رؤية تحليلية لمجزرة غزة
عناصر التحليل
•مقدمة لا بد منها
•الأبعاد التاريخية
•بين حماس وفتح: الصراع الداخلي
•بين حماس وإسرائيل: عراك البيضة والدجاجة
•شبهات وردود
مقدمة لا بد منها
لقد ذهلت من كثرة من يرمي اللوم على حماس لما يحدث للفلسطينيين في غزة، وكأن إسرائيل دولة تتقيد بالقوانين الدولية وتحترم الأعراف الإنسانية وهي التي أدانها مجلس الأمن في أكثر من 60% من تصريحاته ناحيتها، وصوتت ضدها الجمعية العامة التابعة للأمم المتحدة حوالي 90% من مجموع الأصوات حول الصراع العربي الإسرائيلي،
- أو كأن حماس لها مصلحة في أن يقتل شعبها ويستشهد قادتها وينقلب العالم بأسره عليها!!! إنّ المنطق يقول أنّ من يريد السلطة حقًا يسعى لأن يعيش هانئ البال وليس مشردًا مذبحًا مطرودًا... لو هي تريد السلطة حقًا، لفعلت مثلما يفعل باقي حكام العرب من تعاون مع إسرائيل وأمريكا ضد شعوبهم والخضوع للذل والهوان...
إنّ الذين يلومون حماس يبدوا كأنّهم نسوا أنّ الصراع لم يبدأ أمس، ولذا كان هذا التحليل عن تاريخ الصراع بطريقة أكاديمية منظمة بلغة سياسية حيادية من مقالات كتاب ومحللين أكثرهم غير عرب وغير مسلمين، بل وبعضهم يهود.
الأبعاد التاريخية
قطاع غزة بين حربي 48 و 67
يقع قطاع غزة في المنطقة الجنوبية من الساحل الفلسطيني على البحر المتوسط ويحده من الجنوب الغربي سيناء المصرية، ويشكل قطاع غزة أقل من 1.5% من مساحة فلسطين التاريخية، ويعيش في هذه المساحة الصغيرة 1.5 مليون نسمة.
ويعترف القانون الدولي بأنّ قطاع غزة والضفة الغربية والقدس الشرقية أراضٍ محتلة من قبل إسرائيل يجب الانسحاب منها وردها
إلى العرب، بموجب قرار مجلس الأمن رقم 242، ولم تكن لإسرائيل سلطة على هذه المناطق حتى عام 1967 عندما احتلتها بالقوة.
- 1948 (النكبة): دخلت غزة تحت حكم عسكري لمصر،
- 1956 (العدوان الثلاثي): حاولت إسرائيل الاستيلاء على القطاع لـ 5 شهور ثم انسحبت منها سريعًا لتعيدها إلى مصر، التي ظلت تسيطر عليها حتى 1967 بعد هزيمة العرب في حرب النكسة
- 1967 (النكسة): احتل الجيش الإسرائيلي قطاع غزة مع شبه جزيرة سيناء المصرية (كما احتل أيضًا الضفة الغربية التابعة للأردن، وكذلك القدس واعتبره عاصمة أبدية لإسرائيل)، ورغم انسنحاب إسرائيل في 1982 من سيناء بموجب معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية، إلا أنّ القطاع بقي تحت حكم عسكري إسرائيلي إذ فضلت مصر عدم تجديد سلطتها عليه.
- 2005: [إسرائيل] تنسحب من قطاع غزة والمستوطنون الإسرائيليون يخرجون منها
- 2006 : حماس تفوز بالانتخابات التشريعية التابعة للسلطة الفلسطينية، لتصبح الصوت الشرعي للشعب الفلسطيني القابع في الضفة الغربية وقطاع غزة.
- 2007 :حماس تستأثر بالسلطة في غزة بعد محاولة فتح للإطاحة بحكومة حماس ، بينما تذهب سلطة الضفة العربية إلى فتح.[2]
فتح: من التسليح إلى التفاوض:
نشأت فتح كحركة وطنية تسعى لتحرير أرض فلسطين ، بدأت كحركة كفاح مسلح حتى انتقلت إلى خط المفاوضات في أوسلو 1993. وتعود جذورها إلى الخمسينات إثر العدوان الثلاثي على مصر عام 1956 كنتيجة فكر مؤسسيها ياسر عرفات وصلاح خلف. ثم تبلورت معالمها وانضم إليها كثير من الفصائل الفلسطينية وأسماء معروفة مثل محمود عباس وذلك في عام 1961.
- في عام 1965 وقبل النكسة بسنتين، بدأت الحركة كفاحها المسلح، وظلت تكثف جهودها حتى اعترف وزير الدفاع الإسرائيلي بشدة الهجمات العسكرية التابعة لفتح، وبدأت الحركة في الظهور بشدة على الساحة الفلسطينية، وبسرعة أصبح ياسر عرفات رئيس منظمة التحرير الفلسطينية، وأصبحت فتح الجزء الأكثر أهمية في المنظمة.[3 [4]
بدأت الحركة باتخاذ بعض أشكال النضال السلمي في أواخر الثمانينات، لكن سرعان ما وقعت أحداث الإنتفاضة الأولى عام 1987، مما دعى بياسر عرفات إلى استغلال المكاسب السياسية وتوقيع أول معاهدة مع إسرائيل -اتفاقية أوسلو- عام 1993[5] والتي كانت من المفترض أنّها وعد أوليّ من إسرائيل بالانسحاب من الضفة الغربية وقطاع غزة، وإعطاء سلطة حكومة ذاتية فلسطينية.
الأمر الذي لم يتحقق بشكل كامل لاعتراضات من الجانبين: الشارع الفلسطيني واليمين الإسرائيلي.[6] ومنذ ذلك الحين وفتح تعاني الانشقاق الداخلي والفساد السياسي والخصام النكد بينها وبين الشارع الفلسطيني.
حماس
منذ البداية وفلسطين مليئة بالحركات الإسلامية التي تعمل في صمت، ولم يكن الشعب الفلسطيني ينظر إلى الإسلام كحل واقعي للاحتلال، مؤملاً أن يرى النتائج من التيار الوطني الممثل في منظمة التحرير الفلسطينية التي ترأسها فتح. لكن بدأ الأمر يختلف في الثمانينات، عندما رأت إسرائيل في التيار الإسلامي الصاعد فرصة لكي تضرب التيار الوطني، وقد ظنّت إسرائيل أنّ التيار الإسلامي سيكتفي بالتركيز على تطهير العقيدة وإثبات الشعائر الدينية مع صيحات فارغة ضد اليهود والصهيونية.
بدأت إسرائيل تضيِّق على أنصار فتح وتفتح الباب للإسلاميين مؤملين أن يحدث أي شقاق بين التيَّارَين... فبينما قامت بنفي مبارك عوض، المسيحي النشط الذي يؤمن بمقاومة سلمية، تركت إسرائيل العنان للشيخ أحمد ياسين (الأب الروحي لحركة حماس) أن يوزع منشورات تدعو إلى سقوط دولة إسرائيل، بالإضافة إلى أنّ المسؤولين الأمريكيين في القنصلية كانوا يقابلون قيادات حماس بينما كانوا ممنوعين من مقابلة قايدات فتح (حتى تغير الأمر باتفاق أوسلو 1993).[7]
وقد كان الشيخ أحمد ياسين -وهو عضو بارز في جماعة الإخوان المسلمين في فلسطين - يرى بالفعل أنّ المواجهة المسلحة مع إسرائيل مكلفة في ذلك الوقت[8]، ولذلك ارتأى هو ومجموعة من الإخوان المسلمين في 1985 إلى تحريك القوى الشعبية للتهيئة للمشروع الجهادي، فهو -كباقي الإخوان- يرى الجهاد بمفهومه الأوسع، أي نهضة إسلامية شاملة في جميع نواحي الحياة الروحانية والاجتماعية والسياسية والعسكرية والاقتصادية، ولكن جاء الوقت مناسبًا في الإنتفاضة الفلسطينية الأولى في أواخر عام 1987 ، حيث أعلن الإخوان عن إنشاء حماس، وبدأت تكسب بعض الشعبية في الجهاد المسلح أيام الانتفاضة الأولى. [9] وزادت شعبيتها على حساب فتح حتى فازت بانتخابات المجلس التشريعي عام 2005 .
حماس والظهور السياسي
كانت منظمة التحرير الفلسطينية هي المعترف بها عربيًا كممثل رسمي للشعب الفلسطيني منذ عام 1974 [10]، وكانت أهمّ فصائلها، فتح ، تؤمن بالمقاومة المسلحة إلاّ أنّها غيرت استراتيجيتها بالدخول في مفاوضات مع إسرائيل عام 1993 والخروج باتفاقية أوسلو، ورغم أنّ حماس وقتها لم تحظ بدعم شعبي واسع (15% فقط)، إلاّ أنّ سمعتها تحسنت داخل الشارع الفلسطيني بعد أن تبين للكثير من الشعب أنّ إسرائيل لن تفي بوعودها في اتفاقيات أوسلو[11]، هذا بالإضافة إلى ازدياد أعمال العنف بين الإسرائيليين والفلسطينيين وفشل مباحثات كامب ديفيد وطابا، مما أدى إلى اندلاع الإنتفاضة الثانية عام 2000 ، وخروج التصريحات التي كشفت عن سيطرة اليمين اليهودي المتطرف على سياسة إسرائيل حتى أنّ نتنياهو في 2001 حاول استغلال الكنيسيت اليميني لصك قانون يلغي اتفاقية أوسلو[12]، ونرى أثر اليمين في تصريحات شارون عام 2002 برفضه اقراح السعودية الانسحاب من الضفة والقطاع[13] ورفضه الاقتراح الأمريكي لإنشاء حكومة انتقالية فلسطينية[14].
في وقتٍ بدأت فتح تغير من بعض بنود ميثاقها الحركي لتعترف بالكيان الصهيوني مؤملة أن تنجح بذلك المفاوضات[15]، قطعت إسرائيل كل المباحثات مع الجانب الفلسطيني وفتحت الطريق أمام المستوطنات اليهودية في الضفة والقطاع وقامت بضرب البنية التحتية للسلطة الفلسطينية عام 2002 وقصف مقر الرئيس ياسر عرفات حينما هتف عبارته المشهورة: "شهيدًا.. شهيدًا.. شهيدًا"[16]. إلاّ أنّ المسؤول الأكبر عن أعمال المقاومة وقتها كان حماس التي صعّدت من حدة المقاومة المسلحة[17]، كما أنّها ركزت على الخدمات الاجتماعية والتي جاءت كمنقذ للفلسطينيين بعد أن تعطلت أجهزة السلطة الفلسطينية بفعل الهجمات الإسرائيلية.[18]
ربما كانت أهمّ إنجازات حماس هي خلق حالة من الرعب والتوتر للإسرائيليين المستوطنين في قطاع غزة ،بسبب كثافة العمليات الاستشهادية، كان المستوطنون (وعددهم 8000) يسيطرون على 25% من القطاع يحوي 40% من الأراضي الخصبة، بينما يعيش 1.4 مليون فلسطيني في أوضاع مزرية. إلاّ أنّ الوضع السيء جعل الإسرائيليين يدركون أنّ غزة إثمها أكبر من نفعها، وانطلق شارون يعلن في 2005 عن انسحاب الجيش من قطاع غزة وسحب المستوطنين منها، مدعيًا أنّها خطوة نحو السلام.[19] إلاّ أنّ الحقيقة تبدو في تصريحات دوف ويسجلاس -أحد مستشاري شارون- عندما أخبر أنّ هذا الانسحاب ما هو إلا فورمالديهايد[20] ليخنق قضية إنشاء دولة فلسطينية مستقلة، والتي خرجت من الأجندة الإسرائيلة للأبد، على حسب تعبيره[21]. وبالفعل، فبعد خروج المستوطنين الـ8000 من غزة، دخل الضفة الغربية 12000 مستوطن، مؤكدًا على أنّ الهدف من الخروج من غزة هو التركيز على الضفة وضمها إلى سلطة الإسرائيليين.[22]
فـَشَلُ المفاوضات السلمية لمنظمة التحرير الفلسطينية، ونجاح المقاومة العسكرية التابعة لحماس، بالإضافة إلى الفساد السياسي والانشقاقات في صفوف فتح ، جعلت الشعب يتطلع إلى أي تغيير للسلطة الحالية...
في خضم هذه الأحداث وفي عام 2004 ، كانت إدارة بوش على اقتناع بأنّ عرفات هو المسؤول عن الانتفاضة الثانية وأعمال العنف، واقترحت الإدارة عمل انتخابات نزيهة تشجع الشعب الفلسطيني على اختيار قادةٍ معتدلين. وبعد انتخاب محمود عباس خلفًا لعرفات عام 2005 ، أكد بوش على طلبه بفصل السلطات بين السلطة التنفيذية (محمود عباس) والمجلس التشريعي حتى لا يستأثر الرئيس عباس بالسلطة كما فعل عرفات. وتمت الانتخابات بالفعل عام 2006 لتستحوذ حركة حماس على معظم المقاعد البرلمانية والأحقية لاختيار رئيس وزراء وتشكيل حكومة جديدة.[23].
بين حماس وفتح: الصراع الداخلي
بدأت بوادر التوتر بين فتح وحماس منذ أيام أوسلو، ثم تعالت حدتها في 1996 عندما جاءت الأوامر من الرئيس عرفات إلى محمد دحلان (قائد الأمن الوقائي آنذاك) باعتقال 2000 من أعضاء حركة حماس بعد سلسلة من العمليات الاستشهادية التي خاضتها حماس في قطاع غزة، مما عرقل مساعي السلام في نظر عرفات.[24]
بعد الكسب غير المتوقع لحماس في الانتخابات التشريعية الفلسطينية أوائل عام 2006 ، .وقعت إدارة بوش في حرج شديد وأصابتها حالة من الهيستيريا. ورغم أنّ مسؤولين إسرائيليين (مثل إفرام هالفي رئيس الموساد الأسبق) نصحوا أمريكا بعدم التدخل، إلاّ أنّ الخوف من حماس دفع الأمريكان لاتخاذ خطوات سريعة، حيث ضغطت على اللجنة الرباعية لتطلب من حماس 1) الاعتراف بإسرائيل، 2) وضع السلاح، 3) الالتزام بجميع بنود الاتفاقيات التي تم عقدها من قبل. [25] [26]
ويعتبر الدكتور ستيفين زونس -من جامعة سان فرانسيسكو- هذه الشروط مجحفة، فحماس مطلوب منها الاعتراف بإسرائيل بينما إسرائيل لم تعترف يومًا بدولة فلسطينية، وحماس مأمورة بعدم قتل المدنيين من الإسرائيليين بينما لم يطلب أحد من إسرائيل عدم قتل المدنيين من الفلسطينيين، ثم إنّ على حماس الالتزام بجميع الاتفاقيات بينما خرقت إسرائيل اتفاقية واي ريفر وغيرها من الاتفاقيات مع السلطة الفلسطينية. وحدث ما كان متوقعًا من رفض حماس ، وبذلك سعت أمريكا لقطع كل المعونات الدولية عن السلطة الفلسطينية، مؤملين أن ينقلب الشعب عليها عندما تتأخر الأجور وتتباطأ الخدمات وتغلق المرافق الحكومية. وهذا الذي دفع حماس فيما بعد إلى قبول الدعم المادي من إيران لدفع أجور موظفيها وتسيير الحياة العامة في الأراضي الفلسطينية.[27]
لم تكسر القطيعة الدولية من عزيمة حماس ، بل إنّها بعد ذلك سعت إلى إنشاء حكومة وحدة وطنية مع فتح، الأمر الذي أثار حفيظة البيت الأبيض طالبًا من عباس أن يتخلص من حماس بأي شكل، مع وعد من إدارة بوش بالتغطية المادية الكاملة وذلك عن طريق مصر والأردن والسعودية والإمارات . وبدأ محمد دحلان (رئيس لجنة الداخلية والأمن آنذاك) بتكتيكات حربية ذكية لأسر وتعذيب قيادات حماس، مما دفع بحماس إلى التقاتل مع فتح، ليدخل الطرفان في دوامة من العنف المميت. [28]
وعلى الرغم من الخسائر في كلا الطرفين، إلاّ أنّ هذا لم يحل مشكلة وجود حماس في السلطة، وخصوصًا أنّ الدول العربية لم ترسل المبالغ المتفق عليها إلاّ من 20 مليون دولار وشحنة كبيرة من الأسلحة المصرية أرسلتها مصر إلى فتح، بالإضافة إلى تدريب كوادر شابة من حركة فتح على أرضي مصر والأردن . لكنّ هذا لم يكن كافيًا للإطاحة بحماس ، وأصبحت فلسطين على مشارف حرب أهلية، مما دفع بعباس إلى قبول عرض السعودية لتأليف حكومة وطنية مع حماس أواخر عام 2006 .[29]
هذا التصرف من عباس أطار صواب إدارة بوش التي أملت على عباس وثيقة الإطاحة بالحكومة الجديدة وإعلان حكومة طوارئ، وتسرب الخبر إلى حماس التي حاولت التخلص من لجنة الأمن الوقائي لكنّ تراجع مقاتلي فتح أعطى لحماس الفرصة بأن تطيح بقيادات فتح في قطاع غزة والاستقلال بالحكم هناك، واستأثرت حماس بقطاع غزة في يونيو عام 2007 ، بينما تولت فتح شؤون السلطة الفلسطينة في الضفة الغربية منذ ذلك الحين.[30] [31] ومنذ استئثار حماس بالسلطة، ضربت إسرائيل حصارًا على غزة تجاوز الأعراف الإسرائيلية نفسها، حتى أنّه أثار حفيظة بعض منظمات حقوق الإنسان الإسرائيلية. [32].
حماس وإسرائيل: عراك البيضة والدجاجة
من المقاومة إلى التهدئة (2000 - 2005)
كانت حالة الفلسطينيين بعد الإنتفاضة الثانية عام 2000 سيئة للغاية، ويذكر تقرير البنك الدولي في عام 2004 أنّ الاحتلال الإسرائيلي جعل الأراضي الفلسطينية تدخل في أحد أسوء مراحل الركود الاقتصادي في التاريخ الحديث، متجاوزًا حدود الخسائر التي تكبدتها الولايات المتحدة في العشرينيات وخسائر تحطم اقتصاد الأرجنتين في 2001-2002.[33] فالضفة الغربية محاطة بالسور الأمني الذي بنته إسرائيل ، وغزة مفروض عليها حصار إسرائيلي جعل نسبة الفقر تصل فيها إلى 75% ونسبة الأطفال الجائعين إلى 22% من مجموع أطفال غزة، بحسب تصريحات الأمم المتحدة عام 2003.[34]
وقتها قامت فصائل المقاومة الفلسطينية بتكثيف عملياتها الاستشهادية داخل حدود 67 وإطلاق صواريخها في أراضي فلسطين المحتلة خارج حدود 67، مما جعل البقاء بالنسبة للجيش الإسرائيلي والمستوطنين اليهود في غزة غير عملي بالمرة، وبالفعل بدأت القوات الإسرائيلية في الانسحاب من قطاع غزة في شهر سبتمبر من عام 2005 ، مخلفة وراءها أرضًا مكدسة بالسكان يجتاحها الفقر والجوع، لكنّ أهلها فخورون بإنجاز المقاومة المسلحة وخصوصًا حماس.
إلاّ أنّه بعد أيام من الانسحاب الإسرائيلي، سرعان ما قررت حماس إيقاف إطلاق الصواريخ على القرى الإسرائيلية القابعة في ما وراء حدود 67، وذلك بسبب نيتها لدخول انتخابات المجلس التشريعي المنعقدة في 2006 وبسبب المشاحنات الداخلية والضغوط المصرية التي اتضح لحماس بعدها أنّ استمرارها في إطلاق الصواريخ قد يعطي ذريعة لأمريكا كي تمنع حماس من دخول الانتخابات. [35]
خرق التهدئة (2006)
بعد أقل من شهر من فوزها بالانتخابات في يناير 2006 ، عرضت حماس على إسرائيل هدنة طويلة الأمد ومحادثات سياسية إذا ما انسحبت إسرائيل من حدود 1967، لكنّ إسرائيل لم تستجب لطلب حماس مبررة ذلك بكون حماس تؤكد على أنّها لن تعترف أبدًا بالكيان الصهيوني .[36]
وظلت حماس ملتزمة بوقف إطلاق النار حتى يونيو من عام 2006 ، إلاّ أنّ الصواريخ التي كانت تطلقها فصائل المقاومة الأخرى استمرت، واتخذت إسرائيل ذلك ذريعة لتقوم بقتل أعضاء وقادة المقاومة وبعض المدنيين في غزة والضفة الغربية، بالإضافة إلى أسر زوجات وأمهات وأقارب المطلوبين لدى إسرائيل.[37] لكن بعد قتل عائلة فلسطينية كانت تستجم على الشاطئ، قررت حماس إنهاء فترة التهدئة، والعودة إلى المقاومة المسلحة[38]، وقامت بأسر جندي إسرائيلي، جلعاد شاليط، طالبت به تبادل الأسرى الفلسطينيين من النساء والأطفال، عندها اعتقلت إسرائيل 64 من قيادات حماس -معظمهم أعضاء منتخبون في المجلس التشريعي- ثم شنت غارة عسكرية على قطاع غزة المسماة بـ"أمطار الصيف"،[39] أدت -في شهرين- إلى قتل أكثر من مائتين من الفلسطينيين وتدمير مئات الأبنية وإصابة محطة الكهرباء بغزة.[40]
من يونيو 2006 وحتى نهاية العام، قامت إسرائيل بتصعيد العمليات العسكرية داخل غزة أدت إلى قتل ما لا يقل عن 660 فلسطيني -بحسب تقديرات متحفظة لمركز المعلومات الإسرائيلي لحقوق الإنسان "بتسيلم"-، بينهم أكثر من 140 طفلاً.[41] إلاّ أن إسرائيل قررت التوقف فجأة في آخر العام وأعلنت عن استعدادها لـ"ضبط النفس" برغم ازدياد عدد الصواريخ الفلسطينية المنطلقة من غزة، بل ومقتل بعض المدنيين الإسرائيليين من جراء هذه الصواريخ. ويرى البروفيسور الإسرائيلي إيلان باب -من جامعة حيفا- أنّ إسرائيل وجدت أنّ الاقتتال الداخلي بين حماس وفتح يحقق للجيش الإسرائيلي ما يتمنّاه من إبادة للفلسطينين في غزة.[42]
غزة بين الحصار والانقسام (2007 – 2008)
ظل الجيش الإسرائيلي هادئًا يراقب أحداث الاقتتال الفلسطيني حتى أوائل مايو 2007 بعيد تسرب المذكرة الأمريكية الموجهة لمحمود عباس والتي تحوي تفاصيل إبعاد حماس عن السلطة، وتحركات حماس لمنع أي انقلاب يضر بحكومة الوحدة الوطنية التي تم تشكيلها آنفًا. بات من الواضح وقتها أنّ على الإسرائيليين التدخل السريع، وبالفعل بدأ الجيش الإسرائيلي يشن غاراته على غزة مرة أخرى، مستهدفًا مقاتلي حماس.[43] لكنّ حماس استطاعت الاستقلال بالحكم في غزة، وردت إسرائيل بأن أغلقت معبر رفح، مدخلة غزة في حصار أدى إلى ما وصفته جمعيات حقوق الإنسان بالأزمة الإنسانية.[44]
وبالإضافة إلى عرقلة كثير من المعونات الدولية عن شعب غزة، فقد أدى إغلاق معبر رفح إلى تعطيل آلاف من الفلسطينيين في الحدود المصرية لشهرين وأكثر. ثمّ في اتفاق بين إسرائيل والسلطتين الفلسطينية والمصرية (وحماس مُبعدة)، تمّ نقل بعض الفلسطينيين من معبر رفح إلى معبر العوجة المؤدي إلى الأراضي الإسرائيلية بدلاً من رفح المؤدي إلى غزة مباشرة، كرسالة للفلسطينيين أنّ فتح معبر رفح ودخول المعونات مرتهن بخروج حماس من سلطة غزة. مما دفع بفصائل المقاومة إلى حفر مئات الأنفاق لنقل المواد الغذائية الأساسية وبعض الأسلحة من مصر إلى غزة.[45]
في ظل هذا الوضع السيئ، حاولت بعض فصائل المقاومة استمرار قصف القرى الإسرائيلية بصواريخ عشوائية، فسارعت إسرائيل باعتبر غزة كيانًا عدوانيًا في سبتمبر 2007، وزاد الحصار حتى وصل إلى قطع إمدادات محطة الكهرباء بالوقود اللازم، فاضطرت المحطة إلى وقف إمداد القطاع بالكهرباء في أوائل عام 2008 لتدخل غزة في ظلام دامس يغطي اقتصادًا مُدَمَّرًا وضعفًا في المرافق الصحية وحالة غير مسبوقة من الجوع والبطالة، حسب شهادات الأمم المتحدة.[46]
قبل إنقطاع الكهرباء، كانت إسرائيل تدَّعي أنّ حصارها لم يخلق أزمة في القطاع. لكنّ غرق غزة في الظلام وجهت أنظار العالم إلى ما يحدث هناك، وبدأ المجتمع الدولي في الضغط على إسرائيل -التي بدأت تفصح عن نياتها في تجويع شعب غزة حتى تنتهي جميع أشكال المقاومة المسلحة- فقررت إسرائيل إدخال بعض الوقود هنا أو هناك بما لا يكفي احتياجات غزة، لكنّه بالتأكيد يكفي لتخدير الرأي العام عن هذه الأزمة الإنسانية.[47]
التهدئة الهشة والعدوان الغاشم (2008)
منذ استئناف العمليات العسكرية الإسرائيلية في مايو 2007 ، قتل حوالي أكثر من 600 فلسطيني و18 إسرائيلي،[48] وظل الحصار قائمًا كما ظل القصف من الجانبين -في ظل ضغوط دولية لإنهاء الأزمة- حتى ينيو 2008 عندما تم الإعلان عن تهدئة مدتها 6 أشهر رعتها القاهرة ، وكان من شروط هذه التهدئة الوقف المتبادل لإطلاق النار ورفع الحصار عن الشعب الفلسطيني والفتح التدريجي للمعابر.[49] واعتبر بعض المحللين أنّ هذه التهدئة -والتي تحققت بوعود شفوية بدون التوقيع على أي بنود- أتت لأهداف سياسية من الطرفين، فإسرائيل أرادت بعض الهدوء لعزل المشكلات عن بعضها، وحماس تريد أن تثبت لخصومها مرونتها السياسية في التعامل مع الأزمات.[50]
وظلت حماس ملتزمة بشروط وقف إطلاق النار لمدة خمسة أشهر حتى 4 نوفمبر، وإن كانت بعض العناصر الأخرى (بعضها في تحد لقرار حماس) أطلقت في ذلك الوقت 20 صاروخًا و18 قذيفة سقط بعضها في أراضي غزة، وهذا رقم لا يقارن بكمية الصواريخ التي كانت تطلقها المقاومة قبل التهدئة وذلك بمتوسط أكثر من 300 صاورخ شهريًا، بحسب مصادر إسرائيلية، [51] وقد جاء رد حماس صارمًا على فصائل المقاومة التي حاولت إطلاق الصواريخ، معتبرتة أنّ الالتزام بالتهدئة مطلب وطني.[52]
وبينما التزمت إسرائيل، عمومًا، بوقف إطلاق النار في غزة، فهي لم تتوقف عن ملاحقة وقتل رجال المقاومة في الضفة الغربية[53]، كما أنّها لم تلتزم ببقية شروط الاتفاقية والتي توجب عليها رفع الحصار عن غزة، فبحسب تقرير الأمم المتحدة، فإن متوسط عدد الشاحنات التي دخلت غزة وقت التهدئة (123 شاحنة يوميًا) لم يتغير كثيرًا عن عددها قبل التهدئة، ولا يمثل سوى 37% من عدد الشاحنات التي كانت تعبر في مايو 2007 قبل استقلال حماس بالحكم في غزة.[54] وكانت إسرائيل كثيرًا ما تغلق المعابر وخصوصًا مع انطلاق أي صاروخ أو قذيفة من أي عنصر في قطاع غزة.[55]
وفي نفس يوم الانتخابات الأمريكية -4 نوفمبر-، استغلت إسرائيل انشغال الرأي العام العالمي بما يحدث على الساحة الأمريكية، وقامت بخرق التهدئة عندما قصفت عناصر من حركة حماس، ادعى الإسرائيليون أنّهم يحفرون أحد الأنفاق التي تعينهم على تخطي المعابر المغلقة، واستطاع الجيش الإسرائيلي أن يقتل ستة من مقاتلي حماس، ويهدم بيتين، ويأسر سبعة من الفلسطينيين (بينهم ثلاث نساء). الأمر الذي دعا حماس إلى إطلاق الصواريخ مرة أخرى على القرى الإسرائيلية المجاورة، لتعود حلقة العنف بين الطرفين من جديد. [56]
وفي ظل هذه الظروف، رفضت الفصائل الفلسطينية بالإجماع تجديد التهدئة، وخصوصًا مع الشروط الإسرائيلية الجديدة لتمديد التهدئة والتي وضعت خصيصًا لكي يتمّ خرقها، مثل شرط عدم الرد على العمليات العسكرية في الضفة الغربية.[57] وقامت إسرائيل بحساب وقت قصفها بدقة، فباراك أوباما غير مضمون، وإدارة بوش -الحليف الأكبر لإسرائيل- على وشك الخروج من السلطة، ثمّ إنّ الانتخابات الأسرائيلية على الأبواب، والشعب يتطلع إلى أن يرى نتائج إيقاف حماس في ظل حكومة ليفني وإيهود باراك.[58] [59]
وقد أعدت إسرائيل العدة لهذه العملية العسكرية، مؤملة أن يكون فيها استردادًا للدعم الشعبي الذي فقدته بعد فشلها في حرب لبنان 2006 ، والتي اتسمت بالتسرع في رد الفعل وسوء التخطيط.[60] ويكشف أولمرت عن أنّ هذه العملية كانت تعد منذ ما لا يقل عن ستة أشهر (أي منذ بدء وقف إطلاق النار)، يهيئ لها حصارٌ طويلٌ لتجويع أهالي المسلحين من رجال المقاومة، مما يسهل عملية الاقتحام البري فيما بعد.[61]