مع البطل أحمد عبد العزيز
مع البطل أحمد عبد العزيز
وفي 23 من مارس 1948 م جمعنا قائد المعسكر البكباشي "المقدم" حسين أحمد مصطفى، وكان بجانبه البكباشي أركان حرب أحمد عبد العزيز وقال إن البكباشي أركان حرب أحمد عبد العزيز هو الذي سيتولى قيادة كتيبتكم الأولى في فلسطين، وأنه طلب هو وبعض الضباط الوطنيين الإحالة إلى الاستيداع (المعاش) من الجيش المصري، ليذهبوا معكم متطوعين للجهاد في فلسطين.. ثم تحدث البكباشي أحمد عبد العزيز، وكان يرافقه اليوزباشي عبد المنعم عبد الرؤوف، الذي أخذ يمر من أمامنا متفحصًا وجوهنا، فخشينا أن تكون هناك إعادة تصفية (كشف هيئة) مرة أخرى كالتي حدثت بإدارة التدريب.. ولكنه أنهى طوافه دون أن يخرج أحدًا من الطابور.
تحدث القائد الجديد، وأثارت كلمته الدهشة في نفوسنا، وكادت أن تحدث بلبلة عندما قال: لا تخافوا.. كلكم ستعودون إلى أهليكم وذويكم كلكم ستكونون ضباطًا!! ربما لم يدرك القائد الجديد نوعية المتطوعين! لكن اليوزباشي عبد المنعم عبد الرؤوف أصلح الموقف واجتمع مع الضباط المتطوعين، وأكد لهم أنهم خلاصة البلد وأن وجوه المتطوعين عليها علامات الرجولة والإخلاص، وأن القيادة اتفقت على ضرورة توفير ما أمكن من عتاد وسلاح وقال: لن نرضى أبدًا أن نضحي بكم، فلابد من وجود مدفعية معكم، ويوجد ضباط كثيرون بالمدفعية في الجيش المصري يريدون الذهاب معكم، وهم خلاصة الجيش.. وقد اتفقنا في القيادة أن أذهب – أي اليوزباشي عبد المنعم – إلى عبد الرحمن عزام باشا أمين الجامعة العربية، ونصر على أن يذهب معنا إلى حيدر باشا (قائد عام الجيش المصري) للضغط عليه، حتى يستجيب لطلباتنا.." وكان لكلامه أثر حسن في نفوسنا جميعًا، أزال البلبلة التي علقت بأذهاننا من كلام القائد الجديد للكتيبة.
وفي يوم 28 من مارس اجتمع بنا الصاغ محمد رشاد مهنا، وكان طويل القامة، عريض الكتفين، سمته يدل على أنه رجل رياضي، صوته أجش، وكان يمسك بيده إحدى الجرائد اليومية، وعلى صدر صفحتها الأولى باللون الأحمر خبر استشهاد اثنى عشر أخًا من الفوج الأول والثاني أثناء معركة مستمرة مع اليهود حول مستعمرة "كفار ديروم" بدير البلح كما أبرزت الجريدة ما قاله الطبيب الإنجليزي – مدير مستشفى غزة في ذلك الوقت – "لو كان معي اثنا عشر ألفًا من هؤلاء لحاربت بهم العالم".. وأطلعنا الصاغ رشاد مهنا على الجريدة قائلا: أنتم مطالبون بأن تعيدوا تاريخ أمجادكم، واعلموا أن فلسطين ليست هي النهاية، ولكنها بداية المعركة، والرحلة الطويلة الشاقة عليكم تحملها بالصبر، فأنتم الأمل المعقود.. وكان الصاغ رشاد مهنا هو الضابط المكلف بترحيل القوات وما يلزمها من إمدادات.
وفي يوم 30 من مارس وزعت القيادة علينا كشوف المرتبات على أساس أننا ما زلنا داخل الحدود المصرية، فصرفوا لنا نصف المرتب.. والواقع أننا لم نكن بحاجة إليه، فلباسنا عسكري، وقد تسلمنا كل ما يلزمنا من ملابس وفراش، وغذاؤنا نحصل عليه في مواعيده كالنظام المتبع في كل جيوش العالم، وذلك بخلاف كميات كبيرة من الأطعمة الجافة المحفوظة من كل الأنواع، ومن هنا اقترحنا أن يضاف نصف المرتب لحساب الهيئة المكلفة بجمع السلاح والذخيرة، ولكن القيادة أصرت على صرف المبلغ.. وكانت المبالغ الشهرية التي قررتها الجامعة العربية داخل فلسطين الحبيبة كالتالي:
"12جنيهًا للملازم، و6جنيهات للجاويش، وخمسة للأومباشي وأربعة للجندي".
وفي يوم 2 من أبريل سنة 1948 م، أعدت قيادة المعسكر حفل الوداع في المطعم "الميس" وكانت سهرة ممتعة بدأها الأخ أحمد عبد الهادي، وهو ترزي ترك محله من أجل الجهاد في سبيل الله، وكان نائبًا لشعبة الموسكي، حيث وجه الشكر لقيادة المعسكر وضباطه ومعلميه لحسن استقبالهم ومعاملتهم ثم تعليمهم لنا، ووعدهم بأننا سنكون عند حسن الظن.
وفي مساء 3 من أبريل استعدت الكتيبة للرحيل، وحضرت سيارات النقل المحملة بالذخيرة والبنادق الإنجليزية.. "لي انفيلد"، وعدد قليل من مدافع الهاون، ورشاشات البرن، وبنادق البويز، وكميات من المواد الناسفة الجلجنايت، وقوالب قطن البارود والـ (تي إن تي) بالإضافة إلى عدد من الخيام.. وصحب هذه السيارات اليوزباشي محمد عبد السلام والملازم محمد حسن، وطلبا بعض الأفراد لحراسة السيارات وهي في طريقها ليلا إلى العريش.. وفي الصباح الباكر حضر الصاغ محمد رشاد مهنا وبصحبته عدد من الأتوبيسات الفاخرة المزودة بدورات المياه، وهي تابعة لشركة الحاج محمد يوسف وسائقوها من فلسطين.. ووقفت السيارات بأرض العرض، وأخذت كل فصيلة مكانها، ولم نجد البكباشي أحمد عبد العزيز أو اليوزباشي عبد المنعم عبد الرؤوف، ووجدنا ثلاثة ضباط آخرين هم البكباشي محمد زكريا الورداني من سلاح المهندسين، والملازم حمدي واصف والملازم ثان خالد فوزي، وظننا أنه قد حدث تغيير نتيجة احتكاك بينهما وبين حيدر باشا القائد العام للجيش المصري، خصوصًا اليوزباشي عبد المنعم عبد الرؤوف المعروف بانتمائه للفريق عزيز المصري، ولكنه عرفنا أنهم سيلحقون بنا في العريش.
لمسة وفاء
قبل أن نركب السيارات، مر علينا جميع ضباط المعسكر، مصافحين معانقين تنهمر دموعهم، وكان أغلبهم يضع على عينيهالنظارات السوداء، وعندما ضرب "البروجي" نوبة وداع أجهش الضباط بالبكاء وبكى الجميع للفراق، وانطلقت السيارات من الهايكستب، وسط هذه المشهد المهيب الذي خيمت عليه روح الإخاء والفداء والامتنان
وصل موكب السيارات إلى مدينة الإسماعيلية في الثانية عشرة ظهر الرابع من أبريل، ثم عبرنا إلى شرق قناة السويس، ثم اتجهنا إلى سيناء، وكان يتبعنا في خط السير كتيبة أخرى من أربع سرايا، كل سرية بها خمسون متطوعًا، وعلى رأسها اليوزباشي محمد سرور السوداني ومعه الجاويش بشير الليبي، حيث تدربت هذه الكتيبة في معسكر السلوم، وحضرت إلى الهايكستب قبل رحيلنا بثلاثة أيام.
وصلنا العريش قبل الغروب، وعسكرنا في مقر الحجر الصحي الذي كان يقع على البحر الأبيض المتوسط وفي الصباح بدأت التدريبات، وبدأنا ندرب الكتيبة المرافقة وكان أفرادها من ليبيا وتونس والجزائر والمغرب واليمن، وكان سلاحهم مختلفًا عن سلاحنا، ومكثنا في المكان حوالي أسبوعين.
وفي تلك الفترة زارنا ثلاثة من كبار القادة المجاهدين، الذين سبقونا بالدخول إلى الأراضي الفلسطينية، وكانوا يرابطون في معسكر البريج ومعسكر النسيرات.. وهم العالم الأزهري الشيخ محمد فرغلي (رئيس الإخوان بالإسماعيلية وعضو مكتب الإرشاد)، والأخ المجاهد كامل الشريف والأخ المجاهد محمود عبده، واجتمعوا بقادة الكتيبة وعلى رأسهم أحمد عبد العزيز الذي حضر من القاهرة وبدأ يتصل بقيادات الجيش المصري في العريش، لتسهيل الحصول على المستلزمات والعتاد المطلوب من أغذية وأسلحة، بناءً على الاتفاق مع القيادة العامة للجيش، وكذلك لتسهيل عبور الكتيبة الحدود إلى فلسطين الحبيبة.
كان البكباشي أحمد عبد العزيز يقضي نهاره في قيادة الوحدات بالعريش، ثم يلتقي ليلا بالقادة الثلاثة، حيث أشاروا عليه بأن يكون عبور قواتنا للحدود ليلا وهو برفقتهم، سيرًا على فلنكات الخط الحديدي الممدود من القاهرة إلى غزة، وذلك لأن القوات الإنجليزية تقف على الطريق الأسفلتي، ولن تسمح لنا بالعبور ومعنا الأسلحة والمدفعية، إلى داخل فلسطين إلا بعد انتهاء الانتداب البريطاني في الخامس عشر من مايو، حيث يبدأ جلاؤهم عن فلسطين.
وفي يوم 26 من أبريل، وصلت أربعة مدافع هاون 7.3 محملة على أربع سيارات، كل سيارة عليها مدفع وطاقم جنود من الجيش، وعلى رأس هذه القوة قائد ذو شهرة في سلاح المدفعية هو اليوزباشي كمال الدين حسين، والملازم أنور الصبيحي، وانضم إليهما الملازم خالد فوزي، كما وصلت أيضًا أربعة مدافع مضادة للدبابات زنة 2رطل محملة على عربات مكشوفة، كل عربة عليها طاقم من جنود الجيش، بقيادة ضابط برتبة يوزباشي هو حسن فهمي عبد الحميد.