حاسمة، ولكنه لاحظ من اتجاههم إنهم أميل إلى رد الاعتداء وعدم الوقوع مرة أخرى في صورة سنة 1954، "وقد انتهيت لرأي قلته لهم وهو أنه في حالة وقوع التنظيم فقط، يرد الاعتداء".

في ذلك الحين كان هناك إحساس عام داخل الجماعة بقرب اعتقالات للإخوان منشؤه عدة مظاهر، أولها، الجدل العنيف حول كتاب "معالم على الطريق" بين مجموعات الإخوان الخارجية من سجن القناطر، مما كان من شأنه كشف التنظيمات المختلفة داخل جماعة الإخوان للحكومة، ثانيا، بعض الإشاعات التي كانت تروج عن أن الشيوعيين بصدد تدبير مؤامرات يريدون نسبتها إلى الإخوان!

ثالثا، تهور بعض الشبان على نحو كشف حركتهم للحكومة، ويقول سيد قطب إنه تلقى تحذيرا من منير الدلة، وفريد عبد الخالق عن "وجود شبان متهورين راكبين رأسهم ليتحركوا تحركات خطيرة"

وأن هناك خوفا أن تتسبب هذه الحركات في كارثة عامة للإخوان، كما عرف من عبد الرازق هويدي أن السلطات على علم بهذه التحركات، على أنه لم يكشف صلته بهؤلاء الشبان "لأني ما أحبش أن هذه الصلة تنكشف حتى ولو لأعضاء جماعة الإخوان القدامى، وأنا عارف إن الأستاذ فريد من الفريق الذي آثر عدم الحركة، وكان من رأيه أن خير تنظيم إلا يكون هناك تنظيم"، وفي أواخر مايو كرر منير دلة تحذيره، وأضاف أن تحركات هؤلاء الشبان مكشوفة، وأنهم في مكتب المشير يفكرون في ضربهم.

كل هذه العوامل، وتوقع حركة اعتقالات دفعت الجماعة إلى مناقشة كيفية رد الاعتداء بعد أن قررت أخذ مبدأ الرد، ويقول سيد قطب إنه في مناقشة هذه المسألة جاء أحمد عبد المجيد بكشف اقتراحات لاغتيالات وتدمير منشآت

"وبدا يقرأ الأشخاص المقترح اغتيالهم فقال: رئيس الجمهورية ورئيس الوزارة ورئيس المخابرات "مش فاكر المخابرات العامة أو العسكرية" ورئيس المباحث العامة، ومدير مكتب المشير: شمس بدران، ولما وصل إلى هذا القدر من الكشف، أشرت بأن دول كفاية، وده يعتبر نجاح عظيم؛

ثم أخذ أحمد عبد المجيد في قائمة المنشآت فقال: محطتى كهرباء القاهرة، وكباري القاهرة، واذكر تعليقا من واحد من المجموعة مش فاكره، وجايز يكون علي عشماوي، قال إن ده يعمل تعطيل لحركة تعقب الإخوان، ويحدث ارتباكا في الإذاعة وفي تنقلات القوات التي تريد القبض على الإخوان؛

فأضفت أنا: قناطر محمد علي، إذا كان المقصود هو إحداث ارتباك، ثم سألت: فماذا عندكم من وسائل التنفيذ؟"، "وفهمت أنه في الوقت الحالي ليس لديهم إمكانيات للتنفيذ، وكذلك عن عمليات التدمير ليس لديهم المتفجرات اللازمة، وأنهم بصدد إجراء تجارب لم تتم لعمل متفجرات محلية من صنع أيديهم؛

وقالوا إن مجموعة عندهم هي اللي بتجري هذه التجارب، واللي اتكلم عن كده مجدي وأنا أعرف أنه في كلية العلوم، وسألتهم عن رجال الصف الأول، وكنت أعني الذين تمت تربيتهم ليتدربوا، فتكلموا مع بعض وحصروا العدد في 70 شخصا، فاستنتجت من هذا أن التنظيم يكون إذن بين 200 أو 300 فرد، واتفقنا أن هؤلاء السبعين هم الذين يبدأ تدريبهم للقيام بهذه العمليات، وكان هذا الكلام في مايو 1965".

على أن حركة الاعتقالات بدأت، ففي أواخر يوليو 1965 اعتقل محمد قطب، وقدم سيد قطب احتجاجا على ذلك، وأصبح التنظيم أمام مهمة التنفيذ بالرد على الحكومة، وأصبح الأمر متوقفا على أمر يصدر من سيد قطب، ويقول إنه بدأ يتحرج، لمعرفته بعدم وجود الإمكانيات وضعف الاستعداد، وعدم جدوى أية عمليات مضادة للاعتداء

(كان يسمى الاعتقالات اعتداء، "لمخالفة ما يجري فيه لأي قانون معروف" لذلك أرسل في يوم 4 أغسطس رسالة لزينب الغزالي بأن "تقول للأولاد أنهم يلغوا كل العمليات بما فيها عملية السودان"

وقد وصله رد من زينب الغزالي على لسان علي عشماوي يسأل: هل هذه التعليمات نهائية حتى في حالة ما إذا وقعنا؟ وعندئذ كما يقول سيد قطب:

"اهتز شعوري مرة أخرى أمام صور التعذيب والتقتيل الذي لاقاه الإخوان سنة 1954 والمحتمل في نظري دائما عند كل اعتقال"، فأرسل رده بتعديل تعليماته السابقة، وبأنه في هذه الحالة يمكن الرد "على أن يكون في الإمكان توجيه ضربة شاملة، فإذا لم يكن هذا ممكنا، فلنلغ جميع التعليمات"، على أنه كما يقول كان يعرف أنه "ليس في إمكانهم توجيه هذه الضربة الشاملة".

وفي يوم 9 أغسطس اعتقل سيد قطب، وأخذت بعض الاعتقالات تتم عشوائيا نظرا لعدم وجود معلومات دقيقة عن خبايا التنظيم، ولكن بعد أسبوعين، وبضربة حظ كبيرة، اعتقل علي عشماوي بطريق المصادفة، ليعترف بكل شيء، ويسقط كل الأعضاء في يد السلطة، وتبدأ من جديد محنة لا تقل هولا عن محنة 1954.

خاتمة

على كل حال فإن أهم ما يلاحظ في هذا العرض لحركة الإخوان المسلمين والعنف هو تلك العلاقة الفريدة بينها وبين الدكتاتورية، لقد نشأت حركة الإخوان في عام 1928 كحركة دينية بحتة، أو كرد فعل سلفي لحركة التغريب التي كانت تغزو المجتمع الإسلامي والشرقي في مصر في ذلك الحين؛

ولكنها ما لبثت أن تحولت من فكرة الإصلاح الديني والخلقي إلى فكرة إقامة الحكومة الإسلامية وشمولية الإسلام للدين والدولة، والانتماء للوطن الإسلامي والقومية الإسلامية، وبذلك تناقضت تناقضا أساسيا مع النظام السياسي والاجتماعي القائم.

وقد كان عليها في ذلك الوقت أن تحل هذا التناقض وتصل إلى أهدافها في الحكومة الإسلامية بالطريق الديمقراطي والتمثيل النيابي، وكان هذا اتجاهها في البداية، ولكنها اكتشفت أن هذا النظام ليس نظاما ديمقراطيا حقيقيا، الأمة فيه هي مصدر السلطات، وإنما هو نظام ديمقراطي زائف القصر فيه هو مصدر السلطات؛

وبدلا من أن تخوض معركتها ضد الدكتاتورية التي يفرضها القصر كما كان يفعل الوفد، وتشق طريقها إلى ثقة الأمة، وتضع الدين في خدمة الحرية والديمقراطية، آثرت طريق القصر، ودخلت معه في علاقات تحالف تكتيكية، لحماية دعوتها من خطر الدكتاتورية؛

وفي الوقت نفسه كانت تبني جيشها الكبير من الجوالة، وتؤسس جهازها السري لتأمين نفسها ولكي تنقض به على النظام عند سنوح الفرصة المناسبة، واستكمال التربية الروحية في نفوس الأمة، وبذلك اعتمدت العنف وسيلة لتحقيق أهدافها والوصول إلى الحكومة الإسلامية، متفردة بذلك عن القوى الوطنية والديمقراطية والتقدمية الأخرى التي اعتمدت النضال الجماهيري لتحقيق أهدافها السياسية والاجتماعية.

على أن تحالفها مع الدكتاتورية كان لا بد أن يكلفها غاليا، كما هو الشأن دائما وأبدا في التحاف مع الدكتاتورية، ففي عام 1948 حين اكتشف القصر أن الجماعة قد قوي ساعدها إلى الحد الذي يهدد النظام بالخطر، لم يتردد في توجيه ضربة إجهاضية لها بقرار الحل، وحين قابلت الجماعة ذلك باغتيال النقراشي، تعرضت لإرهاب فظيع من خليفته إبراهيم عبد الهادي، واكتشفت أن العنف لا يفيد شيئا.

وكان من المتوقع أن تتلقن الجماعة هذا الدرس، فتتحالف مع القوى الديمقراطية التي تولت الحكم في يناير 1950، ممثلة في الوفد، ضد القصر الذي أذاقها العذاب، ولكنها عادت إلى التحالف معه من جديد، في أشد فترات انحلاله وتحلله وكراهية الأمة له، فبرهنت على أنها تنتمي، لنظامها وتكوينها وفكرها، إلى نظام آخر يبعد كل البعد عن الديمقراطية، ويقترب كل الاقتراب من الدكتاتورية.

وحين عرض عليها تنظيم "الضباط الأحرار" التحالف معه لإسقاط الملك، قبلت العرض، لا لإقامة عهد ديمقراطي جديد يتخلص من قيود الحكم الملكي، وإنما لإقامة دكتاتورية نظيفة عادلة كما أسمتها، ولكنها بعد قليل أدركت أنه لا توجد في النظم السياسية دكتاتورية عادلة نظيفة، فحين أرادت فرض الوصاية عليها، صدت صدا شديدا، وكان عليها أن تدفع الثمن مرة أخرى بقرار الحل في يناير 1954.

وقد هيأت لها انقسامات الثورة فرصة مواتية للتكفير عن خطئها والوقوف في صف الديمقراطية، ولكن ذلك لم يستمر لأكثر من يوم واحد، هو يوم 28 فبراير 1954، وهو اليوم الوحيد في تاريخ حركة الإخوان الذي حاربت فيه من أجل الديمقراطية؛

فبعد شهر واحد فقط كانت تعود إلى التحالف مع عبد الناصر متخلية عن القوى الديمقراطية والتقدمية التي خاضت الصراع الباسل في أزمة مارس، وأتاحت بذلك لعبد الناصر الفرصة لسحق هذه القوى وفرض نظامه الدكتاتوري.

وكان عليها أن تدفع الثمن مرة أخرى، فلم يمض قليل حتى كانت تلقى جزاء سنمار على يد النظام الناصري، وتحول الحلفاء سريعا إلى أعداء الداء، وأرادت الجماعة استخدام العنف كما استخدمته عام 1948، ولكنها تعثرت في الخطوة الأولى، ودفعت الثمن غاليا عذابا وتنكيلا يتوارى إلى جانبه خجلا عذاب وتنكيل إبراهيم عبد الهادي.

وعندما عرف النظام الناصري اتجاه حركة التاريخ، وسار في طريق التحرر الخارجي من الاستعمار والإمبريالية، والتحرر الداخلي من الاستغلال الرأسمالي، واكتسب بذلك ولاء وتأييد القوى الديمقراطية والتقدمية، كانت الجماعة قد انعزلت تماما عن المجتمع المصري، وتجمدت حيث سقطت في المعتقلات والسجون، وكان النظام الناصري في ذلك الحين يقع في تناقضه الغريب؛

فعلى الرغم من إنجازاته الديمقراطية في البناء التحتي بتحرير علاقات الإنتاج الإقطاعية والرأسمالية، إلا أنه في البناء الفوقي كان يبسط وصاية دكتاتورية لا مبرر لها على الجماهير الغفيرة التي تؤيده تأييدا ساحقا، لقد كان يقود التجربة الاشتراكية بأساليب فاشية.

ولم تستطع جماعة الإخوان الاعتراف بإنجازات النظام الناصري التحريرية والديمقراطية في البناء التحتي، فتعرضت بالضرورة لأسلوب حكمه الفاشي في البناء الفوقي؛

وكانت ظروف القهر والاضطهاد من جانب النظام الناصري، والتنكر من جانب المجتمع المصري للإخوان بتأثير الخوف من سلطة الدولة، قد ألهمت مفكر الإخوان الكبير سيد قطب داخل السجن إبداعه الفكري ممثلا في كتاب "معالم في الطريق" الذي رفض به المجتمع المصري وكل المجتمعات باعتبارها مجتمعات جاهلية...

لا لأسباب اجتماعية في هذه المرة كتلك التي ألهمت حسن البنا حركته في العشرينيات في وجه حركة التغريب، وإنما لأسباب تتعلق بصلب العقيدة ذاتها، فلم يعد الاعتقاد بألوهية الله، وتقديم الشعائر التعبدية الإسلامية له، أمرا كافيا لكي يصبح المجتمع المصري مجتمعا مسلما؛

وإنما لا بد أن ينكر حاكمية غير الله، لا بد أن ينكر الطاغوت وكل الطواغيت من حكام البشر، وينكر كل ما تقدمه الحاكمية البشرية من نظم وشرائع وقيم وموازين وعادات وتقاليد، وبذلك أصبحت المجتمعات الإسلامية التي تحكم بقوانين وضعية مجتمعات كافرة، مهما شهد أفرادها بأن لا إله إلا الله، وأن محمدا رسول الله، وأقاموا الصلاة وآتوا الزكاة، وصاموا رمضان، وحجوا إلى البيت ما استطاعوا إلى ذلك سبيلا.

ومن الطبيعي في ظل هذه الأيديولوجية أن يكتسب العنف صفة شاملة، تشمل الحاكمين والمحكومين، وهذا هو الفارق بين العنف في عهد حسن البنا أو حسن الهضيبي، وبين العنف في عهد سيد قطب، لقد كان العنف في عهد البنا محصورا في نطاق ضيق هو نطاق اليهود والإنجليز والحكام؛

وكان العنف في عهد الهضيبي في عام 1954 قاصرا على شخص عبد الناصر وبعض أعضاء مجلس قيادة الثورة ومجلس الوزراء، ولكن العنف في عهد سيد قطب هو عنف شامل يشمل الطاغوت والمجتمع الذي يتخذ من هذا الطاغوت ربا من دون الله؛

أنه عنف يتجاوز اغتيال عبد الناصر ومعاونيه إلى تدمير يشمل منشآت الكهرباء والكباري والقناطر والتليفونات وغيرها أي يصيب المجتمع الجاهلي، مما لم يسبق له مثيل من قبل في خطط الإخوان.

وهكذا تهيئ النظم الدكتاتورية دائما وأبدا البيئة المناسبة التي تفرخ فيها الأيديولوجيات الاجتماعية المتطرفة، ويفرخ العنف.

تمت

الملاحق

ملحق (1) رسالتي إلى صلاح شادي

أخي الفاضل الأستاذ صلاح شادي

تحية ود وإخاء واحترام وبعد

يسرني أن أكتب لكم بعد عودتي إلى القاهرة من لندن، لأبلغكم تحياتي وأتمنى لكم موفور الصحة والسعادة وكامل التوفيق بإذن الله.

إن كتابي عن التنظيم السري للإخوان المسلمين، الذي نشر في حلقات بجريدة الهدف الكويتية وبعض الصحف الأخرى، في طريقه إلى الطبع، وقد عن لي أن الحق به ردود بعض الإخوة على ما رود بهذه الدراسة، مما يستحق النشر ويتميز بالموضوعية، حتى لا يستأثر الكتاب بوجهة نظري، وحتى أتيح للقارئ الاطلاع على الرأي الآخر.

وبطبيعة الحال فإن أبرز التعليقات التي صدرت هي تعليقاتكم التي استغرقت مساحة شاسعة من صفحات جريدة "الوطن" لأنها احتوت على وجهة نظر متكاملة تقريبا لداعية كبير لعب دورا رئيسيا في الأحداث، ومناضل هام كرس حياته لقضية من أنبل القضايا، وهي الدفاع عن دين الله.

وإذا كانت وجهات نظرنا قد اختلفت في الوسيلة، إلا أني حريص على أن أفسح المساحة الكافية في كتابي لوجهة نظركم، لتبقى للقارئ فرصة الحكم في قضية من أخطر القضايا في تاريخنا المعاصر، وهي قضية لا تزال محركا هاما في الأحداث السياسية لبلادنا.

لقد كان اتجاه فكري في البداية إلى تلخيص مقالاتكم، ولكني خشيت الاتهام بالتشويه واختيار ما يروق لي منها ما يسهل علي الرد عليه، لذلك كتبت إليكم مستطلعا رأيكم في الموافقة على التلخيص، أو نشر النصوص كاملة وهو ما أرحب به كل الترحيب، مع السماح لي بنشر صورة هذا المكتوب مع صورة ردكم الكريم، الذي آمل أن يصلني في أقرب فرصة.

وأخيرا أكرر تمنياتي لكم بالتوفيق في خدمة قضايا أمتنا العربية، وسلام الله عليكم ورحمة الله وبركاته.

أخوكم
عبد العظيم رمضان
7/ 12 /1981

ملحق (2) رد صلاح شادي على الرسالة

التاريخ: ربيع الأول 1402ه الموافق يناير 1982م

الأستاذ الكبير الدكتور عبد العظيم رمضان.

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

وصلني خطابكم الرقيق، يحمل عرضكم الكريم بتدوين نصوص ردودي التي نشرت في جريدة "الوطن" حول موضوع "التنظيم الخاص للإخوان المسلمين" الذي ترغبون في تدوينه في كتاب يحمل وجهة نظركم فيها آثرتم تسميته "بالتنظيم السري للإخوان المسلمين" والذي نشر في جريدة "الهدف" تباعا، في الوقت الذي نشرت فيه جريدة "الوطن" ردودي على بعض ما جاء فيه قرابة أحد عشر مقالا.

ولعلكم تذكرون أني قد استأذنتكم في تدوين كتاب حول هذا الموضوع يحمل وجهتي النظر فيما كتبتم وفيما وفقني الله في الرد عليه .. ولقد بدأت فعلا تجهيز هذا الكتاب وإن شغلني عن تمام إخراجه كتاب "صفحات من التاريخ" الذي أوقف توزيعه في مصر في حياة الرئيس السادات ... وما زلت أسعى لتقرير مصيره الذي لم يبت فيه.

ولكن ...

بعد أن بدت لي رغبتكم في نشر النصوص الكاملة التي أسهمت فيها بجهد متواضع في تصحيح ما شاركت فيه من وقائع التاريخ الذي اعتبرني قد لعبت دورا رئيسيا في أحداثه، بالإضافة إلى ما أسبغتم علي في خطابكم من تكريم لا أستحقه إزاء تكريس حياتي لخدمة قضية من أنبل القضايا وهي الدفاع عن دين الله ..

لذا رأيت المبادرة بالموافقة على نشر هذه المقالات فضلا عن ردودي التي ناقشت فيها ردودكم مع رجاء عدم إضافة شيء لم ينشر في ذلك الحين.ولقد كنت آمل أن أبادر في الرد على خطابكم حين وصل إلى الكويت في 17/ 12 /1981 ولكني كنت في سفر خارجها وعدت منذ أيام لأجد خطابكم في انتظاري.

وأكرر لكم تمنياتي بالتوفيق في كتابكم الجديد الذي أرجو أن يحمل إلى القارئ من نفاذ الرؤية ما يذهب الضباب الذي استفاضت به وسائل الإعلام في الماضي والحاضر حول دين الله والعاملين في حقله.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أخوكم صلاح شادي

ملحق (3) مقالات صلاح شادي

المقال الأول لصلاح شادي "لماذا يتجنى البعض في تصوير جماعة الإخوان المسلمين"

(الوطن في الأربعاء 5 نوفمبر 1980)

قرأت مقال الدكتور عبد العظيم رمضان عن جماعة الإخوان المسلمين المدون في جريدة الهدف في يوم الخميس 30 أكتوبر سنة 1980 فأدهشتني المفارقة بين محتويات المقال وبين دعواه عن الدراسة العلمية التي يعنيها من ورائه!

وبالرغم من "الباقة" البريئة التي قدم بها الدكتور حديثه عن "أخطر حركة دينية في التاريخ الحديث" ... حين ذكر أن بحثه هذا إنما ينصب على الماضي فقط ولا صلة له بالحاضر .. وبالتالي فمن الخطأ أن تعدها أية هيئة محاولة للإدانة أو الهجوم التي هي أبعد ما تكون عن أغراض الدراسة العلمية الحقيقية ... التي "يتوخاها الدكتور طبعا" ..

إلا أن القارئ الذي يتميز بقليل من الفطنة يعجز عن مدافعة ما يزكم أنفه من السعي الحثيث الذي يستهدفه الدكتور "المؤرخ" بالتشكيك في المقاصد والنوايا التي حملها الشهيد حسن البنا لأمة الإسلام جمعاء... وحملته بعده جماعة الإخوان المسلمين ..

وإذا تحدثنا عما يزكم أنف القارئ من "الباقة" الجديدة التي يقدمها الدكتور المؤرخ لقارئ اليوم، فإنما أشير إلى آرائه القديمة التي "يشمها" كل من قرأ كتبه سنة 1973 أو 1976 عن تطور الحركة الوطنية في مصر أو كتاب عبد الناصر وأزمة مارس، وكلها لا تخرج في مضمونها عما أثاره أمام قارئ اليوم الذي ربما لم تزكم أنفه من قبل ريح تشير إلى الأصول التي ينتمي إليها فكر الدكتور في صياغته لأحداث التاريخ!

وإنك لا تعجز عن إدراك ما يعنيه الدكتور "المؤرخ" في أول سطور مقاله التاريخي عندما يضعك أمام قضية مسلم بها لا تحتاج عنده إلى نقاش هي "فكرة العنف والاستيلاء على السلطة عند جماعة الإخوان المسلمين".

فهو لا يناقش هذه القضية ذاتها وإنما يوحي إليك أنها من البدهيات التي لا تقبل النقاش، وأن القضية التي يطرحها للبحث هي فقط معرفة الوقت الذي بدأت تظهر فيه هذه الفكرة في رأس حسن البنا.

ولا أحسب أن الدكتور "المؤرخ" قد غاب عنه أن هذه "الفكرة" كانت موضوع قضية قدمتها النيابة فيها سمي في هذا الوقت قضية "الجيب" التي صدر الحكم فيها سنة 1951.

وسمع القضاء من صليل الاتهام الكثير من تطور فرق الرحلات التي جعلها الدكتور موضوع حديثه، بل وفرق الجوالة ونظام الكتائب بل والنظام الخاص نفسه الذي أنشأه حسن البنا.

وصدرت أحكام هذه القضية بعد مقتل النقراشي وبعد محاولة قتل حامد جودة التي اتهم فيها الإخوان المسلمون، بل وساقت النيابة حشدا من الاتهامات نسبتها إلى جماعة الإخوان منها حوادث شركة الإعلانات الشرقية "اليهودية" وحوادث نسف محل جاتينيو وشيكوريل وأوريكو "اليهودية" ونسف حارة اليهود "القرائين" وحادث نسف حارة اليهود الربانيين ...

كل ذلك ساقته النيابة للتدليل على نوايا الجماعة الإرهابية فماذا قال القضاء في حيثيات حكمه عن هذه الجماعة وأسلوبها في التربية والتكوين وما ردت به هذه الحيثيات على القول بمحاولة القفز على السلطة ... وفكرة العنف ... التي روج لها الدكتور "المؤرخ"؟ ..

أن المحكمة التي أصدرت حكما في 17 مارس سنة 1950 بعد هذا الحشد من اتهامات النيابة لجماعة الإخوان بالنسف والتدمير لم تبرئ الإخوان المسلمين فقط من دعوى الإرهاب ولكنها أشادت بدورها البطولي المشرف في خدمة مصر ...

وفي نفس الوقت خطأت المحكمة النيابة في وصفها للجهاز الخاص بأنه جهاز إرهابي "وليس فقط جهاز الرحلات" وقالت المحكمة في حيثيات الحكم إنه جهاز تدريبي يتمشى مع الأهداف المقررة لتحرير وادي النيل وجميع البلاد الإسلامية ... وأنه لم يتضمن ولم يدع إلى ارتكاب جريمة، ولا يعنيه أو يضيره أن بعض أعضائه كونوا من تلقاء أنفسهم مؤامرة إجرامية لأعمال القتل والتخريب ...

ولكن ..

يبدو أن الدكتور المؤرخ

"لم يقرأ هذه الحيثيات وكذلك لم يقرأ ثناء اللواء أحمد المواوي واللواء فؤاد صادق على الإخوان المسلمين في شهادتيهما أمام المحكمة وما ذكراه عن البذل والفداء الذي قدمه الإخوان المسلمون في الصراع الفلسطيني، وعلى مستوى التدريب العالي الذي حصلوا عليه مما جعل المحكمة تدين لهذا الأمر بالتقدير في الحكم على نوايا الجماعة وحقيقة أهدافها".

وإذن فقد عجز الجهاز السري الحاكم وعلى رأسه الملك في تشويه سمعة جماعة الإخوان المسلمين أمام القضاء ... ولكن ... نجح رئيس الوزراء إبراهيم عبد الهادي في تقديم رأس "البنا" هدية له في عيد جلوسه على العرش في 12 فبراير سنة 1950 ليكون عنوانا على نوعية الصلة التي حاول الدكتور "المؤرخ" أن يلوي فيها الحقائق ليوحي إلى القارئ أن ثمة نفعا مشتركا أقام تحالفا بين الإخوان والملك، ولم يسق في ذلك دليلا واحدا سوى ظنونه الحالكة السواد.

ومما يؤسف له أن الدكتور المؤرخ عجز أيضا عن أن يرى في مقتل حسن البنا إرهابا!! ولا في اللوم الذي وجهته المحكمة إلى السلطات الحاكمة في قضية الجيب بسبب تعذيب الإخوان المسلمين في آخر ما وقع من حوادث الإرهاب "المدعى" بمحاولة قتل حامد جودة التي اتهم فيها الأخ مصطفى كمال عبد المجيد حين حضر رئيس الوزراء إبراهيم عبد الهادي التحقيق ورأى المتهم معلقا في الهواء داخل غرفة في قسم مصر القديمة ...

وجسده مقطع من أثر السياط، ومع ذلك عجز الدكتور رمضان عن أن يرى في ذلك أي لون من الإرهاب أو العدوان على كرامة المواطنين عامة والإخوان المسلمين خاصة.وهذا بعينه هو الإنصاف في رأي الدكتور وإن خالف رأي القضاء.

وإذا كانت وقائع الأحداث تلوي بهذه الصورة، فما بالك بموضوعية فكر حسن البنا الذي ساقه لنا الدكتور رمضان في إطار من المهانة أهدر به أصول العقيدة ذاتها التي كنت أظن أنها أصبحت من المسلمات التي لا يماري اليوم فيها مسلم.

والعجيب أنه إذا قال أحد الناس إن الإسلام دين ودولة، عقيدة وشريعة، مصحف وسيف فلا بأس أن يقول ذلك ما دام القائل ليس حسن البنا.

أما أن ينادي حسن البنا بهذا الأصل الذي لا يختلف عليه أحد فهذا في رأي الدكتور رمضان انحراف عن وسيلة "الحب والإخاء والتعارف" التي نادى بها الرجل سنة 1352ه.

وإذا جرى هذا الاختلاف في وجدان الدكتور فلا شك أنه يرى اختلافا أيضا حين يقرأ في كتاب الله قوله تعالى: "ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة" وبين قوله تعالى: "قاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة"؛

أو بين قوله تعالى لموسى وأخيه هارون: "اذهبا إلى فرعون إنه طغى فقولا له قولا لينا لعله يتذكر أو يخشى" .. وبين حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم "من رأى منكم منكرا فليغيره بيده فإن لم يستطع فبلسانه فإن لم يستطع فبقلبه وهذا أضعف الإيمان".

فإذا استقام لدى الدكتور وجود تفاوت في هذه الآيات فإنه لا شك يعتبر معذورا فيما يراه من تفاوت في سلوك حسن البنا في مبدأ دعوته التي نهضت على "الحب والتعارف" وبين ما نادى به في سنة 1938 بضرورة حمل الحكومة على منهج الإسلام.

هذه واحدة من أغلوطات الدكتور ..وأغلوطة ثانية وجدت طريقها إلى مقال الدكتور رمضان فألبسها كعادته ثوب الحقيقة ليزين للقارئ بأن ما يقوله "دراسة علمية حقيقية".

فهو لا يستطيع أن يفسر ارتفاع عدد فروع جمعية الإخوان المسلمين من عشرة إلى خمسين بعد عام واحد ثم إلى ثلاثمائة سنة 1938 "أي بعد عشرة أعوام" ...

ويستطرد في شرح ذلك فيقول:

"وإذا كان هذا مفهوما بالنسبة لفترة الوفد لالتزامه بالخط الدستوري الديمقراطي فهو غير مفهوم في عهد الانقلاب ، وعلى كل حال تبقى هذه الملاحظة صحيحة وهي أن جماعة الإخوان المسلمين كانت تزدهر دائما وأبدا في العهود الرجعية حتى وقع الانشقاق وانفض التحالف عام 1948".

لقد كدت أتصور وهو يتحدث عن عهد الانقلاب هذا أنه يعني حركة الجيش سنة 1952 ولكني أدركت أنه تجاوز هذا المفهوم واعتبر عهد الانقلاب هو إقالة الملك لحكومة الوفد وتشكيل الوزارة من أحزاب الأقليات، فسمى هذا انقلاب وحكما رجعيا في حين نراه يصف حكم الوفد بالحكم الملتزم بالخط "الدستوري الديمقراطي".

وإنه ليدهشني حقا من الدكتور "المؤرخ أن يبدو كأنه مقتنع بما يقول.

فإن كل الحكومات بما فيها حكومة الوفد لم تسلم معها جماعة الإخوان من الاضطهاد تارة بالقبض وأخرى بالمصادرة وثالثة بالاعتقال والتشريد ..

إن المد الذي أصابته جماعة الإخوان، لا علاقة له بعهد من العهود أو حكومة من الحكومات فطبيعة الإسلام تحمل قوته في ذاته وانتشاره إنما ينطلق من معنى الربانية الذي يوحيه في قلوب الناس ويركزه في عقولهم ...

ولكن "مؤرخنا" لا يرى في هذه القوة ما يدعو إلى أن يكون للإخوان المسلمين ثلاثمائة شعبة في عشر سنوات... ولكن بعض المنصفين ممن لا يحملون مثله أجازة الدكتوراه في التاريخ لم يحجبهم بغضهم لجماعة الإخوان عن قول الحق في هذا الصدد

فيروي لنا السادات في كتاب البحث عن الذات صفحة 36 هذه الواقعة:

"كان الإخوان دون شك قوة لا يستهان بها ويكفي للتدليل على هذه القوة أنه كانت أمام مقرهم بالحلمية فيلا رائعة أراد الشيخ البنا أن يجعلها مقرا جديدا للجمعية فطرحها للاكتتاب، وفي أقل من يوم غطى الاكتتاب واشتراها".

وإذن ... فمحاولة التشكيك في مصادر المال الذي استطاع به حسن البنا إنشاء ثلاثمائة شعبة في عشر سنوات لا يقدم ولا يؤخر شيئا حتى لدى المنصف الكاره ... أما أمام الدكتور "المؤرخ" فتلوى عنده الحقائق ليقول: "إنه يفهم أن تنتشر فروع الجمعية بالنسبة لفترة الوفد لالتزامه بالخط "الدستوري الديمقراطي" ولكن لا يفهمه في غير ذلك من العهود.

فكيف تناسى الدكتور أن النحاس باشا رئيس الوزراء ورئيس حزب الوفد استدعى حسن البنا سنة 1942 بعد إعلان رغبته في ترشيح نفسه عن دائرة الإسماعيلية وطلب منه تنازلا عن هذا الترشيح وصارحه بأن الدوائر البريطانية لا تسمح له بدخول البرلمان ووعده إذا فعل ما يطلبه منه أن يترك له حرية مزاولة نشاطه بالكامل وأن تقوم الحكومة بمنع شرب الخمر ومنع الدعارة الرسمية كطلب حسن البنا لقاء هذا التنازل ..

ولكن ...

ما إن شارفت سنة 1942 على الانتهاء حتى أغلق النحاس باشا الشعب ثانية وصادر نشاطها وراقب تحركات الأفراد.فهل ما زال الدكتور رمضان مقتنعا بأن وزارة الوفد كانت ملتزمة بالخط "الدستوري الديمقراطي" أم أن حظ الإخوان مع وزارة الوفد كان كحظهم مع باقي الحكومات الرجعية امتدادا وانحسارا ...

وثمة أغلوطة ثالثة تطرح لك منهج الدكتور رمضان في التفكير حين يقول:

"إنه يعتبر حسن البنا أنموذجا فريدا لفريق الشباب المتدين الرافض لتيار الغرب فلم يستلفت نظره شيء من ألوان الحياة والكفاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي والفكري الدائر في القاهرة في العشرينيات سوى ما يتعلق بما أسماه "بالتحلل الأخلاقي".

وإذن ... فالمؤرخ المدقق يرى أنه ما دام حسن البنا قد عنى في مبدأ دعوته بمواجهة التحلل الأخلاقي الموجود نتيجة حالة "التغريب" التي ظهرت موجاتها في المجتمع المصري في نبذ المرأة المصرية للحجاب وإقبالها على التعليم ونزولها إلى ميدان العمل وإلى ميدان السياسة وتنديدها بتعدد الزوجات ...

فمعنى ذلك أن كفاح حسن البنا السياسي فضلا عن مؤسسات الجماعة الاقتصادية، والاجتماعية، التي نشأت في تاريخ متأخر لنشأته ونشأة الجماعة لم تكن واردة في آماله ... بل ولا حتى فكرة الخلافة الإسلامية التي نادى بها في المؤتمر الخامس سنة 1938 والتي اعتبرها البنا إحدى دعائم أيدلوجية الإخوان المسلمين كانت تعنيه في هذا الوقت.

وينتهي من ذلك إلى هذه النيجة الخطيرة فيقول:

"يتضح من ذلك أن حركة الإخوان المسلمين لم تدفع إليها عوامل سياسية تتعلق بقضايا الاستقلال والدستور أو رفض للنظام القائم وإنما دفعت إليها أفكار سلفية تعارض تيار "التغريب" أما فكرة العنف والسعي للوصول إلى الحكم بالقوة فلم تكن واردة في رءوس أصحابها، وإنما العمل السلمي المتمثل في إصدار الجرائد الإسلامية والوعظ والإرشاد وتأليف الجمعيات وغيرها من الوسائل.

وهذه الأغلوطة الثالثة التي يجعلها الدكتور رمضان مطيته إلى فهم حركة الإخوان المسلمين كما وردت في تلخيصه الأخير لا توصف إلا بأنها حق أريد به باطل.

فإنه من الأمور اليقينية أن حركة الإخوان المسلمين لم تدفع إليها عوامل سياسية تتعلق بقضايا الاستقلال والدستور أو رفض النظام القائم، ولكن دفع إليها إيمان ركيز بأن الإسلام نظام حياة شامل لا يستقيم ظله إلا بالإيمان بالكتاب كله والدولة جزء من منهاج الحياة الذي رسمه الإسلام.

وليست هناك بدائل عن هذا النظام، كما أنه ليست هناك بدائل عن وسيلة التغيير التي رسمها رسول الله صلى الله عليه وسلم بدفع المنكر باليد فإن لم يستطع فباللسان فإن لم يستطع فبالقلب.

وإذن ... فالتدرج الذي أنكره الدكتور "المؤرخ" على حسن البنا هو نفسه الذي لا أحسبه يستطيع إنكاره على رسول الله صلى الله عليه وسلم كما جرت سنته العملية وكما جرى بذلك حديثه كما ترويها وقائع التاريخ الذي أدركنا منه كيف كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى نصر جيوش المسلمين بعد خروجه من مكة هربا من كفار قريش وهو في طريقه إلى المدينة .. فيعد سراقة بن مالك بأحد سواري كسرى بعد أن ساخت قوائم فرسه وهو يتبع الرسول صلى الله عليه وسلم ليعود بخبره إلى الكفار ...

وإذن فلم تغب عنه حقيقة تألب الفرس والروم على المسلمين بل نصر جيوش المسلمين عليهم الذي لم يمتد به الأجل ليراه وهو بعد ... يخطط لهربه من بطش الكفار ... فهل غيرت غزوات المسلمين أسلوب الدعوة الإسلامية الذي يجري بالحب والإخاء والتعارف أو منهاج الإسلام في مجال التربية الخلقية بالوعظ والإرشاد أم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم علم أصحابه مواجهة الحرب بالحرب والكيد بالكيد والعدوان بالرد عليه؟

وهكذا جرى أو كان يجري فهم حسن البنا لما ينتظر أتباعه جريا على سنن الله في الكون فكان لا بد من مواجهة بطش الباطل بالحق ورجاله، بالعدة والعتاد التي اعتبرها الدكتور رمضان تحقيقا "لفكرة العنف" وفي نفس الوقت اعتبرتها المحكمة التي حاكمت الإخوان المسلمين "تدريبا يتمشى مع الأهداف المقررة لتحرير وادي النيل وجميع البلاد الإسلامية".

ولكن ...

يبدو أن تأثر الدكتور رمضان بأفكار الغرب عن الدين المسيحي حال دون تصوره لهذا المنهاج الذي بدا متكاملا في فهم حسن البنا منذ ظهرت دعوته بقدر تكامله في كتاب الله بعد انقطاع الوحي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم

بدءا من مفهوم الخلافة الإسلامية الذي يعلم المسلمون جميعا أنه فرض كفاية لا بد أن ينهض البعض لتحقيقه حتى يسقط إثمه عن عامة المسلمين ومرورا بنظام الدولة في مجال السياسة والاقتصاد عبر الأمة التي تستظل بشريعة السماء في دستورها لتعيش في كنفها الأسرة المسلمة التي تنهض قوائمها عليه ويصح به إيمان الفرد الذي يبني طاقاته على ركائز التوحيد.

كل هذا كان يدركه حسن البنا فلم تكن خطواته عشوائية ولم ينهض بدعوته من فراغ ولم يكن أنموذجا فريدا لفريق الشباب المتدين الرافض لتيار التغريب كما يقول الدكتور "المؤرخ" ولكنه كان نموذجا فريدا لفريق الشباب المتدين الرافض لكل نظام سوى الإسلام وليس تيار التغريب فحسب.

والجهد الذي بدأ من الدكتور رمضان لإقناع القارئ بأن حسن البنا لم يحفل بأي لون من ألوان الكفاح السياسي والاقتصادي والاجتماعي والفكري الدائر في القاهرة في العشرينيات سوى ما كان من التحلل الخلقي، يصبح بذلك كلاما لا يحتاج إلى دليل في الرد عليه ... فالبنا لم يخترع لنفسه إسلاما ... ولم يجهل ما يعرفه كل مسلم عن شمول الإسلام في بنائه للسياسة والاقتصاد والاجتماع ...

ولكن كانت نقطة البدء هي تكوين الفرد على العقيدة الصحيحة والخلق السليم لتفجير طاقاته الإيمانية لإيجاد القوة التي يحتاجها المصلحون في تحقيق البناء المنشود، هذه القوة التي اعتبرها الدكتور جريمة نكراء ونقطة سوداء في تاريخ الجماعة ورآها البنا ضرورة من ضرورات البناء وتحدث عنها وعن الثورة بما يغنينا في الرد على الدكتور "المؤرخ".

يقول الإمام الشهيد حسن البنا في رسالة المؤتمر الخامس "أما القوة فشعار الإسلام في كل نظمه وتشريعاته فالقرآن الكريم ينادي في وضوح وجلاء "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم" ...

بل إن القوة شعار الإسلام حتى في الدعاء وهو يظهر الخشوع والمسكنة واسمع ما كان يدعو به النبي صلى الله عليه وسلم في خاصة نفسه ويعلمه أصحابه وينادي به ربه "اللهم إني أعوذ بك من الهم والحزن وأعوذ بك من العجز والكسل وأعوذ بك من الجبن والبخل وأعوذ بك من غلبة الدين وقهر الرجال وهكذا استعاذ رسول الله صلى الله عليه وسلم من كل مظهر من مظاهر الضعف، ضعف الإرادة بالهم والحزن وضعف الجيب والمال بالجبن والبخل ... وضعف العزة والكرامة بالدين والقهر".

ثم يستطرد فيقول:

والإخوان المسلمون أعمق فكرا وأبعد نظرا من أن تستهويهم سطحية الأعمال والفكر، فلا يغوصون في أعماقها ولا يزنون نتائجها وما يقصد منها وما يراد بها، فهمي يعلمون أن أول درجة من درجات القوة العقيدة والإيمان؛
ويلي ذلك قوة الوحدة والارتباط ثم بعدهما قوة الساعد والسلاح ولا يصح أن توصف جماعة بالقوة حتى تتوفر لها هذه المعاني جميعا، فإنها إذا استخدمت قوة الساعد والسلاح وهي مفككة الأوصال مضطربة النظام أو ضعيفة العقيدة خاملة الإيمان فسيكون مصيرها الفناء والهلاك.

ثم يتساءل الإمام البنا" فيقول:

"ولكن هل أوصى الإسلام والقوة شعاره باستخدام القوة في كل الظروف والأحوال أم حدد لذلك حدودا واشترط شروطا ووجه القوة توجيها محدودا.وهل تكون القوة أول علاج أم أن آخر الدواء الكي.

وبعد هذه الأسئلة يجيب السائلين فيقول:

"إن الثورة أعنف مظاهر القوة ومن هنا كان نظر الإخوان المسلمين إليها أدق وأعمق وبخاصة في وطن كمصر جرب حظه في الثورات فلم يجن منها إلا ما تعلمون، وبعد كل هذه التقديرات أقول لهؤلاء السائلين "إن الإخوان المسلمين سيستخدمون القوة العملية حيث لا يجدي غيرها؛
وحيث يثقون أنهم قد استكملوا عدة الإيمان والوحدة وهم حين يستخدمون هذه القوة سيكونون شرفاء صرحاء وسينذرون أولا وينتظرون بعد ذلك ثم يقدمون في كرامة وعزة ويحتملون كل نتائج موقفهم هذا بكل رضاء وارتياح.
"أما الثورة فلا يفكر الإخوان المسلمون فيها ولا يعتمدون عليها ولا يؤمنون بنفعها ونتائجها ... وإن كانوا يصارحون كل حكومة في مصر بأن الحال إذا دام على هذا المنوال ولم يفكر أولو الأمر في الإصلاح العاجل والعلاج السريع فسيؤدي ذلك حتما إلى ثورة ليست من عمل الإخوان المسلمين ولا من دعوتهم".

هكذا فهم جماعة الإخوان المسلمين القوة منذ نادى بها حسن البنا وهكذا نظروا للثورة التي تأبى عقلية الدكتور المؤرخ أن تفهمها من خلال المسار التاريخي للجماعة لا لشيء إلا لينجح المؤرخ في عرض الإخوان المسلمين بالصورة التي تخيف الحكام والمحكومين، وفي نفس الوقت يأبى أيضا إلا أن ينظر إلى الإسلام بعقلية "الخواجة" الذي يعتبر الدين منهاج صلاة لا منهاج حياة ...

حتى أننا لنراه يتساءل في مقاله التاريخي:

"ما الذي دفع بحسن البنا إلى ميدان السياسة؟" ويجيب على ذلك قائلا: "إن نمو القوة الذاتية لجماعة الإخوان عامل أساسي في هذا التحول".

وإذن فالدكتور "المؤرخ" يرى أن دخول الإخوان المسلمين في السياسة عنوان تحول عن حقيقة الإسلام وجوهره، وفي نفس الوقت يروى في نفس مقاله أن دخول المرأة ميدان السياسة عنوان حضارة للأمة.

أما حق المسلم في المشاركة في ميدان السياسة فيحتاج في رأي الدكتور إلى "قوة ذاتية نامية" تثقل بها كفته لتوازي كفة المرأة فيصبح له الحق في المشاركة في ميدان السياسة.

هذا كلام له خبيء
معناه ليست لنا عقول

كلمة أخيرة أرجو أن يعيها الدكتور عن شخصية حسن البنا الذي كثيرا ما خاض هو وأمثاله في عرضه وسيرته: إن الظروف والأحوال لم تكيف خصائص دعوته، وإنما استطاع هو أن يصلح الأرض التي تنبت عليها الثمرة لتصح بها وتزكو، ولا شك أنك قرأت له نداءه إلى الإخوان المسلمين "لا تصادموا نواميس الكون فإنها غالبة ... ولكن غالبوها واستخدموها وحولوا تيارها واستعينوا ببعضها على بعض".

ولا أحسب أن الدكتور رمضان قد أغفل ما دام قد قرأ رسالة المؤتمر الخامس عن قول حسن البنا الذي يرسم به خطوات المستقبل في روية وأناة، فيقول لعامة الإخوان، " إن طريقكم هذا، مرسومة خطوطه موضوعة حدوده، ولست مخالفا هذه الحدود التي اقتنعت كل الاقتناع بأنها أسلم طريق للوصول فمن أراد منكم أن يستعجل الثمرة قبل نضجها فخير له أن ينصرف عن هذه الدعوة إلى غيرها من الدعوات".

وأخيرا ...

همسة أزجيها إلى أذن الدكتور رمضان ..إنه من الخير له أن ينظر إلى حقائق التاريخ من خلال سنن الله في كونه لا من خلال ظن يقيمه أو فكر يروج له.
فذلك أدعى إلى صدقه وتصديقه إن كان يبتغي المنفع لأبناء أمته.والسلام على من اتبع الهدى.

المقال الثاني لصلاح شادي:"لماذا يتجنى البعض في تصوير جماعة الإخوان المسلمين"

(الوطن في 13 نوفمبر 1980)

ما زلت أقرأ للدكتور رمضان، في حديثه الأسبوعي في جريدة الهدف الغراء محاولاته المتكررة في تصوير جماعة الإخوان المسلمين بأنها تهدف إلى العنف، والاستيلاء على السلطة ... ويبدو أن هذه المعاني قد أصبحت "لعبته" المفضلة.

واستدل على ذلك هذه المرة بتكوين فرق الجوالة، في حين كان استدلاله السابق يتناول فريق الرحلات، وكلها في نظر الدكتور كانت "روافد" البنا إلى النظام الخاص.

وكنت أحسب أني في مقالي السابق قد وفرت عليه جهده الضائع بما سقته عن "البنا" في هذا الصدد من أنه هو الذي أنشأ النظام الخاص أو النظام السري كما يحب الدكتور أن يسميه وتناولت أيضا في هذا الصدد حكم القضاء المصري سنة 1951 الذي خطأ النيابة في وصف هذا الجهاز بأنه "إرهابي" حين ذكر في حيثياته؛

"إنه جهاز تدريب يتمشى مع الأهداف المقررة لتحرير وادي النيل وجميع البلاد الإسلامية وأنه لم يتضمن ولم يدع إلى ارتكاب جريمة ...
وأن المحكمة تدين بالتقدير لروح البذل والفداء الذي قدمه الإخوان المسلمون في فلسطين الأمر الذي شهد به اللواء المواوي، واللواء أحمد فؤاد صادق مما دعاها إلى الحكم من خلال ذلك على نوايا الجماعة وحقيقة أهدافها ..."

وهكذا تطيش سهام الدكتور "المؤرخ" التي سددها إلى الإخوان المسلمين في مقاله السابق ..

ولكن ...

وجدته للأسف يجري في مقاله الثاني على نفس المنوال ويسوق نفس الأباطيل وكنت أحب ألا أتعرض لانتماءات الدكتور رمضان الفكرية التي أشرت إليها في يسر، في مقالي السابق .. ولكن، أما وقد أبى في مقاله الثاني إلا أن يكشف ستر الله عليه، فلم أجد مناصا من توضيح "هويته" فيما أكتبه اليوم، إن شاء الله ....

يقول الدكتور "المؤرخ" إنه في يوليو عام 1937 عند عودة الملك فاروق إلى القاهرة استقبلته جوالة الإخوان المسلمين على باب قصر عابدين رافعين أعلامهم يهتفون "الإخوان المسلمين يبايعون الملك المعظم نبايعك على كتاب الله وسنة رسوله".

واعتبر رمضان هذه المظاهرة بتلك الصورة إحدى سقطات جماعة الإخوان المسلمين.ونقول في ردنا على الدكتور أني لا أحسبه يجهل أن الملك فاروق كان في هذا الوقت في مبدأ توليه العرش، موطن رجاء الأمة جمعاء أن يثبت الله أقدامه على الطهر والعفة والتدين وهي الأمور التي كانت تبدو سماتها على سلوكه، إذ كان يرعاه حينذاك الشيخ "المراغي" رائده ومربيه ...

وكان الإخوان المسلمون يهدفون إلى تزكية فضائل الملك الجديد، ودفعه إلى إدراك الرؤية الصحيحة للإسلام، التي بدت شواهدها على تصرفاته كما قلنا ... فلم يكن بدعا أن يستقبله الإخوان في أول عهده بولاية العرش بهذه المظاهرة التي بايعته فيها جوالتهم على الحكم بكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وكان هذا هو نفس هتافهم الذي عابه عليه الدكتور المؤرخ وأدانهم به.

وإذا اعتبر الدكتور رمضان هذه المظاهرة سقطة في تاريخ الإخوان المسلمين السياسي، فماذا تراه يقول عن المظاهرة العسكرية التي حشد فيها السفير البريطاني "مايلز لامبسون" قوات الجيش الإنجليزي حول القصر في 4 فبراير سنة 1942 لتكون مرسوما إنكليزيا بتعيين النحاس باشا رئيسا للحكومة؟ فلما استدعى الملك رؤساء الأحزاب والسياسيين القدامى لاستشارتهم في هذه الكارثة، انتهى التفكير إلى قبول الإنذار البريطاني وتكليف النحاس باشا برئاسة الوزارة.

ولكن النحاس باشا رفض هذا التكليف ... وأسر إلى الملك أن لديه شرطا وحيدا للقبول.وظن الحاضرون أن هذا الشرط لا بد سيحفظ للعرش كرامته وللوطن عزته.

ولكن ...

إذا به يقول بين دهشة الحاضرين .. "الشرط ... أن تأذن لي بتقبيل يدك .." شرط أذل صاحبه .. ولم يرفع رأس مصر".

ونسأل بدورنا الدكتور رمضان ... هل كانت مظاهرة الإخوان المسلمين التي نادت الملك بتحكيم كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، أدنى قدرا في مجال المطالب السياسية من طلب النحاس باشا تقبيل يد مولاه في هذا الظرف الذي كانت دبابات الإنجليز تحاصر قصر الملك؟!

وهكذا تلوح لنا من ملامح شخصية الدكتور رمضان حقيقتان، من واقع ما يكتب، بالإضافة إلى ماضيه الذي نعرفه ويعرفه الكثير ..

الأولى: أنه وفدي صارخ الحزبية، يمنعه جموده الحزبي من التحرر ليبلغ مستوى الصدق والتجرد الضروريين لمن يناقش أحداث التاريخ.
الثانية: أنه ن الجناح اليساري للوفد الذي قام لموازنة جناح فؤاد سراج الدين اليميني، وانتهى الأمر به أخيرا إلى ان أصبحت نظرته الماركسية هي وحدها التي تشكل إطار فهمه لقضايا الإسلام فضلا عن جماعة الإخوان المسلمين الأمر الذي أعتم لديه الرؤية الصحيحة لأحكام الإسلام، حتى لنراه يناقش المسلمات والأصول، وكأنها نقائص تستدعي منا الدفاع عنها أمامه.

إذن فلن يدهشنا بعد ذلك شجبه لمظاهرة، دعت فيها الرعية حاكمها إلى أن يستظل بكتاب الله في منهاج حكمه، لأنه لم يتذوقها بوجدان المسلم، وإنما رآها بمنظار كارل ماركس .. مظاهرة رأسمالية تؤيد الملك الذي يمثل عنده قمة العداء للاشتراكية العلمية الجاحدة للأديان.

أجل لا يدهشنا ذلك، وإنما قد يدهشنا العكس فإذا مضتبنا سطور الدكتور المؤرخ في مقاله الثاني رأيناه يدلل على سوء نية الإخوان المسلمين في جمع السلاح بقصة رواها عن "شاهده" أنور السادات بأن المرشد حسن البنا كان يجمع السلاح ويخزنه.

ثم..

يغرق "المؤرخ" المخضرم بعد ذلك في "حيرته العلمية" للبحث عن الجواب لهذه المشكلة العويصة التي بدت أمامه.

هل كان التسليح من جانب البنا لأسباب تتعلق بإخراج الإنكليز من مصر؟! ... أم كان لأسباب داخلية تتعلق بالاستيلاء على الحكم عند اللزوم؟! ولا يلبث أن يجيبك في رصانة "العالم" المتجرد فيقول:

"من الثابت أن الإخوان المسلمين لم يتورطوا في أي دور من أدوار المقاومة السرية ضد الإنكليز أثناء الحرب العالمية الثانية".

هكذا وبكل جرأة ويستدل على ذلك فيقول:

"إنه لم يكن لهم دور في مظاهرات "إلى الأمام يا روميل" التي جرت في أول فبراير سنة 1942"

إن خيبة الأمل التي تطالعك من هذا "الدكتور" لا تأتيك فقط من إلباسه الباطل ثوب الحق "كمؤرخ" ولكنها تأتيك أيضا من فهمه الملتاث لمعنى الوطنية ذاته ...

فإن معنى الكفاح عنده لا ينبع من محاولة تفجير طاقات الأمة لدفع غوائل الاستعمار أيا كان لونه إنكليزيا أو ألمانيا ولكنه ينبع من محاولة استعداء مستعمر على مستعمر، في حرب ضروس تأكل الأخضر واليابس من وطنه حتى إذا ترك الإنكليز شيئا من بقايا العمران أثناء انسحابهم المأمول، أجهز الألمان على ما أبقاه الإنكليز في صراع لا ناقة لنا فيه ولا بعير.كان هذا هو مفهوم الوطنية عند الدكتور المؤرخ.

فإذا لم يشارك الإخوان المسلمون في مظاهرة تدعو المستعمر الجديد إلى التقدم في ظل هذه الصيحات "الهستيرية" "إلى الأمام يا روميل" أصبحوا عنده "خونة" يجمعون السلاح لغرض آخر غير محاربة الإنكليز.

والعجيب أن هذا الفهم دفع مستعمر قديم بمستعمر جديد كان يحمله السادات والبغدادي وحسن إبراهيم في مبدأ نشاطهم السياسي حتى ليقول السادات في كتابه البحث عن الذات ص 49

أنه أرسل بموافقة إخوانه البغدادي وحسن إبراهيم أعضاء مجلس الثورة المصري وغيرهم من ضباط الصف الثاني وجيه أباظة وغيره، مسودة معاهدة بينهم وبين الألمان، عندما تقدموا إلى العلمين في الحرب العالمية الثانية، حملها الطيار سعودي على طائرة هرب بها إلى مواقع الألمان وحمل معه فيها خرائط عن مواقع الدفاع الإنكليزية.

ولكن من الإنصاف أيضا أن نقول:

"إن البغدادي قد اعتذر عن هذا السلوك منه ومن إخوانه في مذكراته في الجزء الأول ص 13 حيث يقول ربما يكون هذا التفكير فيه سذاجة ..، ولكن لا ينسى القارئ قلة خبرتنا في السياسة في ذلك الحين ... فلم يكن عمر أحدنا تعدى الاثنين وعشرين عاما، كما لا ينسى أيضا أن الدافع لهذا التحرك منا كان الحماس الوطني مع اندفاع الشباب كما لم تكن صورة ألمانيا الهتلرية على حقيقتها واضحة لنا".

وإذا صح عذر البغدادي ومن معه عن هذا السلوك ... وهو عندي لا يصح ... فما عذر الدكتور المخضرم في علم السياسة الذي ا زال يرى حتى الآن أن عدم اشتراك الإخوان المسلمين في مظاهرة تدعو إلى تقدم روميل!! خيانة .. ودليل على رفض الإخوان لأي نشاط ضد الإنكليز؟!

ودعونا نسأل مؤرخنا "الجليل" عن مدى تقنينه لسلوك أنور السادات في محاولته إقناع حسين توفيق بالكف عن حوادث قتل الإنكليز التي كان يمارسها في هذا الوقت، ليبدأ نشاطا داخليا آخر بقتل أعوان الإنجليز في الداخل أمثال النحاس باشا وأمين عثمان، لأنهم أخطر شأنا من الإنجليز؟ وأورد السادات ذلك في كتابه البحث عن الذات ص 82.

ثم ما رأيه، ثانية، في قيام السادات فعلا مع حسين توفيق بمحاولة قتل النحاس باشا بإلقاء قنبلة على سيارته في 6 سبتمبر سنة 1945 كما ورد أيضا في نفس المصدر السابق ص 83 ...، فضلا عن قتل أمين عثمان الذي قام فيه السادات بدور المحرض.

ثم ...

ما رأيه ثالثا، فيما قرره جميع ضباط حركة 23 يوليو سنة 1952، إنهم قاموا عبر تخطيطهم لتخليص البلد من الاستعمار الإنكليزي قبل قيام حركة يوليو سنة 1952 بستة أيام فقط بالتفكير في اغتيال بعض الساسة المصريين من الذين ساهموا في إفساد الحياة السياسية في مصر؛

وكان عددهم ثلاثين شخصا، ولما لم تكن لدى قادة الثورة سيارات تمكنهم من القيام بهذه الاغتيالات، اضطرتهم الظروف إلى إعادة النظر في هذه الخطة وإبدالها بما تمت به أحداث انقلاب 23 يوليو سنة 1952؛

وكل ذلك يرويه أحد أعضاء مجلس الثورة عبد اللطيف البغدادي في مذكرته ص 47 الجزء الأول ولا ينكره السادات وإن استثنى نفسه من جملة الموافقين على حركة الاغتيالات الجماعية، فلماذا نرى صوت المؤرخ "الشجاع" غير ظاهر في اتهام السادات ورفاقه بالتخلي عن صراع الإنجليز.

ومع ذلك ...

فالإخوان المسلمون الذين علمهم حسن البنا أن تنبع قوتهم من داخلهم بتفجير الطاقات الإيمانية الكامنة في قلوب هذا الشعب، لم يستعينوا يوما بكافر على كافر، ولم يغفلوا قط عن محاربة الإنكليز بأنفسهم، وفي نفس الوقت لم يطعنوا حكامهم من الخلف.

وإني لأتساءل عما دعا الدكتور المؤرخ إلى إغفال وقائع التاريخ التي اتهم فيها الطالب نفيس حمدي وحسين عبد السميع سنة 1942 وهما من شباب الإخوان المسلمين ومن النظام الخاص أيضا بإلقاء قنابلهم على النادي البريطاني أيام عيد الميلاد حيث ألف الجنود الإنكليز السكارى أن يخرجوا إلى الطريق العام يعتدون على النساء ويحطمون المحلات ويقتلون الأبرياء.

فهل جهل الدكتور هذه الحادثة المعلومة في سجل القلم السياسي حينذاك كما كانت معلومة في سجلات النيابة والقضاء؟ أم كان لا يدري؟

إن كنت لا تدري فتلك مصيبة
أو كنت تدري فالمصيبة أعظم

وأتساءل مرة ثانية، هل غابت عن الدكتور المؤرخ أحداث الجناية العسكرية رقم 882 لسنة 1942 قسم الجمرك التي اتهم فيها جمال فكيه ومحمد عبد السلام فهمي بأنهما يعدان جيشا لمحاربة الإنجليز أثناء انسحابهم وبأنهما يحدثان بلبلة في الأفكار ودعاية انهزامية للإنجليز، وطلب النيابة بالحكم عليهما بالإعدام.

فهل غفل الدكتور أيضا عن هذه الحادثة أم تراه اعتبرها وفاقا بين حسن البنا والإنكليز ومهادنة واسترخاء.

وحادث القطار الذي كان يحمل جنودا إنكليز في الشرابية فألقيت عليه القنابل من الرصيف إلى داخل القطار من خلال نوافذه أثناء تهدئته بمكان الحادث بسبب إصلاحات في الطريق ... قام بها أيضا جنود الإخوان المسلمين من سلاح الطيران والصيانة ورصدت الحكومة خمسة آلاف جنيه لمن يتقدم لها بدليل يمكنها من ضبط الفاعل.

والكثير من الحوادث التي لم يضبط فاعلها والتي وقعت ضد الجنود الإنكليز لا أطالب الدكتور أن ينسبها إلى الإخوان المسلمين، ولكني فقط كنت آمل فيه باعتباره مؤرخا منصفا، أن يحذر من إطلاق حكم عام على الإخوان المسلمين بامتناعهم عن مواجهة الإنكليز في الوقت الذي قام أفراد النظام الخاص بأغلب هذه الوقائع التي حدثت ضد الإنكليز في القاهرة والإسكندرية ...

ولكن ربما كان من الخطأ أن أحمل الدكتور رمضان عناء "الإنصاف" في الحكم على الجماعة في الأمور التي قد تكون موضع احتمال في نفس الوقت الذي ينحو بأحكامه التاريخية منحى الإجحاف حتى فيما تؤكده الحقائق.

ومع ذلك ...

فيلزم أن نذكر الدكتور رمضان، بأنه إذا غيب عنه حقده جهاد الإخوان ضد الإنجليز فلا يجب أن يغيب عنه حقيقة أخرى، وهي أن الإخوان لم يطعنوا حكامهم من الخلف بالرغم مما عانوه من بطشهم الذي بلغ حدا لم يشهد الإخوان أعنف منه، إلا في عهد عبد الناصر ...

وكل ما استطاع "المزيفون" نسبته إلى الإخوان في هذا الصدد هو حادث قتل النقراشي الذي جرى في غيبة الجماعة أثناء حلها، ولا يتصور أحد أنه قصد به الوثوب على الحكم، كما يظهر جليا من وقائع الأحداث أو من واقع ما قرره عبد المجيد أحمد حسن في مبدأ التحقيق معه من أنه هو المسئول الوحيد عن ارتكابه الحادث، وعزا ارتكابه إلى خيانة النقراشي لقضية فلسطين بالتمهيد للهدنة.

فأين هذا مما يدعيه الدكتور "الأمين على حقائق التاريخ" من أن الإخوان إنما يجمعون السلاح للوثوب على الحكم؟! والعجيب أن يستدل على ذلك بما قاله الإمام الشهيد فيما يعرضه في رسالة المؤتمر الخامس:

"قد يكون مفهوما أن يقتنع المصلحون الإسلاميون برتبة الوعظ والإرشاد إذا وجدوا من أهل التنفيذ إصغاء لأوامر الله وتنفيذا لأحكامه وإيصالا لآياته وأحاديث نبيه صلى الله عليه وسلم، أما والحال كما نرى، التشريع الإسلامي في واد والتشريع الفعلي في واد آخر، فإن قعود المصلحين الإسلاميين عن المطالبة بالحكم جريمة إسلامية لا يكفرها إلا النهوض واستخلاص قوة التنفيذ من أيدي الذين لا يدينون بأحكام الإسلام الحنيف" ..

ثم يستطرد فيقول:

"هذا كلام واضح لم نأت له من عند أنفسنا، ولكننا نقرر به أحكام الإسلام الحنيف وعلى هذا فالإخوان المسلمون لا يطلبون الحكم لأنفسهم، فإن وجدوا من الأمة من يستعد لحمل هذا العبء، وأداء هذه الأمانة، والحكم بمنهاج إسلامي قرآني فهم جنوده وأنصاره وأعوانه وإن لم يجدوا فالحكم من منهاجهم وسيعملون لاستخلاصه من أيدي كل حكومة، لا تنفذ أوامر الله.

وبعد ...

فدعنا نسأل مؤرخنا الفاضل بعد هذا الكلام الواضح الصريح هل هذا يعني شيئا أبعد من الوقوف على أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم بالالتزام بتغيير المنكر بكل وسيلة مستطاعة ابتداء من الدفع باليد وانتهاء إلى الإنكار بالقلب؟!

وهل هذه المصارحة خيانة وطعنة من الخلف؟ولكن الدكتور معذور! لأن الإسلام في رأيه "كعالم محقق" ليس إلا وسيلة لتخدير الشعوب.

وأذهلني من الدكتور رمضان دعواه التي رواها بغير حياء بعد أن ظن أنه أقنع الناس بأن الإخوان المسلمين لم يرفعوا سلاحا ضد الإنكليز .. فقال إن الإخوان تعدت سلبيتهم إلى لون من الاتفاق مع الإنجليز سماه "الاتفاق الصامت"

ويعرض في هذا الشأن بالمرشد، فيقول، "بالنسبة للبريطانيين ففيما يبدو أن اتفاقا صامتا، قد تم بينه وبينهم على البقاء لمحو أسطورة "الحاج محمد هتلر" في الجوامع والامتناع عن أي نشاط معاد لهم، في مقابل التغاضي عن نشاط الإخوان في القرى والمدارس".

ويسوق تأكيدا لهذه الفرية المدعاة قوله:

"ويدخل في هذا الإطار (إطار مهادنة السلطة البريطانية أثناء الحرب) مهادنة الإخوان لحكومة الوفد التي تألفت في 4 فبراير سنة 1942، فحين اعترض النحاس باشا على ترشيح البنا نفسه لعضوية البرلمان عرض عليه إطلاق يده في الشئون الدينية في مقابل الامتناع عن الاشتغال بالسياسة، وقبل البنا ذلك، لا لأنه كان ينوي التنفيذ الفعلي
وإنما لأن هذا الاتفاق كان يتيح له استكمال مرحلة التكوين تحت شعار النشاط الديني وبناء قوته العسكرية، وكان هذا النشاط يحرج حكومة الوفد التي عمدت في إحدى المرات إلى إغلاق جميع شعب الإخوان والتضييق عليهم في الاجتماعات والمطبوعات"

ثم يستطرد "المؤرخ" الأمين فيقول:

"ولكن ليبرالية الوفد كانت تتغلب فتطلق يدهم مرة أخرى" وإذن فالمؤرخ الصادق يعترف بالواقعة التي سقناها في المقال السابق ردا على هذا الكلام، ولكنه كعادته يسوقها مغلوطة مشوهة.

فإن المضمون الذي ساقه "عما يبدو من الاتفاق الصامت بين البنا والإنكليز، لم يكن سوى "الاتفاق الناطق" الذي جرى على لسان النحاس باشا مع البنا! .. بنفس نصوصه التي يرويها "مؤرخنا الصادق" محذوفا منها بعض التفاصيل! ومضافا إليها أخرى.

فإذا جرى الأمر على الحال الذي صوره الدكتور فما حاجة الإخوان إذن إلى "الاتفاق الصامت" مع الإنجليز في وقت لم يكن فيه النحاس باشا لسان الإنجليز فحسب، بل يدهم التي يبطشون بها لهدم قدرات الشعب وامتهان حرماته ... ومن هنا ... رأينا الدكتور رمضان يحذف اعتراف النحاس باشا للبنا بأن الإنجليز طلبوا منه بصراحة منعه من ترشيح نفسه في البرلمان!

ولإنكاره في حصول هذا الاعتراف فما كان النحاس يستحيي أن يقول هذا للبنا لأن جميع المصريين كانوا يعلمون حينذاك أن النحاس جاء الحكم في سنة 1942 بحراب الإنكليز.أما الفرية التي أضافها فهي أن البنا قبل مطالب النحاس بتنازله عن الاشتغال بالسياسة.

ولسنا في حاجة إلى القول بأن حسن البنا ما كان ليقبل هذا الطلب من النحاس لأن ذلك يبطل دعواه التي ينادي بها في الناس بأن السياسة جزء من دعوته ومعلم من معالم الطريق إلى الحكم بكتاب الله.

ثم ...

لم يذكر "المؤرخ" نوع "المقابل" الذي طلبه البنا من النحاس لقاء تنازله عن الترشيح؟

وما ترويه حقائق التاريخ التي كتبها المحققون تتضمن ثلاثة أمور:

  1. ترك نشاط الإخوان مفتوحا.
  2. إغلاق بيوت الدعارة.
  3. عدم السماح بوجود الخمر والخمارات.

وهذا الافتراء من المؤرخ الذي نال كلام البنا بالحذف والإضافة لم يثبته أي من المنصفين الذين تعرضوا لهذه الواقعة، فنرى الدكتور "ميتشل" صاحب كتاب الإخوان المسلمون الذي ترجمه الدكتور محمود أبو السعود يسوق هذه الأحداث في ص 103 بتفصيل يجنبنا مزالق الدكتور رمضان التي سبق شرحها.

وإذن فحسن البنا في خوضه غمار السياسة لم يهدف إلى التمكين لنفسه قط، وإنما هدفه إلى التمكين لشرع الله الذي أهدرته الحكومات العابثة، فآثر أن يتنازل عن ترشيح نفسه مقابل إغلاق حانات الخمر ومواطن اللهو والفجور.

هذا هو الرجل الذي ادعى المؤرخ "الفاضل" أنه كان يبغي القفز على الحكم والوصول إليه على جثث وهامات المواطنين.

والمؤرخ "الشريف" يدعي أيضا:

"أن المصادر اختلفت فيما إذا كان البنا قد أخذ لقاء هذا "الاتفاق الصامت" مساعدات مالية من الإنكليز أم لم يأخذ؟ فبينما ذكر البعض أن البنا أبدى استعدادا للتعاون وقبول نوع من الدعم المالي أنكرت مصادر الإخوان نية البنا في قبول أموال الكفرة".

ومرة أخرى يعود إلينا الوجه الماركسي القبيح للدكتور رمضان في سخريته الملفوفة من رأي الإسلام في أموال الإنكليز! ... ومن سخريته المفضوحة التي يتناول بها الجماعة حين ينسب إليها أنها تنطلق في نشاطها كله من كراهيتها للتغريب لا من دواعي الشرف والاستقامة التي تدعو إليها أصول المنهاج الإسلامي الشامل للحياة؛

ونحن نقول في الرد على ذلك بأن الإخوان المسلمين لا يستحون من تسمية أموال الإنكليز بأنها أموال كفرة فالله لا يستحيي من الحق، وقد سماهم ربهم في كتابه كفارا حين قال: "لقد كفر الذين قالوا إن الله هو المسيح بن مريم".

ولكننا نضيف إلى ذلك أيضا أن الإخوان لو أخذوا من الإنكليز مالا لنضبت مواردهم وأصبحوا أفقر الناس، وأنضبهم وجدانا، وهو ما لم يؤثر عنهم قط ... وفي رواية السادات التي أشرنا إليها في المقال السابق عن تمكن الإخوان من تغطية اكتتاب شراء دارهم في الحلمية الجديدة في يوم واحد، غناء عن الرد.

وأختم حديثي عن هذه الفرية بالقول إن المؤرخ المنصف لتعجزه رؤية هذه المهادنة المدعاة بين الإخوان والإنجليز حين يرى أن مرشد الإخوان كان يلقن أتباعه كراهة الإنكليز في الصلاة، وفي القنوت، وفي دعاء السحر.

حتى لقد حفظنا عنه هذا الدعاء واستظهرناه."اللهم رب العالمين، وأمان الخائفين ومذل المتكبرين، وقاصم الجبارين تقبل دعاءنا وأجب نداءنا، وأنلنا حقنا، ورد علينا حريتنا واستقلالنا.

اللهم إن هؤلاء الغاصبين من البريطانيين قد احتلوا أرضنا وجحدوا حقنا، وطغوا في البلاد وأكثروا فيها الفساد، اللهم فرد عنا كيدهم وفرق جمعهم، وخذهم ومن ناصرهم وأعانهم أو هادنهم أخذ عزيز مقتدر ... اللهم اجعل الدائرة عليهم وسق الوبال إليهم، وأدل دولتهم، وأذهب عن أرضك سلطانهم ولا تدع لهم سبيلا على أحد من المؤمنين.

فكيف يستقيم في وجدان المنصف قيام أي لون من المهادنة بين البنا والإنكليز بينما يلقن أتباعه الدعاء على من "هادنهم" أو ناصرهم أو "أعانهم"، ولكن انحراف الفكر ونكسة الوجدان ومرارة الحقد التي في "نفس مؤرخنا "الفاضل" التي لا يساكنها حق ... أو تردها إلى الصواب حقيقة! لا تقف عند حدود.

وأخيرا .. أراني مضطرا إلى لمس جانب من شخصية الدكتور "المهولة المهوشة" بما ساقه حول بناء النظام الخاص حين أثار أقوال عبد المجيد أحمد حسن قاتل النقراشي في التحقيق الذي أجرته النيابة معه بما يوحي أنه بهرته الرموز والطقوس عند تلقين قسم العمل الذي عقده مع السندي رئيس النظام الخاص فأثار الدكتور بذلك صورة الرهبة، تدعو القارئ إلى التساؤل عن حقيقة هذا القسم.

وهذا القسم ليس سوى البيعة التي تتم بين أفراد جماعة الإخوان وبين مرشد الجماعة أو الذي ينوب عنه فيها من رؤساء الأقسام الذين يعملون في حقل الدعوة.

والإسلام يعرف هذه البيعة وذلك الرباط، وإن جهله طبعا صاحبنا "المؤرخ" ... لأن هذه البيعة ليست طبعا من دقائق النظام الماركسي، ولذا رأينا "الدكتور" يعزو ما سماه "القسم" إلى طبيعة العنف والسرية في هذه الجماعة "لتهويش" العضو الجديد.

وليت الدكتور المؤرخ يسوق لنا طرفا من مضمون هذا "التهويش" الذي جرى مع عبد الناصر عندما عقد بيعته مع السندي سنة 1944.

إن أحداث التاريخ التي يتجاهلها مؤرخنا "الفاضل" لا يمكن أن تغيب عن وجدان القارئ الفطن، فقد بايع عبد الناصر عبد الرحمن السندي، كما بايعه كمال الدين حسين وخالد محيي الدين والبغدادي وحسن إبراهيم، وحسن الشافعي، وعبد الحكيم عامر وصلاح سالم.

ولم يقل أحد أن ذلك كان مدعاة "لتهويشهم" وإنما قال الناس إنهم "خانوا الإخوان المسلمين".

ولعلي بهذا أروي للدكتور حديثا معادا يعرفه كل المعرفة لأنه لا شك قد قرأ ما قاله كمال حسين عضو مجلس الثورة في الطبعة السابعة من كتاب الصامتون يتكلمون عن بيعته وجمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر للإخوان المسلمين في شخص عبد الرحمن السندي في ص 158 من هذا الكتاب وما رواه البغدادي وحسن إبراهيم وخالد محيي الدين في كتاب شهود ثورة يوليو لأحمد حمروش ص 118، وص 109، ص 145 عن بيعتهم كذلك.

وأما صلاح سالم فقد روى لي بنفسه سنة 1951 قصة بيعته للإمام الشهيد، وحسين الشافعي كانت صلته وروابطه بالجماعة كما يعرضها إخوان طنطا تتمثل في اندراجه في سلك الضباط تحت إشراف محمود لبيب حيث بايعه كذلك على السمع والطاعة.

ولم يرو أحد من هؤلاء شيئا عن الرجل "الملثم" الذي يلقن الأخ الجديد قسم البيعة .. ثم يتضح له أخيرا أنه صالح عشماوي وكيل جماعة الإخوان المسلمين.

وأخيرا.

نختم حديثنا هذه المرة لنقول للدكتور رمضان إنه إذا بدا له أن يفصح لنا عن نظرته لأحداث التاريخ التي أحاطت بالإخوان المسلمين، فإننا نصارحه أيضا، بأننا لن نكف عن ملاحقة سرده لهذه الأحداث بالفضح والكشف والإبانة. ( )

المقال الثالث لصلاح شادي:"لماذا يتجنى البعض في تصوير جماعة الإخوان المسلمين"

(الوطن في 19 نوفمبر سنة 1980)

بدا لي بعد قراءة المقال الثالث للدكتور رمضان المنشور في جريدة الهدف يوم الخميس الماضي أني قد أسرفت في الاهتمام بمناقشة الآراء التي ساقها في مقاليه السابقين حول حسن البنا والنظام الخاص وحملت أعصابي في الرد أكثر مما يحتاجه الموقف، حين ظننت أن الأمانة تقتضيني كشف النقاب عن الغلالة السوداء التي ظلت وسائل الإعلام المصرية وغيرها تغلف بها ماضي هذه الجماعة منذ سنة 1947 حتى نهاية حكم عبد الناصر سنة 1970 ...

وإن ظل الكتاب والمؤرخون والحكام بعد ذلك يتناولونه في "المناسبات" بما يؤكد هذه الظلال السوداء التي طرحتها وسائل الإعلام "الموجهة" بالصورة التي ترهب الحكام والمحكومين، أو تجعلهم على الأقل في حيرة من أمر هذه الجماعة.

ولكن ...

حين قرأت المقال الأخير للدكتور رمضان المنشور في جريدة الهدف وجدته تكرارا لما ساقه في مقاليه السابقين.وخشيت أن أشارك رغما عني في بضاعة كلامية مزجاة لا تحمل جديدا إلى ذهن القارئ بقدر ما تحمل لجاجة المجادلة.

ولكن ما قرأته في مقال الدكتور رمضان في جريدة الوطن يوم الإثنين الماضي تعليقا على أول ردودي على "تصويره التاريخي لجماعة الإخوان المسلمين" شجعني إلى المضي فيما كنت عازفا عنا، فقد ساق لنا "مثلا" رفضه التشكيك في "رسالة حسن البنا ونواياه"، التي وصفها بأنها "كانت أشرف النوايا والمقاصد ..."

وهذا يكفيني اليوم للوفاء بما وعدت به القراء في مقالي السابق من المضي في الرد، لعلنا ننتفع "بالجديد" من أقوال الدكتور .. وسأجعل ردي اليوم عن مقاله الأسبق، وأدخر الأسبوع القادم إن شاء الله للحديث عن "نواياه الطيبة" التي أبداها في هذا الأسبوع.

يسوق لنا الدكتور رمضان في مقاله الأخير المنشور في جريدة الهدف هذه المعلومات في محاولة تضخيم اكتشافاته العلمية للنظام الخاص ليبدو بالصورة المخيفة التي أرادها له فيقول:

أفراد النظام كانوا يدربون على الكهرباء واللاسلكي والتصوير والاختزال والتمثيل وعمل المكياج وتغيير الزي وأدوات التراسل والإذاعة وقيادة وسائل المواصلات ابتداء من الدراجة وانتهاء إلى الطيارة.
وكل هذا أمر مشروع حين يجري في إطار التدريب الفدائي لتحرير وادي النيل والبلاد الإسلامية كما قال القضاء ... ولكن ... ألا يرى القارئ معي أن قيادة الطائرات كانت جنوحا من الدكتور في خيال لا يسانده واقع وإلا فليكشف لنا عمن دربهم النظام لقيادة الطائرات وأنواعها .. إذ المعلوم أن التدريب على الطائرات التجارية غير التدريب على الطائرات المقاتلة أو طائرات الركاب.

وسؤال ثان في هذا الصدد ...

هل ما ساقه الدكتور حول التدريب على قنابل مولوتوف وتخريب المواصلات والسكك الحديدية واستخدام المفرقعات والألغام والأسلحة النارية وأساليب "الخنق" وغيرها التي أوردها في مقاله كلها أمور ألفها الإخوان المسلمون في كتبهم أم أنها موجودة في كتب حرب العصابات والتدريبات الشاقة للجيوش التي يعثر عليها أي قارئ في المكتبات؟!

وسؤال أخير عن نوعية أفراد التنظيم هل كانوا حقا من الطبقات الدنيا من الشعب كما استدل الدكتور بأقوال جمال سالم رئيس محكمة الشعب "من طبقة الخردواتية والسمكرية وموظفي الدرجات الصغيرة وليس منهم مهندس ولا مدير إدارة" أم أن الأمر كان خلاف ذلك؟

ويسوق الدكتور هذا الحشد من المعلومات تحت عنوان "التنظيمات داخل الجيش والبوليس!! ..." فيقول:

"إن تنظيمات الإخوان تغلغلت في الجيش والبوليس وكانت تعد تنظيمات سرية بحكم طبيعة عمل الضباط ..."

فهل كان جميع الضباط من الطبقات الدنيا من السمكرية والخردواتية وموظفي الدرجات الصغيرة؟!وأين كان عبد الناصر من كل هؤلاء؟ ... وبقية ضباط الحركة كمال حسين وعبد الحكيم عامر وصلاح سالم والشافعي وحسن إبراهيم والبغدادي؟.

وإني لأتساءل والحيرة تملكني عما دعا الدكتور ليستشهد بأقوال جمال سالم عن نوعية افراد هذا التنظيم وقد سبق أن قال هو نفسه عنه في عدد روز اليوسف رقم 2734 الصادر في 2 نوفمبر سنة 1980 ما يأتي:

"وقد كان اختيار جمال سالم لرئاسة محكمة الشعب من أسوأ الأخطاء التي ارتكبها عبد الناصر في حياته السياسية فلا يوجد في تاريخ القضاء العسكري في مصر رئيس محكمة هبط بمستوى المحاكمات إلى مثل هذا الدرك الأسفل، ولم تسمع قاعات المحاكم في مصر ما سمعته من العبارات النابية والتهجم على المتهمين والسخرية منهم وإرهابهم والدخول في "قافيات" معهم، كما سمعت من جمال سالم ...".

ثم يستطرد فيقول:

"ولقد اتهم الإخوان المسلمون جمال سالم بأنه كان الخصم والحكم وأطلقوا عبارة "خصومنا قضاتنا" ولكن الدراسة المتأنية لنصوص المحاكمات وما صدر عن جمال سالم تثبت أنه لم يلعب سوى دور "الخصم" وهذا أمر محزن حقا وما أتعس الحكام الذين ينسون أن للتاريخ محكمة تفوق محاكمهم قوة وأن الأحكام التي تصدرها محكمة التاريخ هي الباقية وأحكامهم فانية".

وإذن ... فلماذا يستدل بأقواله في المحاكمة الساخرة التي وصلت بمستوى المحاكمات إلى الدرك الأسفل.بينما تراه يلفظ في نفس الوقت الوقائع الثابتة عن نوعية هؤلاء الرجال الذين كانوا ينتمون إلى النظام الخاص؟!

ثم ... ماذا يضير أفراد النظام الخاص أن يكون منهم السمكري والنجار والفلاح والموظف الصغير وهم جميعا قطاعات الأمة التي تمثل عند النظرة الماركسية "الطبقة الكادحة" التي قامت الثورة الشيوعية لإنصافها.

ومع ذلك فقد شمل النظام الخاص جميع طبقات الإخوان أو على الأصح جميع طبقات الأمة بما فيهم المهندس والقاضي والمحامي ووكيل النيابة والضابط بالإضافة إلى العامل والسمكري والفلاح والفقير وصاحب الثراء... وسؤال ثالث حول ما ساقه الدكتور عن بدء تكوين التنظيم وعن أمواله والإعداد الروحي لفكرة الجهاد لدى أفراده ...

وأقول تصحيحا لمعلومات الدكتور أن بدء تكوين التنظيم كان سنة 1940 وليس في أكتوبر سنة 1941 كما قال الدكتور إثر القبض على الإمام البنا وأحمد السكري وعبد الحكيم عابدين في أكتوبر سنة 1941 في وزارة حسين سري؛

فقد كان النظام الخاص في هذا الوقت موجودا وينهض بتبعاته الفعلية الأخ محمود عبد الحليم الذي استدعاه حسن البنا في سنة 1940 مع صالح عشماوي وحسين كمال الدين وحامد شريت وعبد العزيز أحمد، وعرض عليهم الدواعي التي كانت تقتضي إنشاء النظام الخاص لتواجه الدعوة مسئولياتها نحو الإنكليز في مصر واليهود في فلسطين.

وكان الطلبة هم العنصر الأساسي في هذا التنظيم بالإضافة إلى أفراد من شباب الموظفين ومجموعة من العمال الفنيين ذوي الثقافة الإسلامية وكان هذا هو الرعيل الأول للنظام الذي أكد سب نشأته وهدفه، اشترك أفراده في حرب فلسطين سنة 1948 واستشهد كثير منهم على أرضها.

ولا أسوق للدكتور هذه المعلومات من فراغ، ولا من هواتف الظنون والتخمينات أو الاستنتاج، ولا لأني عليم ببواطن الأمور ...

ولكن ...

لو أن الدكتور حرص على استيفاء معلوماته التاريخية، من الرجال الذين عاشوا هذه الأحداث لوجدها على الأقل في كتبهم، ولما عز عليه سماعها من ألسنتهم إذا شاء وفي كتاب محمود عبد الحليم أحد خمسة رجال أنشأوا النظام الخاص "الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ" رؤية من الداخل الجزء الأول ص 258، ص 259، ص 260 غناء لما يبحث عنه الدكتور حول حقيقة برنامج النظام الخاص وتقسيم أفراده إلى أسر ومعنى التسلسل القيادي لديهم وسر اشتراك أفراد النظام في أوجه النشاط العام للدعوة.

ولا أطالب الدكتور بالأخذ بما جاء في هذا الكتاب من معلومات ... لكنني أطالبه فقط بقراءته، ولو فعل، لبدا ذلك واضحا في كتاباته إما بالنقد أو التأييد.

ونحن نخالف الدكتور فيما ذكره حول تمويل النظام الخاص، سواء ما تعلق بالوقت الذي بدأ فيه جمع اشتراكات أفراده أو بالمساعدات التي كانت ترد إليه من الصندوق العام للجماعة الذي كان يتراوح في الأربعينيات بين خمسة آلاف جنيه شهريا إلى سبعة آلاف وخمسمائة جنيه !! كما يدعي الدكتور ...

نحن نقول إن تمويل التنظيم بدأ منذ سنة 1940 وكان دخل من جيوب أصحابه فقط!! وليس كما ذكر الدكتور أنه بدأ يجمع اشتراكات أفراده سنة 1944، سنة 1945 وكان الأستاذ البنا يرى أن علامة الجدية فيمن يتقدم للتضحية بروحه أن يضحي بماله، وظل هذا التوجيه هو الأصل في بناء الصندوق المالي للتنظيم.

أما المبالغة التي يدعيها الدكتور من أن الاشتراكات الشهرية العامة التي وصلت إلى سبعة آلاف وخمسمائة جنيه، كانت هي التي تسد عجز النظام الخاص فقول لا نرده، ولا ندفعه لأنه تهمة تلحق بالنظام أو الجماعة، وإنما ندفعه فقط لأنه غير صحيح.

وتذكرنا هذه المبالغة التي أراد الدكتور من ورائها إيهام القارئ بالمستوى الخطير والمخيف الذي وصل إليه التنظيم، بمراجعة "معلومة" بسيطة ساقها الدكتور في أول مقالاته في مجال عرضه لوطنية "البنا" الذي أخذ معونة من الإنجليز لإقامة دور جديدة للإخوان بلغت ثلاثمائة شعبة في عشر سنوات فتراه يوحي من خلال حيرة الباحث بهذا المضمون في شك أبلغ من التأكيد!!

ولكن لا يلبث الدكتور في مقاله الأخير أن يجد "لنا" المال هذه المرة من خاصة جيوبنا لا لشيء إلا لإيقاف القارئ على المستوى الخطير والمخيف الذي وصل إليه عدد أفراد التنظيم ليثير دهشته ويستجيش مخاوفه؛

ولذلك كان من المناسب أن يقدم للقارئ عملية حسابية بسيطة تهوله، خمسين ألف جوال× عشرة قروش يعني خمسة آلاف جنيه في الشهر على أدنى تقدير! 75.000 جوال × 10 قروش تعني 75.500 جنيه في الشهر على أقصى تقدير مبلغ كبير طبعا يكفي أن تدفع منه إعانة للنظام الوليد لشراء عجلات وسيارات وأجهزة لاسلكي .. وربما طيارات ايضا!!..

قلنا إن واقع الأمر كان غير هذا لأن الإمام البنا كان يربي أتباعه على أن يبذلوا أموالهم عن رضا وطواعية بما يحققون به أهدافهم التي يقتنعون بها ليصدقوا أمام أنفسهم حين يتطلبهم الأمر بذل أرواحهم في سبيل الله.وهكذا كان يربى الرجل أتباعه.

أما الإعداد الروحي لفكرة الجهاد لدى أفراد النظام الخاص فقال فيها الدكتور إنها كانت منصرفة في البداية إلى الإنكليز ... ثم جرى تحويل أفكارهم إلى الداخل تدريجيا.

وهنا "تغيم" الحقائق في ذهن القارئ حين يقرأ اليوم هذا القول، ويستعيد ما سبق أن قرأه في مقاله السابق عن أسباب تسليح النظام الخاص، هل كان يتعلق بإخراج الإنكليز أم بمداهمة الحكومات والحكام الوطنيين؟

وكانت إجابته الواضحة، أن هذا السلاح كان يجمع للداخل لضرب الحكام وقلب الحكومات!!..وفي مقال اليوم يعكس القضية ولكنه يستدرك فيقول بأن أفكار النظام تحولت من مداهمة الإنكليز إلى مداهمة الحكام!! لا العكس ..

فإذا مضينا مع الدكتور في محاولته الجديدة لإثبات أن أفكار النظام تحولت من مداهمة الإنكليز إلى مواجهة الحكام، لوجدناه يحاول متعسفا إثبات ذلك بحادث مقتل أحمد ماهر سنة 1945م وحادث مقتل النقراشي سنة 1948م.

والدكتور رمضان في محاولته "لي" الحقائق لإثبات نظريته هذه عن تحول أفكار النظام إلى مواجهة حكام مصر، يمضي بها شوطا يثير الرثاء؛

فبينما نراه "يقبل" شهادة جمال سالم عن نوعية أفرد النظام بعد أن قدح في عدالته بما سبق أن أوضحناه إذ إننا لنشهده في التحقيقات التي جرت لمعرفة حقيقة انتماء العيسوي لجماعة الإخوان أم للحزب الوطني يكذب محمود العيسوي ويقدح في شهادته بل وفي كل القرائن التي تشير إلى لون انتمائه إلى الحزب الوطني.

فإذا قال العيسوي أمام النيابة بغير تردد أنه من الحزب الوطني وليس من الإخوان المسلمين قال الدكتور هذه شهادة كاذبة لأن فلان نقل عن فلان .. الذي نقل عن سيد سابق الذي أفتى بقتل النقراشي قوله "إن محمود العيسوي من صميم الإخوان ..."

ولم يذكر الدكتور "طبعا" أن سيد سابق قد برئ من تهمة الإفتاء هذه ولم تثبت إدانته فيها .. ولم يذكر لنا الدكتور الدلائل التي أقنعت سيد سابق بأن محمود العيسوي من صميم الإخوان إذا صحت رواية الدكتور التي رواها عن فلان عن فلان عن سيد سابق.

وإذا ثبت من واقع الحال أن محمود العيسوي كان يمضي مدة تمرينه كمحام في مكتب عبد الرحمن الرافعي أحد كبار أعضاء الحزب الوطني كان هذا عند الدكتور دليلا صوريا لغاية يخطط لها الإخوان ...

حتى ليبدو وكأنه يحاول إقناع القارئ بأن الإخوان المسلمين كانوا يعلمون مسبقا بنية الدكتور أحمد ماهر في إعلان الحرب على المحور فقرروا قتله ودفعوا بمحمود العيسوي إلى مكتب عبد الرحمن الرافعي لإزالة الشبهات عنهم.

فإذا سئل عبد الرحمن الرافعي عن محمود العيسوي فقال إنه شاب رقيق الحال غير ناجح في المحاماة ولا ملتفت لعمله، ويحمل رغم ذلك دبلوم القانون الخاص ودبلوم القانون العام ويعد رسالة لنيل الدكتوراه في الحقوق قال الدكتور رمضان مباشرة ... وهذا هو الدليل على انتماء محمود العيسوي الحقيقي لجماعة الإخوان المسلمين ... كما يرويه مقاله الأخير.

ويتساءل القارئ في حيرة عن الرباط بين نبوغ القاتل وبين انتمائه للنظام الخاص في جماعة الإخوان المسلمين ... وهل يعتبر هذه النوعية من أفراد النظام الخاص مؤكدة لما رواه سابقا عن نوعية الأفراد حين ادعى أنهم من طبقة السمكرية والخردواتية وما شابه ذلك؟!!

وإذا جرى في ظن القارئ أن الحزب الوطني كان يرفض مبدأ إعلان الحرب على المحور تماما كما كان يرى العيسوي بدليل استقالة حافظ رمضان من وزارة أحمد ماهر عندما تقرر إعلان الحرب ... "لوى" الدكتور أيضا هذه الحقائق

وقال لقد استرد استقالته بعد مقتل أحمد ماهر .. وقال في تحقيقات النيابة أن استقالته هذه لم تكن لمخافة حصول ضرر على مصر من جراء إعلان الحرب وإنما كانت لأسباب شخصية.

فما حقيقة هذه الأسباب الشخصية في قضية عامة كهذه؟!ولا شك أن القارئ الفطن يدرك أن استرداده لاستقالته فعلا لم يكن إلا لكي يدفع عن نفسه تهمة الاشتراك مع محمود العيسوي في مقتل أحمد ماهر..

وإذا كانت الحقائق العلمية تهم الدكتور رمضان حقا في بحثه عن هوية محمود عيسوي ليدلل بها على انتمائه أو عدم انتمائه للإخوان فلماذا لم يناقش آراء العلماء والمؤرخين الذين نسبوا إلى محمود العيسوي انتماءه أيضا إلى حزب مصر الفتاة أمثال "كيرك" في الشرق الأوسط ص 266؛

"وميتشيل" في كتاب الإخوان المسلمين المترجم بمعرفة الدكتور محمود أبو السعود في ص 112 هامش 72 الذي يقول إن الحكومة بذلت جهدا كبيرا لإدانة الإخوان المسلمين فلم تفلح ...فهل كان إغفال كل ذلك من دواعي البحث العلمي المنصف.

فإذا انتقلنا إلى الوجه الآخر من استدلاله على أن الجهاز الخاص كان يهدف إلى قتل الحكام بما عرضه من رواية عبد المجيد أحمد حسن قاتل النقراشي لرأينا عجبا، فكل ما يرويه عبد المجيد أحمد حسن عن الإخوان المسلمين عند الدكتور قضية مسلم بها، مهما بدا فيها من تناقض!!

فقد أنكر عبد المجيد أحمد حسن عند القبض عليه أن أحدا دفعه إلى قتل النقراشي وقرر صراحة أنه قتله بمحض رأيه الشخصي بعد حل الجماعة لما رآه من خيانة للقضية الفلسطينية ولسعيه المتواصل لإقرار الهدنة ...

وبعد أيام طويلة من بدء التحقيقات الباطلة التي اشتهر بها حكام هذا العهد الذي أدانته الهيئة القضائية في قضية الجيب وحكمت ببطلان تحقيقاته رأينا اعترافا آخر لعبد المجيد أحمد حسن في شكل خطاب موجه إلى النائب العام

يقول فيه:

"إنه عجب لبيان الأستاذ حسن البنا الذي نفى فيه علمه بالجريمة وأنه يبرأ منها ومن مرتكبها مستندا في ذلك إلى أحاديث وآيات كما أنه علم أن هيئة كبار العلماء قد أصدرت بيانا عن هذا الحادث وأنه اطلع عليه وعقب ذلك أراد أن يعلن لجميع أفراد النظام الخاص أنه قد غرر بهم جميعا وليس هو وحده ...".

وحتى هذا الاعتراف لا يصلح دليلا يناقض ما قرره حسن البنا في اعترافه بأنه هو الذي دفعه إلى قتل النقراشي وإن ثبت قطعا أنه قامت أحداث مثل قتل الخازندار وحادث نسف أوراق التحقيق بمحكمة باب الخلق لم تكن بأمر البنا ولا بعلمه! ...

وقول عبد المجيد أحمد حسن بأنه قد غرر بهم مبنيا للمجهول لا يعني أن المرشد كان وراء هذا المجهول، في وقت تقطعت فيه أواصر الرباط بين البنا والجهاز الخاص إثر حل الجماعة.

وإذا استعرضنا رأي الدكتور رمضان في دعواه أن المرشد والجهاز الخاص قد أقرا قتل النقراشي لوجدنا أن ذلك يخالف آراء المنصفين من مؤرخي هذا العصر، ودليل ذلك ما ترويه لنا رسالة الدكتور زكريا سليمان بيومي التي نال بها مرتبة الشرف الأولى من كلية آداب جامعة عين شمس سنة 1978 وموضوعها "الإخوان المسلمون والجماعات الإسلامية"

حيث قال في ص 130 ص 131

"إن استمرار سيطرة البنا على الجهاز الخاص قد حفظه من زلات كان من الممكن أن تحدث في صراع الجماعة مع الوفد والشيوعيين في أعقاب الحرب الثانية فضلا عن أن البنا العارف بأحكام الشريعة الإسلامية قد حافظ على استخدامه ضد المسلمين أو غيرهم من أجل مصر وأنه قد انتهز فرصة الحرب في فلسطين ليرسل بكتائبه وسلاحه إلى هناك؛
وإذا أخذ البعض على أعضاء الجهاز قتل كل من القاضي الخازندار ومحمود فهمي النقراشي ولم يثبت قانونا قتل أعضاء الإخوان لغيرهما، فإن القتل كان في الحادثين حالة فردية لا ينبغي معها إلصاق تهمة امتهان القتل بالجهاز أو الجماعة".

وهكذا ينهى الدكتور زكريا استدلالاته فإذا لم يقنع هذا الرأي العلمي الدكتور رمضان فإنه يقنع كثيرا من العلماء، فضلا عن المنصفين إذا لم يدأبوا على "لي" الحقائق للوصول إلى رأي قد تكون له دوافعه من حقد أو كراهة تخيم على صدورهم ولكن يظل مثل هذا الرأي الشاذ لا يمثل شيئا ذا بال عند العلماء المتجردين ...

وأعرض في هذه العجالة لما تناوله الدكتور رمضان خاصا بمهادنة الوفد لجماعة الإخوان لأتساءل هل غيرت شيئا من موقفهم وعلاقتهم بالأحزاب؟ ...

فقد أورد الدكتور رمضان طرفا من أخبار مهادنة الوفد للإخوان المسلمين فقال إنه (في يناير سنة 1943) توجه إلى دار الإخوان مجموعة من الوزراء لزيارة دار الإخوان وفي مقدمتهم فؤاد سراج الدين وعبد الحميد عبد الحق ومحمود سليمان غنام وأحمد حمزة ودكتور محمد صلاح الدين وتكلموا بكلام طيب أعلنوا فيه تأييدهم لفكرة الإخوان.

وأضيف إلى هذه "المعلومة" معلومة أخرى عما أعلنه الأستاذ البنا في هذا الجمع ضمن خطبته في هذه الزيارة فقال:

أولا: أن هذه الدعوة لم تكن يوما من الأيام أداة في يد أي هيئة أو حزب.
ثانيا: من خصائص هذه الدعوة أنها منذ نشأت وقد مضى عليها الآن خمسة عشر عاما عاصرت فيها مختلف الهيئات والحكومات لم تنحدر يوما من الأيام إلى المزالق السياسية ولم تتلون بالألوان الحزبية ولم تتورط في المنافع الشخصية ولم تخضع لهيمنة عظيم من العظماء أو سلطان وجيه من الوجهاء، ولم تعمل ساعة من نهار لحساب شخص أو هيئة أو حزب أو دولة ... إلخ ..

وهكذا كان رد الإخوان على مهادنة الوفد التي أشار إليها الدكتور رمضان في مقاله الأخير!! والتي بنى عليها دعواه أن مواقف الإخوان السياسية كانت عبارة عن ردود أفعال لموقف القصر والسعديين اللذين لم يغفرا للإخوان مهادنتهما للوفد فأسقط أحمد ماهر البنا ومعه خمسة من زملائه في الانتخابات التي أجراها عند توليه الوزارة فكان هذا أول تحدٍّ للجماعة!

وأن الجماعة قابلت هذا التحدي بإعلان معارضتها لأحمد ماهر في قراره إعلان الحرب على المحور وكتبوا له ينصحونه بالعدول عن ذلك .. وأحسب أنت تصوير الدكتور لمواقف الإخوان السياسية بأنها ليست سوى ردود فعل لمواجهات الأحزاب لها التحدي .. قول يعوزه الإنصاف.

لقد شجب الوفد والحزب الوطني والإخوان موقف أحمد ماهر من إعلانه الحرب على المحور ولم يقل أحد أن ذلك كان رد فعل لتحدي الحزب السعدي لهم فلماذا يصور الدكتور موقف الإخوان بأنه كان ردا لتحدي أحمد ماهر بسبب إسقاطه البنا ومن معه من المرشحين.

وكتب الدكتور في نهاية مقاله تحت عنوان "نحو بحر هائج" يصف ما يدعيه من سيطرة المد الفاشي الذي كانت جماعة الإخوان أحد روافده في الثلاثينات فقال: "إنه يعزو هذا المد إلى إقفار ساحة العمل الشيوعي تحت عوامل الخيانة وتتبع البوليس لنشاطهم"

ثم يستطرد قائلا:

"ولكن ظروف الحرب هيأت الفرصة لحركة شيوعية عارمة تمتاز بغلبة العنصر الوطني بعد أن استبعدت ظروف الحرب العناصر الأجنبية فمثلت هذه الحركة الشيوعية لدى الإخوان ما كان يمثله معسكر الإلحاد والإباحية عند نشأة الجماعة".

ولا أملك حيال حديثه عن هذا المد الفاشي الذي كان الإخوان أحد روافده كما يقول إلا أن أؤكد وصفي السابق لانتماءات الدكتور الفكرية في جنوحها إلى الماركسية في ثوب الوفد الفضفاض.

فهو يرى أن قصور المد الشيوعي في الثلاثينات إنما يرجع إلى خيانة المنتمين إلى الشيوعيين فضلا عن تعقب البوليس للحركة الشيوعية وتعبير "الخيانة" الوارد هنا ينبئك بتصورات الدكتور حيال الحركة الشيوعية التي زرعها وثبت قوائمها العميل هنري كوريل المليونير الشيوعي في مصر!

وبدت ثمارها في الأربعينات، فرأى الدكتور أن معوقات هذه الحركة لا ترجع إلى طبيعة الرفض النفسي والفكري في الشعب المصري ولكن ترجع إلى خيانة الوطنيين للعملاء أمثال هنري كوريل وغيره!!، وأن مقاومة الإخوان للشيوعية في مصر لا تستحق أن توصف عنده إلا بأنها "مقاومة فاشية".

ولا يفتأ الدكتور رمضان يطمئن خاطر القارئ أن هذه الحركة الشيوعية "النامية" في الأربعينات قد أصبحت حركة وطنية خالصة امتازت بغلبة العنصر الوطني بعد أن استبعدت ظروف الحرب العناصر "الأجنبية".

ونتساءل بدورنا عما يعنيه الدكتور رمضان من استبعاد "العناصر الأجنبية" بسبب ظروف الحرب هل يعني ذلك أن هذه الحركة أصبحت لا تمت بصلة الانتساب إلى المضمون الماركسي؟!

ويحسن في هذا المجال أن أجيب الدكتور بفقرات من خطاب حسن البنا الذي أرسله إلى النحاس باشا يوضح له هذا الأمر:

"إن الوفد في أيامه الأخيرة قد تخللت صفوفه طوائف وأفواج من ذوي الآراء الخطيرة والمبادئ الهدامة الذين لا يدينون بغير الشيوعية مذهبا ولا يؤمنون بغير موسكو قيادة وتوجيها، وقد رأوا في الوفد الذي يعوزه الدم الجديد والمنهاج الجديد خير ستار يعملون خلفه ويمثلون ما يريدون من مهازل على مسرحه ..

ونظرة دقيقة واحدة من رفعتك إلى حضرات المحررين في "صوت الأمة" وفي "رابطة الشباب" أو "الطليعة الوفدية" وفي هيئة تحرير "الحوادث" و "الجماهير" وفي ممثلي الطلاب الوفديين في المدارس والمعاهد يكشف لك عن أن هؤلاء جميعا ليس فيهم من الوفدية إلا اسمها ...

وإني لأستكثر أن تسمح وطنية رجال الجرائم المهلكة إلى عقول شباب هذه الأمة الأبرياء وتسمهم نفوسهم بهذه الآراء حتى لقد تعالى الهتاف في بعض المدارس "الشيوعية فوق الإسلام"

فهل يعتبر الدكتور "المسلم" منصفا إذا لام الإخوان المسلمين لمواجهتهم هذه الحركة "النامية" (كما سماها) لأنها مثلت لديهم "فعلا" معسكر الإلحاد والإباحية، حتى لا يتورع عن وصفهم بأنهم "أحد روافد المد الفاشي" في هذه الحقبة من التاريخ.

وأخيرا:

أختتم حديثي هذا بالقول بأنه في المناسبات المتعددة، بل وفي كل الأوقات التي ظن الناس فيها أن علاقات الإخوان "بالبعض" تمثل في وقت ما أصفى ساعات القرب، وفي وقت آخر أقسى مرارات الفرقة؛
فإن التاريخ قد سجل في خطابات المرشد للقصر ولجميع الأحزاب السياسية ما يؤكد دواما هذه الحقيقة الجديرة بالاعتبار، وهي أن الإخوان المسلمين ظلوا يستقبلون مودة الطامعين وعداء الشانئين بفطنة المؤمن وكياسة اللبيب متجنبة في مسيرتها أشواك القرب والبعد على السواء؛
حتى حققت لهذه المسيرة في كل الظروف خلوص القبلة وصدق الوجهة وشرف الانتساب إلى الله، مدركة أن كل ما ينالها من تشهير بها أو بقادتها أمر صغير في جانب الله.

المقال الرابع لصلاح شادي "صلاح شادي يرد على د. عبد العظيم رمضان"

(الوطن في 24 نوفمبر 1980)

لا أحسبني في حاجة إلى رد مفصل على ما جاء في حديث الدكتور رمضان المنشور يوم الإثنين 17 نوفمبر الماضي في جريدة الوطن ... ولكني سأحاول إيقاف القارئ على بعض الحقائق المشوهة، ومناقضة البعض الآخر للقضايا المنطقية التي يلزم ألا يتردى فيها "الكاتب" فضلا عن هؤلاء الذين يدونون تاريخ أمتهم.

ولكن لا يفوتني شكره على "نواياه" ككاتب سياسي في دفاعه عن جماعة الإخوان المسلمين الذي أورده في الصحف كما يقول حيث يروي في هذا العدد

"أنه لا يوجد قلم من خارج الإخوان دافع عن حقهم في ممارسة حياتهم السياسية كما دافع هذا القلم الضعيف، ومقالاتي في هذا الشأن في جريدة الجمهورية وغيرها "شاهد حي" يمكن الرجوع إليه".

في الواقع لم يكن لي حظ الاطلاع على هذه المقالات لإدراك مدى موضوعيتها فضلا عن "نواياه" فيها

ولكن

ما قرأته يوم الإثنين الماضي حول دفاعه عن "نوايا" حسن البنا التي رآها أشرف المقاصد والنوايا واعتبرها "حقيقة تاريخية لا يجادل فيها إلا مكابر" وبين ماانتهت إليه مناقشته لهذه "النوايا" يجعلني أتوخى الحذر فيما قاله "دفاعا عن حق الإخوان في ممارسة حياتهم السياسية"

كما يقول:

يقول الدكتور رمضان في معرض حديثه عن "الديمقراطية" لدى الإخوان المسلمين
" أن الدراسة التاريخية هكذا! .. وبهذه الصورة المغماة أثبتت أن الإخوان المسلمين لم يقفوا إلى جانب الديمقراطية وأن عليهم أن يستفيدوا من أخطائهم في إشاعة الديمقراطية في صفوفهم ومساندة الديمقراطية في كل مكان، بدلا من أن يشرعوا أقلامهم ويشهروا أسلحة الهجوم والاتهامات"

وإذن ...

فعلى الإخوان المسلمين أن يطأطئوا هاماتهم لصوت التاريخ الذي يمثله لنا الدكتور رمضان وحده.وليس لهم أن يروا رأيا "في أنفسهم" يخالف رأي الدكتور حتى إذا ناقضت الحقائق رأيه الذي يعتبر لديه حكم "التاريخ" والذي "له وحده" حق إبرامه حتى إذا خالف غيره من المؤرخين.
وهو إذ يقدم هذا الرأي يستدل عليه بالقول بأنه
"بعد أن فقد "البنا" إيمانه بالوسائل الدستورية والحكومات البرلمانية انتقل إلى وسيلة العنف وتمثل ذلك في هجومه على النظام البرلماني وتطويره لفرقه العسكرية ".

لا يسعفني في الرد على قوله هذا، إلا أن أضعه أمام الحقائق الآتية:

لقد نشأت جماعة "الإخوان المسلمون" سنة 1927م وتقدم البنا لترشيح نفسه إلى عضوية مجلس النواب في سنة 1942 ورفض النحاس باشا ترشيحه على النحو الذي سقناه في أول ردنا على المقال الأول للدكتور حين قلت إن النحاس باشا صارح البنا بأنه أمام تبليغ من الإنجليز إما بالتنازل عن الترشيح وإما إعلان الحرب على الإخوان بكل وسيلة، ورجاه أن يتنازل .

ومع ذلك فقد حرص الأستاذ أن يكون تنازله لقاء إلغاء الدعارة ومنع الخمور وترك الحرية للجماعة لممارسة نشاطها العام فهل يعتبر معنى ذلك عند الدكتور رمضان أن حسن البنا فقد إيمانه بالوسائل الدستورية؟ أم يقول إن رئيس حزب الوفد هو الذي فقدها ...؟!

وفي سنة 1945 رشح الإمام البنا نفسه مرة ثانية في وزارة أحمد ماهر التي أجرى فيها الانتخابات البرلمانية بعد حل المجلس وعمد بوسائله "المزورة" إلى إسقاط البنا والخمسة الذين رشحوا أنفسهم معه.

ولهذا نقول إنه منذ نشأت الدعوة سنة 1927 حتى سنة 1945 أي قبل استشهاد الإمام البنا بأربع سنوات فقد ظلت تصرفاته تؤكد التزامه بمفهوم الشوري مدة ثمانية عشر عاما من عمره وعمر دعوة الإخوان المسلمين وحتى بعد سقوطه في هذه الانتخابات المزورة، الأمر الذي كان من الممكن أن يدعوه إلى نبذها كوسيلة تحقق هدفه؛

نراه يحادث الإخوان المسلمين فيقول:

"إن الدستور المصري بروحه وأحكامه العامة من حيث الشوري وتقرير سلطة الأمة وكفالة الحريات لا يتناقض مع القرآن ولا يصطدم بقواعده وتعاليمه وبخاصة وقد نص فيه على أن دين الدولة الرسمي هو الإسلام، وإذا كان فيه من المواد ما يحتاج إلى تعديل أو نضوج، فقد نص الدستور نفسه على أن ذلك التعديل والنضوج من حق النواب بطريقة قانونية مرسومة، فتكون النيابة البرلمانية حينئذ هي الوسيلة المثلى لتحقيق هدف الإخوان من قولهم "القرآن دستورنا".

فمتى بدا للدكتور من حسن البنا، قول وفعل .. فقد فيه إيمانه بالوسائل الدستورية؟!أما دعواه المكرورة بأن تطوير النظام الخاص يعتبر دليلا على عدم إيمان البنا بالمبادئ الدستورية فقد أوردنا في مقالنا السابق ما قرره أحد خمسة أشخاص أنشأوا النظام الخاص بأهداف هذا النظام، كما لقنها لهم حسن البنا رحمه الله، كانت حرب اليهود في فلسطين وإخراج الإنجليز من مصر ...

وأن استدلاله بقتل النقراشي سهم طائش رد عليه مؤرخ مثله، في رسالة الدكتوراه التي حازها بمرتبة الشرف بامتياز وهو الدكتور زكريا سليمان بيومي كما ناقضه حكم القضاء الذي "أدهش" الدكتور أنى ألزمه به كمؤرخ.

فإذا استعلى الدكتور رمضان على القضاء بدون مناقشة جوهر حكمه متصورا أن مهنة المؤرخ أعلى شأوا من أن يستوقفها حكم القضاء، وإن أصدره ثلاثة مستشارين.

واستعلى كذلك في حكمه على أن يستوقفه رأي مؤرخ مثله ... فمن تراه يكون بعد ذلك.من حسن الحظ أن الدكتور لم ينكر بعد مشكورا علمه بأن الوحي قد انقطع من السماء.وكنت أحسب أن حكم الحقائق إذا غاب عن الدكتور فلا يجب أن يغيب عن حكم المنطق.

فهو في غمرة "إلحاحه" على التدليل بأن النظام الخاص إنما نشأ لإسقاط الحكومات يقدم لنا هذه القضية بصورة مذهلة حين يقول:

"إن علينا أن نختار بين طريقين فإما أن ننكر إنكارا باتا بأنه كان للإخوان تنظيم سري باسم النظام الخاص وفي هذه الحالة نكون قد نفينا تماما فكرة العنف عن الإخوان، وإما أن نعترف بوجود هذا التنظيم السري وفي هذه الحالة نعترف ضمنا بوجود فكرة العنف.

أليس هذا في منطق الجدل هو المصادرة على المطلوب؟!ومن جهة أخرى أليس هذا هو الإرهاب الفكري بعينه الذي يتهمنا به الدكتور؟!لقد قرأنا للدكتور في مقاله الثاني اتهامه للإخوان أنهم لم يتورطوا في معاركهم ضد الإنجليز بل وامتنعوا عن القيام بأي نشاط ضدهم!!

فما هو الأسلوب الذي كان يراه لتحقيق هذا النشاط وإظهاره إلى الوجود في وقت تتواطأ فيه الحكومات جميعا بما فيها الوفد وحكومة الأقليات، مع المستعمر.

ما هي الصورة التي كان من الممكن أن يتحقق بها أمله في مواجهة الوجود الإنجليزي غير نهوض الشباب بهذا التدريب الخاص على استعمال السلاح وكل وسائل القتال الحديثة وكيف يتم في علانية بينما أنف الإنجليز في كل مرفق من مرافق الدولة؟!

ولقد واجهنا تهمته هذه في مقالنا الثاني بالقول بأن الإخوان واجهوا الإنجليز في كثير من الحوادث بعضها عرف وبعضها لم يعرف! وذكرت له أمثلة في هذا الشأن.

فكيف كان يتسنى لهم ذلك إلا من خلال جهاز خاص يخفي على الحكومة وجوده فضلا عن معرفة أشخاصه وأسلحتهم وتدريباتهم إلا ما تكشفه الأحداث رغما عنهم.

ومن جهة أخرى تقرأ للدكتور رمضان في مقاله المنشور في جريدة الهدف، تحت عنوان "قضية فلسطين" قوله:

"وقضية فلسطين هي شعار حقيقي بالنسبة للإخوان ولكنها ستار مزيف بالنسبة لحكومة صدقي باشا والنقراشي باشا التي خلفتها بمعنى أن هذه القضية كانت تقدم بالنسبة لشباب الإخوان محورا إسلاميا مثاليا يستقطب اهتمامهم ومجالا حقيقيا للجهاد تفرغ فيه شحنة حماستهم ولا يستطيع أحد أن ينكر إخلاص شباب الإخوان المسلمين لقضية فلسطين وضغطهم على قيادتهم للسماح لهم بالجهاد في فلسطين" وهذا كلام الدكتور وليس كلامي.

ثم ... يستدرك آخر الأمر فيقول:

"إن التدريب على السلاح وإعداد شباب النظام الخاص كان سابق على ظهور مشكلة فلسطين".

وإذا سلم الدكتور رمضان أن قضية فلسطين كانت شعارا حقيقيا بالنسبة للإخوان وستارا مزيفا بالنسبة للحكومة، فكيف يتسنى للإخوان تحقيق شعارهم هذا إلا بمعزل عن الحكومة، في ستر وخصوصية تمنع من البطش بهم إذا أراد الإنجليز ذلك.

أما قول الدكتور إن التدريب على السلاح وإعداد شباب النظام الخاص كان سابقا على ظهور مشكلة فلسطين فقول يثير الدهشة عما يعنيه الدكتور فعلا الاستدراك، فمن الثابت أن دكتورنا المؤرخ لا شك يعلم أن قضية فلسطين وجدت قبل قيام جماعة الإخوان المسلمين نفسها؛

وإذا كان النظام الخاص أنشئ سنة 1940 فإن معارك المسلمين في فلسطين كانت سنة 1923 وأحداث سنة 1933 التي قتل فيها الكثير من المسلمين في فلسطين والتي اعتقل فيها جمال الحسيني كانت عنوانا على عمق المشاعر الإسلامية ضد إقرار سياسة الوطن القومي اليهودي.

فهلا كان هذا الإعداد المستور للنظام الخاص في مدافعة كلا الجانبين الإنجليز في مصر واليهود في فلسطين سببا في عدم العلانية التي جعلها الدكتور أساسا في حكمه على النظام الخاص بأن سريته كانت لإسقاط الحكومات بالعنف؟!

وأخيرا ...

أختتم ردي على مقاله الأسبق بما رواه من أنه يتوخى عرض صورة الإخوان المسلمين بالطريقة التي تخيفهم من أنفسهم من أخطائهم ليستفيدوا من هذه الأخطاء في تصويب خطواتهم

ثم يستطرد فيقول:

"لقد دفع الأستاذ صلاح شادي ثمنا فادحا لهذه الأخطاء يتمثل في عشرين عاما من عمره قضاها في السجن".
وإني لأشكر الدكتور المؤرخ على حسن قصده فيما توخاه من إخافة الإخوان المسلمين من أنفسهم ولكني لا أنسى في غمرة هذا الشعور "بالجميل" أن أذكره أن رسالة المؤرخ تفقد موضوعيتها إذا توخى شيئا آخر غير استنباط الحقائق من وراء الأحداث.
وأشكره ثانيا على عواطفه نحوي حين يقرر أسفه لأني دفعت من عمري عشرين عاما ثمنا لهذه الأخطاء.
لقد دفعت حقا من عمري عشرين عاما ولكنا كانت بسبب خطئك أنت يا سيدي وخطأ كل فرد في الشعب عجز أن يقول كلمة "لا" لعبد الناصر حتى من شاركه في الحكم عجز أن يقول هذه الكلمة، حتى استحال الشعب إلى "مساخيط" يمشون إلى جوار الحائط، يتسولون حقهم في الحياة في الرزق في الشعور بالأمن والكرامة الذي أفقدهم إياه "زوار الليل" من خدام عبد الناصر وسدنته .. الأمر الذي أفصح عنه السادات في كتابه "البحث عن الذات" ص 289 بهذا الوصف المرير.

وبعد وفاة عبد الناصر فقط أقيمت المآتم وعقدت حفلات التأبين والبكاء على الحرية الضائعة وشرف الأمة المثلوم وكرامتها المهدرة.

ولقد أدخل الإخوان السجون والمعتقلات لأنهم قالو "لا" لمعاهدة عبد الناصر مع الإنجليز، لا بسبب رصاصات "المنشية" المزيفة التي ما زالت سطورك يا سيدي الدكتور المنشورة في روز اليوسف في العدد 2734 تشير في "نبض حي" إلى أنها حادثة مختلفة مزورة.

وإنك لا شك ترى معي أن معاهدة عبد الناصر لم تكن أفضل من معاهدة 36 التي أبرمها النحاس وألغاها بعد ذلك في وزارته التي أقالها الملك بعد حريق القاهرة في يناير 1952.

ولا شك أن الشيوعيين كانوا يشاركونك أيضا هذا الرأي ولكن لم نسمع لك ولا لهم صوتا في هذه السقطة من عبد الناصر، وإن سمعنا بدلا منها دوي التصفيق والهتاف لبطل الحياد وعدم الانحياز.

وأخيرا ..

اكتفي بهذا القدر، لأعود في القريب، إن شاء الله، لأناقش ما ساقه الدكتور رمضان في مقال الخميس الماضي في جريدة الهدف عن علاقة حسن البنا بالقصر ... والله ولي التوفيق. ( )

المقال الخامس لصلاح شادي الثورة ليست وسيلة الإخوان في التغير

(الوطن في 3 ديسمبر 1980)

قرأت مقال الدكتور عبد العظيم رمضان الأخير في رده على مقالي الثاني ولمست قلبي وعقلي منه أمور من الإنصاف أن أبسطها للقارئ، فقد أحزنه مني بعض عبارات أدرك فيها أني نلت من شخصه بأكثر مما نلت من فكره وربما حملت عباراتي شيئا كهذا لم أقصده في الوقت الذي أعتبر نفسي مسئولا بين يدي الله عن الكلمة تصدر مني، تجمع ولا تفرق، تصوب ولا تصيب، تشرح ولا تقدح ...

وللدكتور الحق، أن ينتصف مني كما شاء في الأمور التي اعتبرها تمس شخصه فهو عندي ما زال كما كان من قبل في موضعه من التقدير ولا أنكر أن كتابات الدكتور قد ساءتني وما زالت، لا لحق فيها أحاول إنكاره ..

ولكن ما تعلق فيها بأهداف جماعة الإخوان المسلمين في طرد الإنجليز وسلوكهم الجهادي في هذا الصدد الذي أنكره الدكتور رمضان بعبارات لم أسمعها إلا من سلطات التحقيق والاتهام في المحاكم التي كانت تملي على قضاتها الأحكام قبل أن تعقد أولى جلساتها لتنتهي أخيرا بصدور حكم الإعدام.

وما كان يضيرنا من قبل أن نحاكم أمام محاكم عادلة بل كانت هذه مطالبنا ... كما لا يضيرنا اليوم أيضا أن نحاكم أمام التاريخ محاكمة عادلة فهذه أيضا مطالبنا.

أما أن يدعي البعض أن "الأحداث المتعلقة بجماعة الإخوان المسلمين قد نضجت في "رحم" التاريخ وخرجت إلى عالم الفكر "حكما" سويا ..." بعد هذه الفترة من التعتيم والإظلام الإعلامي التي أظلت حكم فاروق وحكم عبد الناصر ... فأمر يثير الرثاء حقا.

ولقد كتب أغلب المؤرخين المعاصرين تاريخ جماعة "الإخوان المسلمين" في "غيبتهم" وأحبوا لأنفسهم أن يأكلوا لحكما "ميتا" ولم يكرهوا أن يقدموا للناس غذاء عفنا كريه الطعم واللون والرائحة بدعوى أن هذه هي جماعة الإخوان المسلمين.

لعل وقفة منصفة بيننا وبين الدكتور رمضان ينطلق فيها فكره بعيدا عما دونه كتاب الشرق والغرب، يرى فيها واقع الإخوان المسلمين الحقيقي ويبصر دوافع تحركهم، انطلاقا من الخصائص الصحيحة للإسلام ليحاكم عليها هو أو غيره إن شاء ومن واقع آمالهم التي تحدو مسارهم عبر أحكام الشرع التي تربط علاقاتهم بالناس ...

كل هذا يمكن أن يعطي للدكتور بعدا جديدا في تكوين تصوره لهذه الجماعة ورجالها بالإضافة إلى الكثير من المعلومات التي لدى الأحياء من أفرادها والتي ربما شكل علمها لدى الدكتور فهما جديدا، لا أدعوه إلى الاقتناع به، وإنما أدعوه فقط إلى رصده وتقييمه.

ومن جهة أخرى أدعو نفسي ومن يقرأ حديثي إلى مقام التجرد الذي ندبنا إليه الدكتور رمضان، وأنزل نفسه عليه بعيدا عن أي منطلق فكري أو حزبي جرى في خاطرنا أنه يحمله ... فذلك أدعى إلى نقد آرائه بالصورة التي يحبها والوضع الذي نأمله ... وحسن الظن الذي يدعونا إليه الإسلام.

وليعذرني الدكتور رمضان، فيما ساءه من مقالي بما عذرني به الحق تبارك وتعالى في قوله "لا يحب الله الجهر بالسوء من القول إلا من ظلم، وكان الله سميعا عليما".

ولقد ظلمت جماعة الإخوان المسلمين في ماضيها وحاضرها وظلم أفرادها، وأطلقوا عليها وعلى رجالها النعوت والصفات، وأغلقت الصحف أبوابها دونهم لتحول بينهم وبين الدفاع عن أنفسهم، وبهر الظالمون بقدرتهم عليها، كما بهروا بعد ذلك بما رأوا من سنة الله في صحوها بعد ظنهم التعس أنهم أدوها وأهالوا عليها التراب ولكن ما زالت آيات الله تترى "إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون".

ولعل جريدة "الوطن" الغراء هي أول صحيفة في الشرق الأوسط للإخوان المسلمين بدون تحريف دفاعهم عن أنفسهم وعن فهمهم لدينهم .. ورسالتهم التي يدينون الله عليها، في حرية جديرة بالشكر والإكبار.

وأعود إلى الرد على مقال الدكتور عبد العظيم رمضان.

الذي أثار دهشتي من مقاله، علامات الاستفهام التي ما زالت تواكب تصوره لأهداف النظام الخاص، وإن زادت احتمالاته الساخرة هذه المرة حين تساءل " وهل أنشئ النظام للزينة، أم لمجرد التأثير السياسي، أم لمجرد حماية الإخوان أنفسهم من السلطة أم لإقامة حكومة إسلامية؟ واحتمالات كثيرة أخرى، ليس من بينها طبعا إخراج الإنكليز.

وهو في هذه المحاولة يرد كل دليل مما قدمته في هذا الصدد، ليدحض انطلاقه من خط الجماعة وأعني بذلك الأحداث التي سقتها على سبيل المثال لا الحصر، وأضاف إليها الدكتور حوادث أخرى في الإسكندرية من حيث لا يدري؛

فيما رواه في جريدة الهدف يوم الخميس بارتكاب الإخوان أربعة حوادث أخرى ضد الجنود البريطانيين في أسبوع واحد أسفرت عن إصابة 128 شخصا وقبض على أحد عشر متهما اتضح بعد ذلك أنهم من جماعة الإخوان المسلمين!!

وادعى أنها كلها حوادث فردية بعيدة عن سياسة الجماعة وتخطيطها، حتى الحادث الذي ساقه هو أخيرا تحول تحت قلم الدكتور إلى حادث ضغط فيه على البنا من جانب شباب النظام الخاص ليسمح لهم بالقيام به.

لماذا؟! لست أدري، خاصة وقد ابتعدنا اليوم عن اتهام النوايا، أما حادث قتل النقراشي فهو عند الدكتور من صلب سياسة الجماعة مهما نفى ذلك حسن البنا، ولا تأخذه في هذا الاعتقاد لومة لائم.

إن حكم التاريخ الذي يتحدث الدكتور رمضان باسمه، لا يكون منصفا إذا وزنت فيه الأحداث بوزنين، وأخضعها المؤرخ لفكر يعتقده أو تصور يملك لبه، وإنما يتحقق السمت الصحيح للمؤرخ إذا جعل الأحداث وحدها هي التي تكون رأيه وتبلوره، أما أن يبدأ قضيته برأي أو بفهم معين يحاول متعسفا فرضه أو إغفال حقيقة تعارض ظنه، فهذا هو الحكم البعيد عن الحق والنصفة.

ولذلك كنت آمل أن أرى للدكتور رمضان "وقفة منصفة" حيال الأحداث التي سقتها إليه على سبيل المثال، ولا يطالبني بإثبات انطلاقها من خط الجماعة وإنما يطالب نفسه ببحثها، فهو أولى بها مني ما دام يكتب للتاريخ وما دام قد وضع نفسه بعيدا عن موطن الخصومة وفي برج التاريخ السامق الذي يحكم ولا يحكم.

وليس هذا فحسب هو ما أطالب به الدكتور رمضان، وإنما أطالبه أيضا بمحاولة فهم رسالة الإسلام التي دعا إليها حسن البنا، ليطابق بين سلوكه وسلوك أتباعه وبين ما يدعون إليه .. ثم يحكم بعد ذلك لهم أو عليهم.

إن الخلاف بيننا يا دكتور رمضان، ليس ناشئا من اختلاف موقعينا من القضية المعروضة ... وإنما هو كامن في الأساس الذي نتحاكم إليه، ونرد إليه الأمور.

فمثلا ... بينما نراه يقدح فكره لتبين أهداف النظام هل كان لقلب الحكم أم لإقامة حكومة إسلامية أم لإخافة الحكام، أم للدفاع عن أنفسنا أم للزينة كما يدعي، أراه لم يشغل باله بحقيقة أصيلة في آيات الله جعلها الإخوان المسلمون شعارهم ووضعوها على صدورهم في "شارة" مصور عليها مصحف وسيفان ومدون على هذه "الشارة" كلمة "وأعدوا" ... تذكيرا بالآية الكريمة "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة ومن رباط الخيل ترهبون به عدو الله وعدوكم وآخرين من دونهم لا تعلمونهم الله يعلمهم".

إن القوة في النظام الإسلامي مطلب مقصود لذاته، مهما تحقق للأمة استقلالها وحتى لو أظلها حكم الإسلام، لظل التدريب على الأسلحة والتجمع لبذل المعروف وإنكار المنكر بشرائطه الشرعية واجبا تنهض به وله همم المسلمين ويسعى كل مسلم صادق لتحقيقه في نفسه ودعوة الناس إليه وحضهم عليه، والمؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف ...

ولا يزال رسول الله صلى الله عليه وسلم يشرح للناس معنى القوة الوارد في الآية "وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة" فيقول ألا وإن القوة "الرمي" ويكررها ثلاث مرات ثم لا يلبث أن يجعل الرمي عبادة فيقول "من تعلم الرمي ثم تركه فقد عصاني".

وهكذا يصبح التدريب على السلاح وتنشئة النفس على مشاق الحياة بالرحلات ونحوها، هدفا يطلب لذاته ويظل الفرد عاكفا عليه لحفظ معنى الرجولة فيه وعدم عصيان اله بنسيانه.

وإذن فدعوة البنا للقوة في مظاهر تنظيماته المختلفة لا تعني بالضرورة التخريب وقلب أنظمة الحكم، ولقد نجح الاحتلال البريطاني وأعوانه من الحكام المصريين في تركيز مفهوم خاطئ في عقل الشعب ووجدانه مضى به إلى الاعتقاد بأن استكمال عدة القوة جريمة، لأنها تمثل لدى الاحتلال البريطاني وأذنابه مواجهة تسقط معها حيله وألاعيبه التي بدأت منذ أن سمى وجوده في البلاد التي يحتلها "استمعار"

بينما هو في الحقيقة تخريب لطاقات الأمة ورجولة شبابها وإضاعة لثرواتها وكرامتها وحريتها، فإذا جاء حسن البنا ليقدم لهذا الشعب المقهور معنى جديدا من كتاب الله يغسل به ما تراكم من ذل الاستعباد في النفوس، فأقام الفرد على عقيدة التوحيد ليستكمل بها عدته من مدد السماء ..

ودعاهم إلى تكوين أمة تستظل بشريعة القرآن لتحفظ لنفسها القوة والمنعة ودعا الحكومات بعد ذلك إلى توحيد قوتها تحت راية الخلافة الإسلامية فلا يتصور أن يكون منزعه في هذا الصدد مظهرا من مظاهر العنف أو صورة من صور الاستعلاء بالقوة على الحق أو إبراز العضلات لوأد معنى الحرية في الناس، أو حملهم بالإكراه على التبعية للجماعة وإذا جرى في مخيلة أحد هذا الظن فقد جانب به الحق والصواب.

وقد سبق أن أوضحت للقراء في مقالي الأول كيف يفهم الإخوان المسلمون القوة وكيف يستخدمونها وينبذون الثورة بكل صورها ولا يستخدمونها لإقامة الحكومة الإسلامية كما تساءل الدكتور وإنما تنطلق قوتهم لدفع المنكر الذي أمر الله بدفعه بكل الصور الشرعية لهذا الدفع، باليد أو باللسان أو بالقلب حسب قدرة الدافع ...

وكذلك الأمر بالمعروف بكل صورة مهما لحق الآمر ... فأعظم الجهاد عند الله كلمة حق عند سلطان جائر .. ولقد قالها الإخوان المسلمون لعبد الناصر وأعدم منهم من أعدم ولبث البعض جل أعمارهم في السجون يتجرعون غصة الظلم والعذاب "وما بدلوا تبديلا" .. وهذه أيضا إحدى صور القوة التي علمهم إياها حسن البنا ونبذها الدكتور رمضان وجعلها إحدى خطاياهم.

ولهذا دعوت الدكتور رمضان أن يبعد عن نفسه هذه الغلالات السوداء التي أحاطتنا بها وسائل الإعلام في الماضي والحاضر، ثم يقيم سلوكنا بعد ذلك على ضوء الإسلام.

فإذا عدنا بعد ذلك إلى الطواف حول مناقشة الدكتور في ردي على دعواه بمهادنة الإخوان المسلمين للإنكليز رأيناه يدفع الأحداث التي سقتها على سبيل المثال بدعوى أن ثلاث حوادث فقط لا تشكل منهاجا لجماعة الإخوان المسلمين لإخراج الإنكليز؛

في الوقت لاذي ما زال يرى أن مظاهرة "إلى الأمام يا روميل" تشكل عنده منهاجا لإخراجهم، حتى بدا له أن اعترافي بعدم مشاركة الإخوان فيها دليل على القعود، فنراه يقول في رده الأخير ما نصه "كذلك لم ينكر الأستاذ صلاح شادي ما قلناه من أن الإخوان المسلمين لم يشتركوا في مظاهرات إلى الأمام يا روميل، ضد الإنكليز".

وإذن ...

فهو ما زال يعتقد حتى الآن إدانة الإخوان المسلمين لعدم اشتراكهم في هذه المظاهرة، وإلا لما استدل بها في هذا السياق.

ثم ... تزداد الأمور تعقيدا هذه المرة ... وتتطاول الدهشة حتى تصل إلى الاستنكار حين نراه يردف هذا السياق بالقول بأني (أي صلاح شادي) أعرف من قراءتي لكتبه، وخاصة كتاب تطور الحركة الوطنية، إنه أدان هذه المظاهرة ونسبها إلى العناصر الموالية للألمان في القصر الملكي، ومجموعة علي ماهر بالذات.

ولا أملك إلا أن أتساءل للمرة الثانية لماذا يستدل بها إذن في هذا المجال ويتهم الإخوان بالقعود عن مواجهة الإنكليز.والأعجب من كل هذا أن تقرأ في كتابه، تطور الحركة الوطنية، ما رواه عن النحاس باشا بأنه يدين الإنكليز بأنهم هم الذين صنعوا هذه المظاهرة.

ولا تزال براهين الدكتور تتناقض ويضرب بعضها بعضا، حتى يقول إن أحمد حسين رئيس حزب مصر الفتاة دعا الأستاذ البنا إلى تفجير ثورة شعبية ضد الإنكليز فرفض قائلا "إننا لا نبحث عن مغامرة قد تخيب وتفشل"

ويعلق الدكتور رمضان على ذلك بقوله

"وأنا لا أدين موقف الشيخ البنا، فقد كان أحرص على الدعوة وعلى هدفه الاستراتيجي من أن يجهض في مغامرة كانت كل الدلائل تشير إلى فشلها نظرا لأحكام قبضة الإنكليز على مصر في هذا الحين".

فإذا كان رأي الدكتور أن تفجير ثورة شعبية أمر لا جدوى منه في هذه الظروف، فماذا بقي للمجاهد أن يفعله إلا العمليات الفدائية التي قام بها الإخوان في هذا الوقت؟! ..

بل وبعد هذا الوقت، حتى شهدت معارك السويس بعد استشهاد الإمام البنا ما يعتبر امتدادا طبيعيا لسياسته في هذا الصدد بعد أن حمل أمانة الجهاد خلفه، المرشد حسن الهضيبي فجرى على هديه وسطرت بطولات الإخوان في هذه المعارك ما أعجز الإنكليز إنكاره.

ومع ذلك ... يظل الدكتور رمضان حائرا في تصوراته ومغاليا في إصراره حتى يقول:

"لقد خاض الإخوان المسلمون حقا معركة فلسطين سنة 1947، 1948 ولكن أحدا لا يستطيع الادعاء بأن هذا الغرض كان من وراء إنشائهم لجيشهم العلني والسري، وإلا لأخبرنا بذلك الأستاذ صلاح شادي، ولأخبرنا من قبل المرحوم الشيخ حسن البنا".

ولست أدري ما يعنيه الدكتور بهذا الاستدلال؟!هل كان يفيد الدكتور في هذا الصدد أن يعلن البنا في صفحات الجرائد والمجلات أو في كتابه "الدعوة والداعية" إنه أنشأ نظاما خاصا غرضه قتل الإنكليز وإخراج الصهاينة من فلسطين.

بماذا تفيد الدكتور رمضان هذه العبارة إذا أعجزه أن يرد الفضل لأهله حين أشاد ببسالة الإخوان في مرابطتهم في "صور باهر" وفي بيت لحم وعلى مشارف القدس وحين اقتحموا (رامات راحيل) ونسفوا مستعمرة (ديروم) واشتركوا في معارك (عسلوج) وحاصروا (المسنة) و(بيرون إسحاق) واستشهد منهم قرابة المائة وأسر بعضهم وكانوا مثل البسالة والاستشهاد.وأنا أنقل ذلك من مقال الدكتور في جريدة الهدف.

أما بالنسبة للحجة التي أقامها على فأقول إني أوردت في المقال الثالث أغراض إنشاء النظام الخاص بشهادة أحد خمسة رجال أنشأوا هذا النظام بتكليف الإمامحسن البنا، وأعلمهم بهدفه من هذا التكوين وهو عين ما ذكرته؛

وعاتبت الدكتور لأنه لم يحفل وهو يكتب تاريخ جماعة الإخوان بقراءة ما كتبه رجالها المسئولون عنها وأعيده اليوم إلى ما ندبناه إليه بالأمس في صفحة 258 ، 259 ، 260 من كتاب الأستاذ محمود عبد الحليم "الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ" ويمكنه أن يقرأ في هذه الصفحات كيف دعا حسن البنا إلى إنشاء هذا النظام، وما هي أهدافه وأسلوب التربية فيه.

ولكن الدكتور رمضان لا يأخذ هنا تصوره لجماعة الإخوان إلا بما يؤكد ظنونه ثم يأخذ بعد ذلك أغلب تصوراته من ميتشيل وكيرك وغيرهما من مؤرخي الشرق والغرب.

وأخيرا ...

بقي طرف من رده الأخير أعجز فيه عن رؤية المؤرخ الدكتور رمضان بعيدا عن غمار الكتاب السياسيين.ويبدو أن اندفاع الدكتور في مناصرة موقف الوفد في تولي الحكم سنة 1942 على رماح الإنجليز، أسلمه إلى قول متناقض بين دعواه أن النحاس باشا كان يعمل لخلع فاروق عن العرش منذ سنة 1937 ...

وبين قوله "والحقيقة التاريخية أن النحاس باشا رفض تأليف الوزراة، ولكن الملك الخائف على عرشه ألح على النحاس باشا لينقذ عرشه" .. فقبل بعد الإلحاح الذي وصفه "بالمرة بعد المرة والكرة بعد الكرة" ...

وهنا يبرز لنا هذا السؤال:

لماذا يحاول النحاس باشا إنقاذ عرش فاروق؟! وهو الذي كان يحاول خلعه منذ سنة 1937؟ وأي الخبرين أولى بالتصديق؟
وإذا قيل إن محاولات قد باءت بالفشل سنة 1937 بسبب الإنكليز فها هم الإنكليز أنفسهم يتخلون عن الملك ... فلماذا يورط نفسه في مهانة قبول حكم يعرضه وحزبه للأوحال؟

وإذا خيف من بطش الإنكليز بالشعب فصمام الأمن في يده هو في ثقة الشعب والإنجليز فيه، والمخاطر في هذا الصدد أسهل من احتمال مخاطر بقاء فاروق على العرش وتثبيته عليه استنادا على سلطان الشعب الذي يمثله الوفد.

ولعل الكثيرين يعجزون مثلي عن رؤية المبرر لهذا السلوك الذي استقر في فهم الدكتور على قطبين متناقضين أحدهما رغبة النحاس في خلع الملك والآخر التضحية بسمعته وكرامة حزبه ليحفظ للعرش بقاءه.وربما حدثنا الدكتور عن ذلك في عدد قادم.

أما مقال الدكتور رمضان في جريدة الهدف في 27 نوفمبر الماضي في محاولة كشفه السر وراء حل جماعة الإخوان سنة 1948 فلي عليه بعض التعليق أرجو أن أسوقه إن شاء الله في عدد قادم. ( )

المقال السابع لصلاح شادي "لماذا يتجنى البعض في تصوير جماعة الإخوان المسلمين"

(الوطن في 10 ديسمبر 1980)

لا يحتاج القارئ إلى كبير عناء عندما يحاول البحث عن المصادر التي استقى منها الدكتور رمضان معلوماته "التاريخية" التي أقام عليها أحكامه على جماعة الإخوان المسلمين.

فهو إما ناقل عن محاضر جلسات جمال سالم سنة 1955 في محكمة الشعب، وإما ناقل عن كتابات ريتشارد ميتشيل صاحب كتاب "الإخوان المسلمون" بشيء من التصرف؛

ولقد قدمت رأي الدكتور عبد العظيم رمضان في محاكمات جمال سالم حين قال:

لقد اتهم الإخوان المسلمون جمال سالم بأنه الخصم والحكم وأطلقوا عبارة "قضاتنا خصومنا" ولكن الدراسة المتأنية لنصوص المحاكمات وما صدر من جمال سالم يثبت أنه لم يلعب سوى دور الخصم ولم يلعب أبدا دور الحكم وهذا أمر محزن حقا؛
فما أتعس الحكام الذين ينسون أن للتاريخ محكمة تفوق محاكمهم قوة وأن الأحكام التي تصدرها محكمة التاريخ هي الباقية وأحكامهم فانية، ثم يستطرد "ولم تسمع قاعات المحاكم في مصر ما سمعته من العبارات النابية والتهجم على المتهمين والسخرية منهم وإرهابهم كما سمعت من جمال سالم".

أما رأي الدكتور ريتشارد ميتشل نفسه في كتابه الذي أشرت إليه، فقد سمعته منه شخصيا عندما حضر إلى القاهرة قبل أربع سنوات أو يزيد ورغب في لقائي جملة مرات ليستوضح معلوماته في المصادر التي عجز عن الالتقاء بها حين دون كتابه هذا، وسألني عن الكثير من الوقائع التي أوضحتها له في أكثر من لقاء، حضر بعضها الدكتور محمود أبو السعود والأستاذ صالح أبو رقيق ...

وأبان لنا في صراحة أنه لم يكن أمامه إلا مصدر واحد يستقي منه معلوماته وهو الصحف والكتب التي صدرت حينذاك تحت إشراف السلطة الحاكمة فضلا عن المحاكمات التي أقيمت لرجال الجماعة وأنه يود لو يعدل كتابه ويكتب أمورا وضحت له وإدراكها بعد إصداره للكتاب.

ثم استقر أخيرا على أن يترجم الدكتور محمود أبو السعود الكتاب المذكور ويكتب في هامشه كل من الأستاذ صالح أبو رقيق والدكتور محمود أبو السعود ما يريانه من وقائع لا تتفق مع رأيه الذي أبداه.

ألا يرى معي الدكتور رمضان أن سلوك الدكتور ميتشل الأمريكي الجنسية المسيحي العقيدة كان أقرب إلى الإنصاف من سلوكه هو معنا.

وخرج إلى الوجود كتاب الدكتور ميتشل "الإخوان المسلمون" يحمل هذه التوضيحات للوقائع المختلف عليها ... وهي عين الوقائع التي ساقها الدكتور رمضان في مقاله الأخير تحمل نفس الأخطاء للأسف ..

وأن تجنب ذكر كل ما نسبه ميتشل إلى الوفد من اتهامات كاشتراك شباب الوفد مثلا في "رابطة الشباب" التي تكونت أساسا من الوفديين في تدمير مسرحي سينما مترو وسينما ميامي واقتصرت الخسارة في الأرواح على المصريين.

في الواقع أجد نفسي عاجزا عن مناقشة كل ما ورد من أخطاء في مقال الدكتور رمضان الأخير في جريدة الهدف، ولكني آثرت أن أكشف للقارئ عن بعض الوقائع المحرفة وأنسبها "نيابة عنه" إلى مصادرها التي كان يجب أن ينسبها هو إليها.

والظروف التي يتحدث عنها الدكتور كانت بعد وزارة حسين سري الائتلافية التي جاءت في 26 يوليو 1949 وساهم فيها الوفد حتى نوفمبر وجرى حل البرلمان وبدأ سري يعد البلاد لإجراء انتخابات جديدة خرج بعدها الوفد ظافرا في 3 يناير 1950 وألف حكومته في 12 يناير سنة 1950.

ويقول الدكتور رمضان إن الإخوان المسلمين رفضوا المصالحة مع الوفد بعد نجاحه في تلك الانتخابات بحجة انتمائهم التقليدي للقصر في الصراع الدائم بين الوفد والعرش (!)

ويدعم هذا الرأي بقوله بأنه جرت مفاوضات بين الحزب والجماعة حول إعادة الإخوان إلى الحياة الشرعية وكان ممثل الوفد هو فؤاد سراج الدين وممثل الإخوان هو مصطفي مؤمن وأنه جرت صيفة توفيقية بين الطرفين وهي أن يسمح للجماعة باستئناف نشاطها تحت اسم جديد اقترحه مصطفي مؤمن وهو اسم "النهضة الإسلامية" بدلا من "الإخوان المسلمون" وإن هذه الصيغة لم تلق تأييدا من الجماعة.

ولقد ساق نفس الواقعة عن الأستاذ مصطفي مؤمن وكان على الدكتور أن يضيف أن مصطفي مؤمن في هذا الوقت لم يكن مفوضا من الإخوان المسلمين بتقديم أي اقتراح فمن البديهي أن مركزه كطالب في الجامعة لا يسمح له بالتحدث باسم الجماعة بينما الكثير من رجالها كانوا خارج المعتقلات أمثال منير دلة والباقوري وخميس حميدة وإبراهيم نجم وأولى منه بهذه المفاوضة.

وكان على الدكتور أن يكون منصفا في تصوير هذا الخلاف فلا يرده إلى ركون الإخوان للحليف التقليدي "القصر" كما يقول، وإنما كان عليه أن يعترف أن الوفد خان الإخوان المسلمين بعد أن أيدوه في الانتخابات تحقيقا لوعده بإلغاء قرار الحل وإعادة ممتلكات الجماعة .. وبدلا من ذلك يشتط فؤاد سراج الدين ويحاول تسلم مبنى الجماعة لوزارة الداخلية لجعله مقرا لقسم البوليس.

وكان عليه أيضا أن يذكر أن وزير الداخلية فؤاد سراج الدين صرح بأن الحكومة ستستبدل قانون الجمعيات الجديد بقانون حل الإخوان حتى يظل الحل ساريا بعد سقوط الأحكام العرفية"

ويقول ميتشل في هذا الصدد في صفحة 179 من كتابه المترجم بمعرفة الدكتور محمود أبو السعود:

"ونظرا لأن الإخوان المسلمين كانوا المجموعة الوحيدة التي يشملها هذا القانون الجديد فقد رأوا أن القانون سن خصيصا لهم، كما رأوا أنه ضيق عليهم دون اقتضاء، علاوة على أنه كان قانونا ظالما حل محل قانون عرفي ظالم أعطى البرلمان الصفة الشرعية لآثاره التي أورثها القانون العسكري غير الشرعي للحل".

وهكذا اضطرت جماعة الإخوان إلى رفع دعوى أمام مجلس الدولة بإبطال هذه القرارات وإعادة اسم الجماعة وممتلكاتها إليها ... وفعلا صدر هذا الحكم بتاريخ 15 أغسطس سنة 1951 بإبطال قرار وزير الداخلية، وتوصي فيه المحكمة بوجوب إعادة أموال الجماعة وأملاكها إليها ويقول "ميتشل" في هذا الصدد أن من آثار هذا الحكم أنه أعطى الجماعة صفتها الشرعية وهي أقوى صفة في مصر، واضطرت حكومة الوفد إلى رفع يدها عن الأملاك المصادرة بما في ذلك الصحيفة وجميع المباني.

وما دام الدكتور رمضان قد أورد كلام صالح عشماوي عن حزب الوفد بما يؤكد انتماء أعضاء حزب الوفد والإخوان المسلمين لطبقة واحدة هي الطبقة الشعبية ولهذا فليست هناك منافسة بين الإخوان والوفد ...

واعتبر هذا لونا من الوفاق قبل الانتخابات، فكان عليه أيضا أن يذكر مقالة (صالح عشماوي) في صحيفة مجلة المباحث في شجبه حكومة الوفد لنكثها عهودها مع جماعة الإخوان قبل الانتخابات بإعادة نشاطها إليها والاعتراف بشرعية وجودها، وأسوق في هذا الصدد ما رواه الأستاذ صالح أبو رقيق في تعليقه على نجاح الوفد في انتخابات سنة 1951 في صفحة 175 من كتاب ميتشل عن "الإخوان المسلمين" ...

"كانت النتيجة الباهرة التي حصل عليها الوفد في انتخابات يناير سنة 1950 تعتبر بحق تعبيرا صادقا حقيقيا وشاملا عن الثورة التي كانت تجيش في قلوب المصريين ضد فاروق وأعوانه السعديين، وخاصة بسبب اضطهادهم للإخوان، واغتيال البنا

حيث أرغمت هذه النتيجة الملك فاروق يوم أن كان في البلد نوع من الديمقراطية أن يقابل المرحوم النحاس باشا، الذي أقاله من قبل بصورة مؤسفة للغاية، وما حصل الوفد على هذه النتيجة إلا بسواعد الإخوان المسلمين، الذين نزلوا المعركة الانتخابية بثقلهم لمساعدة مرشحي الوفد ...

حتى أن سكرتير الوفد السيد فؤاد سراج الدين صرح لأعوانه أثناء المعركة الانتخابية بأنه لا داعي لارتباط الوفد بوعود مع الإخوان لأنهم سيقفون مع مرشحي الوفد انتقاما من السعديين، وعلمت قيادة الإخوان بهذا التصريح فأصدرت تعليمات للإخوان بالوقوف في المعركة على الحياد ...

مما أثار مرشحي الوفد فطلب مقابلة أحد المسئولين في الإخوان فقابله المرحومان الدكتور خميس حميدة وإبراهيم نجم، فوعدهما بأنه مجرد تولي الوفد الحكم تعود للإخوان شرعيتهم وترد لهم أموالهم بل ويعوضون عن خسائرهم ولكنه للأسف لم يف بما وعد".

حاول الدكتور أن يلقى ظلالا من الشك حول ترشيح الأستاذ حسن الهضيبي مرشدا لجماعة الإخوان المسلمين فقال إن ذلك جرى بموافقة الملك، بل إنه يقال إن الملك قد فرض هذا التعيين وأن هذا التنازل من جانب الإخوان كان راجعا إلى رغبتهم في العودة إلى الشرعية وعودة أموالهم المصادرة.

ويأبى الدكتور المؤرخ أن يترك هكذا بدون أحكام فيقول إن رفض المصالحة مع الوفد وفصل مصطفي مؤمن كان يحمل معنى تلميح للقصر بالاستعداد للتعاون.

ثم يطلق سهمه الأخير على الإخوان المسلمين ليجهز على ما أبقاه من شك في نفس القارئ فيقول في عبارة مشبوهة مزج فيها "نواياه الطيبة" بالسم الذي يريد أن يجرعه للقارئ فيقول:

ومن سوء حظ الإخوان أن علاقات الهضيبي بالقصر بعد تعيينه مرشدا عاما لا تدع للباحث مجالا لنفي هذه الروايات على أساس سليم فقد رأينا في رواية كيف سعى الشيخ البنا سعيا شاقا لمقابلة فاروق وكيف فشل في ذلك
ولكن الأمر اختلف بالنسبة للهضيبي فلم يكد يمضي شهر واحد على تعيينه حتى كان يركب عربة ملكية في يوم 14 نوفمبر سنة 1951 في طريقه إلى القصر الملكي للقاء فاروق، وقد روى بنفسه في مقابلة صحفية بعد الثورة أن هذا اللقاء تم باستدعاء من فاروق".

وكان يكفيني للرد على هذه السموم التي يقدمها الدكتور رمضان أن أقول له أن دعواه هذه كلها ملفقة وأنه يعرف الأساس الذي كان من الممكن أن يرد على قائله إن شاء الله لأن صدور الحكم لصالح الإخوان المسلمين في إعادة كيانهم وتسليم ممتلكاتهم كان سابقا لهذه الزيارة التي استدعي فيها الملك حسن الهضيبي!!

فقد صدر حكم مجلس الدولة لصالح الإخوان في 15 أغسطس 1951 أي قبل تعيين حسن الهضيبي مرشدا عاما للإخوان المسلمين في أكتوبر سنة 1951 وقبل تاريخ هذه المقابلة بفترة طويلة.

وأمضى معه لتصحيح الوقائع فأقول إن الإخوان لم تكن بهم حاجة إلى التودد إلى القصر لإعادة شرعيتهم فقد استعادوها بحكم قضائي شريف ... على الرغم من الجميع، ولكن كان الملك بحاجة إلى أن يسترضي الإخوان؛

وحتى قبل ذلك عندما اشتط إبراهيم عبد الهادي في سياسة العنف التي اختطها ضد الإخوان فقدمت وزارته استقالتها بعد تصريحه في الصحف أن وزارته قوية وستحكم خمس سنين أخرى، واعتبرت الصحف وقتها هذه الإقالة أو الاستقالة هدية الملك إلى الشعب في يوم العيد.

وكان الملك أيضا في حاجة أن يدفع الزيف الذي ألحقه به فؤاد سراج الدين من أنه هو الذي يقف وراء ممانعة الحكومة لعودة الإخوان المسلمين كما صرح بذلك فؤاد سراج الدين في مقابلة جرت بينه وبين الدكتور خميس حميدة والأخ إبراهيم نجم أثناء توليه وزارة الداخلية؛

وأوضح فيها معارضة الملك لعودة الإخوان وأن الأمر يحتاج منه لوقت لمعالجة هذا الموضوع مع الملك، وألمح في هذه الزيارة برغبته في أن يغير الإخوان المسلمون اسمهم وأن ذلك موحى به من الملك فرد الدكتور خميس بقوله "إن هذا الاسم يا باشا سجلته دماء الإخوان المسلمين ولا يمكن لأحد تغييره".

إذن فقد كان الوفد هو الذي يمانع في عودة الإخوان المسلمين إلى حقهم القانوني وليس القصر كما يدعي فؤاد سراج الدين.ومن هنا جاء طلب القصر لحسن الهضيبي لزيارته؟!وهكذا تبدو ديمقراطية الوفد التي زيفها المؤرخون!!

وأعود فأتساءل لماذا لم يذكر الدكتور رمضان شيئا عن حكم مجلس الدولة هذا الذي أشرت إليه حتى تتضح للقارئ معالم القضية التي ناقشها الدكتور، وحتى يجد القارئ سبيله من خلال هذا الحكم إلى معركة حقيقة الأحداث.

وإذا كان الدكتور قد عجز لسوء كما يقول عن نفي الروايات عن علاقة الهضيبي بالقصر بعد تعيينه، فهلا كان الأولى به ألا يندب حظه وحظ الإخوان، ويسوق للناس هذه الحقيقة التي تغنيه عن ندب سوء الحظ وترده إلى ما يأمله الناس فيه من إنصاف.

أما الواقعة الثالثة من الافتراءات فكانت منصبة أيضا هذه المرة على الأستاذ الهضيبي حين وصفه بأنه كان عدوا للتنظيم الجهادي لإخراج الإنجليز وأنه بذلك قد عزل نفسه عن القاعدة الجماهيرية المكونة من شبان الإخوان المتدين والمتحمس للجهاد في سبيل قضية بلده ...

وأن مجلة الدعوة التي كان يرأسها صالح عشماوي كانت على عكس سياسته حتى أنه عندما عين الملك حافظ عفيفي رئيسا للديوان كانت تهاجم هذا التعيين وتسبب هذه السياسة في تبرؤ الهضيبي علانية من المجلة.

والدكتور رمضان في سوقه للوقائع الخاصة بعداوة الأستاذ الهضيبي المزعومة للتنظيم الخاص يذكر ما قرره الشهود في محاكماتهم أمام جمال سالم ويستدل بذلك على أن الأستاذ الهضيبي كان عدوا لفكرة الجهاد ضد الإنكليز.

ونسي في غمرة حماسته هذه ما قاله جمال سالم ومحاكماته في نفس الوقت الذي ما زلنا نذكر له استهانته بحكم ثلاثة مستشارين في قضية الجيب الذي رد لجماعة الإخوان المسلمين اعتبارها فضلا عن جهاز النظام الخاص في حين أعلن لنا الدكتور على الملا أن هذا لا يقنع محكمة التاريخ، وليس عجيبا أن يناقض الدكتور نفسه، ولكن العجيب أن يظن أن كتاباته هذه ستصبح سطورا خالدة تحكي أحداث التاريخ.

أما ما ساقه عن خروج جريدة الدعوة عن سياسة الإخوان المسلمين فلم يكن بسبب مهاجمتها لتعيين الملك لحافظ عفيفي ... وإنما كان لأسباب أخرى يذكرها الأستاذ صالح أبو رقيق في صفحة 191 من كتاب "الإخوان المسلمون" لميتشل فيقول:

"إن مجلة الدعوة كانت قد دأبت قبل أن يأتي الأستاذ الهضيبي في منصب الإرشاد على الكتابة بما يعارض سياسة الجماعة، وكان السبب المباشر لصدور قرار عدم تمثيل المجلة رأي الإخوان المسلمين هو أن الأستاذ صالح عشماوي نشر في مجلته اتهام أحد التونسيين للسيد الحبيب بورقيبة بالخيانة؛
بينما الكل يعلم صدق الرجل في هذا الوقت في جهاده وفي نفس الوقت الذي يعلم فيه الأستاذ صالح عشماوي ما يقدمه له الإخوان من عون فكان بهذا النشر لا يمثل فعلا رأي الإخوان الذي كان يتمثل في تقديم العون والمساعدة له ...".

أما الزعم بعداء الأستاذ الهضيبي لفكرة التنظيم الخاص فكان أحد أخطاء ميتشل الظاهرة التي نقلها عنه الدكتور رمضان بدون تصرف حتى لتراه يقول:

ولما كانت القيادة السياسية للإخوان قد وقعت في يد المعتدلين وعلى رأسهم الهضيبي فإن هذا يفسر هذه الظاهرة التي لم تحدث في عهد الشيخ حسن البنا "وهي ظهور شخصيات شابة إلى جانب الهضيبي تعوض "الضعف الكامن فيه"
وتملك القدرة على التكييف بين الاعتدال والتطرف داخل الجماعة، وفي يد هذه العناصر الشابة وقعت كل الاتصالات بين الجماعة والقوى السياسية الخارجية العلنية والسرية ... ثم يستطرد فيقول .. وقد كان من خلال هذين العضوين صالح أبو رقيق وحسن عشماوي أن أقيمت جسور العلاقة بين الإخوان وحركة الضباط الأحرار".

وأقول دفعا لهذا الخلط الشديد أن الدكتور رمضان وهو يستقي معلوماته المبتورة من تحقيقات جمال سالم في المحكمة ومن أقوال ميتشل في كتابه لم يحاول أن يصفي هذه المعلومات ليردها إلى أصولها من الصواب

ولم يحاول أن يسألني عن علاقتي بعبد الناصر التي كان قد سجلها في كتابه في إجمال حين قال إن علاقة عبد الناصر بصلاح شادي كانت أقوى العلاقات في الإخوان ويليه حسن عشماوي ثم عبد الرحمن السندي.

وقد أوضحت له طبيعة هذه العلاقة الأمر الذي دعاه إلى أن يسمح كما سبق أن ذكرنا للدكتور محمود أبو السعود والأستاذ صالح أبو رقيق بتصحيح الوقائع التي رأوا أنها تستدعي التصويب في هذا الشأن وغيره من الشئون.

وكنت قد أبديت له أن أول لقاءاتي بعبد الناصر كانت في منتصف عام 1950 باعتباري المسئول عن قسم الوحدات العسكرية وليس "قسم البوليس" كما ادعى الدكتور عبد العظيم ... فإن اقتصار إشرافي على قسم البوليس جاء متأخرا في أعقاب فتنة السندي في احتلاله دار المركز العام وتولي يوسف طلعت قيادة النظام الخاص في نهاية عام 1953.

وبدأ إشرافي على قسم وحدات الجيش منذ سنة 1944 حين كلفني به الإمام البنا، وكان يساعدني في العمل الأستاذ صالح أبو رقيق والأستاذ حسن عشماوي والأستاذ عبد القادر حلمي ... وأذكر أن الأستاذ صالح أبو رقيق دفع مهر عروسه للقسم لشراء سيارة كنا نحتاجها في الأعمال الفدائية ضد الإنجليز في القنال في هذا الوقت.

وكنا إلى جوار الإمام البنا بجهدنا وعرقنا ودموعنا نستمد منه العون والسداد ونستلهم من الله الرشد والصواب.

وكان الإمام البنا يدرك أخطاء عبد الرحمن السندي قائد النظام الخاص بنفس المستوى الذي أدركها بعده حسن الهضيبي، ويرغب فعلا في تغيير قيادة هذا النظام بعد الأحداث التي جرت بغير إذنه والتي تحدثت عنها في ردودي السابقة على الدكتور رمضان ..

وهما حادث القاضي الخازندار وحادث محكمة الاستئناف ولذلك فقد عين الأخ المرحوم سيد فايز ليرأس هذا النظام في الوقت الذي كان فيه عبد الرحمن السندي في السجن وكلفني المرشد بالإشراف على النظام بعد أن عين سيد فايز قائدا له، ولعل الدكتور رمضان يعلم أن المرحوم سيد فايز قد قتل، واتهم السندي بقتله.

لم يعترف عبد الرحمن السندي بالتغيير الذي أحدثه الإمام البنا، بل أراد أن يستعرض سلطانه موليا ظهره لقيادة الإمام البنا ومطيحا بقيادة سيد فايز الذي عجز عن إمساك خيوط النظام وعجز بالتالي عن ممارسة أية سلطة بالرغم من أخطار السندي بتعيين الإمام البنا لسيد فايز لقيادة النظام.

وعاجلت البنا منيته فلم يستطع وضع الرجل الصالح في المكان المناسب.وهكذا نستطيع أن نقول إن المشكلة التي عانى منها الإمام البنا والتي كانت ماثلة في قيادات النظام فحسب هي نفس المشكلة التي عانى منها الأستاذ الهضيبي من السندي قائد النظام الخاص.

وكان رأي سيد فايز الذي نقله إلى الأستاذ الهضيبي بعد ذلك هو أن قيادة النظام فقدت معنى الخصوصية بعد معرفة أجهزة الحكومة لها من الأوراق التي ضبطت في السيارة الجيب، الأمر الذي لا يسمح بأن تظل هذه القيادات في مواضعها، وأنه لا بد من تغيير جذري في الأشخاص

واقتنع حسن الهضيبي بذلك وبدأ يعلن عن رغبته في تغيير قيادات النظام الخاص، ولم يلبث السندي أن ناصبه العداء بعد أن رأى البساط يسحب من تحت قدميه فادعى أن المرشد لا يؤمن بقاعدة الجهاد، في الوقت الذي كان المرشد يكلف من يثق فيه في خوض هذه المعارك فكلفني بالقيام بعملية اللغم البحري لسد القنال، وكلف الأخ محمود عبده والأخ أحمد حسنين بالإشراف على العمليات الفدائية والفدائيين في الإسماعيلية والقنطرة شرق وبورسعيد.

ومضى ركب المجاهدين والشهداء إلى غايته ... وأبى المرشد أن ينسب فخار هذا الجهاد للإخوان المسلمين وحدهم، وإنما أعلن للناس كافة وللإنجليز خاصة أن الأمة كلها قامت لتجاهد الاحتلال حتى لقد رفض أن يكون تشييع جنازة الشهيد عمر شاهين من المركز العام للإخوان المسلمين وإنما أصر أن تخرج من ساحة جامعة فؤاد في الجيزة لتكون رمزا لجهاد الشعب كله لا الإخوان المسلمين خاصة.

فهل مضى هؤلاء الشهداء من الإخوان المسلمين في جهادهم بغير إذن قائدهم؟!أما هذه الاستدلالات الشاذة التي رواها الدكتور رمضان ليثبت بها أن الهضيبي قد جمع إلى جواره عناصر شابة ليستر بها ضعفه فأمر يثير الأسى والرثاء حقا.

لقد كان حسن الهضيبي في عزمته في كفاح الإنجليز أقوى عزما وأشد صلابة وأمضى مراسا من كل من حوله من الشباب ... ولا أستطيع أن أنسى دمعة الأسى والحزن التي ذرفتها عيناه وأنا أبلغه بنبأ عدم توفيقنا في تفجير اللغم البحري الذي كلفني بتفجيره لسد قناة السويس ولإرغام الإنجليز على احترام عزمة الأمة في طردهم.

وكذلك كانت عزمته في تغيير قادة النظام الخاص فلم تلن له قناة .. بل فتح "الخراج" بمبضع الجراح و كانت هذه شجاعة نادرة من حسن الهضيبي تذكر له بالحمد والفخار في تاريخ جماعة الإخوان المسلمين.

وتحت عنوان صفحة جديدة يدعي الدكتور رمضان أن حسن عشماوي وصالح أبو رقيق قد أقاما جسور العلاقة بين حركة الضباط الأحرار والإخوان، ليعوضا كما يدعي جانب الضعف الكامن في مرشد الإخوان الهضيبي.

ولكي أصحح معلومات الدكتور رمضان أقول إن جمال عبد الناصر وكمال حسين وحسين الشافعي وعبد المنعم عبد الرؤوف وخالد محيي الدين وحسن إبراهيم وعبد اللطيف البغدادي وعبد الحكيم عامر، وصلاح سالم كانوا من ضباط الإخوان المسلمين في الجيش بايعوا حسن البنا ومحمود لبيب وعبد الرحمن السندي؛

وقد ذكرت ذلك في أحد ردودي السابقة واستشهدت على ذلك بما اعترفوا به في كتاب ثورة يوليو 1952 لأحمد حمروش وكتاب "الصامتون يتكلمون" وأضيف إلى ذلك أن محمود لبيب رحمه الله هو الذي سمى حركة ضباط الإخوان في الجيش حركة الضباط الأحرار.

وكانت ثقة محمود لبيب في جمال عبد الناصر وقتها للأسف لا حد لها، وفي سنة 1950 وبعد وفاة محمود لبيب اتصل بي جمال عبد الناصر ليعيد ارتباطه بالجماعة الذي قطعته اعتقالات وزارة إبراهيم عبد الهادي سنة 1948؛

وكان بدء لقائي بعبد الناصر في هذه السنة، وإن كانت علاقتي بضباط الجيش بدأت منذ سنة 1944 في دائرة قسم الوحدات الذي كان يضم في صعيده الضباط والصف ضباط والفنيين من كل الرتب، ويضم أيضا ضباط البوليس والصولات والكونستبلات وضباط الصف والعساكر.

ولا داعي للإفاضة في شرح هذه القصة التي لا يعرفها طبعا الدكتور رمضان لأن محاكمات جمال سالم لم تشملها فضلا عن أن محاكمتي كانت سرية.وبقليل من الفطنة يستطيع الدكتور أن يدرك لم كانت محاكمتي سرية؟! ومحاكمة بقية أفراد النظام الخاص علنية؟!

وكما قلت سابقا كان يعنيني في العمل بقسم الوحدات الإخوة صالح أبو رقيق وعبد القادر حلمي وحسن عشماوي وكان المرحوم حسن العشماوي يتصل بجمال عبد الناصر فيما يوكل إليه من أمور، وكانت لقاءاتنا مع عبد الناصر تجري تحت مظلة الجماعة وعلى هدى من أعرافها التي بايعنا الله عليها.

وقصة التعاون الذي ادعى الدكتور قيامه بين صالح أبو رقيق وحسن عشماوي وبين عبد الناص في حريق القاهرة جرت في غيبة هذين الأخوين الكريمين فقد اتصل بي عبد الناصر وطلب مني معونته في نقل هذه الأسلحة التي كانت لدى مجدي حسنين في مدرسة الأسلحة الصغيرة، وقمت بنقلها مع الأخوين الكريمين عبد القادر حلمي ومنير دلة.

والذي أريد تأكيده أن صلة عبد الناصر بي بل وبهذه المجموعة لم تنشأ من فراغ ولم تجمعني به أو تجمعه بأي فرد من هذه المجموعة صداقة سابقة وإنما الذي سعى إلى الالتقاء بي هو جمال عبد الناصر نفسه ليعيد صلته بالجماعة عن طريقي قبل إسناد منصب الإرشاد للأستاذ الهضيبي؛

ولذلك كانت كل خطواتي بعد ذلك مع عبد الناصر تبلغ أولا بأول إلى الأستاذ الهضيبي بعد ولايته منصب الإرشاد ولو شاء أن يوقفها أو يمنعها لفعل، فلم تكن صلة هذه المجموعة أو أي فرد منها بعبد الناصر لتغطية ضعف الأستاذ الهضيبي كما يدعي الدكتور رمضان.

فقد كان الأستاذ الهضيبي يعلم تفاصيل كل تحركاتنا كما يدعي الدكتور رمضان فقد كان الأستاذ الهضيبي يعلم تفاصيل كل تحركاتنا مع عبد الناصر أولا بأول.

وكذلك لم يكن الأستاذ صالح أبو رقيق هو أول من علم بميعاد الثورة قبل وقوعها ولكن كل هذه المجموعة التي أشرت إليها كانت تعلم هذا التوقيت فضلا عن الأستاذ الهضيبي، وأقول أيضا إنصافا للحقيقة أن اللقاء السابق للحركة لم يكن في منزل الأستاذ صالح أبو رقيق وإنما جرى في منزل الأستاذ عبد القادر حلمي.

وأخيرا.

ليس هناك ما أقوله لأختتم به مقالي إلا أن أناصح الدكتور رمضان بأن يعيد قراءة التاريخ وعيد بحثه على ضوء جديد بعيدا عما يمكن أن تساويه قيمة الأخبار المثيرة في سوق الصحافة مهتديا فقط بقيمة الحق عند الله وعند الناس.

المقال السابع "لماذا يتجنى البعض في تصوير جماعة الإخوان المسلمين"

(الوطن في 17 ديسمبر 1980)

في عرض الدكتور عبد العظيم رمضان "السابع" لتاريخ الإخوان المسلمين استوقفني ما أورده بشأن موقف الإخوان من قانون تنظيم الأحزاب السياسية رقم 179 الصادر في سبتمبر سنة 1952 والذي يقضي بضرورة تقديم كل حزب لبرنامجه السياسي ورجاله العاملين فيه؛

وما أورده عن موقف الإخوان المسلمين من قرار حل الأحزاب في يناير سنة 1953 واللقاء الذي دار بيني والمرحوم الأستاذ منير دلة كطرف وبين عبد الناصر مع الإنجليز .

كان الدكتور رمضان منصفا حين وصف هذا القانون بأنه أصاب الإخوان إصابة مباشرة ولم يصب حزب الوفد فقط، فقد كان على الإخوان المسلمين أن يختاروا فيما لا خيرة لهم فيه .

ولذا كان هذا القانون في الواقع مقدمة لحلهم، أما ما ادعاه الدكتور رمضان بعد ذلك من أن عبد الناصر قد أنقذ الجماعة من الخضوع لقرار حل الأحزاب إرضاء للجناح المؤيد للثورة فهو رأي يجانب الحقيقة ويحتاج إلى تصحيح ...

فعندما صدر هذا القانون كان عبد الناصر يعني من ورائه أمرين:

أما أن تخطر جماعة الإخوان وزارة الداخلية بأن أهدافها الاشتغال بالسياسة، فتعلن بالتالي أنها حزب كباقي الأحزاب، ويكون مصيرها الحل المحتوم بعد حين، كما كان يجري في تقدير عبد الناصر وبهذا يكون قد تعجل الصراع مع الإخوان.
وذلك ما لم يكن قد أعد له عدته بعد لأن حل جماعة الإخوان المسلمين كان يقتضيه أولا، محاولة التأثير على أعضاء الجماعة وضرب بعضهم ببعض والعمل على زيادة الشقاق بينهم وزعزعة ثقة عامة الإخوان في أشخاص قادتهم، كما أن حل جماعتهم وقتها سيزيد من العطف عليهم.
ويمنع من الانشقاق المأمول، الأمر الذي سيدعوهم إلى ضم صفوفهم لدرء هذا الخطر، وذلك كله يرويه عضو مجلس الثورة عبد اللطيف البغدادي في صفحة 88 وصفحة 99 من مذكراته (الجزء الأول) توضيحا لقرار مجلس الثورة في جلسة 18 ديسمبر سنة 1953.
وإذن ... فحل جماعة الإخوان المسلمين بناء على تقديمهم إخطارا باعتبارهم حزبا سياسيا لم يكن واردا حقا في ذهن عبد الناصر ولا مجلس قيادة الثورة، ليس حفاظا منهم على كيان الجماعة وإنما لرغبتهم للتمهيد لهدمها بإشاعة الفرقة بين أفرادها أولا ثم القيام بحلها بعد ذلك بحيث يكون الحل تقريرا للهدم الحادث فعلا وليس إنشاء له.
إذن ... فإن ما أورده الدكتور عبد العظيم رمضان في مقاله الأخير وسبق أن أورده ريتشارد ميتشل في كتابه "الإخوان المسلمون" من أن عبد الناصر قد أنقذ جماعة الإخوان المسلمين من الخضوع لقانون حل الأحزاب استنادا لما قاله المرحوم حسن العشماوي في اعترافه "بجميل عبد الناصر على الإخوان بالرغم مما وجده من متاعب من زملائه ومن الإخوان" نقول إن ذلك ليس صحيحا في تصوير الواقع.

وكان الاختيار الثاني الوارد في موقف الإخوان المسلمين إزاء هذا القانون هو سحب الإخطار الذي قدمته الهيئة التأسيسية إلى وزارة الداخلية بعد اجتماعها الذي عقدته في غيبة المرشد أثناء مرضه متضمنا اعتبار الجماعة حزبا سياسيا

وعند ذلك يصبح نشاطها السياسي محظورا أيضا، وخاصة بعد صدور قانون حل الأحزاب وهو الذي استند عليه عبد الناصر بالفعل في حل الإخوان المسلمين بعد سنة من ذلك التاريخ الأمر الذي كان ينشده عبد الناصر ويسعى لتحقيقه من وراء القانون الذي يقضي بالإخطار عن هوية الأحزاب وبرامجها.فعبد الناصر هو الذي سيكسب الجولة في كل الأحوال.

وكان في إصرار المرشد على عدم تغيير هوية جماعة الإخوان المسلمين، تفويت للإفساد الذي أراده عبد الناصر وسط صفوف الهيئة التأسيسية وعامة الإخوان حين ردهم إلى الأصل الذي يجب أن يثوبوا إليه فيما دونه الإمام الشهيد منن قبلح؛

واعتبره المرشد الهضيبي أمانة يلزمه الحفاظ عليها لأنه المضمون الذي واكب نشأة الدعوة ولقنه البنا لأتباعه "أنتم لستم جمعية خيرية ولا حزبا سياسيا ولا هيئة موضوعية الأغراض محدودة المقاصد، ولكنكم روح جديد يسري في قلب هذه الأمة فيحييه بالقرآن ...

ثم يستطرد فيقول:

إذا قيل لكم إلام تدعون فقولوا ندعو للإسلام الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، والحكومة جزء منه، والحرية فريضة من فرائضه، فإن قيل لكم هذه سياسة، فقولوا هذا هو الإسلام، ونحن لا نعرف هذه الأقسام".

وحينئذ سكنت الزوبعة وقرت القلوب واستقام شتات الجماعة على هذه الحقيقة السوية التي قدمها إمامهم الجديد في أول تجربة خطيرة عصفت فيها ريح السياسة لتغير من أصل مضمون هذه الحركات فأثبت بذلك رسوخ قدمه في الإيمان وكمال فقهه وعمق إدراكه لدقائق السياسة.

يرى الدكتور عبد العظيم رمضان أن الإخوان المسلمين اعتقدوا بعد قرار حل الأحزاب في يناير 1953 أن الساحة قد خلت لهم لفرض شروطهم على الثورة مقابل تأييدهم لها ارتكازا على اتفاق سابق مع عبد الناصر على حل الأحزاب.

وادعى نقلا عن قرار حل جماعة الإخوان المسلمين الذي نشره مجلس الثورة في يناير 1954 أني ذهبت والمرحوم منير دلة إلى مكتب جمال عبد الناصر نطلب إليه تكوين لجنة من هيئة الإخوان تعرض عليها القوانين قبل صدورها.

وأغفل الدكتور حقيقتين في هذا المجال:

الأولى: أن زيارتنا هذه لعبد الناصر كانت غداة حل الأحزاب، بعد أن فاجأتنا الثورة بإصداره .. بدليل ما قاله عبد الناصر مستنكرا "هل يلزم أن أعرض عليكم قرارات مجلس الثورة قبل صدورها؟".
والثانية: أن ما أورده خاصا بطلبنا لهذه اللجنة إنما ورد ذكره فقط في قرار حل جماعة الإخوان المسلمين إثر اعتقالنا في يناير 1954 وأن هذا الطلب لم يصدر منا، وأن اقتراحا قدمه عبد الناصر بهذه الصورة لم نوافق عليه ووعدنا بعرضه على المرشد ومكتب الإرشاد.

وقصة هذا اللقاء تمت على الوجه الآتي:

في صبيحة يوم صدور قرار حل الأحزاب في يناير 1953 ذهبت إلى عبد الناصر (في مقر مجلس الثورة بكوبري القبة) مع المرحوم منير دلة أثر مفاجأتنا بهذا القانون الذي يمس وجودنا الشرعي كجماعة إذا زاولت أي عمل سياسي، وطلبنا مقابلة عبد الناصر فلبى على الفور

وجلسنا نتحدث عن قانون حل الأحزاب .. وتناولنا الموضوع من زاويتين الأولى أن مفاجأتنا به منعتنا من عرض وجهة نظرنا فيه ما دام يرغب في الحفاظ على تأييدنا لخطواته السياسية، وإلا فلا يغضبه منا مواقفنا السلبية إزاءه والتي كان يعتبرها مقدمة قطيعة.

والثانية هي السؤال عن هدفه من هذا القانون إذا اعتبرنا حزبا يجري عليه ما يجري على الأحزاب إزاء نشاط سياسي يبدو منا، كنا نقوم به قبل صدور هذا القانون؟!

وأغضبه حديثي حين أدرك أنني ألومه على مفاجأتنا بهذا القانون وتساءل هل يلزم أن أعرض عليكم قرارات مجلس الثورة قبل صدورها؟ وإلا منعتم عني تأييدكم؟ فأجبته بأن المفروض في قراراتك أن تنبع من اقتناع الشعب، ولن تعرف اقتناعه إلا بمحاورته..

وقد سبق لك أن أخذت رأي الإخوان كقطاع من الشعب ولا أقول فقط باعتبارك واحدا منهم قبل أن تنهض بالحركة، مع خصوصية هذا الأمر وأهمية الاحتفاظ بالسرية فيه وعرفت رأيهم وناقشتهم في كثير من التفاصيل! فماذا جرى الآن بعد أن أصبحت حكما؟

إن الجواد لا يستطيع أن يجر العربة إذا تخلف عنها ووقف وراءها فإذا أردت أن تقود الأمة وراءك فلا يكفي أن تقف أمامها وإنما عليك أن تحكم الرباط بينك وبينها كذلك، فقال في مرك ظاهر وما هي الطريقة العملية لإحكام هذا الرباط؟ هل ترون تعيين لجنة منا ومنكم مهمتها تيسير هذه الصلة وإخطاركم بكل جديد؟ ولم ينتظر الرد، وإنما استطرد "هل تقبلون الشيخ الغزالي أو سيد سابق في هذه اللجنة ...".

فأجابه الأستاذ منير دلة رحمه الله إننا لم نأت لذلك وإنما جئنا لنسأل عما تنتويه بشأن هذا القانون بالنسبة لباقي الأحزاب ولننصح لك بأن علاقتنا يلزمها أن تكون أكثر توثقا إذا أردت منا عدم السلبية أو عدم المعارضة فيما تصدره من قوانين لا نعلم شيئا عنها ولا نستطيع أن نجيبك فيما تعني بخصوص اللجنة لأنه لا وكالة لنا في ذلك والرأي فيه للمرشد ومكتب الإرشاد.

واستدعاه وحيد رمضان إلى اجتماع المجلس فاستأذن بعض الوقت ليعود بعدها إلينا لإكمال الحديث ... وكنت أعرف وحيد رمضان من قبل فقد كانت له صلة سابقة بي وبالجماعة فلما رآني وقت دخوله بدا كأنه لا يعرفني حتى إذا مضت حوالي ربع الساعة استدعاني هامسا لألحق به عند باب الغرفة ليحدثني على انفراد

وقال لي

"هل حقا هددتم جمال عبد الناصر بمواجهته بسحب البساط من تحت قدميه بعد أن تأكدتم أن قانون حل الأحزاب لا يسري عليكم فأصبحتم بمفردكم في الساحة فجئتم تفرضون عليه الوصاية! إنه يتحدث الآن في المجلس حتى أن آراء الأعضاء كلها أصبحت ضدكم.
فأجبته أننا لا ندري حتى الآن إن كنا مقصودين بهذا القانون أم لا!
ولعل ذلك ينفي القول بمحاولتنا سحب البساط من تحت قدميه!
ولكنني تساءلت في نفسي، ماذا تراه يعني بذلك؟ كيف تعكس الأمور هكذا؟ بهذا القول المغلوط؟
ثم أوضحت لوحيد رمضان حقيقة ما دار بيننا ورجوته أن يبلغه رغبتنا في الانصراف، وانصرفت مع المرحوم منير دلة الذي علق على هذا اللقاء بقوله .. كنت أشهد إنسانا يمتلئ إخلاصا في نصح أخيه والآخر يقطر خبثا.

ولكن ...

لدى محاكمة المرحوم منير دلة أمام محكمة جمال سالم ذكر حقيقة الحديث المشار إليه .. ويبدو أن جمال سالم اكتشف هو الآخر للمرة الأولى هذه الخدعة التي أوقعهم فيها جمال عبد الناصر حتى أنه قال للمرحوم منير دلة "كلامك ده فيه نوع من الاتهام لجمال عبد الناصر إنه مش عارف ينقل الكلام صح".

والحقيقة كانت أبعد من هذا .. فقد كان عبد الناصر يعرف كيف ينقل الكلام الصحيح ولكن كان له مأرب أبعد من ذلك .. فقد بدأ حينذاك يخطط للصدام مع الإخوان، وهذا يستلزم منه أن يثير حفيظة زملائه على الجماعة ليظل ممسكا بزمام الموقف حتى تأتي اللحظة المناسبة فلا تجد الجماعة من يقف بجوارها منهم ...

وكانت مصلحته تقتضيه في هذا الوقت أيضا والصراع قائم بينه وبين محمد نجيب عدم المجاهرة بالعداء للإخوان، حتى لنراه يرفض في جلسة أخرى بعد ذلك اعتراضات محمد نجيب على استثناء الإخوان من قانون حل الأحزاب .. ويقف مدافعا عن حقهم في عدم الحل.

فكان حريصا في هذا الوقت على إيهام الإخوان لحاجته إليهم إنه يسعى للدفاع عنهم أمام المجلس، وفي نفس الوقت يوهم أعضاء المجلس في هذه المناسبة أنه غيور على سلطانهم أن ينال منه الإخوان بفرض الوصاية المدعاة ولو أدى به الحال إلى الإطاحة بهم.

واكتشافنا لهذا الخداع لم يكن إلا بمحض الصدفة.وعندما أمسك الخيوط كلها بيده وأدرك بعد نحو من عام أنه يستطيع ضرب الإخوان لم يجد من أعضاء مجلس الثورة من يقول له لماذا كنت قد حرضت على الموافقة على سحب إخطارهم كحزب ولماذا تحلهم وتضربهم الآن؟

بل لم يجد منهم من يقول له بعد ثلاثة أشهر من حل الجماعة وإيداع أفرادها في السجون لماذا أفرجت عن الإخوان وعن الهضيبي وذهبت تزوره في منزله وترد إلى الجماعة شرعيتها بعد أن اتهمته بالتفاوض مع الإنجليز من ورائك.

وهكذا تطيش دعوى الدكتور رمضان التي نسبها إلى الإخوان مدعيا "أنه لم يكن هناك ما يدفع الإخوان لمعارضة هذه القوانين التي تسير وفق مصلحتهم في التخلص من أعدائهم القدامى الوفد والشيوعيين"

لتعارض تلك الدعوى مع حقيقتين:

الأولى: أن الهيئة التأسيسية قدمت إخطارا باعتبار الإخوان حزبا سياسيا، إلا أن أمانة المرشد وإصراره على أن تظل هيئة الإخوان كما تركها حسن البنا رحمه الله بدون أدنى مساس في أهدافها وشكلها وأسلوب نشاطها، ولا صحة للهمسات أو التكهنات التي أبداها جمال عبد الناصر للمرحوم حسن العشماوي لتكون سببا يدل على حسن نية عبد الناصر في سحب الإخطار السابق الإشارة إليه.
الثانية: لقائي والأستاذ منير دلة بجمال عبد الناصر غداة صدور هذا القانون معلنين مفاجأتنا به، وليس كما روج مجلس الثورة وقتها بأننا حضرنا لفرض الوصاية عليه أو كما يشير البعض بأننا ذهبنا للتهنئة بصدورنا قانون حل الأحزاب.

وكان الأولى بالدكتور رمضان (ومن قبله الدكتور ميتشل) أن يقولا إننا ذهبنا نعزي مجلس الثورة في إضاعة الحرية التي وعدنا بها لا مهنئين بصدور قانون الحل.

ولعل من المفارقات أن يكون هذا اللقاء وما دار فيه من حديث هو أحد الاتهامات التي وجهت إلي أمام محكمة الشعب "الرشيدة" التي أصدرت علي حكمها بالإعدام.

ويعرض الدكتور رمضان في سرده التاريخي للاتفاقية الخاصة بجلاء الإنجليز، صورة من الاضطراب الفكري لديه، عندما يتعرض لموقف الإخوان حتى يبدو وكأنه مشدود برباط سحري يدعوه إلى ضرورة دمغهم بممالأة الإنجليز (!) لإضعاف موقف المفاوض المصري!

حتى إذا اضطره السياق إلى ضرورة الإعلان عن بيانات الإخوان التي صدرت لتشجب هذه الاتفاقية سعى لحجب الحقيقة عن القارئ زاعما أن

"قيادة الإخوان رفضت معاهدة الجلاء التي أبرمها عبد الناصر رغم موافقتهم على أسسها لأنها تمت لحساب ديكتاتورية عبد الناصر! وليست لحساب الحكومة الإسلامية التي كانت الهدف الأسمى للإخوان المسلمين وكانوا على استعداد لتقديم كثير من التضحيات في سبيل الوصول إليه ...".

ولن تستوقفني هنا مفاهيم الدكتور رمضان الغريبة التي توحي بها عباراته حول معنى التضحية الذي ساقه هنا تعبيرا عن الخيانة ولا ما عناه من مفهوم الحكومة الإسلامية التي جردها بهذه الصورة من الجوهر والمضمون حتى أنه اعتبر الوصول إليها يمكن أن يجري بممالأة الإنجليز وسمى ذلك تضحية.

ولكن سأسوق الأحداث كما شهدتها بنفسي، وكما شهدها غيري من الأحياء الذين أعرض أسماءهم من خلال هذا السرد ثم أدعوه بعد ذلك إلى ما جاء في كتاب الله الكريم "تعالوا ندع أبناءنا وأبناءكم ونساءنا ونساءكم وأنفسنا وأنفسكم ثم نبتهل فنجعل لعنة الله على الكاذبين".

في فبراير 1953 اتصل الدكتور محمد سالم () بالأخ صالح أبو رقيق مبلغا رغبة السفارة البريطانية في لقاء بعض المسئولين من جماعة الإخوان المسلمين بمستر إيفانز المستشار الشرقي بالسفارة البريطانية لاستطلاع رأيهم فيما يرتضونه لنجاح مفاوضات الجلاء التي سبتدأ مع الحكومة المصرية ( )

ولما عرض الأمر على الأستاذ المرشد كلف الأخوين منير دلة وصالح أبو رقيق بلقاء مستشار السفارة إيفانز وأوصاهما بالاستماع إليه دون إبداء آراء حول ما يعرضه عليهما ..

وفي نفس الوقت كلف الأخ حسن عشماوي بتبليغ عبد الناصر أمر هذا اللقاء ليكون على بينة بما يجري، وأوضح إيفانز اقتناع الإنجليز بمبدأ الجلاء وتسليمهم به خلال سنتين على أن تقوم علاقة ما بينهم وبين مصر بعد هذا الجلاء وطلب رأي الإخوان في هذا الصدد فوعداه بدراسة الموضوع

وكلف المرشد الأخ صالح أبو رقيق بتدوين تقرير بذلك وأمر بإرسال صورة منه إلى عبد الناصر ثم طلب الإنجليز بعد ذلك لقاء المرشد الذي تم في منزله في 22 فبراير 1953 وأحيط عبد الناصر علما بهذا اللقاء قبل حدوثه ثم بما دار فيه من أحاديث بعد انتهائه.

وفي 20 فبراير 1953 حضر عبد الناصر إلى منزل المرشد فأبلغه بموعد لقائه مع إيفانز وسأله عما إذا كان هناك شيء يمكن أن يضيفه إلى رأي الإخوان المعروف للجميع بضرورة الجلاء غير المشروط فأجاب عبد الناصر أنه يريد فقط أن يدخل المفاوضات وهم متفقون مع الإخوان على كل التفاصيل.

وعرض إيفانز في لقائه مع المرشد نفس العرض الذي عرضه للأخوين منير دلة وصالح أبو رقيق، وسأل المرشد عن رأيهم في الحياد بأن ينسحب الإنجليز من جميع الدول الإسلامية على أن تقف هذه البلاد كتلة واحدة على الحياد بين الغرب والشرق .. وأجاب إيفانز أن فكرة الحياد مستحيلة لأن روسيا ستهاجم الدول الإسلامية .. فقال المرشد هذا فرض يجوز أن يتحقق ويجوز ألا يتحقق وأما وجود الإنجليز في بلادنا فحقيقة.

وقد تسبب احتلالهم لنا في وقوع حربين لم يكن لمصر مصلحة فيهما فضلا عن أن حياد قناة السويس لا يتحقق حال وجودهم بها واستمر إيفانز في القول بأن روسيا لها مطامع فأجابه المرشد في حسم قائلا:

"إننا لن نسلم أنفسنا لأحد، ولكن يمكن بعد خروجكم من مصر أن نعقد معكم اتفاقا سريا على مساعدتنا إذا هاجمتنا روسيا ويكون دخولكم مصر بعد ذلك بناء على طلبنا وتخرجون حالما تنتهي مهمتكم ...".

وانتهت المناقشة بين إيفانز والمرشد على ذلك ...

وفي يوم السبت 25 فبراير 1953 عقد اجتماع بمنزل منير دلة بالعجوزة حضره المرشد وحسن العشماوي وعبد القادر حلمي وصالح أبو رقيق وصلاح شادي ومن جانب الحكومة عبد الناصر وعبد الحكيم عامر وكمال حسين وصلاح سالم ...

وأوضح عبد الناصر وجهة نظر مناقضة تماما لفكرة الحياد السلبي أو الإيجابي، كما نادي بعد ذلك، بل قال إن علاقات مصر مع المعسكري الغربي أمر طبيعي يتفق مع ظروفها وتاريخها السياسي الأمر الذي يحتم الإبقاء على التعاون معه واستبعاد الانحياز إلى المعسكر الشيوعي الذي لا يمكن تصوره بحال من الأحوال

وأنه يوافق مبدئيا على إبقاء القاعدة الإنجليزية في القناة، غير أنه يفاوضهم في أسلوب الإشراف عليها وعدد الخبراء الذين يحتاجهم هذا الإشراف حيث إن الإنجليز كانوا يطالبون بإبقاء عشرة آلاف جندي في القاعدة، وكان الجانب المصري يرى أن يكونوا خمسة آلاف فقط.

ومن ناحية أخرى فإنه يوافق على مبدأ عودة الإنجليز إلى القاعدة في حالة قيام حرب فعلية تصل إلى بلاد تقع في خط الدفاع الأول عن مصر مثل تركيا وليس كما يعرض الإنجليز في حالة وجود خطر قيام الحرب.وبعد أن انتهى عبد الناصر من عرض وجهة نظره تلك طلب رأي المرشد وطلب أن يسمع حديثه عن مقابلته لإيفانز.

وكانت وجهة نظر المرشد مخالفة تماما لعبد الناصر حين قال:

"إن الإنجليز يجب أن يخرجوا نهائيا من مصر خروجا غير مشروط، فلا حق لهم في الإبقاء على تلك القاعدة مع احتفاظهم بحق ملكيتها، وأي قاعدة عسكرية في البلاد لا يكون الإشراف عليها إلا من الجيش المصري وحده لأن التسليم بغير ذلك معناه انتقاص حقوق البلد وتسليمها أو جزء منها للعدو مما يهدد استقلالها ولكن إذا لم يرغب الإنجليز في ترك الأسلحة أو المعدات الموجودة في القاعدة فليأخذوها معهم.
أما حق الإنجليز في العودة إلى القناة إذا قام تهديد بحرب ضد مصر فأمر مرفوض تماما سواء قامت حرب في أمريكا أو تركيا أو حتى في مصر نفسها فليس من حق أي دولة أن تأتي بجيوشها إلى مصر إلا إذا كان ذلك بناء على طلب مصر نفسها التي لها وحدها تقرير مصلحتها ولو سلمنا بحق عودتهم فلا فائدة إذن من خروجهم اليوم ليعودوا إلينا غدا متذرعين بأي سبب.
واستطرد المرشد في شرح موقف مصر من الغرب والشرق فقال إن مصلحة مصر لا يجوز ربطها بالشرق أو الغرب وإنما مصلحتها أن تصادق من تشاء من الدول شرقية كانت أو غربية حسبما تحقق تلك المصلحة ... وكأنما ألقى المرشد على الضباط درسا في الوطنية النابعة من عزة المسلم والبعيدة عن مفاسد الساسة وضعفهم.
ولم يملك عبد الحكيم عامر نفسه لدى سماعه لهذا الشرح من المرشد أن قفز من كرسيه مهللا كأنما وجد ضالته قائلا:
"هي دي ... هي دي" وخيم صمت على الجميع، في حين حاول عبد الناصر إخفاء انفعاله وراء قسمات وجهه الجامدة ... وأبدى تعليقا فاترا على فكرة الحياد حين أظهر شكه في تساؤل حائر "ما مدى إمكان اتخاذ هذا الموقف في الظروف الدولية المتطورة".
وأدركت من وراء هذا التساؤل المريض أنه يبيت أمرا! وجرى نقاش طويل مع الموجودين تبين من خلاله أن موقف الضباط من المباحثات قد أصبح مشدودا إلى حدود لا ينبغي لهم تجاوزها! وقد سرى عنهم موقف الإخوان الذي اعتبروه موقفا متشددا يعينهم على الوصول إلى اتفاق ...

وأخيرا ...

هذه هي قصة لقاء قادة الإخوان المسلمين مع الإنجليز ومع رجال الثورة لا أسوقها دفاعا عن قادة الجماعة ولا عرضا لمستوى حرصهم على شرفهم وكرامة دينهم، وإنما أنطلق بها إعذارا إلى الله ورعاية لحرمة فكر القارئ.

المقال الثامن لصلاح شادي "لماذا يتجنى البعض في تصوير جماعة الإخوان المسلمين"

(الوطن في 31 ديسمبر 1980)

قرأت مقال الدكتور رمضان "الثامن" عن الصراعات الداخلية بين الإخوان المسلمين.وأني أصارح القارئ أن مقالات الدكتور المتعلقة بالنظام الخاص أورثتني كثيرا من مرارة الأسف، منذ بدء الاطلاع والرد عليها.

فلا أستطيع إغفال مجانبة بعضها للحقائق، واستفاضة بعضها الآخر في الظنون، وجانب ثالث منها قام على الاستنتاج المخيب للآمال حين جرى بها قلم الدكتور في تصوير يوافق رؤيته القائمة لجماعة الإخوان المسلمين؟! كما ألف نظام حكم عبد الناصر أن يعرضها.

وما زالت معلوماته التاريخية يسوقها من معين التحقيقات التي أجراها جمال سالم، والتي سبق أن أوردنا رأيه منها، ولذلك رأيت احتراما لذهن القارئ، بل وذهن الكاتب نفسه أن أروي وقائع الأحداث في فتنة السندي ضد جماعة الإخوان المسلمين، بالصورة التي جرت في الواقع؛

كما يرويها أحد أعضاء النظام الخاص الذين شاركوا في إخماد هذه الفتنة وكان لهم دور فيها، بعيدا عن مهاترات الكاتب، غير ملق بالا إلى كل ما عداها من خيالات وتناقضات، فالصور الخاطئة للأحداث والشروح التي استند عليها الدكتور رمضان أكثر من أن يجري الرد عليها، وإن اضطررت إلى الإشارة، إلى الوقائع المختلفة وليست المحرفة فحسب في نهاية المقال على سبيل المثال.

والأخ سيد عيد يوسف الذي أروي شهادته هنا كان مسئولا عن إخوان النظام في منطقة شبرا الخيمة آنذاك، وحين يروي وقائع مقتل المرحوم سيد فايز، ومحاولة استكتاب المرشد استقالته، واحتلال المركز العام، فإنما يرويها من واقع دوره الكبير في تلك الأحداث لصلته الوثيقة بأحمد عادل كمال، الذي اتهم بقتل سيد فايز.

يقول الأخ سيد عيد يوسف:

خلال شهري سبتمبر وأكتوبر سنة 1953 كان الجو الحكومي مشحونا ضد جماعة الإخوان المسلمين، وكانت خطة عبد الناصر وقتها هي الاتصال بأعضاء من الجماعة، من خلف ظهر المرشد ساعيا لتجميعهم ضده بعد أن تبين له أن المرحوم الهضيبي يشكل عقبة خطيرة في طريق تنفيذ مخططاته ضد الجماعة.

وفي المقابل كانت هناك محاولات من جانب المرشد لتصحيح أوضاع النظام الخاص الذي كانت قيادته تتصرف بعيدا عن قيادة الجماعة وخاصة بعد فصل الأربعة المسئولين فأصبحوا يجاهرون بعدم ارتباطهم بالمرشد بل ويغذون روح العداء تجاهه في أفراد النظام الخاص فكلف المرشد الأخ حلمي عبد المجيد وأحمد حسنين الاتصال بالأعضاء دون جدوى إذ كان لا بد أن يتم ذلك عن طريق أحمد عادل كمال رئيس منطقة القاهرة فهو الذي يحتفظ بأسماء تشكيل النظام الخاص به سرا؛

وعندها بدأ الأخ سيد فايز وهو من قادة النظام الخاص الاتصال بأفراده ليبين لهم خروج السندي عن طاعة المرشد ويدعوهم للارتباط به، واعتبر السندي وأحمد عادل كمال هذا التصرف فيه إذكاء للفتنة بين أعضاء النظام الخاص وبين المرشد.

كنت في السنبلاوين عندما علمت باستشهاد سيد فايز حين طالعت الخبر في الصحف صباح يوم الجمعة 21 نوفمبر 1953 فعدت إلى القاهرة وعلمت أن الحادث تم الساعة الثالثة بعد ظهر الخميس عندما حمل أحد الأشخاص إلى منزل المهندس سيد فايز "هدية المولد" عبارة عن علبة حلوى بداخلها شحنة ناسفة من مادة "الجلجنايت".

وفوجئت بوالدتي تبلغني أن أحمد عادل كمال قد حضر إلى منزلنا في الساعة الثانية عشرة ظهر يوم الخميس وأحضر معه حقيبة فلما فتحتها وجدت فيها أشياء يحرص أحمد عادل كمال كل الحرص على سريتها تتضمن جوازات سفر مصرية بدون أسماء وتقارير لمخابرات الإخوان عن حركة الجيش وتحركات السفارات البريطانية والأمريكية في مصر وتقارير عن تحركات الشيوعيين وهي أمور سرية للغاية وأشياء أخرى تخصه.

وقد أدركت أنه أتى إلي بهذه الأشياء لأنه يخشى من تفتيش بيته، خشية حالة راجحة ارتبطت في ذهني بحادث الشهيد سيد فايز فتوجهت إلى المركز العام وأبلغت فضيلة المرشد والأخ الدكتور خميس حميدة نائب المرشد حينذاك بهذا الأمر وسلمته محتويات الشنطة.

بعد هذه المسألة بثلاثة أيام السبت 22 نوفمبر اليوم التالي لتشييع جنازة سيد فايز صدر قرار من مكتب الإرشاد بفصل أربعة من قادة النظام الخاص هم عبد الرحمن السندي وأحمد عادل كمال ومحمود الصباغ وأحمد زكي فعدت مرة ثانية إلى المركز العام لإبلاغ الدكتور خميس حميدة بأن هناك ارتباطا خاصا لي مع أحمد عادل كمال أحد هؤلاء القادة؛

فقد كان هناك مخزن للسلاح ويقع تحت بيت أحمد عادل كمال ولكني كنت أنا المسئول عنه، فأبلغني الدكتور خميس بأن صلتي التنظيمية بهم قد انتهت، ولكن تبقى صلة الجوار والمودة.

وحين كنت بالمركز العام رأيت أحمد عادل كمال الذي حضر ليسأل عن أسباب فصله فأجابه الدكتور خميس بأن عليه أن يقدم شكوى لمكتب الإرشاد لينظر في أمرها فكتب الشكوى وتحدثت معه عن الفتنة التي تسببت في فصلهم وأن موقفهم الآن بالغ الدقة وأن عليهم تجنيب الجماعة أية منزلقات فأجاب أنه لن يقوم بأي عمل يذكي للفتنة، وأنه سيمكث في منزله ولن يكلم أحدا حتى تظهر براءته.

وبعد عدة أيام صدرت توجيهات لبعض شباب النظام الخاص لإحراج المرشد بالأسئلة حول أسباب فصل قادة النظام الخاص، ولكن المرشد خاصة بعد مقتل سيد فايز لم يكن يذكر أسبابا دعت لهذا الفصل وإن كان المركز العام قد نفى وجود صلة بين قرار الفصل وحادث سيد فايز

لأن أهم الأسباب الجوهرية كانت صلة المفصولين بقادة الثورة من خلف ظهر قيادة الجماعة فاستغل المفصولون هذا الأمر وبدأوا يشيعون في صفوف الإخوان أن الجماعة تخلت عن الجهاد وأصبحت مجرد جمعية خيرية بعد حل الأحزاب ولهذا يسعى المرشد لحل النظام الخاص.

وسمعت من أحمد عادل كمال بأن علي صديق جاء إليه بالمنزل واقترح عليه أن يذهب جمع من شباب الإخوان إلى منزل المرشد لسؤاله عن أسباب الفصل فإذا لم يجب إجابة واضحة طالبوه بالاستقالة وفي نفس الوقت تتواجد في المركز العام مجموعة من المتعاطفين مع القادة المفصولين من أعضاء مكتب الإرشاد والهيئة التأسيسية منهم صالح عشماوي ومحمد الغزالي وعبد العزيز جلال وسيد سابق ... لكي يختاروا مرشدا عاما للإخوان بدلا منه وكان التدبير أن يختاروا صالح عشماوي حيث كان قد اتهم قيادة الجماعة في إحدى الخطب بالتخلي عن الجهاد.

فصارحت أحمد عادل كمال بأن هذه علامات فتنة وأني لن أسكت إذا حدثت ... وفي وقتها بدأ يحجب ويخفي عني الأخبار بعد أن أيقن أني لن أقف مكتوف الأيدي أمام أي خروج على الجماعة ومرشدها.

وكانت تساورني الشكوك في أن يكون أحمد عادل كمال ضالعا في مقتل سيد فايز وقد عرض في التحقيق على الفتاة التي تسلمت الطرد فلم تتعرف عليه مما يقطع بأنه لم يكن هو الذي نفذ العملية؛

ولقد علمت أن هناك طالبا في كلية الطب في السنة النهائية وقتها كان مشتركا في رحلة مع الكلية صادف موعدها يوم الحادث فمنعه أحمد عادل من اللحاق بإخوانه واستدعاه من الرحلة وهو يشبه كثيرا أحمد عادل في قصر القامة وصلع الرأس واسمه محمد أبو سريع وصلته مباشرة بأحمد عادل كمال ومن الأسر المرتبطة به ارتباطا خاصا وعندما عرض أحمد كمال على الفتاة التي تسلمت الطرد لم تتعرف عليه إنما قالت إن الجاني يشبهه.

والغريب في الأمر أنه رغم حرص الحكومة في اعتقالات 1965 أن لا تترك شيئا من قضايا السلاح القديمة التي تم التحقيق فيها عام 1954 دون إعادتها للتحقيق إلا أنها لم تحاول أن تثير موضوع مقتل سيد فايز إطلاقا ولو حاولت لحصلت على ما تريد من معلومات لأن أحمد عادل كمال وقتها كان مستعدا من شدة التعذيب أن يقول كل شيء.

وفي يوم الجمعة 11 ديسمبر 1953 أي بعد اسبوعين من قرار الفصل ذهبت قبل العصر إلى مسجد شريف القريب من منزل المرشد وكنت على موعد مع الأخ حسن عبد الغني وفوجئت بوجود عدد كبير من شباب النظام الخاص على رأسهم فتحي البوز وعلي صديق مما لفت نظري؛

وعندما التقيت بحسن عبد الغني كان عنده الأخ إسماعيل الهضيبي أخبرته بكل ما أعلمه فلم تعتره الدهشة، وطلب مني متابعة الأمر، أما الأخ إسماعيل فقد قال: هذا مرشدكم وأنتم أحرار معه ومن ناحيتي لن أتدخل في هذا الأمر، ورأيت محمد أحمد سكرتير السندي وعلى صديق وفتحي البوز وعلي الموفي مع آخرين لا أذكر أسماءهم يتشاورون فيمن يكلم المرشد واختاروا علي المنوفي لأنه هادئ الطبع.

وصعدت مجموعة عددها حوالي العشرين إلى منزل المرشد امتلأت بهم غرفة الاستقبال وبقي الآخرون في المسجد، حضر إليهم المرشد قائلا السلام عليكم فوقف الجميع وردوا السلام فقال زيارة ولا مظاهرة؟ قالوا زيارة وبدأ علي المنوفي بالكلام بهدوء ...

وقال إننا حضرنا لسؤال فضيلتك عن سبب فصل قادة النظام الخاص، وهنا تدخل الأخ محمد حلمي فرغل ليقول: "لا نحن لم نحضر للسؤال بل قدمنا لأننا تعبنا منك لأنك لا تعرف كيف تقود الجماعة ونحن لم نر منك خيرا ونحن حضرنا لنطالبك بالاستقالة".

فسأله المرشد:

الأخ اسمه إيه؟ فرد عليه أحمد نصير فقال: "فضيلتك بتسأل عن اسمه ليه؟" فأجاب المرشد واحد بيطالبني بالاستقالة ... ألا أسأله عن اسمه؟ فعقب أحمد نصير قائلا "أم أنك تريد أن تتخذ ضده إجراءات؟" فأجاب المرشد يا بني ماذا نملك نحن من إجراءات حتى ننفذها فيكم؟ فقال الأخ اسمي محمد حلمي فرغل من إخوان تحت الأرض!!

وهنا هم المرشد بمغادرة الحجرة إلى داخل المنزل فقالوا له حضرتك رايح فين؟ فقال:

"أنتم طالبين استقالتي وأنا رايح أكتبها" وقد بدأ الانفعال واضحا على وجهه، وهذا تصدى له محمد أحمد وفتحي البوز ومنعاه من الدخول وخلعا سماعة الهاتف لمنع الاتصال بالخارج فغادر المرشد الحجرة من الباب المطل على السلم فلحق به علي صديق ومحمود زينهم الذي قال للمرشد "ما يصحش برضه فضيلتك تنزل كده بالروب"

فقال له: "يا بني انتو خليتو حاجة تصح أو ما تصحش؟" وهنا حمله محمود زينهم وعاد به إلى الغرفة وعندها نزلت إلى الشارع لأجد الأخ سيد الريس غاضبا للغاية قائلا هل هذا إسلام ... خدعونا!

ظلمونا لقد كادوا للرجل فقلت له ما دمت من هذا الرأي فابق مع الرجل ولا تتركه وجريت لحسن البنان في صالة شقة المرشد واقفا مع علي نعمان وسمعت الأخير يقول للأخ البنان: "ألا تذهب إلى المركز العام حيث أعضاء الهيئة التأسيسية ينتظرون هناك! فأجاب الأخير لا .. كفاية لغاية كده".

لقد كان الشق الثاني مما دبر هو الاعتصام بالمركز العام حتى تصل استقالة المرشد حسن الهضيبي.

غادرت المكان وذهبت للأستاذ محمود عبده، وعند خروجي التقيت بالأخ عبد العزيز أحمد حسن سكرتير الإمام الشهيد، فأخبرته بما جرى فدخل بيت الأخ محمد فاضل صهر الأستاذ سعيد رمضان وبدأ الاتصال بأعضاء مكتب الإرشاد والهيئة التأسيسية لإبلاغهم بما حدث فتركته وعدت لبيت المرشد لأجد الإخوة إسماعيل عارف وفوزي فارس وحسن عبد الغني وسيد الريس من إخوان النظام وغيرهم يحاولون إقناعه بأن الذين حضروا إلى منزله لم يكونوا متفقين على ما تم؛

وأن قلة فيهم فقط هم الذين دبروا ذلك وأن الآخرين خدعوا ونحن مثل على ذلك فقال لهم لماذا إذن لم تتكلموا، فقالوا: كرهنا أن تحدث مجزرة في منزلك فطالما لم يتعد الأمر مسألة الكلام فنحن نسكت لكن لو تطور الأمر فنحن جاهزون للتصرف، وبعد أن كان ينوي الاستقالة امتنع عن ذلك كما بدا لي وقتئذ.

وذهبت إلى نجيب جويفل بالروضة لسابق علمي أنه على خلاف مع السندي وأبلغته بما حدث في بيت المرشد وما يجري بالمركز العام، ثم توجهت إلى حدائق القبة لأصطحب الأخ إبراهيم صلاح إلى منزل محمد أبو سريع لصلته الوثيقة به حيث كانت لديه كراسة فيها أسماء أفراد النظام الخاص وكنت حريصا على الحصول عليها فذهبنا لمنزله فلم نجده وحاولنا أخذ "الكراسة" من مكتبه إلا أننا عجزنا عن فتح أدراج المكتب..

فتوجهنا للمركز العام للالتقاء به، واستحضارها منه، ولدى دخولي المركز العام وجدت أفرادا في النظام أغلبهم من رؤساء المناطق قدموا من القاهرة والمنوفية، وبعد قليل اتصل بي تليفونيا الأخ صلاح العطار مسئول النظام عن شبرا ومن المقربين للسندي وكان معه في الشقة التي تدار منها الأحداث في باب اللوق قرب مبنى جريدة الأهرام فقال لي ماذا تعمل في المركز العام قلت له أؤدي مهمة قال من كلفك بها؟

قلت الله كلفني بها، فأعطاني عنوان المكان الذي ينتظرني فيه بالقرب من مبنى صحيفة الأهرام وقال تعال إلي فذهبت والتقيت به تحت البناية التي بها الشقة وكنت في أشد حالات الانفعال فقصصت عليه ما عندي ثم انخرطت في البكاء..

فهدأني قائلا هناك ما هو أخطر من هذا أن "سيد سابق قادم الآن من عند عبد الناصر ليبلغ السندي بموافقته على الانقلاب داخل الإخوان وأنه لن يتدخل إلى أن يتم الأمر لأن تدخله سوف يقلب الأمور وأن التعاون مع عبد الناصر سيتم بعد نجاح الانقلاب " أحسست عندها بتعاطف صلاح العطار معي.

واتفقنا على التصرف بحكمة لمواجهة الفتنة فصعد صلاح إلى السندي وعادل كمال وأبلغهما بأنه استطاع إقناع سيد عيد مسئول إخوان شبرا الخيمة بالاشتراك معهم وبالتالي يمكن الاستعانة بإخوان شبرا، وطلب السيارة التي معهما لإحضار إخوان شبرا للمشاركة في الأحداث

وكان الأستاذ سعيد رمضان مكلفا من جانب المرشد بالاتصال بصلاح سالم وزير الإرشاد، بشأن عدم نشر هذه الأنباء في الصحف ووافق صلاح سالم على ذلك إلا أن عبد الناصر قال وقتها أن الصحف حرة فيما تكتبه ولا يريد أن يؤثر ( ) عليها.

وحدث أثناء انتظارنا قرب منزل المرشد، أن التقينا بالأستاذ سيد قطب الذي كان غاضبا يردد: يا فرحة الصهيونية والصليبية العالمية!!

وعندما أتيحت لي الفرصة بعد ذلك وأنا في السجن للالتقاء به حدثته بأني تساءلت وقتها في نفسي بدهشة ما دخل الصهيونية والصليبية العالمية بخلاف داخلي بين الإخوان.

فقال لي: لقد اتصل بين الأستاذ علي أمين الساعة الثانية ظهر يوم الحادث وسألني قائلا: "أين حاسة الصحفي عندك .. الإخوان قائمون على بعض بالسلاح وأنت قاعد في البيت؟"

فقمت عندها وأخذت سيارة تاكسي وذهبت إلى بيت المرشد فلم أجد شيئا غير عادي وذهبت إلى المركز العام فلم أجد شيئا ملفتا للنظر كذلك ثم تحدث بعدها كل الأمور التي حدثت وهذا ما جعل الشهيد سيد قطب يقطع بأن الأمر مدبر من أكثر من جهة.

وتوجهنا إلى المركز العام بعد الواحدة صباحا وعند وصولنا وجدنا أن السندي قد اتصل بالمعتصمين هناك ليقول لهم اسمعوا وأطيعوا لصلاح العطار ووجدت أن أكثر الموجودين نشاطا في محاولة دفع الفتنة وإنهاء الاعتصام هو عبد العزيز كامل، فجاء إليه صلاح العطار وقال له عليك بفتحي البوز وعلي صديق، فتوصل معهما إلى اتفاق وجلس معهم حسن عبد الغني واتفقوا جميعا على الذهاب إلى السندي ليخبروه بأن الأمر لا يمكن أن يستمر!

وركب الجميع مع صلاح العطار وذهبوا للسندي في الشقة فأسقط في يده وقال لهم تصرفوا كما تريدون وأنهوا الموضوع وعادوا إلى المركز العام وغضب صالح عشماوي عندما علم أن هناك نية لإنهاء الموضوع وحاول الاتصال بالسندي ولكن صلاح العطار أوقفه وجمع الإخوان داخل صالة المركز العام وبدأ يتكلم عن السمع والطاعة وأن مطالبهم أجيبت؛

ولكن لكي يتم الأمر بالطريق الصحيح لا بد من الالتزام بالسمع والطاعة، وطلب منهم عدم التواجد في المركز العام والانتشار بأسرع ما يمكن، على أن يبقى سامي البنا وسيد عيد فقط للمشاركة في حراسة المركز العام.

وبعد أن انفض الجمع ذهبت مع صالح عشماوي وسألته إن كانت هناك صلة بين هذه الحركة وحركة الجيش، فارتبك وكان يعلم مدى حساسية الإخوان تجاه السلطة القائمة.

وفي نحو الساعة الثالثة بعد منتصف الليل سمعت هتافات خارج المركز العام فخرجت مع سامي البنا لنرى سيارات تاكسي تحمل عددا من الإخوة من قسم الوحدات لم ينتظروا حتى نفتح لهم باب المركز العام فتسلقوا السور ودخلوا المبنى ومعهم صلاح شادي ونجيب جويفل وحاول بعضهم الاعتداء علي باعتباري من حراس الفتنة، ولكن منعهم نجيب جويفل الذي كان يعرف موقفي منهم قبل ذلك.

وتوجهت إلى صالح عشماوي في غرفة المرشد فوجدته يصلي!! ولما انتهى من صلاته أفهمته بأنه لا بد من الخروج من غرفة المرشد لمواجهة الموقف فمنعنى قائلا: "أنت مجنون ... يموتونا إذا خرجنا".

ولكن خرجت والتقيت بصلاح شادي فأمهلني ربع ساعة للخروج مع صالح عشماوي وعبد العزيز جلال بدون أن يتعرض لنا أحد بسوء فدخلت الغرفة ثانية وأبلغت صالح عشماوي وعبد العزيز جلال بذلك وقلت لهما إني مسئول عن حياتهما هذه الفترة فقط، فخرجا وأنا معهما إلى حيث كانت سيارة صالح عشماوي بعيدة قليلا عن دار الإخوان فاستقلاها وانتهت بذلك قصة احتلال الدار وإن لم تنته آثارها.

أخيرا ..

هكذا قص علينا الأخ سيد يوسف أحداث دار المرشد والمركز العام للإخوان المسلمين وقبلها حادث الشهيد سيد فايز، وتوافق أقواله ما وصلني من أنباء ليلة حادث احتلال المركز العام عندما عدت من عملي إلى منزلي متأخرا فاتصلت تليفونيا بمنزل المرشد..

فأجابني عبد الحكيم عابدين مصدقا ما حدث فتوجهت ومعي نحوا من ثلاثين أخا من إخوان قسم الوحدات وبصحبتي نجيب جويفل وإبراهيم بركات ومحمد الشناوي وعدد آخر ممن استطعنا اصطحابه وقتئذ من قسم الوحدات ودخلنا المركز العام بعد تسلق السور حيث كان الباب مغلقا بالسلاسل وواجهنا الذين كانوا في الحراسة دون الاضطرار إلى استخدام الأسلحة أو التلويح بها.

ووجدت داخل الدار ... في مكتب المرشد الأستاذ صالح عشماوي والأخ محمد عبد العزيز جلال فطلبنا منهما مغادرة الدار .. إذ لم تكن هناك مشكلة في داخل الدار سواهما وكانت مباحث عبد الناصر وقوة من البوليس تقف خارج الدار انتظارا لأوامر لم أكن أدري كنهها في ذلك الوقت

وقد علمت بعد ذلك أنهم كانوا ينتظرون إعلان استقالة المرشد بداية لتوقيت تنصيب صالح عشماوي بدلا منه ومنع أي شخص من دخول الدار إلا بإذن المرشد الجديد بدعوى منع الاعتداءات ودفع المشاحنات!

لكن عدم النجاح الذي لازم الخطوة الأولى حال دون استمرار المهزلة، واتصلت بالأستاذ الهضيبي من الدار وأفهمته ما تم، ثم ما لبث الأمر أن ذاع في القطر وبدأت تترى على الدار المكالمات الهاتفية من شتى الأنحاء تستعلم عن صحة الخبر ... فأشار المرشد بإخطار كافة المناطق والشعب بالحضور في اليوم التالي لسماع حديثه في هذا الشأن.

وفي عصر اليوم التالي اكتظت الدار بالحشود وامتلأت الشوارع الموصلة إليها بجموع غفيرة من الإخوان، وشاهدت منظرا لا أنساه لقد كان الإخوان يفدون من شتى المناطق والشعب، وما أن تطأ أقدامهم أرض المركز العام حتى تخر الجباه لتصلي لله تعالى صلاة شكر.

وبلغ المشهد مداه من التأثر حين صعد المرحوم الشهيد عبد القادر عودة يعلو المنصة ويعلن للجميع وفاءه لقائده ومرشده، وأن المؤامرات مهما بلغت فلن ترتفع إلى مواطن أقدام المؤمنين.

وانتهى المشهد بقبول اعتذار الإخوة علي صديق وفتحي البوز وغيرهم ممن أدرك خطأه بالانقياد للسندي.واضطلع يوسف طلعت بمهامه كقائد للنظام الخاص ليسير به كما أوصاه المرشد "نحو وجهته الصحيحة بعيدا عن الروح التي أملاها السندي على أتباعه.

وفي التاسع من ديسمبر قرر مكتب الإرشاد فصل صالح عشماوي وعبد العزيز جلال ومحمد الغزالي، وفي اليوم التالي اجتمعت الهيئة التأسيسية وأقرت ذلك.وجرت تعديلات أخرى تناولت رئاسة قسم الوحدات الذي كلف بمهام النهوض به الأخ الضابط أبو المكارم عبد الحي وبقي قسم ضباط البوليس ورجاله تحت إشرافي.

ثم كون المرشد قبيل سفره إلى الأقطار العربية في أوائل يوليو سنة 1954 لجنة قيادية برئاسة الشيخ فرغلي وعضوية يوسف طلعت ومحمود عبده وصلاح شادي مهمتها مواجهة موقف الحكومة من الإخوان بما يلزم وما تهيئه قدراتهم على ضوء الأحداث، وبالفعل تمت عدة اجتماعات لهذه اللجنة أثناء سفر المرشد خارج القطر لزيارة الإخوان المسلمين في الأقطار العربية.

ولا يمكن أن نمضي في وقفتنا مع النظام الخاص في غضون هذه الأحداث بغير أن نتعرض لمدى أصالة الرجال الذين تربوا في أحضان هذه الجماعة وخاضوا غمار أحداثها كيف واجهوا هذه الفتنة، لنكشف الستار عما تأصل في وجدانهم من حق وصدق وإخلاص يتمايز به عادة أصحاب الدعوات؛

لنستطيع بذلك أن نقيم حكما صحيحا صادقا على جماعة الإخوان المسلمين على هدي ما جابهوا به هذه الفتنة، لأن الحكم على الرجال في هذا الموقف هو الحكم الصحيح على فهم هذه الجماعة ...

فقد نرى شواهد صحة الانقياد وسلامته في كثير من رجال الجماعة الذين لم يخوضوا أصلا محنة الاستجابة لفتنة السندي أما لبعدهم التنظيمي عنه أو لموقفهم أصلا من عبد الرحمن السندي بالشك وعدم الثقة فيه ...

وهذا وحده لا يعطينا المؤشر الصحيح للحكم على صلاحية هؤلاء الرجال وبالتالي على جماعة الإخوان المسلمين في أخص أقسامها الذي تربى رجالها فيه على الجهاد في سبيل الله بمعناه الأصيل الذي جاء به شرع الله.

ولكنا حين نرى شاهدا عاما بالأوبة السريعة في سلوك المخطئين والذين انحرفوا عن الحق ندرك ما أعنيه من عدالة الحكم على هذه الجماعة من خلال موقف عامة الإخوان، وخاصة من تردوا في هذه الفتنة.

فأصالة أي جماعة إنما تنهض على خصيصتين الأولى أن يتبادل رجالها مواقف الخطأ والصواب في الأزمات ما دام كل ابن آدم خطاء والثانية أن تكون من وفرة الحيوية بحيث تستطيع أن تلفظ خبثها.

فما من جماعة خاضت تجربتها مع الأحداث، في سيرها لتحقيق غايتها، إلا وتبادل بعض رجالها مواقف الحق والباطل والخطأ والصواب فتارة يصيب البعض وتارة يخطئ الهدف، فيتصدى غيره للذود عن الحق، والوقوف بجانبه.

وقد جرى تبادل المواقف هذا مع السلف الصالح بل الأفذاذ من الصحابة كعمر وأبي بكر رضي الله عنهما ... وغيرهما حتى ليكاد عمر بن الخطاب ينأى عن متابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم في صلح الحديبية فيقول قولته المشهورة:

"اتهموا الرأي في الدين فلقد رأيتني وإني لأرد أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم برأيي! فأجتهد ولا آلو، وذلك يوم أبي جندل والكتاب يكتب حين قال "اكتبوا بسم الله الرحمن الرحيم" فقال (أي أبو سهيل) تكتب "باسمك اللهم" فرضي رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبيت فقال "يا عمر تراني قد رضيت وتأبى؟" في الوقت الذي كان فيه موقف أبي بكر في هذا الشأن تسليما مطلقا برأي رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ونرى عمر بن الخطاب في موقف آخر يوم بدر يشير على رسول الله صلى الله عليه وسلم ألا يبقي على أسير، ويشير أبو بكر بالإبقاء عليهم وأخذ الفدية، ويتنزل الوحي من السماء مؤكدا صحة رأي عمر بن الخطاب.

ويتبادلان المواقف كذلك في حرب الردة فيجنح عمر رضي الله عنه إلى اللين والسياسة وعدم الحرب، في حين يصر أبو بكر رضي الله عنه على أن يقاتل المرتدين إذا منعوه عقال بعير كانوا يؤدونه لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ويقول له معاتبا: "أجبار في الجاهلية خوار في الإسلام".

وهكذا يظل الحق حيا نابضا في الرجال الذين ينهضون بتبعة العمل في الأمم والجماعات كل يستر أخاه ويكمله وينهض بعبء الحق إذا تأخر غيره عن داعية.

وهذا في رأيي عنوان إيمان الأمة أو الجماعة التي يتكامل أعضاؤها في أداء واجباتهم للحق وصيانة أماناتهم لله فيه، وليست علامة مرض أو انتكاس إذ ليس من المعقول أن يكون مقياس سلامة جماعة من الجماعات عدم خطأ أفرادها إطلاقا أو عدم انحراف بعضهم عن جادة الحق، ولكن الصحيح الذي لا يصح الحق إلا به هو أن يوجد من أفراد هذه الجماعة أو الأمة من يصوب الاتجاه ويصحح القبلة ويقوم الاعوجاج فيتبعه ركب المخطئين.

فليس بعجيب إذن أن نرى تبادل المواقف في جماعة الإخوان المسلمين في عامة مسارها وخاصة في هذا الموقف العصيب حين حاول بعض الإخوان استكتاب المرشد استقالته والبعض الآخر الاعتصام بالمركز العام أو حتى هؤلاء الذين دبروا مصرع الشهيد فايز فلم نر أحدا يحبذه أو يشيد بقتله ...

بينما رأينا صلاح العطار ذراع السندي الأيمن بعد أن أدرك الصواب من الأخ سيد عيد يوسف يقف في صفه مؤازرا مساندا له بكل ما وسعته الطاقة ويلفظ ولايته للسندي ويعمل جادا لإحباط الفتنة.

وعبد العزيز كامل الذي لم يصمد لجحيم عبد الناصر بعد اعتقالات أكتوبر سنة 1954 هو نفسه الذي ساهم بجهد رائع في إقناع قطبين من أقطاب الفتنة باللحاق بركب الحق بعيدا عن السندي وعبد الناصر.

حتى علي صديق وفتحي البوز دفعتهما إشراقة التوبة إلى الذهاب إلى السندي وإعلانه بفض الاعتصام في الدار وإخماد الفتنة، وقبلها كادت سواعدهم أن ترفع على الملأ ألوية الخيانة.وهناك كثيرون أدركوا الحق وابتعدوا عن الانزلاق في الباطل قبل المضي فيه، ذكر بعضهم الأخ سيد عيد في سياق حديثه.

والخصيصة الثانية من خصائص صلاحية الجماعات للبقاء هي أن تلفظ خبثها ولا تقيم عليه بعد أن عرفته ... وهذا ما فعلته الجماعة مع السندي وصالح عشماوي وغيرهم ممن استكبروا عن رؤية الحق واتباعه، لعلة يعلمها الله.

وهكذا نقول في صدق ويقين إن ما أصاب جماعة الإخوان من محنة استشهاد سيد فايز ومحنة الاعتصام في دار المركز العام ومحاول استكتاب المرشد استقالته كانت كلها عند المنصف شهادة كشفت عن أصالة هذه الجماعة وصلابة قاعدتها فيما جرت به الأحداث بعد ذلك.

وأخيرا...

وبعد نقل الصورة عن رجال النظام الخاص لا أستطيع المضي إلى نهاية المقال قبل أن أعرض لما ساقه لنا الدكتور رمضان مند دلائل الديكتاتورية في طرد المرحوم السندي، واختيار المرحوم يوسف طلعت بدلا منه.

ويقدم لنا من أدلته في هذا الصدد، قرار اللجنة العليا للتنظيم المكونة من عبد الرحمن السندي، وأحمد زكي وأحمد عادل كمال ومحمود الصباغ والدكتور خميس حميدة والشيخ سيد سابق والشيخ محمد فرغلي التي استقر رأيها على هذا الاختيار الجديد برئاسة يوسف طلعت للنظام الخاص فهل يعني هذا فرض ديكتاتورية الهضيبي بعد كل هذه الأحداث؟!

ثم ...

يظل الدكتور ملحا في اتهامه قيادة الإخوان بالديكتاتورية حتى يقول إنه بعد فصل صالح عشماوي ومحمد الغزالي، وأحمد عبد العزيز جلال بناء على قرار مكتب الإرشاد سارع الثلاثة إلى جلسة الهيئة التأسيسية لعرض قضيتهم.

فهل قبول الهيئة التأسيسية لدفاع الذين قرر المكتب فصلهم يفيد معنى الديكتاتورية؟! إذا تحاكمنا إلى أمانة العقل والمنطق؟!

ثم ...

يسوق الدكتور أيضا وقائع لا أعرف مصدرها، استقاها على ما يبدو مما كان يقوله المتهمون، وكانوا في هذا الوقت يقولون أي شيء! وأي كلام يدفعون به عن أنفسهم غوائل التعذيب!!

ولذلك قيلت أشياء مهوشة، لم يذكر لنا الدكتور المصادر التي استقاها منها، ولكنه يتحدث عن جهاز إشراف على التنظيم مكون من إبراهيم الطيب وأحمد حسنين وصلاح شادي وأبو المكارم عبد الحي ... وهذا غير صحيح أيضا.

ويستطرد الدكتور في تشكيل اللجان حتى ينتهي إلى اللجنة العليا للجهاد، وتتكون من الشيخ فرغلي والأستاذ محمود عبده وصلاح شادي وأبو المكارم عبد الحي والدكتور خميس حميدة، ويوسف طلعت وعبد المنعم عبد الرؤوف، وصالح أبو رقيق، ومنير دلة والدكتور حسين كمال الدين.

وتساءلت في حيرة، ولماذا أخفت سلطات الاتهام في محاكمتي هذه الحقيقة؟! ولماذا لم تقدم ضدي هذه الأدلة ليطوقوا بها عنقي قبل الحكم بالإعدام؟!

وكذلك ما أورده الدكتور خاصا باجتماعي وحسين حمودة وأبو المكارم عبد الحي وخليل نور الدين ويوسف طلعت في بيت أبو المكارم، بناء على تكليف المرشد لنا بالنظر في رسالة محمد نجيب التي تضمنت طلبه تغيير الحكم الديكتاتوري الجاثم على صدر البلد بحكم نيابي دستوري حسب رغبة الهيئات الشعبية ومنها الإخوان" وقد أسفر الاجتماع عن تعذر قيام الإخوان بهذا الانقلاب ...

بالرغم من أنه جرت في هذا الصدد مقترحات رفضها محمد نجيب منها تشكيل لجنة سرية استشارية يشترك فيها بعض العسكريين الموالين لمحمد نجيب، وعدد مساو من الإخوان المسلمين، وتعرض على هذه اللجنة القوانين بعد إقراراها، كما تعرض عليها السياسة العامة للدولة ثم تنتهي قصة هذه اللجنة بأن محمد نجيب لم يوافق على مقترحاتها

والواقع أنه لم يجر أي اجتماع بين هؤلاء الأخوة المذكورين وبين محمد نجيب، ولم يوصل أي من الإخوان مثل هذا الكلام إلى محمد نجيب.

ومهما نحى الدكتور في منحى رده على أنه وجد أن ما يقوله الناس متمشيا مع سياسة الإخوان حسبما يراها، فإني لا أعتبر هذا دليلا يحتاج إلى الرد، بالإضافة إلى عبارته التقليدية المتكررة، بأننا أخطأنا في تأييد ديكتاتورية عبد الناصر كما أخطأنا سابقا في تجربة القصر وبذلك يتضح للدكتور أننا لم نتعلم شيئا.

والحقيقة أننا لم نتعلم من تجربة القصر امتهان الدكتاتورية ولفظها، ولكن تعلمناها من كتاب الله، وما طبقته نظم الجماعة في أجهزتها المختلفة، الأمر الذي تأباه الماركسية وتأباه أيضا مناهج الأحزاب.

تعليق صحيفة الوطن الكويتية على مقالات صلاح شادي

"الوطن وعبد الناصر ودراسة الإخوان المسلمين"

(الوطن في 14 يناير 1981)

تعتقد جريدة "الوطن" أن عبد الناصر قد لعب دورا تاريخيا بارزا في حياة مصر، وحياة الأمة العربية، بل وفي مسار حركة عدم الانحياز والعالم الثالث.

وتعتقد جريدة "الوطن" أن هذا الدور لا يمكن إنكاره في أي دراسة موضوعية وأي أخطاء قد تكون قد تمت خلال عصر عبد الناصر لا يمكن أن تغير وجه الحقيقة أو تخفي المعالم البارزة للتجربة.

لقد كانت تجربة عبد الناصر إنقاذا لمصر من الفقر والتخلف وفي عصره انتقلت مصر ذات الكثافة السكانية العالية من حالة إلى حالة كان الاقتصاد متخلفا تابعا، يعتمد على محصول واحد وهو القطن وسوق واحد هو بريطانيا

وكانت الأوضاع الاجتماعية متردية بين ثراء فاحش وفقر مدقع وما زالت صحف الأربعينيات حافلة بأبناء هذا الزمان الذي سجل حملة لمكافحة الحفاء كما سجل صورا صارخة حملت عنوان "رعاياك يا مولاي" وتسبب في مصادرة صحيفة.

في عصر عبد الناصر تحول هيكل الاقتصاد، وأصبحت مصر "صناعية زراعية" وقفزت معدلات التنمية حتى باتت التجربة المصرية نموذجا للعالم الثالث كله أيضا، وفي هذا العصر تحقق الكثير من العدل، كما تمت اجتهادات أصابت وأخطأت على طريق الديمقراطية.

عربيا ودوليا كان الأمر أكثر وضوحا، على نطاق بعث الحركة القومية العربية أو على نطاق التحرر والاستقلال ويكفي أن نحصي عدد الدول التي استقلت، والدول التي قاومت التبعية بعد "يوليو عبد الناصر" ويكفي أن نرصد بصمات مصر في تلك الفترة على ثورات التحرير في الوطن العربي وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.

لقد كان عبد الناصر إحدى سمات عصر حمل أسماء عدد من العمالقة مثل نهرو وتيتو وماوتسي تونج .. وكان عبد الناصر واحدا من هؤلاء.

هذا هو اعتقادنا بالنسبة لعبد الناصر، نقوله بمناسبة ما يكتبه الأستاذ صلاح شادي ردا على د. عبد العظيم رمضان ونقوله ونحن ننشر ما يخالفه، لأننا نعتقد أن هناك فرقا بين الإجلال والتقديس ونحن نجل عبد الناصر، ولا نقدسه ونعتقد أن حرية إبداء الرأي لا تقل أهمية عن احترام التاريخ والنظر إليه بإنصاف.

المقال التاسع لصلاح شادي لماذا يتجنى البعض على جماعة الإخوان المسلمين

(الوطن في 14 يناير 1981)

لن أقف هذه المرة مع الحروف والألفاظ التي أراد الدكتور أن يوقفنا عندها في أحد ردوده السابقة، ولكني سأعرض إلى المعاني التي ركز فيها حملته على الشهيد عودة مع واقع عبارته التي لا تقبل الشك فيما يرغب أن يوحيه للقارئ وإن كنت خفيا أن أسمع وأقرأ له غير ذلك.

والدكتور رمضان يقرر لنا في وضوح هذه الأمور التي أنقلها بنصها من واقع مقاله الأخير: "على أن الجماهير التي خاب أملها في الثورة، وثار سخطها ومرارتها لحكمها الديكتاتوري، تحركت في هذه اللحظة الحرجة لتقلب الموقف مرة أخرى في اتجاه الديمقراطية

ففي الوقت الذي كان فيه مجلس الثورة يناقش مصير اللواء محمد نجيب وخالد محيي الدين، كانت جموع هائلة تتحرك من قواعد الإخوان المسلمين والوفد والحزب الاشتراكي تطالب بعودة محمد نجيب وسقوط الديكتاتورية، وانطلقت إلى ميدان عابدين تهتف: "محمد نجيب أو الثورة" "إلى السجن يا جمال" إلى السجن يا صلاح سالم ..."

ثم يستطرد

"وعندئذ قام صلاح سالم يوصفه وزيرا للإرشاد القومي، بإذاعة بيان في السادسة من مساء يوم 27 فبراير سنة 1954 يعلن فيه عودة محمد نجيب، وفي اليوم التالي 28 فبراير خرجت مظاهرات الابتهاج إلى عابدين تطالب محمد نجيب بالإفراج عن المعتقلين؛
ولكنها اصطدمت اصداما دمويا بالبوليس عند كوبري قصر النيل واضطر محمد نجيب إلى الاستعانة بعبد القادر عودة لتهدئة الجو وصرف المتظاهرين بعد أن وعد بإجابة مطالب المتظاهرين ... وكانت تلك أول مظاهرة موالية للديمقراطية يشترك فيها الإخوان المسلمون في تاريخ حياتهم السياسية".

والدكتور على هذا النحو لا يحب أن يترك لقيادة الإخوان المسلمين، حتى هذا الانطباع التافه الذي يدل على موالاتهم للحرية فنراه يقول في شرح ذلك "إنه بفضل الروح الثورية التي انتقلت من الجماهير إلى عبد القادر عودة، انتقل فجأة من موقع التأييد لعبد الناصر إلى موقع التأييد لمحمد نجيب".

حنانيك يا دكتور رمضان ...

لقد رتب الشهيد عبد القادر عودة هذه المظاهرة ووهبها دمه لا حماسه فقط كما رتب مظاهرة 27 مارس السابقة وكل ذلك جرى بعلم المرشد وتأييده وسأشرح ذلك فيما بعد بمشيئة الله، ولكن ما استوقفني هنا هو قول الدكتور إن هذه المظاهرة الشعبية الأولى في تاريخ الإخوان المسلمين التي نادوا فيها بالحرية للشعب، وبشجب الديكتاتورية.

ولا شك أن الدكتور قرأ في تاريخ الإخوان السياسي مظاهراتهم ضد الملك حين هتفوا بسقوطه في حرم الجامعة ومنعوه من زيارتها بإغراق الملاعب بالمياه، وما سبقها من مظاهرات ضد وزارة النقراشي التي أغرق فيها المتظاهرين في النيل ...

ومظاهراتهم في عهد صدقي بمناسبة معاهدة صدقي بيفن فلسنا الآن في مجال تعداد المظاهرات ولكني فقط أشير إلى أن الدكتور رمضان أبى أن يترك الشهيد عودة هادئا في رمسه بدون تناله كلماته، حتى لنراه هنا يفسر دوره بعد حل الجماعة مباشرة وإيداع المرشد والإخوان في السجن، بما يوحي بأن بقاءه ومن معه كالأستاذ عمر التلمساني وغيره في الخارج؛

إنما كان انطلاقا من مناخ يوحي بحاجة الإخوان المسلمين لديكتاتورية الثورة، لعدائهم التقليدي للديمقراطية، وحاجة الثورة للمساندة الشعبية للإخوان لبقاء ديكتاتورها في الحكم، بدليل إبقاء الثورة لمجلة الدعوة (التي كان يرأسها الأستاذ صالح عشماوي) وعدم منعها من الصدور على شريطة استبعاد مرشد الإخوان، وهو شرط قبله الشهيد عودة على أن "يترك له ومن معه تحقيقه فيما بعد".

ويقرر الدكتور رمضان أن هذا هو آخر ما وصل إليه الاتفاق بين محمد نجيب والشهيد عودة بعد الحل وأثناء وجود المرشد ومن معه من الإخوان في السجن، لولا الانفجار بين قيادة الثورة ومحمد نجيب الذي دفع الجماهير إلى الشوارع في 27 فبراير غاضبة ومطالبة بسقوط الديكتاتورية.

وأسوق الآتي لتصحيح هذه المعلومات:

محاولات عبد الناصر استقطاب الإخوان إلى صفه كانت مستمرة حتى قبل معاهدته مع الإنكليز منذ بدء محاولة إنشائها لهيئة التحرير بعد أشهر قلائل من نجاح الحركة، وبلغت ذروتها عندما ظن أنه نجح في تأليب الإخوان على مرشدهم في حوادث محاولة استكتاب المرشد لاستقالته، واحتلال المركز العام في ديسمبر سنة 1953 فلما باءت بالفشل أورثته هما وحزنا شديدين شرحت وقائعه في المقال السابق ...
وكان على رأس هذه المحاولة عبد الرحمن السندي الذي سبق فصله من قبل والأستاذ صالح عشماوي الذي فصل على أثرهما مباشرة، وإن بقيت مجلة الدعوة تصدر في الوقت الذي أعلن فيه مكتب الإرشاد منذ فترة سابقة أنها لا تمثل الجماعة.
فكيف يستقيم في العقل أن يستدل الدكتور على عدم رغبة عبد الناصر في تصفية الإخوان بالإبقاء على مجلة الدعوة في الظهور، وقد كانت في هذا الوقت صوت المفصولين من الجماعة.
وكان الأولى به أن يرى في الإبقاء على صدور المجلة دليلا على رغبة عبد الناصر في التصفية لا العكس.
ولم يجهل أحد من الإخوان وعلى رأسهم الشهيدة عودة بأن عبد الناصر قد فضح نفسه بعد حادث احتلال الدار، الذي شرحته قبلا، وأظهر العداء للجماعة كما سبق أن أوضحت ولو كان الشهيد عبد القادر عودة ضالعا في الاتفاق مع عبد الناصر لما ظل في ولائه للمرشد قبل مظاهرة عابدين؛
ولما ظل حريصا على إقناع المعتقلين أن قيادة الإخوان في الخارج إنما تستمد شرعيتها من بقاء المرشد في منصبه .. وأن محاولات التشكيك التي يقوم بها عبد الناصر لا ظل لها في نفوس الإخوان في الخارج، الأمر الذي أزعج عبد الناصر ومنعه من إتمام زياراته لبقية المعتقلين.
وأن الشروط الثلاثة التي فرضها عبد الناصر على عبد القادر عودة وادعى الدكتور أنه قبلها كلها ما عدا الابتعاد عن النشاط السياسي وقبوله الشرطين الآخرين، وهما حل التنظيم السري، وإيقاف نشاط الإخوان داخل صفوف الجيش والبوليس فهو أمر لا يمثل الحقيقة وينقصه مطالبته بعودة الجماعة إلى شرعيتها حتى صارحه محمد نجيب في نهاية المطاف أن شرط عودة الجماعة إلى شرعيتها مرهون بعزل المرشد؛
فأجابه الشهيد عودة أن الجماعة التي انتخبت المرشد هي وحدها التي تقرر عزله أو بقاءه، ولا يفرض عليها رأي من خارجها أما الجزء الثاني الذي ضمنه وعده بتحقيق خلع المرشد فيما بعد فليس صحيحا، وما كان يملك الشهيد عودة ولا غيره حتى يقدمه.
والقول بأن عبد الناصر كان يدير مفاوضاته مع الشهيد عودة باعتباره الشخص الذي اختارته الجماعة رئيسا لها بعد اعتقال المرشد فأيضا قول غير صحيح فلم يجر أي اختيار للشهيد عودة بعد سجن المرشد وإنما تحدث إليه عبد الناصر وغيره باعتباره وكيلا للمرشد العام! وليس الرئيس الذي اختارته الجماعة.
وأصارح الدكتور رمضان بأنه لا مجال لقوله بأن عبد القادر عودة لم تكن له صلة بالتنظيم، وأن النظام الخاص قد دبر مظاهرات يوم 27 فبراير مع القاعدة الشعبية للإخوان أو بدونها وأن مظاهرات 28 فبراير قد قامت بمعرفة الشهيد عودة، فهذا التقسيم غير صحيح بالنسبة لعمل أجهزة الإخوان المسلمين، إذ إن كل هذه المظاهرات جرت بتدبير وإشراف الشهيد عودة وإقرار المرشد؛
وأن التنظيم الخاص في وضعه الجديد بعد رئاسة يوسف طلعت والذي باشر تبعاته قبل ذلك بأشهر، كان يتلقى كل التعليمات الخاصة بهذه المظاهرات من الشهيد عودة شخصيا وأزيد الأمر وضوحا فأقول إن الشهيد عودة كان يبلغ المرشد في السجن بمجريات الأمور كلها وكان الرجل على ثقة بوكيله في كل حركة نبضت بها أجهزة الإخوان في خارج السجن.
وربما وجد الدكتور رمضان في الخطاب الذي أخرجه المرشد من داخل السجن إلى جريدة المصري في 16 مارس سنة 1954 يشجب فيه عدوان الثورة على الحريات، ويرفض كل اتفاق يبرم في غيبة الإخوان في المعتقلات (ويعني به الاتفاق مع الإنكليز) ما يدل على وجود هذه الصلة؛
بل ويدل أيضا على وحدة الجماعة وتماسكها وإعلانها مخاصمة هذا العهد لفساده وأكاذيبه في الوقت الذي كنا نرسف في أغلال قهره ونتجرع غصصه فكان إعلان هذا الخطاب للناس، لطمة لديكتاتورية عبد الناصر.
وهذا هو نص خطاب المرشد وهو في السجن إلى محمد نجيب والذي نشرته جريدة المصري في ذلك الحين:
"إن مجلس الثورة قد أصدر قرارا في 12 يناير سنة 1954 بأنه يجري على جماعة الإخوان المسلمين قانون حل الأحزاب السياسية ومع ما في هذا القرار من مخالفة لمنطوق القانون ومفهومه؛
فقد صدر بيان نسبت إلينا فيه أفحش الوقائع، وأكثرها اجتراء على الحق واعتقلنا ولم نخبر بأمر الاعتقال، ولا بأسبابه وقيل يومئذ إن التحقيق في الوقائع التي ذكرت به سيجري علنا فاستبشرنا بهذا القول لأننا انتظرنا أن تتاح لنا فرصة الرد عليه لنبين أن ما اشتمل عليه كله والصورة التي جاءت به لا حقيقة له، فيعرف كل إنسان قدره ويقف عند حده ...

ولكن ذلك لم يحدث ثم يستطرد فيقول

"وقد استمرت حركة الاعتقالات طوال شهرين كاملين، حتى امتلأت المعتقلات والسجون بطائفة من أطهر رجالات البلد وشبابها، بلغوا عدة آلاف، لكثير منهم مواقف في الدفاع عن البلاد وعن حرياتها شهدها الأعداء قبل الأصدقاء، وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم ولم يكتفوا بالكلام كما يفعل كثير من الناس، أما كيفية الاعتقال ومعاملة المعتقلين فلن نعرض لها هنا.
وقد بدت في مصر بواد حركة إن صحت فقد تغير من شئونها وأنظمتها، وإن حل الإخوان وإن أنزل اللافتات عن دورهم فإنه لن يغير الحقيقة الواقعة، وهي أن الإخوان المسلمين لا يمكن حلهم، لأن الرابطة التي تربط بينهم هي الاعتصام بحبل الله المتين، وهي أقوى من كل قوة، ولا زالت هذه الرابطة قائمة، ولن نزال كذلك بإذن الله؛
ومصر ليست ملكا لفئة معينة، ولا حق لأحد أن يفرض وصايته عليها، ولا أن يتصرف في شئونها دون الرجوع إليها أو النزول على إرادتها، لذلك كان من أوجب الواجبات على الإخوان المسلمين أن يذكروكم بأنه لا يمكن أن يبت في شئون البلاد في غيبتهم؛
وكل ما يحصل من هذا القبيل لن يكون له أثر في استقرار الأحوال ولن يفيد البلاد بشيء، وإن ما دعوتم إليه من الاتحاد وجمع الصفوف لا يتفق وهذه الأحوال، فإن البلاد لا يمكن أن تتحد وتجمع صفوفها وهذه المظالم وأمثالها قائمة".

كان هذا هو موقف الإخوان المسلمين بين أزمتي فبراير ومارس من كان منهم خارج السجون ومن كان داخلها، وتتلخص كلها في حقيقة مشرفة بالتضحية صلبة بالحق شفافة بالنور مغدقة بالوفاء لله والوطن ولقائد المسيرة.

يقدم لنا الدكتور رمضان فهمه لسياسة الإخوان المسلمين خلال أحداث مارس بأصلين:

الأول: إن عدم مؤازرة الإخوان لمحمد نجيب بعد مظاهرات فبراير التي قدمت له كل السلطان الشعبي لمواجهة ديكتاتورية عبد الناصر يعتبر تخليا من الإخوان عن مبادئ الحرية التي ينشدها الشعب.
والثاني: أن شجب الإخوان للأحزاب القائمة حينذاك يعتبر شجبا للنظام النيابي ذاته.

ويستدل على موقف الإخوان من مؤازرة الديكتاتورية، بالحديث الذي رواه الأستاذ صالح أبو رقيق عن الوفد الذي أرسله عبد الناصر إلى الإخوان في السجن، فكانت شروط الإخوان قبل خروجهم (في زعمه) لا تعدو المطالبة بالحرية لهم فقط ورد اعتبارهم دون أية شرائط أخرى تتصل بعودة الديمقراطية لبلدهم؛

ويستدل أيضا على ذلك بما قاله المرشد في المؤتمر الذي عقدته الجماعة في 30 مارس إثر خروجهم بأربعة أيام:

"افهم أن شخصا ينادي بعودة الحياة النيابية، ولكن لا ينادي بعودة الأحزاب القديمة كي تباشر مهامها، فنحن إذ نطالب بالحياة النيابية إنما نطالب بحياة نيابية نظيفة سليمة مكفولة في ظلها حرية الصحافة وحرية الاجتماع وحرية القول".

ويعلق الدكتور على ذلك فيقول:

"ولم يتمكن أحد في ذلك الحين من أن يسأل الهضيبي هذا السؤال: "كيف يمكن بناء حياة نيابية نظيفة سليمة إذا كان الحكم على الأحزاب القديمة ينزع من يد الشعب ويوضع في يد هيئة مخاصمة لها مثل جماعة الإخوان المسلمين؟!
وأرد على ما أورده الدكتور في هذا الشأن فقرة فقرة، وأقو عن موقف الإخوان من محمد نجيب الرجل الذي وضعته الظروف على رأس هذه الحركة إنه لم يكن بهم حاجة إلى إدراك عدم فاعليته بل ربما عدم صدقه في المطالبة بحرية الشعب فضلا عن الإيمان بالمبادئ التي يدعيها.
فقد كان إصراره على عزل المرشد كشرط لإعادة الشرعية لجماعة الإخوان المسلمين لا يمكن أن يجعله من دعاة الحرية.
وكان موقفه من مظاهرة عابدين وحاجته للشهيد عودة لفض هذه المظاهرة بعد أن اكتفى منها بالعودة إلى رئاسة الجمهورية بدون مواجهة فعالة للديكتاتورية التي أفقدت شعبه الحرية، يستحيل معه تقييم هذا الموقف إلا بأن إيمانه بالحرية للشعب لا يعدو أن يكون ستارا يغطي به حرصه على العودة إلى منصبه السليب؛
وحتى إذا صحت إضافة شيء من حسن النية إلى رغبته في عودة الحرية إلى الشعب فيلزم أن نضيف إلى جوارها تسيب عزمه وعجزه عن أن يؤدي دورا إيجابيا في تحويل هذا الموقف لخير أمته بعد أن ملك زمامه، وأوقف أعداءه وأعداء الحرية في موقف الهوان والصغار والتسليم بكل شيء.
وهذا الموقف من عداء الشعب لعبد الناصر في مظاهرات عابدين التي قادها الشهيد عودة، شكل وحده حيثيات الحكم بإعدامه بعد ذلك ... لأن ما أدركه عبد الناصر من قدرة الشهيد على تحريك الجموع الهادرة التي لبت دعوته بالانصراف مباشرة من ميدان عابدين بمجرد إشارته لها بذلك كان يحمل في مضمونه قدرته على إعادتهم ثانية إلى التظاهر؛

وكان هذا يعني أن الشعب قد أسلم قياده إلى رجل كان من الممكن أن يحكم على مصير رجال الثورة.ولكن أخطأ الشهيد عودة حين أسلم هذا المقود إلى محمد نجيب حين دعاه إلى صرف المتظاهرين فاستجاب، فكان جزاؤه جزاء سنمار.

وبدت أول المؤشرات التي توضح عجز نجيب عن الوقوف أمام طغيان عبد الناصر، حينما أصدر الأخير أمره بالقبض على الشهيد عودة، وإيداعه السجن في نفس الليلة بعد أن استتب له الأمر وصرفت المظاهرات.وهكذا لم يكن محمد نجيب بالقائد الذي يؤتمن على حرية من آزره وأعانه، فضلا عن حرية شعب بأسره.

فلماذا يأخذ الدكتور على الإخوان حرصهم على ألا يلدغوا من جحر محمد نجيب مرتين، ويتهمهم لذلك بنبذ دعوى الحرية لأنهم لم يكرروا مأساة الدفاع عنه من جديد في المظاهرات التي تلت خروجهم بعد ذلك؟! ويتهمهم لذلك بأنهم راهنوا على جوادهم المفضل وهو ديكتاتورية عبد الناصر.

ولقد كفر الإخوان المسلمون بديكتاتورية عبد الناصر، بل وبكل الديكتاتوريات من قبل، وبذلوا من دماء شهدائهم ما عرف الناس، وما جهلوا من أمر شهيدنا عبد القادر عودة وغيره، وكفروا أيضا "بعجز" محمد نجيب الذي عاقه أن يعيد الحرية لأمته ..

فخاض عبد الناصر في دمائهم وخاض نجيب في أعراضهم حين اتهمهم بنبذ الحريات لأنهم لم يؤازروه وما كنت أحب الدكتور أن يخوض خوضهم، ولكن يطالعنا للأسف بما ظنه الدليل على حرص الإخوان على الديكتاتورية، من طريقة عرضه لمضمون الاتفاق الذي جرى في السجن بين الإخوان وبين فؤاد جلال وغيره مدعيا أنه لم يتضمن الاتفاق على منح البلد حريتها.

والدكتور لا شك يعلم أن البلد حريتها كان أمرا مفروغا منه ومن تحقيقه حينذاك بصدور قرارات 25 مارس التي خرجنا على أثرها، فما كانت هناك حاجة إلى ذكرها في أقوال الأستاذ صالح أبو رقيق التي شرح بها هذه الواقعة للدكتور لأن الأصل الذي بنى عليه فؤاد جلال محادثاته مع الإخوان كان قائما على رد الحرية للشعب كما ورد في قرارات 25 مارس.

أما المظاهرات التي افتعلها عبد الناصر بعد ذلك في 28 مارس لتنادي بسقوط قرارات مارس وسقوط الحريات فقد جرت بعد زيارة عبد الناصر للمرشد في منزله إثر خروجه من السجن الحربي، ولم يكن للإخوان يد فيها كما توهم محمد نجيب، فألبس الحق بالباطل.

ففي صباح يوم 28 مارس أثناء انعقاد مجلس الثورة، دخل (المتظاهرون؟!!) إلى المجلس ينادون ببقاء مجلس الثورة وسقوط الانتخابات، وحاول الحراس إغلاق أبواب المجلس وهم خائفون لاعتقادهم أن المتظاهرون سيعتدون على محمد نجيب.

ويأتي محمد نجيب إلى مكان الاجتماع في المجلس وهو يظن أن هذه المظاهرات من تدبير الإخوان المسلمين، وإنها تهتف ضده بناء على اتفاق جرى مع مرشد الإخوان في الزيارة التي قام بها عبد الناصر له في اليوم السابق مهنئا بخروجه من المعتقل.

ويسأل محمد نجيب في ذعر جمال سالم ومن معه عن سبب زيارة جمال عبد الناصر للمرشد، ويستطرد "هل كانت للاتفاق على شيء فللأسف ظن رئيس الجمهورية إن الإخوان هم الذين قاموا بهذه المظاهرة التي تنادي بسقوط قرارات مارس التي كان من المفروض أن تعيد للشعب حريته؛

وظل هذا الظن يلاحقه حتى افترى على الإخوان كذبا، فادعى أنهم أصدروا بيانا قالوا فيه "إنهم لا يطالبون بتأليف أحزاب سياسية لأنهم يطالبون المصريين بأن يسيروا وراءهم" وروى ذلك في صفحة 443 من كتاب أحمد حمروش شهود ثورة يوليو (الجزء الرابع).

والبيان الوحيد الذي صدر في 29 مارس كان خلاف ذلك، إذ صور البيان هذا الصراع المرير في هذه الأيام القلقة والمظاهرات المفتعلة والتحركات المريبة وموقف الإخوان من صراعهم بين نجيب وعبد الناصر بعد إطلاق سراحهم، وطالب البيان أخيرا بحرية الشعب وحقوقه في ظل حياة نيابية نظيفة، فخرجت الصحف في هذا اليوم بالآتي:

"لا ريب أن مصر تمر بفترة بالغة الدقة والخطورة في تاريخها، بعيدة الأثر في كيانها ومستقبلها، وهي فترة تقتضي من كل مواطن أن يهب البلاد نفسه ويبذل لها وجوده ويؤثرها من رأيه ومشورته حتى يأذن الله بانجلاء هذه الغمة ويبدل الوطن بها حياة أمن واستقرار ووحدة.
ولقد فوجئ الإخوان المسلمون غداة خروجهم من السجون والمعتقلات بتوالي الأحداث الخطيرة التي تتعرض لها البلاد في حدة سرعة لم يتيسر معها معرفة أسبابها والعوامل التي تؤثر فيها ثم تحديد وسائل العلاج التي تلائمها ...
من أجل ذلك بادر الإخوان المسلمون إلى العمل على أداء واجبهم في التماس المخرج من هذه الأزمة، فبدا لهم أن من العسير أن ترسم الخطط الصالحة ويوضع العلاج لهذه المشاكل وتسمع المشورة الصادقة المستقلة في جو الغضب والانفعال، وقد كان رسول الله عليه الصلاة والسلام يسأل الله ألا يستجيب له وهو غضبان.
لهذا لم يكن هناك بد من إسراع بلقاء المسئولين والاتصال بطرفي الخلاف للدعوة إلى اتخاذ مهلة تجنب فيها المضاعفات وتنهي فيه حالة التوتر القائمة حتى يتيسر لأولي الرأي والإخلاص أن يتقدموا للمسئولين عن الأمة بخطة كاملة ومدروسة تكشف عن البلاد هذه الشدة وتضع الحلول الكفيلة لوقاية البلاد من أن تتعرض لمثلها في أية مناسبة.
وعلى هذا الأساس قام وفد الإخوان المسلمين برياسة المرشد العام بلقاء البكباشي جمال عبد الناصر في الليلة الماضية، ثم بزيارة اللواء محمد نجيب لانشغاله في هذه الليلة بالاجتماع بجلالة الملك سعود ضيف مصر الكبير، الذي آثرها مشكورا بكريم وساطته في علاج هذا الموقف العصيب ...
وما زال الإخوان المسلمون يواصلون خطواتهم في إقناع المسئولين باتخاذ مهلة مع قيامهم في الوقت نفسه بدراسة خطة العلاج الشاملة آملين أن يستجيب المسئولون إلى ندائهم فتتغلب الحكمة والوطنية على بواعث الخلاف والفرقة ويلتقي الجميع بإذن الله على كلمة سواء ...
وإذا كانت الجهود تتوالى في العمل على جمع الكلمة وحل الأزمة، فإننا نناشد شعب مصر الكريم أن يعتصم بالهدوء والسكينة ورباطة الجأش وأن ينصرف أبناؤه جميعا إلى أعمالهم في انتظام وطمأنينة، مع التوجه إلى الله العلي الكبير أن يحفظ البلاد من كل سوء..
وأن يعين الساعين ويجمع المسئولين على الحل الكامل السليم الذي يخرج بالبلاد من المأزق الحاضر ويحفظ وحدة الأمة ويصون حقوق الشعب وحرياته ويحقق الاستقرار المشنود في ظل حياة نيابية نظيفة محوطة بالضمانات التي تجنبها مساوئ الماضي وتركز الجهود لتخليص الوطن من الغاصب المستعمر ولمتابعة حركة الإصلاح الإيجابية لتستكمل البلاد نهضتها والله ولي التوفيق".كان هذا هو البيان الذي أرسله المرشد العام ونشرته الصحف في هذه المناسبة ...

وبقي أن نتساءل ...

هل ما قاله المرشد في بيانه للأمة أو في تصريحه في المؤتمر الذي عقد في 30 مارس وأشار إليه الدكتور في مقاله السابق ما يعني "شجب النظام النيابي برمته" "وامتهان الحريات" والمراهنة على جواد الديكتاتورية المفضل .. في الوقت الذي قرر مرشد الجماعة أسلوب الحياة النيابية المأمول "بتحقيق حرية الصحافة وحرية الاجتماع وحرية القول".

إن محاولة إلباس الإخوان ثوب موالاة الديكتاتورية والتدليل عليه بهذا السؤال المذل "كيف يمكن بناء حياة نيابية سليمة إذا كان الحكم على الأحزاب ينزع من يد الشعب ويودع في يد هيئة مخاصمة لها مثل جماعة الإخوان المسلمين"؟! لأمر عجيب حقا...

أجل يمكن يا عزيزي الدكتور، إذا تحققت حرية الصحافة وحرية الاجتماع وحرية الكلمة بقيت شرعية حزب الوفد أم ذهبت، أو ظلت جماعة الإخوان المسلمين قائمة أم حلت من هذا المنطلق نادي الإخوان المسلمون بحياة نيابية نظيفة مفكولة بحرية الصحافة وحرية الاجتماع وحرية الكلمة ...

فلم يعن ذلك قط إنهم يطلبون السلطان لأنفسهم ورغم ذلك فقد اقتضى هذا الظن عند الدكتور تصوير الإخوان، بالسعي إلى نزع سلطة الشعب؟!!

فكيف يدور المنطق على هذا النحو؟ ..

إن الوفد كان يشجب بقية الأحزاب، وكانت الأخيرة تشجب الوفد فهل كان ذلك يعني كفر الجميع بالحياة النيابة؟! وهل كانت المطالبة بالاستقامة من كلا الطرفين للآخر تعني الكفر بحق الشعب في اختيار ممثليه؟!

إذا قالت اليهود ليست النصاري على شيء ...

وقالت النصارى ليست اليهود على شيء.

وقال المسلمون أن كليهما حرف دينه ...

فهل يعني هذا أن المسلمين يكفرون بالتوراة والإنجيل، بينما عقيدة الإسلام تلزم معتقديها بتصديق الديانتين وإلا خرج صاحبها من الملة.

وأخيرا ...

بقي أن أشير إلى كلمة الدكتور رمضان التي نشرت في 22 ديسمبر سنة 1980 التي عرض فيها لرأيه في حركة الإخوان المسلمين، وعرض كذلك لأكبر الأسباب التي أدت إلى الخلاف بيني وبينه، وهو عنوان المقالات التي يكتبها؛

فبينما كانت دراسته التي قدمها للصحف هي فقط عن "التنظيم السري للإخوان وحادث المنشية" إلا أن الصحف خرجت بها لأسباب ذكرها عن هذا المضمون لتصبح دراسة عن حركة الإخوان المسلمين التي يراها على حد تعبيره حركة متجددة ما بقي شباب وإسلام ...

وأن هذه الحركة التي أرسى أسسها المرحوم الشيخ حسن البنا سوف تستمر (إن شاء الله) إلى نهاية التاريخ في بلادنا العربية ولن يوقفها سقوط الضحايا على جانبي الطريق بل ربما يغذي مسيرتها ويدفع بها إلى الأمام.

ولكن قد يخفف كثيرا من سقوط الضحايا، ويحقن كثيرا من الدماء دراسة الأخطاء وتداركها في المراحل التالي وهذا اللون من التعبير البناء ربما كان أهدى للقصد وأقرب للغاية التي يتوخاها الدكتور من كتابة مقالاته.

ولست في حاجة إلى القول بأن رجال الإخوان المسلمين عامتهم وقادتهم لم يدعوا يوما أنهم أكبر من الخطأ ولا ظنوا لحظة أنهم من الهوان بحيث لا يؤوبوا إلى الرشد والصواب حين يتبينوه؛

وقد أكدت هذا الفهم في المقال السابق فيما عنيته من أن تبادل الرجال للخطأ والصواب في هذه الجماعة دليل على صحة بنيتها واستقامة عودها على الحق فالجماعة التي لا تعدم أن ترى فيها مخطئ الأمس أحد سدنتها في الغد، وأفذاذها اليوم أحد معارضيها بالأمس لهي جماعة رشيدة، ما دام ذلك يجري انطلاقا من سنة الإسلام البناءة "كل ابن آدم خطاء وخير الخطائين التوابون" ... والحمد لله أن شهدنا ذلك في مسار جماعة الإخوان المسلمين بصورة أجلت أصحابها عن الوقوف بإصرار عند أخطائهم.

لقد كرم الدكتور رمضان نفسه بنفسه، ولم يحتج إلى أحد يكرمه حين أوضح لنا رؤيته للجماعة من خلال رده الأخير، وإن كنا في حاجة منه لإعادة توضيح موقف الإخوان المسلمين من القصر، وموقفهم من الإنجليز، وموقفهم من الدكتاتورية من خلال الحقائق الثابتة والوثائق التي ضرجت بدمائهم في مواجهة كل هذه القوى بعيدا عن الألوان الفاقعة "للمانشتات" ...

والعناوين الجاذبة لأنظار القراء عن مضمون الصراع الذي توحيه لشد الانتباه قبل تحقيق الفائدة.

المقال العاشر لصلاح شادي "لماذا يتجنى البعض في تصوير جماعة الإخوان المسلمين"

(الوطن في 21 يناير 1981)

قرأت في العدد الماضي مقدمة لجريدة الوطن الغراء تناولت "أمجاد" عبد الناصر في التجربة المصرية التي اعتبرتها الجريدة نموذجا للعالم الثالث كله بما تمت فيها من اجتهادات أصابت وأخطأت على طريق الديمقراطية وفرقت بين التقديس والإجلال وقالت إن المنصفين لا يقدسون عبد الناصر وإن أنزلوه في نفوسهم منزلة الإجلال.

وموضوع التجربة المصرية لا يرد عليه بهذه البساطة، ولكن أهدافي من مناقشة الدكتور عبد العظيم رمضان لم تتناول عبد الناصر وتجربته وإن تناولت مواقفه في أحداث بذاتها ارتبطت بكيان جماعة الإخوان المسلمين صورتها من واقع مشاركتي ورؤيتي لهذه الأحداث ...

وحاولت أن أصحح ما عرضه الدكتور عبد العظيم رمضان لمواقف الجماعة بما لم يتسع للحديث حتى عن رجالها، الذين أخطأوا وأصابوا وإنما ناقشت فقط حقائق التاريخ التي أنكرها الشانئون وأغفلها المؤرخون في مسار الجماعة وجوهر حركتها ولم يكن موضوعي تناول أقدار الرجال.

وأخشى أن يظن بعض الإخوة الذين سميتهم في الأحداث التي أثارها الدكتور رمضان حول الاعتصام بالدار ومحاولة استكتاب المرشد استقالته في الفتنة التي أثارها السندي وعبد الناصر أني عنيت من وراء سرد أسمائهم إغفال مواقفهم التي قدموها قبل وبعد هذه الأحداث وجهادهم لخير هذه الجماعة

وإنما عنيت فقط أن أبرز تبادل الرجال مواقف الخطأ والصواب في هذه الجماعة، وإن ذلك دليل على صحة بنيتها واستقامة عودها على الحق، بل ولا أستطيع أن أنكر على المرحوم السندي نفسه جهده في إنشاء النظام الخاص الذي اعتبره من أمجاد الجماعة ..

كما لا أستطيع أن أنكر جهاد الأستاذ صالح عشماوي في هذا السبيل، ولا جهده الآن وهو يقدم عصارة فكره لخدمة الإسلام في مجلة الدعوة التي كانت فيما مضى من حياة الأستاذ الهضيبي سوطا يلهب ظهور الإخوان المسلمين، والهضيبي خاصة، كما لا أنكر جهاد الشيخ الغزالي المبرور بعد عودته إلى أحضان هذه الدعوة أثناء سجننا ...

ولا الأخ علي صديق والأخ فتحي البوز اللذين ذكرت موقفهما في منزل المرشد فلم يلبثا إثر ذلك أن برزا لحراسة المرشد في تحركاته التي كان يرصدها عبد الناصر وهو وفاء سبقه جهاد مرير الحلقات في فلسطين يقدم لصاحبيه كريم التقدير.

وغير هؤلاء وهؤلاء فما كنت بصدد الحديث عن مفاخر الرجال أو أخطائهم وإنما أردت الحديث عن هذه الجماعة التي أبرز خصائصها أنها تمتص فضائل الرجال لخيرها وتلفظ السوء عنها وعنهم.

فإذا غفلنا عن تقييم رجال هذه الجماعة في خطئهم وصوابهم، فليس بدعا أن يكون قصدنا مناقشة ما أورده الدكتور رمضان وعلقت عليه جريدة الوطن لا ارتباط له بتقييم شخص جمال عبد الناصر في المحيط الداخلي أو القومي العربي.

ولقد أشدت وما زلت أشيد بموقف جريدة الوطن الغراء من حرية الرأي الذي أراه الوسيلة الوحيدة لاحترام التاريخ والنظر إليه بإنصاف.ونعرض بعد هذا لمناقشة مقال الدكتور رمضان العاشر عن عودة الصراع بين الإخوان وعبد الناصر في حملته التي تصب جام غضبها على ما أسماه ديكتاتورية الإخوان المسلمين!!

ويبدو للقارئ من مقاله كأن الإخوان قد شاركوا عبد الناصر الحكم! ونسي أن استقالة الباقوري من جماعة الإخوان المسلمين كانت بسبب اشتراكه في "الوزارة العسكرية" برئاسة محمد نجيب التي أعقبت استقالة علي ماهر بعد شهرين من قيام الحركة ...

وأن تولي العسكريين الحكم كان مناقضا تماما لما جرى الاتفاق عليه في لقاءات الإخوان مع عبد الناصر قبل الحركة، لما يحمله من مخاوف تطبع الحكم باللون الدكتاتوري الذي يأباه الإخوان المسلمون

ولا يسعني إلا أن أعرض للقارئ ما أغفله الدكتور رمضان من هذه اللقاءات أو غفل عنه، ثم أعرض بعد ذلك لمناقشة قانون جماعة الإخوان المسلمين في هيئاتها المختلفة، مكتب الإرشاد والهيئة التأسيسية والجمعية العمومية ...

وانتهى بالرد على ما نثره الدكتور من غبار عن التفاف أفراد جماعة الإخوان المسلمين حول مرشدهم بتقسيماته الخيالية عن انشقاقات وهمية رأس رهطا منها البهي الخولي ومريدوه ورهط آخر رأسه خميس حميدة وأتباعه، والثالث كان حسن الهضيبي وجماعته، وجوانب أخرى من المتناثرات بدت للأسف في مقاله تنال من جلال الحق وتوقف القارئ على مطلة حزينة شوهاء لموكب تاريخنا المعاصر.

وحول ردي على مفهوم "الديكتاتورية عند جماعة الإخوان المسلمين" أنقل ما رواه الأستاذ عبد القادر حلمي عن اللقاء الذي دار بيننا وبين عبد الناصر بعد حريق القاهرة وفي غمار التخطيط لحركة يوليو سنة 1952 حين التقينا معه في منزل الأستاذ عبد القادر حلمي في حضور المرحوم حسن العشماوي والأستاذ صالح أبو رقيق؛

يروي الأستاذ عبد القادر حلمي هذه الوقائع:

"في أواخر يناير وأوائل فبراير كثرت لقاءات عبد الناصر بنا وجاءنا يوما بعد حريق القاهرة يقول إن من رأيه التعجيل بالقيام بالانقلاب لأن الظروف مناسبة، لقيام حال منع التجول من منتصف الليل إلى الصباح الباكر، وهي مدة يسيطر فيها الجيش على الأمور في القاهرة ويمكنهم القيام بالانقلاب في خلالها.

وبدأت مناقشاتنا أثناء لقاءات متفرقة في منزلي بحضور الإخوة صالح أبو رقيق والمرحوم حسن العشماوي وصلاح شادي في أهداف الانقلاب أو ما يترتب على حدوثه، وقدم عبد الناصر رأيه في هذا الأمر بأن غايته من الانقلاب أمور ثلاثة:

  1. إصلاح نظام الحكم السياسي بإرساء قواعده على أساس حكم نيابي سليم.
  2. تطهير الجيش وأجهزة الدولة من عملاء الملك وعناصر الفساد.
  3. إصلاح اجتماعي واقتصادي شامل.

وكانت وجهة نظرنا تتلخص في أن مبادئ الإسلام هي الأساس الوحيد الصالح لحكم مصر ولعلاج الجانب السياسي والاجتماعي والاقتصادي منها، وأقر عبد الناصر ذلك وأكد تمسكه بالإسلام أساسا للتغيير المنشود وأوضح أن هدفه الإسلام

إلا أنه قال:

إن المصلحة عدم المجاهرة بذلك في بادئ الأمر، ولكن تؤخذ الأمور تدريجيا حتى لا يحارب أعداء الإسلام الحركة في أول عهدها ثم بدأ الجميع في مناقشة الأمور المترتبة على قيام الانقلاب، مثل موضوع الحكم ومن الذي سيتولاه وقد عرض عبد الناصر دراسته في هذا الأمر؛
وتتلخص في أن الأحزاب القائمة في ذلك الوقت قد استشرى فيها الفساد، كما أن القائمين عليها غير صالحين لتولي الأمور بعد الانقلاب لتحقيق أهدافه، وقد اتضح من ثنايا المناقشة أن الضباط الأحرار لهم أعضاء مندسون في كثير من الأحزاب ليتعرفوا أخبارها وخطوط سيرها؛
وأن دراستهم لهذه الأحزاب أكدت لهم أن ليس هناك أحد جدير بالثقة والاحترام سوى الحزب الوطني الذي تمسك بمبادئها واحترامها حيث رفض قبل ذلك الاشتراك في الحكم أو مفاوضة الإنجليز بعد جلائهم ومع ذلك فإن هذا الحزب لا يستطيع أن يتولى الحكم لضعف تكوينه وافتقاره إلى القاعدة الشعبية.
وقد أوضح عبد الناصر أن الدراسة بينت أن إسناد الحكم بعد الانقلاب لا يخرج عن ثلاث احتمالات، أما أن يتولى الإخوان الحكم أو يتولاه الجيش، أو تتولاه شخصية مستقلة عن الأحزاب يعتني باختيارها؛
وقد أظهر تبادل الآراء بين عبد الناصر من جهة ومجموعة الإخوان من جهة أخرى أن ليس من المصلحة من بادئ الأمر أن يتولى الإخوان الحكم حتى لا ينكشف الاتجاه الإسلامي للحركة مما قد يكون له رد فعل دولي ضدها من أعدائه أما عن العسكريين فلا يجب أن يتولوا الحكم إطلاقا
لأن التجارب على مدى التاريخ أثبتت أن تدخل العسكريين في السياسة وتوليهم الحكم يؤدي إلى انحرافهم إلى الطغيان الشديد مما لا يمكن لأحد أن يحده أو يقف في مواجهته كما أنهم يتعرضون للانحراف عن المبادئ والأهداف التي قاموا من أجلها أكثر من غيرهم لتجمع السلطة في أيديهم؛
وقد لاحظ أحد الإخوان الحاضرين تأثير هذه المناقشات على وجه عبد الناصر فقد ظهر عليه الارتياح والاطمئنان لفكرة استبعاد تولي الإخوان كما ظهر عليه الوجوم الشديد عندما تولى الأخ حسن عشماوي مهاجمة الحكم بالشرح والتفصيل مؤيدا الفكرة بحجج منطقية ووقائع تاريخية؛
وعند الانتقال إلى مناقشة الاحتمال الثالث وهو إسناد الحكم إلى شخصية مستقلة اقترح أحد الإخوان "علي ماهر" كشخص ذي كفاءة احترم نفسه في فترة قيامه بالعمل كرئيس للديوان أو كرئيس للحكومة فلم تشب ماضيه أية شائبة مما أصاب الأحزاب من فساد؛
وأنه حاز الإعجاب والاحترام سواء من المصريين أو من الأجانب وقد لقيت هذه الفكرة الاستحسان، ومن الأمور التي شملتها المناقشات والدراسات مع عبد الناصر وبعض زملائه الأحرار ومع مجموعة الإخوان السابق ذكرها مصير الملك وقد رؤي أن يترك هذا الأمر للظروف في الوقت المناسب.
وقد نوقش في البداية مدى قدرة الضباط الأحرار على القيام بالانقلاب من الناحية العسكرية وكذلك دور الإخوان المتصور في هذا الانقلاب وبصفة خاصة من الناحية الشعبية وقد أوضح عبد الناصر أن لدى "الضباط الأحرار" القدرة في الوقت الحالي على القيام بالانقلاب لأن الأمن والنظام في القاهرة
وخصوصا وقت منع التجول منوط بالجيش وأن المسئولين عن القوات الموجودة بالقاهرة من هؤلاء الضباط كما أن لهم رجالا في جميع وحدات القوات المسلحة والجميع ينتظر هذا اليوم فيما عدا البحرية التي لا يخشى منها إذا تم الاستيلاء على القاهرة والسيطرة على زمام الأمور فيها والقبض على الملك".

وهكذا يتضح للقارئ وربما أيضا للدكتور عبد العظيم رمضان موقف الإخوان قبل الحركة من الديكتاتورية، وأنهم في كل يوم من تاريخهم الحافل بالأحداث لم يراهنوا أبدا على "جواد الديكتاتورية الخاسر"

كما شاءت له هوايته اللغوية أن تصورهم بها في حين أنه أعرف الناس بأن الإخوان المسلمين يغامرون بحياتهم لتحقيق أهدافهم ولا يقامرون على أهدافهم للحفاظ على حياتهم الدنيا، وشهادة أن لا إله إلا الله محمد رسول الله التي ينادون بها في محافلهم بأنه "عليها نحيا، وفي سبيلها نجاهد وعليها نلقى الله"

ليست شهادة بإقرار ديكتاتورية أحد، بالشورى وتلزم الرعية بطاعة الله إذا أنفذها وحكم بها ومن هذا المنطلق جرت محادثات الإخوان مع عبد الناصر قبل الحركة وجرت وقائعهم كلها معه بسببها بعد الانقلاب ...

وإني لأعجب كيف وجد الدكتور رمضان المادة التي وهبته الجرأة على أن يصف نظام جماعة الإخوان المسلمين بأنه نظام ديكتاتوري.هل قرأ نظام الجماعة؟! وقانونها التأسيسي الذي أقسم كل فرد من الإخوان المسلمين على احترامه؟!!

إني أدعو الدكتور رمضان إلى قراءة القانون الأساسي للإخوان المسلمين الذي أقرته الجمعية العمومية المنعقدة في الثاني من شوال سنة 1364ه الثامن من سبتمبر سنة 1945 والذي تعتبر المادة الرابعة منه أن عضو الهيئة هو كل مسلم عرف مقاصد الدعوة ووسائلها وتعهد بأن يناصرها ويحترم نظامها وينهض بواجبات عضويته فيها ويعمل على تحقيق أغراضها ثم وافقت إدارة الشعبة التي ينتمي إليها على قبوله وبايع على ذلك وأقسم عليه.

والمادة 34 تقرر مهمة الهيئة التأسيسية كالآتي:

الإشراف العام على سير الدعوة واختيار أعضاء مكتب التأسيسية( ) هي مجلس الشورى العام للإخوان المسلمين والجمعية العمومية لمكتب الإرشاد وتجتمع اجتماعا دوريا خلال أول شهر من كل عام هجري لسماع ومناقشة تقرير مكتب الإرشاد عن نشاط الدعوة في العام الجديد

وتجتمع في غير هذا الموعد اجتماعا فوق العادة إذا حدث ما يدعو إلى ذلك بدعوة من المرشد العام أو بقرار من مكتب الإرشاد أو بطلب يقدم من عشرين عضوا والمرشد العام هو الذي يرأس الاجتماع.

وتحدد المادة 42 أن من اختصاصات الجمعية العمومية للشعبة انتخاب أعضاء مجلس الإدارة ..إلخ وكانت الهيئة التأسيسية للجماعة في مبدأ أمرها تتكون من الإخوان الذين سبقوا بالعمل لهذه الدعوة، (مادة 34) وهذا أمر طبيعي، وبعد أن نضجت الجماعة وانتشرت شعبها، أصبحت الهيئة التأسيسية تتكون من أعضاء مجالس إدارة الشعب، المنتخبين أصلا من الجمعية العمومية لعضوية مجلس الإدارة.

والمادة 10 تقرر أن المرشد العام للإخوان المسلمين هو الرئيس الأعلى للهيئة ورئيس مكتب الإرشاد العام والهيئة التأسيسية.

ويشترط فيمن يختار مرشدا عاما أن تتوفر فيه الشروط الآتية:

أولا: ألا تقل سنه عن ثلاثين سنة هلالية.
ثانيا: أن تتوفر فيه الصفات العلمية والخلقية والعملية التي تؤهله لذلك.

المادة 11 ينتخب المرشد العام من بين أعضاء الهيئة التأسيسية في اجتماع يحضره على الأقل أربعة أخماس أعضاء هذه الهيئة ويجب أن يكون حائزا على ثلاثة أرباع أصوات الحاضرين ... إلخ.

ولا أطيل على القراء في شرح النظام الأساسي للجماعة ولكنني فقط أردت أن أشير إلى بعض النصوص التي لا يمكن بوجودها تصور ديكتاتورية نظام هذه الجماعة التي يقسم مرشدها إذا تم انتخابه القسم التالي:

أقسم بالله العظيم أن أكون حريصا أمينا لمبادئ الإخوان المسلمين ونظامهم الأساسي وألا أجعل مهمتي سبيلا إلى منفعة شخصية وأن أتحرى في عملي وإرشادي مصلحة الجماعة وفق الكتاب والسنة وأن أتقبل كل اقتراح أو رأي أو نصيحة من أي شخص بقبول حسن وأن أعمل على تنفيذه متى كان حقا وأشهد الله على ذلك.

وإذا أخل المرشد العام بواجبات منصبه أو فقد الأهلية اللازمة لهذا المنصب فعليه أن يتخلى عنه كما نصت بذلك المادة 16 من القانون الأساسي كما أن الهيئة التأسيسية أن تقرر إعفاءه في اجتماع يحضره أربعة أخماس الأعضاء ويجب أن يكون هذا الإعفاء بموافقة ثلاثة أرباع الحاضرين وإذا لم يحضر الاجتماع العدد القانوني أجل إلى موعد آخر لا يقل عن أسبوعين ولا يزيد عن شهر من تاريخ الاجتماع الأول؛

ويجب أن تتوفر في هذا الاجتماع النسبة المقررة في الاجتماع الأول من عدد الحاضرين والموافقين فإذا لم يتوفر العدد القانوني في هذا الاجتماع أجل مرة ثانية، وعلى الهيئة تحديد موعد اجتماع آخر في مدة كالسابق بيانها مع الإعلان عنه والمهمة التي سيعقد من أجلها وعن أن الاجتماع التالي سيكون صحيحا مهما كان عدد الحاضرين ويكون القرار صحيحا بأغلبية ثلاثة أرباع الحاضرين.

وبعد كل هذا نسمع لمغالطة عبد الناصر التي يرددها الدكتور رمضان بأنهم لو كانوا مخلصين في دعوتهم إلى الحكم الديمقراطي لكان عليهم أولا حل جهازهم الخاص الذي يتنافى وجوده مع النظم الديمقراطية.

ولا أظنني في حاجة إلى وصف هذه الحجة بالمغالطة المكشوفة لأن النظام الخاص الذي نشأ عبد الناصر في أحضانه ليدفع طغيان فاروق هو نفسه الذي أبقاه قادة هذه الجماعة ليدفعوا به طغيان عبد الناصر.

وأن دعوى عبد الناصر التي يستتر وراءها الدكتور رمضان فيقول بأن مطالبة الإخوان بالديمقراطية كانت محل سخرية واستنكار لأن نظامهم الداخلي كان يقوم على التعيين وليس على الانتخاب وأن جزءا من مكتب الإرشاد المنبثق من الهيئة التأسيسية كان بالتعيين ولم يكن رأيه ملزما للمرشد

فلا أجد في الرد على هذا إلا أن أحيل الدكتور إلى المادة 27 من الفصل الرابع من القانون الأساسي الخاص بنظام مكتب الإرشاد التي تنص على "أن قرارات المجلس صحيحة إذا صدرت من الأغلبية المطلقة للمجتمعين في اجتماع له الصفة القانونية"

فضلا عن أن أعضاء الهيئة التأسيسية كانوا يخضعون للتمثيل الإقليمي في كل شعبة من شعب الإخوان في جميع مناطق القطر وكان عددهم مائة وخمسين عضوا فلا فلا مجال للقول إذا بأنهم كانوا صنائع حسن البنا ...

كما لا مجال للقول بأن حق مكتب الإرشاد في ضم ثلاثة أشخاص من أعضاء الهيئة التأسيسية من ذوي الكفاءة والمؤهلات والسبق في الدعوة كما نصت المادة 36 من القانون الأساسي تعتبر دليلا على ديكتاتورية المرشد وجميع النظم النيابية في العالم تعطي الحق لرئيس الدولة في أن يضم إلى مجالس الشورى فيها أشخاصا بذاتهم إذا توافرت فيهم كفاءات معينة لم يحقق وجودها نظام الانتخاب العام.

ومع ذلك فمكتب الإرشاد هو الذي يعين هؤلاء وليس مرشد الإخوان ... إن السخرية التي رى بها الدكتور رمضان وعبد الناصر القول بأن نظام الإخوان المسلمين قائم على مبادئ الشورى وبعيد عن ديكتاتورية النظم الفاسدة لا نردها إليه بعد كل هذا الوضوح وإنما نندبه إلى قول الله تعالى "لا يسخر قوم من قوم عسى أن يكونوا خيرا منهم" .. وفي الأدب الذي ندبنا إليه الله تعالى في كتابه العزيز ما يلجم ألسنتنا عن المضي شوطا آخر أبعد من هذا.

اعتبر الدكتور رمضان أن الخلافات ما لبثت أن دبت داخل الإخوان بالنسبة للموقف من الثورة حتى لقد قسم الإخوان إلى ثلاثة أقسام أحدها على رأسه البهي الخولي يرى تأييد الثورة والثاني على رأسه خميس حميدة يحاول التوفيق بين الاتجاهات المختلفة والثالث على رأسه المرشد يرفض التعاون مع الثورة

ويصور أن حدة الخلاف قد بلغت مداها إلى درجة اضطرت الأستاذ الهضيبي القيام برحلة إلى البلاد العربية يفسح فيها السبيل لأنصار التفاهم للقيام بدورهم المأمول.

ثم يمضي الدكتور بعد ذلك في سرده "التاريخي" ليقول

"وإزاء هذه المصيبة التي ألمت بالجماعة (قرار الحل في 14 يناير سنة 1954) أخذت صفوفها تلتئم من جديد فيلاحظ أنه عندما خرج الهضيبي وعبد القادر عودة وعبد الحكيم عابدين وغيرهم من المعتقلين بالسجن الحربي يوم 25 مارس سنة 1954؛
كان من بين الذين زاروا المرشد لتهنئته، خصومه الذين طردهم من الجماعة وهم صالح عشماوي ومحمد الغزالي وعبد الرحمن السندي وأحمد زكي وأحمد عادل كمال ومحمود الصباغ وذكرت الصحف أنهم زاروه مهنئين بالعودة ومجددين البيعة
ومع استئناف الجماعة نشاطها استأنفت أيضا إعادة تنظيم الجهاز السري ولكن في ظروف ملائمة هذه المرة لأن عبد الرحمن السندي وجماعته كانوا قد دخلوا في مصالحة مع الهضيبي.

إن كبوة القلم عند الكاتب أشد خطرا من كبوة الجواد، وكبوتها عند المؤرخ أشد وقعا من طعنة الحسام ... فقد اختلطت الأمور عند الدكتور فما عاد يعرف أن المرشد زار البلاد العربية في أوائل يوليو سنة 1954 بعد خروجه من السجن الحربي بثلاثة أشهر من المصالحة التي جرت بينه وبين السندي وصالح عشماوي والغزالي وأحمد زكي وأحمد عادل كمال وبقية المفصولين كما يدعي ...

والتي قرر على أثرها أن صفوف الجماعة أخذت تلتئم من جديد وأن الجماعة استأنفت نشاطها في ظروف ملائمة هذه المرة ثم بعد ثلاثة أشهر لا أكثر بلغت حدة الخلاف مداها بين البهي الخولي والمرشد وخميس حميدة حتى اضطر إلى الخروج إلى البلاد العربية ليفسح الطريق إلى الراغبين في التفاهم مع الحكومة.

إن الدكتور لم يفصح لنا عن سبب هذا التفسخ المزعوم في صفوف الجماعة بعد ثلاثة أشهر فقظ من زيارة الخارجين عليها للمرشد ومصالحتهم له، لماذا جرى هذا التفسخ المزعوم الذي ادعاه الدكتور رمضان؟!

كان الأولى به وهو من يعيش بنبضات قلبه في أحداث التاريخ كما يقول وتؤرقه المظالم حتى تبكيه أن يعيش أيضا بنبضات قلبه مع عزة الرجال وجلال المواقف التي كان يفترض فيها أن تسعده وتشجيه ...

إن عبد الناصر نفسه اعترف بفشله في تقطيع أوصال الجماعة التي وقفت صادمة لكيده وخرجت بعد الحل والاعتقال أصلب عودا وأثبت قدما على الحق الذي رآه رائدها ومضى بها إليه حتى لقد زاره في بيته معتذرا منيبا كما زاره جميع المفصولين من الإخوان كما تقول والعجيب في أمر الدكتور أن رؤيته للحقيقة لم تقربه من رؤية الحق ...

كان الأولى به أن يرى زيارة المرشد للأقطار العربية إنما جرت من موقع القوة لا من موطن الضعف ... بعد هذه التجربة التي خاضتها الجماعة بعد الاعتقال وخرجت منها شامخة الرأس نقية الثوب من الأكاذيب التي اتهمتها بالعمالة ...

وكان يمكنه من هذا المنطلق أن يفسر سفر المرشد وبعده عن مسرح الأحداث في مصر بما يؤكد طمأنينته إلى موقف الجماعة منه، الأمر الذي يعتبر صفعة للمرجفين بدعاوى عبد الناصر من أن المرشد هو سبب الخلاف بين الإخوان والحكومة ويجب تنحيته ليتم التفاهم بين الإخوان والحكومة.

وكان يمكنه أيضا أن يفهم قول المرشد بأنه لا يرى سببا يدعو إلى الخلاف بينه وبين عبد الناصر من منطلق هذا الفهم أيضا فإن وجوده على رأس جماعة الإخوان لا يمكن أن يكون سببا لدى الحكام الشرفاء يدعو إلى الخلاف.

بل إن معارضته للاتفاقية الناصرية الإنجليزية لا يصح أن تكون سببا لدى المخلصين من الحكام يدعو إلى الفرقة أو المنابذة.

ولو خلع الدكتور رمضان نظارته السوداء التي يرى بها سلوك الإخوان المسلمين لأدرك أن خميس حميدة الذي ادعى أنه كان على رأس فريق يناهض الهضيبي هو نفسه الذي سلم المذكرة التي قدمها الإخوان المسلمون في 22 أغسطس سنة 1954 عن رأيهم في الاتفاقية

والتي تضمنت نفس تصريحات المرشد في جريدة بيروتية أثارت عبد الناصر وجرعته الغصص لفضيحته في شروط اتفاقيته مع الإنجليز.

وإنه ليؤسفني حقا ضياع معالم الحق عند الدكتور رمضان حين لا يستطيع دفع تزاحم الصور السوداء عن ناظريه في تعليقه عن معارضة الإخوان للاتفاقية فيقول إن الهضيبي قد استعار تكتيك الوفد النضالي الذي استخدمه عام 1930 لإيقاف مشروع محمد محمود هندرسون حين رفض النحاس إبداء رأيه في المشروع إلا تحت قبة البرلمان المنتخب انتخابا صحيحا ...

ثم يستطرد فيقول:

"على أن الإخوا في الحقيقة كانوا آخر من يدينون مثل هذه الاتفاقية بين عبد الناصر وإنجلترا لأنهم سبق لهم أن قبلوا الأسس التي قامت عليها أثناء مفاوضاتهم مع إيفانز".

وإني لأسأل الدكتور بعيدا عن المزايدات الكلامية والمهاترات الحزبية، من كان أول المعارضين لهذه الاتفاقية إذا جرى ترتيب الإخوان عنده في آخر القائمة، ومن الذي اكتوى بنار هذه المعارضة خلافهم.

ومن كان أول المطالبين بالحرية والنظام النيابي إذا كان الإخوان آخر المطالبين به؟! ومن الذي بذل في هذا السبيل ما بذلوه من دماء شهدائهم وهل سمع للوفد ورجال الوفد صوت في هذا الصدد؟! ولماذا لم يكرر النحاس باشا مع عبد الناصر ما سبق أن كرره مع محمد محمود هندرسون؟!...

ومن من رجال الوفد الكبار أو الصغار بذل دمه في عهد عبد الناصر ليروي به شجرة الحرية؟ كما رواها عبد القادر عودة ورفاقه ...

أنا أنكر على عبد الناصر قوله بعد حل الإخوان المسلمين والذي ورد في كتاب أحمد أبو الفتح عنه من أن هذه الأمة ليس فيها رجل واحد بل أقول إنها أمة شجاعة أبية أنبتت غرس الإخوان المسلمين فشرفتها وشرفت بها ...

ولكن ...

أنكر على هذه الأقلام الحيرى في تيه الظلام أن تنال غراس هذه الأمة بالتجريح .. وتقدم التاريخ للشباب على مائدة الحزينة الشوهاء..

أيتها الأقلام!!

كفى عن العبث بقيم الرجال فما رويت شجرة الحرية بالمهاترات وما نقص من قدر جماعة الإخوان ما ادعاه عبد الناصر وسدنته بالأمس واليوم أن الجماعة وافقت على اتفاقيته مع الإنكليز فالحقيقة التي سقناها في هذا الصدد بالأمس القريب في ردنا على الدكتور رمضان أبلج من صبح ينال من إشراقه سهم غارب من سهام الدكتور ... ( )

المقال الحادي عشر لصلاح شادي "لماذا يتجنى البعض في تصوير جماعة الإخوان المسلمين"

(الوطن في 30 يناير 1981)

في مقال الدكتور رمضان بتاريخ 13 يناير سنة 1981م تحت عنوان "بيني وبين صلاح شادي" قرأت قوله بالخط العريض "ذكر ما لم يحدث .. ورد على ما لم أقل" ... وأورد في مقاله هذه أن هدفي من ذلك تشكيك القراء في الدراسة والنهج العلمي الذي قامت عليه ...

وقرأت قبلها في جريدة الوطن بتاريخ 7 يناير سنة 1981م ردود القراء على الدكتور عبد العظيم رمضان ضمنوها رأيهم فيما كتب تحت عناوين مختلفة أحدها "التجني على الإخوان بين العلمانية والأهواء الشخصية.

وبدا من المقالين رأي القراء في "النهج العلمي" الذي قامت عليه دراسة الدكتور رمضان التي قامت في معظمها على تحقيقات جمال سالم في المحكمة ...

ولم أتبين أثر الشكوك التي ادعى الدكتور رمضان أني أوحيت بها إلى القراء وإنما كانت كل الردود تنطبق من موطن الثقة واليقين لا من موضع الشك والتخمين، ولا شك أن القراء أدركوا منطوق حديثه ما أدركت ...

وربما كان من المفيد أن أوضح للقارئ كيف تلتبس الحقائق في نفس الدكتور رمضان لا في عقل القارئ الأمر الذي دعا أحد القراء أن يجعل عنوان مقاله في الرد على الدكتور "أين عقولنا يا معشر المثقفين؟!".

إن أسلوب الدكتور رمضان في الكتابة عن التاريخ لا يمكن أن يوصلك إلى حقيقة ثابتة الأبعاد، وإنما يمضي بك في دروب ومفاوز تقذفك بعيدا عن مطلبك في إدراك الحقيقة! وحين تستوحش من هذه الدروب وتتوه في هذه المفاوز يكون قد نجح تماما فيما يقصده من وراء كتابته؛

وهو إثارة الرعب أو التقزز أو النفور من الرجال أو الجماعة أو السلوك الذي يعرضه في ثوب التاريخ ... فإذا حاولت الوقوف مع حقائق هذه الصورة التي يحاول إيهامك بها ومناقشته بالحجة المنطقية عما دعاه إلى إثارة هذه الأشباح، فر هاربا من أشباحه التي أوهمك بها!

وادعى براءته من خلق الأشباح ومن صناعة الصور واختفى وراء كلمات يتجهز بها للدفاع عن مثل هذه المواقف الكاشفة ولكن لا تجديه كلماته نفعا، لا له ولا للحقيقة، لأن الصورة التي حققها في وجدان القارئ تزلزلها هذه الكلمات، والأشباح التي صورها لا تصمد أمام التناقضات؛

ولذلك توخيت فيما أكتب ألا تحجبني عبارته الدافئة عن الواقع الذي يريد أن يصوره للناس فأوقفت القارئ على هذه الانطباعات وتركت له عرض رأيه الذي يدين به، إذا شاء، فهذا أزكى لمعرفة الحقيقة التاريخية غير ملبسة بالأشباح والأوهام..

وفيما نرويه اليوم إن شاء الله في الرد على الدكتور توضيح لما نقول ...

يقول الدكتور رمضان في الحلقة الثانية من مقالاته في معرض حديثه عن وزارة حسين سري التي اعتقلت المرشد حسن البنا والأستاذ أحمد السكري والأستاذ عبد الحكيم عابدين:

"على أن الأقدار في ذلك الحين كانت تعد لأول صدام بين السلطة والإخوان المسلمين في ظروف لم تكن قد نضجت لها قوة الإخوان ففي عهد حسين سري باشا وبطلب من السلطات البريطانية تمت مصادرة مجلتي التعارف والشعاع الأسبوعيتين وألغي ترخيص مجلة المنار الشهرية التي أعاد الإخوان إصدارها بالتعاون مع ورثة الشيخ رشيد رضا ومنع طبع أي رسالة من رسائلهم أو إعادة طبعها وأغلقت مطبعتهم؛
ومنعت اجتماعاتهم وحظر على الصحف نشر أخبارهم، وفي 19 أكتوبر سنة 1941 اعتقلت الحكومة حسن البنا وأحمد السكري وعبد الحكيم عابدين وأودعوا معتقل الزيتون وبذلك تعرضت الدعوة لأول خطر حقيقي تشهده منذ ظهورها.

على أن القصر لم يلبث أن تحرك لإنقاذ الإخوان، واضطر حسين سري إلى الإفراج عن حسن البنا وأحمد السكري في 13 نوفمبر أي قبل مضي شهر واحد على الاعتقال كما أفرج عن عبد الحكيم عابدين إلخ ...

ثم يمضي فيقول:

على هذا النحو انتهت المحنة الأولى سريعا، ولكن بعد أن خلفت أثرين في خطة البنا.
أولا: تحاشي الاصطدام مع البريطانيين بأي ثمن تفاديا لإجهاض دعوته.
ثانيا: بناء التنظيم السري.

وهكذا اعترف الدكتور رمضان بأن التنظيم الخاص قد نشأ نتيجة لعدوان الحكومات على حرية الأفراد ونشاط الجماعة العام بتسليط من الإنكليز.

وهذا يدعونا إلى وقفة هادئة مع الدكتور نسأله فيها لماذا أنكر بعد هذه المعلومة التي أوردها في دراسته أن بناء التنظيم الخاص إنما قام لقهر الإنكليز وإخراجهم من البلاد حتى ليتساءل مستنكرا في جريدة الوطن في (26–11–1980م)

"ولماذا يغضب الأستاذ صلاح شادي من تحليل تاريخي يثبت أن التسليح من جانب البنا لم يكن لأسباب تتعلق بإخراج الإنكليز، وإنما لأسباب تتعلق بإقامة حكومة إسلامية؟!"

كيف نفسر قوله هذا:

"بأن التسليح من جانب البنا لم يكن لأسباب تتعل بإخراج الإنكليز بينما رأيناه في الحلقة الثانية من مقالاته يقر بأن إنشاء النظام الخاص كان نتيجة للعنف الذي وقع على البنا وعلى حرية نشاط الجماعة بإيعاز من الإنكليز؟!"

فإذا أفزعك هذا التناقض وبدا شبح النظام الخاص "الذي لم ينشأ لمواجهة الإنكليز" (!!) كريها يثير أمام القارئ أسئلة تشكك في حقيقة هذا الانطباع الذي يعني في نهاية المطاف تربع الخيانة على خط سير الجماعة وأهدافها عاجلك بلمسة رقيقة يصارع بها هذا الشبح في نفسك فيقول: "وإنما لأسباب تتعلق بإقامة حكومة إسلامية؟!"

وهي حقيقة لا شك فيها، سيقبلها وجدانك على ان الدكتور المؤرخ يتوخى الإنصاف ولا يعنيه بعد ذلك أن يتساءل القارئ وكيف تقوم حكومة إسلامية في وجود المستعمر الإنكليزي؟!

فقد كفاه أن يعطيك هذه اللمسة التي تبدو كأنها منصفة حتى لا توليه ظهرك في متاهة دهاليزه الفكرية لكي يعيدك من ورائها إلى "محرابه المقدس" الذي يروي عنه تاريخ هذه الجماعة؟!

ثم ....

يضيف إلى ذلك تأكيده بأن "إقامة الحكومة الإسلامية هو الدافع الأساسي، بل المحرك الوحيد لكل سياسات البنا العلنية والتحتية، وليس القفز على الحكم والوصول إليه على جثث وهامات المواطنين" (الوطن في 13 يناير سنة 1981م).

ومع ذلك فإذا استعرضت مقالاته وجدتها تروي الآتي عن حسن البنا:

حسن البنا "يتحالف مع القصر الذي يقف موقفا معتدلا من الإنكليز ولا يقول "يصانع" القصر فحسب كما ورد في مقاله في جريدة الوطن في 13 يناير سنة 1981 م ، ولكنه يؤكد تحالفه مع القصر، (كما في مقاله في جريدة الهدف في 20 نوفمبر سنة 1980م).
وحسن البنا يحصل على ثمن هذا التحالف المزعوم "مجموعة من التسهيلات الرسمية التي منها إصدار جريدة رسمية للجماعة باسم الإخوان" (الهدف في 20 نوفمبر سنة 1980م) ويتحاشى الاصطدام بالإنكليز بأي ثمن تفاديا لإجهاض دعوته كما ورد في الحلقة الثانية من مقالاته في جريدة الهدف.
وتختلف المصادر حول قبول أو عدم قبول نوع من الدعم المالي (من الإنكليز) كما ورد كذلك في الحلقة الثانية من مقالاته حيث يستطرد فيقول: وسواء قبل الإخوان دعما من بريطانيا أم لم يقبلوا فمن الثابت أنهم امتنعوا عن القيام بأي نشاط ضد البريطانيين.
فماذا يعني كل هذا في ذهن القارئ إذا تصور أن الحكومة الإسلامية يمكن أن تنهض على أشلاء الفضائل والقيم والمثل والأخلاق؟!هل هذا طعن فقط في حسن البنا ومساره التاريخي أم في مفهوم الحكومة الإسلامية ذاته إذا جرى تأسيسها على هذه الصورة؟!
وكيف تبرأ نية حسن البنا إذا جرى سلوكه على هذه الصورة المهلهلة البعيدة عن الخلق والفضائل التي رسمها له الدكتور رمضان؟

ومثل آخر أضربه في هذا الشأن من واقع مقالات الدكتور ...

فقد أراد أن يصور الإخوان المسلمين في قسم البيعة الذي يجري بن الأخ الجديد في النظام الخاص وبين المسئول عن النظام، فساق في مقاله في جريدة الهدف في 6 نوفمبر سنة 1980 م اعترافات المرحوم عبد المجيد أحمد حسن في تحقيقات النيابة في تهمة مقتل النقراشي بعد شهر أنكر خلاله ارتباطه بأي شخص دفعه أو دعاه إلى ارتكاب هذا الحادث فقال:
وعند نجاح العضو، كان يؤخذ لحلف اليمين على الطاعة والكتمان وقد رسم عبد المجيد حسن صورة تحفها الرهبة لحلف اليمين فذكر أنه توجه إلى أحد المنازل بالصليبة؛
"وهناك عند الباب قابلنا شخص اسمه عبد الرحمن السندي، وصعدنا إلى الطابق الثاني، ودخلنا غرفة أخرى فردا فردا وكان في الغرفة شخص "ملثم" هو الذي تلقينا عنه البيعة، وكان أمامه مصحف ومسدس قال عنهما إنما الوسيلة الوحيدة لنصرة الإسلام وأنه يجب على الطاعة والقسم على ذلك وأن الذي يفشي سرا من أسرار هذا النظام الخاص فجزاؤه الموت في أي مكان يحتمي به".

وروابط أفراد العصابات "كالمافيا" ونحوها لا تزيد كثيرا عن هذه الصورة التي أراد الدكتور رمضان أن يعطيها للقارئ وخاصة ما يتعلق بهذا الشخص "الملثم" الذي يأخذ البيعة من العضو الجديد.

فإذا تناولت في مقالي هذه الصورة بأنها صورة مهولة "مهوشة، لما يجري عليه قسم البيعة الذي لا يمكن أن تصح أركانه إلا في جو من المعرفة بين الذي يأخذ البيعة لنفسه أو لغيره، وبين العضو الجديد فما أظنني أكون قد عدوت الحقيقة بحال من الأحوال، ولقد وصفت هذه الصورة "بالتهويش"

ووضعت إشارات التنصيص على الكلمة لأنها لفظ عربي استعمل استعمالا دارجا ولم أعن قط أن هذا اللفظ بذاته قد صدر من الدكتور ولكن لا شك أن مضمون هذا اللفظ قد صدر فعلا من الدكتور حيث إن ما رواه في هذا الشأن لا يوصف في حقيقته إلا بأنه "تهويش" ... فواقع الصورة التي جعل الدكتور رمضان مصدره الوحيد فيها أقوال المرحوم عبد المجيد أحمد حسن وحده بعد شهر من الإنكار، لا تحمل في جوهرها إلا هذا الوصف.

ومع ذلك رأيته في مقال الثلاثاء 13 يناير سنة 1981 في جريدة الوطن يدفع عن نفسه كلمة "التهويش" أنه لم يقلها وإن لم يدفع مضمونها، وهذه الكلمة لا تفهم فقط على أني أعني من ورائها تخصيص لفظي لما قاله الدكتور رمضان وإنما تعني تخصيص هذا المضمون الذي لا يختلف أحد في فهمه.

وينكر الدكتور رمضان مضمون دعوانا عليه أنه قال عن حسن البنا إنه كان "يبغي القفز على الحكم والوصول إليه على جثث وهامات المواطنين" ويقول في الرد على ذلك "فهل ادعينا على الشيخ حسن البنا هذا الادعاء وأين؟ إن الدراسة بين يدي القارئ فهل وجد فيها هذا الادعاء ويمضي في دفاعه فيقول: "وكيف يتفق هذا الادعاء مع ما أوردناه من رغبة البنا في ترشيح نفسه لعضوية البرلمان؟

ولكي أجيب القارئ على تساؤلات الدكتور رمضان أعيده إلى مقاله الوارد في 13 نوفمبر سنة 1980 م في جريدة الهدف حيث يقول:

"ولما كان الإخوان قد أقروا موقف السلامة منذ المحنة الأولى وطوال مدة الحرب فإن دخولهم إلى المعترك الوطني كان يحمل معه خطر الإضرار بمسيرة الدعوة وتعريضها للهزات السياسية قبل أن تتهيأ تماما للقفز على الحكم"

فإذا أضفت إلى هذه "التهيئة للقفز على الحكم" التي تنتظم سياسة الجماعة تصويره المخيف لأسلوب التسليح لها "وطريق العنف" الذي لا يكاد يخلو مقال من مقالاته من الإطناب فيه على أنه سلوك وطريق الإخوان المسلمين.

وإذا أضفت إلى كل ذلك أيضا قوله إن البنا قد انتقل من وسيلة الحب والتعارف "إلى وسيلة القوة والاستعداد لإقامة الحكومة الإسلامية عن طريق العنف" لما أمكنك أن تفهم صورة "القفز على الحكم أنها هواية رياضية تفضلها الجماعة، وإنما معناه ثورة مسلحة تأكل الأخضر واليابس وتطيح بالهامات والرءوس الأمر الذي نفاه الإخوان المسلمون في رسائلهم وفي سلوكهم كما سبق أن أوضحت في مقالات سابقة وفي رسائل الإمام الشهيد حسن البنا.

فالأمر بعد ذلك لا يحتاج إلى وضوح لتأكيد انطباع القتل والتخريب والتدمير فيما يقوله الدكتور عن الإخوان المسلمين حين تقرأ له مقاله في جريدة الهدف في 27 نوفمبر سنة 1980 م حين يقول:

"فبفضل التخطيط الأخرق لحوادث العنف الي اركبها التنظيم السري لجماعة الإخوان ضد اليهود والإنجليز .. كانت الأغلبية الساحقة من الضحايا من المصريين وليس من اليهود والإنكليز ...

ثم يستطرد:

"ولو أن هذه العمليات كانت ضمن عملية كبرى للاستيلاء على السلطة وإقامة الحكومة الإسلامية لكان لها معنى، ولكنها قامت بغير غرض ثوري حقيقي فقدت قيمتها النضالية ... إلخ".

وفقرة أخرى يقول فيها

"وهكذا يختلف العنف الثوري والعنف غير الثوري، فالعنف الثوري فيه نفحة بناء ولكن العنف غير الثوري ليس فيه سوى الهدم والتخريب".

وأنا لا أدين هذا الفهم المتزن في تفريقه بين دفع المنكر لإقامة المعروف وبين دفعه ليخلفه منكر أشد ولكن أضيف إلى هذا القول الحقائق التالية:

  1. إن الإخوان المسلمين لم يشاركوا في أحداث أصابت جمهور المصريين سواء قصد بها اليهود أم الأنكليز .. وليت الدكتور رمضان يثبت لنا حادثا واحدا أدين به أحد الإخوان في نفس الوقت الذي قتل فيه أحد المصريين.
  2. إن ما يتعلق بالإنكليز كحادث القطار الإنكليزي الذي ألقيت بداخله قنابل فأصابت الجنود الإنكليز في الشرابية لم يكن هواية ولم يصب فيه أحد من المصريين بسوء وإنما جرى ضمن مخطط عام انتهى إلى جلاء الإنكليز عن قلعة محمد علي في 4 يوليو سنة 1946 م وخرج آخر الجنود البريطانيين من ثكنات قصر النيل في 29 مارس سنة 1947 وانتهى الأمر بهذه المعارك الجزئية الصغيرة إلى معارك القنال التي خاضها الإخوان وأجهضها حريق القاهرة الذي قال عنه عبد الناصر في حفل افتتاح مجلس الأمة سنة 1960 م "إنه كان أول بادرة للثورة الاجتماعية على الأوضاع الفاسدة وحريق القاهرة هو تعبير شعبي عن سخط الشعب المصري على ما كانت ترزح فيه مصر من إقطاع واحتكار واستبداد رأس المال" (!!)
  3. إن ما أصاب اليهود في 20 يونيو سنة 1948 بنسف بعض مساكنهم في حي اليهود كان بمثابة رد فعل لمذابح دير ياسين .. كما أن ما ألقته الطائرة الإسرائيلية التي حلقت في سماء القاهرة وألقت قنابلها على حي "البراموني" فقتلت كثيرا من المصريين بجوار حي عابدين كان رد الوطنيين عليه الانفجار الثاني في 22 سبتمبر الذي دمر جزءا آخر من حي اليهود أما انفجار متجري شيكوريل وأريكو فقد عزتها التحقيقات الحكومية إلى قنابل الطائرات الإسرائيلية التي ألقتها في فترة الإنذار في 17 يوليو سنة 1948 ولم تثبت إدانة الإخوان في أي من هذه الأحداث إلا ما جرى في روع النقراشي وعبد الرحمن عمار صاحب مذكرة حل الجماعة!! وجرت الصحف بعد ذلك على منواله في حملتها العاتية ضد الجماعة.

مع ذلك فالإخوان المسلمون في نظر الدكتور لا يؤمنون بالعنف الثوري البناء .. ولكنهم يؤمنون بالعنف غير الثوري الذي لا يحمل إلا الهدم والتخريب الذي جعلوه وسيلتهم لإقامة الحكومة الإسلامية عن طريق العنف.

ولكن ...

في نفس الوقت يدفع عنهم تهمة القفز على الحكم على جثث وهامات المواطنيين.فكيف تستقيم صورة هذه الجماعة في ذهن القارئ، كما أراد الدكتور أن يصورها.

وقبل الانتهاء من مقالي هذا أشرح ما أنكره علي الدكتور رمضان في مقاله في جريدة الوطن الصادر في 13 يناير سنة 1981 م من إصراري على أن البنا لم يتفق مع النحاس باشا على عدم الاشتغال بالسياسة وأن الأمر الذي كان معروضا للمناقشة فقط هو تنازله عن ترشيح نفسه لعضوية مجلس النواب .. وليس عدم الاشتغال بالسياسة على إطلاقه والتنازل عن الترشيح كما يعلم عامة الناس ليس معناه التنازل عن الاشتغال بالسياسة.

ولكن الدكتور يصر مع ذلك على دعواه ويقدم عليها الدليل الآتي في مقاله سالف الذكر:

أولا: كان البنا ملزما بقبول هذا المطلب دستوريا لأن جماعته لم تتألف بوصفها حزبا سياسيا وإنما كجماعة دينية.
ثانيا: كان بوسعه (حسن البنا) أن يتحدى النحاس ويشتغل بالسياسة رغم أنفه بإجراء بسيط يعلن به جماعته حزبا سياسيا".
ثالثا: الاشتغال بالسياسة معناه العمل على تحقيق الأهداف عن طريق الحكم وأسبابه المؤدية إليه كالانتخابات وغيرها، وما فعله الشيخ حسن البنا بتنازله عن ترشيح نفسه لعضوية البرلمان هو تسليم منه بعدم الاشتغال بالسياسة.

وإني لأعجب كيف ينتهي بي الحوار مع الدكتور إلى الدوران في هذه الحلقة المفرغة؟!فما الذي يمنع من ترشيح نفسه مستقلا عن الأحزاب وبدون تحويل جماعة الإخوان المسلمين إلى حزب سياسي كما فعل أيام وزارة النحاس ووزارة أحمد ماهر فعلا وتنازل في الأولى عن ترشيح نفسه وفي الثانية أسقطه أحمد ماهر بعد إتمام الانتخابات.

وما الذي يدعو البنا إلى ضرورة إعلان الجماعة حزبا سياسيا ليتناقض بهذا الإعلان للفهم العام للأهداف الشاملة للجماعة؟! وخاصة وهو يرشح نفسه ونفر بسيط ممن معه لدخول البرلمان؟ باعتباره مستقلا عن الأحزاب.

والدستور يعطي المواطن حق الترشيح وحق الانتخاب .. فهل إذا تنازل المواطن عن حقه في ترشيح نفسه يعني بالضرورة تنازله عن حق الانتخاب؟! وهما شطرا الاشتغال بالسياسة كما يفهمها الدكتور.لماذا يضطرني الدكتور إلى الخوض معه في هذه البديهيات؟!

إن الواقع قد أنكر على الدكتور رؤيته في أنه كان من اللازم أن يتنازل البنا عن "الاشتغال بالسياسة" وإلا فلماذا أجهد النحاس باشا نفسه معه لمطالبته بالتنازل عن ترشيح نفسه؟! .. ولماذا اضطر أحمد ماهر إلى تزييف الانتخابات في دائرة الإسماعيلية عندما رشح البنا نفسه فيها وكان يكفي فقط رفض أوراق ترشيحه لمخالفتها للأصول الدستورية التي يدعيها الدكتور؟

ويتهمني الدكتور في هذا الصدد بالتجني على النحاس باشا لانحرافه عن الخط الدستوري الديمقراطي أثناء وزارته بإغلاق الشعب ومصادر نشاطها ومراقبة تحركات الأفراد قبل أن تشارف سنة 1942 على الانتهاء مناقضا بذلك اتفاقه معه.

ورد على سهمي الذي أطلقته على سياسة النحاس باشا ببيان جماعة الإخوان المسلمين عام 1948 الذي صدر بعد حل الجماعة على يد النقراشي، فقد اتهم البيان إنكلترا وفرنسا وأمريكا بأنها كانت وراء قرار الحل ...

وعقد البيان مقارنة بين موقف الاستجابة لهذا التدخل من جانب النقراشي وبين موقف النحاس باشا عام 1942 وادعى الدكتور أن البيان أشاد بموقف النحاس باشا حيث قال لقد طلبت السفارة من رفعة النحاس باشا في سنة 1942 والحرب العالمية على أشدها والألمان على الأبواب حل الإخوان المسلمين وتعطيل نشاطهم فلم يجبها إلى ذلك واكتفى بإغلاق الشعب كلها مع بقاء المركز العام إلى حين".

واعتبر الدكتور أن هذا البيان قد أنصف النحاس باشا ليس فقط من شانئيه وإنما أنصفه مني أيضا ...

لقد فرح أولادي حين استبدل عبد الناصر حكم الإعدام بالأشغال الشاقة المؤبدة؟! بل وهنأ الكثير أسرتي بهذا القدر من احتفاظ عائلهم بحق الحياة، فهل اعتبر أولادي أن الأشغال الشاقة المؤبدة إنصافا من عبد الناصر لأبيهم؟!

لقد "أعدم" النقراشي جماعة الإخوان المسلمين بحلها بناء على تدخل الدول الكبرى الذي استجاب له فناله وزر كبير.

وطلب الإنجليز من النحاس سنة 1942 "إعدام" جماعة الإخوان فخفف الحكم إلى سجنها وتعطيل حياتها إلى أجل غير مسمى بإغلاق الشعب، منافذ النور إلى الناس واستبقى المركز العام إلى حين فكان وزره أقل.وشتان بين الإعدام الكامل وإيقاف مسيرة الحياة إلى حين ولكن كليهما ضد الحرية وضد كرامة الوطن والمواطنين.

ومن الفكاهات المصرية الهادفة أن قرويا عاد من حقله إلى قريته وسط زراعة قصب كانت فيها من بابا الصدفة إحدى العصابات التي أمسكت بالرجل ونصبت له محكمة من أعضائها بتهمة الاعتداء على أمنها بالمرور على المكان الذي تختبئ فيه وحكمت عليه بالإعدام ومصادرة المواشي وتجريده من ملابسه ..

فلما استرحم رئيس العصابة نصحه باستئناف الحكم! فاستجاب القروي لرجائه فأبدل الحكم بمصادرة المواشي وأعاد إليه ما يستر عورته وأطلقه فجرى إلى بيته وهو يصرخ "يحيا العدل".

سأجعل كلمات الدكتور التي نشرها في جريدة الوطن في سجاله معي في 22 ديسمبر سنة 1980 م عن رؤيته لجماعة الإخوان المسلمين هي خاتمة حديثي إليه، فقد انطبع فيها صدقه حين يقول عن حركة هذه الجماعة أنها حركة متجددة ما بقي شباب وإسلام وأن هذه الحركة التي أرسى أسسها المرحوم الشيخ حسن البنا سوف تستمر (إن شاء الله) إلى نهاية التاريخ في بلادنا العربية .. ولن يوقفها سقوط الضحايا على جانبي الطريق .. ربما يغذي مسيرتها ويدفعها إلى الأمام.

وسأجعل هذه الحلقة نهاية المطاف بيني وبين الدكتور رمضان فأنا أحب أن ألقى الناس بقلب سليم وجميع مقالات الدكتور التي كتبت في جريدة الهدف الغراء قبل ذلك وبعد ذلك قد اشترتها الجريدة قبل أن يجري هذا السجال بيني وبينه، وقد أرى فيما كتبه الدكتور سابقا ما يدعو إلى جرح ما حققته هذه المساجلة من وضوح في رؤية هذه الحقيقة التي أبرزها الدكتور في جريدة الوطن.

وبالرغم مما جددته هذه المناقشة في قلبي وقلمي من رغبة في تسجيل حقائق التاريخ التي عاصرتها من زاوية مشاركتي فيها فإني أظنها قد أتاحت أيضا للدكتور رمضان فرصة الرؤية للحقائق التاريخية من زاوية جديدة إلى تسجيل ردي على وجهات النظر التي أبداها الدكتور ويبديها غيره في غير مجال الدراسة الصحفية.

وأني إذ أشكر صحيفة "الوطن" الغراء، لا أنسى أن أكرر في هذا الموطن شكري أيضا للدكتور رمضان الذي أتاح لي فرصة الحديث إلى القراء في المساجلة الشيقة التي جرت قرابة أشهر ثلاثة من عمر جريدة الوطن المديد إن شاء الله وعلى مدى نصف قرن من الزمن أو يزيد من أحداث تاريخنا المعاصر.

ملحق رقم (4) ردودي على صلاح شادي بجريدة الوطن الكويتية

المقال الأول الخلاف بيني وبين صلاح شادي منشؤه اختلاف مواقعنا

(الوطن في 17 نوفمبر 1981)

الأستاذ صلاح شادي مناضل قديم من مناضلي جماعة الإخوان المسلمين، أكن له الاحترام والإكبار بقدر ما ناضل وضحى في سبيل الجماعة التي انتمى إليها، والفكرة التي آمن بها، وأنا شديد الحزن لأنه أساء فهمي إلى هذا الحد الذي تبدى في مقاله، فلقد كان قصارى ما توقعته من تقديم مثل هذه الدراسة في التاريخ المعاصر؛

حيث كثير من الأبطال الذين لعبوا أدوارا في التاريخ مازالوا أحياء، وبعضهم ما زال يواصل نشاطه السياسي أن يكون الخلاف بيني وبينهم متعلقا بتصحيح بعض الوقائع، أو إضافة بعض التفصيلات، أو حتى تفسير بعض الأحداث أما أن يصل الأمر إلى إساءة فهم الدوافع التي دفعتني إلى القيام بهذا العمل العلمي، وإهالة الشبهات على هذه الدوافع – فهذا ما كنت أستبعده لحد كبير.

والحقيقة أن كل الخلاف بيني وبين المناضل القديم الأستاذ صلاح شادي منشؤه اختلاف الموقع الذي ينظر منه كلانا إلى الأحداث، فهو ينظر إلى الأحداث من موقع المشارك فيها، الذي يتحمل شطرا هاما من المسئولية عما تمخض عنها من نتائج، من فشل أو نجاح؛

أما أنا فأنظر إلى الأحداث من موقع المؤرخ الذي لا يعنيه شيء سوى استرداد الحدث التاريخي من الماضي وإعادة تركيبه من جديد كما كان، أو قريبا مما كان، باتباع أساليب البحث العلمي، ووفقا لأصول منهج البحث التاريخي، بغرض شحذ ذاكرة شعبنا العربي، وتعميق وعيه القومي بتاريخه ونضاله، ولكي يستفيد من دروس التجربة، ويستخلص من الماضي عبرته.

وأنا أزعم أن الموقع الذي أنظر منه إلى الأحداث ربما كان أكثر موضوعية وتجردا من الموقع الذي ينظر الأستاذ صلاح شادي، ومن ثم فإن ما اعتبره سيادته تجنيا مني في تصوير جماعة الإخوان المسلمين، منشؤه في الحقيقة اختلاف الصورة التي رسمتها، عن الصورة التي ارتسمت في ذهنه على مر الزمن للجماعة، والتي يود أن ترتسم في أذهان كل الناس، وأن يكتب التاريخ وفق خطوطها الرئيسية، وهو أمر مستحيل.

وإذا كان في وسعي أن أقول إنه لا يوجد لدي كمؤرخ ما يدفعني إلى التجني على جماعة الإخوان المسلمين، فأعتقد أنه لدي ككاتب سياسي ما يجعلني أقول إنه لا يوجد قلم من خارج الإخوان دافع عن الإخوان المسلمين وعن حقهم في ممارسة حياتهم السياسية، كما دافع هذا القلم الضعيف، ومقالاتي في هذا الشأن في جريدة "الجمهورية"؛

وغيرها شاهد حي يمكن الرجوع إليه، وذلك لإيماني الذي لا يتزعزع، من واقع الدراسة التاريخية المعمقة، بأن الديمقراطية هي طريق النجاة الوحيد لهذه الأمة العربية، وهي مفتاح التقدم الحقيقي، وأنه ليس من حق أي حاكم أن يمنع فريقا من الأمة من أن يعبر عن رأيه وإرادته الطليقة بالوسائل السياسية المشروعة، ومجموع الأمة هو الذي يقرر مصيرها ومستقبلها.

ولكن من هذا المنطلق الفكري نفسه، كان لا بد أن تخضع حركة الإخوان المسلمين للدراسة التاريخية والتحليل، فإذا رأى الإخوان المسلمون في الصورة التي تعرضها هذه الدراسة لهم ما لا يعجبهم، فأستطيع أن أؤكد لهم أن هذه هي الصورة الحقيقية، لا الصورة المرسومة في مخيلتهم، فالتاريخ هو أصدق مرآة للأحداث والأشخاص؛

وإذا قالت هذه الدراسة التاريخية إن الإخوان المسلمين لم يقفوا إلى جانب الديمقراطية، فعليهم أن يستفيدوا من أخطائهم في إشاعة الديمقراطية في صفوفهم ومساندة الديمقراطية في كل مكان، بدلا من أن يشرعوا أقلامهم ويشهروا أسلحة الهجوم والاتهامات.

لهذا السبب ظن الأستاذ صلاح شادي أنني أستهدف بالدراسة "التشكيك في المقاصد والنوايا التي حملها الشهيد حسن البنا لأمة الإسلام جمعاء وحملته بعده جماعة الإخوان المسلمين ..."

وهذا اتهام شنيع، لأني لو أردت ذلك لما أسعفتني الوثائق التاريخية والوقائع الحقيقية، فمقاصد البنا ونواياه كانت أشرف المقاصد والنوايا، وهذه حقيقة تاريخية لا يجادل فيها إلا مكابر، ولكن النوايا والمقاصد شيء، وأسلوب تحقيقها شيء آخر، والمؤرخ لا يرصد مقاصد ولا نوايا، وإنما يرصد أحداثا وقعت بالفعل.

ومن ثم فإذا أراد الأستاذ صلاح شادي أن يتهمن بالتجني لأني اعتبرت "فكرة العنف" عند الإخوان قضية مسلما بها لا تحتاج إلى نقاش، فليسمح لي سيادته أن أقول إن هذا اتهام جريء، لأنه صادر من أحد كبار قادة التنظيم السري، وفيم إذن، ولم نشأ التنظيم السري؟ هل نشأ للوصول إلى الحكم عن طريق الانتخابات الحرة الديمقراطية كما يفعل حزب العمال البريطاني أو حزب الوفد قديما؟

في الحقيقة يا سيدي إنه علينا أن نتفق على أساس في مناقشة هذه القضية، فإما أن تنكر إنكارا باتا مدعما بالوثائق التاريخية أنه كان لدى الإخوان المسلمين تنظيم سري باسم "النظام الخاص" وفي هذه الحالة تكون قد نفيت تماما فكرة العنف عند الإخوان، وإما أن تعترف بوجو هذا التنظيم السري، وفي هذه الحالة تعترف ضمنا بوجود فكرة العنف.

وفي رأيي الشخصي المستند إلى الحقائق التاريخية الثابتة أنك لن تستطيع بحال إنكار وجود هذا التنظيم السري، كما أنك لن تستطيع إنكار أن هذا التنظيم السري كان يكدس السلاح، وطالما أنك استشهدت بالمنصفين وعلى رأسهم الرئيس السادات، فإن الرئيس السادات قد روى كشاهد عيان كيف كان الإخوان يكدسون السلاح؛

كما أن المنصفين من الإخوان المسلمين لم ينكروا تكديس السلاح .. وأظنك تتفق معي في الرأي في أنه إذا كدست أية جماعة في بلد ما السلاح بطريقة سرية، فلن يكون الهدف منه أن يحمله أعضاؤها للزينة في المناسبات القومية، وإنما ليخرج به أعضاؤها للانقضاض على النظام.

ومن الغريب أن الأستاذ صلاح شادي يريد أن يلزمني كمؤرخ بأحكام القضاء وإذا كان الأمر كذلك لماذا لا يكتب القضاة التاريخ؟

في الحقيقة إنه إذا كن القضاة يصدرون الأحكام على الأفراد والجماعات السياسية، فإن المؤرخين يصدرون الأحكام على القضاة أنفسهم وأحكام التاريخ على القضاة أمر هام جدا، حتى يعرفوا أن للتاريخ محكمة عليا سوف يمثلون أمامها في يوم من الأيام، فيلتحموا بقضايا أمتهم المصيرية، ويرتبطوا بنضالها السياسي التحرري، ولا ينعزلوا عنها، أو ينقلبوا عليها، ولو أن التنظيم السري للإخوان المسلمين أبقى على حياة القاضي الخازندار بك، ولم يقتله علانية، لتولى التاريخ أمره وأدانه.

لا ضرورة إذن للاستشهاد بحكم القضاء في قضية "الجيب" فهو حكم سياسي بالدرجة الأولى كان له ما يبرره وقت صدوره من الظروف السياسية، ولم ينكر هذا الحكم أبدا وجود تنظيم سري للإخوان المسلمين، بل أكد وجود هذا التنظيم، وإن اعتبره جهاز تحرير لا إرهاب

كما أن هذا الحكم لم ينكر أبدا أن المؤامرة الإجرامية لأعمال القتل والتخريب، التي اكتشف أمرها في ذلك الحين، كانت مكونة من "بعض أعضائه" وأنا أنقل هذه العبارات السابقة من مقال الأستاذ صلاح شادي، ثقة مني في أمانة نقله، لأن وجودي في لندن منعني من التحقق من صحة هذا النقل عن طريق الرجوع إلى أصول حيثيات الحكم ...

وإذا كان هذا الحكم قد وصف المؤامرة بأنها "إجرامية لأعمال القتل والتخريب" ووصف مرتكبيها بأنهم من أعضاء التنظيم السري، فلا يتوقع مني الأستاذ صلاح شادي أن أعتمد على هذا الحكم في إنكار وجود تنظيم سري للإخوان المسلمين، أو إنكار وجود فكرة العنف في أيديولوجيتهم.

وقد حاول الأستاذ صلاح شادي أن ينكر صلة الشيخ حسن البنا بالقصر وتحالفه معه بطريقة غريبة حقا، فلم يطعن في صحة المصادر التي رجعنا إليها، وهي مذكرات الشيخ حسن البنا نفسه، وإنما استدل بما وصفه بإهداء رئيس الوزراء إبراهيم عبد الهادي رأس البنا هدية له في عيد جلوسه على العرش في 12 فبراير سنة 1949.

وقد نسي السيد صلاح شادي أننا قلنا إن هذا التحالف انفض عام 1948، ومن حسن الحظ أنه أورد بنفسه هذه الفقرة من دراستنا في مقاله، ومن ثم فهذا الاستشهاد غير ذي موضوع، ولكنه قدم لنا سلاحا نهدم به محاولته إنكار تهمة العنف عن الإخوان المسلمين، لأن هذا الإهداء، من جانب رئيس الوزراء المصري إبراهيم عبد الهادي، لرأس البنا إلى الملك فاروق، كان من قبيل ما يمكن أن نسميه "تبادل إهداء الرءوس"

فقد سبق للتنظيم السري أن قدم رأس محمود فهمي النقراشي باشا، رئيس الوزراء السابق، إلى الشيخ حسن البنا كهدية، وقد رد إبراهيم عبد الهادي باشا، صديق النقراشي باشا، بإهداء رأس البنا إلى الملك فاروق، وهذه هي دائرة العنف الخبيثة.

ولكن هل قرأ الأستاذ صلاح شادي لنا حرفا يشجع عنف إبراهيم عبد الهادي أو يتعاطف معه، حتى يبدي ما أبدى أسفه في مقاله؟ وألم يكن من الأفضل أن ينتظر إلى نهاية الدراسة لتتكون لديه فكرة شاملة ورأي متكامل، بدلا من اتهامنا "بلوي حقائق التاريخ" دون مبرر أو دليل".

على أن الأستاذ صلاح شادي، الذي يتهمنا بالتجني، ينسب إلينا ما لم يصدر بحال عنا، فقد نسب إلينا أننا تحدثنا عن "انحراف" الشيخ حسن البنا عن "وسيلة الحب والإخاء والتعارف" وأننا "قدمنا فكر حسن البنا "في إطار من المهانة أهدرنا به أصول العقيدة ذاتها ...".

ولست أدري هل قرأ الأستاذ صلاح شادي حقا ما كتبناه، أم لخصه البعض له تليفونيا؟ فإذا رجع سيادته إلى دراستنا سوف يجد أننا قلنا بالحرف الواحد "أخذ البنا يعمل على تحويل جماعته من جماعة مدنية إلى جماعة شبه عسكرية، وينتقل من وسيلة الحب والإخاء والتعارف ... إلى مرحلة الاستعداد لتنفيذ الأهداف بالقوة"

فهل يجد القارئ المنصف في هذه العبارة كلمة "انحراف" التي اتهمنا بها الأستاذ صلاح شادي؟ أم أن كلمة "تحويل" ، "وانتقال" تعنيان في قاموس سيادته معنى "الانحراف"؟

ولقد قدمنا فكر الشيخ حسن البنا بأنه يقوم على: شمولية الإسلام. والرجوع بالإسلام إلى تعاليمه الأولى، والجامعة الإسلامية، والتمسك بفكرة الخلافة، والحكومة الإسلامية، فهل هذا الإطار الفكري ينطبق عليه وصف الأستاذ صلاح شادي أنه "إطار من المهانة أهدر به الدكتور رمضان أصول العقيدة ذاتها" وهل يمكن لقارئ منصف أن يتفق مع الأستاذ صلاح شادي في هذا الرأي؟

بل إن الأستاذ صلاح شادي قد ذهب إلى حد اتهامنا بالتشكيك في مصادر المال التي استطاع بها حسن البنا إنشاء ثلاثمائة شعبة في عشر سنوات، ولست أدري أين قرأ هذا التشكيك من جانبنا، فدراستنا خلو منه تماما، ويمكن له وللقارئ الرجوع إليها للتحقق من صحة قولنا، وإنما تحدثنا عن "ازدهار الحركة دائما وأبدا في العهود الرجعية" فهل يعني هذا الكلام في رأي الأستاذ صلاح شادي التمويل بالمال، أم يعني إطلاق الحرية للحركة للانتشار؟

في الواقع أن الاتهام بالتمويل الخارجي للإخوان لم يصدر منا، وإنما صدر من داخل الجماعة ذاتها؟ في ظروف انشقاق الأستاذ السكري، كما يعرف صلاح شادي جيدا!

ومع ذلك فعندما يتابع سيادته هذه الدراسة سوف يجد أننا لم نتوقف عند هذا الاتهام، لأنه ليس له قيمة في الواقع، ففي ذلك العهد كانت الحكومات الحليفة تساعد حلفاءها بطرق شتى ليست الشيكات بالحتم أحد بنودها، بل ربما كانت أقل بنودها.

مع ذلك فربما كان من أكبر أسباب الخلاف بيني وبين الأستاذ صلاح شادي أنني ملتزم بقواعد منهج علمي يتطلب مني الاعتماد على حقائق ثابتة أو وثائق أصلية، ومن ثم فليس لي أن أخلق بفكري ما أشاء من تصورات لا تعتمد على مثل هذه الأسس الضرورية، بينما الأستاذ صلاح شادي متحرر تماما من هذا المنهج.

وعلى سبيل المثال، فسيادته يرى أن الشهيد الشيخ حسن البنا كان منهاج الدعوة يبدو متكاملا في فهمه منذ ظهرت دعوته "بدءا من مفهوم الخلافة الإسلامية ... ومرورا بنظام الدولة في مجال السياسة والاقتصاد عبر الأمة التي ستظل بشريعة السماء في دستورها".

وهذا اجتهاد خاص لسيادته لا أظن أنه سوف يستطيع التدليل عليه بغير الحدس والتخمين، أما اجتهادي فأبنيه على كتابات البنا في ذلك الحين، وما نطقت به جريدته، وما وردفي مذكراته، وهذه الوثائق جميعها تثبت تدرج الفكرة، وتطور الدعوة، وانتقالها من مجرد "رد فعل" لتيار التغريب إلى "فعل" لإقامة الحكومة الإسلامية.

بل إن فكرة إقامة الحكومة الإسلامية خضعت بدورها للتدرج والتطور في ذهن الشيخ حسن البنا فقد كان بعد نمو الدعوة يرى إمكانية قيامها بالوسائل الشرعية الدستورية، أي عن طريق وصول الجماعة إلى الحكم عن طريق الأغلبية البرلمانية

وهذا ما كتبه في مجلة النذير تنديدا بأسلوب جماعة مصر الفتاة في تحطيم الحانات، ثم انتقل من ذلك إلى وسيلة العنف بعد أن فقد إيمانه بالوسائل الدستورية والحكومات البرلمانية، وتمثل ذلك في هجومه على النظام البرلماني، وتطويره لفرقه العسكرية.

وهذا الكلام لا نقوله من باب التحليق في الخيال، وإنما نستقيه من نصوص ثابتة منشورة، وما قلناه من أن الحركة بدأت بفكرة العمل السلمي المتمثل في إصدار الجرائد الإسلامية والوعظ والإرشاد وتأليف الجمعيات، وأن فكرة الحكومة الإسلامية لم تكن واردة أصلا في ذهن البنا قبل تأليف جماعته مستقى من مذكرات الشيخ حسن البنا، ويمكن الرجوع إليها للتحقق؛

فحديثه مع الشيخ الدجوي ليس فيه مثل هذا التصور على الإطلاق، ولا يمثل أي منهاج متكامل كذلك الذي يتحدث عنه الأستاذ صلاح شادي، ولا أظنه يريدني أن أعتمد على رأيه، وأضرب بمذكرات الشيخ حسن البنا عرض الحائط؛

وقد كان في وسع البنا حين أصدر مذكراته في الأربعينيات أن يدعي أنه كان يحمل هذا المنهاج المتكامل في ذهنه منذ البداية، ولكنه كان أمينا إلى الحد الذي روى فيه ما له وما عليه، وكان هو الذي روى صلته بعلي ماهر باشا وانقسام الإخوان بسبب الهتاف له، ومن حسن الحظ أن منهج البحث التاريخي وقواعد الدراسة العلمية تلزم المؤرخ بالرجوع إلى المصادر الأولى، وإلا أقمنا تاريخ حركة الإخوان على الأسس الواهية والجدر المتصدعة، والافتراضات التي يقيمها الشراح.

وأخيرا فإن الأستاذ صلاح شادي اتهمني بتهمتين ظالمتين أدعو الله أن يسامحه في الأولى، ولا يسامحه في الثانية

الأولى: أنني أسعى من وراء هذه الدراسة إلى تصوير الإخوان بالصورة التي تخيف الحكام والمحكومين.
والثانية: أنني خضت و "أمثالي" كثيرا في عرض الشيخ حسن البنا وسيرته.

وبالنسبة للتهمة الأولى، فالحقيقة أنني أعرض الإخوان المسلمين في الصورة التي تخيفهم أنفسهم من أخطائهم، ليستفيدوا من هذه الأخطاء في تصويب خطواتهم وتصحيح مسارهم هذا إذا أرادوا الاستفادة من التاريخ، لقد دفع الأستاذ صلاح شادي ثمنا فادحا لهذه الأخطاء يتمثل في عشرين عاما من عمره قضاها في السجن

وقد دفع الكثيرون مثل هذا الثمن أو يزيد، من رفاقه، فإذا لم يشأ الإخوان الاستفادة من دروس الماضي فهذا شأنهم، ولست على كل حال بواعظ، وإنما أنا مجرد مؤرخ، لا يعنيني من هذا كله سوى الحقيقة التاريخية المجردة التي هي هدفي على الدوام.

أما بالنسبة للتهمة الثانية بالخوض في "عرض" الشيخ حسن البنا فإن قرائي في العالم العربي يعرفون أن هذا القلم أعف من الخوض في أعراض أحد، حتى اللئام، فما بال الشهداء، ولكن إذا كان هناك أحد يطلب القداسة أو العصمة للشيخ حسن البنا من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين الباقين على قيد الحياة، فكلمتي إليهم أن الصلة انقطعت بين السماء والأرض بموت خاتم الأنبياء.

ومنذ ذلك التاريخ فصاعدا لم يعد ثمة سبب موضوعي يحول دون خضوع أي أحد من السياسيين أو الحكام أو الزعماء للفحص التاريخي الدقيق، وإدانتهم أمام محكمة التاريخ إذا كانوا يستحقون الإدانة، مهما كان لونهم السياسي أو انتماؤهم الفكري، أما توجيه الاتهامات بلا أدلة، ففضلا عن مخالفة ذلك لأحكام ديننا، فإنه إرهاب فكري نرفضه وندينه، ولن يعيقنا بحال عن خدمة تاريخ أمتنا بقدر ما وهبنا الله من قوة وسدد خطانا لطريق الخير والحق.

المقال الثاني "كتابة التاريخ بين المناهج العلمية والأهواء الحزبية"

(الوطن في 26 نوفمبر 1980)

أشفقت على الشيخ الجليل صلاح شادي "لعنف" مقاله الثاني في الرد على الدراسة التاريخية التي أقدمها عن الإخوان المسلمين على صفحات جريدة "الهدف" الغراء وبعض الصحف العربية الأخرى، وحاولت في حدود إمكاناتي كبشر أن أخفف من طعم المرارة التي حملتها إلى قلبي عباراته الجارحة

حتى لا تؤثر هذه العبارات على الصورة التي رسمتها في خيالي للداعية الكبير وأنا أقوم بدراسة هذه الحركة الخطيرة التي أفرزتها التربة المصرية التاريخية الخصبة، وأتابع نضاله وتضحياته في سبيل ما يعتقد أنه حق وعدل؛

فقد درجنا نحن المؤرخين على أن نرى أبطال الحقب والأحداث التاريخية التي ندرسها في هالات أسطورية نحيطها بكل الإعجاب والتقدير مهما اختلفنا معهم في الرأي، وأن نتعايش معهم معايشة فكرية فريدة وطويلة الأمد قد تستغرق سنين.

لذلك حزنت أن سمح الداعية الكبير صلاح شادي لقلمه أن يكتب في مجادلتي عبارات مثل عبارة:

"أن خيبة الأمل التي تطالعك من هذا "الدكتور" لا تأتيك فقط من إلباسه الباطل ثوب الحق "كمؤرخ" ولكنها تأتيك أيضا من فهمه الملتاث لمعنى الوطنية ذاته، أو عبارة أخرى تقول: "ومرة أخرى يعود إلينا الوجه الماركسي القبيح للدكتور رمضان" ... إلى آخر هذه العبارات التي حفل بها مقال الأستاذ صلاح شادي، والتي استخدم فيها أبيات الشعر من أمثال: "إن كنت لا تدري فتلك مصيبة، أو كنت تدري فالمصيبة أعظم".

فكيف غاب عن الشيخ الجليل أن كثيرا من شباب الإخوان الجدد يتطلع إلى سابق جهاده ونضاله، ويرون فيه المثل الذي يحتذى في السلوك والتفكير، ويتتلمذون على يديه في أساليب الحوار والجدال والنضال، وإذا كان رب العالمين قد أمر نبينا ورسولنا قائلا في آية صريحة تحمل أمرا حاسما:"وجادلهم بالتي هي أحسن" .

فكيف يتحدث عن "فهمي الملتاث" و "وجهي الماركسي القبيح" في جدال علمي يدور حول دراسة علمية، ولا يدور حول إسلام وكفر؟ وأما كان أجدى أن يرتفع الحوار إلى المستوى العلمي الذي ينفع شبابنا الإسلامي فيتعلمون منه أسلوب الحوار الإسلامي الراقي الذي أمر به رب العالمين؟

على أني أسامح الشيخ العزيز بنفس صافية حقا، احتراما وتقديرا لسابق نضاله، وانطلق من هذا إلى مواصلة الحوار معه فيما تضمنه مقاله الثاني.

وربما كانت أولى الملاحظات التي أبدأ بها هي أن الأستاذ صلاح شادي قد تناقض مع نفسه في تحديد هويتي الحزبية وانتمائي الفكري، ففي العمود الثاني من مقاله اتهمني بأني "وفدي صارخ الحزبية، يمنعني جمودي الحزبي من التحرر لأبلغ مستوى الصدق والتجرد الضروريين لمن يناقش أحداث التاريخ" وأنني من "الجناح اليساري للوفد الذي قام لموازنة جناح فؤاد سراج الدين اليميني" وفي نفس الوقت يصفني بـ "الوجه الماركسي"

ولإزالة هذا التناقض أؤكد لسيادته أنني لم أنتم في يوم من الأيام لحزب الوفد، لا لجناحه اليساري ولا لجناحه اليميني، كما أني لم أنتم إلى أية جماعة ماركسية في السابق أو اللاحق، وعندما ألف فؤاد سراج الدين حزب الوفد الجديد لم أكن من مؤسسيه أو ممن انضموا إليه، ولست في هذا القول أتبرأ من شيء، فلربما كان لسان حالي عبارة سعد زغلول المشهورة: "تهمة لا أنكرها، وشرف لا أدعيه".

ولكن هذا لم يمنعني في مقالاتي السياسية من الدفاع عن حق "الوفد الجديد" في العمل السياسي بأشرس مما دافع عنه أعضاؤه وقادته، كما لم يمنعني من الدفاع عن "حزب التجمع" ضد الهجوم الضاري الذي انصب عليه من جريدة "مصر" وغيرها من الصحف القومية في مصر؛

كما دافعت عن "حزب العمل" عندما تعرض لأزمة الانشقاق في العام الماضي، بما شهدت به جريدته "الشعب" كما دافعت عن حق جماعة الإخوان المسلمين في العمل السياسي وأشدت بإيجابياتهم عندما لم يكن هناك صوت يجرؤ على الدفاع عنهم، وكل هذا ثابت في المنابر الصحفية التي تشرفت بالكتابة فيها، وهي: مجلتا روز اليوسف وصباح الخير، وجريدة الجمهورية اليومية في مقالي الأسبوعي.

ولم يكن لي أن أقتطع من وقت القارئ للكلام عن نفسي، ولكن حيرة الشيخ الفاضل صلاح شادي دفعتني إلى ذلك، فإذا كان يرى في هذا المنطلق الليبرالي التقدمي وجها وفديا أو ماركسيا، فهو بعيد عن الحقيقة.

أما عن "حقدي" على الإخوان، الذي يستشهد الأستاذ صلاح شادي، فإنه لا يقل بعدا عن الحقيقة من وجهي "الوفدي" أو "الماركسي" ولو كنت أحقد على الإخوان لسمحت بنشر هذه الدراسة في إحدى البلاد العربية التي تعاني فيها الإخوان عناء شديدا، عندما عرض علي أحد المندوبين الصحفيين هذا العرض في لندن؛

وكان ردي أن نزول هذه الدراسة في هذا البلد الشقيق، سيكون نزولا سياسيا ضد الإخوان، وسيكون عملا انتهازيا وغير كريم، لأن الإخوان يضربون ويصفون، فوق أن الغرض أن يستفيد الإخوان من التجربة التاريخية في معرفة أخطائهم ليكونوا أكثر قوة، لا أن تستفيد منها إحدى السلطات في القضاء المبرم عليهم، ومن حسن الحظ أن العرض كان أمام شهود على أعلى مستوى، وقد وافقوني على رأيي، وبذلك يتغلب المبدأ على كل الاعتبارات.

لا ضرورة إذن لأزمة الثقة بين الأستاذ صلاح شادي وبيني، ويبقى الخلاف الموضوعي حول أمرين:

الأمر الأول: المنهج العلمي التاريخي الذي استخدمته في دراسة حركة الإخوان.
والأمر الثاني: الوقائع التاريخية التي استشهد بها الأستاذ صلاح شادي.

وبالنسبة للأمر الأول، فالشيء الجدير بالملاحظة أن الأستاذ صلاح شادي لم يستطع حتى الآن إنكار حقيقة واحدة من الحقائق التاريخية التي توصت إليها باستخدام أدوات البحث التاريخي وإنما كان يلجأ دوما إلى التبرير، ولن أتعرض هنا لقضية "العنف" التي يحارب لإنكارها عدون جدوى، لأن تاريخه في التنظيم شاهد على ذلك، وقد ناقشت على كل حال هذه المسألة في مقالي الأول في الرد عليه وإنما أناقش ما ورد في مقاله الثاني.

فالأستاذ صلاح شادي لم ينكر مظاهرة الإخوان على باب قصر عابدين لسبب بسيط هو أنه لا يستطيع ذلك، لأن مصدري فيها مذكرات المرحوم الشيخ حسن البنا، وإنما يلجأ إلى التبرير، وهذه رؤيته هو وليست رؤيتي كمؤرخ، فهو يكتب أن الملك فاروق، الذي لم يكن قد بلغ في ذلك الحين سن الرشد، كان "موطن رجاء الأمة جمعاء" في مبدأ توليه العرش؛

وهذا هو نفس الكلام الذي كان يردده ويحاول أن يزرعه في عقل الشعب المصري حاشية الملك، وأنصار السراى من السياسيين الذين يفتقرون لثقة الشعب، وعصابة الأمراء والنبلاء القدامى وأقاربهم وأتباعهم، الذين وصفهم السكرتير الشرقي للسفارة البريطانية وصفا بليغا في رسالة له يوم 28 أكتوبر 1937 قائلا:

"هذه الأرستقراطية المزيفة تريد أن تسترضينا باحتقارها القبيح المعروف للأهالي المصريين، ولكنها تفتقر كلية إلى الأخلاق فهناك عرق انحلال موروث يسري في كل السلالة، والبعض منهم ينحدر بالتأكيد من سلالة الجواري من كلا الجنسين" ...إلخ.

أما الشعب الذي قاد نضاله مصطفى كامل ومحمد فريد وسعد زغلول فلم يكن على وجه التحقيق يعلق رجاءه على شاب نصف متعلم مثل فاروق ليقود نضاله ضد الاحتلال، أو يخلصه من الظلم الاجتماعي والهوان.

وأما عن "الطهر والعفة والتدين" التي ينسبها السيد صلاح شادي إلى فاروق، والتي "كانت تبدو سماتها على سلوكه" فلم تكن سوى قناع يتخفى وراءه ذلك الشاب الداعر، وحتى لو كان هذا المظهر صادقا، فلم يكن ليخفي على المرحوم الشيخ حسن البنا حينذاك الصراع على السلطة بين القصر والشعب، وهو صراع يمتد وراء إلى الثورة العرابية ويصل أماما إلى عهد فؤاد؛

فمبايعة القصر ثم تأييده هو تأييد ومبايعة للأوتوقراطية ضد الديمقراطية، وهذا هو الإطار التاريخي للصراع، وليس الإطار الذي يضعه الإخوان، ولو قرأ السيد صلاح شادي كتابنا الأخير "الصراع بين الوفد والعرش" لعرف بالوثائق التاريخية أن النحاس باشا كان يعمل لخلع الملك عن العرش في نوفمبرديسمبر 1937 قبل أن يستفحل خطره على الحياة الدستورية.

وقد حاول الأستاذ صلاح إنكار الحقيقة التاريخية التي ذكرناها عن مهادنة الإخوان للسلطة البريطانية أثناء الحرب العالمية الثانية، بأدلة تعتبر في حد ذاتها تأكيدا لما ذكرناه، فقد أورد ثلاثة حوادث فقط نسبها إلى أعضاء النظام الخاص، وشاءت أمانته ألا يطالبني بأن أنسب الحوادث الأخرى التي لم يضبط فاعلها إلى الإخوان المسلمين!

فهل يرى سيادته أن ثلاثة حوادث اعتداء على الجنود الإنجليز، في خلال سنوات الحرب التي تبلغ الخمس، تعتبر دليلا على نضال الإخوان ضد الإنجليز أثناء الحرب؟ وهل يستطيع أن يؤكد لنا أو يثبت أن هذه الحوادث كانت من تخطيط النظام الخاص، وأنها كانت تتم وفق خطة شاملة، وأنها لم تكن مبادرات فردية؟

ليسمح لنا الأستاذ صلاح شادي أن نثبت له العكس، من واقعة شهادة معاصر، هو أحمد حسين زعيم مصر الفتاة، فقد اتصل بالشيخ حسن البنا وعقد معه اجتماعا حضره مصطفى الوكيل وأحمد السكري، للاستفادة من إمكانيات الإخوان في تنفيذ خطة لتفجير ثورة شعبية ضد الإنجليز، فكان رد البنا "أننا لا نبحث عن مغامرة قد تخيب وتفشل"

وأنا لا أروي هذه القصة في معرض الإدانة لموقف الشيخ حسن البنا، فقد كان أحرص على الدعوة وعلى هدفه الاستراتيجي من أن يجهض في مغامرة كانت كل الدلائل تشير إلى فشلها، نظرا لإحكام الإنجليز قبضتهم على مصر في ذلك الحين.

ولماذا يغضب الأستاذ صلاح شادي من تحليل تاريخي يثبت أن التسليح من جانب البنا لأسباب تتعلق بإخراج الإنجليز، وإنما لأسباب تتعلق بإقامة الحكومة الإسلامية، مع أن جهود لإثبات العكس لم تتمخض إلا عن ثلاثة حوادث فردية يمكن أن تقوم بها خلية بسيطة، لا هيئة ضخمة كهيئة الإخوان المسلمين خرجت عند نهاية الحرب العالمية الثانية بـ 60 ألف جندي من جنود الجوال؟

بل اعترف أنني لم أستطع أن أفهم سبب الإصرار الغريب من جانب الأستاذ صلاح شادي على إنكار أن الإخوان كانوا يجمعون السلاح ويقيمون جيشهم العلني وجيشهم السري لإقامة الحكومة الإسلامية، إذن لماذا أقاموا هذا الجيش؟

هل لإخراج الإنجليز من مصر؟ ولكن التاريخ يثبت أن الإخوان المسلمين لم يستخدموا هذا الجيش في إخراج الإنجليز من مصر، ولم ينقضوا به على الاحتلال، وحتى في أثناء الحرب العالمية الثانية حين كان مركز الإنجليز مهددا، وقفوا موقفا سلبيا، حتى ليفاخر الأستاذ صلاح شادي بثلاث حوادث اعتداء فردية وقعت عام 1942؟

لقد كان كل حزب وكل هيئة سياسية في مصر يطالب ويعمل لإخراج الإنجليز من مصر، حتى القصر الملكي، ومع ذلك فلم ينشئ حزب لنفسه هذا الجيش العلني والسري لهذا الغرض، هل كان جيش الإخوان جيش تحرير كجيش التحرير الجزائري مثلا؟ وأين كان مثل هذا الغرض؟ ولماذا لم ينفذ؟

وإذا كان الإخوان لم ينشئوا جيشهم لإقامة الحكومة الإسلامية، وإذا كان التاريخ لم يثبت استخدامهم لهذا الجيش في تحرير مصر من الاحتلال البريطاني، فهل أقاموا هذا الجيش للزينة؟ أم لمجرد التأثير السياسي؟ أم لمجرد حماية أنفسهم من السلطة؟

لقد خاض الإخوان المسلمون حقا معركة فلسطين عام 19471948 ولكن أحدا لا يستطيع الادعاء بأن هذا الغرض كان وراء إنشائهم لجيشهم العلني والسري، وإلا لأخبرنا بذلك الأستاذ صلاح شادي، ولأخبرنا من قبل المرحوم الشيخ حسن البنا.

كذلك لم ينكر الأستاذ صلاح شادي ما قلناه من أن الإخوان المسلمين لم يشتركوا في مظاهرات "إلى الأمام يا روميل، ضد الإنجليز، ولكنه يبرر ذلك بأن الإخوان لم يكونوا ليشتركوا في مظاهرة "دفع مستعمر قديم بمستعمر جديد" وبنى على ذلك اتهامنا بأن فهمنا ملتاث لمعنى الوطنية، وأن معنى الكفاح عندي ينبع من محاولة استعداء مستعمر على مستعمر؟

وهذا أسلوب فريد في الجدال لم أشهده في حياتي العلمية ومع ذلك فإذا كان ما ذكره الأستاذ صلاح شادي في مقاله الأول صحيحا من قراءاته لكتبي وخصوصا تطور الحركة الوطنية، فلعله يعرف أنني أدنت هذه المظاهرة، ونسبتها إلى العناصر الموالية للألمان في القصر الملكي، ومجموعة علي ماهر باشا بالذات، وهذا الاتهام يتناقض مع اتهامه لي بأني وفدي وماركسي، إذ أن سيادته بذلك قد أضاف لي وصفا جديدا هو أني "فاشي" فكأني في رأي سيادته "ليبرالي" و "ماركسي" و "فاشي".

وهذه باقة أيديولوجية لا أعتقد أن أحدا في العالم يستطيع حملها، وإنما أردت أن أقول إن الإخوان لم يتورطوا في الحركات المعادية للإنجليز أثناء الحرب، حتى في تلك المظاهرات المشهورة، وكلامي في هذا الشأن واضح لا لبس فيه، ويمكن للقارئ الرجوع إليه، ولم يحدث أن قلنا إن عدم اشتراك الإخوان "كان خيانة وطنية" كما نسب الأستاذ صلاح شادي إلينا.

كذلك لم ينكر الأستاذ صلاح شادي ما ذكرناه من عداء الإخوان المسلمين للحكم الدستوري والحياة النيابية الديمقراطية، بكل ما يترتب عليها من عودة الوفد إلى الحكم عن طريق الانتخابات الحرة، بل أكد ذلك بصورة صارخة بما أبداه من تجاهل لإرادة الشعب التي كان يمكن أن تأتي بالوفد إلى الحكم، ونسي أن الشعب هو مصدر السلطات وليس الإخوان المسلمين.

وعند إبداء رأيه في هذا الصدد، وقع في أغلاط تاريخية فادحة، كنت أرجو ألا يورط نفسه فيها، وأن يتركها لمؤرخي الإخوان يعالجونها بالمنهج العلمي السليم، وتتصل بحادث 4 فبراير 1942 الذي يبدو أن سيادته قد استقى معلوماته عنه من مصادر القصر، وليس من كتب التاريخ الموثوق بها.

فقد زعم أن قوات الجيش الإنجليزي حشدت حول القصر في 4 فبراير "لتكون مرسوما إنجليزيا بتعيين النحاس باشا رئيسا للحكومة" وهذا خطأ تاريخي، لأن القوات احتشدت لخلع فاروق تنفيذا للإنذار البريطاني الذي رفضه السياسيون ومنهم النحاس باشا.

كما زعم أن الملك استدعى رؤساء الأحزاب والسياسيين القدامى لاستشارتهم في هذه الكارثة، وانتهى التفكير إلى قبول الإنذار البريطاني وتكليف النحاس باشا برئاسة الوزراء" وهذا خطأ تاريخي، لأن الملك وحده هو الذي قبل الإنذار البريطاني بعد أن رفضه الزعماء، فقد عرض على السفير لامبسون استدعاء النحاس باشا ليعهد إليه بتشكيل الوزارة، فقبل السفير هذا العرض بعد تردد.

وقد زعم سيادته أن النحاس باشا اشترط لقبول الأمر بتشكيل الوزارة "شرطا وحيدا" هو أن يأذن له الملك بتقبيل يده، وقد علق على ذلك قائلا: "شرط أذل صاحبه ولم يرفع رأس مصر" وهذا الكلام ليس خطأ تاريخيا فحسب

بل أقول عن يقين إنه افتراء شديد ومؤسف من السيد صلاح شادي، وأتحداه أن يورد اسم مرجع تاريخي واحد، أو حتى مجلة هابطة أوردت مثل هذا الافتراء، بل إن مصادر القصر ذاته لم تدع هذا الادعاء، وجميع وثائق حادث 4 فبراير المصرية والإنجليزية موجودة لا تحتوي شيئا من ذلك، فهل هذا هو منهج البحث التاريخي الذي يريدنا أن نتبعه في كتابة التاريخ؟ وإلا فنحن نتجنى في تصوير جماعة الإخوان المسلمين؟

والحقيقة التاريخية أن النحاس باشا رفض تكليف الملك له بتشكيل الوزارة، مستندا على قرار الزعماء السابق برفض تأليف الوزارة، ولكن الملك الخائف على عرشه ألح على النحاس باشا لينقذ عرشه، وهذا ما أثبته النحاس باشا في وثيقة رسمية هي الكتاب الذي رفعه إلى الملك في مساء اليوم التالي

حيث أثبت أن الملك أعرب له "المرة بعد المرة، والكرة بعد الكرة" عن "ثقته في وطنيته وإنكاره لذاته" وأن هذا يقضي بأن "يتقدم لإنقاذ الموقف ويتحمل مسئولية تطورات علم الله أنه لم يكن له يد فيها" وهذه الوثيقة منشورة وليست سرية يمكن للأستاذ صلاح شادي الرجوع إليها.

وقد كان قبول فاروق الإنذار البريطاني، رغم نصيحة الزعماء هو دفاع الوفد التاريخي ضد افتراءات الخصوم الذين كانوا يتهمونه بأنه تولى الحكم على أسنة رماح الإنجليز.

فقد كتب عزيز فهمي في إحدى المرات ساخرا، إن صاحب الجلالة المصرية كان في استطاعته، لو شاء، أن يرفض الإنذار البريطاني، وأن يعفى رفعة النحاس باشا من تشكيل الوزارة، ولو فعل ذلك لالتف المصريون حول عرشه.

فإذا جاء الأستاذ صلاح شادي اليوم ليسوق هذه الافتراءات تحت اسم التاريخ، فإنه لا يؤيد فقط كل كلمة سقناها عن اتجاهات الإخوان المسلمين السياسية المعادية للديمقراطية، ومعاداتهم لإرادة الشعب في أن يأتي إلى الحكم بمن يشاء ممن يثق فيه وإنما يتيح لنا أن نوجه إليه هذا السؤال: من الذي يتجنى يا سيد صلاح شادي: من يكتبون التاريخ وفق أحدث المناهج العلمية أم الذين يكتبون التاريخ وفق أهوائهم الحزبية القديمة والحديثة.

المقال الثالث بيني وبين صلاح شادي: من المتجني؟

(الوطن في 13 ديسمبر 1980)

هناك لغز يحيرني في مقالات الأستاذ صلاح شادي التي كتبها ردا على فصول الدراسة التي تنشرها لي جريدة "الهدف" الغراء عن التنظيم السري للإخوان المسلمين وحادث المنشية، وهو أنه ينسب إلى من الأقوال ما لم يرد في أي جزء من أجزاء الدراسة، سواء ما نشر بالفعل منها وما لم ينشر!

وقد حاولت أن أفسر هذا اللغز بأن الأستاذ صلاح شادي، وهو مناور كبير، يريد أن يشككني في نفسي وفيما كتبت! ولكن حسن ظني بذكائه جعلني أستبعد هذا الاحتمال، ولكنه فتح أمامي باب الاحتمال الآخر الباقي، وهو أن الأستاذ صلاح شادي يريد أن يشكك القراء.

والأستاذ صلاح شادي بذلك يجازف مجازفة كبيرة لسببين:

الأول، أن فصول دراستي موجودة بين يدي القراء، الذين لا شك أن الكثيرين منهم يحتفظون بأجزائها التي صدرت، كما جرت العادة في أمثال هذه الدراسات، ومعنى ذلك أنه يمكنهم الرجوع إليها لمعرفة ما إذا كان قد وردت بها هذه الأقوال التي نسبها إلي أم لا، فإذا وجدوا أن شيئا منها لم يرد، ساء موقف الأستاذ صلاح شادي، وانكشفت محاولاته.
أما السبب الثاني، فهو أنه لا ينبغي على أي كاتب أن يتحاور مع مؤرخ، مرن بطبيعة عمله العلمي على استخدام النصوص، بهذا الأسلوب، لأن هذا المؤرخ سوف يكشف من واقع النصوص هذه المحاولة للتشكيك، وهو ما أنوي أن أفعله في هذا المقال! وسأبدأ بمقاله الأخير القريب في الوطن عدد 24 نوفمبر، الذي كتبه ردا على مقالي الأول في الوطن 17 نوفمبر.

ففي العمود الأول من مقاله، ينسب إلي أنني قلت هذا الكلام:

"إن الدراسة التاريخية أثبتت أن الإخوان المسلمين لم يقفوا إلى جانب الديمقراطية، وأن عليهم أن يستفيدوا من أخطائهم في إشاعة الديمقراطية في صفوفهم، ومساندة الديمقراطية في كل مكان، بدلا من أن يشرعوا أقلامهم ويشهروا أسلحة الهجوم والاتهامات".

وقد علق على عبارة: "إن الدراسة التاريخية" بقوله ساخرا:

"هكذا وبهذه الصورة المعماة".

فهل قلت هذا الكلام المعمى؟ إن القارئ إذا رجع إلى مقالنا المذكور (العمود الأول، الفقرة الخامسة) سيجد أن نص عبارتنا كان على النحو الآتي:

"إذا قالت هذه الدراسة التاريخية ... إلخ، فأين "الصورة المعماة" التي يصفها الأستاذ صلاح شادي بعد أن حور عبارتنا على النحو الذي ذكره؟

ولماذا حذف اسم الإشارة "هذه" الذي يحدد الدراسة التاريخية المقصودة، ليطلق المعنى، ثم يهاجمنا لهذا الإطلاق؟ ولماذا حذف "إذا" الشرطية وأورد العبارة في صورة التقرير والإثبات؟ إن الأستاذ صلاح شادي لا يستهدف بطبيعة الحال تشكيكي فيما كتبت، لأنه يعرف جيدا أنني أدرك ما كتبت، ولكنه يستهدف تشكيك القراء عن طريق تحوير وتحريف عباراتي، واتهامي بما لم أقله.

كذلك نسب إلي الأستاذ صلاح شادي في نفس المقال (العمود الرابع–الفقرة الثالثة) أنني قلت في مقالي المذكور أنني "توخيت" عرض صورة الإخوان المسلمين بالطريقة التي تخيفهم من أنفسهم ومن أخطائهم ليستفيدوا منها في تصويب خطواتهم ... وقد بنى على هذه الكلمة التي أقحمها على النص، وهي "توخيت" حكما أصدره بأن الدراسة على هذا النحو تكون قد فقدت موضوعيتها؛

وكان نص عبارته في نفس العمود في الفقرة الأخيرة:

"وإني لأشكر الدكتور المؤرخ على حسن قصده فيما توخاه من إخافة الإخوان المسلمين من أنفسهم، ولكني لا أنسى في غمرة هذا الشعور "بالجميل" أن أذكره أن رسالة المؤرخ تفقد موضوعيتها إذا توخى شيئا آخر غير استنباط الحقائق من وراء الأحداث".

فهل قلت في مقالي إنني "توخيت" هذا الغرض عند إعداد دراستي؟ للقارئ أن يرجع إلى هذا المقال بنفسه، وسيجد أنني لم أستخدم على الإطلاق هذه الكلمة، التي أكدها ثلاث مرات في مقاله ونسبها إلي، والتي يدلل بها على أن الدراسة على هذا النحو قد فقدت موضوعيتها؛

وهو محق في ذلك لو قلتها، لأنها تشير إلى وجود غرض للدراسة غير غرض الوصول إلى الحقيقة التاريخية، وإنما قلت، ردا على اتهامه لي بأني أعرض الإخوان المسلمين بالصورة التي تخيف الحكم والمحكومين ويقصد بذلك بطبيعة الحال العرض الذي أقدمه في الفصول المنشورة بأن هذا الغرض من شأنه أن يخيف الإخوان من أخطائهم،

وكانت عبارتي بالنص (في العمود الأول من الصفحة التاسعة) كالآتي:

"وبالنسبة للتهمة الأولى "أنني أسعى من وراء هذه الدراسة إلى تصوير الإخوان المسلمين بالصورة التي تخيف الحكام والمحكومين)، فالحقيقة أنني أعرض الإخوان المسلمين في الصورة التي تخيفهم أنفسهم من أخطائهم، ليستفيدوا من هذه الأخطاء في تصويب خطواتهم".

فالكلام عن عرض قائم وليس عن توخيات لهذا العرض، ولكن الأستاذ صلاح شادي اختلق علينا كلمة "توخى" لينقل المعنى إلى ما يريد من تشكيك القراء في الدراسة والمنهج العلمي الذي جرت في ضوئه، ونسي أنه يتناقض بذلك مع نفسه في هذا الاتهام؛

فقد سبق أن اتهمنا "بالتشكيك في المقاصد والنوايا التي حملها الشهيد حسن البنا لأمة الإسلام جمعاء" ولكنه يعود فيتهمنا بأننا كتبنا متوخين استفادة الإخوان من أخطائهم، والغرض الثاني يتناقض مع الأول، فالثاني غرض ودي، والغرض الأول غرض عدائي، ولكن الأستاذ صلاح شادي لا يبالي بذلك، ما دام حقق غرضه الأسمى، وهو تشكيك القراء.

وفي المقال الثالث للأستاذ صلاح شادي، الذي نشر في '"الوطن"' يوم 19 نوفمبر 1980 نسب إلينا أننا قلنا في دراستنا أن أفراد التنظيم السري "كانوا من الطبقات الدنيا من الشعب؟ وبنى على ذلك هجوما طويلا على طول عمودين اختتمه بقوله:

"ماذا يضير أفراد النظام أن يكون منهم السمكري والنجار والفلاح والموظف الصغير، وهم جميعا قطاع من قطاعات الأمة التي تمثل عند النظرة الماركسية "الطبقة الكادحة"، التي قامت الثورة الشيوعية لإنصافها، ومع ذلك فقد شمل النظام الخاص جميع طبقات الإخوان، أو على الأصح جميع طبقات الأمة، بما فيهم المهندس والقاضي والمحامي ووكيل النيابة والضابط ... بالإضافة إلى العامل والسمكري والفلاح، والفقير وصاحب الثراء".

فهل قلنا في دراستنا إن أفراد التنظيم السري كانوا من الطبقات الدنيا من الشعب؟" إن القارئ يستطيع أن يرجع إلى دراستنا (المقال الثالث–الهدف 13 نوفمبر) فسيجد أننا لم نقل هذا الكلام وإنما قلنا بالنص الحرفي:

"وقد اعتمد البنا في تكوين الجهاز السري على عناصر عمالية وبورجوازية صغيرة تتكون من موظفين وحرفيين وطلبة"، ولو عرف الأستاذ صلاح شادي تركيب الطبقة البورجوازية الصغيرة، لعرف أنها تتكون ممن ذكرهم تماما
فهي تضم الفئات التي تقع في موقع متوسط بين الطبقة العمالية والفلاحية في أسفل السلم الاجتماعي الطبقي، وبين الطبقة البورجوازية الكبيرة في أعلى هذا السلم الاجتماعي، ويدخل فيها ضباط الجيش والبوليس؛وقد أورد بنفسه أننا أضفنا أن "تنظيمات" الإخوان تغلغلت في الجيش والبوليس"

فلماذا إذن ينسب إلينا ما لم نقله، وهو أن أفراد هذه التنظيمات "كانوا من الطبقات الدنيا من الشعب" فقط، ويبني على ذلك هجومه الكبير؟ وألا يتناقض مع نفسه في اتهامه بالماركسية إذا نسب إلينا الازدراء بهذه الطبقات الدنيا؟

أما ادعاء الأستاذ صلاح شادي أن الشيخ حسن البنا قد جند النظام الخاص أصحاب الثراء، فهو قول يثير الابتسام، فأي إقطاعي أو رأسمالي كان على استعداد للاندراج في سلك التنظيم السري الذي ألفه الشيخ حسن البنا، حتى ولو كان بغرض إخراج الإنجليز أو القتال من أجل فلسطين؛

يبدو أن الأستاذ صلاح شادي قد نسي التركيب الاجتماعي الطبقي في مصر في ذلك الحين، وحدود ثورية كل طبقة من هذه الطبقات ، ومع ذلك فليقل لنا أسماء هؤلاء الإقطاعيين والرأسماليين من أعضاء التنظيم السري! ويبقى بعد ذلك أنه قد نسب إلينا ما لم نقله في دراستنا عن "الطبقات الدنيا" لتشكيك القراء.

ومن الغريب أن الأستاذ صلاح شادي لم يفطن إلى الإدانة التي حملتها عباراتنا لملاحظة الأستاذ مصطفى الهلباوي، وملاحظة جمال سالم اللذين سخرا فيهما من التركيب الاجتماعي للتنظيم السري، مع أنه أورد نص إدانتنا لجمال سالم وقولنا إنه

"لا يوجد في تاريخ القضاء العسكري في مصر رئيس محكمة هبط بمستوى المحاكمات إلى مثل هذا الدرك الأسفل ... إلخ" ترى لو أن المرحوم جمال سالم كان ما يزال على قيد الحياة، هل كان يتهمنا أيضا بأننا تجنينا عليه كما اتهمنا الأستاذ صلاح شادي بالتجني على الإخوان؟

وقد نسب إلينا الأستاذ صلاح شادي أننا أدنا الإخوان في حادث مقتل أحمد ماهر باشا، وأننا "كذبنا" محمود العيسوي و "قدحنا في شهادته بل وفي كل القرائن التي تشير إلى لون انتمائه إلى الحزب الوطني

بل لقد استخدم علامات التنصيص لتقديم عبارات زعم أننا أوردناها في دراستنا، ففي العمود الخامس من مقاله المذكور بجريدة الوطن يوم 19 نوفمبر 1980 أورد نصا نسبه إلينا يقول: "وهذا هو الدليل على انتماء محمود العيسوي الحقيقي لجماعة الإخوان المسلمين"، ويقصد به وصف عبد الرحمن الرافعي للعيسوي بأنه "شاب رقيق الحال غير ناجح في المحاماة ولا ملتفت لعمله"، ثم بنى على ذلك اتهامنا بلوي الحقائق ... إلخ ..."

ولا أملك إلا أن أحيل القارئ إلى الدراسة المنشورة، ولن يجد فيها إطلاقا مثل هذا النص المدسوس، وأكثر من ذلك سيجد أننا لم ننته إلى رأي محدد في تحديد انتساب محمود العيسوي إلى جماعة الإخوان.

فقد قلنا بالنص الحرفي: "ويعتبر دور الإخوان في هذا الحادث مما يثير مناقشات كثيرة"، وأن "بعض الآراء تؤكد أن محمود العيسوي كان من الإخوان المسلمين ومن غلاتهم" ثم أوردنا هذه الآراء، وأبدينا ملاحظاتنا التي لم نختمها بتأكيد انتماء العيسوي للإخوان، أو ارتكاب التنظيم السري هذه الجريمة؛

وأكثر من ذلك أننا قلنا بعد إبداء هذه الملاحظات (العمود الثاني من ص 17 من الوطن يوم 13 نوفمبر) هذه العبارة:

"وإذا صح أن اغتيال أحمد ماهر باشا كان من تدبير الإخوان المسلمين فإن هذه تكون المرة الأولى التي يستخدمون فيها العنف"، وهذه العبارة واضحة صريحة لمن يفهم اللغة العربية، وتشير إلى أننا عجزنا في ضوء الدلائل التي تحت أيدينا عن اتخاذ رأي محدد في هذه القضية، ولذلك أوردنا "إذا" الشرطية في صدر العبارة ...
ولكن الأستاذ صلاح شادي، بدلا من أن يفند الآراء التي اتهمت الإخوان بتدبير الحادث، ويساعدنا بذلك على جلاء الحقيقة التاريخية، يتجاهل ذلك كله، ويختلق علينا آراء وأحكاما ونصوصا لم نقلها على الإطلاق، وكل ذلك لإثارة الشك في المنهج العلمي الذي تمت به الدراسة، لأن هذا المنهج يدين العنف الفردي، ويدين التنظيمات السرية، ولا يؤمن إلا بالديمقراطية والوسائل الجماهيرية للنضال.

كذلك نسب إلينا الأستاذ صلاح شادي أننا اتهمنا الشيخ حسن البنا بإقرار قتل النقراشي، وكانت عبارته كالآتي:

"وإذا استعرضنا رأي الدكتور رمضان في دعواه أن المرشد والجهاز الخاص قد أقرا قتل النقراشي لوجدنا أن ذلك يخالف آراء المنصفين"؟

والسؤال الذي أوجهه إليه: هل قرأ لنا حقا في الدراسة المنشورة في "الهدف" أننا اتهمنا الشيخ حسن البنا بإقرار قتل النقراشي؟ وأين؟ لقد اتهمنا حقا التنظيم السري بقتل النقراشي باشا، ولكن لماذا يدس اسم الشيخ حسن البنا إلى جانب اسم التنظيم السري، وهو يعلم تماما أننا لم نورد هذا الاتهام؟

وحتى نساعده على البحث فإن ما أوردناه في هذه النقطة مثبت في العمود الثاني من الصفحة 16 من عدد "الهدف" 13 نوفمبر وله أن يبحث في كل أنحاء الدراسة إذا شاء، ولكن الأستاذ صلاح شادي كما قلت يستهدف تشكيك القارئ في الدراسة، باختلاقات ينسبها إلينا ثم يقوم بتفنيدها، حتى تبدو الدراسة حافلة بالأخطاء.

وكذلك ادعى الأستاذ صلاح شادي أننا وصفنا حركة الإخوان بأنها أحد روافد المد الفاشي في الثلاثينيات، لأنها تقاوم الشيوعية في مصر، قائلا: "إن مقاومة الإخوان للشيوعية في مصر لا تستحق أن توصف عنده إلا بأنها "مقاومة فاشية".

والأستاذ صلاح شادي بهذا الادعاء يريد أن يخفي الوجه الفاشي للحركة، فالفاشية تطلق على الحركات التي تستخدم القمصان الملونة للاعتداء بالقوة على الرأي المعارض ومنعه من التعبير عن نفسه، وكان للإخوان قصمان صفراء

وكان عندهم سلاح، وكانوا يستخدمون القوة للاعتداء على الرأي المعارض، سواء أكان شيوعيا أم غير شيوعي، ومن قلت إن الحركة أحد روافد المد الفاشي، لأنها لا تسمتد أصولها الفكرية من منابع فاشية، وإنما من منابع إسلامية، ولكنها استخدمت الوسائل الفاشية التي كانت سائدة في الثلاثينيات؛

ومن ثم فالوصف الفاشي مرتبط بطبيعة الممارسة السياسية في الثلاثينيات، ومن ثم فالوصف الفاشي مرتبط بطبيعة الممارسة السياسية للحركة، وليس مرتبطا بمقاومة الشيوعية وحدها، فالحكومة الأمريكية تقاوم الشيوعية بأكثر مما يقاومها الإخوان المسلمون

لأنها تهدد النظام الاجتماعي الذي يقوم عليه الحكم، ولكنها لا توصف بأنها حكومة فاشية، لأنها تستخدم الأساليب الشرعية الدستورية، ولا تستخدم الأساليب الذي كان يتبعها هتلر وموسوليني، أو جماعة مصر الفتاة في مصر، أو جماعة الإخوان المسلمين، أي إرسال القمصان للاعتداء على الخصوم السياسيين.

ومن الطريف أن الأستاذ صلاح شادي استدل بالكتاب الذي أرسله الشيخ حسن البنا إلى مصطفى النحاس باشا، يقول فيه:

"إن الوفد في أيامه الأخيرة قد تخللت صفوفه طوائف وأفواج من ذوي الآراء الخطيرة والمبادئ الهدامة، الذين لا يدينون بغير الشيوعية مذهبا، ولا يؤمنون بغير موسكو قيادة ولا توجيها .. ونظرة دقيقة واحدة من رفعتك إلى حضرات المحررين في "صوت الأمة" وفي رابطة الشباب أو "الطليعة الوفدية" وفي هيئة تحرير "الحوادث" و "الجماهير" .. يكشف لك عن أن هؤلاء جميعا ليس فيهم من الوفدية إلا اسمه .. إلخ"

وإني أسأل الأستاذ صلاح شادي أن يجيبني بصراحة وبلا تحرج:

أليس هذا الرأي الذي كتبه البنا، هو بنفسه الرأي الذي اتخذه إسماعيل صدقي باشا، جلاد الشعب، ذريعة للقيام بحملته الهتلرية على صحف المعارضة ليقفلها، والقوى الوطنية ليدخلها في السجون، في يوليو 1946، بحجة أنهم شيوعيون، وهل يستطيع أن يجيبني عن هذا السؤال: من منهما أثر على الآخر؛

وكانوا حلفاء: هل أثر الشيخ حسن البنا على إسماعيل صدقي باشا بهذا الرأي، أم أثر إسماعيل صدقي باشا على الشيخ؟ وإذا كانت وطنية الإخوان المتقدة قد دفعتهم إلى تكوين جيش وتنظيم سري لمحاربة الإنجليز كما يقول صلاح شادي، وليس للاستيلاء على الحكم، فلماذا تخلوا عن القوى الوطنية التي كانت تكافح الإنجليز.

وتحالفوا مع إسماعيل صدقي باشا الذي كان يفاوض الإنجليز، وكان يسعى لعقد الصفقة معهم؟ ولماذا تخلوا عن هذه القوى الوطنية في عهد الوزارة السابقة، وزارة النقراشي باشا، وقرروا في مؤتمر 6 أكتوبر تحت قيادة البنا، إعطاء الحكومة النقراشية الفرصة لمعالجة القضية الوطنية وتأييدها تأييدا تاما؟

وألا يتناقض إيمان الإخوان بالمفاوضات كوسيلة لحل القضية الوطنية إلى هذا الحد، مع دعوى الأستاذ صلاح شادي أنهم كانوا يبنون الجيش العلني والجيش السري لقتال الإنجليز؟ أم أن الإخوان تحالفوا مع إسماعيل صدقي باشا لأنه غير شرعي، بينما كانت كل القوى الوطنية والتقدمية مكونة من الشيوعيين حسب كلام الشيخ حسن البنا في خطابه السالف الذكر إلى النحاس باشا؟

ومن المذهل حقا أن صلاح شادي يقول إنه دفع من عمره عشرين عاما في السجن بسب خطئي وخطأ كل فرد في الشعب المصري عجز عن أن يقول كلمة "لا" لعبد الناصر، وأنا أقول له: إنك تقلب القضية رأسا على عقب بهذا الطرح؛

فلقد دخلتم السجون لأنكم قلتم "نعم" لعبد الناصر، بينما كنا نقول "لا" وكانت كل القوى الوطنية التقدمية تقول "لا للديكتاتورية" أثناء أزمة مارس 1954 وقد دخلت هذه القوى الوطنية والتقدمية السجون، وخرجتم أنتم من السجن الحربي تعلنون معارضتكم لعودة الأحزاب، بحجة أن عمل هذه الأحزاب حسب تعبير الهضيبي "لم يكن لوجه الله، ولكن كان عملا لوجه الشيطان".

فإذا انقلبتم على عبد الناصر بعد ذلك، وقلتم "لا" لأسباب سوف تكشفها هذه الدراسة، فلم يكن ف وسع القوى الوطنية والتقدمية أن تشارككم في هذه الكلمة بصوت مسموع، لأنها كانت مغيبة في السجون، ولكن حين ظهر الوجه التقدمي لعبد الناصر، وأخذ يعبر عن آمال أمتنا العربية من الخليج إلى المحيط، ويوجه الضربات إلى المستعمر في مقتل "نعم" ولكنكم أصررتم على قول "لا" فكم أسأتم اختيار المواقف التي تقولون فيها "نعم" أو "لا" أيها الأصدقاء.

المقال الرابع بيني وبين صلاح شادي:من المتجني؟

(الوطن في 22 ديسمبر 1980)

استمتعت بقراءة مقال الأستاذ صلاح شادي في "الوطن" الغراء يوم 3 ديسمبر، وتأثرت لعباراته البليغة وشجاعته وتواضعه، وتذكرت أنني بكيت مرتين لمحاكمته، الأولى وقعت وقوع هذه المحاكمة في أواخر ديسمبر 1954 حين قرأت نبأ الحكم بإعدامه، والثانية عندما قرأت هذا النبأ مرة أخرى عند إعداد هذه الدراسة.

وبالنسبة للمرة الأولى، فقد كنت في ذلك الحين أقف في صفوف القوى الوطنية التقدمية التي كانت تعارض معاهدة الجلاء التي أبرمها الرئيس الراحل عبد الناصر، وكانت تعارض الاتجاه الدكتاتوري للثورة، الذي يخالف ما قامت لأجله، وهو الدستور؛

ومع إدانتنا للعنف الفردي وعدم إيماننا بجدواه، إلا أننا كنا نرقب بجزع ما يحدث للإخوان بعد وقوع الحادث، من حملات مجنونة، واضطهاد فظيع، ومحاكمات صورية، وأحكام قاسية ونأسى لمصابهم الذي كان مصاب كل بيت في مصر تقريبا.

أما بالنسبة للمرة الثانية، فقد اعتدت أن أبكي أثناء إعداد رسالتي التاريخية كلما عشت في فترة من فترات النكبات الكثيرة التي مرت بشعبنا في مصر، سواء على يد المستعمرين أو الحكام، وأن أتصور نفسي في جموع الشعب المصري التي تتساقط عليها قنابل الأسطول البريطاني أثناء الثورة العرابية وهي تجأر إلى الله صارخة يا عزيز يا عزيز كبة تهلك الإنجليز

أو جموع الشباب المصري في ثورة 1919 وهم يتصدون لرصاص الإنجليز ويسقطون وهم يهتفون، الاستقلال التام أو الموت الزؤام، أو في شباب الإخوان المسلمين بعد حادث المنشية، وهم يلتمسون النجاة من حملات التفتيش والقبض والتنكيل التي يباشرها البوليس المصري.

ولربما يرجع السبب في ذلك إلى إيماني بأن المؤرخ كالفنان، لكي ينقل الإحساس بنبض التاريخ إلى القارئ، لا بد أن يمر هو نفسه بهذا الإحساس، ومن هنا فقد عشت مأساة محاكمة الإخوان في أواخر عام 1954 وأوائل عام 1955 مرتين: الأولى وقت وقوعها، والثانية عند إعداد هذه الدراسة، وبكيت لما أصابهم من ظلم واضطهاد.

ولربما يرجع جزء كبير من أسباب سوء الفهم لما أكتب من جانب كثير من الإخوان، وتهمة التجني التي يرميني بها الأستاذ صلاح شادي، إلى سبب كثيرا ما حذرت طلبتي منه عند إعداد الدراسات التاريخية، وهو إساءة اختيار العنوان؛

فقد كنت أنصح دائما بأن يوافق العنوان المضمون، فلا يخرج عنه ولا يحيد، وهذه الدراسة التي أقدمها على صفحات جريدة "الهدف" الغراء وبعض الصحف العربية الأخرى، ليست دراسة عن حركة الإخوان المسلمين، وإنما هي دراسة عن التنظيم السري للإخوان المسلمين وحادث المنشية، والفرق بين التناولين كبير.

فدراسة عن حركة الإخوان المسلمين تقتضي التعرض لإنجازاتهم في كافة الميادين الاجتماعية والاقتصادية، وهي إنجازات كبيرة، كما تقتضي التعرض لإنجازاتهم في الإصلاح الديني، وهي إنجازات كبيرة أيضا، كما تقتضي التعرض أيضا لإنجازاتهم بالنسبة للقضية الفلسطينية، وهي أيضا إنجازات كبيرة وبعبارة وجيزة تتعرض لحركة الإخوان المسلمين من جميع زواياها المختلفة وعلاقاتها بالقوى المختلفة.

أما هذه الدراسة فهي تدرس زاوية واحدة هي: العنف، ومن سوء حظ الإخوان أن العنف هو سبيلتهم الكبرى، وهو سبب كل ما حاق بهم، وحاق بمصر من آلام، لذلك سوف يرى القارئ أن كل ما تعرضت له الدراسة من أحداث يتصل بهذه الزاوية؛

سواء ما يتعلق بفكر الجماعة أو علاقاتها بالقوى السياسية المختلفة، أو خلافاتها وانقساماتها أو صلتها بعبد الناصر وثورة 23 يوليو، فضلا عن متابعة نشأة وتطور جيش الجماعة العلني وجيشها السري، ويبلغ كل ذلك ذروته في تصاعد تاريخي محمود بحادث المنشية، الذي يمثل النهاية المأساوية لمرحلة من مراحل العنف.

وكل هذه الأغراض، أو هذا المضمون، كان من الممكن أن يشير إليه عنوان الدراسة وهو "التنظيم السري للإخوان وحادث المنشية".

ولكن الدراسة صدرت تحت عناوين مختلفة، لأسباب تتصل بالشكل لا بالمضمون، وهذا لعله في ظني أهم أسباب سوء الفهم من جانب الإخوان المسلمين للدراسة، حتى بلغ الأمر حد مهاجمتي في مساجد بعض البلاد العربية في خطبة الجمعة، اعتقادا بأني أعرض حركة الإخوان المسلمين بطريقة غير منصفة، وهم محقون في ذلك لو كنت أعرض "حركة الإخوان المسلمين" ولا أعرض "التنظيم السري للإخوان المسلمين".

وفي اعتقادي الشخصي أنني خدمت حركة الإخوان المسلمين بالنتائج التي أسفرت عنها هذه الدراسة، والتي عرضت في الفصول السابقة والفصول القادمة بأكثر مما يمكن أن تخدم هذه الحركة دراسة شاملة عن الإخوان المسلمين.

ذلك أن رؤيتي لحركة الإخوان المسلمين هي أنها حركة متجددة ما بقي شباب وإسلام، وأن هذه الحركة التي أرسى أسسها المرحوم الشيخ حسن البنا، سوف تستمر إلى نهاية التاريخ في بلادنا العربية، ولن يوقفها سقوط الضحايا على جانبي الطريق بل ربما يغذي مسيرتها ويدفع بها إلى الأمام.

ولكن قد يخفف كثيرا من سقوط الضحايا ويحقن كثيرا من الدماء دراسة الأخطاء وتداركها في المراحل التالية، وهذا ما توفره الدراسات التاريخية وما تكشفه من سلبيات.

وللأمانة، فإن كثيرا من زعامات الإخوان في الحركة التي خضعت للبحث، حاولوا التوقف قليلا وإلقاء نظرة إلى الوراء التماسا لدروس التجربة، وقد حدثت بسبب ذلك خلافات وانقسامات، وعلى الإخوان الذين بقوا على قيد الحياة الآن أن يجيبوا على هذا السؤال: هل كانوا على حق، أم كان الذين اختلفوا معهم على حق؟ وفي ذلك عليهم أن يتجردوا من ذواتهم، وأن ينظروا إلى المستقبل حركة الإخوان المسلمين حتى نهاية التاريخ.

نعم فإن كثيرا مما اتهمنا الأستاذ صلاح شادي بالتجني فيه قد ردده كثير من قادة الإخوان في ذلك الحين، ولو رجع القارئ العزيز إلى الحلقة السادسة من دراستنا في "الهدف" فسيرى طرد مصطفي مؤمن من الإخوان، لأنه كان يطالب بالمصالحة مع حزب الأغلبية في مصر، وهو الوفد

ومعنى ذلك تأييد الديمقراطية إذ كانت الجماعة تفضل التعاون مع القصر، أي مع الحكم الأوتوقراطي، وقد تمثل هذا قتذاك في زيارات الهضيبي للقصر.

وسيرى القارئ على لسان محمد خميس حميدة قوله إنه كان هناك فريق من الإخوان يرى أنه لا داعي لوجود النظام السري ولا التشكيلات، "لأن مالهاش أصل في دعوة الإخوان المسلمين، ويكتفي بأن يأخذ الإخوان أنفسهم بالتربية المتكاملة، ولما تيجي أي حاجة أو حركة عامة، يندب لها من الجماعة، واللي يتطوع ... إلخ"

بل يرى القارئ تنديد الهضيبي بالنظام السري تنديدا قويا إلى حد أنه يخاطب قادة الإخوان بعد توليه قيادتهم في أكتوبر 1951 قائلا:

"إيه الغرض من هذا النظام؟ وإيه مرماه؟ وإيه تعملوا بيه؟ خصوصا بعد ما ثبت أنه ارتكب جرائم قبل ذلك في سنوات 1946، 1947، 1948، وكل هذه الجرائم التي ارتكبت طبعا انحراف وخروج عن الغرض الأصلي من هذا النظام، وهو إعداد الفرد المسلم إعدادا صالحا للدفاع عن الوطن الإسلامي".

وحتى بالنسبة للغرض الذي يصر الأستاذ صلاح شادي على أنه وراء إنشاء التنظيم السري، وهو طرد الإنجليز، فإن الهضيبي يجيب عليه إجابة بليغة أثناء اشتداد معركة القنال، بإجابته على مندوب مجلة "الجمهور المصري" يوم 15 أكتوبر متسائلا: "هل تظن أن أعمال العنف تخرج الإنجليز من البلاد؟" ومعنى هذا الكلام بوضوح أن المرشد الجديد للإخوان، لا يؤمن بجدوى العنف في إخراج الإنجليز من البلاد، سواء كان العنف فرديا أو جماهيريا.

وهذا الكلام لا نقوله تجنيا من الخيال، وإنما ننقله عن أقوال علنية ومنشورة، توضح إلى أي حد اختلف الإخوان وانقسموا حول العنف والتنظيم السري والعلاقات مع القصر، كما أننا لا نقوله أو نكتبه بغرض الإساءة للإخوان أو التشهير بحركتهم، فلا يوجد لدينا دافع واحد يدفعنا إلى ذلك، فوق أننا لا نكتب مقالا سياسيا

وإنما نقدم دراسة تاريخية يلزمنا منهج البحث التاريخي باتباع كل الأدوات العلمية اللازمة الكفيلة بتقديم الحقيقة التاريخية لشعبنا العربي ولأجيالنا القادمة بكل دقة وأمانة، في حدود إمكاناتنا البشرية والمادة الوثائقية المتاحة.

وهذا يقودني إلى مناقشة لوم وجهه لي الأستاذ صلاح شادي، فقد استدل بما كتبه زميل هو الدكتور زكريا سليمان بيومي في رسالته للدكتوراه وموضوعها: "الإخوان المسلمون والجماعات الإسلامية" ولامني لأني لم أقتنع بهذا الرأي العلمي؛

وكان الزميل قد كتب يقول: إذا أخذ البعض على أعضاء الجهاز قتل كل من القاضي الخازندار ومحمود فهمي النقراشي، ولم يثبت قانونا قتل أعضاء الإخوان لغيرهما، فإن القتل كان في الحادثين حالة فردية لا ينبغي معها إلصاق تهمة امتهان القتل بالجهاز أو الجماعة" مع أن الهضيبي كان رأيه مختلفا تماما كما رأينا.

وفضلا عن أن الزميل قد تحفظ بالقول بأنه لم يثبت "قانونا" قتل أعضاء الإخوان لغير القاضي الخازندار والنقراشي، فإن لوم الأستاذ صلاح شادي معناه أنه لا يجب علينا مناقشة رسائل الماجستير والدكتوراه، على اعتبار أن ما تحمله هو آراء علمية واجبة التصديق.

على أننا نناقش في الجامعات رسائل الماجستير والدكتوراه، كجزء من عملنا العلمي، ونقدم عنها الملحوظات، وننبه الطالب إلى ما بها من أخطاء، ونختلف معهم في الآراء، ولكنا لا نستطيع أن نلزمهم بآرائنا، توفيرا لحرية البحث العلمي

بل إننا حتى لا نستطيع أن نلزمهم بتصويب ما بها من أخطاء قبل الطبع وإن كان هذا يحدث أحيانا اعتمادا على حسن نية الطالب، ولأنه هو المسئول الأول عن عمله العلمي وعن سمعته العلمية، ولأن من مصلحته أن يستفيد من تجاربنا العلمية، ولكن البعض يتسرع إذا أتيحت له فرصة قريبة للنشر ...

ولقد ظللت أناقش في جامعة عين شمس إحدى رسائل الدكتوراه عن الجيش المصري قبل سفري إلى لندن حتى الساعة الحادية عشرة والنصف مساء، وأنا أعرف أنه في إمكان الطالب أن يطبع رسالته في اليوم التالي إذا توفرت له الإمكانيات، دون أن يستفيد من أي من هذه الملاحظات أو يعيرها أي اهتمام، وقد أفاجأ بعد بضع سنوات بمن يلومني لأني لم آخذ بأحد الآراء العلمية التي وردت بها، والتي ربما كانت لي ملاحظة عليها.

وهذا الكلام لا يجب أن يؤخذ على أنه تعريض برسالة الدكتوراه السالفة الذكر عن الإخوان المسلمين، والتي ناقشها زملاء وأساتذة أعزاء فما أسهل من نقدها في مجال آخر، وإنما الذي أريد أن أقوله إنه لا يوجد رأي علمي يعلو فوق النقد؛

وها هو الداعية الكبير الأستاذ صلاح شادي ينقد آرائي العلمية بشدة، بل ويتابع كل حلقة من حلقات الدراسة بمقال، ثم يتابع مقالي في الرد عليه بمقال آخر، ولم أر في هذا ما يستحق عليه اللوم، بل الشكر، فكل منا ينقب عن الحقيقة التاريخية بأدواته الخاصة

ولو صوب لي سيادته خطأ تاريخيا، فسيجدني أول من يعترف بفضله، فالحقيقة التاريخية ملك لشعبنا العربي ولوطننا العربي، وإنما نحن فقط، كل في موقعه، خدام لهذا الشعب ولهذا الوطن، وسأتابع الحوار في مقال آخر.

المقال الخامس بيني وبين صلاح شادي: من المتجني؟

(الوطن في 13 يناير 1981)

في مقالي الثالث في الرد على مقالات الأستاذ صلاح شادي، كنت قد أثرت ما نسبه إلي من أقوال وكتابات قام بمناقشتها وتفنيدها في حين أنها لم ترد في أي جزء من أجزاء الدراسة التي نشرت في أعداد الهدف الغراء، وقرأها القراء؛

وقلت إن هدف الأستاذ صلاح شادي من ذلك هو تشكيك القراء في الدراسة والمنهج العلمي الذي قامت عليه، ولعل سيادته نسب إلينا هذه الأقوال منطلقا من انطباعاته الشخصية عنها، وليس اقتباسا لنصوصها.

ومع ذلك فمن المحير استخدام علامات التنصيص في تقديم هذه الأقوال، وعلى سبيل المثال، ففي مقاله الثاني، وفي العمود الأخير، الفقرة الرابعة، تحدث عن يمين البيعة الذي يقسمه عضو النظام الخاص، والذي كنا أوردنا طقوسه في الحلقة الثانية من دراستنا كما وردت في "الهدف" ونسب إلينا أننا عزونا القسم إلى طبيعة العنف والسرية في الجماعة "لتهويش" العضو الجديد، واستخدم سيادته علامات التنصيص حول كلمة "تهويش" ليشير إلى أنه نقلها بنصها عن دراستنا؛

وعلق على ذلك قائلا:

"وليت الدكتور المؤرخ يسوق لنا طرفا من مضمون هذا "التهويش" الذي جرى مع عبد الناصر عندما عقد بيعته مع السندي سنة 1944 "!" ثم تحدث عن مبايعة كمال الدين حسين وخالد محيي الدين والبغدادي وحسن إبراهيم وحسين الشافعي وعبد الحكيم عامر وصلاح سالم وقال: "ولم يقل أحد إن ذلك كان مدعاة "لتهويشهم" وإنما قال الناس إنهم خانوا الإخوان المسلمين".

ولكن هل وردت في دراستنا كلمة "تهويش" التي نسبها إلينا الأستاذ صلاح شادي، وأقام عليها هذا البناء الضخم من التفنيد؟ لن نقول أكثر من أن الدراسة بين يدي القارئ، ويستطيع أن يكتشف بنفسه أنه لا يوجد أثر لهذه الكلمة، ولكي نيسر عليه البحث، نقول إن الموضع الذي ورد فيه القسم، هو في الصفحة الحادية عشرة من عدد الهدف 6 نوفمبر 1980، الفقرة الأخيرة.

وفي نفس المقال الذي نسب إلينا فيه الأستاذ صلاح شادي كلمة "التهويش" نسب إلينا أيضا أننا ادعينا على الشيخ حسن البنا أنه "كان يبغي القفز على الحكم والوصول إليه على جثث وهامات المواطنين".

فهل ادعينا على الشيخ حسن البنا هذا الادعاء، وأين؟ إن الدراسة بين يدي القارئ، فهل وجد فيها هذا الادعاء؟ وكيف يتفق هذا الادعاء مع ما أوردناه من رغبة البنا في ترشيح نفسه لعضوية البرلمان؟ وهل إذا قلنا إن الشيخ حسن البنا كان يريد ترشيح نفسه للنيابة عن الأمة، يساوي عند الأستاذ صلاح شادي أنه "كان يبغي القفز على الحكم والوصول إليه على جثث وهامات المواطنين"؟

أم أن الأستاذ صلاح شادي يرى فيما أوردناه عن مراحل دعوة البنا، من أنه "انتقل إلى وسيلة القوة والاستعداد للوصول إلى الحكم وإقامة الحكومة الإسلامية عن طريق العنف" ما يساوي في المعنى عبارته التي نسبها إلينا ظلما، وهي أن الشيخ حسن البنا "كان يبغي القفز على الحكم والوصول إليه على جثث وهامات المواطنين؟"

ولكن ألا يستطيع الأستاذ صلاح شادي أن يدرك الفارق الكبير بين المعنيين؟ فالوصول إلى الحكم وإقامة حكومة إسلامية، هدف شريف، ولكن القفز على الحكم والوصول إليه على جثث وهامات المواطنين هدف خسيس .. وقد قلنا المعنى الأول، ولم نقل المعنى الثاني .. فلماذا يتجنى علينا بينما هو يشكو من التجني؟

لقد اتبع الشيخ حسن البنا، في سبيل الوصول إلى هدف إقامة الحكومة الإسلامية، طرقا شتى، من بينها طريق القوة، ممثلا في التنظيم السري والتنظيم العلني، ومن بينها طريق البرلمان عن طريق ترشيح نفسه وبعض رفاقه للنيابة عن الأمة وفرض التشريع الإسلامي، ومن بينها مصانعة القوى السياسية ذات التأثير في البلاد!

على أن المشكلة الحقيقية التي اكتشفها الشيخ حسن البنا مبكرا، أو العقبة الكأداء في طريق وصول الإخوان إلى الأغلبية البرلمانية، كانت تتمثل وقتذاك في حزب الوفد، الذي كانت تلتف حوله صفوف الأمة المصرية لأسباب تتعلق بالتحرر من الاستعمار والحكم المطلق، بينما كانت فكرة الحكومة الإسلامية التي يسعى إليها الإخوان تبدو للجماهير المصرية في المرتبة الثانية من الأهمية؛

ومن هنا وجه البنا والإخوان عداءهم للوفد من جهة، وشددوا الاهتمام بوسيلة القوة والاستعداد من جهة أخرى، بينما صانعوا القوى السياسية التي بيدها الحكم والسيطرة على مقاليد البلاد من جهة ثالثة، والتي كانت ممثلة في القصر؛

ومما لا شك فيه أن حرص الشيخ حسن البنا على الدعوة، وعلى الوصول بها إلى شاطئ الأمان، وسط زوابع السياسة المصرية العاتية كان الدافع الحقيقي وراء مصانعته القصر، الذي كانت في يده السيطرة والنفوذ، ولم يكن الدافع عمالة القصر، وهذا ما أوضحناه في الحلقة الأولى التي نشرت في الهدف، فقد تساءلنا: "من كان يستخدم الآخر، هل كان البنا يستخدم القصر، أم كان القصر يستخدم البنا" وأجبنا على هذا السؤال بقولنا: "من العسير الإجابة على هذا السؤال، والأرجع أن كلا منهما كان يستخدم الآخر".

حرص البنا على الدعوة وإقامة الحكومة الإسلامية إذن هو الدافع الأساسي، بل المحرك الوحيد لكل سياسته العلنية والتحتية، وليس "القفز على الحكم والوصول إليه على جثث وهامات المواطنين" كما نسب إلينا الأستاذ صلاح شادي قوله بغير حق ولا دليل.

وهذه السياسة التي اتبعها الشيخ حسن البنا هي التي تخضع للنقد، وليست نواياه ومقاصده، فلقد كان على البنا أن يدرك حقيقتين أساسيتين وضروريتين لنجاح مثل هذه النوايا والمقاصد الشريفة.

أولهما، أنه لا بد أولا من تربية الأمة تربية إسلامية كاملة قبل إنشاء الحكومة الإسلامية.
والحقيقة الثانية، أنه لا بد من الاستناد إلى قاعدة جماهيرية صلبة وعريضة.

وقد كانت هذه القاعدة وقتذاك ممثلة في جماهير الوفد، فلو تحالف البنا مع الوفد لتغير وجه التاريخ المصري، ولكنه تحالف مع القصر طمعا في الوصول عن طريقه إلى الحكومة الإسلامية، لأنه كان من الناحية الفعلية مصدر السلطات، وهذا خطأ البنا الأكبر.

وبمعاداة البنا للوفد صاحب الأغلبية، وقع في نفس الخطأ الذي وقع فيه الشيوعيون، حين أصروا على أن يعملوا منفردين، بل وفي كثير من الأحيان معادين للوفد، فانعزلوا عن القاعدة الجماهيرية وانحصروا في نطاقات محدودة.

إنه لا مفر أمم أية حركة عقائدية جديدة من العمل في إطار جماهيري، ومن خلال الحزب الذي يحظى بالأغلبية في وقت ظهورها، وهذا هو درس التاريخ في بلادنا، أن هذا العمل من داخل حزب الأغلبية لا يوفر فقط المناخ الديمقراطي والتفاعل الفكري اللازم لتحقيق الأهداف السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وإنما يحفظ طاقة القوى الوطنية من الفاقد الرهيب المترتب على الصراع الحزبي فيما بينهما، ويوحد جهودها ضد الأعداء الطبيعيين للبلاد وللجماهير.

ولقد استطاع البنا أن يجذب لدعوته أنصارا كثيرين على رقعة الوطن المصري، بل العربي، ولكن المشكلة بالنسبة لهؤلاء الأنصار، أنهم تعاملوا مع حركة الإخوان المسلمين كحركة دينية لا سياسية، ولذلك دخل في الإخوان وفديون وسعديون ودستوريون وغيرهم، دون أن يحس واحد منهم أنه يتخلى بذلك عن الحزب السياسي الذي يدين له بالولاء، والذي يعطيه صوته وقت الانتخابات.

وأنى لهذه الجماهير أن تعرف أن حركة الإخوان المسلمين حركة سياسية، ولم تفصح عن نفسها كحزب سياسي رغم ما كان متاحا لها من هذه الفرصة في العهد الليبرالي السابق على ثورة 23 يوليو، حيث لم تكن ثمة قيود على تكوين الأحزاب.

ولكن الأستاذ صلاح شادي يصر، مع ذلك، على أن الشيخ حسن البنا لم يقبل مطلب مصطفى النحاس باشا بعدم الاشتغال بالسياسة، مع أنه كان ملزما بقبول هذا المطلب دستوريا، لأن جماعته لم تتألف بوصفها حزبا سياسيا، وإنما كجماعة دينية، ولأنه كان في وسعه أن يتحدى النحاس باشا ويشتغل بالسياسة رغم أنفه، بإجراء بسيط يعلن به جماعته حزبا سياسيا.

ولكن الشيخ حسن البنا كان يعلم أنه لو أعلن جماعته حزبا سياسيا فستنفض عنها الجماهير المؤيدة للوفد صاحب الأغلبية، إذ سيكون عليها إما الاحتفاظ بولائها للوفد، أو نقل هذا الولاء إلى حزب الإخوان المسلمين الجديد، كما ستنفض عنها كثير من الجماهير الإسلامية التي تكره الزج بنفسها في المعترك السياسي بكل أخطاره، والتي دخلت الجماعة بوصفها جماعة دينية.

ليس للأستاذ صلاح شادي أن يجادل في قبول الشيخ حسن البنا مطلب النحاس باشا بعدم الاشتغال بالسياسة، لأن هذا هو الذي حدث بالفعل ولأنه لا يتصور حدوث غير ذلك بدون تعريض الوجود الشرعي لجماعة الإخوان المسلمين كجماعة دينية للخطر، لأنها تكون قد تحولت إلى حزب سياسي غير مشروع، وغير معلن.

ولكن الأستاذ صلاح شادي يتفكه أحيانا، فيحاول إقناعنا بأن الشيخ حسن البنا ما كان ليقبل من النحاس هذا الطلب الذي يبطل دعواه التي ينادي بها في الناس بأن السياسة جزء من دعوته، ومعلم من معالم الطريق إلى الحكم بكتاب الله، بدليل أنه اشترط في مقابل تنازله عن الترشيح ثلاثة أمور: ترك نشاط الإخوان مفتوحا، وإغلاق بيوت الدعارة، وعدم السماح بوجود الخمر والخمارات".

فهل هذه المطالب التي اشترطها البنا هي الدليل على أنه أصر على الاشتغال بالسياسة؟ أم هي دليل على أنه قبل عدم الاشتغال بالسياسة؟

إن الأستاذ صلاح شادي يتواضع بهذا التفكه، فيحاول إظهار أنه لا يعرف أن الاشتغال بالسياسة معناه العمل على تحقيق الأهداف عن طريق الحكم وأسبابه المؤدية إليه كالانتخابات وغيرها، وما فعله الشيخ حسن البنا بتنازله عن ترشيح نفسه لعضوية البرلمان هو تسليم منه بعدم الاشتغال بالسياسة، وهو ما فعله الإخوان تماما في نوفمبر 1952 للنجاة من الخضوع لقرار حل الأحزاب السياسية، وكان عبد الناصر هو الذي هيأ لهم هذا المخرج؛

فقد طلبت وزارة الداخلية من الجماعة تفسيرا عما إذا كانت ستعمل على تحقيق أهدافها عن طريق أسباب الحكم، وكان رد الإخوان المتفق عليه هو النفي، وكانت الجماعة قد احتاطت لذلك في قانونها الأساسي، فلم تذكر شيئا عن عزمها على تحقيق برنامجها عن طريق الحكم، واكتفت بعبارة: "وعلى كل وسيلة أخرى مشروعة .. وبذلك نجت من قرار حل الأحزاب السياسية، ولكن إلى حين".

مع ذلك فإن الأستاذ صلاح شادي قد اثار بهذه المسألة نقطة خلاف بيننا لا وجود لها، فقد ظن أنني أهاجم الشيخ حسن البنا بما ذكرته عن اتفاقه مع النحاس باشا، مع أن هذا الاتفاق دليل على نضج البنا وحرصه على الدعوة، وهو ما لم ننكره عليه طوال دراستنا، وقد افاد هذا الاتفاق الدعوة فائدة كبرى وحفظها طوال السنوات الباقية من الحرب.

ولكن ما نلوم عليه الأستاذ صلاح شادي هو التجني على النحاس باشا في موقفه من الإخوان المسلمين أثناء وزارته التي استمرت الدعوة فيها قائمة طوال أيام الحرب، فقد اتهم النحاس بالانحراف عن "الخط الدستوري الديمقراطي" أثناء وزارته، قائلا إنه بعد أن وعد البنا بأن يترك له حرية مزاولة نشاطه بالكامل مقابل تنازله عن ترشيح نفسه، عاد فأغلق الشعب وصادر نشاطها وراقب تحركات الأفراد وذلك قبل أن تشارف سنة 1942 على الانتهاء.

ومن حسن الحظ أننا سنرد على الأستاذ صلاح شادي هذه المرة بكلام ليس من عندنا، وإنما من بيان جماعة الإخوان المسلمين نفسها عام 1948، الذي صدر بعد حل الجماعة على يد النقراشي باشا، فقد اتهم البيان إنجلترا وفرنسا وأمريكا بأنها كانت وراء قرار الحل؛

ثم عقد مقارنة بين موقف الاستجابة لهذا التدخل من جانب النقراشي، وبين موقف النحاس باشا عام 1942 وأشاد بموقف النحاس قائلا: لقد طلبت السفارة من رفعة النحاس في سنة 1942، والحرب العالمية على أشدها، والألمان على الأبواب حل الإخوان المسلمين، وتعطيل نشاطهم، فأبى أن يجيبها إلى ذلك واكتفى بإغلاق الشعب كلها، مع بقاء المركز العام إلى حين".

فإذا كان بيان الجماعة قد أنصف مصطفى النحاس باشا على هذا النحو، فهل يكون الأستاذ صلاح شادي أقل إنصافا، ولا يتيح لنا بذلك الفرصة للقول بأنه يريد أن يلوي عنق التاريخ ليكتب حسب آرائه الشخصية التي تتجاوز في كثير من الأحيان آراء الجماعة؟ ومع ذلك يتهمنا الأستاذ صلاح شادي بالتجني.

المقال السادس جواد الدكتاتورية الخاسر

(لم ينشر لقفل باب المناقشة وأرسلت صورة منه للأستاذ صلاح شادي)

أرقب في إشفاق المحاولات البطولية التي يبذلها الداعية الكبير الأستاذ صلاح شادي للتخلص من شبكة الوثائق التي تحيط بجماعة الإخوان المسلمين وتحدد إطار سياستهم، كما أوردتها الدراسة التي أقدمها للقراء الكرام عن التنظيم السري للإخوان المسلمين وحادث المنشية؛

وفي بعض الأوقات أسائل نفسي: لو أن ظروف نشر الدراسة في الصحف اليومية تسمح بوضع الهوامش وإثبات المصادر، لوفر ذلك على الأستاذ صلاح شادي كثيرا من العناء، ذلك أن كثيرا مما يتهمنا به الداعية الكبير من تحامل على الإخوان، أو يحاول نفيه وإنكاره؛

أو يجادل فيه بتحمسه الطبيعي للجماعة التي ناضل طوال حياته في صفوفها لم يكن من بنات أفكارنا، وإنما كان مصدرنا فيه الإخوان المسلمين أنفسهم، في لحظة من لحظات الصدق مع النفس، أو النقد الذاتي، أو الصحوة المبكرة أو المتأخرة على الأخطاء.

وسوف أناقش هنا أكبر قضية تحيط بالإخوان يدافع فيها الداعلية صلاح شادي بشراسة على مدى عشر حلقات كاملة من ردوده على دراستي وهي قضية الوقوف إلى جانب الدكتاتورية وبناء تنظيمهم على أساس ديكتاتوري، التي يعتقد أنني أتهمهم بها، مع أني لا أتهم، ولست مدعيا عاما أقيم الاتهام

وإنما سطور الدراسة المبنية على الوثائق وعلى منهج علم التاريخ هي التي تتهم، وهي التي تطرح الحقائق التاريخية، وهي التي تبرز هذه الحقيقة المخيفة التي يأبى الأستاذ صلاح شادي مواجهتها بشجاعته التي نعرفها وهي أن الإخوان المسلمين كانوا على الدوام ضحية من ضحايا الديكتاتورية التي وقفوا إلى جانبها وساندوها طوال حياتهم، فلقوا حلهم الأول على يد دكتاتورية القصر، الذي طالما عززوا موقفه وأيدوه في صراعه ضد الديمقراطية؛

ثم لقوا حلهم الثاني على يد دكتاتورية عبد الناصر، حين ساندوا هذه الديكتاتورية ضد جميع القوى الوطنية والتقدمية في ذلك الحين، ثم لقوا محنتهم الكبرى حين نسوا درس الحل الثاني بعد أن نسوا درس الحل الأول وأيدوا عبد الناصر في أزمة مارس 1954 التي غربت شمس الليبرالية في مصر إلى الآن وربما إلى الأبد.

وهذا درس لجميع الأحزاب والهيئات السياسية في عالمنا العربي يؤكد أن المحاربة بسلاح الدكتاتورية هي محاربة بمدفعية فاسدة لا بد أن ترتد قذائفها إلى صدور المقاتلين بها والملتفين حول لوائها، وأن الأخطاء التي ترتكب في حق الديمقراطية تقتص من فاعليها بعنف؛

وتلحق بهم من العذاب أثر مما تلحقون بأمتهم، وأنه لا يستطيع أحد النجاة بنفسه من نيران الدكتاتورية، ويدع الآخرين يكتوون بنارها، فهذا وهم كبير لا يلبث صاحبه أن يصحو عليه الصحوة الكبرى وهو يجد نفسه مقيدا في السجن، أو معلقا من قدميه كالذبيحة مع زملائه في المعتقلات البعيدة عن العمران، أو يواجه فرقة الإعدام.هذا هو درس التاريخ، وعلى كل سياسي في وطننا العربي أن يختار موقعه كما يشاء.

وأعود إلى القضية الخاسرة التي يدافع فيها الأستاذ صلاح شادي فلقد استشهد الداعية الكبير بما رواه الأستاذ عبد القادر حلمي عن المباحثات التي دارت قبل نشوب الثورة بين الإخوان المسلمين وعبد الناصر كدليل على أنهم لم يكونوا يساندون الدكتاتوري، مع أن الرواية التي أوردها تؤكد كل حرف أوردناه عن ذلك".

نعم! بماذا طالب الإخوان المسلمون في اللقاءات فيما يتعلق بالديمقراطية بأكثر من دعوة ماهر باشا، أكبر مسئول عن فساد الحياة النيابية في مصر، بل أكبر من ضرب بمعول الهدمن في هذه الحياة بعد إبرام معاهدة 1936 لتولي الحكم بعد قيام الثورة بحجة غريبة جدا هي حسبما أورد صلاح شادي على لسان صاحب الاقتراح: أنه "لم تشب ماضيه أية شائبة مما أصاب الأحزاب من فساد، وإنه حاز الإعجاب والاحترام سواء من المصريين أو الأجانب".

أي تزوير لتاريخ مصر أكبر من هذا التزوير من صاحب ذلك القول! بل وما دام الأستاذ صلاح شادي قد انتدبنا للأدب الذي ندبنا إليه الله تعالى في كتابه العزيز أقول: أي جهل بتاريخ مصر أكبر من هذا الجهل؟ علي ماهر، رجل القصر المشهور هو في نظر الإخوان الرجل الذي لم تشب ماضيه أية شائبة مما أصاب الأحزاب من فساد".

دعنا إذن يا سيدي نتصارح: لقد اخترتم علي ماهر، لأنه الرجل الذي كانت له بالإخوان المسلمين علاقة صداقة تقليدية من قبل الحرب العالمية الثانية، وهو الرجل الذي تحمس الإخوان للهتاف له في عهد المرحوم الشيخ حسن البنا حتى كانت تنشق صفوفهم

وكان في ذلك الحين رئيس الديوان الملكي، ويوجه أشد الضربات الشعبية الديمقراطية، وللقارئ أن يرجع إلى الحلقة الأولى من الدراسة ليقرأ الكثير عن ذلك، فهل هذا هو الدليل الذي يفند به ما قلته من أنهم كانوا يراهنون دائما على "جواد الديكتاتورية الخاسر"

دعني إذن يا سيدي أصحح لكم الصورة التاريخية المرسومة في ذهنكم عن عودة الديمقراطية، أن الديمقراطية يا سيدي لم تكن لتتحقق بتولي علي ماهر باشا عدو الديمقراطية اللدود الحكم، وإنما بعودة آخر برلمان منتخب انتخابا حرا بإرادة الشعب إلى الانعقاد؛

وهو الذي قام الملك فاروق بحله حلا تعسفيا قبل الثورة مزدريا بإرادة شعبه، أو المبادرة بدعوة الشعب إلى انتخاب مجلس جديد نيابي بإرادته الحرة الطليقة، دون وصاية من أحد: سواء أكان ثورة أو إخوان! ثم تدور عجلة الديمقراطية السلمية.

وهذا هو الذي كان مطروحا بالفعل للبحث في أعقاب قيام الثورة، ولكن القوى المعادية للوفد حالت دون دعوة البرلمان المنحل إلى الانعقاد، لأن الأغلبية فيه كانت للوفد، وفي الوقت نفسه لعب كل من رئيس مجلس الدولة الدكتور عبد الرزاق السنهوري، وسليمان حافظ وكيل المجلس دورا آخر في تمييع مسألة دعوة الشعب لانتخابات عامة، وتركا هذه المسألة لإمكانيات الحكومة، فضاعت الفرصة لعودة الديمقراطية بسبب الأهواء الحزبية المعادية للوفد؛

فقد كان كل من السنهوري وسليمان حافظ من رجال أحزاب الأقلية قبل دخولهما مجلس الدولة، ولذلك كتب سليمان حافظ في مذكراته يعلق على قرار مجلس الدولة الذي أطار فرصة عودة الديمقراطية قائلا: "باء الوفد بالخيبة، وبؤت مع السنهوري بالفوز بما كنا نبغيه من علي ماهر" لقد نظر الرجلان التعسان إلى القضية في شكل قضية بينهما وبين الوفد، وليست قضية ديمقراطية وحرية شعب؛

وقد نال كلاهما الجزاء الذي يناله من يقف في صف الدكتاتورية، واقتضت الأخطاء التي ارتكباها في حق الديمقراطية منهما انتقاما ذريعا، فقد ضرب الدكتور السنهوري في قلب مجلس الدولة على يد مظاهرة مدبرة من أنصار عبد الناصر يقودها حسين عرفة قريب أحمد أنور مدير البوليس الحربي.

أما سليمان حافظ فاستغنت عنه الثورة بعد أن استنفدت أغراضها منه، ثم دخل المعتقل بضع سنوات، ولو ساند كلاهما قضية الديمقراطية لما ضرب الأول في قلب دار العدالة، ولما دخل الثاني دار الاعتقال، فهل هناك من يتعلم من دروس التاريخ.

ولكن الأستاذ صلاح شادي يأبى إلا أن يواصل دفاعه معتمدا على قوة بلاغته، ليغطي بها ضعف حجته، فينتقل إلى نقطة أخرى قائلا:

"إني لأعجب! كيف وجد الدكتور رمضان المادة التي وهبته الجرأة على أن يصف نظام جماعة الإخوان المسلمين بأنه نظام ديكتاتوري؟ هل قرأ نظام الجماعة؟ وقانونها الأساسي الذي أقسم كل فرد من الإخوان المسلمين على احترامه؟"

وأقول إنني لم أقل يا سيدي إن نظام جماعة الإخوان نظام ديكتاتوري، وإنما الذي قال ذلك الوثائق، وأية وثائق؟ إنها وثائق الإخوان أنفسهم، نعم، الإخوان الذين اعتصموا بالمركز العام للإخوان المسلمين في أواخر نوفمبر وديسمبر 1953 مطالبين "بتصحيح الأوضاع"

ثم الخطب والكلمات والمقالات التي سطرها كبار الإخوان نقدا لنظام الجماعة الدكتاتوري وطلبا لتصحيحه بإشاعة الديمقراطية فيه، وهي أيضا ممارسة قيادة الإخوان اللاديمقراطية، والتي وصفتها مجلة الدعوة ذاتها بالاستبدادية، وكتبت تقول: "ما كان الإسلام أبدا وهو القائم على أساس الشورى، دين استبداد" أم أن هؤلاء جميعا لم يقرءوا نظام الجماعة وقانونها الأساسي؟

وكيف يتفق مع العقل أن تقوم جماعة على نظام ديمقراطي، بينما هي تنشئ لنفسها تنظيما سريا مدربا ومسلحا ويمارس الاغتيالات والاعتداءات في خارج الجماعة وداخلها على السواء؟ أم أن اغتيال المهندس سيد فايز بطرد ناسف، وهو من كبار قادة الإخوان المسلمين، على يد التنظيم السري كان عملا ديمقراطيا في نظر الأستاذ صلاح شادي؟

ولكن الأستاذ صلاح شادي يأبى إلا أن يدعوني إلى قراءة القانون الأساسي لجماعة الإخوان المسلمين الذي قرأته وحفظته، دعني إذن يا سيدي أدعوكم لقراءة دساتير الدول العربية التي تحكم حكما ديكتاتوريا الآن، لتقرأ أعذب الألفاظ، وقصائد المديح في الديمقراطية، والنصوص القوية التي تؤكد أن الشعب مصدر السلطات، بينما مصدر السلطات فرد في طول القطر العربي وعرضه، من قال إن الديمقراطية بالألفاظ؟ إن الديمقراطية بالممارسة والأفعال.

بقيت نقطة أخيرة في هذا المقال، هي أن الأستاذ صلاح شادي قد اتهمني بأني قسمت الإخوان إلى ثلاثة أقسام: قسم على رأسه البهي الخولي، والثاني على رأسه محمد خميس حميدة، والثالث على رأسه المرشد، ثم ينكر أن الجماعة قد تعرضت لمثل هذا التقسيم، ويصف هذا التفسخ بأنه "تفسخ مزعوم"

وفي الحقيقة يا سيدي إنني لست صاحب هذا التقسيم، وإن كنت أوافق عليه وأرى صحته، وإنما صاحب هذا التقسيم هم الإخوان المسلمون أنفسهم، ولو انتظر سيادته حتى تصدر الدراسة في كتاب، لعرف من الحواشي مصدر هذا الرأي، ولكن لن أتركه ينتظر طويلا، فقد يعدل رأيه في أن "معالم الحق" قد "ضاعت" عندي؛

فقد كان هنداوي دوير ومحمد فرغلي ومحمد خميس حميدة وهم مصدر هذا الرأي، فضلا عن ذلك فإن أوضاع الجماعة ذاتها، كما سيتضح في الحلقات القادمة تغني في حد ذاتها عن الاستعانة بمصدر من الإخوان يتحدث عما هو تحصيل حاصل.

ومن المستحيل بناء على ذلك، قبول الرأي الذي طرحه الأستاذ صلاح شادي، وهو أن سفر الأستاذ الهضيبي إلى البلاد العربية كان " من موقع القوة لا من موطن الضعف" حسب تعبيره، ومن حسن الحظ أن الذي يؤيدنا في هذا الرأي هو الأستاذ الهضيبي نفسه، وعبارته في هذا الصدد تغني عن بلاغة الأستاذ صلاح شادي

فهو يقول:

"أنا رحت (أي للأقطار العربية) علشان قيل إن الإخوان عايزين يتفقوا مع الحكومة، ويظن أني واقف عقبة في سبيل التفاهم، قلت لهم: أنا ماشي، وأنتم تعرفوا شغلكم".

متى يرفع الأستاذ صلاح شادي راية الاستسلام أمام منطق الحوادث وقوة الوثائق التاريخية.

ملحق رقم (5) مقال الدكتور فؤاد زكريا

تعقيب د. فؤاد زكريا على دراسة د. عبد العظيم رمضان
هل كان حادث المنشية كمينا؟

(الوطن في 2 مارس 1981)

عاصرت حادث محاولة اغتيال الرئيس جمال عبد الناصر في المنشية في أكتوبر عام 1954، وتابعت باهتمام شديد تلك المحاكمة التي أجراها أعجب وأظلم قاض في تاريخ مصر الحديث، المرحوم جمال سالم؛

وعلى الرغم من اختلافي الفكري الحاد مع الإخوان المسلمين، فقد كان الانطباع الذي تولد لدي من المتابعة الدقيقة لوقائع ذلك الحادث هو أن الإخوان قد وقعوا ضحية مكيدة من نوع ما، وحين وصل الدكتور عبد العظيم رمضان إلى الحلقتين الأخيرتين من دراسته القيمة عن العنف عند الإخوان المسلمين

وأعاد سرد تلك الوقائع التي كانت قد غابت عن الأذهان منذ سنوات طويلة، تأكد الانطباع القديم لدي مرة أخرى، بل إنه بدا لي في هذه المرة أكثر من مجرد انطباع، وكاد أن يصل إلى حد اليقين.

وهأنذا أدلي بشهادتي عن هذا الموضوع الهام، مع تأكيدي للقارئ أنني لست مؤرخا، ولن أقدم إليه الكثير من الوقائع التاريخية، وكل ما في الأمر أن الدكتور عبد العظيم رمضان لم يفسر كثيرا من الوقائع، التي جمعها بصبر ومقدرة، تفسيرا صحيحا، وإنما كانت تتملكه منذ البداية فكرة مسبقة هي إدانة الإخوان عن الحادث إدانة كاملة ...

وأحسب أن الخصوم الفكريين للإخوان، من أمثالي في حاجة إلى قدر كبير من الموضوعية ونسيان الاعتبارات الشخصية لكي يدلوا بشهادة نزيهة، وهذا ما سأحاول أن أفعله، وهو أيضا ما أراه مفتقدا، إلى حد ما، في الأجزاء الأخيرة من دراسة الدكتور رمضان.

أنني على خلاف الدكتور رمضان سأتقدم بفرض لتفسير الحادث هو:

  1. كانت هناك بالفعل نية اللجوء إلى العنف لدى الجهاز السري للإخوان المسلمين بعد أن أدى القمع التام للديمقراطية إلى سد جميع مسالك العمل السلمي أمام كافة فئات المعارضة.
  2. لم تكن هذه النية قد تبلورت تماما، وذلك لأن القيادات الإخوانية كانت في حالة انقسام وبلبلة فكرية، وكان فيها اتجاه قوي يعارض العنف.
  3. طرحت عدة أفكار عن أساليب عنيفة يلجأ إليها الإخوان ... منها اغتيال أهم أعضاء مجلس الثورة وعلى رأسهم جمال عبد الناصر، ولكن هذه الأفكار لم تتبلور بصورة نهايئة، وإنما تمت بعض الاستعدادات لها من خلال تسليم أنواع معينة من الأسلحة لبعض مسئولي المناطق من الإخوان.
  4. كان المحامي هنداوي دوير، مسئول الجهاز السري في إمبابة، هو مفتاح السر كله في هذه القضية، وقد فوتح في موضوع الاغتيال ولكن دون تكليف صريح له بالتنفيذ.
  5. ولم يكن هنداوي دوير هذا مقتنعا تماما بالهدف وانهارت أعصابه فأفشى السر لأجهزة الدولة قبل تنفذ محاولة الاغتيال بأيام قلائل فكلفته هذه الأجهزة بمتابعة التنفيذ من خلال تعليماته الخاصة، وهناك احتمالان في هذا الموضوع: أما أن هنداوي كان من عملاء المباحث منذ البداية واستطاع أن يصعد في التنظيم السري إلى مرتبة مسئول منطقة وإما أنه شعر بالرعب قبل تنفيذ الخطة مباشرة فاتصل بأجهزة الأمن، وأنا أرجح الفرض الأخير، ومنذ هذه اللحظة أصبحت خطوات هنداوي تتم بالتنسيق مع أجهزة الأمن، وهي التي أعطته المسدس الذي سلمه لمحمود عبد اللطيف وحددت له موعد التنفيذ.
  6. كان محمود عبد اللطيف نفسه منساقا في تصرفاته بصورة تدعو إلى الشك في أن يكون قد حدث له نوع من أنواع "غسيل المخ" وكانت المسافة التي حاول أن يغتال منها عبد الناصر بعيدة إلى حد يدعو إلى الشك في سلامة تفكيره في هذه اللحظة، وفضلا عن ذلك فلا بد أنه كان مراقبا طوال الوقت وكان المسدس الذي تسلمه من نوعية خاصة لا ضرر منها.
  7. أما إعدام هنداوي، ضمن المحكوم عليهم في النهاية فأمر يسهل تفسيره: فعلى الرغم من الوعود التي لا بد أنها قدمت إليه لكي يشي بجماعته، كان من الضروري التخلص منه لأنه يعرف أكثر مما ينبغي، ومثل هذه الأمور تتكرر كثيرا عندما تنجح أجهزة الأمن في تجنيد أحد خصومها، فتتخذه طعما لاصطياد الآخرين وعندما تنتهي مهمته يكون أول ما تفكر فيه الأجهزة هو التخلص منه، وعلى أية حال فإن المرء لا يشعر بأي أسف إزاء غدر الأجهزة بإنسان هو أصلا غادر.

هذا هو تسلسل الأحداث وفقا للفرض الذي أتقدم به، ويمتاز هذا الفرض بأنه يجعل الأحداث أكثر اتساقا بكثير من العرض الذي قدمه الدكتور عبد العظيم رمضان، ويلقي ضوءا على أمور كثيرة تبدو غير مفهومة.

ولأضرب لذلك مثلا واحدا: فقد قرأت بنفسي في جريدة "الأهرام" بعد حوالي أسبوع من الحادث، أن أحد العمال قد وصل من الإسكندرية إلى القاهرة ومعه المسدس الذي ارتكبت به الجريمة، وكان قد التقطه أثناء وجوده على مقربة من المتهم في ميدان المنشية، ولكي تغطي الصحيفة تلك الفترة الطويلة التي استغرقها وصول المسدس إلى المسئولين؛

ذكرت أن هذا العامل لم يكن يملك أجر القطار وحضر من الإسكندرية إلى القاهرة سيرا على الأقدام، وهو يحمل المسدس المستخدم في الحادث، فاستغرق ذلك منه أسبوعا، وقد ذكرت هذه الواقعة في الصيف الماضي للدكتور رمضان، وسألته أن يتحرى عنها لأهميتها، ولكن لا يبدو أنه قد فعل، ويخيل إلي أن هذه الواقعة وحدها، بما فيها من استغفال لعقول الناس، تكفي وحدها للشك في العملية بأكملها.

فلنترك جانبا ما قاله الدكتور رمضان نفسه في حلقات سابقة عن إهداء الأمريكيين قميصا لا يخترقه الرصاص لجمال عبد الناصر قبل الحادث بفترة وجيزة، ولنترك جانبا شهادة حسن التهامي، التي توحي بوجود مؤامرة دبرتها الحكومة مع مصادر خارجية للإيقاع بالإخوان لنترك هذا كله على أهميته الكبرى جانبا ولنتأمل نفس الوقائع التي أوردها الدكتور رمضان في الحلقتين الأخيرتين، لكي نستخلص نتائجها الضرورية.

إن من الأمور التي تلفت النظر أن الدكتور رمضان بنى الجزء الأكبر من استنتاجاته على شهادة هنداوي دوير، مع أنه لو كان قد تشكك في هذا رجل كان معارضا للعنف قبل الحادث وبعد، فكيف سلم المسدس الذي الزائدة التي أولاها لشهادة متهم سلم نفسه في اليوم التالي، ووشى بأعوانه السابقين، ولا شك أن هناك عناصر كثيرة تدفع أي باحث موضوعي إلى إلقاء ظلال كثيفة من الشك على كل ما قاله هذا الرجل، أذكر منها:

  1. أثبت هنداوي أنه إنسان مذعور، بدليل أنه سلم نفسه للشرطة في اليوم التالي، على حين أن كبار المسئولين الآخرين في الجهاز السري، وخاصة يوسف طلعت وإبراهيم الطيب، حاولوا الاختفاء والمقاومة أطول مدة ممكنة.
  2. كان هنداوي هو شاهد المحكمة المدلل، على حين أن طلعت والطيب وقفا بشجاعة نادرة أمام جبروت جمال سالم برغم التعذيب الواضح الذي تعرضا له، ووصل الأمر بالأول إلى حد الاعتراف بأنهم كانوا ينوون اغتيال عدد من أعضاء مجلس الثورة، ثم قال لجمال سالم: "وأنت منهم" ولذلك فإن المؤرخ اليقظ عندما يجد شهادتهما متعارضة مع شهادة شخص متخاذل مثل هنداوي، لا بد أن يولي مزيدا من الثقة للأولى.
  3. كان هنداوي، تبعا لوصف حسن العشماوي، وهو أحد أقطاب الإخوان "عصبي المزاج سريع الانفعال لا يصح وضعه كمسئول في أي نظام سري" فمن المعقول أن ينهار شخص كهذا عندما يقترب تنفيذ عملية خطيرة كعملية الاغتيال، ومن المعقول أن يتصل بالسلطات ويتعاون معها، وهذه الأوصاف، على أية حال ... تقلل من الثقة في أقواله إلى أبعد حد.
  4. مما يثبت تعاون هنداوي مع المحكمة، ومع جهاز الحكم بأكمله، قوله في التحقيق بعد الحادث "من حمد الله، أن الرئيس ما اعتديش عليه، ونجا بحمد الله ..." هل هذا كلام شخص كان هو نفسه الذي سلم مسدس القتل إلى مرتكب الحادث؟ وإذا قارنا هذه اللهجة المنافقة بلهجة يوسف طلعت وإبراهيم الطيب التي تملتئ صلابة، ألا نستنتج من ذلك أشياء كثيرة عن علاقة هنداوي بالسلطة؟
  5. وفقا لما قاله الدكتور رمضان، فإن هنداوي لم يكن موافقا على الاتجاه الإرهابي منذ أن سمع به، وقال لإبراهيم الطيب: يا أستاذ إبراهيم، إن الاتجاه الإرهابي منذ أن سمع به لن يؤدي إلى نتيجة ... وإننا لن نجني والبلد شيئا من هذا الطريق" هذا ما قاله قبل الحادث بأيام كثيرة فكيف يأمره رئيسه إبراهيم الطيب بالتنفيذ ويحدد له يوم الاغتيال إذا كان منذ البداية معارضا للعنف إلى هذا الحد وفي اليوم التالي للحادث طاف بذهنه كما يقول أن الاتجا الإرهابي غير إسلامي وأن القتل بهذه الصورة غير إسلامي، إذا هذا رجل كان معارضا للعنف قبل الحادث وبعده، فكيف سلم المسدس الذي تمت به الجريمة إلى الجاني قبل يوم واحد من إدانته للإرهاب؟ وهل يحق لنا أن نثق بأقوال شخص يسلم أداة الجريمة لإنسان ثم يقول بع وقوعها بيوم واحد إن القتل غير إسلامي؟ وكيف فات هذا التناقض على الدكتور رمضان وظل يعتمد في الجزء الأكبر من دراسته على أقوال شخص كهذا؟ إن الدكتور رمضان يأسف لأن هنداوي لم يفق إلا بعد الحادث، ولو كان قد أفاق قبله لأنقذ الإخوان من التهلكة، ولكن هذا تحليل ضعيف إلى أبعد حد، أولا لأن إفاقة هنداوي أو عدم إفاقته ما كانت لتغير شيئا في تسلسل الأحداث الذي كان الإخوان سيتعرضون فيه حتما للتصفية بعد أن خلا الجو لرجال الثورة وتخلصوا من بقية الخصوم، وثانيا لأن هنداوي (كما أرجح) قد أفاق فعلا قبل الحادث، ولكن طريقته في الإفاقة كانت هي التي ألقت بالإخوان في التهلكة، لأنه وشى بهم جميعا.
  6. نسب هنداوي إلى حسن الهضيبي الأمر بتنفيذ الاغتيال وهو ما أثبت المؤلف نفسه كذبه، كما كذبه الهضيبي ويوسف طلعت بشدة، فإذا كان قد كذب إلى درجة توريط رئيس مسالم للجماعة، وتعريض حياته للخطر، فهل نستبعد أن يكذب في بقية أقواله؟
  7. لم يهتم الدكتور رمضان بشهادة يوسف طلعت عندما فوجئ بوقوع الحادث، ورد عليه إبراهيم الطيب بقوله "أخوك هنداوي تسرع" ... وكذلك قوله في موضع آخر إن الخبر وقع عليه وقع الصاعقة أو تعليقه أمام المحكمة "إحنا فوجئنا بهذا التكليف من الأستاذ هنداوي دوير ودهشنا له" وهذه كلها أقوال كانت تستدعي على الأقل قدرا من التشكيك في موقف هنداوي، بدلا من الثقة الزائدة التي أيدها الدكتور رمضان في أقواله.
  8. أما المواجهة التي دبرها جمال سالم بين إبراهيم الطيب وهنداوي، والتي وصفها الدكتور بالمهارة تارة، وبالكفاءة والاقتدار تارة أخرى فإنها تكتسب معنى جديدا كل الجدة في ضوء الفرض القوي الذي نقول به وهو أن هنداوي دوير اتصل بالسلطات وأبلغها بالحادث قبل أيام قلائل (في الفترة التي توقف فيها التنفيذ مؤقتا)، وأتاح لها بعد ذلك فرصة توجيه الأحداث بالطريقة التي تضمن لها أفضل النتائج، فعندئذ تصبح هذه المواجهة بين متهم حقيقي وبين عميل، وبالفعل نجد جمال سالم يستعين بهنداوي في تكذيب إبراهيم الطيب، لا العكس، بينما يقدم هنداوي إلى المحكمة كل ما نريده من "أدلة" تطيح برءوس زملائه السابقين.

إن الثغرات في سرد الأحداث وفقا لتفسير الدكتور رمضان كثيرة، وهناك تناقضات لا حد لها تركت بلا أي تشكيك أو استفسار، ولعل من أبرزها أن يعرض جهاز ضخم حسن التدريب والإعداد مستقبله كله للخطر مقابل أن يترك فردا واحدا، هو محمود عبد اللطيف لكي يعتمد في التنفيذ على مجهوده الشخصي، هل هذه خطة يقامر بها جهاز كهذا بحياته وحياة جماعته كلها.

أما الفرض الذي أقول به، فيضع الأمور في نصابها، ويفسر التناقض في أقوال ذلك الشاهد الخائن لجماعته، والتعارض بين شهادته وشهادات الآخرين، وهو فضلا عن ذلك الفرض الوحيد الذي يمكن أن يعلل مجموعة الأحداث المحيطة بهذه الواقعة.

إنني لا أهدف من هذا إلى تبرئة الإخوان من تهمة العنف ولا أنكر أنهم رسموا خطة للاغتيالات، ومنها اغتيال جمال عبد الناصر، ولكن ما أريد أن أقوله هو أنه في مرحلة ما من هذه الخطة، وبحيث إن حادث المنشية بالصورة التي تم بها كان حادثا استدرج فيه الإخوان.

وليس للقارئ أن يعجب من هذا التفسير لأن أجهزة الأمن في بلادنا العربية قادرة على التغلغل في كافة التنظيمات وقادرة على تدبير الحوادث وخلق الشهود الذين يبررون لها ما قلت ويكفيني هنا أن أشير إلى مثل واحد

ففي أواخر الستينيات قيل إن المستشار كامل لطف الله قد انتحر وألقى بنفسه من سطح بيته وتشاء "الصدف" أن يحدث انتحاره هذا قبل يوم واحد من الموعد المحدد لكي ينظر هو نفسه في قضية اختلاسات مديرية التحرير، التي وصلت إلى ملايين الجنيهات، وكان الرجل قد درس ملف القضية بأكمله دراسة متعمقة؛

وأعجب ما في الأمر أنه، بعد وقوع الحادث بأربعة أو خمسة أيام تقدم للنيابة شخصان قالا إنهما من عمال البناء، وكانا يشتغلان في بيت مجاور، وشاهدا القاضي وهو ينتحر، أما لماذا لم يبلغا لا يعرفان القراءة ولم يدركا أهمية الشخص المنتحر إلا عندما سمعا بالحادث بعد أيام.

هناك إذن خفايا كثيرة تكمن تحت السطور، وأحسب أن من واجب كل من يملك شهادة عن هذه الأحداث وغيرها أن يقول كلمته حتى يظهر تاريخ بلادنا في ضوئه الحقيقي، ولو سئلت عن رأيي لقلت إن الإخوان المسلمين، برغم اختلافي الأساسي معهم، كانوا في حادث المنشية بالذات ضحية كمين اشتركت فيه بعض عناصرهم مع أجهزة الدولة، ولكن يبقى على من شاركوا في الأحداث نفسها أن يقولوا كلمتهم.

ملحق رقم (6) ردي على الدكتور فؤاد زكريا

ردي على الدكتور فؤاد زكريا بجريدة الوطن الكويتية
لم يكن هنداوي دوير خائنا

تأخرت قليلا في الرد على مقال صديقي الأستاذ الدكتور فؤاد زكريا تعقيبا على الدراسة التي تنشرها لي جريدة الهدف الغراء وذلك بسبب انشغالي في الأرشيف البريطاني، وأشكر الدكتور فؤاد زكريا لمتابعته الدراسة، كما يظهر من مقاله، وإن كانت لي بعض الملاحظات والتوضيحات

أولا: أن الدكتور فؤاد زكريا قدم "فرضا" لتفسير الحادث على حسب تعبيره، صاغه في بناء متكامل، استخدم فيه كثيرا من المادة العلمية التي وردت بالدراسة، وكنت أود أن أستسمح الدكتور في القول بأن منهج البحث التاريخي يختلف عن المنهج الذي قدم فيه تصوره للحادث، فهذا المنهج التاريخي لا يقوم على افتراضات

وإنما يقوم على تجميع أجزاء الحدث من مصادره المتناثرة سواء تمثلت في خطابات أو بيانات أو تقارير أو شهادات أو روايات أو معاهدات أو مضابط برلمان ... إلخ، ونقد هذه الوثائق نقدا تاريخيا وإخضاعها لقواعد البحث العلمي من مقارنة ومناقضة واستقراء واستنباط وغيرها، ثم إعادة تركيب صورة الحدث التاريخي كما وقعت أو قريبا مما وقعت.

وعلى ذلك فلا مجال في منهج البحث التاريخي للافتراضات، وإنما المادة التاريخية هي التي تحدد صورة الحدث التاريخي وليس الخيال ، لأن أي فرض يمكن إيجاد ما يسانده من الأدلة كما فعل الدكتور تماما، ومن الضروري أن يحرر المؤرخ نفسه من أية افتراضات أو تصورات مسبقة للحدث التاريخي الذي يدرسه، حتى لا يندفع بلا شعور في جمع الأدلة لإثبات هذا الفرض، وينسى حقيقة ما حدث بالفعل، وهو مهمته الأساسية،

وأعترف أنني حين بدأت الدراسة لم أكن أعرف حقيقة ما حدث، وكنت تواقا لمعرفة ما حدث، تماما كما يفعل وكيل النيابة الذي يحقق في جريمة قتل، ويريد معرفة القاتل، وكانت الشبهات على ارتكاب الإخوان للحادث أكثر من الأدلة على ارتكابهم له، ولذلك ليسمح لي صديقي الدكتور فؤاد زكريا أن أقول له إن ما ذكره من أنه كانت تتملكني منذ البداية فكرة مسبقة هي إدانة الإخوان عن الحادث إدانة كاملة، لم يكن صحيحا؛

ويبدو أن هذه الفكرة تكونت لديه من حديثنا معا تليفونيا في الصيف الماضي، إذ ظن أني كنت في بداية البحث، بينما كنت قد قدمت بالفعل ثماني عشرة حلقة للناشرين، ولم يبق سوى المحاكمة التي كتبتها في لندن، وحين أثار معي مسألة المسدس الضائع، حققتها في حينه، وتوصلت إلى النتائج التي وردت عنها بالدراسة، ولم يكن قد قرأها الدكتور بعد، حين كتب مقاله.

وقناعتي التامة أنني حققت هذا الحادث أكثر مما حققه المحققون وقتها، وأمضيت فيه من الوقت أكثر مما أمضوا، بسبب سرعة إنهاء إجراءات المحاكمة.

ومن هذا المنطلق أقول إن الفرض الذي طرحه الدكتور فؤاد زكريا قد ظلم هنداوي دوير ظلما بينا، فقد كان هنداوي من القيادات الإخوانية القادرة والمخلصة لمبدئها، وإفاقته على خطأ وسيلة العنف الفردي في النضال الشعبي بعد الحادث أمر طبيعي لأن الجميع، حتى يوسف طلعت، أفاقوا على عدم جدوى هذه الوسيلة؛

وإذا كان هو أول من أفاق، فلطبيعته التي وصفها حسن العشماوي بأنه "عصبي المزاج سريع الانفعال" ومن حسن الحظ أن الإخوان يعرفون أن هنداوي دوير لم يكن خائنا، فهم يعدونه من شهدائهم، كما يعدون محمود عبد اللطيف أيضا من هؤلاء الشهداء، ولو رجع الدكتور فؤاد زكريا إلى أعداد مجلة الدعوة الحالية لتبين ذلك.

ومع عدم ميلي إلى مناقشة فروض، إلا أني أقول إن أضعف نقطة في فرض الدكتور فؤاد زكريا هي ما ذكره من أن هنداوي دوير تملكه الرعب قبل تنفيذ الخطة، فاتصل بأجهزة الأمن، لأنه كان في وسع هنداوي أن يمنع تنفيذ المحاولة بأسهل وأبسط طريقة...

وهي عدم تسليم محمود عبد اللطيف المسدس، أو يأمره بإلغاء التكليف، دون حاجة لتلطيخ شرفه أو خيانة رفاق الطريق، وخسارة آخرته بدنياه، ولو فعل ذلك لما تعرض لأي لوم من قيادة التنظيم السري، لأنها كانت مترددة كما ذكرنا، ومن الثابت أنها فوجئت بالحادث بهذه السرعة التي تم بها.

أما ما ذكره الدكتور فؤاد زكريا من أنني بنيت الجزء الأكبر من استنتاجاتي على شهادة دوير، فأخشى أن أقول إن الدكتور قد فاته الكثير من الحلقات، فلم تكن شهادة هنداوي دوير سوى شهادة واحدة قارنتها وناقضتها ببقية شهادات أفراد التنظيم السري، ولربما لو قرأ الدكتور الدراسة في كتاب، لعرف من الحواشي أن ملاحظته لم تستند إلى أساس صحيح.

بقيت نقطة أخرى في "فرض" الأستاذ الدكتور فؤاد زكريا فقد وضع هنداوي دوير في هذا الفرض في موضع الخائن، ولكنه نسي محمود عبد اللطيف، فهل كان خائنا أيضا، وهل اتفق مع أجهزة الأمن على القيام بتمثيلية إطلاق الرصاص وضربه ضربا مبرحا حتى بدت صورته في الأهرام بعد أيام من الحادث وهو منتفخ من الضرب.

أستطيع أن أوكد للدكتور فؤاد زكريا، من واقع دراسة عنتني كثيرا وأرهقتني إرهاقا شديدا توصلا للحقيقة، أنه لم يكن بين الإخوان المسلمين خائن واحد، ولو دخل بينهم خائن لتعلم الأمانة والتضحية والفداء بفضل التربية الروحية وأخذه بتعاليم الإسلام الحنيف.

ملحق (7) شهادة فاروق حافظ المنشورة بروز اليوسف

شهادة فاروق حافظ شباب الإسكندرية كانوا بعيدين عن الحزبية

(روز اليوسف في 2 فبراير 1981)

ذكر الدكتور عبد العظيم رمضان بمذكراته "في كواليس الإخوان المسلمين" في عدد 8 ديسمبر الماضي إشارة عابرة عن حوادث إلقاء القنابل على المعسكرات البريطانية عام 1946 في الإسكندرية وأحب أن أسهم في إجلاء هذا الموضوع.

إثر حوادث 21 و 22 فبراير سنة 1946 بالقاهرة قررت اللجنة القومية المشكلة من الأحزاب والهيئات إعلان الإضراب العام يوم 4 مارس 1946 حدادا على الشهداء ودعت اللجنة إلى عدم التظاهر بما فيها زعماء الأحزاب والهيئات الشابة غير أن شباب الإسكندرية لم يستجيبوا لهذا النداء ولم يلبوا رجاء الزعماء في ترك الفرصة للحكومة لإجراء مفاوضات فخرجت الإسكندرية عن بكرة أبيها يقودها محمد كمال سعد المحامي وإبراهيم طلعت المحامي؛

وكانت مظاهرة تحدث عنها العالم فاصطدمت جماهير الشعب بالجند الإنجليز وأحرقوا كشك البوليس الحربي البريطاني بمحطة الرمل واقتحموا قلعة كوم الدكة الحصينة وسقط عشرات الشهداء.

وفكرت جماعة من الشباب الأصدقاء في الانتقام خاصة وأنهم فقدوا صديقا لهم هو الشهيد سليمان أبو المجد الشمارقة وكان أربعة من هؤلاء الشباب ينتمون لحزب مصر الفتاة، ثم تركه ثلاثة منهم، والباقون الأكثرية لم ينتموا لأية هيئة أو حزب وفكروا جميعا بعيدا عن أي حزب أو هيئة في تنظيم المقاومة السرية ضد المحتل، وفعلا باعوا ساعات اليد التي يملكونها وكتبهم وملابسهم وجمعوا قروشا قليلة كانت هي نواة تسليحهم.

وكانت أول عملية لهم هي حادث السيارة السوداء الشهير ضد المغتصبين بحي رشدي وسرعان ما توقف نشاطهم وأخذوا يعيدون ترتيب أنفسهم ليبدأوا كفاحهم المسلح في مساء 11 يوليو 1946 وهي ذكرى ضرب الإسكندرية وقاموا خلال أسبوع واحد بأربع عمليات كانت آخرها حادث النادي البريطاني بشارع كورنته، وسرعان ما قبض على أحد عشر شخصا منهم أثر وشاية رخيصة بعد إعلان الحكومة عن مكافأة لكل من يدلي بمعلومات تؤدي إلى القبض عليهم.

ثم كان حادث ليلة 26 نوفمبر 1946 حينما تمكن عبد القادر عامر ومصطفى الدفراوي وعبد الرحمن مرسي من الهرب من سجن الحدراء تلك القلعة الرهيبة المسلحة ثم سفرهم إلى فلسطين وسوريا بعد ذلك.

أما عن واقعة اغتيال شابين من جماعة الإخوان للمستشار أحمد الخازندار في حلوان إذ الواضح من سياق الوقائع أن محمود زينهم وسعيد عبد الحافظ قد اغتالا رئيس المحكمة دون أي رابطة حزبية تربطهما بشباب الإسكندرية وأنهما اندفعا بمشاعرهما لهذه العملية دون أي تنظيم حزبي يربطهما بهؤلاء الشباب خاصة عندما صدرت الأحكام القاسية ضد الشباب وصدر في نفس الفترة حكم مخفف ضد متهم بارتكاب سبع جرائم عادية بالإسكندرية.

أرجو أن أكون قد أوضحت جزءا من تاريخ مصر يوضح أن هؤلاء الشباب (أبناء الإسكندرية) لم يكن دافعهم إلا مصر وحدها وأنهم ضحوا بالغالي والنفيس بمستقبلهم وحرياتهم في سبيل عزة هذا البلد الأمين وأنهم كانوا بعيدين عن الحزبية.

فاروق حافظ الإسكندرية

ملحق رقم (8) رسالة د. محمد فؤاد منير

السيد الأستاذ الدكتور عبد العظيم رمضان

تحية طيبة وبعد أتابع بمجلة روز اليوسف بحثكم القيم عن تاريخ الإخوان المسلمين، وقد قرأت في عدد اليوم 8/ 12 /1981 رقم 2739 ص 36 عن حوادث كفاح الإنجليز بالإسكندرية وكيف أن ثلاثة من الإخوان ... هكذا يستنتج القارئ قد هربوا من سجن الحدرة.

أرجو ملحا للحقيقة والتاريخ العلم أن هؤلاء لم يكونوا من الإخوان بالمرة ولكنا كنا مجموعة من الشباب غير المنتمين لأي حزب أو هيئة في ذلك الوقت إلا اتحاد الطلبة الذي تطور فيما بعد إلى اللجنة التنفيذية للطلبة والعمال ... كنا فعلا نحارب الإنجليز بالسلاح ..

قمنا بعملية في معسكرات سيدي بشر وكان معنا عبد القادر عامر وكذلك على كورنيش سيدي بشر أمام الجامع كل ذلك تم سنة 1946 وكانت ثالث عملية لهذه المجموعة المستقلة هي الهجوم على النادي البريطاني بالقنابل، ثم اعتقال أعضاء من هذه المجموعة وهربهم من سجن الحدرة وفي الحقيقة أنهم لم يكونوا ثلاثة ولكنهم كانوا أربعة.

رابعهم مسجون عادي اسمه المشهور هو عبد الله بيجر أي كبير، أخته قامت بتهريب منشار في الخبز وقد كنا نتابع هربهم حتى أخرجناهم من مصر كلها في ذلك الوقت ولجأوا إلى سوريا وباقي القصة معروف.

هؤلاء الثلاثة هم عبد القادر عامر، ومصطفى الدفراوي وعبد الرحمن مرسي والأخير كان وفديا وكان يقوم بتدريب شباب الوفد في الجامعة لكنه في هذه العملية لم يكن يعمل من خلال الوفد ولكن من خلال لجان الطلبة الثورية.

وقد لجأ هؤلاء الهاربون من سجن الحدرة لمدة كبيرة لمنزل أحد الأطباء وهو في الولايات المتحدة اليوم هو الدكتور كمال علي حسين وكان بطل جامعات العالم في القفز من السلمين الثابت والمتحرك في أحواض السباحة.

أرجو ملحا نشر هذا تصحيحا للتاريخ.أشكركم سلفا ولكم مني كل التحية والتقدير

أخوكم
د. محمد فؤاد منير
عضو اللجنة التنفيذية للطلبة والعمال

ملحق رقم (9) تعليقي الختامي بروز اليوسف

أكن لجماعة الإخوان المسلمين احتراما كبيرا

بقلم: د. عبد العظيم رمضان

(روز اليوسف في 13 أبريل 1981)

قرأت في لندن الكثير من الهجوم على الدراسة التي تنشر لي عن التنظيم السري للإخوان المسلمين وحادث المنشية في مجلة روز اليوسف الغراء وبعض الصحف العربية الأخرى، ولم أدهش لأن كل طرف من الأطراف التي لعبت دورا في الأحداث يحاول عبثا أن يجر الحقيقة التاريخية إلى صفه ولصالحه، ولكن الأحداث التاريخية بعد أن تصبح تاريخا.

تصبح ملكا لشعبنا العربي في مصر وبقية الأقطار العربية الأخرى، ولا تصبح ملكا للجهة التي صنعتها سواء أكانت هذه الجهة حزبا أم جماعة أم حكومة أم فردا، وإنما لكل جهة أن تكتب رؤيتها للأحداث كما تشاء وللمؤرخ أن يجمع أطراف الصورة التاريخية ويحققها وفقا لمنهج البحث العلمي التاريخي، ويستخرج منها الحقيقة، ويقدمها للشعب دون تحريف أو إخفاء.

على أني قرأت لأحد من تفضلوا بنقد الدراسة في عدد روز اليوسف المؤرخ 9 فبراير 1981، ما يتوهم معه وجود خصومة سياسية بيني وبين جماعة الإخوان المسلمين، ويبني على هذا الوهم أحكاما خاطئة ومتناقضة يحاول أن يلبسها ثوبا علميا.

وأود أن أقرر أنه لا توجد أية "خصومة سياسية" بيني وبين الإخوان المسلمين، وكيف توجد خصومة سياسية بيني وبين جماعة تدعو لدين الله، والمحافظة على تراثنا وتقاليدنا، وتقف حاجزا بين تيارات الانحلال وبين النفاذ إلى مجتمعنا الذي لا يصلحه إلا اتباع الدين الصحيح، الدين الذي شرعه الله تعالى لصالح البشر، من عدالة اجتماعية، وحرية سياسية، وضرب للفساد، ومحاربة للاستغلال والاستبداد وليس الدين الذي يضلل به الرأسماليون الجماهير.

وفي الواقع أني أكن لجماعة الإخوان المسلمين احتراما كبيرا، وأعدها من القوى الوطنية الضاربة، وأعتقد أن دورها التاريخي ممتد أبد الدهر طالما كان في مصر إسلام ومسلمون، وأن الجماعة في عهد الشهيد حسن البنا ثم في عهد الأستاذ حسن الهضيبي، ثم في عهد المجاهدين الأستاذين صالح عشماوي وعمر التلمساني، تقطع مراحل في طريق الدعوة وتصيب وتخطئ، وتستفيد من الأخطاء، ولكنها لن تنته أو تختفي من الحياة السياسية كما يرجو لها الخصوم.

بل أنه ليس من مصلحة مصر على الإطلاق اختفاء جماعة الإخوان المسلمين، وأكثر من ذلك أن اختفاء هذه الجماعة في عهد عبد الناصر قد جر على مصر عواقب وخيمة، وهيأ الطريق لظهور تيارات متعصبة غير مسئولة تحاول شغل الفراغ، وربما كان هذا القلم أو الأقلام التي نبهت إلى هذه الحقيقة على صفحات جريدة الجمهورية، وكان القلم الثاني هو قلم صديقي الدكتور حسن حنفي، وأملي أن تأخذ الجماعة وضعها الشرعي وحقها الطبيعي الذي حرمها منه قانون الأحزاب.

إذن لا ينبغي لأي أحد أن يتوهم أن هذه الدراسة عن التنظيم السري للإخوان المسلمين هي محاولة لإدانة الجماعة أو الهجوم عليها، فهذا إن جرى في مقال سياسي فلا يمكن أن يحدث في دراسة علمية تاريخية، وإلا فقدت علميتها وأصبحت لا تساوي ثمن الحبر التي تكتب به.

وليس ذنب هذه الدراسة أن التنظيم السري كان سلبية الإخوان الكبرى، وأنه كان أحد مصادر الخلاف داخر صفوف الإخوان المسلمين أنفسهم، كما أنه ليس ذنب هذه الدراسة أنه جرت خلافات وانقسامات وأخطاء داخل جماعة الإخوان المسلمين كشفتها الدراسة وأظهرتها للعيان الآن، فهذه الخلافات والانقسامات لم تكن سرا من الأسرار الخفية، وإنما جرت في حينها على مرأى ومسمع من الجمهور، ولم نستمدها من دار الوثائق البريطانية، وإنما من أقلام كبار الإخوان أنفسهم على صفحات الصحف المصرية وجرائد الإخوان ذاتها.

ولم ينعت أحد في ذلك الحين هذه الأقلام التي اختلفت وتصارعت على صفحات الصحف بأنها اقلام بينها وبين الإخوان خصومة سياسية، لأنها كانت أقلام الإخوان أنفسهم!

وهذه الخلافات والانقسامات والأخطاء جزء من حياة أية جماعة سياسية في أي ركن في العالم، ولا تنقص من قدرها، ولا تتطلب من المؤرخين إخفاءها حتى لا يتهموا بالخصومة السياسية للحزب أو الجماعة التي يؤرخون لها.

وإذا كان أحد من الناس يتصور عملا سياسيا بدون أخطاء، فهو جاهل، أو مغرض، أو ساذج، يتصور أن الذين يديرون هذا العمل السياسي هم مجموعة من الملائكة الأبرار، أو أنهم مجموعة من الأصنام مقولبة في رأي واحد.

ولقد تعرض المجتمع الإسلامي في عهد الخلفاء الراشدين لفتنة عاصفة راح ضحيتها عثمان الشهيد على أيدي مسلمين من أشد من رأى التاريخ الإسلامي إسلاما وإخلاصا وصدقا، ولم يعن ذلك فساد الدعوة الإسلامية أو القائمين بها، ولم يتهم أحد المؤرخين الذين كتبوا عن الفتنة الكبرى بأنهم أعداء الإسلام والمسلمين.

وقد حدث الصراع بين معاوية بن أبي سفيان وعلي بن أبي طالب، واستخدم أنصار معاوية خدعة التحكيم، ولم يطعنهم أحد في إسلامهم أو إخلاصهم للدين، ثم كان قيام الدولة الأموية بداية انطلاقة جديدة للدين الإسلامي نقلت لواءه في مشارق الأرض ومغاربها، وتحت هذا العلم دق المسلمون أبواب القسطنينية ثلاث مرات، وغزوا إسبانيا، وانساحوا على فرنسا، وكادوا يعربون أوروبا.

لا ينقص من قدر جماعة الإخوان المسلمين إذن أن كانت لها أخطاء، أو نشبت داخل صفوفها اختلافات وصراعات وإنما ينقص من قدرها وأهميتها أن تنكر هذه السلبيات الطبيعية في حياة كل جماعة سياسية، وإلا تستفيد منها في تصحيح مسارها والمحافظة على أهدافها وتكوين قيادات جديدة تعي درس التاريخ وعبرته، وتمضي بالدعوة إلى حيث أمر الله.

وعلى هذا فإني أقبل تصحيحا موضوعيا لبعض الوقائع التي تضمنتها الدراسة وكثير مما نشر حتى الآن هزيل لا يستحق الرد عليه ولكني لا أقبل تشكيكا في بواعث الدراسة، أو الاستفادة منها في أغراض سياسية مناهضة لجماعة الإخوان المسلمين، فهذا أبعد ما يكون عن البواعث والأغراض التي حركتني لإجراء هذه الدراسة، وهي البحث عن الحقيقة التاريخية، والله أعلم بالسرائر.

بقيت نقطة أخرى هي أن هذه الدراسة ليست دراسة شاملة لجماعة الإخوان المسلمين، وإنما عن "التنظيم السري" وكل ما يتعلق به من إيديولوجية ونشاط وعلاقات متشابكة داخل الجماعة، وبينها وبين القوى السياسية الأخرىP

ولو كانت دراسة شاملة للإخوان المسلمين، لتعرضت للجوانب الإيجابية الأخرى في حياة الجماعة في مجال الإنجازات الاجتماعية والسياسية والفكرية وهي إنجازات هامة وجزء من تاريخ نضال الشعب المصري العربي والإسلامي، وقد تولى الإخوان إبراز هذه الإيجابيات في كتبهم ومراجعهم، وما زالت في حاجة لمعالجات أخرى تخضع لمنهج البحث التاريخي وأدواته العلمية.

ولعلي بهذا التوضيح أكون برأت ذمتي إليه تعالى، وهو وحده الذي أستمد منه القوة والعزم، وأطلب منه التوفيق.

د. عبد العظيم رمضان

مراجع البحث

وثائق رسمية

  1. مجموعة مضابط دور الانعقاد العادي السابع عشر لمجلس النواب.
  2. النظارات والوزارات المصرية، الجزء الأول، جمع وترتيب فؤاد كرم (مركز وثائق وتاريخ مصر المعاصر 1969).
  3. وزارة العدل: التشريعات الصادرة خلال الستة شهور الأولى لعهد التحرير (المطبعة الأميرية 1953)
  4. محكمة الشعب: المحاكمات التي تمت في المدة من 9 إلى 25 نوفمبر 1954، المضبطة الرسمية لمحاضر جلسات محكمة الشعب (القاهرة 1954) (سبعة أجزاء).

وثائق تاريخية

  1. أحمد حسين: مذكرة بدفاع المتهمين من السابع إلى الخامس عشر في قضية اغتيال المرحوم محمود فهمي النقراشي باشا.
  2. أنور السادات: أسرار الثورة المصرية (كتاب الهلال يوليو 1957)
  3. أنور السادات: صفحات مجهولة (كتب للجميع نوفمبر 1954)
  4. الجرائم السياسية: إعداد أنور العمروسي المحامي، الجزء الأول (مطبعة البرلمان).
  5. حسن البنا، رسالة المؤتمر الخامس، العدد الخامس من كتب: صوت الحق، دار الاعتصام 1977.
  6. حسن البنا: مذكرات الدعوة والداعية، الطبعة الأولى، (دار الكتاب العربي) والطبعة الثانية (دار الشهاب 1966)
  7. حسن العشماوي: الإخوان والثورة (المكتب المصري الحديث 1977)
  8. زينب الغزالي: أيام من حياتي (دار الشروق 1977)
  9. عبد اللطيف البغدادي: مذكرات عبد اللطيف البغدادي، جزءان (المكتب المصري الحديث 1977).
  10. فهمي أبو غدير: قضيتنا، آخر ما كتب الإمام الشهيد قبل اغتياله.
  11. قصة مقتل النقراشي باشا، من سلسلة المحاكمات التاريخية الكبرى، إعداد لطفي عثمان.
  12. محمد نجيب: كلمتي للتاريخ (القاهرة:دار الكتاب النموذجي 1975)
  13. وسيم خالد: الكفاح السري ضد الإنجليز دار الشعب 1963)
  14. سيد قطب: معالم في الطريق (دار الشروق).

دوريات

  1. الأخبار 1952.
  2. الأهرام 1946 ، 1952 ، 1954 ، 1965 ، 1966
  3. جريدة الإخوان المسلمين 1352ه ، 1354ه
  4. الجمهورية 1954 ، 1977.
  5. الجمهور المصري 1951.
  6. الدعوة 1953 ، 1976 ، 1977
  7. روز اليوسف 1951
  8. السياسي 1979
  9. المصري 1951
  10. الهلال 1952

الدراسات

  1. أحمد حمروش: قصة 23 يوليو، الجزء الأول (بيروت 1974).
  2. الإخوان والإرهاب.
  3. سامي جوهر، الموتي يتكلمون (المكتب المصري الحديث).
  4. طارق البشري، الحركة السياسية في مصر 19451952 (هيئة الكتاب 1972)
  5. عبد الرحمن الرافعي:في أعقاب الثورة، الجزء الثالث، مكتبة النهضة المصرية 1951.
  6. عبد الرحمن الرافعي: مقدمات ثورة 23 يوليو (النهضة المصرية 1957).
  7. عبد العظيم رمضان: تطور الحركة الوطنية في مصر من 1937 إلى 1948 جزءان (بيروت دار الوطن العربي 1973)
  8. عبد العظيم رمضان: الصراع بين الوفد والعرش 19361939 (بيروت: المؤسسة العربية للدراسات والنشر 1979).
  9. عبد العظيم رمضان: عبد الناصر وأزمة مارس 1954 (روز اليوسف 1976)
  10. عبد الله إمام: الإخوان والثورة.
  11. محمد حسن أحمد (اسم مستعار لعبد الرحمن عبد الناصر): الإخوان المسلمون في الميزان.
  12. محمد شوقي زكي: الإخوان المسلمون والمجتمع المصري (القاهرة مكتبة وهبة 1954)
  13. ميتشل، رتشارد، مجتمع الإخوان المسلمين، الترجمة العربية لعبد السلام رضوان، تحت عنوان: "الإخوان المسلمون" (مكتبة مدبولي 1977).