لا بد من رد رادع
بقلم : الدكتور عبد العزيز الرنتيسي
لقد أذهلت المجزرة الأخيرة العالم بأسره وهو يراقب هذه الوحشية الصهيونية، أما نحن فقد أذهلنا دعاة الهزيمة وهم يغوصون في أعماق فلسفة فارغة لتسويق منهجهم في قتل روح المقاومة، وكأنهم وهم يناقشون الأسباب التي دفعت شارون لارتكاب مجزرة غزة يحشرون أنفسهم في جحر ضب، ويتجاهلون كل الأسباب المنطقية المعلنة وغير المعلنة التي دفعت هذا السفاح لارتكاب هذه الجريمة، ليختزلوا المسألة في سبب واحد لا يملكون أي دليل على صحته، ويبنون عليه نظرية الانبطاح أمام العاصفة، فسبب استهداف شارون القائد العام لكتائب القسام من وجهة نظرهم هو استدراج حماس كي ترد على هذه الجريمة، ليتخذ شارون من الرد ذريعة للهروب من استحقاقات السلام، ولقد غابت عن هؤلاء الأسباب المنطقية لهذه المجزرة البشعة، فهل شارون مضطر فعلا لتعريض شعبه للقتل، واقتصاده للدمار، وأمنه للضياع؟
وهل هو مضطر لدفع اليهود للهجرة المعاكسة، وزرع الرعب في قلوبهم، من أجل الهروب من استحقاقات السلام؟ وإذا كانت مصلحة الصهاينة - كما يفترض هؤلاء - هي فرض إرادتهم على الشعب الفلسطيني بمنعه من الاستقلال أو السيادة تمهيداً لترسيخ الاستيلاء على أراضيه وبسط السيطرة الصهيونية على كامل فلسطين، فهل إحراج شارون من خلال وقف المقاومة وإطلاق المبادرات العربية السخية يمكن أن يصرفه عن العمل لتحقيق مصلحته تلك؟ ثم ألا تكفي البلطجة الصهيونية، والعربدة الأمريكية لتحقيق هذه المصلحة دون الحاجة إلى ذرائع باهظة الثمن؟
وانطلاقا من فهمنا لطبيعة العصابات الصهيونية العدوانية، فإننا نرى أنها لابد ستستخدم أساليبها الإرهابية كما استخدمتها في السابق وعلى مدى قرن أو يزيد من أجل بسط سيطرتها على كامل فلسطين، وهدفها من ذلك إرهاب الشعب الفلسطيني كي يرحل، وتدمير المقاومة المسلحة وعلى رأسها حركة حماس كي تثبت أقدام الغاصبين، ومن هنا يمكننا فهم الدوافع الحقيقية لهذه المجزرة الجديدة، فنحن أمام استعمار استيطاني، يعلم جيدا أن وجوده مهدد - ما بقي أصحاب الأرض متشبثين بأرضهم منغرسين فيها - ، ونحن أمام استعمار صهيوني والصهاينة كما وصفهم القرآن ( ولتجدنهم أحرص الناس على حياة )، والمقاومة إذن ترهبهم وتدفعهم للرحيل مما يهدد وجودهم.
وتعتبر صحيفة هتسوفيه أن السبب الحقيقي للعملية هو حماية بقائهم في فلسطين إلى الأبد قائلة ( إن الرد على كل التساؤلات هو أن "من أراد قتلك فاقتله"، والجيش يعمل وفقا لهذه القاعدة ويجب أن تبقى هي الموجهة لنا غدا وبعد غد إذا أردنا البقاء في هذه البلاد، والدفاع عن حياتنا من أجل أن نعيش فيها إلى الأبد كشعب )، ويقول وزير حرب العدو بن اليعيزر ( إن أحد أهدافنا من الحملة ضد الفلسطينيين، هو منع نزوح "الإسرائيليين" عن الدولة في أعقاب تدهور الوضع الأمني )، وتصف صحيفة يديعوت الوضع الصهيوني قائلة ( المشروع الصهيونيكله بات يبدو وكأنه قد تحول إلى منشأة وقود وغاز مرشح للاشتعال، وأنه ليس هناك ما يمكن عمله بهذا الشأن، باستثناء إقامة سياج يخفف قليلاً من الخطر، المدن والبلدات والمصانع والشوارع تبدو وكأنها لم تبن ولم تشق ولم يتم تطويرها بشكل مهيب، طيلة مائة سنة من العمل الشاق والتضحية بالذات، إلا كي يتمكن الإرهابيون الانتحاريون ـ على حد وصف الصحيفة ـ من الحضور لتفجير أنفسهم فيها، اليوم في مؤسسة تعليمية، وغداً في مكان للهو، أمس الأول في مركز تجاري، وبعد غد في محطة لنقل المسافرين، وليس هناك مكانًا نهرب إليه ولا جهة نتحدث معها، كل شيء يبدو كما لو أن حياتنا ستتواصل هكذا حتى نصعد نحن، أيضًا، إلى حافلة الركاب غير الصحيحة أو نجلس لاحتساء القهوة في موقع حدوث العملية القادمة ) إذن فهدف الصهاينة من ضرب المقاومة هو القضاء عليها حفاظا على وجودهم في فلسطين.
وعندما تطالعنا يديعوت قائلة ( وحول سؤال ماذا تكسب "إسرائيل" من تصفيته في الوقت الذي تعلن فيه حماس أنه من الآن فصاعدا سيتحول كل "إسرائيلي" إلى هدف، يرد منسق النشاطات في المناطق عاموس جلعاد قائلا صلاح شحادة خطط لتحويل حياة "الإسرائيليين" إلى جحيم والمس به وبإرهابيين آخرين تضمن عدم قدرتهم على تنفيذ قَسمهم )، نفهم من ذلك أن العدو يرى في تصفية القيادات حماية لأمنه، وشلا للمقاومة، وفي ذلك تثبيت للصهاينة الذين عقدوا العزم على العودة من حيث أتوا هروبا من الجحيم.
واستهداف حركة المقاومة الإسلامية حماس يبدو واضحا في قول شارون في جلسة لكتلة الليكود في الكنيست ( تخطط "إسرائيل" لعملية عسكرية واسعة ضد حماس في قطاع غزة )، وقوله أيضا ( لن نتورط في غزة، وسنبذل قصارى جهودنا لضرب حركة حماس بشكل جدي، من يعتقد أنه يجب العودة إلى غزة لا يفهم شيئا، أعرف غزة أكثر من أي واحد آخر، لا يجب أن نكون في غزة، ولكن من يظن أن مركز حماس سيكون في غزة فهو مخطئ ) فعندما ينفذ مخططه في اغتيال ستة في مدينة رفح، ويحاول في عملية فاشلة اغتيال قيادات في خانيونس بقصف المنزل الذي كانوا يتواجدون به بالإف 16، ثم يقوم باغتيال كل من القائد صلاح شحادة والقائد زاهر نصار، علينا ألا نجهد أنفسنا بالبحث عن تأويلات لا تمت للواقع بصلة، هدفها فقط قطع الطريق المقاومة القادرة على دحر الاحتلال، والانتقام لدماء الشهداء، واستهداف حماس في غزة هو استهداف لمشروع المقاومة.
ولكن المجزرة الأخيرة في غزة استهدفت الشعب الفلسطيني أيضا، واستهداف الشعب الفلسطيني له ما يبرره في العقلية الصهيونية الإرهابية التي لا تقيم وزنا إلا لدماء اليهود، فإرهاب الشعب الفلسطيني كان له دور في الهجرة الأولى عام 1948، وفي النزوح الثاني عام 1967، ولا زال العدو الصهيونييراهن على إمكانية حدوث هجرة كبيرة للشعب الفلسطيني تحت وطأة قتل الأطفال والشباب والشيوخ والنساء في مذابح جماعية، وتحت وطأة سياسة التجويع التي يمارسها ضد الشعب الفلسطيني بكامله.
ويسعى الصهاينة من استهداف الشعب الفلسطيني أيضا إلى عزل المقاومة عن الجماهير الفلسطينية، خاصة أنهم قد أدركوا أن الجماهير الفلسطينية مع خيار المقاومة، فلا غرابة أن يخططوا لضرب المقاومة من خلال ضرب الجماهير، لأن الجماهير تشكل عمقا للمقاومة، وتشكل سياجا واقيا يحمي وجودها، وتشكل تقويضا لخيار الاستسلام الذي أصبح معزولا تماما، ومن هنا فإن المقاومة الإسلامية بدعم من الجماهير الواعية قادرة على التصدي للحلول التصفوية، التي هي الهدف الحقيقي لهذه الهجمات الوحشية.
من كل ذلك ندرك أنه لم يبق أمامنا إلا خيار واحد هو خيار المقاومة، دفاعا عن وجودنا، ودحرا للاحتلال، وحماية للقضية الفلسطينية من التصفية، واستنهاضا للأمة، وبالتالي تحقيقا للمصلحة الوطنية العليا، لأجل ذلك لابد من رد رادع، وعلينا ألا نلتفت إلى ما يمكن أن ندفعه بسبب المقاومة، فهو أقل بكثير من ثمن الوطن.
المصدر
- مقال:لا بد من رد رادعالمركز الفلسطينى للإعلام