بشائر النصر
بشائر النصر
حجم المأساة يجل عن الوصف، ومستوى المصاب يعلو عن التصور؛ فرغم أن عدسات بعض الفضائيات نقلت صور القتل الوحشي والإبادة الجماعية والبطش الحاقد والدمار الهائل والأشلاء المتناثرة وسيول الدماء وهي تملأ شوارع غزة.. رغم ذلك كله إلا أنني أجزم أن ما نُقل كان أقل بكثير من المستوى الحقيقي للمأساة والعمق الواقعي للمصاب، فأهل الأرض كلهم شهود على مجزرة وحشية طاغية يمارسها اليهود أمام سمع العالم وبصره، ولا يردعهم عنها رادع! بل من أنظمة العالم من وصلت به الاستهانة إلى حدِّ التشجيع والتواطؤ!
ومع ذلك كله أرى أن الألم الذي يملأ النفوس، والحزن الذي يعمر القلوب؛ ينبغي أن لا يتحول إلى حالة من اليأس والإحباط، يقيد حركتنا، ويصيبنا بالعجز والوهن، ويجعلنا نستسلم ونركن لعدونا؛ بل الواجب أن نقرأ الأحداث قراءة موضوعية تبرز لنا بقية المشهد الفلسطيني بوضوح وتفاؤل، وتأمَّلوا معي بعض الإيجابيات التي برزت بقوة في ظل تلك الأحزان والمآسي المؤلمة.
أولاً: الثبات والصمود:
ففي ظل الهزائم المتتابعة للأحزاب والأنظمة العروبية التي تحولت شعاراتها الثورية خلال العقود الماضية إلى شعارات باردة لا حياة فيها؛ تدعو إلى ما يسمونه بالسلام، وتصفه بالخيار الاستراتيجي، وتبشر بثقافة التطبيع التي جرَّت الأمة إلى أنفاق الهزيمة والعار، ولم تحصد منه إلا الحنظل والعلقم.. في ظل هذه الأجواء الانهزامية تعود روح المقاومة إلى الشارع الفلسطيني، تحدوها آيات القرآن العظيم، وتسوقها سنن نبي الملحمة - صلى الله عليه وسلم - . وعلى الرغم من الحصار الجائر والتواطؤ الإقليمي والدولي، ثم الحرب والدمار؛ إلا أن أولئك الأبطال يسطرون أبلغ أنواع الثبات والبطولة والاستشهاد، ويستبسلون بكل عزيمة وأنفة، ويتسابق قادتهم وعلماؤهم إلى الصفــوف الأولى فــي المعــركة دون وهـــن أو تخاذل.. أليس هذا مَعْلَماً بارزاً من معالم الاستبسال التي تحيي الأمل والعزة في صفوف الأمة؟
إن الثبات على المبدأ والصبر على تبعاته، والتضحية من أجله، وعدم الضعف أو الاستسلام أو التنازل؛ من أعظم أنواع الانتصار، والأمم والحضارات لا تُبنى إلا بذلك. قال الله - تعالى -: {وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَـمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآيَاتِنَا يُوقِنُونَ} [السجدة: ٤٢].
تحدثتُ هاتفياً مع الدكتور نزار ريان - رحمه الله - القيادي البارز في حركة حماس قبيل المجزرة اليهودية بأسبوع واحد أطلب منه كتابة مقالة للبيان عن الحصار، فقال لي: (نحن الآن في شغل عن هذا.. نحن الآن في رباط، الوقت وقت العمل لا وقت الكلام!)، فسألته عن أحوال الناس في غزة، فقال لي بكل ثقة: (لا تخفْ علينا.. السؤال عنكم أنتم: ماذا قدمتم لأنفسكم؟!).
لقد نجحت المقاومة في فضح مسلسل الخزي والاستسلام، وأعادت الحمية والغيرة إلى الشعب الفلسطيني، والمحن هي التــي تنفــي الخَبَث وتصنع الرجال، وصدق المولى - جلَّ وعلا -: {وَلا تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ الْقَوْمِ إن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لا يَرْجُونَ} [النساء: ٤٠١].
ثانياً: سقوط الهيبة:
الجيش اليهودي بآلته المتوحشة، وعتاده الطاغي، وأسلحته المحرمة دولياً؛ يقف حائراً عاجزاً أمام كتائب المقاومة بإمكانياتها البدائية وتجهيزاتها المتواضعة. لقد سقطت هيبة ذلك العملاق المتورم الذي كان يختال بقوته وتسليحه، ويرهب الأنظمة القومية والثورية. لقد أثبتت أحداث غزة أن العقيدة الراسخة هي القوة الحقيقية التي تبني الأمم.
في معركة سابقة من معارك العرب أعلن القادة الميدانيون لجنودهم في بعض الجيوش العربية: (ارمِ سلاحك وانسحب!). أما في معركة غزة فقد كان هناك شأن آخر، لقد استطاع رجال الأنفال وآل عمران أن يُسقِطوا تلك الأسطورة المتعالية، ويمرِّغوا أنوفهم في الوحل؛ فهل سيستفيد العرب من هذه التجربة؟
قال الله - تعالى -: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إيمَانًا وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ} [آل عمران: ٣٧١].
ثالثاً: الحياة تعود إلى الشعوب:
الشارع الإسلامي يغلي من داخله، التجمعات والمظاهرات والمسيرات العفوية تحرك كثيراً من العواصم العربية والإسلامية. أدرك كثير من عوام المسلمين - فضلاً عن خواصهم - أبعاداً كبيرة من طبيعة المعركة مع العدو اليهودي.
مجازر غزة أحيت قلوب الناس، وأحيت القضية الفلسطينية من جديد. لقد اجتهدت بعض الأنظمة والمنظمات العَلْمانية في الترويج لثقافة الخنوع والتطبيع مع العدو الصهيوني، وترويض روح المقاومة، وامتصاص العزة والغيرة من أبناء الأمة، لكن الشارع الإسلامي قال كلمته بوضوح، وانحاز إلى خيار المقاومة، واستهجن لغة التشفِّي الرخيصة التي تحمِّل الضحية المسؤولية كاملة.
نعم! معظم ما يحيط برجل الشارع الإسلامي من مواقف سياسية وإعلامية يثير الإحباط، ويدعو إلى النكوص والاستسلام، الوهن قيَّد الشعوب وأعجزها، لكن رائحة الدماء الزكية والأشلاء المباركة في غزة أيقظت روح الممانعة والمقاومة، ولفظت في ظلها الخطابات القومية والثورية والعَلْمانية آخر أنفاسها، وأصبح الخطاب الإسلامي هو الأقوى تأثيراً، والأكثر حضوراً. ألا يحق لنا أن نقول بعد ذلك: إن المحنة لا بدَّ من أن تحمل فــي ثناياها فرصاً كثيرة؟
بعد أحداث الحادي عشر من سبتمبر أصبح الجهاد تهمة وإرهاباً، وكان بعض المثقفين والمفكرين يحاول أن يعطي تفسيرات انهزاميه لشعيرة الجهاد، تتلاءم مع المطالب الدولية، وأمثلهم من كان يتحدث عن جهاد الدفع لا جهاد الطلب، أما الآن فالنفس العام للشارع الإسلامي أصبح مختلفاً، لقد تجاوز ذلك الغثاء، وارتفعت لغة الجهاد في سبيل الله.
إن هذا التفاعل - غير المسبوق - من أبناء الإسلام يتطلب من أهل العلم وقادة الرأي والفكر أن يستثمروا طاقات الأمة، ويوظفوا إمكانياتها في برامج عملية داعية إلى نصرة كل قضية إسلامية وإحداها قضية فلسطين؛ حتى لا تبرد الحمية أو تستهلك أو تبدد في ردود أفعال يمكن أن توظَّف في مجالات أعمق نفعاً وأكثر بركة.
قال الله - تعالى -: {إن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَتَّخِذَ مِنكُمْ شُهَدَاءَ وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِـمِينَ * وَلِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ} [آل عمران: ٠٤١ - ١٤١].
ذلك الفوز الكبير}*
الحديث عن غزة ليس حديثاً عن مساحة أو رقعة صغيرة من الأرض، وإنما هو حديث عن الأمة التي هي كمثل الجسد الواحد.
إن قول الله ينبغي أن يكون نبراساً لنا في تحليلنا للأحداث، ومن أغفله أو زاغ عنه فقد أبعد. وإن القنوات الفضائية والوسائل الإعلامية اليوم مليئة بالآراء والتحليلات، وكثير منها بعيد؛ لإغفاله ما بيَّنه الكتاب ودلَّت عليه السنة، وكلما قَرُب التحليل من فقه الكتاب والسنة كان أصوب.
وغِـشُّ اليهــود وخيانتهم للمسلمين وعداوتهم لهم وتمنِّيهم السوء لهم مما تواردت عليه آيات الكتاب. قال الله - تعالى -: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة: ٢٨]، وقوله - سبحانه -: {مَا يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَلا الْـمُشْرِكِينَ أَن يُنَزَّلَ عَلَيْكُم مِّنْ خَيْرٍ مِّن رَّبِّكُمْ} [البقرة: ٥٠١]، وقال عنهم أيضاً: {لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ} [آل عمران: ٨١١].
ولن أتحدث في هذا؛ فإن من قرأ القرآن عرفه، ولن أتحدث كذلك عن الواقع؛ فقد رأينا وسمعنا في الوكالات ما فيه كفاية، وحسبكم أن عدد القتلى قد قارب ألف شهيد وعدد الجرحى قارب أربعة آلاف حتى كتابة هذه السطور.
وعزاؤنا قول ربنا - سبحانه -: (وكأين من نبي قتل) كما قرأ نافع وابن كثير وأبو عمرو، أو {وَكَأَيِّن مِّن نَّبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِـمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ * وَمَا كَانَ قَوْلَهُمْ إلاَّ أَن قَالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَإسْرَافَنَا فِي أَمْرِنَا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَومِ الْكَافِرِينَ * فَآتَاهُمُ اللَّهُ ثَوَابَ الدُّنْيَا وَحُسْنَ ثَوَابِ الآخِرَةِ وَاللَّهُ يُحِبُّ الْـمُحْسِنِينَ} [آل عمران: ٦٤١ - ٨٤١].
وتأمَّل كيف ردُّوا الأمر إلى أنفسهم؛ ففزعوا إلى ربهم واستغفروه واستغاثوا به؛ فجاءهم الفرج!
إن ما يحدث اليوم في غزة إنما هو نتيجة مقدمات سابقة مهدت له، فتاريخ العرب مع فلسطين تاريخ مؤسف مليء بالخيانات والمؤامرات ووضع الأيدي في أيدي الأعداء. وانظـر وتأمَّــل مَن الــذي يحـمــي اليـهــود؟ إن للغــرب - ولا سيما أمريكا - دوراً ظاهراً لا يُنكر، ولكن أليس من يحمي الحدود ويمنع المجاهدين من الوصول أو الخروج شريكاً في الجرم؟ ألا يُعدُّ خائنـاً من يلاحق المجاهدين الصادقين الذين يريدون تحريــر أرض فلسطين؟ مع أن هــؤلاء المجاهــدين كانوا وما زالــوا مـن أشدِّ الناس انضبــاطــاً وحــرصاً علـى أن لا ينتقــل الصراع ليكــون مــع دول الجــوار، بخلاف شأن بعــض المنظمــات العَلْمــانية، التــي أســاءت لفلسطين، بــل باعــوا قضيتها بأبخس الأثمــان. وانظــروا مَنْ قمع الفلسطينيين في الضفـة لـمَّـا أظهــروا التضـامن مــع إخوتهـم في قطاع غزة!
ومع تواطؤ أمثال هؤلاء مصاب آخر متمثل في مسلسل السلام الذي اغترَّ به بعضهم مع أن الفتاوى الشرعية قد صدرت بتحريم ما يسمَّى بـ (عملية السلام) الذليل الذي هو في حقيقته استسلام للعدو، وتسليم الأرض له.
وفَرْقٌ بين الهدنة الشرعية التي أقرَّها بعض أهل العلم وبين بَيْع فلسطين والاعتراف للعدو بأرضٍ لا يملكها.
وعجباً ممن يدعون إلى التعايش السلمي مع قوم يرفعون السلاح، ولا يرقبون في مؤمن إلاً ولا ذمة! وأشد العجب ممن يرى ما يجري الآن من قتل للأطفال والنساء والمستضعفين في مناظر تقشعرُّ منها الأبدان في غزة المحاصرة ثم هو لا يزال ينادي بالعودة إلى (عملية السلام) ويستنكر على المجاهدين أن يدافعوا عن أنفسهم!
إن ثمَّة سنناً كونية وقواعد شرعية لا بدَّ أن نعيَها من أجل أن نبصر الحقيقة، ومنها:
أولاً: أن الصراع بين الحق والباطل ماضٍ أبداً من أجل العقيدة {وَلا يَزَالُونَ يُقَاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَن دِينِكُمْ إنِ اسْتَطَاعُوا} [البقرة: ٧١٢]، فالصـراع عقــدي، شاء من شاء وأبى من أبــى، وكل تحلـيل يُقصـي الجانب العقـدي ويغفلــه أو يهمش من شأنه فهو تحليل باطــل، بل الواجب أن ننظر في الصراع والعوامـل المؤثـرة على الأحداث دون تخــطٍّ لمقررات العقيدة وأحكــام الشريعة، وهــل جــرَّ الويلات غير إخراج قضية فلسطين من نطاقهــا الإسلامي إلى النطاق العربي والقومي؟
ثانياً: لــن يتحقــق لنــا النصر إن لم نحقق أسبابه، فتلك سنــة الله، ومن أعظم أسبابه نصر دينه، كما قال - سبحانه -: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: ٧]. ولن يتحقق المشروط إن لم يتحقق الشرط، فحقِّقوا أسباب النصر يتحقق لكم النصر.
ثالثاً: مــن الســنن الكونية أن الله يبتلي عباده ليمحصهم، ويميز الخبيث من الطيب، قبل أن يمكِّنهم، كما قال - تعالى -: {أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ * وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ} [العنكبوت: ٢ - ٣]، وقال - سبحانه -: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْـجَنَّةَ وَلَـمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ} [البقرة: ٤١٢]، وقال - أيضاً -: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْـجَنَّةَ وَلَـمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ} [آل عمران: ٢٤١]، وقال - تعالى -: {مَا كَانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْـمُؤْمِنِينَ عَلَى مَا أَنتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْـخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ} [آل عمران: ٩٧١]، وقال: {أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تُتْرَكُوا وَلَـمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَلَمْ يَتَّخِذُوا مِن دُونِ اللَّهِ وَلا رَسُولِهِ وَلا الْـمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ} [التوبة: ٦١].
رابعاً: من البدهي أن يكون للانتصار ثمن، وإذا أُريد لشجرة المبادئ والقيم أن تورق وتثمر فَلْتُسْقَ بالدماء، كما قال سيد - رحمه الله -: «إن كلماتنا وأقوالنا تظل جثثاً هامدة. حتى إذا متنا في سبيلها، وغذَّيناها من دمائنا؛ انتفضت حية، وعاشت بين الأحياء». وأجلُّ من ذلك قول الله - تعالى -: {ذَلِكَ وَلَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ} [محمد: ٤]. ولن تموت نفس قبل أن تستكمل أجلها. وانظر إلى عدد من يموتون في بلادنا بحوادث المرور كيف ذهبوا وفيمَ ذهبوا! {وَالَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَن يُضِلَّ أَعْمَالَهُمْ * سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ * وَيُدْخِلُهُمُ الْـجَنَّةَ عَرَّفَهَا لَهُمْ} [محمد: ٤ - ٦]، فهل غبن من نال هذا مهما كان الثمن؟
خامساً: ليس الذليل من يذوق الردى عزيزاً، بل الذليل من توعَّده رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بقوله: «إذا تبايعتم بالعِينة، وأخذتم أذناب البقر، ورضيتم بالزرع، وتركتم الجهاد؛ سلَّط الله عليكم ذلاً، لا ينزعه حتى تراجعوا دينكم»[1]. أما من صدق مع الله فنال الشهادة فقد ربح البيع، وفاز وربِّ الكعبة.
سادساً: الفوز الحقيقي هو فوز المبادئ وظهور القيم، لا انتصار الأشخاص، واقرؤوا إن شئتم سورة البروج حيث أخبر الله - جل وعلا - عن تحريق الرجال والنساء والأطفال وقتلهم، حتى أبيد القوم عن بكرة أبيهم، فلم يبق منهم أحد، ومع ذلك لم يرد في القرآن الكريم وصف فوز بأنه كبير إلاّ عقيب ذكر خبرهم {ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ} [البروج: ١١].
إن أهل النظر الشرعي يعلمون أن انتصار المبادئ هو الفوز الحقيقي، ولا يشك هؤلاء في أن الانتصار العسكري ضرب من أضرب الانتصار، وكما أن غلبة الحجة والبيان نوع آخر فإن الفوز الحقيقي الكبير هو في الثبات على الدين إلى يوم لقاء رب العالمين.
سابعاً: على المرجفين في الداخل أو الخارج الذين ما فتئوا يتحدثون عن أخطاء حماس، وأخطاء المجاهدين الذين يذبُّون عن ديارهم ومقدساتهم أيدي المعتدين؛ أن يكفُّوا شرهم، فتلك صدقة منهم على أنفسهم، وليحذروا أن يكونوا ممن يبسطون ألسنتهم بالسوء إلى المسلمين،
وخير لهم أن يتركوا لغة القوم القائلين: {لا طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ} فـ {كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} [البقرة: ٩٤٢].
ويقال أيضاً لمن أراد أن يقف موقف الحياد من الإعلاميين وغيرهم: اتقوا الله {وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ} [التوبة: ٩٩١]، كونـوا حنفاء مائلــين إلــى الحــق كما كــان إبــراهيــم - عليه السلام - حنيفاً مائلاً عن الشرك إلى التوحيد، فالمائل إلى الحق محمود، والميل إليه واجب، والمذبذب المتحيد بين ذلك لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء مذموم.
وبعدُ: فوسط هذا الركام من الأحزان والآلام والجــراح لا ينبغي أن نغفل البشائر والآمال، وهي - بحمد الله - كثيرة تدل على أن العاقبة للتقوى؛ فالنصر آتٍ لا محالة كما ثبتت بذلك الآثار النبوية المصدقة للوعود القرآنية. ومن بوادر فشل اليهود وقرب النصر ما نراه في هذه الأمة، وما نسمعه من نشيج شبابها وشيوخها ونسائها جراء ما أصاب إخوتهم، وهذا يدل على أن الأمة أمة حية توشك أن تجد من يستثمر طاقاتها، ويوجه مشاعرها وقواها؛ فكيف لا نرقب النصر وفي الأمة الجموع الغفيرة الحية المنفعلة بقضايا المسلمين؟ بل كيف لا نرقب النصر وفي أكناف بيت المقدس ثلة على الحق ظاهرون منصورون، وقد سقطت الشعارات والرايات غير راياتهم، وتوشك الصفوف أن تتمحص بمثل هذا البلاء؟ كيف لا نستبشر وقد بدأت مبادئ أهل الكفر تسقط بعد أن اغترَّ بها طوائف من المسلمين؛ فالحرية والديمقراطية التي طالما دعا إليها الغرب ها هم اليوم يحاولون إقصاءها؟
ولئن كانت بشائر النصر تترى مصدقة الوعود الشرعية؛ فإن علينا أن نتفاعل معها ببذل المزيد من الأسباب الشرعية والكونية؛ كالاستقامة على منهج الله، وتجنب أسباب سخطه.
هنيئاً لكم - أيها المسلمون - في أرض العزة غزة ثبات قادتكم، فاثبتوا كما ثبتوا وأمِّلوا في الفوز وارتقبوا {وَإن تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئًا إنَّ اللَّهَ بِمَا يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ} [آل عمران: ٠٢١]. خذوا بالأسباب المعنوية والمادية واتحدوا مع إخوتكم، ولا تنازعوا؛ فالقضية قضية إسلامية، وحذارِ من أن تتحول إلى قضية حزب أو حركة، بل القضية قضية أمة مسلمة. ومما يحمد للمجاهدين في فلسطين تماسكهم، وصبرهم على استفزازات المنافقين والمرجفين، وقد كفاهم ذلك شر جبهة داخلية {فَاصْبِرْ إنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَلا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ} [الروم: ٠٦].
أسأل الله - جل وعلا - أن يرفع عن إخواننا في غــزة ما بهم، وأن يحقن دماءهم، وأن ينزل رجزه وعذابه على اليهود الظالمين، وأن ينجي إخواننا المستضعفين، والحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.