الانتخابات الفلسطينية.. بشريات وتحديات وواجبات
رسالة من الأستاذ محمد مهدي عاكف - المرشد العام للإخوان المسلمين
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف المرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، وبعد..
فلقد جرت الانتخاباتُ الفلسطينية للمجلس التشريعي في أجواء عالمية ملبَّدة بالغيوم، وظروف إقليمية معقَّدة ودقيقة وشائكة؛ حيث قضية العراق المحتلّ المقاوِم، وظروف سوريا التي يهدِّدها الأعداء من خارجها، ولبنان المضطَّرب بتحقيقاتٍ وتداخلاتٍ وتلاطمِ أمواجٍ عاليةٍ، وإيران والملف الذي يكتنفه الكثير من التدخل في شئون الدول من قِبَل أصحاب المصالح وصنَّاع السلاح الفتَّاك الذين يحاولون السيطرةَ على العالم، والتحدي الواضح بين الطرفين في صراع لم يحُسَم بعد.
وواقع داخلي فلسطيني متوتِّر ومؤلم؛ حيث يقف الشعب الفلسطيني الأبيّ يقاوم العدوانَ والاحتلال، ويعاني من فسادٍ في الإدارة ونقصٍ حادٍّ في الموارد، وقوافل من الشهداء تُنير الدرب وتبعث الأمل في نفوس الأمة بأسرها، وتؤكد على قول الحق تبارك وتعالى ﴿وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾ (العنكبوت: 69)، وقوله تعالى: ﴿وَلا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ﴾ (الأنفال: 59).
جرت هذه الانتخابات والعالم يرقُبها ويراقبها، ولأسباب عديدة- أهمها صمود المقاومة أمام عدوان الصهاينة بنزاهةٍ وحيْدة- تحرَّك الفلسطينيون إلى صناديق الاقتراع، وقرَّروا واختاروا، وكانت النتائج لصالح حركة المقاومة الإسلامية، وفاز مرشحوها بأغلبيةِ المقاعد في المجلس التشريعي، وصار لزامًا عليهم أن يُشكِّلوا إدارة السلطة الفلسطينية.
ونحن نتوجَّه بالشكر لله عزَّ وجلَّ الذي وفَّق الشعب الفلسطيني لهذا الأداء المتميز بروح الحب والأخوَّة، حتى وإن اختلفت الرؤى والأفكار، فالاختلاف في الرأي لا يفسد للودِّ قضية.
ونهنئ الشعبَ الصابرَ المجاهدَ بهذا الإنجاز الذي يمثِّل خطوةً على طريق طويل ممتد منذ بداية القرن الماضي وحتى الآن وإلى المستقبل بعون الله تعالى، حتى تقام الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس.. هذا الطريق الذي روته دماء الشهداء عبر عشرات السنين، ورحم الله أبا الطيب عبد الرحيم محمود الذي هتف ونال الشهادة:
سأحمل روحي على راحتي
- وأُلقي بها في مهاوي الردى
فإما حياةٌ تسرُّ الصديق
- وإما مماتٌ يغيظ العِدا
ونداء الحق الدائم: ﴿وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنْ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيمًا حَكِيمًا﴾ (النساء: 104)، وقوله تعالى: ﴿إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ (آل عمران: من الآية 140).
نعم لقد قال الأحرار كلمةً على طريق الحق، ولكن الطريق لا يزال طويلاً، إن المسئولية التي تترتَّب على هذه الانتخابات تُثقِل كاهلَ الرجال لبذل المزيد من الجهد، خاصةً والعالم كله ينظر إلى هذه التجربة الوليدة، فإدارة الشئون الداخلية للفلسطينيين في قطاع غزة والضفة الغربية- على صعوبتها وأهميتها- جزءٌ من مشروع متكامل، وطبقًا لما أعلنته القيادات الفلسطينية من كل الفصائل فإن هذا المشروع يهدف إلى:
1- إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة كاملة السيادة وعاصمتها القدس ، وهذا يعني الحق الكامل لهذه الدولة في السيطرة على حدودها البرية مع جيرانها، والسيطرة على جوِّها ومنافذها البحرية دون شروط مسبقة من أحد.
2- الانسحاب الفوري الكامل وغير المشروط للقوات الصهيونية من الأراضي المحتلة.
3- الإفراج عن كافة الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين.
4- عودة اللاجئين الفلسطينيين إلى ديارهم وأرضهم.
وهذه الأهداف هي مسئولية الفلسطينيين جميعًا بالدرجة الأولى، الأغلبية والمعارضة والمستقلين في المجلس التشريعي وباقي مكونات الشعب الفلسطيني، ويجب أن نؤكد على أن المقاومة حقٌّ مشروع للشعب الفلسطيني حتى تتحقق هذه الأهداف.
وواجب على الشعوب العربية والإسلامية أن تضاعف من دعمها للفلسطينيين وبكل الوسائل الممكنة، وأن تتحمل المسئوليةَ معهم؛ لأن فلسطين تخصُّهم جميعًا كما هو معروف تاريخيًّا.
وواجب على الحكام العرب والمسلمين أن يُعينوا الشعبَ الفلسطينيَّ والسلطة الفلسطينية على الاضطلاع بمهامهم، وأن يقدِّموا لهم كل ما يستطيعون من دعم سياسي ودبلوماسي ومالي وعلمي وتقني، وهذا حق الفلسطينيين عليهم، إلى جانب أن استقرار الدولة الفلسطينية يعني الاستقرار لكلِّ دول المنطقة ويخصُّ أمنها القومي.
وواجب على شعوب العالم الحرِّ المتحضر أن تدفع بعجلة السلام نحو الأمام، ولا يتحقق ذلك بغير الحق والعدل، ولا يمكن أن تستقر الدول بالباطل والظلم والقوة والعدوان.
وواجب على حكام العالم أن يكونوا أكثرَ إنصافًا واعتدالاً، وألا ينحازوا إلى الباطل، وأن يرفضوا الانصياع لضغط الإدارة الأمريكية المتصهينة، والتي- إن تُركت هكذا- فسوف تكُرُّ عليهم، وربما تحتل بلادهم أيضًا.
إن الابتزاز الذي يمارسه بعض الحكام ضد الشعب الفلسطيني- بتهديده بمنع المعونات عنه- إنما يُظهر حقيقةَ هؤلاء الحكَّام ويُبيِّن للناس كافةً مدى الانحدار الذي وصلوا إليه، وعدم الإنصاف والكيل بأكثر من مكيال في التعامل مع الدول الضعيفة ذات الموارد المحدودة، ولن يُفلحوا أبدًا في صرف الفلسطينيين عن طريقهم الواضح للوصول إلى الدولة المنشودة، وإن الشعب الفلسطيني المقاوِم قد تمرَّس على الجهاد والعطاء والإقدام والتضحية، ولم يستطع أحد أن يَفُتَّ في عضده أو أن يحرِّف مساره.
لقد قدَّمت الانتخابات الفلسطينية نموذجًا في الفهم والوعي والإدراك لدى الشعب الفلسطيني يستحق الدراسةَ والوقوفَ أمامه للاستفادة منه، ويجدر بالشعوب والحكَّام في المنطقة أن ينظروا إليها وأن يأخذوا منها العبرَ والدروس، وخاصةً حق الناس في الحرية وفي اختيار نوابهم وحكامهم؛ فالأمة مصدر السلطات.
ولكنَّ هذه الانتخابات في ذات الوقت قد فتحت آفاقًا جديدةً واسعةً لجهاد الشعب الفلسطيني المتواصل للحصول على كافة الحقوق المشروعة له، فليفرح الناس إذًا بما أنجزوا، وليستمروا في سعيِهم وجهادهم ومقاومتهم للمحتل، وهذا حقُّهم، وواجبنا جميعًا أن نساعدهم للوصول إليه ﴿قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَبِرَحْمَتِهِ فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ(58)﴾ (يونس).
فيا رجالَ المقاومة، ويا أبناء الصحوة الإسلامية، ويا أحفادَ القسَّام والبنَّا وياسين، ويا كلَّ رجال فلسطين الشرفاء.. تعاونوا وتكاملوا واتَّحِدوا وإلى الأمام سيروا ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا﴾ (آل عمران: من الآية 103)، ﴿وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ (الأنفال: من الآية 46)، "وكونوا عباد الله إخوانًا".. ﴿وَاذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الأَرْضِ تَخَافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمْ النَّاسُ فَآوَاكُمْ وَأَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَرَزَقَكُمْ مِنْ الطَّيِّبَاتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ(26)﴾ (الأنفال).
واذكروا دائمًا قول ربنا ﴿إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ(1) وَرَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْوَاجًا(2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَاسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كَانَ تَوَّابًا(3)﴾ (النصر).
فتقدَّموا لتحمل المسئولية، وفي ذات الطريق سيروا حتى يفتح الله لكم، واصبِروا وصابِروا ورابِطوا واتقوا الله لعلكم تفلحون، وتوفيق الله لكم فوق كل اعتبار.. ﴿وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾ (يوسف: من الآية 21).
وصلى الله على سيدنا محمدٍ وعلى آله وصحبه وسلَّم.. والحمد لله رب العالمين