كمال السنانيري
توطئة
لا يخلو عصر من العصور من قائم لله بحجة يدعو الناس إلى الحق، ويجلو لهم معالمه، ويأخذ بأيديهم إلى جادة الطريق، وينير لهم سبله، ويكشف لهم زيف الباطل.
ويفند لهم مزاعمه، يتقدم الصفوف غير هياب ولا وجل، يستشعر أمانة المسئوليه، وأنه على ثغرة من ثغور الإسلام فلا يتركها إلا متحرفًا لقتال أو متحيزًا إلى فئة.
يقف أمام الأعاصير العاتية صلبًا لا يلين، ثابتًا لا يهتز، لا ترهبه سطوة سلطان، ولا يغريه منصب أو مال، تمضي به الحياة وهو موصول الصلة بالله، يجد الأنس في اللجوء إليه والعزة في طاعته.
مثل هؤلاء نماذج قليلة تمر بالناس كالطيف الجميل، تُذكّرهم بما كان عليه السلف الصالح من الثبات واليقين، كما أن ما تقصه علينا كتب التاريخ من أخلاقهم وأفعالهم، إنما هي حقائق ثابتة لا أقاصيص متوهمة أو حكايات مخترعة...
وكان السنانيري واحدًا من هؤلاء، بقية من السلف الصالح، وترجمة حية لما نقرأه عن النماذج البشرية الرفيعة التي حفل بها تاريخنا.
الشخصية في سطور
- ولد في القاهرة سنة 1336 هجريًّا = 1918 ميلاديًّا
- نشأ في أسرة ميسورة الحال، تلقى تعليمه في المدارس المدنية.
- حصل على الثانوية العامة، ولم يكمل تعليمه العالي.
- التحق بجماعة الإخوان المسلمين، وصار من كبار رجالها.
- تعرض للاعتقال بعد حادث المنشية سنة1954 م.
- ظل في المعتقل عشرين عامًا حتى أفرج عنه في سنة1974 م.
- تزوج في أثناء سجنه من أمينة قطب أخت الشهيد سيد قطب.
- استأنف نشاطه الدعوي بعد خروجه من المعتقل، وكان له دور بارز في ميدان الجهاد بأفغانستان
- تعرض للاعتقال بعد قرارات سبتمبر الشهيرة التي أصدرها الرئيس السادات سنة1981 م.
- في السجن عُذّب شديدًا، حتى تُوفي من هول ما لقي من التعذيب في سنة1981 م.
المولد والنشأة
ولد محمد كمال الدين بن محمد علي السنانيري في القاهرة في (28 من جماد الأولى 1336 هجريًّا = 11 من مارس 1918 ميلاديًّا)، ونشأ في أسرة ميسورة الحال، وتلقى تعليمه في المدارس المدنية، وحصل منها على الشهادتين الابتدائية والثانوية، ولم يستكمل تعليمه العالي في الجامعة، وفضل العمل في الحكومة، فالتحق بوزارة الصحة، عقب حصوله على الشهادة الثانوية سنة (1353ه=1934 م).
وبعد أربع سنوات من العمل الحكومي قدم استقالته من وظيفته، وأعد نفسه للسفر إلى الولايات المتحدة الأمريكية لدراسة الصيدلة في إحدى جامعاتها للعمل بعد رجوعه في الصيدلية التي يملكها أبوه، غير أن أحد علماء الدين أقنعه بعدم السفر إلى الولايات المتحدة الأمريكية ، فاستجاب له "السنانيري"، وعدل عن السفر بعد أن أعد عدته، وهيَّأ نفسه لمغادرة البلاد.
التحاقه بجماعة الإخوان المسلمين
في هذه الفترة كانت دعوة جماعة الإخوان المسلمين تلقى نجاحًا بين الناس، ويقبل عليها كثير منهم، وامتد نشاطها إلى أماكن كثيرة في البلاد، وكان لطريقتها في الدعوة وتمسكها بالإسلام دينًا ودُنْيا، خلقًا وسلوكًا، علمًا وعملاً، حركة ونشاطًا، أبلغ الأثر في تعاطف الناس معها، وانضمام كثيرين إلى صفوفها، وكذلك لم يكن غريبًا أن يجد "السنانيري" ضالته في جماعة الإخوان المسلمين ، فانضمَّ إليها سنة (1360 هـ=1941م)، وعَمِل معها بكل طاقته؛ ولذلك تقدم الصفوف، وأُوكل إليه القيام بعدد من المهام الدعوية والتنظيمية.
ولم تشغله أعماله الدعوية ومسئولياته عن متابعة أسرته، فقد توفي أبوه تاركًا ثلاثةً من الأشقاء وثلاثًا من الشقيقات، فقام على أسرته خير قيام، يسعى لها، ويحرث في حقول الدعوة وميادينها، ويغرس الغراس التي ستؤتي أكلها بعد ذلك.
مأساة سنة 1954م
اصطدمت حركة الجيش بجماعة الإخوان سنة (1374 ه=1954م) بعد أن فشلت- أي حركة الجيش- في احتوائها أو اختراقها ورغبتها في حكم البلاد حكمًا منفردًا دون اعتبار بشرع أو دين أو احترام لقانون أو دستور، لذلك قامت بحل جماعة الإخوان ، واعتقال كثير من أبنائها، غير أن ما حدث أدى إلى موجة عارمة من السخط الشعبي على رجال حركة الجيش، وقامت مظاهرةٌ عارمةٌ أشرفت عليها جماعة الإخوان المسلمين، واتجهت إلى قصر عابدين، وكان يقود هذه المظاهرة "عبد القادر عودة"، وكان السنانيري واحدًا ممن يشرفون على تنظيم المظاهرة العارمة، التي أجبرت الحكومة على الإفراج عن المعتقلين. غير أن ما حدث جعل رجال الجيش يعيدون الكرة للإطاحة بجماعة الإخوان.
ودبَّروا حادث المنشية المعروف؛ للتنكيل بجماعة الإخوان ورجالها، واعتُقِل السنانيري مع من اعتقل في سنة (1374ه = 1954 م)، وقُدِّم لمحاكمة صورية حكَمت عليه بالسجن، فأمضى في السجن عشرين عامًا، حتى خرج سنة (1394 ه = 1974 م ).
حياته في السجن
وفي أثناء محاكمته تعرض- مثل غيره من الإخوان - إلى تعذيب وحشيٍّ فاق كل خيال، حتى إن والدته لم تتعرف عليه في أثناء حضورها الجلسة الأولى للمحاكمة؛ لشدة ما وقع عليه من عذاب، فقد نحل جسمه، وكسر فكه؛ حتى تغيرت طريقة كلامه، وبلغ من شدة تعذيبه أن شقيق زوجته الأولى- وكان معتقلاً معه- أصيب بالذهول من هول المآسي التي نزلت على السنانيري، ولم تتحمل أعصابه المرهفة آثارالعذاب الوحشية البادية على الجسد الواهن، ففقد عقله، ونقل إلى مستشفى الأمرض العصبيَّة.
وظل في السجن لا يلبس إلا الثياب الخشنه، ورفض ارتداء الثياب الداخلية التي كان لكل سجين حق شرائها من مقصف السجن، وعاش سجنه متجردًا من كل ما يعتبره ضابط السجن منحة توهب للسجين ترغيبًا أو يحرم منها ترهيبًا، آثر أن يتجرد من كل ما يمكن أن يحرم منه؛ ليملك من نفسه ما يعجز الآخر أن يملكه منه.
وهذا السلوك يجلي نفس "السنانيري" التي ملكها، وجعلها طوع بنانه، وأخلى قلبه من التطلع إلى الدنيا بعد أن ملأه زهدًا وصلاحًا، يصوم النهار، ويقوم الليل، ويأخذ نفسه بالشدة؛ ولذلك لم يكن غريبًا أن يرفض ما يطلبه منه ضباط السجن من تأييد نظام عبد الناصر طلبًا للسلامة، وطريقًا للخروج من جحيم السجن.
وفي فترة سجنه طلق زوجته الأولى بعد أن ضغط رجال المباحث على أهلها لتطلب الطلاق، وكان قد خيَّرها من قبل بين البقاء زوجة له أو الطلاق، ولكنها آثرت أن تظل زوجة له، لكن أهلها أجبَروها على الطلاق منه .. ثم مُنَّ عليه وهو في السجن بأن عقد قرانه على "أمينة قطب" أخت الشهيد "سيد قطب"، وبنى بها بعد خروجه من السجن، ولم يرزق منها بأطفال.
نشاطه بعد الإفراج عنه
وبعد خروجه من السجن عاود نشاطه الدعوي، ولم يركن إلى الدعة والراحه بعد المعاناة الطويله التي تحملها في صبر وثبات، فالدعاة والمصلحون لا يتخلون عن رسالتهم مهما عانوا من تبعاتها. وكان من أبرز نشاطاته دوره في ميدان الجهاد في أفغانستان ، التي تعرضت للغزو الروسي، ووقعت في قبضته، وقد بذل السنانيري وقته وجهده في دعم المجاهدين الأفغان، ورأب الصدع بينهم، وإصلاح ذات البين بين قادته الذين أحبوه جميعًا، وعرفوا قدر إخلاصه وحرصه على وحدتهم، ودانوا له بالطاعة والاحترام، فلا يكادون يخالفون له أمرًا في أثناء وجوده معهم.
اعتقاله واغتياله في المعتقل
وبعد عودته من أفغانستان تعرض للاعتقال مع غيره من أبناء الحركة الإسلامية وقادة العمل الوطنى في مصر، وكان الرئيس السادات قد أصدر- في (ذي القعدة 1401هـ = سبتمبر 1981 م)- قرارات التحفظ الشهيرة على معارضي سياسته، وألقى بهم في المعتقلات بعد أن اشتدت المعارضة لاتفاقيات الصلح مع العدو الإسرائيلي، وتعرّض السنانيري في أثناء اعتقاله لتعذيب رهيب؛ أملاً في معرفة معلومات عن التنظيم الدولي للإخوان المسلمين ، ووقع عليه أهوال من العذاب بعد أن تجاوز الستين من عمره، ولم يتحمل جسده هذه الأهوال التي تفتق زبانية التعذيب في إلحاقها به.. ولم يكن لمن في سنه أن يتحمل هذه الأهوال ففاضت روحه الطاهرة في (10 من المحرم1402 = 8 من نوفمبر 1981 م). ولم يكتف هؤلاء الجلادون بقتله، بل حاولوا اغتياله معنويًا، فأشاعوا أنه قد انتحر بأن ربط عنقه بفوطة، ثم ربطها بكوع الحوض الموجود بالزنزانة، وصار يجذب نفسه حتى مات، وفى الصباح اكتشف السجَّان الجثة، وجاء الطبيب الشرعي، وعاينها وأثبت سبب الوفاة.
ولم يصدق أحد هذه القصة الملفقة، التي لايمكن أن يقبلها عقل طفل صغير… فتاريخ السجون المصرية في عهد الثورة مليء بمثل هذه المآسي، وخبرة رجالها في اغتيال المعتقلين العزَّل أمر يعرفه الناس جميعًا، وتلفيق التهم الكاذبة عن ادعاء هروبهم بعد القيام بقتلهم معروف بين الكافة.. ولا يمكن لمن صمد عشرين عامًا ثابت النفس، راسخ الإيمان أن يجزع لاعتقاله فترة قليلة من الزمن، فيقدم على مثل هذا العمل.
مراثي زوجته
عرف الأدب العربي مراثي الأزواج لزوجاتهم، وهي تفيض ألمًا وحزنًا على فراق أحبتهم، ومن الشعراء من خصص ديوانًا كاملاً لرثاء زوجاتهم، مثل "عزيز أباظه" و"عبد الرحمن صدقي" و"محمد رجب البيومي".. غير أن رثاء الزوجات لأزواجهن نادر في الشعر العربي، وقد رثى السنانيري زوجته "أمينة قطب" في أكثر من قصيدة، وكان لها في ذكرى استشهاده من كل عام قصيدة حزينة مؤثرة، ولو جمعت هذه القصائد في ديوان لكان حدثًا كبيرًا في دنيا الشعر العربي المعاصر.
ومن تلك القصائد، وهي أول ما رثت بها زوجها الشهيد قولها:
'ما عدت انتظر الرجوع ولا مواعيد المساء
ماعدت أحفل بالقطار يعود موفور الرجاء
ما عاد كلب الحي يزعجني بصوت أو عواء
وأخاف أن يلقاك مهتاجًا يزمجر في غباء
ماعدت انتظر المجيء أو الحديث ولا اللقاء
ماعدت أرقب وقع خطوك مقبلاً بعد انتهاء
وأضيء نور السلم المشتاق يسعد بارتقاء
ماعدت أهرع حين تقبل باسمًا رغم العناء'
في ذكرى رحيله 37 كمال السنانيري .. وفاء وتضحية
كمال السنانيري يستحق أن يُدَّرَس، وأن يكون نبراسًا يُضيء للعاملين للإسلام الطريق في كيفية الوفاء والتضحية من أجل دينه، فكان مثالا للصبر والمصابرة والجهاد، والوفاء لمن وهبها قلبه ووهبته فؤادها.
لقد كان السنانيري نواةً لجيلٍ جديدٍ حمل عبء الدعوة والحركة، وتعامل مع قضايا الدعوة وقضايا الأمة بمنظورٍ شامل، ومنهجية ثابتة.
نهاية الرحلة
كمال السنانيري الذي كان يتوقع له الجميع أن تكون نهايته الشهادة في سبيل دينه، والذي وصفها الدكتور محمد حبيب بقوله: كنت أنا والأستاذ أحمد حسانين نجلس معًا في طابور الشمس في سجن أبي زعبل في نوفمبر من عام 1981م أيام التحفُّظ الشهير للسادات والذي جمع فيه كل رجال مصر.
جاءنا الأخ الحبيب جابر رزق- رحمه الله- وقال لنا إن الخبر الذي تردد عن استشهاد الأخ الأستاذ كمال السنانيري- رحمه الله- تحت وطأة التعذيب خبرٌ صحيحٌ، فدمعت عينا الحاج أحمد حسانين، وقال: "لقد ظلَّ يطلبها طيلة أربعين سنة: الموت في سبيل الله أسمى أمانينا، فلم يخصه الله- تعالى- بها إلا اليوم.
وهكذا ظل السنانيري يتنقل في ساحات الجهاد، فبعدما خرج من محنة عبدالناصر سافر لمشاركة المجاهدين في أفغانستان، حتى عاد ليجد سحاب الموت تحيط به، حيث تم اعتقاله – حيث كان اسمه مدرج فيمن شملهم قرار السادات – غير أن التحقيقات معه أخذت بعدا أخر حيث ظلوا يعذبونه من أجل معرفة معلومات عن التنظيم الدولي للإخوان.
وحينما زاد التعذيب عليه قال لهم: لقد حُكِمَ عليَّ بالإعدام سنة 1954م، أتريدون تنفيذه الآن، فالله أمهلني من 54 إلى 81م.
ووقع عليه أهوال من العذاب بعد أن تجاوز الستين من عمره، ولم يتحمل جسده هذه الأهوال التي تفتق زبانية التعذيب في إلحاقها به.. ولم يكن لمن في سنه أن يتحمل هذه الأهوال ففاضت روحه الطاهرة في (10 من المحرم 1402هـ/ 8 من نوفمبر 1981م)، و أشاع من قتله أنه قد انتحر بأن ربط عنقه بفوطة، ثم ربطها بكوع الحوض الموجود بالزنزانة، وصار يجذب نفسه حتى مات، وفى الصباح اكتشف السجَّان الجثة، وجاء الطبيب الشرعي، وعاينها وأثبت سبب الوفاة.
ولقد باكه الجميع، وظلت زوجته الوفية أمينة قطب ترثيه بقصيدة كلما حل ذكرى استشهاده كل عام بقصيدة حزينة مؤثرة، ولو جمعت هذه القصائد في ديوان لكان حدثًا كبيرًا في دنيا الشعر العربي المعاصر.
ومن تلك القصائد، وهي أول ما رثت بها زوجها الشهيد قولها:
ما عدت انتظر الرجوع ولا مواعيد المساء
- ماعدت أحفل بالقطار يعود موفور الرجاء
ما عاد كلب الحي يزعجني بصوت أو عواء
- وأخاف أن يلقاك مهتاجًا يزمجر في غباء
ماعدت انتظر المجيء أو الحديث ولا اللقاء
- ماعدت أرقب وقع خطوك مقبلاً بعد انتهاء
وأضيء نور السلم المشتاق يسعد بارتقاء
- ماعدت أهرع حين تقبل باسمًا رغم العناء
وفاء قلب
محمد كمال الدين محمد علي السنانيري الذي ولد في أسرة ميسورة الحال في 28 من جماد الأولى 1336 هـ الموافق 11 من مارس 1918 م بمدينة القاهرة، وتوفي أبوه تاركًا ثلاثةً من الأشقاء وثلاثًا من الشقيقات، فقام على أسرته خير قيام بعد أن ترك التعليم العالي ولم يكمله.
تعرف على الإخوان في سن مبكر حيث انضم لها عام 1941م، وعمل على تشرب مبادئها والعمل لدين الإسلام، حتى كان له وضعه داخل الجماعة، مما عرضه للاعتقال عام 1954م ويظل في السجن طيلة العشرين عاما، وهي الفترة التي تعرف فيها على أخوات سيد قطب، وكان من اوائل المسجونين الذي أبدع خطبة السجون، خاصة بعدما وافقت الزوجة على الارتباط – رغم اعتراض بعض أخواتها- وظل وفيا لها كما ظلت وفية له، حتى إذا خرج أتمم الزفاف، ليظل معها سنوات بسيطة قبل أن يسافر للجهاد ويعود منه إلى ساحة العذاب من جديد.
وتستمر التضحية
كان كمال السنانيري يدرك نهاية الطريق الي سلكه في مواجهة الظالمين، ولذا قبل التضحية في سبيل دينه، فحينما تحركت مظاهرات مارس 1954م إلى قصر عابدين لإعادة محمد نجيب والإفراج عن الإخوان كان السنانيري أحد المسئولين عن تنظيم هذه المظاهرة، وهو ما جعله محط أنظار عبدالناصر بعد ذلك مثله مثل الشهيد عبد القادر عودة.
فما أن قبض على السنانيري حتى تعرض إلى تعذيب وحشيٍّ فاق كل خيال، حتى إن والدته لم تتعرف عليه في أثناء حضورها الجلسة الأولى للمحاكمة؛ لشدة ما وقع عليه من عذاب، فقد نحل جسمه، وكسر فكه؛ حتى تغيرت طريقة كلامه، وبلغ من شدة تعذيبه أن شقيق زوجته الأولى- وكان معتقلاً معه- أصيب بالذهول من هول المآسي التي نزلت على السنانيري، ولم تتحمل أعصابه المرهفة آثار العذاب الوحشية البادية على الجسد الواهن، ففقد عقله، ونقل إلى مستشفى الأمراض العصبيَّة.
بل بلغ الأمر أن ضغطوا على زوجته الأولى وأهلها حتى طلبوا الطلاق منه – رغما عنها ورغم رفضها الشديد – إلا أن أهلها نفذوا هذا الأمر فاستجاب لهم مضحيا بسعادته من أجل سعادة زوجته، إلا أن الله عوضه بصاحبة وفاء أخرى وهي أخت الشهيد سيد قطب.
ضحى السنانيري بكل متاع الدنيا في السجن حتى أنه لم يكن يرتدي الملابس الداخلية والتي اعتبرها ضابط السجن منحة توهب للسجين ترغيبًا أو يحرم منها ترهيبًا، فأراد أن يعز نفسه عن ذلك فاكتفى بملابس السجن الخشنة والتي لن يمنعه عنها أحد أو يحرمه منها.
وهذا السلوك يجلي نفس "السنانيري" التي ملكها، وجعلها طوع بنانه، وأخلى قلبه من التطلع إلى الدنيا بعد أن ملأه زهدًا وصلاحًا، يصوم النهار، ويقوم الليل، ويأخذ نفسه بالشدة؛ ولذلك لم يكن غريبًا أن يرفض ما يطلبه منه ضباط السجن من تأييد نظام عبد الناصر طلبًا للسلامة، وطريقًا للخروج من جحيم السجن.
يقول عنه الأخ عبد الله الطنطاوي في جريدة "اللواء" الأردنية: ".. لقد وجد فيه الإمام الشهيد (مُصعبًا) جديدًا يتفانى في خدمة الدعوة وأبنائها، ويسهر على فهمها واستيعاب أبعادها الأخلاقية والاجتماعية والسياسية والجهادية، فكان مناط الرجاء والقدوة العملية للشباب باستقامته وورعه وزهده وحركته وبذله من ذات نفسه وماله ووقته وجهده، وبتدينه، فقد كان يصوم يومًا ويفطر يومًا، ويقوم الليل مصليًا وتاليًا القرآن وذاكرًا ربه بدموع سخيّة، وبتواضعه لإخوانه من أبناء مصر ومن الوافدين من الأقطار العربية والإسلامية.
رحل الرجل وبقى الأثر
لقد رحل كمال السنانيري وظلت قصيدة زوجته التي رثتها بها تردد على ألسنة الشباب جيلا بعد جيل، متمنية أن يكون نهاية الوفاء باللقاء، فتقول:
هل ترانا نلتقـي أم أنهـا
- كانت اللقيا على أرض السراب؟!
ثم ولَّت وتلاشـى ظلُّهـا
- واستحالت ذكـرياتٍ للعذاب
هكذا يسـأل قلبي كلمــا
- طالت الأيام من بعد الغياب
فإذا طيفك يرنـو باسمًا
- وكأني في استماع للجـواب
- للمزيد
- محمد الصايم: شهداء الدعوة الإسلامية في القرن العشرين - دار الفضيلة - القاهرة – 1992م.
- عبد الله العقيل: من أعلام الحركة والدعوة الإسلامية المعاصرة - مكتبة المنار الإسلامية - الكويت - 1422 هـ الموافق 2001م.
- محمد خيري رمضان: تتمة الأعلام للزركلي - دار ابن حزم - بيروت - 1418 هـ الموافق 1998م
- أحمد رائف: سراديب الشيطان، صفحات من تاريخ الإخوان المسلمين - الزهراء للإعلام العربي - القاهرة – 1410هـ الموافق 1990م.
ألبوم صور
للمزيد عن الشهيد محمد كمال الدين السنانيري