الفرق بين المراجعتين لصفحة: «عبد الكريم عثمان»

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
(أنشأ الصفحة ب''''الدكتور عبد الكريم عثمان، نجم سطع.''' '''بقلم عدنان سعد الدين''' أثمرت دعوة [[الإخوان المسلم…')
 
لا ملخص تعديل
 
(٢٧ مراجعة متوسطة بواسطة ٨ مستخدمين غير معروضة)
سطر ١: سطر ١:
'''الدكتور [[عبد الكريم عثمان]]، نجم سطع.'''  
'''<center><font color="blue"><font size=5>عبد الكريم عثمان</font></font></center>'''


'''بقلم عدنان سعد الدين'''
أثمرت دعوة [[الإخوان المسلمين]] في سورية من أربعينيات القرن الماضي جيلاً صاعداً جديداً، سرعان ما أحيا للأمة آمالها، وأيقظها من سباتها، وأعاد إليها ثقتها بعقيدتها وذاتها، وردها بإذن ربها إلى حظيرة الإسلام رداً جميلاً، فامتلأت بهم الساحات، وزخرت بجموعهم المدارس والمعاهد والجامعات، فانحسرت موجة الإلحاد والعلمنة والتغريب التي كانت قبل ذلك تعربد في العشرينيات والثلاثينيات، وتتحدى المجتمع في أفكارها الوافدة، ومذاهبها المستوردة، وتقاليدها المستنكرة، ودعوتها الصريحة السافرة إلى نبذ الإسلام، وخلع ربقته عن الأعناق، فكان الداعون إلى الله في ضيق وحرج أمام هذه الموجة التي أحرزها انتصار الحلفاء الغربيين في الحرب العالمية الأولى على تركيا العثمانية، زاحفين إلى بلادنا وعقر ديارنا بما يملكون من تفوق حضاري وعسكري كاسح.


'''بقلم: [[عدنان سعد الدين]]'''


كبرت الغراس والفسائل التي زرعتها دعوة الإخوان المسلمين، وظهر جيل على أبواب الثلاثينيات في أعمار الأزهار، رفعوا راية القرآن، ودعوا بثقة وجرأة إلى رسالة الإسلام، وواجهوا تيارات العلمنة والتغريب بقوة وشجاعة، فكسروا أمواجها، وأكدوا بأقلامهم وخطبهم وأنشطتهم وجموعهم الهادرة، أن خلاص أمتهم من الذل والاندحار والتخلف إنما هو رهن في العودة الحميدة والجادة إلى رحاب الإسلام الحنيف، فلا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.
== الدكتور عبدالكريم عثمان ، نجم سطع==


أثمرت دعوة [[الإخوان المسلمين]] في [[سورية]] من أربعينيات القرن الماضي جيلاً صاعداً جديداً، سرعان ما أحيا للأمة آمالها، وأيقظها من سباتها، وأعاد إليها ثقتها بعقيدتها وذاتها، وردها بإذن ربها إلى حظيرة [[الإسلام]] رداً جميلاً، فامتلأت بهم الساحات، وزخرت بجموعهم المدارس والمعاهد والجامعات؛


كان في طليعة هذا الجيل الناهض فتى نشأ في طاعة الله، تفتحت مواهبه في سن مبكرة، وظهرت علائم النجابة عليه منذ نشأته الأولى، فإذا هو خطيب مفوه، ولما يزل على مقاعد الدراسة في المرحلة الثانوية، انتسب إلى [[جماعة الإخوان المسلمين]] في منتصف عام 1945، وعمره ست عشرة سنة إذ هو من مواليد عام 1929، فإذا بالفتى الناهض يرتجل الخطب الحماسية في الدعوة إلى انتخاب الشيخ الشهيد [[محمود عبد الرحمن الشقفة]] مرشح [[الإخوان]] والعلماء للبرلمان عن محافظة حماة، ولما يتجاوز الثامنة عشرة من عمره المبارك.
فانحسرت موجة الإلحاد والعلمنة والتغريب التي كانت قبل ذلك تعربد في العشرينيات والثلاثينيات، وتتحدى المجتمع في أفكارها الوافدة، ومذاهبها المستوردة، وتقاليدها المستنكرة، ودعوتها الصريحة السافرة إلى نبذ [[الإسلام]] ، وخلع ربقته عن الأعناق، فكان الداعون إلى الله في ضيق وحرج أمام هذه الموجة التي أحرزها انتصار الحلفاء الغربيين في الحرب العالمية الأولى على [[تركيا]] العثمانية، زاحفين إلى بلادنا وعقر ديارنا بما يملكون من تفوق حضاري وعسكري كاسح.


'''كبرت الغراس والفسائل التي زرعتها دعوة [[الإخوان المسلمين]]''' ، وظهر جيل على أبواب الثلاثينيات في أعمار الأزهار، رفعوا راية القرآن، ودعوا بثقة وجرأة إلى رسالة [[الإسلام]]، وواجهوا تيارات العلمنة والتغريب بقوة وشجاعة، فكسروا أمواجها، وأكدوا بأقلامهم وخطبهم وأنشطتهم وجموعهم الهادرة، أن خلاص أمتهم من الذل والاندحار والتخلف إنما هو رهن في العودة الحميدة والجادة إلى رحاب [[الإسلام]] الحنيف، فلا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.


لفتت مواهبه التي - تفتحت كأزهار الربيع في وقت مبكر - أنظار قادة الإخوان في مركز حماة، فقرروا أن يرعوا هذه الموهبة التي أنعم الله بها، فقرروا إيفاده لدراسة علم الاجتماع في كلية آداب جامعة فؤاد الأول ­جامعة القاهرة فيما بعد­ ويتحمل أعباء الدراسة عدد من [[الإخوان]] برعاية ومساهمة رئيس المركز الشيخ الشهيد عبد الله الحلاق رحمه الله وأجزل له المثوبة والأجر على ما قدم من بذل وصبر وجهاد، وعلى ما تحمَّلَ من أذى في سبيل الله، دعماً ودفاعاً عن دعوة [[الإخوان المسلمين]].
'''كان في طليعة هذا الجيل الناهض فتى نشأ في طاعة الله،''' تفتحت مواهبه في سن مبكرة، وظهرت علائم النجابة عليه منذ نشأته الأولى، فإذا هو خطيب مفوه، ولما يزل على مقاعد الدراسة في المرحلة الثانوية، انتسب إلى [[جماعة الإخوان المسلمين]] في منتصف عام [[1945]] ، وعمره ست عشرة سنة إذ هو من مواليد عام [[1929]] ، فإذا بالفتى الناهض يرتجل الخطب الحماسية في الدعوة إلى انتخاب الشيخ الشهيد [[محمود عبدالرحمن الشقفة]] مرشح [[الإخوان]] والعلماء للبرلمان عن محافظة حماة، ولما يتجاوز الثامنة عشرة من عمره المبارك.


لفتت مواهبه التي تفتحت كأزهار الربيع في وقت مبكر أنظار قادة [[الإخوان]] في مركز حماة، فقرروا أن يرعوا هذه الموهبة التي أنعم الله بها، فقرروا إيفاده لدراسة علم الاجتماع في كلية آداب جامعة فؤاد الأول ­جامعة [[القاهرة]] فيما بعد­ ويتحمل أعباء الدراسة عدد من [[الإخوان]] برعاية ومساهمة رئيس المركز الشيخ الشهيد [[عبد الله حلاّق|عبد الله الحلاق]] رحمه الله وأجزل له المثوبة والأجر على ما قدم من بذل وصبر وجهاد، وعلى ما تحمَّلَ من أذى في سبيل الله، دعماً ودفاعاً عن دعوة [[الإخوان المسلمين]].


== من هو الداعية عبد الكريم عثمان؟ ==
== من هو الداعية عبد الكريم عثمان؟ ==


ولد عام [[1929م]] وهو ابن الشيخ [[محمود العثمان]] العالم الزاهد الورع، والأستاذ في مدرسة دار العلم والتربية التي تأسست في عهد الملك فيصل الأول الذي لم يطل كثيراً، والتي تخرج فيها قادة كبار، وساسة شهيرون، لعبوا أدواراً كبيرة في الحياة السياسية السورية، أمثال الأستاذ رئيف الملقي قائد الكتلة الوطنية في حماة بعد وفاة توفيق الشيشكلي، والأستاذ أكرم الحوراني وآخرين.


هو ابن الشيخ محمود العثمان العالم الزاهد الورع، والأستاذ في مدرسة دار العلم والتربية التي تأسست في عهد الملك فيصل الأول الذي لم يطل كثيراً، والتي تخرج فيها قادة كبار، وساسة شهيرون، لعبوا أدواراً كبيرة في الحياة السياسية السورية، أمثال الأستاذ رئيف الملقي قائد الكتلة الوطنية في حماة بعد وفاة توفيق الشيشكلي، والأستاذ أكرم الحوراني وآخرين.
'''كان الشيخ محمود العثمان عالماً مجاهداً'''، عمل مع المناضلين ضد فرنسا، وقاوم بخطبه ومواقفه الصلبة الانتداب بجرأة نادرة، وعزيمة صلبة عُرف بهما بين أبناء جيله، ولما سمع عنه [[الإمام الشهيد]] [[حسن البنا]] وعرف عن صفائه وصدقه وجهاده، راسله وكتب إليه، شاكراً ومشجعاً، وشاداً على يده، لما يبذل في سبيل الله دفاعاً عن [[الإسلام]] والأوطان.


ولربما سمع الإمام عن الشيخ [[محمود العثمان]] من رفيق دربه وأنيس قلبه الشيخ [[محمد الحامد]]، لأن الإمام كان يستحث العلماء الذين يأنس منهم الخير، ويسمع فضائلهم في كل بلاد المسلمين، ويستنهضهم للقيام بحمل لواء الدعوة إلى الله، و[[الجهاد]] في الله حق جهاده.


كان الشيخ محمود العثمان عالماً مجاهداً، عمل مع المناضلين ضد فرنسا، وقاوم بخطبه ومواقفه الصلبة الانتداب بجرأة نادرة، وعزيمة صلبة عُرف بهما بين أبناء جيله، ولما سمع عنه الإمام الشهيد حسن البنا وعرف عن صفائه وصدقه وجهاده، راسله وكتب إليه، شاكراً ومشجعاً، وشاداً على يده، لما يبذل في سبيل الله دفاعاً عن الإسلام والأوطان.
ورث الأخ عبد الكريم عن والده [[محمود العثمان]] جملة صفات في حب العلم وصدق الحديث، والصدع بكلمة الحق، والجرأة في مواجهة الباطل بعفوية وقلب سليم، لا تأخذه في الله لومة لائم.


في عام [[1947]] وبعد أن حمل الشهادة الثانوية البكالوريا وقررت إدارة مركز حماة إيفاده إلى  [[مصر]] لتلقي دراسته الجامعية­ التحق بكلية الآداب في جامعة فؤاد الأول قسم الاجتماع فكان متفوقاً ومتقدماً على أقرانه في دراسته؛


ولربما سمع الإمام عن الشيخ محمود العثمان من رفيق دربه وأنيس قلبه الشيخ محمد الحامد، لأن الإمام كان يستحث العلماء الذين يأنس منهم الخير، ويسمع فضائلهم في كل بلاد المسلمين، ويستنهضهم للقيام بحمل لواء الدعوة إلى الله، والجهاد في الله حق جهاده.
وكما حدث للإمام الشيخ [[محمد الحامد]] في صلته بالإمام [[حسن البنا]] وتعلقه به، كان حال الأخ عبد الكريم الذي أحب [[الإمام البنا]] حباً ملك عليه عقله ولبّه وقلبه، فلم يعد قادراً على مفارقته، أو البعد عنه، واستمر هكذا ممسكاً بهذه الصلة الحميمة منذ وصل إلى [[القاهرة]] عام [[1947]] وحتى فارق الإمام الحياة في [[1947]]/2/12 في موكب الشهداء الذين قضوا في سبيل الله.


'''عزم عبد الكريم على الزواج من [[مصر]]''' ، واعتمد على إخوة له من تنظيم [[الاخوان|الجماعة]] ليعينوه على ذلك مشترطاً الحشمة والحجاب الذي كان نادراً في تلك المرحلة في المدن الكبيرة مثل [[القاهرة]] و[[الإسكندرية]]، فوصفوا له فتاة محافظة، وإذا به يراها تخرج مكشوفة الذراع، فصدم وبهت؛


ورث الأخ عبد الكريم عن والده محمود العثمان جملة صفات في حب العلم وصدق الحديث، والصدع بكلمة الحق، والجرأة في مواجهة الباطل بعفوية وقلب سليم، لا تأخذه في الله لومة لائم.
فقيل له: هذا أفضل ما تطمح إليه، فصرف النظر عن الزواج من [[مصر]] ، وقرر الزواج من بلده في [[سورية]]، ليت عبد الكريم وأبناء جيله من [[الاخوان|إخوان]] [[مصر]] ، يرون ما آلت إليه المرأة المصرية من انتشار الحجاب، ومظاهر الحشمة، واضطلاعها بأعباء الدعوة إلى [[الإسلام]] ، واستئناف الحياة بموجبه وعلى قواعده، وتشكيل تيار إسلامي عريض للنساء المسلمات في المدارس والمعاهد والجامعات، وفي الأحياء والمدن والأرياف؛


حتى صار الطابع العام للشارع المصري في كل أرجاء القطر من أدناه إلى أقصاه، فاكتسح الحركة النسائية التي عمل الإنكليز ودعاة التغريب وتقليد الحياة الغربية على إيجاده وتشجيعه، فأبلس وتراجع القهقرى، فلا يكاد يُرى بجانب تيار الداعيات المسلمات القانتات العاملات لرسالة [[الإسلام]] والدعوة إلى الله.


== عودة عبد الكريم إلى [[سورية]] ==


في عام 1947 - وبعد أن حمل الشهادة الثانوية – البكالوريا - وقررت إدارة مركز حماة إيفاده إلى  مصر لتلقي دراسته الجامعية­ التحق بكلية الآداب في جامعة فؤاد الأول - قسم الاجتماع - فكان متفوقاً ومتقدماً على أقرانه في دراسته، وكما حدث للإمام الشيخ محمد الحامد في صلته بالإمام حسن البنا وتعلقه به، كان حال الأخ عبد الكريم الذي أحب الإمام [[البنا]] حباً ملك عليه عقله ولبّه وقلبه، فلم يعد قادراً على مفارقته، أو البعد عنه، واستمر هكذا ممسكاً بهذه الصلة الحميمة منذ وصل إلى القاهرة عام 1947 وحتى فارق الإمام الحياة في 1947/2/12 في موكب الشهداء الذين قضوا في سبيل الله.
عاد الأخ عبد الكريم إلى [[سورية]]  بعد أن حمل ليسانس الآداب في علم الاجتماع بدرجة امتياز وتفوق، فعمل مدرساً في ثلاث مناطق، درّس الفلسفة في حماة وحلب، فكان تأثيره في طلابه ملموساً، ثم عمل في مدينة دير الزور مدرساً في ثانويتها، وباشر خطبة الجمعة في أحد مساجدها، فأصغى إليه الطلاب وسكان المدينة، وتأثروا به أيما تأثر، والتفوا حوله، وتعلقوا به، وانحازوا إلى [[جماعة الإخوان]] في دير الزور؛


بل وفي الأقضية والنواحي عبر الطلاب الوافدين منها إلى الدير لإكمال دراستهم الثانوية تمهيداً للالتحاق بالكليات الجامعية، ولو رغب أن يمثل عبد الكريم دير الزور في البرلمان، ويترشح في الانتخابات لأيدته المدينة وما خذلته، ولكن هذا الأمر كان بعيداً عن تفكيره وطموحه، ومن أراد أن يعرف المزيد عن الأثر الذي خلفه الداعية عبد الكريم عثمان في دير الزور وفي المنطقة الشرقية من [[سورية]]؛


عزم عبد الكريم على الزواج من مصر، واعتمد على إخوة له من تنظيم الجماعة ليعينوه على ذلك مشترطاً الحشمة والحجاب الذي كان نادراً في تلك المرحلة في المدن الكبيرة مثل القاهرة والإسكندرية، فوصفوا له فتاة محافظة، وإذا به يراها تخرج مكشوفة الذراع، فصدم وبهت، فقيل له: هذا أفضل ما تطمح إليه، فصرف النظر عن الزواج من مصر، وقرر الزواج من بلده في سورية، ليت عبد الكريم وأبناء جيله من إخوان مصر، يرون ما آلت إليه المرأة المصرية من انتشار الحجاب، ومظاهر الحشمة، واضطلاعها بأعباء الدعوة إلى الإسلام، واستئناف الحياة بموجبه وعلى قواعده، وتشكيل تيار إسلامي عريض للنساء المسلمات في المدارس والمعاهد والجامعات، وفي الأحياء والمدن والأرياف، حتى صار الطابع العام للشارع المصري في كل أرجاء القطر من أدناه إلى أقصاه، فاكتسح الحركة النسائية التي عمل الإنكليز ودعاة التغريب وتقليد الحياة الغربية على إيجاده وتشجيعه، فأبلس وتراجع القهقرى، فلا يكاد يُرى بجانب تيار الداعيات المسلمات القانتات العاملات لرسالة الإسلام والدعوة إلى الله.
فليسأل الشيخ [[دندل جبر]] الذي سمعت منه أنه كان في أول نشأته متأثراً ب[[حزب البعث]] الذي كان الأستاذ [[جلال السيد]] رحمه الله أحد مؤسسيه ومنتقديه فيما بعد والذي كان يجمع ما بين الشيخ دندل والأستاذ جلال الانتماء العشائري، ولكن سرعان ما اتجه الأخ دندل بحزم وعزم إلى [[جماعة الإخوان]] بتأثير الداعية الموفق عبد الكريم عثمان، كما سمعت منه قصة انتمائه ل[[جماعة الإخوان المسلمين]] الراشدة.


'''كان عبد الكريم يقضي أشهر الصيف في حماة'''، فكان رفيق عمره ودربه الأخ الداعية [[مصطفى الصيرفي]] وكاتب هذه السطور وعبد الكريم في لقاء مسائي يومي، لا نكاد نفترق، نأكل معاً في مكان بعيد عن الأعين على شاطئ النهر، ونتجاذب أطراف الأحاديث المتنوعة، ومدارها جميعها دعوة [[الإخوان]] ونشرها والتبشير بها في أحاديث الجمعة ­الأسبوعية­ ومجموعات الأسر، والطواف على الأحياء، ومخاطبة الطلاب؛


== عودة عبد الكريم إلى سورية ==
وكذا العمال والنقابات، وإحياء الذكريات المباركة، كأيام المولد والإسراء والمعراج والهجرة النبوية ومعركة بدر، بالتعاون مع إدارة المركز، وعلى رأسهم الشيخ [[عبد الله الحلاق|عبد الله الحلاق]]، والأخ [[بديع عدي]]، ورعاية الشيخ [[محمد الحامد]] رحمهم الله جميعاً؛


عاد الأخ عبد الكريم إلى سورية بعد أن حمل ليسانس الآداب في علم الاجتماع بدرجة امتياز وتفوق، فعمل مدرساً في ثلاث مناطق، درّس الفلسفة في حماة وحلب، فكان تأثيره في طلابه ملموساً، ثم عمل في مدينة دير الزور مدرساً في ثانويتها، وباشر خطبة الجمعة في أحد مساجدها، فأصغى إليه الطلاب وسكان المدينة، وتأثروا به أيما تأثر، والتفوا حوله، وتعلقوا به، وانحازوا إلى [[جماعة الإخوان]] في دير الزور، بل وفي الأقضية والنواحي عبر الطلاب الوافدين منها إلى الدير لإكمال دراستهم الثانوية تمهيداً للالتحاق بالكليات الجامعية، ولو رغب أن يمثل عبد الكريم دير الزور في البرلمان، ويترشح في الانتخابات لأيدته المدينة وما خذلته، ولكن هذا الأمر كان بعيداً عن تفكيره وطموحه، ومن أراد أن يعرف المزيد عن الأثر الذي خلفه الداعية عبد الكريم عثمان في دير الزور وفي المنطقة الشرقية من سورية، فليسأل الشيخ دندل جبر الذي سمعت منه أنه كان في أول نشأته متأثراً بحزب البعث الذي كان الأستاذ جلال السيد - رحمه الله - أحد مؤسسيه - ومنتقديه فيما بعد - والذي كان يجمع ما بين الشيخ دندل والأستاذ جلال الانتماء العشائري، ولكن سرعان ما اتجه الأخ دندل بحزم وعزم إلى [[جماعة الإخوان]] بتأثير الداعية الموفق عبد الكريم عثمان، كما سمعت منه قصة انتمائه ل[[جماعة الإخوان المسلمين]] الراشدة.
وكنا نستقبل كبار ضيوف مدينة حماة، ومركز [[الإخوان المسلمين]] من الوطن العربي والعالم الإسلامي والمدن [[سورية]]، من أمثال [[أبو الحسن الندوي]]، و[[أبو الأعلى المودودي]]، و[[المرشد العام]] [[حسن الهضيبي]] و[[مصطفى السباعي]] و[[محمد المبارك]] و[[عادل كنعان]] و[[فوزي حمد]] و[[محمد علي الصابوني]] و[[محمد المجذوب]] وغيرهم، حتى أضحت المدينة ملاذاً وموئلاً وعريناً لدعوة [[الإخوان المسلمين]] المباركة.
 
 
كان عبد الكريم يقضي أشهر الصيف في حماة، فكان رفيق عمره ودربه الأخ الداعية مصطفى الصيرفي وكاتب هذه السطور وعبد الكريم في لقاء مسائي يومي، لا نكاد نفترق، نأكل معاً في مكان بعيد عن الأعين على شاطئ النهر، ونتجاذب أطراف الأحاديث المتنوعة، ومدارها جميعها دعوة الإخوان ونشرها والتبشير بها في أحاديث الجمعة ­الأسبوعية­ ومجموعات الأسر، والطواف على الأحياء، ومخاطبة الطلاب، وكذا العمال والنقابات، وإحياء الذكريات المباركة، كأيام المولد والإسراء والمعراج والهجرة النبوية ومعركة بدر، بالتعاون مع إدارة المركز، وعلى رأسهم الشيخ عبد الله الحلاق، والأخ بديع عدي، ورعاية الشيخ محمد الحامد رحمهم الله جميعاً، وكنا نستقبل كبار ضيوف مدينة حماة، ومركز الإخوان المسلمين من الوطن العربي والعالم الإسلامي والمدن السورية، من أمثال أبو الحسن الندوي، وأبو الأعلى المودودي، والمرشد العام حسن الهضيبي ومصطفى السباعي ومحمد المبارك وعادل كنعان وفوزي حمد ومحمد علي الصابوني ومحمد المجذوب وغيرهم، حتى أضحت المدينة ملاذاً وموئلاً وعريناً لدعوة [[الإخوان المسلمين]] المباركة.
 
 
ليت الأجيال اللاحقة تحيط علماً بما كان عليه [[الإخوان]] في الأربعينيات والخمسينيات من نشاط وعمل دؤوب، وتحرك متصل، وكأنهم خلية نحل، في جو من التعاون والإلفة والحب حتى ترسخت قواعد الجماعة، وأضحت عصية على الاجتثاث بالرغم من كيد ومكر الأعداء الرهيب الذي تزول منه الجبال.


'''ليت الأجيال اللاحقة تحيط علماً بما كان عليه [[الإخوان]] في الأربعينيات والخمسينيات من نشاط وعمل دؤوب، وتحرك متصل، وكأنهم خلية نحل، في جو من التعاون والإلفة والحب حتى ترسخت قواعد [[الجماعة]]، وأضحت عصية على الاجتثاث بالرغم من كيد ومكر الأعداء الرهيب الذي تزول منه الجبال.'''


== طبيعة الداعية وسيرته ==
== طبيعة الداعية وسيرته ==


كان الأخ عبد الكريم طاهر السريرة، سليم الصدر، خالي النفس من العقد والوساوس، يألف ويؤلف، يحبه إخوانه الكبار والصغار وأقرانه، عُرف عنه الطيبة، وصفاء النية والشفافية، وبعد أن سطع نجم عبد الكريم في شمالي سورية حلب - وفي شرقها - دير الزور - وفي وسطها - حماة ودمشق - لحظ المراقب العام الشيخ السباعي موهبة عبد الكريم وألمعيته، فأسند إليه وظيفة نائب مدير المعهد العربي الإسلامي ذي السمعة والشهرة الواسعة في العاصمة، ليكون مساعداً للمربي الكبير مدير المعهد عبد الغني باجقني، بل ليكون المدير التنفيذي والفعلي للمعهد.
كان الأخ عبد الكريم طاهر السريرة، سليم الصدر، خالي النفس من العقد والوساوس، يألف ويؤلف، يحبه إخوانه الكبار والصغار وأقرانه، عُرف عنه الطيبة، وصفاء النية والشفافية، وبعد أن سطع نجم عبد الكريم في شمالي [[:تصنيف:الإخوان في سوريا|سورية]] حلب وفي شرقها دير الزور وفي وسطها حماة ودمشق لحظ [[المراقب العام]] الشيخ [[مصطفي السباعي|السباعي]] موهبة عبد الكريم وألمعيته، فأسند إليه وظيفة نائب مدير المعهد العربي الإسلامي ذي السمعة والشهرة الواسعة في العاصمة، ليكون مساعداً للمربي الكبير مدير المعهد عبد الغني باجقني، بل ليكون المدير التنفيذي والفعلي للمعهد.


'''في مطلع الخمسينيات من القرن الماضي'''، وعندما ضيق [[أديب الشيشكلي]] الخناق على الشيخ الدكتور [[مصطفى السباعي]] مراقب [[الاخوان|الجماعة]] وقائدها، وعلى إخوانه من قادة [[الاخوان|الجماعة]]، واضطر إلى مغادرة دمشق إلى [[لبنان]]، لم يجد شيخنا من يسد فراغه وينوب عنه مثل الأخ عبد الكريم عثمان ليقوم بمهمة [[المراقب العام]] وكالة، ولما يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره الميمون.


في مطلع الخمسينيات من القرن الماضي، وعندما ضيق أديب الشيشكلي الخناق على الشيخ الدكتور مصطفى السباعي مراقب الجماعة وقائدها، وعلى إخوانه من قادة الجماعة، واضطر إلى مغادرة دمشق إلى  لبنان، لم يجد شيخنا من يسد فراغه وينوب عنه مثل الأخ عبد الكريم عثمان ليقوم بمهمة المراقب العام وكالة، ولما يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره الميمون.
'''كانت حركة الانشقاق التي قادها ضابط المخابرات الناصرية [[نجيب جويفل]]'''، ومن التف حوله من دمشق وحمص وإدلب، قد استفحلت، وصارت تشكل خطراً على كيان [[الاخوان|الجماعة]]، فرأى المنشقون في الأخ عبد الكريم عثمان سداً في طريقهم، وعقبة أمام تطلعاتهم، وإحباطاً لمخططاتهم؛
 
 
كانت حركة الانشقاق التي قادها ضابط المخابرات الناصرية نجيب جويفل، ومن التف حوله من دمشق وحمص وإدلب، قد استفحلت، وصارت تشكل خطراً على كيان الجماعة، فرأى المنشقون في الأخ عبد الكريم عثمان سداً في طريقهم، وعقبة أمام تطلعاتهم، وإحباطاً لمخططاتهم، فهدده أحدهم هشام جندل الرفاعي بالتصفية إذا لم يوافقهم، ويذعن لهم، أو على الأقل أن لا يعترض سبيلهم، فإذا بالأخ الوديع ذي الحاشية الرقيقة يتحول بلحظة إلى غضنفر، يواجه شططهم بموقف صلب، وعزيمة غير مألوفة ولا متوقعة، متحدياً المنشقين أن يفعلوا ما يعن لهم، فإذا بهم يرجعون القهقرى، ويرضون من سوء خلقهم بالإياب والتراجع، وطي صفحة التمرد الذي قاده ضابط المخابرات الناصرية نجيب جويفل وعصابته التي تبعثرت، وكأنها لم تكن، أمام صلابة الإخوان، وعلى رأسهم عبد الكريم عثمان والإخوة المخلصون في دمشق، وثباتهم وتلاحمهم، والتفافهم حول قيادتهم، وعلى رأسها فضيلة مراقبهم الفذ الشيخ الدكتور مصطفى السباعي طيب الله ثراه، وتلاشت حركة الضلال، وذهبت أدراج الرياح، ولم نعد نعثر لها على أثر.


فهدده أحدهم [[هشام جندل الرفاعي]] بالتصفية إذا لم يوافقهم، ويذعن لهم، أو على الأقل أن لا يعترض سبيلهم، فإذا بالأخ الوديع ذي الحاشية الرقيقة يتحول بلحظة إلى غضنفر، يواجه شططهم بموقف صلب، وعزيمة غير مألوفة ولا متوقعة، متحدياً المنشقين أن يفعلوا ما يعن لهم، فإذا بهم يرجعون القهقرى، ويرضون من سوء خلقهم بالإياب والتراجع؛


وطي صفحة التمرد الذي قاده ضابط المخابرات الناصرية [[نجيب جويفل]] وعصابته التي تبعثرت، وكأنها لم تكن، أمام صلابة [[الإخوان]]، وعلى رأسهم عبد الكريم عثمان والإخوة المخلصون في دمشق، وثباتهم وتلاحمهم، والتفافهم حول قيادتهم، وعلى رأسها فضيلة مراقبهم الفذ الشيخ الدكتور [[مصطفى السباعي]] طيب الله ثراه، وتلاشت حركة الضلال، وذهبت أدراج الرياح، ولم نعد نعثر لها على أثر.


== صفة الداعية وسيرته ==
== صفة الداعية وسيرته ==


كان الأخ عبد الكريم يلامس - بوداعته ولطفه وتهذيبه وعذوبة حديثه - شغاف القلوب لدى الجميع، كان رحمه الله يألف ويُؤلف، يحبه إخوانه الكبار منهم والصغار، لمس الكل عنه ومنه الطيبة وصفاء النية، وسلامة الصدر، لا يختلف عليه إخوانه، بل ولا أبناء المدينة من غير [[الإخوان]]، فعندما كنا معاً في دمشق نؤدي امتحانات شهادة الحقوق، لنتمكن من العمل الحر إذا أقدمت حكومة (التجمع القومي) على تسريحنا من وظائفنا التعليمية كما تشير النذر، وقررنا دخول انتخابات (الاتحاد القومي) لاعتبارات كثيرة، حملت ترشيحه، أو تفويضاً بترشيحه مؤيداً من الكاتب بالعدل، فتم ذلك، دون أن يكون حاضراً، فكان الثالث في قائمة الفائزين - ذات الثلاثين اسماً - يمثلون ثلث مدينة حماة في شمالي الوسط في سورية، وكان ذلك في عام 1959 بعد عام وبضع عام من قيام الوحدة بين مصر وسورية.
كان الأخ عبد الكريم يلامس بوداعته ولطفه وتهذيبه وعذوبة حديثه شغاف القلوب لدى الجميع، كان رحمه الله يألف ويُؤلف، يحبه إخوانه الكبار منهم والصغار، لمس الكل عنه ومنه الطيبة وصفاء النية، وسلامة الصدر، لا يختلف عليه إخوانه، بل ولا أبناء المدينة من غير [[الإخوان]]؛
 


فعندما كنا معاً في دمشق نؤدي امتحانات شهادة الحقوق، لنتمكن من العمل الحر إذا أقدمت حكومة '''(التجمع القومي)''' على تسريحنا من وظائفنا التعليمية كما تشير النذر، وقررنا دخول انتخابات '''(الاتحاد القومي)''' لاعتبارات كثيرة، حملت ترشيحه، أو تفويضاً بترشيحه مؤيداً من الكاتب بالعدل؛


== في القاهرة مرة أخرى ==
فتم ذلك، دون أن يكون حاضراً، فكان الثالث في قائمة الفائزين ذات الثلاثين اسماً يمثلون ثلث مدينة حماة في شمالي الوسط في [[سورية]]، وكان ذلك في عام [[1959]] بعد عام وبضع عام من قيام الوحدة بين [[مصر]] و[[سورية]].


عاد عبد الكريم إلى القاهرة مرة أخرى، عندما قررت وزارة التعليم العالي أو الجامعة السورية إيفاد من يدرس الفلسفة الإسلامية ويحمل شهادة الدكتوراه بها ليعود إلى دمشق، ويملأ كرسي هذه المادة في كلية آداب الجامعة، فكان عبد الكريم مرشحاً لهذا الإيفاد بالدرجة التي نالها – الامتياز - في الليسانس التي حاز عليها من الجامعة المصرية - جامعة فؤاد الأول - فوقفت مخابرات دولة الوحدة أمام هذه البعثة وقررت إلغاءها، لأن صاحبها يحمل فكراً إسلامياً، غير أن مساعي حثيثة قام بها نفر، كان أخوه العقيد عبد الملك عثمان قائد موقع حماة العسكري واحداً منهم، وكان الخلاف قد دب بين عبد الناصر وبين البعثيين وحلفائهم، فأثمرت هذه الجهود، وألغي الحظر، فركب متن الطائرة التي أقلته إلى عاصمة الكنانة.
== في [[القاهرة]] مرة أخرى ==


عاد عبد الكريم إلى [[القاهرة]] مرة أخرى، عندما قررت وزارة التعليم العالي أو الجامعة السورية إيفاد من يدرس الفلسفة الإسلامية ويحمل شهادة الدكتوراه بها ليعود إلى دمشق، ويملأ كرسي هذه المادة في كلية آداب الجامعة، فكان عبد الكريم مرشحاً لهذا الإيفاد بالدرجة التي نالها الامتياز في الليسانس التي حاز عليها من الجامعة المصرية جامعة فؤاد الأول


درس الماجستير في التربية وعلم النفس عند الغزالي، وقدم أطروحة الدكتوراه عن القاضي عبد الجبار أحد أئمة المعتزلة، وأصول دعوته وفلسفته بإشراف الدكتور أحمد فؤاد الأهواني، وفي كل مراحل هذه الدراسات وما سبقها كان متفوقاً ومتقدماً.
فوقفت مخابرات دولة الوحدة أمام هذه البعثة وقررت إلغاءها، لأن صاحبها يحمل فكراً إسلامياً، غير أن مساعي حثيثة قام بها نفر، كان أخوه العقيد [[عبد الملك عثمان]] قائد موقع حماة العسكري واحداً منهم، وكان الخلاف قد دب بين [[عبد الناصر]] وبين البعثيين وحلفائهم، فأثمرت هذه الجهود، وألغي الحظر، فركب متن الطائرة التي أقلته إلى عاصمة الكنانة.


'''درس الماجستير في التربية وعلم النفس عند الغزالي، وقدم أطروحة الدكتوراه عن القاضي عبد الجبار أحد أئمة المعتزلة، وأصول دعوته وفلسفته بإشراف الدكتور [[أحمد فؤاد الأهواني]]، وفي كل مراحل هذه الدراسات وما سبقها كان متفوقاً ومتقدماً.'''


كانت هذه الحقبة من أغنى سنوات عمر فقيدنا الدكتور عبد الكريم، بالتزامه ودوامه على دار الكتب المصرية، أشهر مكتبات العالم العربي في أثناء تحضيره رسالتي الماجستير والدكتوراه مع عدد من رفقاء دراسته أمثال الدكتور شاكر الفحام الذي أمسى وزير التعليم العالي في النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي في وزارة البعث.
كانت هذه الحقبة من أغنى سنوات عمر فقيدنا الدكتور عبد الكريم، بالتزامه ودوامه على دار الكتب المصرية، أشهر مكتبات العالم العربي في أثناء تحضيره رسالتي الماجستير والدكتوراه مع عدد من رفقاء دراسته أمثال الدكتور [[شاكر الفحام]] الذي أمسى وزير التعليم العالي في النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي في وزارة البعث.


أجرى عبد الكريم لقاءات، وأقام علاقات بشخصيات علمية شهيرة في الجامعة وخارج الجامعة، واتصل بكبار المفكرين والأدباء والعلماء، وفي مقدمتهم الأديب المفكر الموسوعي، صاحب القلم الجبار، أو قل النحّار [[محمود محمد شاكر]]، الذي أسكت وأخرس كل الناعقين ضد القرآن الكريم والسنة الشريفة، واللغة العربية الفصحى، ودعوتهم إلى العامية، من أمثال لويس عوض وأشباهه، المشككين في حقائق [[الإسلام]]، والعازمين على إطفاء نوره، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الضالون والملحدون.


أجرى عبد الكريم لقاءات، وأقام علاقات بشخصيات علمية شهيرة في الجامعة وخارج الجامعة، واتصل بكبار المفكرين والأدباء والعلماء، وفي مقدمتهم الأديب المفكر الموسوعي، صاحب القلم الجبار، أو قل النحّار محمود محمد شاكر، الذي أسكت وأخرس كل الناعقين ضد القرآن الكريم والسنة الشريفة، واللغة العربية الفصحى، ودعوتهم إلى العامية، من أمثال لويس عوض وأشباهه، المشككين في حقائق الإسلام، والعازمين على إطفاء نوره، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الضالون والملحدون.
كان عبد الكريم حريصاً على حضور ملتقى [[محمود شاكر]] حرصه على دراساته الجامعية في منزل الشيخ محمود الذي كانت ترتاده نخبة من المفكرين من مصريين وسوريين، ومن أقطار عربية أخرى في شرق الوطن العربي ومغربه؛


غير أن عبد الكريم راعه وصدمه أسلوب الأديب الكبير [[محمود شاكر]] في تناول شخصيات عظيمة بأسلوب غير لائق بأمثاله من الكبار، ومن ذلك ما سمعه ذات يوم من تجريح، ومن كلمات نابية لا أستطيع إيرادها في الإمام [[حسن البنا]]، فلم يقو المحب والمريد [[حسن البنا|للبنا]] على سماعها، فانقطع عن اللقاء معرباً عن ألمه ونقده وإنكاره لما صدر عن الشيخ [[محمود شاكر]]؛


كان عبد الكريم حريصاً على حضور ملتقى محمود شاكر حرصه على دراساته الجامعية في منزل الشيخ محمود الذي كانت ترتاده نخبة من المفكرين من مصريين وسوريين، ومن أقطار عربية أخرى في شرق الوطن العربي ومغربه، غير أن عبد الكريم راعه وصدمه أسلوب الأديب الكبير محمود شاكر في تناول شخصيات عظيمة بأسلوب غير لائق بأمثاله من الكبار، ومن ذلك ما سمعه ذات يوم من تجريح، ومن كلمات نابية - لا أستطيع إيرادها - في الإمام [[حسن البنا]]، فلم يقو المحب والمريد للبنا على سماعها، فانقطع عن اللقاء معرباً عن ألمه ونقده وإنكاره لما صدر عن الشيخ محمود شاكر، فأدرك هذا خطأه، واعتذر عما بدر منه، ودعا الأخ عبد الكريم، وطيب نفسه وخاطره، فعادت الأمور إلى مجاريها، وصدق الله العظيم):نعم العبد إنه أواب( وحادثة أخرى ذات شأن، لقد تواعدنا نحن الثلاثة (مصطفى الصيرفي حفظه الله، والدكتور عبد الكريم رحمه الله، والفقير إلى عفو مولاه) في القاهرة، لإحياء أيام الأنس والمودة فيما بيننا في ذات الله، وفي رحاب دعوة الإخوان المسلمين، فقال عبد الكريم: ثمة تزاور بيني وبين عبد الحق شحادة، فهل ترغبون في اللقاء به، فلديه أمور يجدر سماعها، فوافقت على التو، وتحفظ الأخ أبو محمد الصيرفي حيال ذلك، واعتذر عن اللقاء، وقبل الدخول في موضوع اللقاء، لابد من إعطاء صورة عن عبد الحق شحادة التي اكتملت في الذهن قبيل اللقاء وبعده، كان عبد الحق ضابطاً في الجيش السوري في النصف الثاني من أربعينيات القرن الماضي، وفي النصف الأول من خمسينيات القرن، كان من أركان حكم الشيشكلي في الجيش السوري هو وزميله حسين حِدّة.
فأدرك هذا خطأه، واعتذر عما بدر منه، ودعا الأخ عبد الكريم، وطيب نفسه وخاطره، فعادت الأمور إلى مجاريها، وصدق الله العظيم):'''نعم العبد إنه أواب''' '''( وحادثة أخرى ذات شأن، لقد تواعدنا نحن الثلاثة ([[مصطفى الصيرفي]] حفظه الله، والدكتور عبد الكريم رحمه الله، والفقير إلى عفو مولاه)''' في [[القاهرة]]، لإحياء أيام الأنس والمودة فيما بيننا في ذات الله، وفي رحاب دعوة [[الإخوان المسلمين]]؛


''' فقال عبد الكريم:'''


بعد سقوط حكم الشيشكلي، غادر عبد الحق سورية بعد أن كان قد قاد حملة عسكرية على مقر المرشديين في جبل العلويين، وقضى على بعضهم ومنهم (مجيب) أحد أبناء سليمان المرشد، أقام علاقات مع عدد من دول المنطقة، فأقام بالقاهرة متعاوناً مع مدير المخابرات الفريق الماحي، وأسكنه المصريون إحدى الشقق المصادرة - باسم تصفية الإقطاع - ذات الأثاث الفاخر، وأقام علاقة مع السعوديين، وخصصوا له في مدينة جدة فيللا - وسبق أن زرته بها – فقال: لقد كلف فرشها مئة ألف ريال، وتعاون مع الصوماليين في عهد سياد بري، وحمل جوازاً دبلوماسياً صومالياً.. إلخ..
:ثمة تزاور بيني وبين [[عبد الحق شحادة]]، فهل ترغبون في اللقاء به، فلديه أمور يجدر سماعها، فوافقت على التو، وتحفظ الأخ أبو محمد الصيرفي حيال ذلك، واعتذر عن اللقاء، وقبل الدخول في موضوع اللقاء، لابد من إعطاء صورة عن [[عبد الحق شحادة]] التي اكتملت في الذهن قبيل اللقاء وبعده، كان عبد الحق ضابطاً في الجيش السوري في النصف الثاني من أربعينيات القرن الماضي، وفي النصف الأول من خمسينيات القرن، كان من أركان حكم الشيشكلي في الجيش السوري هو وزميله حسين حِدّة.


'''بعد سقوط حكم الشيشكلي'''، غادر عبد الحق [[سورية]] بعد أن كان قد قاد حملة عسكرية على مقر المرشديين في جبل العلويين، وقضى على بعضهم ومنهم '''(مجيب)''' أحد أبناء سليمان المرشد، أقام علاقات مع عدد من دول المنطقة، فأقام [[القاهرة|بالقاهرة]] متعاوناً مع مدير المخابرات الفريق الماحي، وأسكنه المصريون إحدى الشقق المصادرة باسم تصفية الإقطاع ذات الأثاث الفاخر، وأقام علاقة مع السعوديين، وخصصوا له في مدينة جدة فيللا وسبق أن زرته بها '''فقال:''' لقد كلف فرشها مئة ألف ريال، وتعاون مع الصوماليين في عهد سياد بري، وحمل جوازاً دبلوماسياً صومالياً.. إلخ..


تم اللقاء مع عبد الحق شحادة في شقته بالقاهرة، فكان حديثه لي وللأخ عبد الكريم عن مصر وسورية، وخلاصته أن الإخوان إذا وقفوا ضد حكومة البعث في سورية، وزعزعوا أركانها، يفرضون وجودهم على الناصريين، الأمر الذي يؤدي إلى  تخفيف الضغط عن الإخوان المسلمين في مصر، فقلت: هكذا يكون العلاج والموقف السياسي؟ إن مثل هذا الأمر يحتاج إلى حوار وتنسيق وترتيب بين المعارضين يتناول جميع المراحل، وتحديد المسؤوليات بدءاً من الكلمة الأولى، وحتى سقوط النظام، ليعرف كل طرف أين مكانه ومشاركته في مثل هذا الموضوع الخطير؟ ثم عرّج عبد الحق على تقويمه للحكم في مصر، وقال فيه ما قاله مالك في الخمر!! وذكر أن له كتاباً سينشره فيما بعد، عنوانه: من السبئية إلى الناصرية، جراء موقف الناصرية المعادي من الإسلام.
تم اللقاء مع عبد [[الحق شحادة]] في شقته [[القاهرة|بالقاهرة]]، فكان حديثه لي وللأخ عبد الكريم عن [[مصر]] و[[سورية]]، وخلاصته أن [[الإخوان]] إذا وقفوا ضد حكومة البعث في [[سورية]]، وزعزعوا أركانها، يفرضون وجودهم على الناصريين، الأمر الذي يؤدي إلى  تخفيف الضغط عن [[الإخوان المسلمين]] في [[مصر]] ، '''فقلت:''' هكذا يكون العلاج والموقف السياسي؟  


إن مثل هذا الأمر يحتاج إلى حوار وتنسيق وترتيب بين المعارضين يتناول جميع المراحل، وتحديد المسؤوليات بدءاً من الكلمة الأولى، وحتى سقوط النظام، ليعرف كل طرف أين مكانه ومشاركته في مثل هذا الموضوع الخطير؟ ثم عرّج عبد الحق على تقويمه للحكم في [[مصر]] ، وقال فيه ما قاله مالك في الخمر!! وذكر أن له كتاباً سينشره فيما بعد، عنوانه: من السبئية إلى الناصرية، جراء موقف الناصرية المعادي من [[الإسلام]].


انتهى اللقاء على أن نلتقي ثانية في وقت لاحق، فاستأنفنا اجتماعنا في كفتيريا حوريس في شارع 26 يوليو، وإذا بي أفاجأ بإنسان آخر غير الذي رأيت وسمعت في الشقة قبل يومين، بدأ عبد الحق بلهجة زاجرة قوله: إلى متى تمسكون العصا من الوسط؟ لماذا لا تعلنون في بيان صريح أنكم مع جمال عبد الناصر إلى آخر هذه الطروح التي كان يضغط بها على وجوب الانحياز إلى عبد الناصر ضد الحكم في سورية الذي يسيطر عليه البعثيون، وقد استنتجت من ذلك أن عبد الحق راجع المخابرات المصرية، وعرض عليهم ما جرى في شقته من أحاديث، فأملوا عليه هذا الموقف، وزودوه بالآراء والأفكار التي كان عليه أن يطرحها بهذه الفجاجة والفظاظة.
انتهى اللقاء على أن نلتقي ثانية في وقت لاحق، فاستأنفنا اجتماعنا في كفتيريا حوريس في شارع 26 [[يوليو]]، وإذا بي أفاجأ بإنسان آخر غير الذي رأيت وسمعت في الشقة قبل يومين، بدأ عبد الحق بلهجة زاجرة قوله: إلى متى تمسكون العصا من الوسط؟  


لماذا لا تعلنون في بيان صريح أنكم مع [[جمال عبد الناصر]] إلى آخر هذه الطروح التي كان يضغط بها على وجوب الانحياز إلى [[عبد الناصر]] ضد الحكم في [[سورية]] الذي يسيطر عليه البعثيون، وقد استنتجت من ذلك أن عبد الحق راجع المخابرات المصرية، وعرض عليهم ما جرى في شقته من أحاديث، فأملوا عليه هذا الموقف، وزودوه بالآراء والأفكار التي كان عليه أن يطرحها بهذه الفجاجة والفظاظة.


لقد استفزنا موقف عبد الحق وتغيير موقفه، واستدارته مئة وثمانين درجة، فقلت على الفور، وبردود فعل غير مناسبة ولا محمودة:
'''لقد استفزنا موقف عبد الحق وتغيير موقفه، واستدارته مئة وثمانين درجة، فقلت على الفور، وبردود فعل غير مناسبة ولا محمودة:'''


كل كلامك اليوم ومنذ يومين كنت تمهد له للطلب منا أن نؤيد الصنم؟ لقد كان هذا الحديث الفج مني مصدر إحراج لنا جميعاً، ولاسيما الأخ عبد الكريم الذي كان مقيماً في [[القاهرة]]، يتابع دراسته للدكتوراه في الفلسفة الإسلامية؛


- كل كلامك اليوم ومنذ يومين كنت تمهد له للطلب منا أن نؤيد الصنم؟ لقد كان هذا الحديث الفج مني مصدر إحراج لنا جميعاً، ولاسيما الأخ عبد الكريم الذي كان مقيماً في القاهرة، يتابع دراسته للدكتوراه في الفلسفة الإسلامية، فحاول تلطيف الموقف، وتفسير كلامي بما يخفف من سلبياته وآثاره التي لا نعرف ما سوف تؤول إليه، دون جدوى، ثم افترقنا، وذهب كل منا إلى سكناه، شعرت بالخطأ الفادح الذي وقعت فيه، ففكرت بالمغادرة السريعة، وما هي إلا سويعات، حتى كنت في مطار القاهرة في الطريق لركوب الطائرة قبل أن تحيط الدوائر المختصة علماً بما جرى في اجتماع حوريس، ولم يمض يومان إلا وكان ضابط برتبة عقيد - إن لم تخني الذاكرة - يقرع باب الشقة التي يقيم بها عبد الكريم عثمان الذي رحب به ودعاه إلى الدخول، فكانت تحقيقات واستفسارات عن اللقاءات والأحاديث والأشخاص.. إلخ، ومرت السحابة الداكنة، بعد أن تأكدوا أن عبد الكريم لم يكن طرفاً في الذي حدث من اللقاءين المنوه عنهما قبل قليل.
فحاول تلطيف الموقف، وتفسير كلامي بما يخفف من سلبياته وآثاره التي لا نعرف ما سوف تؤول إليه، دون جدوى، ثم افترقنا، وذهب كل منا إلى سكناه، شعرت بالخطأ الفادح الذي وقعت فيه، ففكرت بالمغادرة السريعة، وما هي إلا سويعات، حتى كنت في مطار [[القاهرة]] في الطريق لركوب الطائرة قبل أن تحيط الدوائر المختصة علماً بما جرى في اجتماع حوريس؛


ولم يمض يومان إلا وكان ضابط برتبة عقيد إن لم تخني الذاكرة يقرع باب الشقة التي يقيم بها عبد الكريم عثمان الذي رحب به ودعاه إلى الدخول، فكانت تحقيقات واستفسارات عن اللقاءات والأحاديث والأشخاص.. إلخ، ومرت السحابة الداكنة، بعد أن تأكدوا أن عبد الكريم لم يكن طرفاً في الذي حدث من اللقاءين المنوه عنهما قبل قليل.


هذه الصورة السلبية عن عبد الحق شحادة لم تقنع بعض الإخوة من حلب الذين عرفوا عبد الحق منذ أيامه الأولى، عندما كان عضواً في دار الأرقم - إحدى الجمعيات التي شكلت جماعة الإخوان المسلمين - فظل حسن الظن يغلب عليهم في الرجل، وبعد مرور سنوات، وحدوث الصدام في سورية بين الإخوان والنظام، ظهر عبد الحق في عمان، وزار بعض مقرات الإخوان عبر معارفه السابقة في الجماعة، ثم سافر إلى  بغداد والتقى نائب الرئيس العراقي، وعرض عليه التعاون مع السلطة، بعد أن قدم نفسه من دعاة التيار القومي باعتباره أحد المؤسسين في الشمال السوري لحركة التحرير العربي برئاسة السياسي ظافر الرفاعي، ثم عاد إلى عمان، وزار عدداً من الإخوان، وشن حملة أمام الأعضاء على قيادة الجماعة متهماً إياها بالانبطاح - حسب تعبيره - كما شن حملة على العراقيين، وقام بتوزيع مذكرتين بخط يده، تقع إحداهما في 63 صفحة، والثانية في 21 صفحة بشكل واسع، فتلقفها عدنان عقلة الذي كان يتربص بالجماعة ويعتبرها عقبة في طريق طموحاته الثورية، وشرع بتصويرها وتوزيعها على نطاق واسع في الأردن وأوربا وفي كل مكان استطاع أن يوصلها إليه.
هذه الصورة السلبية عن [[عبد الحق شحادة]] لم تقنع بعض الإخوة من حلب الذين عرفوا عبد الحق منذ أيامه الأولى، عندما كان عضواً في دار الأرقم إحدى الجمعيات التي شكلت جماعة [[الإخوان المسلمين]] فظل حسن الظن يغلب عليهم في الرجل؛


وبعد مرور [[سنوات]]، وحدوث الصدام في [[سورية]] بين [[الإخوان]] والنظام، ظهر عبد الحق في عمان، وزار بعض مقرات [[الإخوان]] عبر معارفه السابقة في [[الإخوان|الجماعة]]، ثم سافر إلى  بغداد والتقى نائب الرئيس العراقي، وعرض عليه التعاون مع السلطة، بعد أن قدم نفسه من دعاة التيار القومي باعتباره أحد المؤسسين في الشمال السوري لحركة التحرير العربي برئاسة السياسي [[ظافر الرفاعي]]؛


عاد عبد الحق شحادة إلى القاهرة بعد أن قطع حباله مع العراق والإخوان، بعد أن يئس من إقناع الإخوان بوجوب مغادرة الأردن والعراق، فقال الشيخ سعيد حوّى رحمه الله:
ثم عاد إلى عمان، وزار عدداً من [[الإخوان]] ، وشن حملة أمام الأعضاء على قيادة [[الإخوان|الجماعة]] متهماً إياها بالانبطاح حسب تعبيره كما شن حملة على العراقيين، وقام بتوزيع مذكرتين بخط يده، تقع إحداهما في 63 صفحة، والثانية في 21 صفحة بشكل واسع، فتلقفها عدنان عقلة الذي كان يتربص [[الإخوان|بالجماعة]] ويعتبرها عقبة في طريق طموحاته الثورية، وشرع بتصويرها وتوزيعها على نطاق واسع في [[الأردن]] وأوربا وفي كل مكان استطاع أن يوصلها إليه.


عاد [[عبد الحق شحادة]] إلى [[القاهرة]] بعد أن قطع حباله مع [[العراق]] و[[الإخوان]]، بعد أن يئس من إقناع [[الإخوان]] بوجوب مغادرة [[الأردن]] و[[العراق]]،


- إلى أين يريد أن يقذف بنا عبد الحق؟ رداً على اقتراحه بمغادرة العراق والأردن.
'''فقال الشيخ [[سعيد حوى]] رحمه الله:'''


:إلى أين يريد أن يقذف بنا عبد الحق؟ رداً على اقتراحه بمغادرة [[العراق]] و[[الأردن]].


توفي نائب الرئيس العراقي الذي أجرى عبد الحق الحديث معه، وتوفي الشيخ سعيد حوى، وتوفي منذ أسابيع أو أشهر عبد الحق، فالكل انتقل إلى جوار ربه، لنتعظ جميعاً، ونتذكر أن الحياة فانية، وأن العمر فيها ليس أكثر من سحابة صيف، تلوح وسرعان ما تنقشع، رحم الله الجميع وسامحهم وغفر لهم، وتجاوز عنا وعنهم وتغمدهم بالرحمة والغفران.
:توفي نائب الرئيس العراقي الذي أجرى عبد الحق الحديث معه، وتوفي الشيخ [[سعيد حوي]]، وتوفي منذ أسابيع أو أشهر عبد الحق، فالكل انتقل إلى جوار ربه، لنتعظ جميعاً، ونتذكر أن الحياة فانية، وأن العمر فيها ليس أكثر من سحابة صيف، تلوح وسرعان ما تنقشع، رحم الله الجميع وسامحهم وغفر لهم، وتجاوز عنا وعنهم وتغمدهم بالرحمة والغفران.


== العودة إلى [[سورية]] ==


عاد الداعية [[عبد الكريم عثمان]] من [[القاهرة]]، يحمل شهادة الدكتوراه في الفلسفة الإسلامية بامتياز وتفوق، ليشغل مقعد هذه الدراسة التي أوفدته الجامعة ليملأ كرسيها، غير أنه ألفى الأبواب موصدة في وجهه، وأن حكومة الأقلية زاهدة في كل المواهب والاختصاصات إذا لم تكن من المشايعين لها في أفكارها الشاذة، بالرغم مما أنفقته الجامعة على الموفد من تكاليف الدراسة.


== العودة إلى سورية ==
كان اختصاصه مطلوباً في الكثير من الجامعات، فاختار التعاقد مع جامعات [[المملكة العربية السعودية]]، وسرعان ما طرح في الوسط الجامعي موضوع الثقافة الإسلامية، لتكون مادة مقررة في جميع كليات الجامعات [[المملكة العربية السعودية]]، يدرسها الطبيب والمهندس والصيدلي وجميع الكليات العلمية، والحقوقي والأديب والمؤرخ والاقتصادي، فوجد اقتراحه قبولاً، وأخذ طريقه للتنفيذ.
 
عاد الداعية [[عبد الكريم عثمان]] من القاهرة، يحمل شهادة الدكتوراه في الفلسفة الإسلامية بامتياز وتفوق، ليشغل مقعد هذه الدراسة التي أوفدته الجامعة ليملأ كرسيها، غير أنه ألفى الأبواب موصدة في وجهه، وأن حكومة الأقلية زاهدة في كل المواهب والاختصاصات إذا لم تكن من المشايعين لها في أفكارها الشاذة، بالرغم مما أنفقته الجامعة على الموفد من تكاليف الدراسة.
 
 
كان اختصاصه مطلوباً في الكثير من الجامعات، فاختار التعاقد مع جامعات المملكة العربية السعودية، وسرعان ما طرح في الوسط الجامعي موضوع الثقافة الإسلامية، لتكون مادة مقررة في جميع كليات الجامعات السعودية، يدرسها الطبيب والمهندس والصيدلي وجميع الكليات العلمية، والحقوقي والأديب والمؤرخ والاقتصادي، فوجد اقتراحه قبولاً، وأخذ طريقه للتنفيذ.
 
 
عكف الدكتور عبد الكريم على هذا الموضوع، واختار بحوثه ومواده، وأصدر فيه مؤلفات دخلت في المناهج المقررة، يتقدم فيها جميع طلاب الجامعات إلى  الامتحان كباقي المواد ذات الاختصاص سواء بسواء، ومنذ ذلك الحين، وبعد حوالي أربعين سنة ما زالت كتب الدكتور عبد الكريم عثمان مراجع للدراسة في فلسفة الغزالي، وفي الفكر المعتزلي، وفي الثقافة الإسلامية، رحمه الله وأجزل له المثوبة.
 


'''عكف الدكتور عبد الكريم على هذا الموضوع'''، واختار بحوثه ومواده، وأصدر فيه مؤلفات دخلت في المناهج المقررة، يتقدم فيها جميع طلاب الجامعات إلى  الامتحان كباقي المواد ذات الاختصاص سواء بسواء، ومنذ ذلك الحين، وبعد حوالي أربعين سنة ما زالت كتب الدكتور عبد الكريم عثمان مراجع للدراسة في فلسفة الغزالي، وفي الفكر المعتزلي، وفي الثقافة الإسلامية، رحمه الله وأجزل له المثوبة.


== الرحيل المبكر ==
== الرحيل المبكر ==


في منتصف الستينيات من القرن الماضي، هبطت طائرة في مطار دمشق كان على متنها الأخ [[عبد الكريم عثمان]]، فأبلغه موظف الأمن أن قراراً صدر عن الدوائر المختصة يمنع أربعة مواطنين من العودة إلى سورية، وهم:
في منتصف الستينيات من القرن الماضي، هبطت طائرة في مطار دمشق كان على متنها الأخ [[عبد الكريم عثمان]]، فأبلغه موظف الأمن أن قراراً صدر عن الدوائر المختصة يمنع أربعة مواطنين من العودة إلى [[سورية]]،


'''وهم:'''


[[عبد الكريم عثمان]]، ومصطفى الصيرفي، ونعسان عرواني، وعدنان سعد الدين، وقال الموظف: كل ما أستطيع أن أساعدك به، أن أترك لك وقتاً كافياً لاختيار الطائرة التي ستغادر بها إلى حيث تريد، فاختار طائرة متجهة إلى بيروت، وعندما وصلتُ إلى  لبنان، أخبرني عبد الكريم بقرار المنع، فوجدنا في لبنان الملاذ الذي كنا نمضي إجازات الصيف في ربوعه، ونلتقي على أرضه ب[[الإخوان]] من جميع المدن السورية، ومع الإخوة في لبنان الذين كثيراً ما كانوا يوجهون إلينا الدعوة إلى مقراتهم ومخيماتهم لنسهم في إلقاء الكلمات وتوجيه أبناء الجماعة الإسلامية في لبنان.
:[[عبد الكريم عثمان]]، و[[مصطفى الصيرفي]]، و[[نعسان عرواني]]، و[[عدنان سعد الدين]]، '''وقال الموظف:''' كل ما أستطيع أن أساعدك به، أن أترك لك وقتاً كافياً لاختيار الطائرة التي ستغادر بها إلى حيث تريد، فاختار طائرة متجهة إلى بيروت، وعندما وصلتُ إلى  [[لبنان]]، أخبرني عبد الكريم بقرار المنع، فوجدنا في [[لبنان]] الملاذ الذي كنا نمضي إجازات الصيف في ربوعه؛


:ونلتقي على أرضه ب[[الإخوان]] من جميع المدن السورية، ومع الإخوة في [[لبنان]]  الذين كثيراً ما كانوا يوجهون إلينا [[الاخوان|الدعوة]] إلى مقراتهم ومخيماتهم لنسهم في إلقاء الكلمات وتوجيه أبناء الجماعة الإسلامية في [[لبنان]].


في مطلع السبعينيات حضر الأخ عبد الكريم إلى بيروت، فأنكرت ما رأيته فيه من أثر المرض البادي في صفحات وجهه وفي محياه، وعندما ألح عليه المرض راجع الطبيب المختص في مستشفى الجامعة الأمريكية الدكتور حداد، فطمأنه بادئ ذي بدء ­بعد إجراء الفحوص الطبية اللازمة، ثم طلب منه بعد فترة قصيرة إعادة الفحص بإخراج قزعة من كبده، ففاجأه أن أيامه محدودة، وعليه القيام بتصفية أموره سريعاً، فهُرع إلى الكاتب بالعدل لاستخراج تفويض لأهله في شؤونه المالية والأسرية، ثم تدهورت صحته بوقت قصير، ولم يعد قادراً على الكلام، فكانت كلماته لا تكاد تسمع إلا همساً، عرضنا عليه العلاج في أي بلد يريد، لنرفع من معنوياته وحالته النفسية، وخيرناه بالذهاب إلى  موسكو أو واشنطن أو أوربا، فاختار الذهاب إلى  النمسا لوجود شقيق زوجته صلاح الحلاق في فينا للدراسة بها، فلم يلبث أن عاد منها بعد أن أكد له الأطباء استفحال المرض، فقد كانت حالته تنبئ عن اقتراب الأجل، فسعى له أصحابه وأحبابه بالسفر إلى منزل عائلته في مدينة حماة، وما هي إلا أيام حتى فارق الحياة، وانتقل إلى جوار ربه راضياً مرضياً.
'''في مطلع السبعينيات حضر الأخ عبد الكريم إلى بيروت'''، فأنكرت ما رأيته فيه من أثر المرض البادي في صفحات وجهه وفي محياه، وعندما ألح عليه المرض راجع الطبيب المختص في مستشفى الجامعة الأمريكية الدكتور حداد، فطمأنه بادئ ذي بدء ­بعد إجراء الفحوص الطبية اللازمة؛


ثم طلب منه بعد فترة قصيرة إعادة الفحص بإخراج قزعة من كبده، ففاجأه أن أيامه محدودة، وعليه القيام بتصفية أموره سريعاً، فهُرع إلى الكاتب بالعدل لاستخراج تفويض لأهله في شؤونه المالية والأسرية، ثم تدهورت صحته بوقت قصير، ولم يعد قادراً على الكلام، فكانت كلماته لا تكاد تسمع إلا همساً؛


لقد كانت وفاة عبد الكريم صدمة مؤلمة [[للإخوان]] جميعاً، ولاسيما لرفقاء دربه ومسيرته الدعوية، وخسارة للجماعة التي كان [[عبد الكريم عثمان]] - أبو علاء - من ألمع شبابها وأكبر دعاتها، فشيعته الجموع الحاشدة، وحملت جنازته على الأكف في 1972/9/9 بحضور عدد من أبناء المحافظات السورية الأخرى.
عرضنا عليه العلاج في أي بلد يريد، لنرفع من معنوياته وحالته النفسية، وخيرناه بالذهاب إلى  موسكو أو واشنطن أو أوربا، فاختار الذهاب إلى النمسا لوجود شقيق زوجته صلاح الحلاق في فينا للدراسة بها، فلم يلبث أن عاد منها بعد أن أكد له الأطباء استفحال المرض، فقد كانت حالته تنبئ عن اقتراب الأجل، فسعى له أصحابه وأحبابه بالسفر إلى منزل عائلته في مدينة حماة، وما هي إلا أيام حتى فارق الحياة، وانتقل إلى جوار ربه راضياً مرضياً.
احتشدت الجموع على قبر الفقيد، فألقى الشيخ سعيد حوّى - رحمه الله - كعادته - كلمة مؤثرة، هيجت الأحزان، وعصرت قلوب المشيعين، ولامست أكبادهم، كما ألقى الشيخ عبد الله علوان رحمه الله كلمة باسم إخوان حلب، فسالت الدموع، وانسكبت العبرات حزناً على فراق زين الشباب، وفخر الرجال، وكان للأخ عبد المنعم نيربية - أبي عرفان - قصيدة نظمها في رثاء الداعية، إلا أن الأخ الذي يغلب على طبعه الحياء والانطواء أمسك عن إلقائها لظروف شخصية وأمنية، بانتظار الساعة المناسبة لنشرها، فجاء الأوان في هذا الملحق عن الفقيد في المجلد الثاني عن [[الإخوان المسلمين]] في سورية الغالية.
وهذه قصيدة الرثاء، وقد جاء فيها:


'''لقد كانت وفاة عبد الكريم صدمة مؤلمة [[للإخوان]] جميعاً'''، ولاسيما لرفقاء دربه ومسيرته الدعوية، وخسارة [[الاخوان|للجماعة]] التي كان عبد الكريم عثمان أبو علاء من ألمع شبابها وأكبر دعاتها، فشيعته الجموع الحاشدة، وحملت جنازته على  الأكف في [[1972]]/9/9 بحضور عدد من أبناء المحافظات السورية الأخرى.


في التياع المُكلّمِ المفجوعِ  =  بتُّ أبكي حبيبَ هذي الجُموعِ
احتشدت الجموع على قبر الفقيد، فألقى الشيخ [[سعيد حوي]] رحمه الله كعادته كلمة مؤثرة، هيجت الأحزان، وعصرت قلوب المشيعين، ولامست أكبادهم، كما ألقى الشيخ عبد الله علوان رحمه الله كلمة باسم [[الإخوان|إخوان]] حلب، فسالت الدموع، وانسكبت العبرات حزناً على فراق زين الشباب، وفخر الرجال، وكان للأخ [[عبد المنعم نيربية]] أبي عرفان قصيدة نظمها في رثاء الداعية؛


عَلَمٌ شامخٌ تلألأ فيه  =  مَعدنُ الخيرِ والرشاد البديعِ
إلا أن الأخ الذي يغلب على طبعه الحياء والانطواء أمسك عن إلقائها لظروف شخصية وأمنية، بانتظار الساعة المناسبة لنشرها، فجاء الأوان في هذا الملحق عن الفقيد في المجلد الثاني عن [[الإخوان المسلمين]] في [[سورية]] الغالية.


مؤمنٌ ثابتُ الجنانِ.. ذكيٌ  =  ألمعيٌ.. إلى العُلا في نُزوعِ
'''وهذه قصيدة الرثاء، وقد جاء فيها:'''


وخطيبٌ يَسبيكَ سِحرُ بيانٍ   =  نحوَ مبنى تبيانِهِ المسموعِ
<center>'''في التياع المُكلّمِ المفجوعِ'''    
:::::      ''' بتُّ أبكي حبيبَ هذي الجُموعِ'''


والمعاني موصولةٌ بمَعين  =  هو في ذروةِ البيانِ الرفيعِ
'''عَلَمٌ شامخٌ تلألأ فيه  '''
:::::      '''مَعدنُ الخيرِ والرشاد البديعِ'''


فيلسوفٌ ما زاغَ فيه فؤادٌ =  عن صراطِ اللهِ البصيرِ السميعِ
'''مؤمنٌ ثابتُ الجنانِ.. ذكيٌ '''
:::::      '''ألمعيٌ.. إلى العُلا في نُزوعِ'''


خاضَ بحرَ الآدابِ خوضَ جَسورٍ  =  لا على اللهِ بل على الترقيعِ
'''وخطيبٌ يَسبيكَ سِحرُ بيانٍ '''
:::::    ''' نحوَ مبنى تبيانِهِ المسموعِ'''


سَرقاتُ المستغربينَ الحَيارى  =  لم تُضلله وهي صِنوُ الخُنوع
'''والمعاني موصولةٌ بمَعين  '''
:::::      '''هو في ذروةِ البيانِ الرفيعِ'''


إنّ مَن صاحَبَ (الغزاليَّ) يَجني  =  من ثمارِ الفكر العميقِ الضليعِ
'''فيلسوفٌ ما زاغَ فيه فؤادٌ '''
:::::      '''عن صراطِ اللهِ البصيرِ السميعِ'''


كيف تُغويهِ فلسفاتُ حَيارى  =  سقطوا في مزالقِ التشنيعِ؟!
'''خاضَ بحرَ الآدابِ خوضَ جَسورٍ '''
:::::      '''لا على اللهِ بل على الترقيعِ'''


إيهِ (عبدَ الكريمِ) نبراسَ جيلٍ  =    مؤمنٍ صادقٍ مُنيبٍ مُطيعِ
'''سَرقاتُ المستغربينَ الحَيارى  '''
:::::    '''لم تُضلله وهي صِنوُ الخُنوع'''


عُدتَ من (مصرَ) حاملاً لوسامٍ  =    جامعيٍّ في قمةِ الترفيعِ
'''إنّ مَن صاحَبَ (الغزاليَّ) يَجني  '''
:::::      '''من ثمارِ الفكر العميقِ الضليعِ'''


ويحَ قومٍ لم يُكرموا فيكَ عِلما  =  وخلالاً تزهو كزهر الربيعِ
'''كيف تُغويهِ فلسفاتُ حَيارى '''
:::::        '''سقطوا في مزالقِ التشنيعِ؟!'''


خوّفتهم مواهبٌ فيكَ عظمى  =    فنَفَوها تَحَكّماً في القَطيعِ
'''إيهِ (عبدَ الكريمِ) نبراسَ جيلٍ '''
:::::        '''مؤمنٍ صادقٍ مُنيبٍ مُطيعِ'''


كيف يَرضَونَ أن تصدَّ شباباً    =    عن طريقِ الإلحادِ والتضييعِ؟!
'''عُدتَ من (مصرَ) حاملاً لوسامٍ  '''
:::::      '''جامعيٍّ في قمةِ الترفيعِ'''


كيف يَرضونَ أن تُزاحمَ رَهطا    =    وعدواً وابنِ اليسارِ الشيوعي؟
'''ويحَ قومٍ لم يُكرموا فيكَ عِلما  '''
 
:::::      '''وخلالاً تزهو كزهر الربيعِ'''
فلتُسافر إلى (الرياضِ) مُعاراً    =    وحرامٌ عليكَ مرأى الرُّبوعِ
 
'''خوّفتهم مواهبٌ فيكَ عظمى  '''
(أحرامٌ على بلابلنا الدّو     =    حُ حَلالٌ) للبومِ في تشجيعِ؟ 
:::::     ''' فنَفَوها تَحَكّماً في القَطيعِ'''


فالكريمُ الأصيلُ يُسجنُ أو يُنفى   =  وذو الموبقاتِ قبلَ الجَميعِ
'''كيف يَرضَونَ أن تصدَّ شباباً   '''
:::::      '''عن طريقِ الإلحادِ والتضييعِ؟!'''


وقريباً من منزلِ الوحي جاهَد  =    تَ بعزمٍ في خدمةِ التشريعِ
'''كيف يَرضونَ أن تُزاحمَ رَهطا  '''
:::::        '''وعدواً وابنِ اليسارِ الشيوعي؟'''


تَبذلُ العِلمَ في ظِلالِ اختصاصٍ  =  تَعبدُ اللهَ في لِباسِ الخَشوعِ
'''فلتُسافر إلى (الرياضِ) مُعاراً'''   
:::::      '''وحرامٌ عليكَ مرأى الرُّبوعِ'''


شَهِدَ العارفونَ أنَكَ قد كنتَ  = كريمَ الأخلاقِ مثلَ الشُّموعِ
'''(أحرامٌ على بلابلنا الدّو    '''
:::::    ''' حُ حَلالٌ) للبومِ في تشجيعِ؟'''  


حينَ تُعطي من نورِها بسخاءٍ  =     بينما الجسمُ آخذٌ في الرّجوعِ
'''فالكريمُ الأصيلُ يُسجنُ أو يُنفى''' 
:::::     '''وذو الموبقاتِ قبلَ الجَميعِ'''


لَهفَ نفسي (أبا علاءٍ) على    =    الفِكرِ شهيدِ الداءِ العُضالِ المُريعِ
'''وقريباً من منزلِ الوحي جاهَد''' 
:::::      '''تَ بعزمٍ في خدمةِ التشريعِ'''


أحرقَتْكَ الآلامُ تغزو ببطءٍ    =      كبداً قد أُصيبَ بينَ الضلوعِ
'''تَبذلُ العِلمَ في ظِلالِ اختصاصٍ''' 
:::::      '''تَعبدُ اللهَ في لِباسِ الخَشوعِ'''


فاجأتنا الأخبارُ بالشرِّ تَتْرى     =    فأسِفنا على الذُّبولِ السريعِ
'''شَهِدَ العارفونَ أنَكَ قد كنتَ''' 
:::::     ''' كريمَ الأخلاقِ مثلَ الشُّموعِ'''


لهفَ نفسي على الدّعاةِ كِباراً      =    كمْ مَشينا نَحُفُُّهْم بالدموعِ!
'''حينَ تُعطي من نورِها بسخاءٍ  '''
:::::    ''' بينما الجسمُ آخذٌ في الرّجوعِ'''


كم بدورٍ سَنيةٍ قد فَقَدنا=وأولو الغَيّ في ازديادٍ مَنيعِ
'''لَهفَ نفسي (أبا علاءٍ) على  '''
:::::    '''الفِكرِ شهيدِ الداءِ العُضالِ المُريعِ'''


رَبِّ عوِّضْ عنهم بأشبالِ دينٍ=سوفَ يَفدونَ دينَهم بالنجيعِ
'''أحرقَتْكَ الآلامُ تغزو ببطءٍ  '''
:::::      '''كبداً قد أُصيبَ بينَ الضلوعِ'''


رَبِّ والطُفْ بالمسلمينَ اليتامى=رَبّ رُحماكَ بالوليدِ الرضيعِ
'''فاجأتنا الأخبارُ بالشرِّ تَتْرى    '''
:::::      '''فأسِفنا على الذُّبولِ السريعِ'''


رَبِّ ألهِم آل الفقيدِ اصطباراً=رَبّ أسكنهُ في جِوار الشفيعِ
'''لهفَ نفسي على الدّعاةِ كِباراً  '''
:::::      '''كمْ مَشينا نَحُفُهْم بالدموعِ!'''


'''كم بدورٍ سَنيةٍ قد فَقَدنا'''
:::::      '''وأولو الغَيّ في ازديادٍ مَنيعِ'''


'''رَبِّ عوِّضْ عنهم بأشبالِ دينٍ'''
:::::      '''رَبّ رُحماكَ بالوليدِ الرضيعِ'''


31 في التيـاع المُكلّـمِ iiالمفجـوعِ        بتُّ أبكي حبيبَ هـذي الجُمـوعِ
'''رَبِّ ألهِم آل الفقيدِ اصطباراً'''
:::::      '''رَبّ أسكنهُ في جِوار الشفيعِ'''


عَلَـمٌ شامـخٌ تــلألأ iiفـيـه        مَعدنُ الخيرِ والرشـاد  iiالبديـعِ
'''31 في التيـاع المُكلّـمِ المفجـوعِ      '''
:::::      '''بتُّ أبكي حبيبَ هـذي الجُمـوعِ'''


مؤمنٌ ثابـتُ الجنـانِ.. iiذكـيٌ        ألمعيٌ.. إلى العُلا فـي نُـزوعِ
'''عَلَـمٌ شامـخٌ تــلألأ فـيـه      '''
:::::      '''مَعدنُ الخيرِ والرشـاد البديـعِ'''


وخطيبٌ يَسبيـكَ سِحـرُ iiبيـانٍ        نحوَ مبنـى تبيانِـهِ iiالمسمـوعِ
'''مؤمنٌ ثابـتُ الجنـانِ.. ذكـيٌ      '''
:::::      ألمعيٌ.. إلى العُلا فـي  نُـزوعِ


والمعانـي موصولـةٌ  بمَعيـن        هو فـي ذروةِ البيـانِ iiالرفيـعِ
'''وخطيبٌ يَسبيـكَ سِحـرُ بيـانٍ      '''
:::::      '''نحوَ مبنـى تبيانِـهِ المسمـوعِ'''


فيلسوفٌ مـا زاغَ فيـه فـؤادٌ        عن صراطِ اللهِ البصيرِ iiالسميـعِ
'''والمعانـي موصولـةٌ بمَعيـن      '''
:::::      '''هو فـي ذروةِ البيـانِ الرفيـعِ'''


خاضَ بحرَ الآدابِ خوضَ iiجَسورٍ        لا على اللهِ بل علـى  iiالترقيـعِ
'''فيلسوفٌ مـا زاغَ فيـه  فـؤادٌ      '''
:::::      '''عن صراطِ اللهِ البصيرِ السميـعِ'''


سَرقاتُ المستغربينَ iiالحَيـارى        لم تُضلله وهي صِنـوُ الخُنـوع
'''خاضَ بحرَ الآدابِ خوضَ جَسورٍ      '''
:::::      ''' لا على اللهِ بل علـى الترقيـعِ'''


إنّ مَن صاحَبَ (الغزاليَّ) يَجنـي        من ثمارِ الفكر العميقِ iiالضليـعِ
'''سَرقاتُ المستغربينَ  الحَيـارى      '''
:::::          '''لم تُضلله وهي صِنـوُ الخُنـوع'''


كيف تُغويهِ فلسفـاتُ  iiحَيـارى        سقطوا في مزالـقِ iiالتشنيـعِ؟!
'''إنّ مَن صاحَبَ (الغزاليَّ) يَجنـي      '''
:::::        '''من ثمارِ الفكر العميقِ الضليـعِ'''


إيهِ (عبدَ الكريمِ) نبـراسَ جيـلٍ        مؤمنٍ صـادقٍ مُنيـبٍ مُطيـعِ
'''كيف تُغويهِ فلسفـاتُ حَيـارى      '''
:::::        '''سقطوا في مزالـقِ التشنيـعِ؟!'''


عُدتَ من (مصرَ) حاملاً iiلوسامٍ        جامعـيٍّ فـي قمـةِ  iiالترفيـعِ
'''إيهِ (عبدَ الكريمِ) نبـراسَ جيـلٍ      '''
:::::        '''مؤمنٍ صـادقٍ مُنيـبٍ مُطيـعِ'''


ويحَ قومٍ لم يُكرموا فيكَ iiعِلمـا        وخلالاً تزهـو كزهـر iiالربيـعِ
'''عُدتَ من (مصرَ) حاملاً  لوسامٍ      '''
:::::      ''' جامعـيٍّ فـي قمـةِ  الترفيـعِ'''


خوّفتهم مواهبٌ فيـكَ  عظمـى       فنَفَوهـا تَحَكّمـاً فـي القَطيـعِ
'''ويحَ قومٍ لم يُكرموا فيكَ عِلمـا      '''
:::::       '''وخلالاً تزهـو كزهـر الربيـعِ'''


كيف يَرضَونَ أن تصـدَّ iiشبابـاً       عن طريقِ الإلحادِ iiوالتضييـعِ؟!
'''خوّفتهم مواهبٌ فيـكَ  عظمـى      '''
:::::       '''فنَفَوهـا تَحَكّمـاً فـي القَطيـعِ'''


كيف يَرضونَ أن تُزاحمَ  رَهطـا       وعدواً وابنِ اليسارِ الشيوعـي؟
'''كيف يَرضَونَ أن تصـدَّ شبابـاً      '''
:::::       '''عن طريقِ الإلحادِ والتضييـعِ؟!'''


فلتُسافر إلى (الرياضِ) iiمُعـاراً        وحرامٌ عليـكَ مـرأى الرُّبـوعِ
'''كيف يَرضونَ أن تُزاحمَ رَهطـا '''     
:::::        وعدواً وابنِ اليسارِ الشيوعـي؟


(أحـرامٌ علـى بلابلنـا iiالـدّو       حُ حَلالٌ) للبومِ فـي  iiتشجيـعِ؟
'''فلتُسافر إلى (الرياضِ) مُعـاراً      '''
:::::       ''' وحرامٌ عليـكَ مـرأى الرُّبـوعِ'''


فالكريمُ الأصيلُ يُسجنُ أو يُنفـى       وذو الموبقـاتِ قبـلَ الجَميـعِ
'''(أحـرامٌ علـى بلابلنـا  الـدّو      '''
:::::       ''' حُ حَلالٌ) للبومِ فـي تشجيـعِ؟'''


وقريباً من منزلِ الوحي جاهَـد        تَ بعزمٍ في خدمـةِ  iiالتشريـعِ
'''فالكريمُ الأصيلُ يُسجنُ أو يُنفـى      '''
:::::        '''وذو الموبقـاتِ قبـلَ الجَميـعِ'''


تَبذلُ العِلمَ في ظِلالِ iiاختصـاصٍ        تَعبدُ اللهَ في لِبـاسِ iiالخَشـوعِ
'''وقريباً من منزلِ الوحي  جاهَـد      '''
:::::      ''' تَ بعزمٍ في خدمـةِ التشريـعِ'''


شَهِدَ العارفونَ أنَـكَ قـد كنـتَ       كريمَ الأخلاقِ مثـلَ iiالشُّمـوعِ
'''تَبذلُ العِلمَ في ظِلالِ اختصـاصٍ      '''
:::::       '''تَعبدُ اللهَ في لِبـاسِ الخَشـوعِ'''


حينَ تُعطي من نورِها بسخـاءٍ        بينما الجسمُ آخذٌ في  iiالرّجـوعِ
'''شَهِدَ العارفونَ أنَـكَ قـد كنـتَ      '''
:::::      ''' كريمَ الأخلاقِ مثـلَ الشُّمـوعِ'''


لَهفَ نفسي (أبا عـلاءٍ) iiعلـى        الفِكرِ شهيدِ الداءِ العُضالِ المُريعِ
'''حينَ تُعطي من نورِها  بسخـاءٍ      '''
:::::      ''' بينما الجسمُ آخذٌ في  الرّجـوعِ'''


أحرقَتْـكَ الآلامُ تغـزو  iiببـطءٍ       كبداً قد أُصيـبَ بيـنَ الضلـوعِ
'''لَهفَ نفسي (أبا عـلاءٍ) علـى'''        
:::::        '''الفِكرِ شهيدِ الداءِ العُضالِ المُريعِ'''


فاجأتنا الأخبارُ بالشـرِّ iiتَتْـرى       فأسِفنا على الذُّبـولِ  iiالسريـعِ
'''أحرقَتْـكَ الآلامُ تغـزو ببـطءٍ      '''
:::::       ''' كبداً قد أُصيـبَ بيـنَ الضلـوعِ'''


لهفَ نفسي على الدّعاةِ iiكِبـاراً        كمْ مَشينـا نَحُفُُّهْـم iiبالدمـوعِ!
'''فاجأتنا الأخبارُ بالشـرِّ  تَتْـرى      '''
:::::        '''فأسِفنا على الذُّبـولِ السريـعِ'''


كـم بـدورٍ سَنيـةٍ قـد فَقَدنـا        وأولو الغَيّ في ازديـادٍ iiمَنيـعِ
'''لهفَ نفسي على الدّعاةِ كِبـاراً      '''
:::::          '''مَشينـا نَحُفُهْـم بالدمـوعِ!'''


رَبِّ عوِّضْ عنهم بأشبالِ iiديـنٍ        سوفَ يَفدونَ دينَهـم  iiبالنجيـعِ
'''كـم بـدورٍ سَنيـةٍ قـد فَقَدنـا      '''
:::::          وأولو الغَيّ في ازديـادٍ مَنيـعِ


رَبِّ والطُفْ بالمسلمينَ iiاليتامى        رَبّ رُحماكَ بالوليـدِ iiالرضيـعِ
'''رَبِّ عوِّضْ عنهم بأشبالِ ديـنٍ      '''
:::::          '''سوفَ يَفدونَ دينَهـم بالنجيـعِ'''


رَبِّ ألهِم آل الفقيـدِ iiاصطبـاراً        رَبّ أسكنهُ في جِـوار iiالشفيـعِ
'''رَبِّ والطُفْ بالمسلمينَ اليتامى      '''
:::::        '''رَبّ رُحماكَ بالوليـدِ  الرضيـعِ'''


'''رَبِّ ألهِم آل الفقيـدِ  اصطبـاراً      '''
:::::        '''رَبّ أسكنهُ في جِـوار الشفيـعِ'''
</center>


'''رحم الله الفقيد الغالي، وأسكنه فسيح جناته، وواسع مغفرته، وجمعنا به في مستقر رحمته، تحت لواء المصطفى صلى الله عليه وسلم وآل بيته وصحبه، ومن سبقنا إلى  رحاب الحنان المنّان الرحمن من أمثال الشهيد الإمام [[حسن البنا]] وكبير الدعاة [[مصطفى السباعي]]، وشيخ العارفين [[محمد الحامد]]، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.'''


رحم الله الفقيد الغالي، وأسكنه فسيح جناته، وواسع مغفرته، وجمعنا به في مستقر رحمته، تحت لواء المصطفى صلى الله عليه وسلم وآل بيته وصحبه، ومن سبقنا إلى  رحاب الحنان المنّان الرحمن من أمثال الشهيد الإمام [[حسن البنا]] وكبير الدعاة مصطفى السباعي، وشيخ العارفين محمد الحامد، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.
{{روابط الإخوان في سوريا}}


[[تصنيف:أعلام الحركة الإسلامية]]
[[تصنيف:أعلام الحركة الإسلامية]]
[[تصنيف:تصفح الويكيبيديا]]
[[تصنيف:تصفح الويكيبيديا]]
[[تصنيف:أعلام من سوريا]]
[[تصنيف:أعلام من سوريا]]
1
[[تصنيف:المقالة الجيدة]]
[[تصنيف:مقالة جيدة أعلام]]

المراجعة الحالية بتاريخ ١٧:٢٤، ٢ سبتمبر ٢٠١٨

عبد الكريم عثمان


بقلم: عدنان سعد الدين

الدكتور عبدالكريم عثمان ، نجم سطع

أثمرت دعوة الإخوان المسلمين في سورية من أربعينيات القرن الماضي جيلاً صاعداً جديداً، سرعان ما أحيا للأمة آمالها، وأيقظها من سباتها، وأعاد إليها ثقتها بعقيدتها وذاتها، وردها بإذن ربها إلى حظيرة الإسلام رداً جميلاً، فامتلأت بهم الساحات، وزخرت بجموعهم المدارس والمعاهد والجامعات؛

فانحسرت موجة الإلحاد والعلمنة والتغريب التي كانت قبل ذلك تعربد في العشرينيات والثلاثينيات، وتتحدى المجتمع في أفكارها الوافدة، ومذاهبها المستوردة، وتقاليدها المستنكرة، ودعوتها الصريحة السافرة إلى نبذ الإسلام ، وخلع ربقته عن الأعناق، فكان الداعون إلى الله في ضيق وحرج أمام هذه الموجة التي أحرزها انتصار الحلفاء الغربيين في الحرب العالمية الأولى على تركيا العثمانية، زاحفين إلى بلادنا وعقر ديارنا بما يملكون من تفوق حضاري وعسكري كاسح.

كبرت الغراس والفسائل التي زرعتها دعوة الإخوان المسلمين ، وظهر جيل على أبواب الثلاثينيات في أعمار الأزهار، رفعوا راية القرآن، ودعوا بثقة وجرأة إلى رسالة الإسلام، وواجهوا تيارات العلمنة والتغريب بقوة وشجاعة، فكسروا أمواجها، وأكدوا بأقلامهم وخطبهم وأنشطتهم وجموعهم الهادرة، أن خلاص أمتهم من الذل والاندحار والتخلف إنما هو رهن في العودة الحميدة والجادة إلى رحاب الإسلام الحنيف، فلا يصلح آخر هذه الأمة إلا بما صلح به أولها.

كان في طليعة هذا الجيل الناهض فتى نشأ في طاعة الله، تفتحت مواهبه في سن مبكرة، وظهرت علائم النجابة عليه منذ نشأته الأولى، فإذا هو خطيب مفوه، ولما يزل على مقاعد الدراسة في المرحلة الثانوية، انتسب إلى جماعة الإخوان المسلمين في منتصف عام 1945 ، وعمره ست عشرة سنة إذ هو من مواليد عام 1929 ، فإذا بالفتى الناهض يرتجل الخطب الحماسية في الدعوة إلى انتخاب الشيخ الشهيد محمود عبدالرحمن الشقفة مرشح الإخوان والعلماء للبرلمان عن محافظة حماة، ولما يتجاوز الثامنة عشرة من عمره المبارك.

لفتت مواهبه التي تفتحت كأزهار الربيع في وقت مبكر أنظار قادة الإخوان في مركز حماة، فقرروا أن يرعوا هذه الموهبة التي أنعم الله بها، فقرروا إيفاده لدراسة علم الاجتماع في كلية آداب جامعة فؤاد الأول ­جامعة القاهرة فيما بعد­ ويتحمل أعباء الدراسة عدد من الإخوان برعاية ومساهمة رئيس المركز الشيخ الشهيد عبد الله الحلاق رحمه الله وأجزل له المثوبة والأجر على ما قدم من بذل وصبر وجهاد، وعلى ما تحمَّلَ من أذى في سبيل الله، دعماً ودفاعاً عن دعوة الإخوان المسلمين.

من هو الداعية عبد الكريم عثمان؟

ولد عام 1929م وهو ابن الشيخ محمود العثمان العالم الزاهد الورع، والأستاذ في مدرسة دار العلم والتربية التي تأسست في عهد الملك فيصل الأول الذي لم يطل كثيراً، والتي تخرج فيها قادة كبار، وساسة شهيرون، لعبوا أدواراً كبيرة في الحياة السياسية السورية، أمثال الأستاذ رئيف الملقي قائد الكتلة الوطنية في حماة بعد وفاة توفيق الشيشكلي، والأستاذ أكرم الحوراني وآخرين.

كان الشيخ محمود العثمان عالماً مجاهداً، عمل مع المناضلين ضد فرنسا، وقاوم بخطبه ومواقفه الصلبة الانتداب بجرأة نادرة، وعزيمة صلبة عُرف بهما بين أبناء جيله، ولما سمع عنه الإمام الشهيد حسن البنا وعرف عن صفائه وصدقه وجهاده، راسله وكتب إليه، شاكراً ومشجعاً، وشاداً على يده، لما يبذل في سبيل الله دفاعاً عن الإسلام والأوطان.

ولربما سمع الإمام عن الشيخ محمود العثمان من رفيق دربه وأنيس قلبه الشيخ محمد الحامد، لأن الإمام كان يستحث العلماء الذين يأنس منهم الخير، ويسمع فضائلهم في كل بلاد المسلمين، ويستنهضهم للقيام بحمل لواء الدعوة إلى الله، والجهاد في الله حق جهاده.

ورث الأخ عبد الكريم عن والده محمود العثمان جملة صفات في حب العلم وصدق الحديث، والصدع بكلمة الحق، والجرأة في مواجهة الباطل بعفوية وقلب سليم، لا تأخذه في الله لومة لائم.

في عام 1947 وبعد أن حمل الشهادة الثانوية البكالوريا وقررت إدارة مركز حماة إيفاده إلى مصر لتلقي دراسته الجامعية­ التحق بكلية الآداب في جامعة فؤاد الأول قسم الاجتماع فكان متفوقاً ومتقدماً على أقرانه في دراسته؛

وكما حدث للإمام الشيخ محمد الحامد في صلته بالإمام حسن البنا وتعلقه به، كان حال الأخ عبد الكريم الذي أحب الإمام البنا حباً ملك عليه عقله ولبّه وقلبه، فلم يعد قادراً على مفارقته، أو البعد عنه، واستمر هكذا ممسكاً بهذه الصلة الحميمة منذ وصل إلى القاهرة عام 1947 وحتى فارق الإمام الحياة في 1947/2/12 في موكب الشهداء الذين قضوا في سبيل الله.

عزم عبد الكريم على الزواج من مصر ، واعتمد على إخوة له من تنظيم الجماعة ليعينوه على ذلك مشترطاً الحشمة والحجاب الذي كان نادراً في تلك المرحلة في المدن الكبيرة مثل القاهرة والإسكندرية، فوصفوا له فتاة محافظة، وإذا به يراها تخرج مكشوفة الذراع، فصدم وبهت؛

فقيل له: هذا أفضل ما تطمح إليه، فصرف النظر عن الزواج من مصر ، وقرر الزواج من بلده في سورية، ليت عبد الكريم وأبناء جيله من إخوان مصر ، يرون ما آلت إليه المرأة المصرية من انتشار الحجاب، ومظاهر الحشمة، واضطلاعها بأعباء الدعوة إلى الإسلام ، واستئناف الحياة بموجبه وعلى قواعده، وتشكيل تيار إسلامي عريض للنساء المسلمات في المدارس والمعاهد والجامعات، وفي الأحياء والمدن والأرياف؛

حتى صار الطابع العام للشارع المصري في كل أرجاء القطر من أدناه إلى أقصاه، فاكتسح الحركة النسائية التي عمل الإنكليز ودعاة التغريب وتقليد الحياة الغربية على إيجاده وتشجيعه، فأبلس وتراجع القهقرى، فلا يكاد يُرى بجانب تيار الداعيات المسلمات القانتات العاملات لرسالة الإسلام والدعوة إلى الله.

عودة عبد الكريم إلى سورية

عاد الأخ عبد الكريم إلى سورية بعد أن حمل ليسانس الآداب في علم الاجتماع بدرجة امتياز وتفوق، فعمل مدرساً في ثلاث مناطق، درّس الفلسفة في حماة وحلب، فكان تأثيره في طلابه ملموساً، ثم عمل في مدينة دير الزور مدرساً في ثانويتها، وباشر خطبة الجمعة في أحد مساجدها، فأصغى إليه الطلاب وسكان المدينة، وتأثروا به أيما تأثر، والتفوا حوله، وتعلقوا به، وانحازوا إلى جماعة الإخوان في دير الزور؛

بل وفي الأقضية والنواحي عبر الطلاب الوافدين منها إلى الدير لإكمال دراستهم الثانوية تمهيداً للالتحاق بالكليات الجامعية، ولو رغب أن يمثل عبد الكريم دير الزور في البرلمان، ويترشح في الانتخابات لأيدته المدينة وما خذلته، ولكن هذا الأمر كان بعيداً عن تفكيره وطموحه، ومن أراد أن يعرف المزيد عن الأثر الذي خلفه الداعية عبد الكريم عثمان في دير الزور وفي المنطقة الشرقية من سورية؛

فليسأل الشيخ دندل جبر الذي سمعت منه أنه كان في أول نشأته متأثراً بحزب البعث الذي كان الأستاذ جلال السيد رحمه الله أحد مؤسسيه ومنتقديه فيما بعد والذي كان يجمع ما بين الشيخ دندل والأستاذ جلال الانتماء العشائري، ولكن سرعان ما اتجه الأخ دندل بحزم وعزم إلى جماعة الإخوان بتأثير الداعية الموفق عبد الكريم عثمان، كما سمعت منه قصة انتمائه لجماعة الإخوان المسلمين الراشدة.

كان عبد الكريم يقضي أشهر الصيف في حماة، فكان رفيق عمره ودربه الأخ الداعية مصطفى الصيرفي وكاتب هذه السطور وعبد الكريم في لقاء مسائي يومي، لا نكاد نفترق، نأكل معاً في مكان بعيد عن الأعين على شاطئ النهر، ونتجاذب أطراف الأحاديث المتنوعة، ومدارها جميعها دعوة الإخوان ونشرها والتبشير بها في أحاديث الجمعة ­الأسبوعية­ ومجموعات الأسر، والطواف على الأحياء، ومخاطبة الطلاب؛

وكذا العمال والنقابات، وإحياء الذكريات المباركة، كأيام المولد والإسراء والمعراج والهجرة النبوية ومعركة بدر، بالتعاون مع إدارة المركز، وعلى رأسهم الشيخ عبد الله الحلاق، والأخ بديع عدي، ورعاية الشيخ محمد الحامد رحمهم الله جميعاً؛

وكنا نستقبل كبار ضيوف مدينة حماة، ومركز الإخوان المسلمين من الوطن العربي والعالم الإسلامي والمدن سورية، من أمثال أبو الحسن الندوي، وأبو الأعلى المودودي، والمرشد العام حسن الهضيبي ومصطفى السباعي ومحمد المبارك وعادل كنعان وفوزي حمد ومحمد علي الصابوني ومحمد المجذوب وغيرهم، حتى أضحت المدينة ملاذاً وموئلاً وعريناً لدعوة الإخوان المسلمين المباركة.

ليت الأجيال اللاحقة تحيط علماً بما كان عليه الإخوان في الأربعينيات والخمسينيات من نشاط وعمل دؤوب، وتحرك متصل، وكأنهم خلية نحل، في جو من التعاون والإلفة والحب حتى ترسخت قواعد الجماعة، وأضحت عصية على الاجتثاث بالرغم من كيد ومكر الأعداء الرهيب الذي تزول منه الجبال.

طبيعة الداعية وسيرته

كان الأخ عبد الكريم طاهر السريرة، سليم الصدر، خالي النفس من العقد والوساوس، يألف ويؤلف، يحبه إخوانه الكبار والصغار وأقرانه، عُرف عنه الطيبة، وصفاء النية والشفافية، وبعد أن سطع نجم عبد الكريم في شمالي سورية حلب وفي شرقها دير الزور وفي وسطها حماة ودمشق لحظ المراقب العام الشيخ السباعي موهبة عبد الكريم وألمعيته، فأسند إليه وظيفة نائب مدير المعهد العربي الإسلامي ذي السمعة والشهرة الواسعة في العاصمة، ليكون مساعداً للمربي الكبير مدير المعهد عبد الغني باجقني، بل ليكون المدير التنفيذي والفعلي للمعهد.

في مطلع الخمسينيات من القرن الماضي، وعندما ضيق أديب الشيشكلي الخناق على الشيخ الدكتور مصطفى السباعي مراقب الجماعة وقائدها، وعلى إخوانه من قادة الجماعة، واضطر إلى مغادرة دمشق إلى لبنان، لم يجد شيخنا من يسد فراغه وينوب عنه مثل الأخ عبد الكريم عثمان ليقوم بمهمة المراقب العام وكالة، ولما يتجاوز الخامسة والعشرين من عمره الميمون.

كانت حركة الانشقاق التي قادها ضابط المخابرات الناصرية نجيب جويفل، ومن التف حوله من دمشق وحمص وإدلب، قد استفحلت، وصارت تشكل خطراً على كيان الجماعة، فرأى المنشقون في الأخ عبد الكريم عثمان سداً في طريقهم، وعقبة أمام تطلعاتهم، وإحباطاً لمخططاتهم؛

فهدده أحدهم هشام جندل الرفاعي بالتصفية إذا لم يوافقهم، ويذعن لهم، أو على الأقل أن لا يعترض سبيلهم، فإذا بالأخ الوديع ذي الحاشية الرقيقة يتحول بلحظة إلى غضنفر، يواجه شططهم بموقف صلب، وعزيمة غير مألوفة ولا متوقعة، متحدياً المنشقين أن يفعلوا ما يعن لهم، فإذا بهم يرجعون القهقرى، ويرضون من سوء خلقهم بالإياب والتراجع؛

وطي صفحة التمرد الذي قاده ضابط المخابرات الناصرية نجيب جويفل وعصابته التي تبعثرت، وكأنها لم تكن، أمام صلابة الإخوان، وعلى رأسهم عبد الكريم عثمان والإخوة المخلصون في دمشق، وثباتهم وتلاحمهم، والتفافهم حول قيادتهم، وعلى رأسها فضيلة مراقبهم الفذ الشيخ الدكتور مصطفى السباعي طيب الله ثراه، وتلاشت حركة الضلال، وذهبت أدراج الرياح، ولم نعد نعثر لها على أثر.

صفة الداعية وسيرته

كان الأخ عبد الكريم يلامس بوداعته ولطفه وتهذيبه وعذوبة حديثه شغاف القلوب لدى الجميع، كان رحمه الله يألف ويُؤلف، يحبه إخوانه الكبار منهم والصغار، لمس الكل عنه ومنه الطيبة وصفاء النية، وسلامة الصدر، لا يختلف عليه إخوانه، بل ولا أبناء المدينة من غير الإخوان؛

فعندما كنا معاً في دمشق نؤدي امتحانات شهادة الحقوق، لنتمكن من العمل الحر إذا أقدمت حكومة (التجمع القومي) على تسريحنا من وظائفنا التعليمية كما تشير النذر، وقررنا دخول انتخابات (الاتحاد القومي) لاعتبارات كثيرة، حملت ترشيحه، أو تفويضاً بترشيحه مؤيداً من الكاتب بالعدل؛

فتم ذلك، دون أن يكون حاضراً، فكان الثالث في قائمة الفائزين ذات الثلاثين اسماً يمثلون ثلث مدينة حماة في شمالي الوسط في سورية، وكان ذلك في عام 1959 بعد عام وبضع عام من قيام الوحدة بين مصر وسورية.

في القاهرة مرة أخرى

عاد عبد الكريم إلى القاهرة مرة أخرى، عندما قررت وزارة التعليم العالي أو الجامعة السورية إيفاد من يدرس الفلسفة الإسلامية ويحمل شهادة الدكتوراه بها ليعود إلى دمشق، ويملأ كرسي هذه المادة في كلية آداب الجامعة، فكان عبد الكريم مرشحاً لهذا الإيفاد بالدرجة التي نالها الامتياز في الليسانس التي حاز عليها من الجامعة المصرية جامعة فؤاد الأول

فوقفت مخابرات دولة الوحدة أمام هذه البعثة وقررت إلغاءها، لأن صاحبها يحمل فكراً إسلامياً، غير أن مساعي حثيثة قام بها نفر، كان أخوه العقيد عبد الملك عثمان قائد موقع حماة العسكري واحداً منهم، وكان الخلاف قد دب بين عبد الناصر وبين البعثيين وحلفائهم، فأثمرت هذه الجهود، وألغي الحظر، فركب متن الطائرة التي أقلته إلى عاصمة الكنانة.

درس الماجستير في التربية وعلم النفس عند الغزالي، وقدم أطروحة الدكتوراه عن القاضي عبد الجبار أحد أئمة المعتزلة، وأصول دعوته وفلسفته بإشراف الدكتور أحمد فؤاد الأهواني، وفي كل مراحل هذه الدراسات وما سبقها كان متفوقاً ومتقدماً.

كانت هذه الحقبة من أغنى سنوات عمر فقيدنا الدكتور عبد الكريم، بالتزامه ودوامه على دار الكتب المصرية، أشهر مكتبات العالم العربي في أثناء تحضيره رسالتي الماجستير والدكتوراه مع عدد من رفقاء دراسته أمثال الدكتور شاكر الفحام الذي أمسى وزير التعليم العالي في النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي في وزارة البعث.

أجرى عبد الكريم لقاءات، وأقام علاقات بشخصيات علمية شهيرة في الجامعة وخارج الجامعة، واتصل بكبار المفكرين والأدباء والعلماء، وفي مقدمتهم الأديب المفكر الموسوعي، صاحب القلم الجبار، أو قل النحّار محمود محمد شاكر، الذي أسكت وأخرس كل الناعقين ضد القرآن الكريم والسنة الشريفة، واللغة العربية الفصحى، ودعوتهم إلى العامية، من أمثال لويس عوض وأشباهه، المشككين في حقائق الإسلام، والعازمين على إطفاء نوره، ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الضالون والملحدون.

كان عبد الكريم حريصاً على حضور ملتقى محمود شاكر حرصه على دراساته الجامعية في منزل الشيخ محمود الذي كانت ترتاده نخبة من المفكرين من مصريين وسوريين، ومن أقطار عربية أخرى في شرق الوطن العربي ومغربه؛

غير أن عبد الكريم راعه وصدمه أسلوب الأديب الكبير محمود شاكر في تناول شخصيات عظيمة بأسلوب غير لائق بأمثاله من الكبار، ومن ذلك ما سمعه ذات يوم من تجريح، ومن كلمات نابية لا أستطيع إيرادها في الإمام حسن البنا، فلم يقو المحب والمريد للبنا على سماعها، فانقطع عن اللقاء معرباً عن ألمه ونقده وإنكاره لما صدر عن الشيخ محمود شاكر؛

فأدرك هذا خطأه، واعتذر عما بدر منه، ودعا الأخ عبد الكريم، وطيب نفسه وخاطره، فعادت الأمور إلى مجاريها، وصدق الله العظيم):نعم العبد إنه أواب ( وحادثة أخرى ذات شأن، لقد تواعدنا نحن الثلاثة (مصطفى الصيرفي حفظه الله، والدكتور عبد الكريم رحمه الله، والفقير إلى عفو مولاه) في القاهرة، لإحياء أيام الأنس والمودة فيما بيننا في ذات الله، وفي رحاب دعوة الإخوان المسلمين؛

فقال عبد الكريم:

ثمة تزاور بيني وبين عبد الحق شحادة، فهل ترغبون في اللقاء به، فلديه أمور يجدر سماعها، فوافقت على التو، وتحفظ الأخ أبو محمد الصيرفي حيال ذلك، واعتذر عن اللقاء، وقبل الدخول في موضوع اللقاء، لابد من إعطاء صورة عن عبد الحق شحادة التي اكتملت في الذهن قبيل اللقاء وبعده، كان عبد الحق ضابطاً في الجيش السوري في النصف الثاني من أربعينيات القرن الماضي، وفي النصف الأول من خمسينيات القرن، كان من أركان حكم الشيشكلي في الجيش السوري هو وزميله حسين حِدّة.

بعد سقوط حكم الشيشكلي، غادر عبد الحق سورية بعد أن كان قد قاد حملة عسكرية على مقر المرشديين في جبل العلويين، وقضى على بعضهم ومنهم (مجيب) أحد أبناء سليمان المرشد، أقام علاقات مع عدد من دول المنطقة، فأقام بالقاهرة متعاوناً مع مدير المخابرات الفريق الماحي، وأسكنه المصريون إحدى الشقق المصادرة باسم تصفية الإقطاع ذات الأثاث الفاخر، وأقام علاقة مع السعوديين، وخصصوا له في مدينة جدة فيللا وسبق أن زرته بها فقال: لقد كلف فرشها مئة ألف ريال، وتعاون مع الصوماليين في عهد سياد بري، وحمل جوازاً دبلوماسياً صومالياً.. إلخ..

تم اللقاء مع عبد الحق شحادة في شقته بالقاهرة، فكان حديثه لي وللأخ عبد الكريم عن مصر وسورية، وخلاصته أن الإخوان إذا وقفوا ضد حكومة البعث في سورية، وزعزعوا أركانها، يفرضون وجودهم على الناصريين، الأمر الذي يؤدي إلى تخفيف الضغط عن الإخوان المسلمين في مصر ، فقلت: هكذا يكون العلاج والموقف السياسي؟

إن مثل هذا الأمر يحتاج إلى حوار وتنسيق وترتيب بين المعارضين يتناول جميع المراحل، وتحديد المسؤوليات بدءاً من الكلمة الأولى، وحتى سقوط النظام، ليعرف كل طرف أين مكانه ومشاركته في مثل هذا الموضوع الخطير؟ ثم عرّج عبد الحق على تقويمه للحكم في مصر ، وقال فيه ما قاله مالك في الخمر!! وذكر أن له كتاباً سينشره فيما بعد، عنوانه: من السبئية إلى الناصرية، جراء موقف الناصرية المعادي من الإسلام.

انتهى اللقاء على أن نلتقي ثانية في وقت لاحق، فاستأنفنا اجتماعنا في كفتيريا حوريس في شارع 26 يوليو، وإذا بي أفاجأ بإنسان آخر غير الذي رأيت وسمعت في الشقة قبل يومين، بدأ عبد الحق بلهجة زاجرة قوله: إلى متى تمسكون العصا من الوسط؟

لماذا لا تعلنون في بيان صريح أنكم مع جمال عبد الناصر إلى آخر هذه الطروح التي كان يضغط بها على وجوب الانحياز إلى عبد الناصر ضد الحكم في سورية الذي يسيطر عليه البعثيون، وقد استنتجت من ذلك أن عبد الحق راجع المخابرات المصرية، وعرض عليهم ما جرى في شقته من أحاديث، فأملوا عليه هذا الموقف، وزودوه بالآراء والأفكار التي كان عليه أن يطرحها بهذه الفجاجة والفظاظة.

لقد استفزنا موقف عبد الحق وتغيير موقفه، واستدارته مئة وثمانين درجة، فقلت على الفور، وبردود فعل غير مناسبة ولا محمودة:

كل كلامك اليوم ومنذ يومين كنت تمهد له للطلب منا أن نؤيد الصنم؟ لقد كان هذا الحديث الفج مني مصدر إحراج لنا جميعاً، ولاسيما الأخ عبد الكريم الذي كان مقيماً في القاهرة، يتابع دراسته للدكتوراه في الفلسفة الإسلامية؛

فحاول تلطيف الموقف، وتفسير كلامي بما يخفف من سلبياته وآثاره التي لا نعرف ما سوف تؤول إليه، دون جدوى، ثم افترقنا، وذهب كل منا إلى سكناه، شعرت بالخطأ الفادح الذي وقعت فيه، ففكرت بالمغادرة السريعة، وما هي إلا سويعات، حتى كنت في مطار القاهرة في الطريق لركوب الطائرة قبل أن تحيط الدوائر المختصة علماً بما جرى في اجتماع حوريس؛

ولم يمض يومان إلا وكان ضابط برتبة عقيد إن لم تخني الذاكرة يقرع باب الشقة التي يقيم بها عبد الكريم عثمان الذي رحب به ودعاه إلى الدخول، فكانت تحقيقات واستفسارات عن اللقاءات والأحاديث والأشخاص.. إلخ، ومرت السحابة الداكنة، بعد أن تأكدوا أن عبد الكريم لم يكن طرفاً في الذي حدث من اللقاءين المنوه عنهما قبل قليل.

هذه الصورة السلبية عن عبد الحق شحادة لم تقنع بعض الإخوة من حلب الذين عرفوا عبد الحق منذ أيامه الأولى، عندما كان عضواً في دار الأرقم إحدى الجمعيات التي شكلت جماعة الإخوان المسلمين فظل حسن الظن يغلب عليهم في الرجل؛

وبعد مرور سنوات، وحدوث الصدام في سورية بين الإخوان والنظام، ظهر عبد الحق في عمان، وزار بعض مقرات الإخوان عبر معارفه السابقة في الجماعة، ثم سافر إلى بغداد والتقى نائب الرئيس العراقي، وعرض عليه التعاون مع السلطة، بعد أن قدم نفسه من دعاة التيار القومي باعتباره أحد المؤسسين في الشمال السوري لحركة التحرير العربي برئاسة السياسي ظافر الرفاعي؛

ثم عاد إلى عمان، وزار عدداً من الإخوان ، وشن حملة أمام الأعضاء على قيادة الجماعة متهماً إياها بالانبطاح حسب تعبيره كما شن حملة على العراقيين، وقام بتوزيع مذكرتين بخط يده، تقع إحداهما في 63 صفحة، والثانية في 21 صفحة بشكل واسع، فتلقفها عدنان عقلة الذي كان يتربص بالجماعة ويعتبرها عقبة في طريق طموحاته الثورية، وشرع بتصويرها وتوزيعها على نطاق واسع في الأردن وأوربا وفي كل مكان استطاع أن يوصلها إليه.

عاد عبد الحق شحادة إلى القاهرة بعد أن قطع حباله مع العراق والإخوان، بعد أن يئس من إقناع الإخوان بوجوب مغادرة الأردن والعراق،

فقال الشيخ سعيد حوى رحمه الله:

إلى أين يريد أن يقذف بنا عبد الحق؟ رداً على اقتراحه بمغادرة العراق والأردن.
توفي نائب الرئيس العراقي الذي أجرى عبد الحق الحديث معه، وتوفي الشيخ سعيد حوي، وتوفي منذ أسابيع أو أشهر عبد الحق، فالكل انتقل إلى جوار ربه، لنتعظ جميعاً، ونتذكر أن الحياة فانية، وأن العمر فيها ليس أكثر من سحابة صيف، تلوح وسرعان ما تنقشع، رحم الله الجميع وسامحهم وغفر لهم، وتجاوز عنا وعنهم وتغمدهم بالرحمة والغفران.

العودة إلى سورية

عاد الداعية عبد الكريم عثمان من القاهرة، يحمل شهادة الدكتوراه في الفلسفة الإسلامية بامتياز وتفوق، ليشغل مقعد هذه الدراسة التي أوفدته الجامعة ليملأ كرسيها، غير أنه ألفى الأبواب موصدة في وجهه، وأن حكومة الأقلية زاهدة في كل المواهب والاختصاصات إذا لم تكن من المشايعين لها في أفكارها الشاذة، بالرغم مما أنفقته الجامعة على الموفد من تكاليف الدراسة.

كان اختصاصه مطلوباً في الكثير من الجامعات، فاختار التعاقد مع جامعات المملكة العربية السعودية، وسرعان ما طرح في الوسط الجامعي موضوع الثقافة الإسلامية، لتكون مادة مقررة في جميع كليات الجامعات المملكة العربية السعودية، يدرسها الطبيب والمهندس والصيدلي وجميع الكليات العلمية، والحقوقي والأديب والمؤرخ والاقتصادي، فوجد اقتراحه قبولاً، وأخذ طريقه للتنفيذ.

عكف الدكتور عبد الكريم على هذا الموضوع، واختار بحوثه ومواده، وأصدر فيه مؤلفات دخلت في المناهج المقررة، يتقدم فيها جميع طلاب الجامعات إلى الامتحان كباقي المواد ذات الاختصاص سواء بسواء، ومنذ ذلك الحين، وبعد حوالي أربعين سنة ما زالت كتب الدكتور عبد الكريم عثمان مراجع للدراسة في فلسفة الغزالي، وفي الفكر المعتزلي، وفي الثقافة الإسلامية، رحمه الله وأجزل له المثوبة.

الرحيل المبكر

في منتصف الستينيات من القرن الماضي، هبطت طائرة في مطار دمشق كان على متنها الأخ عبد الكريم عثمان، فأبلغه موظف الأمن أن قراراً صدر عن الدوائر المختصة يمنع أربعة مواطنين من العودة إلى سورية،

وهم:

عبد الكريم عثمان، ومصطفى الصيرفي، ونعسان عرواني، وعدنان سعد الدين، وقال الموظف: كل ما أستطيع أن أساعدك به، أن أترك لك وقتاً كافياً لاختيار الطائرة التي ستغادر بها إلى حيث تريد، فاختار طائرة متجهة إلى بيروت، وعندما وصلتُ إلى لبنان، أخبرني عبد الكريم بقرار المنع، فوجدنا في لبنان الملاذ الذي كنا نمضي إجازات الصيف في ربوعه؛
ونلتقي على أرضه بالإخوان من جميع المدن السورية، ومع الإخوة في لبنان الذين كثيراً ما كانوا يوجهون إلينا الدعوة إلى مقراتهم ومخيماتهم لنسهم في إلقاء الكلمات وتوجيه أبناء الجماعة الإسلامية في لبنان.

في مطلع السبعينيات حضر الأخ عبد الكريم إلى بيروت، فأنكرت ما رأيته فيه من أثر المرض البادي في صفحات وجهه وفي محياه، وعندما ألح عليه المرض راجع الطبيب المختص في مستشفى الجامعة الأمريكية الدكتور حداد، فطمأنه بادئ ذي بدء ­بعد إجراء الفحوص الطبية اللازمة؛

ثم طلب منه بعد فترة قصيرة إعادة الفحص بإخراج قزعة من كبده، ففاجأه أن أيامه محدودة، وعليه القيام بتصفية أموره سريعاً، فهُرع إلى الكاتب بالعدل لاستخراج تفويض لأهله في شؤونه المالية والأسرية، ثم تدهورت صحته بوقت قصير، ولم يعد قادراً على الكلام، فكانت كلماته لا تكاد تسمع إلا همساً؛

عرضنا عليه العلاج في أي بلد يريد، لنرفع من معنوياته وحالته النفسية، وخيرناه بالذهاب إلى موسكو أو واشنطن أو أوربا، فاختار الذهاب إلى النمسا لوجود شقيق زوجته صلاح الحلاق في فينا للدراسة بها، فلم يلبث أن عاد منها بعد أن أكد له الأطباء استفحال المرض، فقد كانت حالته تنبئ عن اقتراب الأجل، فسعى له أصحابه وأحبابه بالسفر إلى منزل عائلته في مدينة حماة، وما هي إلا أيام حتى فارق الحياة، وانتقل إلى جوار ربه راضياً مرضياً.

لقد كانت وفاة عبد الكريم صدمة مؤلمة للإخوان جميعاً، ولاسيما لرفقاء دربه ومسيرته الدعوية، وخسارة للجماعة التي كان عبد الكريم عثمان أبو علاء من ألمع شبابها وأكبر دعاتها، فشيعته الجموع الحاشدة، وحملت جنازته على الأكف في 1972/9/9 بحضور عدد من أبناء المحافظات السورية الأخرى.

احتشدت الجموع على قبر الفقيد، فألقى الشيخ سعيد حوي رحمه الله كعادته كلمة مؤثرة، هيجت الأحزان، وعصرت قلوب المشيعين، ولامست أكبادهم، كما ألقى الشيخ عبد الله علوان رحمه الله كلمة باسم إخوان حلب، فسالت الدموع، وانسكبت العبرات حزناً على فراق زين الشباب، وفخر الرجال، وكان للأخ عبد المنعم نيربية أبي عرفان قصيدة نظمها في رثاء الداعية؛

إلا أن الأخ الذي يغلب على طبعه الحياء والانطواء أمسك عن إلقائها لظروف شخصية وأمنية، بانتظار الساعة المناسبة لنشرها، فجاء الأوان في هذا الملحق عن الفقيد في المجلد الثاني عن الإخوان المسلمين في سورية الغالية.

وهذه قصيدة الرثاء، وقد جاء فيها:

في التياع المُكلّمِ المفجوعِ
بتُّ أبكي حبيبَ هذي الجُموعِ

عَلَمٌ شامخٌ تلألأ فيه

مَعدنُ الخيرِ والرشاد البديعِ

مؤمنٌ ثابتُ الجنانِ.. ذكيٌ

ألمعيٌ.. إلى العُلا في نُزوعِ

وخطيبٌ يَسبيكَ سِحرُ بيانٍ

نحوَ مبنى تبيانِهِ المسموعِ

والمعاني موصولةٌ بمَعين

هو في ذروةِ البيانِ الرفيعِ

فيلسوفٌ ما زاغَ فيه فؤادٌ

عن صراطِ اللهِ البصيرِ السميعِ

خاضَ بحرَ الآدابِ خوضَ جَسورٍ

لا على اللهِ بل على الترقيعِ

سَرقاتُ المستغربينَ الحَيارى

لم تُضلله وهي صِنوُ الخُنوع

إنّ مَن صاحَبَ (الغزاليَّ) يَجني

من ثمارِ الفكر العميقِ الضليعِ

كيف تُغويهِ فلسفاتُ حَيارى

سقطوا في مزالقِ التشنيعِ؟!

إيهِ (عبدَ الكريمِ) نبراسَ جيلٍ

مؤمنٍ صادقٍ مُنيبٍ مُطيعِ

عُدتَ من (مصرَ) حاملاً لوسامٍ

جامعيٍّ في قمةِ الترفيعِ

ويحَ قومٍ لم يُكرموا فيكَ عِلما

وخلالاً تزهو كزهر الربيعِ

خوّفتهم مواهبٌ فيكَ عظمى

فنَفَوها تَحَكّماً في القَطيعِ

كيف يَرضَونَ أن تصدَّ شباباً

عن طريقِ الإلحادِ والتضييعِ؟!

كيف يَرضونَ أن تُزاحمَ رَهطا

وعدواً وابنِ اليسارِ الشيوعي؟

فلتُسافر إلى (الرياضِ) مُعاراً

وحرامٌ عليكَ مرأى الرُّبوعِ

(أحرامٌ على بلابلنا الدّو

حُ حَلالٌ) للبومِ في تشجيعِ؟

فالكريمُ الأصيلُ يُسجنُ أو يُنفى

وذو الموبقاتِ قبلَ الجَميعِ

وقريباً من منزلِ الوحي جاهَد

تَ بعزمٍ في خدمةِ التشريعِ

تَبذلُ العِلمَ في ظِلالِ اختصاصٍ

تَعبدُ اللهَ في لِباسِ الخَشوعِ

شَهِدَ العارفونَ أنَكَ قد كنتَ

كريمَ الأخلاقِ مثلَ الشُّموعِ

حينَ تُعطي من نورِها بسخاءٍ

بينما الجسمُ آخذٌ في الرّجوعِ

لَهفَ نفسي (أبا علاءٍ) على

الفِكرِ شهيدِ الداءِ العُضالِ المُريعِ

أحرقَتْكَ الآلامُ تغزو ببطءٍ

كبداً قد أُصيبَ بينَ الضلوعِ

فاجأتنا الأخبارُ بالشرِّ تَتْرى

فأسِفنا على الذُّبولِ السريعِ

لهفَ نفسي على الدّعاةِ كِباراً

كمْ مَشينا نَحُفُهْم بالدموعِ!

كم بدورٍ سَنيةٍ قد فَقَدنا

وأولو الغَيّ في ازديادٍ مَنيعِ

رَبِّ عوِّضْ عنهم بأشبالِ دينٍ

رَبّ رُحماكَ بالوليدِ الرضيعِ

رَبِّ ألهِم آل الفقيدِ اصطباراً

رَبّ أسكنهُ في جِوار الشفيعِ

31 في التيـاع المُكلّـمِ المفجـوعِ

بتُّ أبكي حبيبَ هـذي الجُمـوعِ

عَلَـمٌ شامـخٌ تــلألأ فـيـه

مَعدنُ الخيرِ والرشـاد البديـعِ

مؤمنٌ ثابـتُ الجنـانِ.. ذكـيٌ

ألمعيٌ.. إلى العُلا فـي نُـزوعِ

وخطيبٌ يَسبيـكَ سِحـرُ بيـانٍ

نحوَ مبنـى تبيانِـهِ المسمـوعِ

والمعانـي موصولـةٌ بمَعيـن

هو فـي ذروةِ البيـانِ الرفيـعِ

فيلسوفٌ مـا زاغَ فيـه فـؤادٌ

عن صراطِ اللهِ البصيرِ السميـعِ

خاضَ بحرَ الآدابِ خوضَ جَسورٍ

لا على اللهِ بل علـى الترقيـعِ

سَرقاتُ المستغربينَ الحَيـارى

لم تُضلله وهي صِنـوُ الخُنـوع

إنّ مَن صاحَبَ (الغزاليَّ) يَجنـي

من ثمارِ الفكر العميقِ الضليـعِ

كيف تُغويهِ فلسفـاتُ حَيـارى

سقطوا في مزالـقِ التشنيـعِ؟!

إيهِ (عبدَ الكريمِ) نبـراسَ جيـلٍ

مؤمنٍ صـادقٍ مُنيـبٍ مُطيـعِ

عُدتَ من (مصرَ) حاملاً لوسامٍ

جامعـيٍّ فـي قمـةِ الترفيـعِ

ويحَ قومٍ لم يُكرموا فيكَ عِلمـا

وخلالاً تزهـو كزهـر الربيـعِ

خوّفتهم مواهبٌ فيـكَ عظمـى

فنَفَوهـا تَحَكّمـاً فـي القَطيـعِ

كيف يَرضَونَ أن تصـدَّ شبابـاً

عن طريقِ الإلحادِ والتضييـعِ؟!

كيف يَرضونَ أن تُزاحمَ رَهطـا

وعدواً وابنِ اليسارِ الشيوعـي؟

فلتُسافر إلى (الرياضِ) مُعـاراً

وحرامٌ عليـكَ مـرأى الرُّبـوعِ

(أحـرامٌ علـى بلابلنـا الـدّو

حُ حَلالٌ) للبومِ فـي تشجيـعِ؟

فالكريمُ الأصيلُ يُسجنُ أو يُنفـى

وذو الموبقـاتِ قبـلَ الجَميـعِ

وقريباً من منزلِ الوحي جاهَـد

تَ بعزمٍ في خدمـةِ التشريـعِ

تَبذلُ العِلمَ في ظِلالِ اختصـاصٍ

تَعبدُ اللهَ في لِبـاسِ الخَشـوعِ

شَهِدَ العارفونَ أنَـكَ قـد كنـتَ

كريمَ الأخلاقِ مثـلَ الشُّمـوعِ

حينَ تُعطي من نورِها بسخـاءٍ

بينما الجسمُ آخذٌ في الرّجـوعِ

لَهفَ نفسي (أبا عـلاءٍ) علـى

الفِكرِ شهيدِ الداءِ العُضالِ المُريعِ

أحرقَتْـكَ الآلامُ تغـزو ببـطءٍ

كبداً قد أُصيـبَ بيـنَ الضلـوعِ

فاجأتنا الأخبارُ بالشـرِّ تَتْـرى

فأسِفنا على الذُّبـولِ السريـعِ

لهفَ نفسي على الدّعاةِ كِبـاراً

مَشينـا نَحُفُهْـم بالدمـوعِ!

كـم بـدورٍ سَنيـةٍ قـد فَقَدنـا

وأولو الغَيّ في ازديـادٍ مَنيـعِ

رَبِّ عوِّضْ عنهم بأشبالِ ديـنٍ

سوفَ يَفدونَ دينَهـم بالنجيـعِ

رَبِّ والطُفْ بالمسلمينَ اليتامى

رَبّ رُحماكَ بالوليـدِ الرضيـعِ

رَبِّ ألهِم آل الفقيـدِ اصطبـاراً

رَبّ أسكنهُ في جِـوار الشفيـعِ

رحم الله الفقيد الغالي، وأسكنه فسيح جناته، وواسع مغفرته، وجمعنا به في مستقر رحمته، تحت لواء المصطفى صلى الله عليه وسلم وآل بيته وصحبه، ومن سبقنا إلى رحاب الحنان المنّان الرحمن من أمثال الشهيد الإمام حسن البنا وكبير الدعاة مصطفى السباعي، وشيخ العارفين محمد الحامد، والحمد لله الذي بنعمته تتم الصالحات.

للمزيد عن الإخوان في سوريا

مراقبو الإخوان في سوريا

1- الشيخ الدكتور مصطفي السباعي (1945-1964م) أول مراقباً عاماً للإخوان المسلمين بسوريا ولبنان.

2- الأستاذ عصام العطار (1964- 1973م).

3- الشيخ عبدالفتاح أبو غدة (1973-1975م).

4- الأستاذ عدنان سعد الدين (1975-1981م).

5- الدكتور حسن هويدي (1981- 1985م).

6- الدكتور منير الغضبان (لمدة ستة أشهر عام 1985م)

7- الأستاذ محمد ديب الجاجي (1985م لمدة ستة أشهر).

8- الشيخ عبدالفتاح أبو غدة (1986- 1991م)

9- د. حسن هويدي (1991- 1996م).

10- الأستاذ علي صدر الدين البيانوني (1996- أغسطس 2010م)

11- المهندس محمد رياض شقفة (أغسطس 2010)

.

من أعلام الإخوان في سوريا
أقرأ-أيضًا.png

كتب متعلقة

ملفات متعلقة

مقالات متعلقة

تابع مقالات متعلقة

أخبار متعلقة

وثائق ومتعلقات أخرى

وصلات خارجية

الموقع الرسمي لإخوان سوريا

وصلات فيديو

.