بين استقلال المجاهدين ... واستقلال المفاوضين
بقلم / الإمام حسن البنا
حين يضعف إيمان أمة بحقها وبوجودها وبمعانى القوة فى يدها تلجأ دائما إلى الوسائل الضعيفة، والأساليب الهزيلة لتحقيق غايتها والوصول إلى أهدافها، وتهرب من ميادين العمل الجدى إلى الألفاظ المعسولة والأقوال المملولة، والأخذ والرد والإرخاء والشد مع خصومها وغاصبى حقها، وتسمى ذلك أحيانا محادثات وأخرى مفاوضات وثالثة لباقة سياسية أو كياسة دبلوماسية أو أخذا بالحكمة أو خوفا على مستقبل الأمة إلى غير ذلك من هذه الكلمات التى لا تدل إلا على التردد والحيرة، والتهرب من الجهاد والتضحية. وكلما نصح الناصحون أو أهاب بها المؤمنون، كان الجواب: ماذا نفعل؟ ولكن لهذا السؤال جوابا هى تعلمه ولا تعلنه وتعرفه ولا تريده، وإنها لتظل هكذا فى حيرتها كحمار الرحى يدور والمكان الذى بدأ منه هو الذى انتهى إليه.
فإن أسعفتها المقادير وواتتها الحوادث العالمية والظروف الدولية فستظفر بمغنم شكلى واستقلال صورى، وحق مبتور وحرية شوهاء وطول مرخى وثنياه بيد الخصوم، فإن شاءوا مدوا لها السبيل فتنفست، وإن شاءوا قصروا طرف الحبل فشعرت بالضيق وانحرفت عن الطريق، وذلك استقلال المفاوضين، وجزاء القاعدين المتخلفين، ومن أبطأ به عمله لم يسرع به نسبه.
أما الأمة القوية بحقها، المؤمنة بنفسها وبوجودها، العارفة بما يحيط بها، وبعناصر السلامة فيها ومعانى القوة بين أيديها، والتى وطنت النفس على البذل فى سبيل الحق، والجهاد لتصل إلى الفوز والنصر، وعرفت أن الناس من خوف الذل فى الذل، ومن خوف الفقر فى الفقر، ومن حرص على الموت وهبت له الحياة، ولن يكون الموت إلا مرة وهو أولى بالمؤمنين من حياة مرة، وأن للمجاهد إحدى الحسنيين إما سعادة بالفوز، وإما شهادة وخلد، وكلا الأمرين حبيب إليه، عزيز عليه.
هذه الأمة لن ترضى بالدون من المقاصد، ولن تخدع بالهزيل من الوسائل، ولن تضيع الوقت فى غير طائل، ولن ترضى بأنصاف الحلول ولن تقف عند القول المعسول، فهى إما أن يسلم لها بحقها من أول الطريق فتعود ظافرة قاهرة، وإلا فطريق الجهاد معروفة واضحة فيها متسع للجميع: ﴿وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِى سَبِيلِ اللهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ*سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ*وَيُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ﴾[محمد: 4-6].
وهذه الأمة لن ترد عن حقها أبدا فهى واصلة إليه كاملا، حاصلة عليه غير منقوص، سعيدة باستقلال المجاهدين وحرية العاملين المخلصين، وشعب وادى النيل الأبى هو بحمد الله شعب مؤمن لم تضعف معانى الإيمان فى نفسه، ولم تمح ذكريات الجهاد من صفحة فؤاده، وهو مستعد لذلك فى كل وقت، وما نهضة هذا الشعب القريبة وثورته فى سنة 1919 عنا ببعيد، يوم أن كانت الأمة شعبا لا زعماء له، وإنما زعيمه إيمانه وفطرته، وقائده حقه وضميره وغايته، ولقد كان جادا محقا يوم انطلقت حناجر الصغار والكبار منه: الاستقلال التام، أو الموت الزؤام.
ولكنه نكب بزعماء ورؤساء وكبراء نشأوا فى أحضان الاستعمار، وشربوا من معين الغاصبين ودرجوا على أساليبهم، وأعجبوا بصداقتهم وأحسنوا الظن بهم، وتبوأوا المناصب الحكومية واحتلوا مراكز القيادة الشعبية، وأداروا الأمور بهذه العقول المقلدة والنفوس الخامدة والقواعد الفاسدة، فكانوا نكبة هذا الشعب والحاجز الحصين بينه وبين حقوقه الوطنية ومطالبه القومية.
وهل ترى المشاعر تكبت، والحريات تصادر، والاجتماعات تفض والحركات الوطنية المخلصة تقمع بأيد غير أيدينا، أو بأموال غير أموالنا، أو بسلاح غير سلاحنا، أو بأوامر تصدر من قوم يشاركوننا فى الوطن بالاسم والتبعية، وإن تجردوا فى الحقيقة من أبسط معانى الوطنية؟!
ولكن هذه الحال لن تدوم أبدا، والشعب الذى يصمم على الحياة لا يمكن أن يموت، وستصقل الحوادث هذه النفوس وتبرز خصائصها العليا للناس، ويؤمئذ يعلم الذين لا يعلمون أنه لا قيام للباطل إلا فى غفلة الحق، وأن وادى النيل الأبى إذا كان قد قنع فى الماضى باستقلال المفاوضين فى معاهدة الشرف والاستقلال، فإنه لا يرضى اليوم إلا باستقلال المجاهدين فى ساحات الاستشهاد وتحقيق الآمال.
والله أكبر ولله الحمد المصدر: جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (134)، السنة الأولى، 14 ذو القعدة 1365/ 9 أكتوبر 1946