الجزء الأول الإخوان المسلمين أحداث صنعت التاريخ .
- للأستاذ / محمود عبد الحليم
مقدمة الجزء الأول الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ
الحمد لله رب العالمين ، وصلاة الله وسلامه علي رسوله الكريم ؛ محمد الذي أرسله إلي الناس كافة منقذًا ومصلحًا ومبشرًا ونذيرًا ، وأنزل عليه الكتاب الذي وصفه فقال :
" ونزلنا عليك الكتاب تبيانًا لكل شيء وهدي ورحمة وبشري للمسلمين " ، " وأن أحكم بينهم بما أنزل الله ، ولا تتبع أهواءهم ، واحذرهم أن يفتنوك عن بعض ما أنزل الله إليك ، فإن تولوا فاعلم أنما يريد الله أن يصيبهم ببعض ذنوبهم ، وإن كثيرًا من الناس لفاسقون ، أفحكم الجاهلية يبغون ؟ ومن أحسن من الله حكمًَا لقوم يوقنون ؟ " .
- وبـعـد :
فإن دعوة الإخوان المسلمين هي صدي الدعوة الأولي وليست بالدعوة المستحدثة ، فهي طور من أطوار الدعوة الإسلامية ظهرت في هذا القرن بظهور حسن البنا سنة 1928 .. وتتأهب في أيامنا هذه لطور جديد . والذي بين دفتي هذا الكتاب ليس تاريخًا لهذه الدعوة ،وإنما هي جوانب منها عاصرتها وشاركت في أحداثها وكنت جزءًا منها .. ولا أدعي أن هذه الجوانب هي كل جوانبها . ولا يستطيع أحد أن يدعي لنفسه مثل ذلك ، في دعوة بلغت من اتساع الرقعة حدًا يقصر عن الإحاطة بمداه نظر ناظر واحد – مهما قوي بصره – وتشعبت تشعبًا متابعته في كل اتجاه أمرًا مستحيلاً ، فحسب كل نظر أن يصف ما وقع في مجال نظره ، وحسب كل ذي موقع فيها أن يتحدث عما مكنه موقعه من الإحاطة به .. وبعد أن يصف الجميع ما رأوا ، وبعد أن يتحدث جميع ذوي المواقع فيها عما أحاطوا ، يأتي دور المؤرخين الذين يجمعون كل ما رأي الراءون وتحدث المتحدثون ليخرجوا من مجموعه بتاريخ لهذا الطور من أطوار هذه الدعوة .
والذي يتمرس هذا الطور من الدعوة الإسلامية سيجد نفسه أمام سلسلة متداخلة الحلقات من الأحداث ، وأقصد بالتداخل أنها ليست أحداثًا مترادفة يتلو بعضها بعضًا ، فكلما انتهي حدث بدا آخر ، بل إن أكثر من حدث قد يقع في وقت واحد ، ذلك بأن هذه الدعوة تعمل في أكثر من جبهة .. ومن هنا رأيت أن أقرر للقارئ – بادئ ذي بدء – حقيقة يجب أن أقررها هي أنني حين أكتب هذه الصفحات لن أكون مؤرخًا يجمع شتات الأحداث ، ويجري وراءها حيث كانت حتى لا يفلت منه شيء ، وإنما أنا أكتب عن أحداث وقعت بين يدي وشاركت فيها .. وقد أكون خالفت هذه القاعدة في نقطتين اثنتين : أولاهما ما كتبته عن أيام الدعوة في الإسماعيلية ، وقد راعيت فيه الاختصار التام ، وقد سمعته من الأستاذ الإمام نفسه ، والأخرى بطولات الإخوان في حرب فلسطين سنة 1948 ، وقد أثبت في بابها أني نقلت أكثر ما كتبته عنها من كتاب الأخ الكريم الأستاذ كامل الشريف الذي كان من كبار قادتها .
وتحليل الأحداث ، وإبداء الرأي في القضايا ، أمر لا مفر منه لإنسان عاصر هذه الأحداث وباشر هذه القضايا ، ولكن ليس من حقي أن أقرر أن تحليلي هو التحليل الأوحد ، وأن رأيي هو الرأي الأصوب ، فلكل إنسان أسلوب في التحليل ، ورأي فيما يعالج من قضايا .. وحسبي أنني بسطت المواضيع ، وألقيت الأضواء علي الظروف والملابسات ، وكشفت القناع عن كثير مما غشيه الغموض .. وهذه المعلومات الكافية لتغذية القوة الحاسبة في العقل البشري لتخرج لك الحكم الصحيح والرأي السديد . وليس المقصود من تسطير ما سطرت ، ومن سرد ما أوردت ، ومن الإشارة فيما أوجزت ومن الإفاضة فيما أسهبت .. هو إمتاع القارئ بقصة طولها خمسون عامًا ، يملأ بها فراغ وقته ، ويزيد معلوماتها مخزون علمه ، وإنما المقصود من ذلك أن أبرز له صور محددة المعالم للفكرة الإسلامية ، وأوضح له كيف حمل الفرد المسلم أعباء هذه الفكرة ، وكيف أخذ بها نفسه ، وكيف خاطب بها مجتمعه ، وأبين له كيف تلقت المجتمعات هذه الفكرة : فمجتمع الأكثرية المغلوبة علي أمرها من الفقراء والضعفاء ، تلقوها بترحاب ، ومجتمع الأغنياء والمترفين والحكام تلقوها برفض وصلف ، ومجتمع ذوي المصالح من المستغلين والمستعمرين تلقوها ومكر وتآمر – وأجل له الأسلوب الذي واجه به حامل هذه الفكرة هذه المجتمعات ، والصراعات التي نشأت خلال هذه المواجهات ، وكيف اشتدت ، وكيف احتدمت ، وكيف تفاقمت ، وإلي أية نهاية انتهت .
وقراء هذه المذكرات من أبنائها من هذا الجيل الجديد ، سيجدون أنفسهم حين يقرأونها أمام أحداث وشخصيات لا عهد له بأكثرها .. فهل يصرفهم ذلك عن قراءتها أم يكون ذلك حافزًا لهم علي الإقبال عليها واستيعابها ؟ .. فإذا صرفهم ذلك عن قراءتها فسيكون ذلك دليلا علي أن المؤامرة العالمية ضد الدعوة الإسلامية قد تم لها النجاح ، واكتملت لها أسباب الفوز ، فإن الحلقة الأخيرة في سلسة هذه المؤامرة هي إسدال ستار كثيف علي هذه الأحداث وعلي هذه الشخصيات ، ومحاولة محوها من صفحة التاريخ ، وإذا لم يكن بد من إبراز بعضها فليكن إبرازه في صورة مقلوبة أو مشوهة علي الأقل .. ذلك أن مدبري المؤامرة العالمية حريصون كل الحرص علي أن لا يعرف هذا الجيل والأجيال التي تليه أن هذه الأحداث هي التي صنعت التاريخ الذي يعيشونه .
ومن نافلة القول أن نقول : إن شعبًا يجهل حقيقة ماضيه محال أن يتطلع إلي مستقبل مشرق . والمعلومات التاريخية لا تؤخذ عن الطريق الرسمي ، لأن حرص الحكام علي استبقاء أزمة السلطة في أيديهم وفي أيدي شعبيتهم من بعدهم ، يدفعهم عادة إلي صياغة للتاريخ بالأسلوب الذي يحقق أمانيهم ويظهرهم في أعلي قمم العدالة ، ويظهر منا في أدني درك من الخسة والنذالة .. وهم لا يقتصرون في الصياغة علي تزوير الأحداث التي تجري في أيامهم فحسب ، بل تمتد أيديهم إلي الأحداث التي سبقتهم فيعلمون فيها المسخ والتزوير . ولو ادارك علمهم في أحداث المستقبل لزوروها لحسابهم .. ولكنهم مع قصور علمهم بأحداث المستقبل يتقون في أنهم سيطرون عليها بما زوروا من أحداث أيامهم وأحداث سابقيهم ؛ فعقول الجيل التي صيغت بالمعلومات المزورة ، وتشتت عليها وملئت بها أن تبني مستقبلها إلا علي ضوء ما ملئت به من زيف وتزوير ..
ومن هنا كان الخطر الداهم والكارثة المروعة .. ومكمن الخطر والترويع في ذلك أن هذا الجيل حين يتجه بمستقبل بلاده إلي الهاوية – إكمالاً للخط الذي رسم له في ماضيه وحاضره – يتجه واهمًا أنه متجه إلي الأمن والسلامة ؛ فهو لا يلتفت إلي محذر ، ولا يستمع إلي ناصح .. وأمثال هؤلاء أنبأنا القرآن عنهم وحذر انحدارهم إلي الهاوية وهم غافلون فقال وقل هل أنبئكم بالأخسرين أعمالا ؟ الذين ضل سعيهم في الحياة الدنيا وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعا " . وإذا كان الله عز وجل قد تكفل لكلمة الحق أن لا تطفأ شعلتها وأن لا يخبو ضوءها ، فهذا شأنه سبحانه وهذه مشيته .. أما أن يكشف معصوبو العيون العصائب عن أعينهم ليروا هذه الكلمة فهذا شأن آخر تركه سبحانه لعباده إن شاءوا رفعوها فرأوا ، وإن شاءوا أبقوا عليها وتشبثوا بها فظنوا في ضلالهم سادرين " فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر " وقد رتب علي هذا التخيير الثواب والعقاب وحدد يومًا للحساب " إنا أعتدنا الظالمين نارًا أحاط بهم سرادقها " كما تحيط العصابة – التي يتشبثون بها – بأعينهم لتحاصرهم عن رؤية الحق وهم بذلك راضون وعن الحق ناكبون .
ومما ينبغي أن يعلمه القارئ أن هذه الدعوة .. علي مكانتها بين دعوات العالم ، ومع صراعها مع الظلم والطغيان في الداخل والخارج طيلة خمسين عامًا – فإنها لم تعن بجانب التسجيل عناية كافية والله لا يحس بخلوها من هذه الناحية الهامة إلا من عرض نفسه – لتسجيل أحداثها .. وقد يعزي ذلك إلي أن هذه الدعوة قد تملكت من أول يوم أفئدة من آمنوا بها وعاهدوا علي العمل لها ، بحيث لم تدع لأحد منهم فرصة يخلو فيها إلي نفسه ، أو يخلد فيها إلي راحته ، فهو دائب الحركة ، يواصل الليل بالنهار ، متنقلاً بين المجتمعات ، غارقًا في محادثات ومناقشات ، عاكفًا علي إعداد خطط ومناهج .. حتى إذا أوي إلي فراشه منهكًا لا تكتحل عيناه بنوم حتى تجتر مخيلته ما عاني طول يومه من حقوق الدعوة عليه .. ويصحو من نومه حين يصحو علي ما أوي إلي فراشه عليه من التفكير في الدعوة وحقوق اليوم الجديد ، فهو في سباق مع الزمن ، لا يفرغ لحظة من ليل أو نهار .. فأني لهؤلاء أن يسجلوا ؟! .
ثم كانت أحداث جسام ، وظلمات طال ليلها ، وقهر وكبت وتعذيب وإعنات .. طال الأمد علي الكلمة المسجونة في أغوار الذاكرة من عشرين عامًا ، حتى بات استخراجها منها أمرًا عسيرا ، واختلطت الكلمات في سجنها بعضها ببعض بفعل الزمن حتى لا يعد صاحب الذاكرة يعرف أيها السابق وأيها اللاحق ، وتداخلت التواريخ ، وأصبح صاحب الذاكرة علي خطر عظيم . هذه حقائق مرة واجهتها في أول يوم أمسكت فيه بالقلم لأسجل أحداثا لهذه الدعوة عاصرتها وشهدتها وساهمت في الكثير منها .. وجدت مخزون ذاكرتي علي ما صورت ، وحاولت الرجوع في شأن هذه الأحداث إلي مرجع فوجدت الساحة خاوية الوفاض .. أغفل الإخوان في غمرة لذاتهم في دعوتهم أن يولوا ناحية التسجيل أدني اهتمام .. ثم أتت يد الإثم والعدوان من عربدة الحكام علي الوثائق والمحررات والصحف في كل مكان خاص وعام ، فلم يبق شيء يرجع إليه أو يعتمد عليه .. حتى المكتبات العامة جردوها من كل ما يمت إلي هذه الدعوة بصلة .
وبالرغم من طول الأمد ، وترادف الأرزاء ، وانقطاع الصلات ، فإن الأحداث التي عاصرتها لم تند عن خاطري لأنها كانت فلذة من كبدي ، وقطعة من ذات نفسي ، وجزءًا من أعصابي ودمي ؛ فكيف أنساها ؟ .. ولكن الذي أعياني هو الترتيب الزمني لبعض هذه الأحداث وهو أمر جوهري لا غني عنه لمن أراد يسجل أحداثاً . ولم أجد أمامي إلا مراجعة الصحف اليومية التي صدرت في خلال أربعين عامًا مضت .. وقد عكفت علي مراجعة هذه الصحف ردحًا طويلاً من الزمن ، فوجدت فيها طلبتي في الترتيب الزمني لما في خاطري من أحداث .. ولقد أفدت من مراجعتي هذه الصحف فائدين ، أولاهما ترتيب الأحداث كما قدمت ، والأخرى نصوص بعض المذكرات والخطابات .. ومما يدل علي أن جانب التسجيل لم ينل حظه في دعوة الإخوان المسلمين ظهور كتاب في هذه الأيام يضم مذكرات الدعوة والداعية ، للأستاذ الإمام حسن البنا رحمه الله ، فقد جاءت هذه المذكرات برهانًا قاطعًا علي إغفال هذه الناحية الهامة ، فلم يسجل في هذه المذكرات عشر معشار ما مر بصاحبها من أحداث ، ولم يكن – رضي الله عنه – عاجزا من تسجيلها وتحليلها ولكن هكذا شاءت الأقدار .
وهذا الفراغ في ميدان التسجيل الذي رأيت دعوة الإسلام في هذا القرن تعانيه هو الذي دفعني إلي النهوض بهذا الواجب ملأ لجزء من هذا الفراغ ، وأداء لحق هذه الدعوة علي . وإعذارًا إلي الله في حق هذا الجيل والأجيال القادمة . ولقد تعرضت في هذه المذكرات لمعالجة نقاط ذات حساسية بالغة ، ربما تحاشي الكثيرون التعرض لها ، وحاولوا تفاديها . ولكنني آثرت التعرض لها مدفوعاً إلي ذلك بدوافع منها :
أن هذه النقاط – مهما بلغت درجة حساسيتها – هي جزء من تاريخ هذه الدعوة ، وكان لها آثار عميقة في هذا التاريخ ، وما كان ينبغي لعارض أحداث تاريخ أن يغفل جزءًا منه استحياء من ذكره أو طمسًا لمعالمه ، أو إهانة للتراب عليه حتى لا يراه الناس .. والتاريخ كما يقولون – لا يرحم . فإذا تعافي عنه أصحابه وأغفلوا فسيتولى نشره غيرهم .. وحينئذ لا يلام الناشرون إذا هم نشروه مشوهاً أو محرفاً .
ومن هذه الدوافع أنني كنت أكثر الناس ملابسة لهذه النقاط ، وأشدهم اتصالا بها ، وأقربهم رؤية لحقائقها ، فكان لزامًا علي أن أتعرض لها لأكشف النقاب عن كثير مما غاب عن الرائين ، وأن أميط اللئام عما خفي من ظروفها وبواعثها ، وأن أقضي حق للتاريخ في تمحيصها وتجليتها . ودافع ثالث هو أن ألفت النظر – نظر أصحاب الدعوات وأتباعها من الأجيال القائمة والأجيال القادمة – إلي أن إطلاق العنان للعواطف – مهما نبلت من العواطف ومهما حسن مقصدها – قد يجني علي الدعوات ومجتمعاتها . وأن السبيل الأقوم دائما فيما يتصل بالمجتمعات هو الاقتصاد في العواطف والسيطرة عليها والحد من انطلاقها . كما ألفت نظر القائمين علي شئون الدعوات الشريفة إلي أن تعلق نفوسهم بأبهة المناصب فيها ، ومحاولة الاستئثار بمواقع السلطة والنفوذ بها ، وقد يكون عاملا مدمرًا لهم ولها .. وأن هذه الدعوات لا يصلح لها إلا من يهبها قلبه كله ووجدانه كله .. أما الذين يتذبذبون بين نداء دعوتهم ونداء مصالحهم الشخصية أو العائلية ، فسرعان ما تشدهم الجاذبية الأرضية بمغرياتها فيهوون إلي القرار " واتل عليهم نبأ الذي أتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين . ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلي الأرض واتبع هواءه .
ولما كانت الدعوة الإسلامية دعوة عالمية ، لم تأت لتخاطب طائفة معينة ، ولا لتعامل فئة محدودة ، ولا لنعالج قضايا زمن خاص أو مكان محدد ، فقد كان عليها أن يكون كتابها منشور لا يخفي صغيرة ولا كبيرة دون أن يبرزها بين يدي العالم كله .. فلا حجب ولا أسرار ، ولا خصوصيات يحتفظ بها وراء أستار .. ولقد تعرض القرآن الكريم نفسه لأحداث هي من أخص خصوصيات محمد صلي الله عليه وسلم وأسرته ، قد يتحاشى الكثيرون إذا وقع لهم مثلها أن يسمحوا بذكرها بل يحاولون إخفاءها حتى لا يطلع عليها الناس .. ولكن القرآن تناولها في آياته التي تتلي ليل نهار ، بل تناولها بالبسط والإسهاب وبالتحليل والتفصيل والتعقيب ، وخرج منها بقواعد عامة تنتفع بها المجتمعات .. وما نبأ حادثة الإفك ببعيد . وقد يكون من حق القارئ أن أعتذر إليه فيما قد يلاحظه في الصفحات الأولي من هذه المذكرات من أسلوب هو أقرب إلي الهدوء منه إلي الإثارة ... ذلك أنني .. كما قدمت – لست أتخير موضوعات لمجرد الإمتاع ، وإنما أنا ملتزم بالتمشي مع هذه الدعوة في أطوارها . فإذا كانت الدعوة في مهدها لا تزال تخطو حابية وئيدة – كدأب كل كائن وليد – فما كان لي أن أنتحل لهذا الوليد ما ليس من طبيعته وما هو فوق طاقته . وعلي القارئ أن يوطن نفسه علي أن الذي بين يديه في هذه المذكرات تاريخ حياة لا قصة من نسج الخيال ، ولكل طور من أطوار الحياة وخصائص ، فلا يتعجل ما ينشد من أحداث مثيرة ، فإن الوليد الذي تضرب فوقه الكلل ، وتسدل من حوله الستائر ، لن يلبث حين يشب أن ينبثق عنه فارس مغوار يأتي بالعجب العجاب ، ويأخذ بالقلوب والألباب .
وهناك قضية جديرة أن يضعها القارئ موضع التمحيص والمناقشة ؛هي أن يجنح كاتب المذكرات في ثنايا تسجيله لأحداث الدعوة ، ومواقعها إلي تناول بعض جوانب حياته ومعالم شخصيته .. فهل في هذا ما يمد خروجا عن الموضوع ، وانتقالاً بالقارئ من ميدان هيأ نفسه وفكره لاستطلاعه إلي ميدان آخر لا يعنيه أمره ؟ . أما أنا فأعتقد أن هذا الأسلوب هو الأسلوب الأمثل في كتابة المذكرات بل وفي تأليف الكتب عامة ، فإن القارئ حين يقرأ كتابا لا يعرف عن مؤلفه إلا اسمه ، يكون كالغريب الذي يرتاد مدينة واسعة الأرجاء ، مترامية الأطراف ، لا عهد له بها ، دون دليل معه من أهلها ، فقد يضرب في شوارعها وحاراتها وأزقتها علي غير هدي ، وقد يري من معالمها ما تقع عليه عيناه ، وقد يأوي في النهاية إلي مأوى فيها .. ولكنه في ذلك كله لا يشعر بألفة ولا بائتناس ، ولا يخرج بصورة واضحة عنها – أو يكون الذي يتخذ طريقه في الظلام بغير مصباح يكشف له معالمه ، ويدخل الاطمئنان إلي نفسه ، فهو يخطو ما يخطو متوجسًا خائفاً .
فتقديم المؤلف نفسه إلي قارئه ، وكشفه له عن بعض جوانب نفسه ، وإلقاء الضوء بين يديه عن شيء من معالم حياته .. يدخل الأنس إلي نفس القارئ ، ويبعث روح الألفة بينه وبينه ، فيسير في قراءة الكتاب وقد عقد مع المؤلف صداقة أتاحت لهما أن يكونا متلازمين في رحلة طولها طول الكتاب .. وكلما قرأ عن مؤلف أو حدث أو فكرة قرأها وهو يري جذورها التي تنبت منها وبذورها التي انفلقت عنها ، فلا تكون القراءة في هذه الحالة قراءة سطحية لا يصل أثرها إلي أعماق النفس . ثم إن حياة الدعوات ليست إلا حياة رجالها ودعاتها . والفصل بين حياتهم وحياتها أمر غير مستطاع لاسيما إذا كانت الدعوة قد شكلت حياتهم ، وسيطرت علي كل تصرفاتهم حتى فنوا فيها فصاروا وإياها كما قال الشاعر :
ومازلت إياها وإياي لم تزل
- ولا فرق بل ذاتـي لذاتـي أحبت
وموتي بها وجدًا حياة هنيئة
- وإن لم أمت في الحب عشت بغصة
وتقع هذه المذكرات بطبيعة موضوعها في ثلاثة أجزاء .. يعالج الجزء الأول منها الدعوة في عهد المرشد الأول ، ويعالج الجزء الثاني منها الدعوة في عهد المرشد الثاني ، ويعالج الجزء الثالث الدعوة فيما بين العهدين . ولما شرعت في تبويب الجزء الأول لاحظت أن أطوار الدعوة فيه مرتبطة بالأمكنة التي شغلها العام فجاءت بذلك أربعة أبواب . وقد وطأت المذكرات بمدخل قدمت فيه نفسي إلي القارئ ، وأومأت إلي تأثير نشأتي في اتجاهي الذي انتهي بي إلي دعوة الإخوان المسلمين ، والطريق الذي سلكته إليها . علي أنني وقد طرقت باب التسجيل في دعوة الإخوان المسلمين ، لا أدعي أنني ألمعت بكل شيء وحتى القليل الذي ألممت به لا أدعي أنني أوفيت فيه علي الغاية .. ولكنه جهد المقل .. وحسبي أن تحسست الطريق وارتدته لمن يرغب في سلوكه من بعدي . والله تعالي أسأل أن يجعل هذا المجهود لوجهه ، وأن يتقبله فيما يتقبل من العمل الصالح ، وأن يرفعه وينفع به ، إنه أكرم مسئول وأعظم مأمول ، وإنه نعم المولي ونعم النصير .
المدخـل
إلي متى تمضي بنا الأيام والسنون وعامل التسويف هو العامل المتصرف في حياتنا وأعمالنا ؛ فنفكر ثم نعزم ثم يقول عامل ما فنؤجل ، وتمضي الأيام سراعًا – وليتها تمضي مليئة بالعمل – ثم نتذكر فنفكر ، ونعزم ثم يكون التأجيل ... وما هو العمر حتى يتسع لعشرات من هذه الدورات التي لا تكاد تنتهي حتى تبدأ ؟! ..
وقد لا يكون موضوع التفكير والعزم مثيرًا وهامًا لأن أصحابه لم ينتهوا إلي النهاية المثيرة التي تستحق الإعجاب وتثير الاشتياق ؛ إلا أن الحكم بمجرد النهاية قد لا يكون حكمًا قاصرًا وظالمًا ، فقد يكون استعراض سلسلة الأحداث مما يغير رأي الذين لا ينظرون إلا إلي النهايات وحدها .... ثم إن اعتبار الهزيمة نهاية أمر فيه نظر ، فانهزام الأشخاص في حياة الدعوات واختفاؤها تحت التراب زمنًا حتى تطأها أقدام الغافلين طورًا من أطوار حياتها لا تستقيم حياتها إلا به .... وهذه ظاهرة فيما أعتقد وأعلم تلازم كل الدعوات علي اختلاف أهدافها وأفكارها .. وقد اعتبرها الإسلام سنة لم يستثن نفسه منها ؛ فتاريخ الدعوة الإسلامية منذ بزغ نوره تنتابه هذه السنة ... فمصباحه بين التبلج والخفوت حتى يظن أنه انطفأ .
والدوافع التي وراء المؤامرات التي تدبر للدعوة الإسلامية تنحصر عادة وتنبع دائمًا من حسب السيطرة الذي يستولي علي نفوس بعض الحكام سواء أكانوا من المنتسبين إلي الإسلام بحكم مولدهم أم كانوا من غير المسلمين ، يجد هؤلاء في الدعوة الإسلامية العقبة الكبرى أمام تحقيق مطامعهم في السيطرة لأن الإسلام بطبيعته ما جاء إلا لتحرير الإنسان والقضاء علي الاستبداد والاستعباد لغير الله . ولتوضيح ذلك يجمل بنا ونحن في مستهل الحديث عن طور من أطوار الدعوة الإسلامية أن نحاول تصوير هذه الدعوة تصويرًا مجملا ، مبرزين الخطوط العريضة المسكونة لهيكلها فنجدها ثلاثة هي :
- أولا : العقيدة
- ثانيا : العبادة
- ثالثا : المعاملة .
أولا : العقيدة
هي حجر الأساس وهي الركيزة العظمي التي لا قيام للدعوة الإسلامية إلا عليها ، كما لا قيام لأية دعوة إلا عليها ... ولكل دعوة سواء أكانت دينًا سماويا أو وضعيا عقيدة ، وعلي قدر سلامة العقيدة ينجح العمل المبني عليها .. ونقصد بسلامة العقيدة موافقتها للفطرة للعقل والمنطق ، ومجافاتها للأوهام والتعقيد ، وتجاوبها مع الفطرة السليمة . وعقيدة الإسلام لله وحده ، هي ما نزل وما دعا إليه كل نبي ورسول سبق نبينا ، فهي نفس عقيدة المسيح عيسي وعقيدة موسي وعقيدة إبراهيم " قل آمنا بالله وما أنزل علينا وما أنزل علي إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب والأسباط وما أوتي موسي وعيسي والنبيون من ربهم لا نفرق بين أحد منهم ونحن له مسلمون " لا أن أطماع الدنيا وتسلطها علي نفوس من آلمت إليهم أمور الإفتاء في شئون الدين بعد الأنبياء فعلت فعلها فجعلت من هؤلاء الورثة أداة طيعة في أيدي المستبدين من الحكام فحرفوا في كتبهم وأخفوا منها وزادوا عليها حتى يستقر الأمر لهؤلاء الطغاة من الحكام " وقطعناهم في الأرض أممًا منهم الصالحون ومنهم دون ذلك وبلوناهم بالحسنات والسيئات لعلهم يرجعون . فخلف من بعدهم خلف ورثوا الكتاب يأخذون عرض هذا الأدنى ويقولون سيغفر لنا وإن يأتهم عرض مثله يأخذوه ، ألم يؤخذ عليهم ميثاق الكتاب أن لا يقولوا علي الله إلا الحق ودرسوا ما فيه والدار الآخرة خير للذين يتقون أفلا تعقلون " .
وكيف يستطيع حاكم مستبد أن يحكم قومًا وفي أعماق كل رجل منهم وامرأة وطفل مناد يهتف بهم في كل وقت من ليل أو نهار أن لا خضوع إلا الله وأن لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق وأن لا خوف إلا من الله وأن لا فضل إلا من عند الله " قل أغير الله أبغي ربًا وهو كل شيء " ، " وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو علي كل شيء قدير " ، " قل أغير الله أتخذ وليًا فاطر السموات والأرض وهو يُطعم ولا يطعَم " ، " أليس الله بكاف عبده ويخوفك بالذين من دونه " ، " الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانًا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل ، فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم " . " إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين " .
والعدالة بين الطغاة من الحكام وبين العقيدة الإسلامية مستحكم من قديم ، فهذا الحاكم المستبد الذي أحسن خطورة هذه العقيدة علي استبداده فاستدعي " إبراهيم " عليه السلام وهو في غرور سلطته وأدار معه حوارًا علي النحو الذي ورد في الآية الكريمة " ألم تر إلي الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك ، إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين " وينهزم الحاكم المستبد حين يدخل مع العقيدة الإسلامية في الحوار فيطيش صوابه ولا يجد في حصته إلا البطش والإرهاب فيأمر بإحراق صاحب هذه العقيدة لعلها تحترق باحتراقه وتبيد ويستريح منها ولا يجد أمام استبداده عائقًا يقف في وجهه " وإبراهيم إذ قال لقومه أعبدوا الله واتقوه ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون . إنما تعبدون من دون الله أوثانًا وتختلفون إفكًا ، إن الذين تعبدون من دون الله لا يملكون لكم رزقاً فابتغوا عند الله الرزق واعبدوه واشكروا له إليه ترجعون " ، " فما كان جواب قومه إلا أن قالوا اقتلوه أو احرقوه فأنجاه الله من النار إن في ذلك لآيات لقوم يؤمنون . وقال إنما اتخذتم من دون الله أوثانًا مودة بينكم في الحياة الدنيا ثم يوم القيامة يكفر بعضكم ببعض ويلعن بعضكم بعضًا ومأواكم النار ومالكم من ناصرين " .
والقارئ حين يقرأ قصة موسي وفرعون ويري القرآن يقلبها بين صفحاته وفي ثنايا سوره علي كل وجه من وجوهها ليبرز من معاني الظلم والاستبداد ومن ألوان الزهو والكبر والغرور من فرعون وحاشيته ومن أفانين الاضطهاد والتعذيب وأصناف التنكيل والإبادة الموجهة إلي العقيدة الإسلامية التي كان يحملها في ذلك الوقت قلة من بني إسرائيل ... هذا القارئ سيبين له لماذا يكن الملوك المستبدون والحكام الطغاة الكراهية لهذا الكتاب ولماذا يحيكون ضده المؤامرات فهو يؤجج ثورة عارمة ضد كل مستبد ظالم " طسم . تلك آيات الكتاب المبين . نتلو عليك من نبأ موسي وفرعون بالحق لقوم يؤمنون . إن فرعون علا في الأرض وجعل أهلها شيعًا يستضعف طائفة منهم يذبح أبنائهم ويستحيي نسائهم إنه كان من المفسدين . ونريد أن نمن علي الذين استضعفوا في الأرض ونجعلهم الوارثين . ونمكن لهم في الأرض ونري فرعون وهامان وجنودهما منهم ما كانوا يحذرون " .
ورسالة موسي رسالة واضحة صريحة ، لا تخرج عن كونها دعوة لإنقاذ شعب اضطهده حاكم مستبد لا لشيء لأنه مستمسك بعقيدته التي تتعارض وطغيان هذا الحاكم " فأتيا فرعون فقولا إنا رسول رب العالمين . أن أرسل معنا بني إسرائيل " . ويحس فرعون من موسي قوة وصلابة فيحاول استمالته فيقول له " ألم نربك فينا وليداً ولبثت فينا من عمرك سنين وفعلت فعلتك التي فعلت وأنت من الكافرين " ... وقد يلين الرجل إذا ذكر بهذا الفضل الذي لا يجحد في كل موقف إلا في موقف واحد هو موقف يتعلق بالعقيدة التي لا مساومة عليها فيرد عليه موسي فيقول " فعلتها إذن وأنا من الضالين . ففررت منكم لما خفتكم فوهب لي ربي حكمًا وجعلني من المرسلين ثم يقرر موسي مبدأ خطيرًا بأن استعباد الناس جريمة يذهب مع فظاعتها كل فضل أتاه المستبد فيقول " وتلك نعمة تمنها علي أن عبدت بني إسرائيل ".
ولسنا بصدد السير مع قصة موسي وفرعون بكل الوجوه التي قلبها القرآن ، فإن ذلك مجال جد فسيح ن وإنما قصدنا إلي إيراد وجه من هذه الوجوه لندرك منه مدي خطورة هذه العقيدة علي طموح المستبدين وآمال الطغاة الظالمين ، وكيف أن هذا الكتاب بما جاء به من عقيدة هو تحد دائم لا ينشي وسيف مصلت لا ينثلم وحده في وجه الطغيان والاستبداد .
ثانيا : العبادة
لاشك في أن العبادة وليدة العقيدة ، وكل عبادة ليست وليدة عقيدة إنما هي نوع من النفاق لأن العبادة هي اقوي أنواع مظاهر الاعتراف بالفضل ، ومظاهر الاعتراف بالفضل كثيرة متنوعة ، ولكن قمة هذه الأنواع الاعتراف بالعبودية لصاحب الفضل . ويحث الإسلام الناس على الاعتراف بالفضل للمخلوقين بجميع مظاهر الاعتراف إلا بمظهر العبودية الذي حرمه على الناس ألا لله وحده وجعل الاعتراف بمظهر العبودية لغير الله شركا لا يغفره الله (( إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر من دون ذلك لمن يشاء ومن يشرك بالله فقد أفترى إثما عظيما )) (النساء 48) .
والمقصود من العبادة أولا أن يرى الله تعالى من عباده مدى امتثالهم لأمره . والامتثال هو نوع من الطاعة إلا أنه أعلى درجاتها ؛ فإذا كانت الطاعة هي تنفيذ الأمر فيما يسيغه العقل ويسلم به المنطق فإن الامتثال هو الصدوع بالأمر لمجرد أنه أمر ، وكل مبرراته الثقة الكاملة في الذي أصدره . فإذا أمرنا الله تعالى بخمس صلوات في اليوم والليلة في مواقيت محددة وكل منها ركعات محددة فإذا هذا التوقيت وهذا التحديد إذا عرضا على العقل والمنطق لم يجدا لهما تعليلا ولا تبريرا ؛ فالتزامك بأداء هذه الصلوات بهذا التوقيت وهذا التحديد هو امتثال لأمر الله لأنك تؤديها لمجرد أنه أمر من الله عز وجل الذي آمنت به من قبل عن طريق العقل والمنطق وفى الامتثال معنى العبودية الكاملة التي أرادها الله حيث يقول (( وما خلقت الإنس والجن إلا ليعبدون )) (الذاريات 56) .
والمقصود الأخر من العبادة هو أن تكون وسيلة للتعرف على الله والتقرب إليه واستمداد العون منه باعتباره سبحانه هو وحده القادر الوهاب الفعال لما يريد .. وإذا كانت الحياة الدنيا بشرورها وغرورها مسلطة على قلب الإنسان . وإذا كان الإنسان بطبيعته لا يقوى على مدافعة هذه الشرور وهذا الغرور وقد قال الله تعالى في شأن الإنسان (( يريدا لله أن يخفف عنكم وخلق الإنسان ضعيفا)) ( النساء 28) فما كان أحوجه إلى ركن شديد يأوي أليه وإلى سند منيع يفزع إليه ؛ فكان من فضل الله على عباده إن أتاح لهم فرصا للفزع إليه والاستمداد منه ؛ فشرع لهم العبادة صلة بينهم وبينه وبابا يهرعون إليه كلما حزبهم أمر أو قست عليهم نوائب الحياة (( ففروا إلى الله إني لكم منه نذير مبين . ولا تجعلوا مع الله إلها آخر إني لكم منه نذير مبين )) (الذاريات 50 - 51 ). (( يا عبادي اللذين آمنوا إن أرضى واسعة فإياي فاعبدون )) (العنكبوت56) ... ولذا فإن المؤمن لا يتطرق اليأس إلى قلبه مهما ادلهمت عليه الخطوب وأظلمت في وجهه سبل الحياة .. وكيف يجد اليأس سبيلا إلى قلبه وهو يسمع واهب الحياة ومدبر الآمر وصاحب الملك كله يناجيه فيقول (( ورحمتي وسعت كل شئ فساكبتها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون )) (الأعراف 156 ). ويقول (( يأيها الناس قد جاءتكم موعظة من ربكم وشفاء لما في الصدور وهدى ورحمة للمؤمنين . قل بفضل الله وبرحمته فبذلك فليفرحوا هو خير مما يجمعون )) ( يونس 57 -58) . ويقول (( وذا النون إذ ذهب مغاضبا فظن أن لن نقدر عليه فنادي في الظلمات أن لا إله إلا أنت سبحانك إني كنت من الظالمين . فاستجبنا له ونجيناه من الغم وكذلك ننجى المؤمنين )) (الأنبياء 87-88 ).
والعبادة تلعب الدور الأكبر في تكوين الأمة ؛ لأنها تكون الفرد وتصقل روحه وتصفى قلبه وتزكى نفسه وتغسل بما فيها من مناجاة الله صدره . فهو بها دائم التذكر لربه دائم الخوف من عذابه ، دائم الشوق إلى جنته ، يرى الجنة دائما عن يمينه والنار عن شماله ؛ ومثل هذا لا يصدر منه إلا فضائل الأعمال ... وما الأمة إلا مجموعة من الأفراد (( كنتم خير أمة أخرجت للناس تأمرون بالمعروف وتنهون عن المنكر وتؤمنون بالله )) (آل عمران 110 ) .
والفرد المسلم في هذه الحالة لا يندفع إلى قول أو عمل من صميم قلبه لا من آمال تتعلق بمتاع الدنيا ، وكلم شدته الدنيا إلى متاعها ، وجرته إلى مغرياتها ، وحاولت تلويثه ببهرجها ، وكادت تغمسه في فتنتها ؛ سمع المؤذن ينادى إلى الصلاة فكان الآذان تنبيها له من غفلته فيترك ما هو فيه شان ويجيب النداء فيتوضأ ويقف بين يدي ربه فيذكر الله بلسانه فينبه لسانه قلبه ثم يستعرض في صلاته عظمة ربه وجلال فضله وشدة عذابه وواسع مغفرته ومدى رقابة الله عليه ومدى احتياجه إلى عونه فيخرج من الصلاة خلقا آخر كأنما اغتسل من قذر ، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث يقول (( أرئيتم لو أن بباب أحدكم نهرا يغتسل فيه كل يوم خمس مرات هل يترك ذلك من درنة شيئا ؟ قالوا لا قال ذلك مثل الصلوات الخمس )) وكما يقول الله تعالى في الزكاة (( خذ من أموالهم صدقة تطهرهم وتزكيهم بها )) (التوبة 102) . وكما يقول في الصيام ((يأيها اللذين آمنوا كتب عليكم الصيام كما كتب على اللذين من قبلكم لعلكم تتقون )) (البقرة 183)(( ويقول رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحج ((من حج فلم يفسق ولم يرفث رجع كيوم ولدته أمه)) .
والأمة التي يتجه زعماؤها وحكامها في تربيتها إلى غير هذا الطريق إنما هي أمة تائهة ؛ لأن القوانين - مهما تضمنت من عقوبة – لا تردع الفرد متى استطاع التهرب من طائلتها فإن حراس القانون لا يستطيعون مراقبة كل فرد في كل وقت وفى كل مكان . فإذا لم يكن للفرد رقابة على نفسه من نفسه فهيهات أن تجدي القوانين ... وهذه الرقابة النفسية إنما هي الأثر المباشر للعقيدة والعبادة . فالعقيدة تزرعها فى النفس والعبادة نتعهدها فترويها وتنميها والى ذلك يشير قوله تعالى (( وما تكون فى شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون عن عمل إلا كنا عليكم شهودا إذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة فى الأرض ولا فى السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين )) (يونس 61) . والتهرب من القانون وحراسة أمر سهل وميسور ، أما التهرب من الله عز وجل فأمر غير مستطاع ولذا فإن القرآن قد جعل الإيمان باليوم الأخر شرطا لا يقوم الإيمان إلا به ففي فاتحة الكتاب التي يرددها المسلم كل يوم سبع عشرة مرة فى صلاته يقول (( الحمد لله رب العالمين . الرحمن الرحيم مالك يوم الدين)) ويوم الدين هو يوم الحساب ... وفى أول سورة البقرة جعل أول وصف للمتقين الإيمان بالغيب وهو الحساب والجنة والنار (( ألم . ذلك الكتاب لا ريب فيه هدى للمتقين الذين يؤمنون بالغيب )) وأشار القرآن الكريم أن انفراط العقد وحبوط العمل إنما سببه ومرده عدم الإيمان بلقاء الله حيث يقول (( إن الذين لا يرجون لقاءنا ورضوا بالحياة الدنيا واطمأنوا بها والذين هم عن آياتنا غافلون أولئك مأواهم النار بما كانوا يكسبون )) ( يونس 7-8) .
والأمة الإسلامية التي تربت على هذه الأسس أثمرت فيها هذه التربية ثمرا ستظل روعته مضرب المثل فى التاريخ ؛ وحسبنا أن نذكر مثالين أو نموذجين : فهذا (( ماعز)) وقد زل فأتى خطيئة لم يره أحد حين أتاها ولم يعلم بها أحد ويعرف فظاعة عقوبتها ويعرف أنه أصبح بمنجى من هذه العقوبة لكنه مع ذلك نراه يذهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول له رسول الله : لقد زنيت . فيحاول رسول الله صلى الله عليه وسلم أن يصرفه عن هذا الاعتراف فيقول له : لعلك قبلت فيقول : لا لقد زنيت حتى يقول له : لعلك فاخذت فيقول : لا لقد زنيت ويصر على قوله ويطلب تنفيذ الحد عليه فيأمر رسول الله به فيرجم بالحجارة حتى يموت . فيصلى عليه رسول الله صلى الله عليه وسلم ويرى من عمر تخلفا عن الصلاة عليه بدعوى أنه زان ؛ فيغضب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويقول (( لقد تاب والله توبة لو وزعت على أهل الأرض لو سعتهم )) .
وفى موقعة القادسية لما دخل المسلمون إيوان كسرى وزالت بذلك دولة الفرس وأرسلت الغنائم إلى المدينة ووزعت الغنائم كما شرع الله ولم يعد أحد يشك فى أن كل ما غنم قد سلم إلى بيت المال ؛ تقدم جندي من جنود الموقعة إلى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب وسلمه أثمن ما كان يملكه كسرى ؛ سيفه ومنطقته وزبر جدته . فنظر إليها عمر وقال قولته المشهورة (( إن قوما أدوا هذا ولم يستأثروا به لذووا أمانة )) .
ثالثا : المعاملة
يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم (( الدين المعاملة )) . وما من دين أنزله الله وما من نبي أرسله إلا وهو يدعو إلى حسن المعاملة بين الناس بعضهم مع بعض . ولكن الدعوة إلى حسن المعاملة كانت فى كل ما سبق الدعوة المحمدية دعوة مجملة أو مركزة في ناحية واحدة ؛ فدعوة هود كانت مركزة فى النهى عن التطاول فى البنيان وفى الاقتصاد فى البطش والجبروت .. ودعوة صالح كانت مركزة فى النهى عن الرفاهية وفى الدعوة إلى العدالة فى اقتسام مياه الري ... ودعوة لوط كانت مركزة فى النهى عن إتيان الفاحشة ... ودعوة شعيب كانت مركزة فى النهى عن الغش فى الكيل والميزان ... وهكذا حتى بلغت الإنسانية رشدها فبعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بالرسالة الخاتمة بالكتاب الكامل الشامل فوضع لكل نوع من أنواع التعامل بين الناس حدودا مفصلة وقوانين محددة ؛ فوضع أسس تكوين الآسرة كما حدد حقوق الفرد نحو مجتمعه وحقوق مجتمعه عليه ، فعلاقة البيع والشراء والعلاقات التجارية والزراعية وحقوق المال وحقوق العمل كما نص على عقوبات للجنايات ... وحسبك أن تعلم أن أطول آية فى كتاب الله إنما نزلت فى معالجة موضوع الديون وكيفية كتابة وثائقها وهى الآية282 من سورة البقرة.
فالإسلام نظام كامل شامل لإدارة الدنيا فى جميع شئونها ونواحيها ،ولا يصلح أن يقتبس منه جزء يرفع به نظام خر فكل جزء منه مرتبط ببقية الأجزاء فإما أن يؤخذ بالنظام الإسلامي كله وإما أن يترك كله ؛ فإذا لم ترتكز قوانينه فى المال والجنايات والأسرة على أساسين من العقيدة والعبادة كانت هذه القوانين جسما بلا روح ... وهذا ما تعانيه بعض الدول الإسلامية التي ظهر فيها زعماء لم يفقهوا هذا المعنى فراحوا يدعون إلى الأخذ بالشريعة الإسلامية فى المال والجنايات فى حين أن شعوبهم فاقدة الأصل الأصيل من العقيدة والعبادة فانتهوا إلى مجموعة من المظاهر التي تنتسب إلى الإسلام تخفى تحتها نفوسا لا تمت بصلة إلى الإسلام وصدق الذي قال :
نرقع دنيانا بتمزيق ديننا
- فلا ديننا يبق ولا ما نرقع
ورحم الله أستاذنا الإمام فقد كان يقول : إن القاضي الذي صقلت نفسه التربية الإسلامية يستطيع بهذا القانون الوضعي أن يخرج لنا أحكاما تتفق مع روح الشريعة الإسلامية .. أما القاضي الذي ليس له نصيب من التربية الإسلامية فإنه حتى إذا حكم بالقانون الإسلامي فإن أحكامه تكون مجافية للعدالة وروح الإسلام ...
نعم لابد من أن تكون الشريعة هي قانون البلاد ، ولكن لابد من أن ترافق ذلك تربية إسلامية على أساس من العقيدة والعادة تكون الفرد المسلم الذي سيكون بمثابة الروح لهذه القوانين ، والذي يصبغ بشخصيته المجتمع الذي يعيش فيه أو يتصل به ، والذي يكون الأداة الفعالة للإبداع فى كل عمل يزاوله ، والذي سيعفى الدولة مما تتورط فيه الحكومات من إنشاء رقابة من فوقها رقابة من فوقها رقابات حتى تضمن من أفرادها أداء ما وكلته إليهم من أعمال إن محاولة الإصلاح عن طريق القوانين دون التربية الإسلامية لأفراد الأمة هو نوع من البناء على الرمال ... فإذا رافقت التربية الإسلامية الحكم بالشريعة كانت أحكام الشريعة فى هذه الحالة أشبه بالبذور تنزل على ارض أخذت حقها من الإعداد والري فأنبتت نباتا حسنا وجاءت بأطيب الثمر ... أما إذا نزلت هذه البذور - وهى فى أجود حالاتها - على أرض وعرة أو أرض سبخة لم تمتد إليها يد الإصلاح فان جودة البذور لن تغنى عنها شيئا وستموت على هذه الأرض ولست أقصد من هذا أن تنتظر الأمة الإسلامية فى عصرنا هذا ممثلة فى دولها حتى تتم تربية شعوبها ثم تبدأ بعد ذلك فى الآخذ بأحكام الشريعة الإسلامية .
وإنما الذي أقصده هو أن تتخلص الدول من تصور خاطئ سيطر على تفكير قادتها ، وهو أن النظام الإسلامي منحصر فى الأخذ بالقوانين الإسلامية ضاربة عرض الحائط بما سوى ذلك من أصول التربية الإسلامية القائمة على الأساسين الركينين من العقيدة والعبادة ... فهذه الدول تريد الأخذ بالقوانين الإسلامية فى الوقت الذي تنشر وسائل الإعلام فيها ليلا ونهارا وفى كل شارع وفى كل بيت الدعوة إلى الفساد والتهتك والانحلال الخلقي ... تريد الأخذ بقوانين الشريعة وهى تاركة لنسائها الحبل على الغارب لإغراء الشباب المجرد من أسلحة المناعة الخلقية ... تريد الأخذ بقوانين الشريعة وكبار موظفيها وصغارهم لا رادع لهم من خلق والقوانين الإسلامية وحدها لا تخلق الضمير ولا تنشئ الخلق .
إذا كانت هذه الدول جادة فى الأخذ بقوانين الشريعة فلتأخذ بها فى الوقت الذي تأخذ فيه بأساليب التربية الإسلامية لشعوبها حتى تكون قوانين الشريعة مدعومة بهذه الأساليب التي يظهر أثرها فى وسائل الإعلام وفى صفوف المدارس وفى مكاتب الموظفين وفى مسلك الرجال والنساء أما الأخذ بقوانين الشريعة وكل أجهزة الدولة سائرة فى خط معاكس لهذه القوانين فهو الذي نرفضه لأنه لن يعود على الأمة بفائدة ولا يكون إلا تشويها لسمعة الشريعة الإسلامية . ولعمري ما أيسر الحكم بالشريعة الإسلامية فإن ذلك لن يكلف الحاكم شيئا إلا أمرا بذلك يصدره . أما تربية الشعب وإعداده ليكون شعبا مسلما نعيش فى قلب كل فرد منه رقابة الله فإن ذلك هو الأمر العظيم الذي لا يقدر عليه كل أحد ولا يقدر عليه إلا كل عظيم من الناس ؛ لا يقدر عليه إلا لقدوة الحسنة . وتحول الفرد إلى أن يكون قدوة حسنة يقتضيه الكثير من التضحيات فهذه هي الوظيفة الكبرى للأنبياء ولا يقدر على ذلك من بعدهم إلا ورثة الأنبياء على أن لا يكونوا من الأدعياء.
النشأة
رأيت أن أبدأ بهذه العجالة التي ترسم الخطوط العريضة للفكرة الإسلامية ، والتي يتبين مهما مدى خطورة هذه الفكرة على ذوى المطامع من الجبارين والمستبدين والمستعمرين ؛ ولذا فإن الذي شرعها – عز جاره وجل شانه - شرع معها الجهاد لحمايتها والذود عنها وجعل هذا الجهاد ذروة سنامها كما جاء فى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم . هذه الفكرة بهذا التخطيط والشمول لم يكن لها - منذ خمسين عاما - وجود فى أذهان المسلمين فى أنحاء الأرض ، وإنما كان الموجود منها فى الأذهان نتفا وأجزاء .. وكان هذا نتيجة خطط محكمة أختطها الاستعمار الذي كان إذ ذاك مسيطرا على جميع البلاد الإسلامية ، وقد تمكن بهذه الخطط من مسخ الفكرة الإسلامية فى أذهان الناس فأصبحت العقيدة مجرد ألفاظ تلوكها الألسن فى حلقات الذكر فاقدة معانيها ؛ فمعنى تحدى الظلم الذي هو أبرز معاني العقيدة حل محله الدعوة إلى العزلة وتحريم التصدي للحاكمين مهما طغوا وظلموا بل وتحريم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فكانوا إذا رأوا أحدا يتصدى لذلك يقولون له : دع خلق الله فى ملك الله )) ، (( لا يقع فى ملكه إلا ما يريد)) (( يأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون )) (المائدة 105 ) .
مع أن الانحراف بهذه الآية الكريمة عن معناها إلى عكسه هو الذي حمل أبا بكر رضي الله عنه وهو على المنبر أن يفسرها ويقول للناس (( إنكم تحملون هذه الآية على الدعوة إلى العزلة وترك الناس تفعل ما يشاء ألا إن معناها هو أن الله تعالى يأمر المؤمنين بأن لا سيروا فى ركب أهل الضلال مهما كثروا وقويت شوكتهم بل على المؤمنين أن يخالفونهم ويتمسكوا بكتاب الله ... وناهيك بالتمسك بكتاب الله وما فيه من حث على الجهاد ومقاومة للظلم والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر .
وكان الناس يؤدون العبادة بنفس هذا المعنى الميت ؛ فهي طقوس تؤدى وحركات وألفاظ يرثها جيل عن جيل ليس لها هدف ولا مغزى ... حتى الدروس فى المساجد لم تكن أكثر من حلقات للتسلية والإمتاع ... وبهذه الصورة لم يكن المستعمر وأذنابه من الحكام يعارضون فى بناء المساجد وفى إتيان الصلاة وإلقاء الدروس بها لأنها لم تكن مصدر إقلاق لهم بل كانت وسيلة من وسائل إشاعة روح التخاذل والإلهاء والخضوع فى الناس على حد ما كانوا يقولون : ليس فى الإمكان أبدع مما كان .
وكان الذين يفهمون الإسلام فهما صحيحا قلة من الناس . ومن فضل الله على أن أهلي وأسرتي كانوا من هذه القلة . لأنهم لم يتلقوه عن طريق رسمي فى مدارس الحكومة وإنما تلقوه من أصوله فى أمهات الكتب التى كانت تزخر بها مكتبتهم التى ورثوها كابرا عن كابر وكان كل جيل يزيد فيها . رأيت أن أبدأ بهذه العجالة التى ترسم الخطوط العريضة للفكرة الإسلامية ، والتي يتبين مهما مدى خطورة هذه الفكرة على ذوى المطامع من الجبارين والمستبدين والمستعمرين ؛ ولذا فإن الذي شرعها - عز جاره وجل شانه - شرع معها الجهاد لحمايتها والذود عنها وجعل هذا الجهاد ذروة سنامها كما جاء فى حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم .
هذه الفكرة بهذا التخطيط والشمول لم يكن لها - منذ خمسين عاما - وجود فى أذهان المسلمين فى أنحاء الأرض ، وإنما كان الموجود منها فى الأذهان نتفا وأجزاء .. وكان هذا نتيجة خطط محكمة أختطها الاستعمار الذي كان إذ ذاك مسيطرا على جميع البلاد الإسلامية ، وقد تمكن بهذه الخطط من مسخ الفكرة الإسلامية فى أذهان الناس فأصبحت العقيدة مجرد ألفاظ تلوكها الألسن فى حلقات الذكر فاقدة معانيها ؛ فمعنى تحدى الظلم الذى هو أبرز معاني العقيدة حل محله الدعوة إلى العزلة وتحريم التصدي للحاكمين مهما طغوا وظلموا بل وتحريم الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر فكانوا إذا رأوا أحدا يتصدى لذلك يقولون له : دع خلق الله فى ملك الله )) ، (( لا يقع فى ملكه إلا ما يريد)) (( يأيها الذين آمنوا ليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم إلى الله مرجعكم جميعا فينبئكم بما كنتم تعملون )) (المائدة 105 ) .
مع أن الانحراف بهذه الآية الكريمة عن معناها إلى عكسه هو الذى حمل أبا بكر رضي الله عنه وهو على المنبر أن يفسرها ويقول للناس (( إنكم تحملون هذه الآية على الدعوة إلى العزلة وترك الناس تفعل ما تشاء ألا إن معناها هو أن الله تعالى يأمر المؤمنين بأن لا يسيروا فى ركب أهل الضلال مهما كثروا وقويت شوكتهم بل على المؤمنين أن يخالفونهم ويتمسكوا بكتاب الله ... وناهيك بالتمسك بكتاب الله وما فيه من حث على الجهاد ومقاومة للظلم والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر .
وكان الناس يؤدون العبادة بنفس هذا المعنى الميت ؛ فهي طقوس تؤدى وحركات وألفاظ يرثها جيل عن جيل ليس لها هدف ولا مغزى ... حتى الدروس فى المساجد لم تكن أكثر من حلقات للتسلية والإمتاع ... وبهذه الصورة لم يكن المستعمر وأذنابه من الحكام يعارضون فى بناء المساجد وفى إتيان الصلاة وإلقاء الدروس بها لأنها لم تكن مصدر إقلاق لهم بل كانت وسيلة من وسائل إشاعة روح التخاذل والإلهاء والخضوع فى الناس على حد ما كانوا يقولون : ليس فى الإمكان أبدع مما كان .
وكان الذين يفهمون الإسلام فهما صحيحا قلة من الناس . ومن فضل الله على أن أهلي وأسرتي كانوا من هذه القلة . لأنهم لم يتلقوه عن طريق رسمي فى مدارس الحكومة وإنما تلقوه من أصوله فى أمهات الكتب التى كانت تزخر بها مكتبتهم التى ورثوها كابرا عن كابر وكان كل جيل يزيد فيها .
ولاشك فى أن أعظم عامل يؤثر فى حياة الفرد هو البيئة التى أحاطت به فى شأنه فإنها كفيلة أن تحدد له اتجاهه فى الحياة لأنها تسكب فى قرارة نفسه وتخلط مع مهجة قلبه وتحفر فى ثنايا عقله قيمها ومفاهيمها ... وهكذا نشأت فى بيئة تجمع بين الدين والعلم والأدب والوطنية ؛ فلقد كانت أسرتنا برشيد متميزة بكل هذه المعاني وكان لها مدرسة تخرج فيها جيل من الناشئين على يدي عمين لي كانا أمة كاملة للسمو البشرى بمختلف ألوانه ؛ فلقد كانا يعيشان لا لنفسيهما بل للمجتمع الذي نشآ فيه ، فكانا قادة كل حركة تقاوم الظلم والاستبداد والاستعمار . عاشا ما عاشا يبذلان ولا يأخذان ، وينفعان ولا ينتفعان .. لم يكونا من حملة الشهادات الدراسية لكنهما كانا طودي علم وأدب .
- من آثار البيئة :
معذرة للقارئ فقد أكون شغلت جانبا من وقته بحديث قد لا يعنيه ولكن من حق أصحاب الفضل أن يذكروا ... وأعوذ إلى السياق فأقول ؛ فى هذه البيئة نشأت فوجدته بين يدي كتبا كانت غذاء لعقلي ومهذبا لطبعي . ورأيت بين يدي مثلا حيه لكثير من أروع ما رأت ؛ فلقد كان اتصالي بعمى هذين أكثر من اتصالي بأمي وأبى ... وكنت الابن الوحيد فى تلك الآونة للأسرة كلها فعمل كل بثي كل ما عنده ، وعلى تنشئتي على الصورة التى هي فى قرارة نفسه .. وقد هيأ لي هذا الاتصال أن أقرأ وأتا بعد فى سن مبكرة فى دراستي الثانوية كتبا ذات شأن كشرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك ووفيات الأعيان لابن خلكان ورسالة التوحيد لمحمد عبده والعقد الفريد لابن عبد ربه والبيان والتبيين للجاحظ والكامل لأبى العباس المبرد كما قرأت ديوان امرئ القيس وديوان المتنبي وديوان البارودي والمعلقات السبع وغيرها من أمهات كتب الدين واللغة والأدب .
ويجدر بي فى هذه المناسبة أن ألفت النظر إلى الأدب العربي شعره ونثره والى ما ينطوي عليه هذا الأدب من توجيهات إلى السمو بالنفس عن الدنايا وإلى تبصير الإنسان بما يجعله إنسانا موفورا الكرامة . مرفوع الرأس محببا إلى الناس فهو يوضح له المواقع التى عليه أن يتجنبها وتلك التى يسلكها ويعلمه كيف يعامل الناس وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم إذ يقول (( إن من البيان لسحرا وإن من الشعر لحكمة )) ويخيل إلى أن الحكمة الهادية لا يكاد يجدها المرء بعد كتاب الله وحديث رسوله إلا فى كتب الأدب نثرا وشعرا حتى إنه ليبدو لي أن الأديب حين يكتب وان الشاعر حين يقول الشعر تتولاه حالة يكون مهيأ فيها لنوع من الإلهام فتراه يضمن كلامه أو شعره حكما سامية وتوجيهات رائعة ينتفع بها قارئها وقد لا ينتفع هو بها ... ولعل فى هذا إشارة إلى قول الله تعالى (( والشعراء يتبعهم الغاوون . ألم ترأنهم فى كل واد يهيمون . وأنهم يقولون ملا يفعلون . إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيرا وانتصروا من بعد ما ظلموا)) .. (224-227 الشعراء)
وحين سمع رسول الله صلى الله عليه وسلم معلقة زهير بن أبى سلمى الشاعر الجاهلي التى منها :
ومن لا يصانع فى أمور كثيرة
- يضرس بأنياب ويوطأ بمنسـم
ومن هاب أسباب المنايا ينلنه
- وإن يرق أسباب السماء يسلـم
ومهما يكن عند امرئ من خليقة
- وإن خالها تخفى على الناس تعلم
قال عليه الصلاة والسلام " هذا من كلام النبوة " . وإنك لواجد في أشعار الشعراء من التوجيهات والحكم مالا تجده في غيرها وما يوجهك أحسن توجيه فحين تسمع قول الشاعر :
والنفس راغـبة إذا رغبـتها
- وإذا ترد إلي قلـيـل تـقنــع
نعرف كيف تسوس نفسك وتحملها على مالا يعيبك وتخرج بذلك من إسار العرف الذي يدعى أن النفس طبعت على طبائع لا يمكن التخلص منه وحين تسمع هذين البيتين :
بلاء لـيس يـعدله بـلاء
- عـداوة غيـر ذي حسب وديـن
يبيحك منه عرضا لم يصنه
- و يرفع منك فى عرض حصـين
تعرف كيف تعامل من لا خلاق لهم من الناس فلا تحتك بهم ولا تعاملهم معاملة الند بالند ..........
وحين تقرأ :
إذا أنت لم تعرف لنفسك حقها
- هوانا بها كانت على الناس أهوانا
فهمت أن احترام الناس لك مرهون باحترامك لنفسك وذكر عن على كرم الله وجهه أنه لما بلغه وفاة طلحة بن عبيد الله رضي الله عنه قال : رحم الله أبا محمد فقد كان كما قال الشاعر :
فتى كان يدنيه الغنى من صديقه
- إذا ما هو استـغنى ويـبعده الفقر
وأنشد النابغة الجعدى النبي صلى الله عليه وسلم شعره حتى وصل إلى قوله :
ولا خير فى حلم إذا لم تكن له
- بوادر تحمى صفوة أن يكدرا
ولا خير فى جهل إذا لم يكن له
- حليم إذا ما أورد الأمر أصدر
والشعر المأثور عن شعراء الجاهلية وشعراء الإسلام فى صوره المختلفة وأغراضه المتباينة يزخر بدرر من التوجيهات والحكم لا يمكن تعليل ورودها على ألسنة قائليها إلا بأن وضع الإنسان نفسه فى المجال الموسيقى للشعر يجعله فى تواؤم مع تلقى نوع من الإلهام .
وقد أردت بهذه الإلماحة إلى فضل الأدب والشعر فى توجيه الناس إلى المحامد وصرفهم عن المثالب أن ألفت نظر الجيل الناشئ إلى أن ينظروا إليها نظرتهم إلى منهل يعينهم على تكوين شخصيتهم المسلمة .
ولولا خصال سنها الشعر ما درى
- بغاة العلا من أين تؤتى المكارم
ورضي الله عن الفاروق عمر الذي كان يقول : الشعر ديوان العرب .
- التعلق بالقرآن :
إن النفس العربية ، في البيئة العربية ، وفي جو الأدب الرفيع الذي يدفع إلي السمو ؛ يجد المرء نفسه جاثيًا أمام كتاب الله العزيز ، ناهلاً من صافي سلسبيله ، مستروياً من عذاب مائة ... وهكذا وجدتني منذ الصغر وأنا في سن السابعة أجلس بين يدي كتاب الله ، أتلو منه وحدي والله وحده يعلم هل كنت في أول عهدي به كثير الخطأ في تلاوته أم قليله .. لأني لم أكن أتلو أمام غيري ... وقد خرجت في إحدى الأجازات الصيفية وأنا في تلك السن المبكرة أن ألتحق بأحد الكتاتيب في رشيد فلم ترقي طريقهم التي تعتمد علي الاستظهار والحفظ دون التلاوة ، فانقطعت عنه واكتفيت بالتلاوة المنزلية ؛ فكنت أقرأ المصحف بالترتيب ، ولم أكن – كما – كما قدمت – أوقن أنني أقرأ قراءة صحيحة إلا أنني تنبهت بعد فترة من الزمن – نحو خمس سنين – حين كنت في أوائل الدراسة الثانوية فوجدتني ماهرًا في تلاوته ، واستطعت في خلال دراستي الثانوية أن أجمع إلي المهارة في التلاوة الحذق في التجويد دون أن يكون ذلك عن دراسة منظمة لفن التجويد ؛ فاللسان العربي قادر بطبيعته مع القليل من التوجيه والملاحظة علي النطق الصحيح وإخراج الحروف من مخارجها الصحيحة ... وقد نكون مداومتي علي التلاوة دون انقطاع مما سهل لي هذا الأمر .
- أول فراق لرشيد :
لم يكن برشيد فى ذلك الوقت مدارس ثانوية ، فكان على أن أرحل إلى الإسكندرية ، وكم كان ذلك شاقا على نفسي وعلى نفس والدي .. إلا أنني أفدت الكثير من هذا الفصال الذي فطمني عن عهد الطفولة وأحيا فى نفسي عوامل الرجولة والاعتماد على النفس ، وأوجدني فى بيئة ضممت مزاياها إلى مزايا البيئة التى نشأت فيها ... نعم كنت طالبا (( داخليا )) تعد المدرسة لي الطعام والمنام ووسائل النظافة لكن هذا ليس كل شئ فى الحياة ... لقد تعرفت على أقوام من شتى البلاد وخالقتهم وعاشرتهم وأضفت إلى أصدقائي التقليديين من أهل بلدتي أصدقاء آخرين من بلاد أخرى وكان ألصقهم بنفسي الطالب محمد جمال الدين نوح الذي كان والده زميل والدي وكانوا مقيمين فى الإسكندرية إلا أنه كان طالبا ((داخليا)) .
ومن أجمل مزايا نظام (( الداخلية)) تنظيم حياة الطالب ، فالاستيقاظ من النوم فى الصباح فى موعد محدد ، والإفطار الجماعي فى موعد محدد والغداء والعشاء كذلك والوجبات التى تقدم على مدار الأسبوع أنواع محددة ثم المذاكرة فى مكان محدد وموعد محدد وتحت إشراف يرشد ويعين ، ثم النوم فى موعد محدد .
كانت فترة دراستي الثانوية فى الإسكندرية فترة إنضاج فكرى وروحي لي : فلقد دخلت هذه المرحلة فى سن الثانية عشر وأنا مزود بشحنات من نور القرآن ، وبثقافة سياسية وأدبية - وقد أفردت لأول مرة دون من كنت أستمد منهم وأتلقى عنهم - فوجدتني مهيأ لدور قيادي فى هذه المدرسة . فبغير إرادة منى وجدتني قدوة يقتدي بي زملائي فى المدرسة ؛ فمصلاي التى كانت تلازمني بجانب فراشي جعلت كل من تهفو نفسه إلى الاستقامة والخير يتجه إلى ؛ ثم فى مسجد المدرسة - وكان مسجدا عظيما . وجدني أوجه زملائي .
ومما يدل على أن التدين لا يرتبط بدراسة معينة أن هذه المدرسة كانت نعج بمدرسي اللغة العربية والدين والمتخرجين فى الأزهر ودار العلوم ، ومع ذلك فلم يكن يصلى معنا فى هذا المسجد من المدرسين إلا مدرس احد هو الأستاذ عفيفي مدرس المواد الاجتماعية ، وهو الذي كان يؤمنا ، كما أن ناظر المدرسة حين رأى إقبال الطلبة على الصلاة فى المسجد انتدب الأستاذ عفيفي ليؤمهم .
ولا أنسى هنا أن أشيد بذكر رجل كان له فضل على كبير فى تنمية ثقافتي الإسلامية ، ذلك هو الشيخ محمد على أمين ، الفراش النوبي المختص آنذاك بمغسل المدرسة فقد كان هذا الرجل عالما عابدا ذا خلق ودين . وكان يقتنى أقيم الكتب ، فقد قرأت من كتبه غير قليل من زاد المعاد لابن القيم والفتاوى الكبرى لأبن تيمية وشرح مسلم للنووي والمجموع فى فقه الشافعي للنووي أيضا وغير ذلك مما غاب خاطري الآن يعد هذه المدة الطويلة ... وهو الذي دلني على تفسير القرطبي وقت أن بدأت دار الكتب المصرية فى طبعه .. كان هذا الرجل مهذبا كريم المعشر عالي النفس مثلا حيا للإسلام ، وكنت أحترمه كما أحترم أقرب أساتذتي إلى نفسي ؛ ولم يكن يدخر وسعا فى معاونتي على الإلمام بمختلف القضايا التى تتصل بالإسلام ... وكان عضوا فى جمعية أنصار السنة المحمدية بالإسكندرية ؛ ولهذه الجمعية مزايا لا تنكر ؛ أهمها أنها دلت المنتسبين إليها على كنوز من الكتب الإسلامية عفي عليها زمن التخلف الذي شمل العالم الإسلامي بضعة قرون ، ومن بينها كتب ابن تيمية وتلميذه ابن القيم وكتب السنة عموما ؛ فقد كان من معالم تقهقر المسلمين فى القرون الأخيرة هجرهم كتب السنة والاكتفاء بتأليف المتأخرين ، وكان كل متأخر يعلق كلام سابقه حتى نسيت السنة فى غمار هذه التعليقات والمجادلات اللفظية .
ومن حق هذا الرجل على أن أنوه بفضله ، وأن أدعو الله له أن يحسن جزاءه لآن له عندي يا لا أنساها ؛ فإنه أحسن حين لقينى فى غمار عمله ضمن من يلقى من الطلبة أنى أهل لتوجيهه ، وكنت بعد فى سن مبكرة حوالي الثانية عشرة ، ومثلى لم يكن ليستطيع فى مثل هذا السنان يقرأ فى أمهلت كتب الفقه والسنة ، فكيف كشف هذا الرجل بنافذ بصيرته استعدادي للقراءة فى مثل هذه الكتب ؟ لقد كان رجلا متقد الذهن نافذ البصيرة ، كنت تقرأ فى قسمات وجهة ، وفى بريق عينيه ، وفى شحوب وجنتيه ، وفى وضاءة جبينه ، مع وسامة وهدوء ؛ كنت تقرأ فى ذلك سمة قوام الليل صوام النهار .
ومع أنه كان عضوا بارزا فى جماعة أنصار السنة المحمدية كما قدمت ، غير أنى - وقد عاشرته خمس سنوات - كانت كلها مدارسه ومناقشة لم أسمع منه كلمة واحدة عن آيات الصفات والاستواء ؛ مع أن أعضاء هذه الجماعة - وقد احتككت بهم فيما بعد فى القاهرة وكانت لي معهم تجارب ومواقع - لم يكن لهم حديث مع الناس حتى العوام منهم إلا عن هذه الآيات التى فرقت آراؤهم فى تفسيرها المسلمين وغرست بذور العداء فيما بينهم ... ولا عجب مع ذلك فى تجنب عضو بارز كالشيخ محمد على أمين الخوض مع الناس فى مثل هذه المواضيع فإن المنشغل بمهام الأمور لا جد وقتا لسفسافها وصدق البارودي إذ يقول :
ودع من الأمر أدناه لأبعده
- في لجة البحر ما يغني عن الوشل
لقد ازددت على يد هذا الرجل علما وفقها وتعرفت على رجال فى تاريخ الدعوة الإسلامية والفقه الإسلامي لا ينبغي لمسلم يتصدى للدعة الإسلامية أن يجهلهم كابن تيمية وابن القيم ومحمد ابن على الشوكانى وهو إمام يمنى من أهل القرن الثاني عشر الهجري أحيا بمؤلفاته ما أندثر من السنة ولعل أشهر كتبه (( نيل الأوطار )) .
وقد لا يكون خروجا عما نحن بصدده الآن أن نتوقف لحظة عند ابن تيمية .. فهذا الرجل وهو إمام الأئمة ليس له من الآثار ، فى عالم الكتب والتأليف ما يصلح أن يسمى (( بالفتاوى الكبرى )) ولا يخرج عن كونه مجموعة من الفتاوى صدرت عنه فى مناسبات متفرقة جمعها أحد تلاميذه ... ذلك أن هذا الإمام لم يكن همه موجها إلى تأليف الكتب وتصنيفها لأنه كان منشغلا بما لم يكن أحد يقدر عليه غيره وهو حمل لواء الدعوة الإسلامية ، فهو الذى هدى الله على يديه التتار حين تحدث مع زعمائهم فكان إسلام التتار من المواقف الحاسمة فى تاريخ الدعوة الإسلامية بل وفى تاريخ العالم ... لم يكن وقته يتسع للتأليف والتصنيف ولكنه استطاع أن يؤلف رجالا منهم ابن القيم الذى ملأ الدنيا كتبا ومؤلفات تعد من أعظم ذخائر المكتبة الإسلامية .
ولما كان ابن تيمية هو حامل لواء الدعوة الإسلامية فى عصره ، كان كثير الإتباع كما كان كثير الأعداء ، وأعداء الدعاة عادة هم من الحكام أو من اللائذين بالحكام ، وقد غلت مراجل الحقد فى صدور هؤلاء اللائذين من أدعياء العلم على ابن تيمية لالتفاف الناس حوله ، فوشوا به عند السلطان الذى أودعه السجن حتى مات فيه ، وانتهت حياته بما تنتهي به عادة حياة حملة لواء هذه الدعوة فى كل زمان .
بلورت دراساتي الخاصة فى منزلنا ثم دراساتي على يد الشيخ محمد على أمين فى المدرسة بلورت الفكرة الإسلامية فى رأسي بحيث تحددت صورتها تماما ، واختمرت هذه الفكرة ، ولم يكن بد بعد ذلك من أن أوضحها لزملائي ، وأتيحت لي الفرص واستجاب كثيرون وكثر المصلون وشعر الجميع سواء فى ذلك زملائي الطلبة وأساتذتي ورجال إدارة المدرسة بأنني الذى يمثل الدعوة الإسلامية ؛ فكانت المدرسة إذا رغبت فى الاحتفال بمناسبة تمت إلى الإسلام بصلة دعتني للاشتراك مع الإدارة فى تنظيم الحفل ، وكنت أؤم المصلين فى المسجد فى غياب الأستاذ عفيفي .. وكان المشرف على الداخلية - بعد أن هداه الله إلى الصلاة _ يرسل إلى كل صباح من يأخذ مصلاي ليؤدى عليها صلاة الصبح .
- فى أجازة الصيف :
كان طبيعيا أن تكون أجازة الصيف فى رشيد فرصة سانحة لعرض الفكرة الإسلامية بالصورة التى اكتملت فى خاطري على أصدقائي وزملائي ... وكان مما هيأ لي أحسن الفرص أننا -أنا ومجموعة من أترابي - قد تعودنا على أداء أكبر عدد من أوقات الصلاة فى المسجد (( المحلى )) ثم ننطلق بعد صلاة العصر إلى الرمال فى خارج رشيد للتريض معا ... وكان زملاؤنا الطلبة الذين يكبروننا سنا قد أنشئوا ناديا سموه (( نادي الطلبة )) لم يكن نشاطه يتعدى الاجتماع فيه للمرح واللهو ولم يكن هذا أسلوبنا. .. فلما استجاب لي كثير من الأصدقاء والزملاء فكرنا فى إنشاء جمعية لنشر هذه الفكرة ، واستقرت الآراء على تسميتها : (( جمعية الأمر بالمعروف والنهى عن المنكر )) وقد اتخذت مقرا لها مؤقتا فى منزلنا حيث كانت مدرسة أعمامي تعمل نهارا ونستغل نحن المكان لنشاط الجمعية ليلا ... وقد عكفنا على وضع القانون الأساسي لهذه الجمعية ... ومع إننا كنا صغارا فإنني لازلت أذكر أن المواد التى تضمنها هذا القانون قد شملت كل الأهداف الإسلامية ، وأحاطت بما تحتويه من معالجة للحياة الاجتماعية والاقتصادية والسياسية واشرنا إلى وجوب إيجاد صلات بين المسلمين فى أنحاء الأرض باعتبارهم امة واحدة ... وكان هذا فى ذاته أمرا عجبا لان المسلمين فى ذلك الوقت لم يكونوا يفهمون الإسلام على هذه الصورة .
ثم انتقلت الجمعية إلى دار فسيحة فى وسط المدينة تبرع بها والد عضوين معنا وكان لهذه الدار فناء فسيح . وكانت الدار تزخر طيلة اليوم والليلة بعدد كبير من الطلبة وغير الطلبة من الشباب العامل فى مختلف الحرف ، وقد تعرف هؤلاء على الجمعية نتيجة ما كانت تقيم من حفلات تلقى فيها المحاضرات والخطب والقصائد كلها فى شرح الفكرة الإسلامية وفى إيقاظ الهمم لإحياء مجد الإسلام . فى صيف سنة تاليه كثر عدد الأعضاء وأقبلت عناصر جديدة كانت تستنكف من قبل أن تشترك معنا فلما رأوا نجاح جمعيتنا رأيناهم يأتوننا هرولة .
- جمعية الشبان المسلمين برشيد :
ضاقت الدار التي كنا نشغلها بالوافدين الجدد الذين تركوا نواديهم إلينا ، وما كان لنا أن نرد قادما أو نرفض وافدا ؛ وسر إخواننا بهذه الوفود الجديدة ؛ ولكنني كنت منقبض الصدر لأنني كنت أعلم أن هؤلاء الوافدين لم يدفعهم إلينا إيمانهم بفكرتنا بل كان الدافع لهم أنهم رأوا لنا نجاحا أرادوا أن يستغلوه فى الظهور والبروز ... ولم يكن بد من فتح الأبواب لهم ، فلما استقر بهم المقام اقترحوا أن تتخذ الجمعية اسما آخر غير اسمها ، وصوروا للأعضاء الآخرين من إخواني وزملائي أن اتخاذ اسم مشهور يبرز الجمعية فى المجتمع ويعلى صوتها ويرفع مكانتها واقترحوا أن يكون الاسم الجديد هو جمعية الشبان المسلمين برشيد ، واستقر الرأي على ذلك .
وكان لي خبرة بجمعية الشبان المسلمين بالإسكندرية فى ذلك الوقت حيث كان لي زميل بالمدرسة مشتركا فيها وعضوا فى فريق كشافاتها وفهمت منه أن هذه الجمعية تهتم بالنواحي الرياضية ولا توالى الناحية الدينية اهتماما يذكر فلما جلسنا لوضع القانون الأساسي لهذه الجمعية اشترطت على اللجنة المنوط بها هذا الأمر - وكنت عضوا فيها - أن ينص على أن هذه الجمعية برشيد لا علاقة بينها وبين جمعية الشبان المسلمين فى القاهرة والإسكندرية وتمسكت بهذا الشرط حتى أجازته اللجنة .
واتخذت الجمعية لأول مرة مقرا مستقلا بأجر شهري وفى أبرز مكان فى المدينة واتسعت وذاع صيتها حتى أن النحاس باشا - وكان فى ذلك الوقت زعيم البلاد غير منازع - كان مدعوا فى حفل كبير أقامته لها لجنة حزب الوفد برشيد ، فلم يقم بعد انتهاء الحفل بزيارة لأي مكان أو لأية شخصية إلا هذه الجمعية ؛ والطريف أنه حين قدمنا له دفتر الزيارات ليكتب لنا كل كلمة فيه سألنا قائلا : هل جمعيتكم هذه فرع من جمعية الشبان المسلمين بالقاهرة فنفينا ذلك وأطلعناه على قانون الجمعية وما فيه من نص على ذلك فابتسم وقال : لو كانت جمعيتكم فرعا من جمعية القاهرة ما قبلت أن أكتب لكم شيئا ومع أن الجمعية قد استكملت مظاهر الأبهة وتقاطر الناس على الاشتراك فيها أموالها إلا أنى كنت أرى عوامل الفشل تدب فى أعضائها وتنخر فى عظامها فقد كثر المتسللون إليها من ذوى الأغراض وطلاب المناصب وعشاق المظاهر وصار من الصعب مقاومتهم حيث صاروا أغلبية فحولوا الجمعية عن أغراضها ولم تعد أكثر من ناد يؤمه الفارغون والمتسكعون فقررت البعد عنها وأعلنت ذلك للجميع .
- افتقاد الضالة المنشودة :
أعلنت انفصالي عن الجمعية التى أنشأتها ؛ وحملت معي فكرتي الإسلامية التى تمكنت من نفسي تمكنا جعلني أزن بها كل ما يعرض على ، وأقيس بها ما يقدم لي . ولم أخرج من هذه الجمعية وحدي بل خرجت بالمجموعة التى كنت بثثتها ما عندي من أحاسيس وأفكار ، ولم نكن هذه المجموعة من علية القوم ولا من اكبر مثقفيهم لكنها كانت مجموعة مؤمنة بما أؤمن به وتضطرم نفسها بما تضطرم به نفسي ، وهى المجموعة التى التفت حولي من أول يوم .
كانت وطأة الاستعمار على البلاد على أشدها ، وكان فى البلاد أحزاب يدعى كل منها أنه صاحب الفكرة المثلى لمقاومة الاستعمار فكان حزب الاتحاد ... وبدراسة هذه الأحزاب تبين لي أن الوفد أكثرها جدا وبذلا وتضحية ،واتصالا بالجماهير ومعاداة للملكية فركنت إليه ...
وظهرت في ذلك الوقت جمعية مصر الفتاة التى أنشأها الأستاذ أحمد حسين المحامى ، وكانت تصلنا فى المدرسة مجلتها (( الصرخة )) تفيض بالحماسة الدفاقة ؛ وكنت أميل إليها باعتبارها فكرة ناهضة إلا أنني لم أتخذها لي مبدأ وفكرة لأن نفسي كانت تشمئز من الانتماء إلى التراب ، واتخاذ مصر إلها نقدم له القرابين ؛ إذ كان مبدأها (( مصر فوق الجميع )) وهو ادعاء على غير أساس وتميز عنصري يستطيع كل جنس ادعاءه وما أنزل الله به من سلطان .
وكان (( لمصر الفتاة )) فى تلك الحقبة إنجاز يستحق التسجيل إذ كان لباس الرأس فى تلك الأيام هو الطربوش المصنوع من الصوف أو الجوخ الأحمر ، ولم يكن أحد يجرؤ على كشف رأسه أو تغطيتها بشئ آخر غير الطربوش ، وكان هذا الطربوش يصنع فى خارج البلاد . فنادي الأستاذ أحمد حسين بتمصير لباس الرأس وتكونت لجنة بمشروع سمته (( مشروع القرش )) يجمع من المواطنين قروشا لبناء مصنع فى القاهرة لصنع الطرابيش ونجح المشروع فعلا وأنشئ المصنع ولبس المصريون من إنتاجه واستغنوا عن استيراده .
كنت أميل إلى الوفد باعتباره الحزب الذى يقف للملك بالمرصاد ؛ إلا أنني كنت أحسن بأن فى الفكرة الإسلامية الغناء عن هذه الأحزاب ؛ ولكن الميدان فى مصر خلو من جماعة تبرز هذه المعاني السياسية فى الفكرة الإسلامية ... وهذا هو الذى كان يحملني على الانتساب إلى الوفد آملا فى أن أجد فى يوم من الأيام الجماعة الإسلامية التى تملأ هذا الفراغ .
- إلى الجامعة فى القاهرة :
أول لقاء عابر لي مع الأستاذ حسن البنا :
بعد حصولي على شهادة الثانوية العامة نزحت إلى القاهرة للالتحاق بالجامعة التى كانت تسمى فى ذلك الوقت بالجامعة المصرية لأنها كانت الجامعة الوحيدة فى البلاد .. وكان أصدق صديق لي خلال دراستي الثانوية - كما قدمت - زميلي محمد جمال الدين نوح ، وكان والده زميل والدي وصديقه ... وقد توطدت الصداقة بيني وبين جمال إلى حد أننا لم نكن نطيق الافتراق ..... وكانت المدرسة قد رشحتني وجمالا أن نكون من العشرة الأوائل فى شهادة الثانوية العامة معتمدة فى ذلك على مقدرتنا العقلية إلا أن طبيعتنا فى عدم الصبر على الاستظهار لم تتح لنا الفرصة إن نكون من العشرة الأوائل كما أملوا فينا ولكننا حصلنا على مجموع لا بأس به .
لأول مرة فى حياتي سافرت وزميلي جمالا إلى القاهرة لنلتحق بإحدى الكليات .. وحين وصلنا إلى القاهرة قال لي جمال إن والده أوصاه أول ما يصل إلى القاهرة أن يزور صديقا له وكان فى يوم من الأيام تلميذا له أسمه ((الأستاذ حسن البنا )) وقال لي إن والده أعطاه عنوانه وهو 5 حارة الروم بالغورية وانطلقنا نبحث عن هذا العنوان فى أحشاء حي عريق فى القدم حتى وصلنا إليه فرأيناه بيتا من الطراز العتيق يشبه الربع وسألنا فيه عن الأستاذ حسن البنا فصعدنا عدة درجات من سلم جانبي ودخلنا غرفة كبيرة ثبت على جدرانها رفوف خشبية مملوءة بالكتب والمجلدات ورأينا مكتبا تحيط به الرفوف من كل جانب يجلس إليه شاب أبيض الوجه مستديرة و لحية سوداء يرتدى بدلة وعلى رأسه طربوش ؛ فكان منظرا عجيبا حيث لم يكن مألوفا فى ذلك الوقت أن يكون أحد معفيا لحيته إلا ويرتدى جبة وعمامة ... فلما رآنا ترك مكتبه وتلقانا بترحيب حار ، وقال إن الأستاذ محمد خلف نوح أستاذي ... وتحدث معنا فيما جئنا إلى القاهرة من أجله وشجعنا على مواصلة الدراسة وألح علينا أن ننزل فى ضيافته فشكرناه ؛ فطلب إلينا أن نتصل به فى كل ما يلزمنا وانصرفنا ؛ ولكن صورة هذا الرجل وحديثه وأسلوبه وأدبه وجلوسه وسط هذه الأكوام من الكتب واللافتة التى رأيناها تعلو باب البيت المكتوب عليها (( الإخوان المسلمين )) تشغل أفكارنا .
والتحقنا معا بكلية العلوم فكنا فى صدر المقبولين بها وخيرنا بين البقاء بها والانتقال إلى كلية الطب لكبر مجموعنا فرأى جمال البقاء فى كلية العلوم ورأيت أنا أن أحول أوراقي إلى كلية الزراعة وكان لهذا التحويل قصة قد ارجع إليها عند الحديث عن الشيخ طنطاوي جوهري إن شاء الله .
كيف تعرفت على الإخوان المسلمين
كنا آنذاك فى السنة الدراسية 1935- 1936 وكانت هذه السنة سنة نشاط سياسي كبير، إذ أعقبت بضع سنوات تولى الحكم خلالها إسماعيل صدقي وفعل - كما أفهمنا زعماء الوفد - بالبلاد الأفاعيل ، وكان من هذه الأفاعيل أنه ألغى دستور سنة 1923 ووضع دستورا بدلا منه سماه دستور سنة 1923 كنا ندرسه فى التربية الوطنية فى السنة الثالثة الثانوية وإن كنت الآن قد نسيت محتوياته إلا أنني أذكر أنه فى مجموعه كان يهدف إلى الحد من سلطة الشعب - وكانت الدولة المستعمرة - بريطانيا - تؤازر هذا الاتجاه ... وكنت فى مساء كل يوم أذهب إلى مقر حزب الوفد وكان يسمى (( النادي السعدي )) وكان يفد إليه خليط من الطلبة وصغار الموظفين والعمال والتجار كما كان أقطاب الحزب يحضرون ... وقد رأى هؤلاء نشاطي فى إقناع الوافدين من الطلبة بفكرة الوفد فأعدوا لي مكتبا بالنادي ... وفى تلك السنة أنشأ الوفد كتائب القمصان الزرقاء فكنت أحد أفراد أول نواة لها وكانت هذه النواة كلها من طلبة الجامعة والأزهر وكان يقودها طالب بكلية الطب اسمه محمد بلال .
أما اليوم الدراسي فى الكلية فكانت تتخلله فترات لا بأس بها من الفراغ كنت أستغلها فى إدارة نقاش سياسي مع الطلبة فى فناء الكلية ، وكان النقاش فى بعض الأحيان يحتدم ويطول ويزداد عدد الطلبة الملتفين حولي ومنهم من يلتف للاشتراك فى المناقشة ومنهم من يلتف لمجرد السماع والملاحظة وتنتهي أكثر هذه المناقشات عادة بكسب أنصار الوفد . وفى أثناء إحدى هذه المناقشات تقدم إلى طالب وآسر فى أذني أنه يريد أن يتحدث إلى حديثا خاصا بعد انتهاء المناقشة فى وقت مناسب ؛ وانتحيت وهذا الطالب جانبا فقال لي : أنا زميل لك بالسنة الأولى ومن الفيوم واسمي (( إسماعيل الخبيرى )) وأنا خالي الذهن عن أية أفكار أو مبادئ ، وقد استمعت إليك كثيرا وأعجبني أسلوبك فى المناقشة وأحس فيه الصدق والإخلاص ، وقد رأيت أن أسلمك نفسي لتوجهني إلى المبدأ الذي تختاره لي ... وأنا أراك تدافع عن الوفد فهل تختار لي أن أكون وفديا ؟ ...
فقلت لا ... فتعجب الشاب من هذا الرد الذي لم يكن يتوقعه ... قال : كيف تكون وفديا ولا تختار لي أن أكون كذلك ؟ ... قلت إنك شاب عديم الخبرة بالمبادئ والأفكار ، وقد استشرتني والمستشار مؤتمن . ولا أرضى لنفسي أن استغلك منتهزا فرصة خلو ذهنك لأحشوه بما أريد .
قال : إذن فماذا ترى ؟ ...
قلت : الذي أراه أن نذهب بنفسك إلى منتديات الأحزاب وتستمع بنفسك إلى قادتها وتناقشهم وتقضى فى كل ناد عدة ليال ، وتجئ كل صباح تقص على ما رأيت وما سمعت حتى إذا أتممت الجولة على كل النوادي نجلس معا لتقرر بنفسك الاتجاه الذي تسلكه ... قال إذن أرشدني إلى مكان هذه النوادي فأرشدته وكانت هذه النوادي هي: الوفد -الأحرار الدستوريون - السعديون - مصر الفتاة - الحزب الوطني .
ويجدر بي بهذه المناسبة أن أذكر أنني منذ أقمت بالقاهرة - وكان مقر دراستي وسكنى بالجيزة - كنت حريصا على أداء صلاة الجمعة دائما فى مسجد الرفاعى بالقلعة لأن خطيب هذا المسجد الشيخ محمود على أحمد كان خطيبا مفوها وكانت خطبة ذات اتصال بالحياة ، وكان رواد هذا المسجد الفسيح من أعلى طبقات القاهرة ثقافة ... وكنت الأحظ دائما بعد الصلاة فى مستهل الدرس الذي يلقيه الشيخ بعد الصلاة أنه كان يلفت نظر الحاضرين إلى شاب بين يديه مجلات يوزعها ويحثهم على اقتنائها فكنت أحد الذين يشترونها ... وقد تركت هذه المجلة فى نفسي - وكان اسمها (( الإخوان المسلمون )) - أثرا عميقا عندما وقع نظري على واجهتي غلافها ؛ فعلى وجهها وملء الصفحة رسمت الكرة الأرضية مركوزا عليها علم كتب عليه (( إنما المؤمنون إخوة)) . وتمسك بالعلم قبضة يد قوية كتب تحتها (( الإخوان المسلمون )) - أما ظهرها فيملأه ((أكلشيه)) بعنوان (( عقيدتنا )) تحته سبعة بنود يتكون كل بند من جزئيين أولهما مبدوء بكلمة (( أعتقد )) والآخر مبدوء بكلمة (( أتعهد )) ... وقد لخصت هذه البنود السبعة الفكرة الإسلامية كما تصورتها بجميع أبعادها . إلا أن ((التعهدات )) قد نقلت الفكرة المجردة إلى معترك الحياة فى جميع ميادينها ... وحرصا منى على انتفاع القارئ بهذه البنود رأيت أن أثبتها بنصها لأنها خير ما يصلح أن يكون دستورا ينظم حياة الفرد المسلم والأسرة المسلمة والأمة المسلمة فى أوجز العبارات وأدقها وأجمعها للمعاني .
عقيدتنا
- أعتقد أن الأمر كله لله - وان سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم خاتم رسله إلى الناس كافة ، وأن الجزاء حق وأن القرآن كتاب الله . وأن الإسلام قانون شامل لنظام الدنيا والآخرة .
- أعتقد أن الاستقامة والفضيلة والعلم من أركان الإسلام .وأتعهد بان أكون مستقيما أؤدي العبادات وأبتعد عن المنكرات ، فاضلا أتحلى بالأخلاق الحسنة ، وأتخلى عن الأخلاق السيئة ، وأتحرى العادات الإسلامية ما استطعت ، وأوثر المحبة والود على التحاكم والتقاضي ، فلا الجأ إلى القضاء إلا مضطرا ، وأعتز بشعائر الإسلام ولغته ، واعمل على بث العلوم والمعارف النافعة فى طبقات الأمة .
- أعتقد أن المسلم مطالب بالعمل والتكسب ، وأن فى ماله الذي يكسبه حقا مفروضا للسائل والمحروم . واعهد بان اعمل لكسب عيشي ، واقتصد لمستقبلي ، وأؤدي زكاة مالي ، واخصص جزءا من إيرادي لأعمال البر والخير ، وأشجع كل مشروع اقتصادي إسلامي نافع ، وأقدم منتجات بلادي وبني ديني ووطني ، ولا أتعامل بالربا فى شأن من شئوني ، ولا أتورط فى الكماليات فوق طاقتي .
- أعتقد أن المسلم مسئول عن أسرته وأن من واجبه أن يحافظ على صحتها وعقائدها وأخلاقها وأتعهد بأن أعمل لذلك جهدي ، وأن أبث تعاليم الإسلام فى أسرتي ، ولا ادخل أبنائي أية مدرسة لا تحفظ عقائدهم وأخلاقهم ، وأقاطع كل الصحف والنشرات والكتب والهيئات والفرق والأندية التي تنادى تعاليم الإسلام .
- أعتقد أن من واجب المسلم إحياء مجد الإسلام بإنهاض شعوبه وإعادة تشريعه وان راية الإسلام يجب أن تسود البشر ، وأن من مهمة كل مسلم تربية العالم على قواعد الإسلام . وأتعهد بان أجاهد فى سبيل أداء هذه الرسالة ما حييت ، واضحي فى سبيلها بكل ما املك .
- أعتقد أن المسلمين جميعا امة واحدة تربطها العقيدة الإسلامية ، وان الإسلام يأمر أبناءه بالإحسان إلى الناس جميعا . وأتعهد بان أذل جهدي فى توثيق رابطة الإخاء بين جميع المسلمين وإزالة الجفاء والاختلاف بين طوائفهم وفرقهم .
- أعتقد أن السر فى تأخر المسلمين ابتعادهم عن دينهم ، وان أساس الإصلاح العودة إلى تعاليم الإسلام وأحكامه ، وأن ذلك ممكن لو عمل له المسلمون .
فكانت هذه أول مرة أصادف قوما يعتقدون ما أعتقد بتفاصيله ودقائقه ، فكان تجاوبا عجيبا ، ولكن تجربتي أسابقه فى جمعيات رشيد التي أشرت إليها قبلا ، أفقدتني الثقة فى الذين يدعون العمل للإسلام .
كان إسماعيل يقابلني فى الكلية كل صباح ، ويقص على ما سمع وما رأى فى ليلته الماضية وأناقشه ويناقشني ، ويخرج فى كل مرة برأي معين ونقيم لكل ما رأى وكل ما سمع .. حتى طاف بجميع الأحزاب والهيئات ولم أراه شعر برضا عن أي منها .. فوجهته إلى جمعيات إسلامية كانت موجودة ومشهورة منها جمعية مكارم الأخلاق والجمعية الشرعية وجمعية أنصار السنة ؛ فطاف بها جميعا ولم يخرج منها بشئ يرضى شغفه ويملأ فراغ نفسه ، وأحسست منه ضجرا مما قد يسلم إلى اليأس . ونذكر المجلة التي أشرت إليها آنفا فقرات عنوان الدار التي تصدرها وقلت له : لم يبقى فى جعبتي إلا جمعية واحدة قرأت عن مبادئها فأعجبتني وملأت نفسي لكن عندي سوء ظن بالناس الذي يعملون بالجمعيات الإسلامية نتيجة تجربة لي سابقة فسأعطيك عنوان هذه الجمعية لتذهب إليها لا لتناقش مبادئها وأفكارها بل لتراقب لي العاملين بها لاسيما رئيسها .. ولقد كنت تقضى فى كل حزب أو هيئة ثلاث ليال أو أربع لكنى أريد أن تقضى فى هذه الجمعية فترة طويلة لا تقل عن الشهر لأن مراقبة العاملين تستغرق وقتا طويلا ..
ذهب إسماعيل إلى هذه الجمعية فى العنوان الذي كتبته له وهو 13 شارع الناصرية بالسيدة زينب وكان كل صباح يقص على ما رأى وما سمع وما لفت نظره ، وكان يمكث بالجمعية كل ليلة حتى تغلق أبوابها . أخبرني عن رئيسها ووصفه لي فتذكرت الرجل الذي زرته وصديقي جمال فى حارة الروم ووجدت أوصافه حين وصفه إسماعيل تنطبق عليه تماما .
بعد انقضاء الشهر شعرت بأنني أصبحت مقتنعا بالعاملين فى هذه الجمعية كما شعرت بان إسماعيل يبادلني نفس الشعور ، وقد قررت بمحض اختياره أنه يركن مطمئنا إلى الجمعية . وقد زكيت اختياره وقلت له إذن فاذهب الليلة إليهم وحرر طلب التحاق بها ، وواظب على اجتماعاتها فقال لي : إنا وحدي ؟ .. قلت : نعم أنت وحدك . قال ولم لا تكون أنت قبلي وأنت أحق منى وانفع ؟ . قلت : إن لي ارتباطات مع هؤلاء القوم ، والحركة السياسية الآن على أشدها ، ولا استطيع أن أنسلخ والحالة هذه فيقال أنى جبنت . فذهب إسماعيل والتحق .
كنا نحن - الطلبة الوافدين -نعد العدة للقيام بمظاهرات ضد القصر والحكومة القائمة - وزارة أحمد نسيم - ومن ورائهما الإنجليز . فكنا نجمع الطلبة فى النادي السعدي ونشحنهم بأفكارنا وبالخطب التي كان يلقيها النحاس باشا وبعض لكبار أعضاء الوفد .. وكان السكرتير العام للوفد مكرم عبيد يحضر إلى الجامعة ويخطب فيها ويحمله الطلبة على أكتافهم هاتفين - وصحف الوفد فى نفس الوقت تشعل الحماس بمقالات ما تهبه ... كل ذلك هيا الظروف لقيام مظاهرة ضخمة ضمت عدة آلاف من طلبة الجامعة وسميت هذه المظاهرة فيما بعد بمظاهرة كوبري عباس .
مظاهرة كوبري عباس 1936
لاشك فى أن مظاهرة كوبري عباس هذه كانت الخط الفاصل فى حياتي ، كما أنها أيضا كانت حركة تاريخية جعلت الطلبة والأهالي على بينة من أن الإنجليز أعداء الداء ، فقد خرج طلبة الجامعة المصرية من كلياتهم بالجيزة فى مظاهرة سليمة لا تمتد يدها إلى تخريب أو عنف ، وإنما كانت تهتف هتافات موحدة بسقوط وزير بريطاني اسمه صمويل هور لأنه هو الذي أوحى بإلغاء دستور سنة 1923 ، ويطالبون فى هتافهم بإرجاع هذا الدستور ، كما يهتفون بسقوط حكومة نسيم .
وقد سارت المظاهرة فى سلام من حرم الجامعة مخترقة شارع المدارس ثم ميدان الجيزة ثم اتجهت إلى الشارع المؤدى إلى كوبري عباس الذي يصل القاهرة بالجيزة ، ودخلت الجموع كوبري عباس حتى إذا صارت فى منتصفه إذ بالكوبري يفتح فجأة فيقسم المظاهرة قسمين ، قسم كان قد عبر الجزء المفتوح وأصبح فى الجزء المؤدى إلى الروضة وقسم حال فتح الكوبري بينه وبين مواصلة السير للحاق بزملائه فكان عليه أن يرجع أدراجه إلى الجيزة .
حاول هذا الجزء الرجوع فإذا به يجد نفسه محاضرا بقوات تطلق العيارات النارية ، وحاول الجزء الآخر مغادرة الكوبري إلى الروضة فإذا به يجد نفسه محاصرا بقوات عند نهاية الكوبري تطلق العيارات النارية . والذي دبر هذه المؤامرة الغادرة ضباط إنجليز على رأسهم حكمدار القاهرة الإنجليزي (( رسل باشا )) رأيناهم بأعيننا يصدرون الأوامر إلى جنودنا المغلوبين على أمرهم بضربنا بالرصاص .
كان الرصاص يملأ الأرض والجو ويطلق فى كل اتجاه وامتلأت الأرض بالمصابين ، ولم يكن أمام الطلبة العزل المساكين إلا أن يجروا فى كل اتجاه باحثين عن مهرب من هذا المطر المنهمر من الرصاص كأنما هي حرب بين بلدين غدرت أحداهما بالأخرى بينما كانا على مائدة الصلح ، فإحداهما عزلا حتى من عصا في يدها والأخرى كانت تخفى ثيابها أفتك السلاح ... غدر لا مثيل له .
استطعت بعد الخوض بين جثث الزملاء الملقاة على الأرض أن أغادر الكوبري وانزل تحته حيث الأحراش والطين ، ومع ذلك لم نسلم من الطلقات فقد تابعونا بالرصاص أيضا .. ووقفت لحظة مع بعض الزملاء ودوى الرصاص يصم آذاننا ، وهنا تمثلت أمامي صورة لي وأصبت وتضرجت فى دمائي وقابلت ربى .. فماذا أقول له حين يسألني فى سبيل ماذا قلت ؟ سأقول له فى سبيل دستور 1923 ... هل دستور 1923 هو الدستور الذي انزله الله ليحكم هذا العالم ؟ هل هو الدستور الذي قال الله تعالى فى شانه (( ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون )) .
هنا ، وتحت كوبري عباس ، وتحت وابل الرصاص ... وشبح الموت يطاردنا فى كل مكان ... فى تلك اللحظة قررت إن كتبت لي الحياة لأصححن اتجاهي . ولتكونن حياتي كلها لله وحده ، ولاختطن لنفسي الخط الذي أراد الله للناس أن يسلكوه إليه ، وأن تكون جهودي جميعا فى سبيل إقامة الدولة الإسلامية التي لا يرضى الله بغيرها بديلا (( قل إن صلاتي ونسكى ومحياي ومماتي لله رب العالمين . لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين )) .
قتل من زملائنا الطلبة فى هذه المظاهرة طالبان هما (( عبد المجيد مرسى )) و ((عبد الحكيم الجراحي))رحمهما الله رحمة واسعة وكان الأول من طلبة كلية الزراعة والأخر من طلبة كلية الآداب ...أما نحن الذين نزلنا تحت الكوبري فقد واصلنا السير تحته نخوض فى الطين والأحراش حتى خرجنا مقابل مبنى الجامعة .
فى الطريق إلى المركز العام
كان أول شئ فعلته أن طلبت إلى إسماعيل الخبيرى أن يصحبنى معه إلى دار المركز العام للإخوان المسلمين ، ولكنه اقترح على أن نخصص هذا اليوم لزيارة طالب من أهل الفيوم ومن الإخوان المسلمين ويقيم فى شارع المنيل القريب من الجيزة وسألته عن أسمه فقال اسمه عبد الحكيم عدوى عابدين وهو طالب فى كلية الآداب وهو أقدم منا عهدا بالقاهرة فهو فى السنة الثانية .
فلما التقيت بهذا الطالب فى مسكنه وجدتني أمام أديب شاعر متصوف ، وما كاد يحس منى تذوقا لهذه الألوان نفسها حتى أقبل على كأنما عثر على ضالته فأخذ ينشدني من شعره ويقص على من أنباء شيخه الشيخ سلامه الراضي شيخ الطريقة التي ينتسب إليها ، وهى طريقة صوفية تربى أتباعها بأسلوب فريد ، فهم يجتمعون ليلا فى مكان خل بعيد عن الحركة والضوضاء ، ويتخذ كل منهم مكانا منفردا بعيد عن زملائه ، وتطفأ الأنوار ، ويغمض كل منهم عينيه ، ويتابع بمخيلته حياته منذ ولد حتى يموت ثم يدفن ثم يحاسب فى قبره ويسال عن ذنوبه ويوقع عليه عقاب هذه الذنوب ، ثم يرى مكانه فى النار ثم يتعرض لفتن القبر ثم يبعث ثم يرى الموقف العظيم وفى أثناء هذا الاستغراق تنبعث الآهات وتعلو الاستغاثات حيث يصل الاستغراق إلى حد غياب المريد عن وعيه .
وقد كانت هذه أول مرة - مع سابق أختلاطى بكثير من المتصوفين - أسمع فيها عن هذه الطريقة عن أسلوبها فى التربية ، وهو أسلوب ولاشك فريد وعنيف ، وقد يمحص الفرد ويزكى النفس ويسمو بها فى ليلة واحدة وفى جلسة واحدة مالا يفعله فى أشهر الوعظ الكلامي الذي هو المتبع في الوزع والتربية .
وقد أنشدني عبد الحكيم قصيدة له تربو على مائه بيت نظم فيها الأسلوب التربوي بجميع أطواره ، وجعل الحديث فيها على لسان أحد المريدين فهو يغمض عينيه فى الظلام ويتابع حياته بأطوارها ويصف كل ما كان منه وما كان له فى كل طور حتى يصل إلى الحقيقة وهى الموت والحشر والحساب . كما أنشدني عبد الحكيم قصائد له أخرى فى مختلف الأغراض لكن أكثرها كان يدور حول هذه المعاني الصوفية العميقة الغور التي لا حسن التعبير عنها إلا من لابسها وتذوقها .
- إلى دار المركز العام :
قلت لإسماعيل فى اليوم التالي سأذهب معك إلى دار الإخوان ولكن لا عرفني برئيسهم ولا بأحد منهم كما لا نعرف أحدا منهم بي فإني أحب أن أراقبهم دون أن يعرفوا.. ونفذ إسماعيل .. فقد دخلنا دارا عتيقة فى شارع الناصرية بالسيدة زينب ، والدار مكونة من أربع غرف وصالة صغيرة ، وكانت الدار هي الدور الأراضي من أحد المنازل المتهالكة .. وكانت ميزتها الوحيدة أن أمامها فناء فسيحا غير مسقوف يصلح لإقامة الحفلات وإلقاء الحفلات وإلقاء المحاضرات .
كان الرئيس هو الأستاذ حسن البنا الذي قابلته مع صديقي جمال ، ولم تكن اللافتة الموضوعة على باب حجرة مكتبه بهذه الدار مكتوبا عليها كما هو متعارف كلمة (( الرئيس )) بل كان المكتوب عليها كلمة (( المرشد العام )) .. وكان الموجودون مجموعة من الشباب أكثرهم من طلبة الجامعة وقليل منهم من صغار الموظفين .. ولمست روح المحبة والود تسود كل من فى الدار حتى العلاقة بينهم وبين المرشد العام كانت علاقة محبة وود ... نعم إنهم يحترمونه ويوقرونه ولكن توقيرا نابعا من حب ، أما هو فيتعامل معهم كأنه واحد منهم ... ثم إنك لا تسمع حديثا داخل الدار إلا عن الإسلام وما يتصل به وما يدور حوله ، وليس معنى ذلك أنهم يتناقشون فى أمور الفقه وأحكام العبادات كما يتبادر إلى الذهن ، وإنما يدور حديثهم حول قضايا الساعة ، الاجتماعي منها والاقتصادي والسياسي ويقيسونها بمقاييس الإسلام . وتحس حين تراهم وتسمعهم وتراقب حركاتهم وسكناتهم أنهم يهيئون أنفسهم ليسدوا فراغا فى هذه الأمة طالما ظل شاغرا نتيجة للجهل ولتدابير المستعمرين ولقهر الظالمين .. فترى الشاب منهم مشتعلا بالفكرة الإسلامية باعتبارها الفكرة الوحيدة لإنقاذ العالم مما يعانيه فى مختلف نواحي الحياة .
فإذا حان موعد الصلاة قام أحدهم فأذن على باب الدار ، ورأيت باب حجرة المشد العام قد فتح ودلف المرشد ليؤم الجميع لا تخلف منهم أحد منهم احد . وتشعر حين تنتظم معهم فى الصف أنك لست فى صلاة وحسب بل تشعر مرة أنك فى ميدان القتال وتشعر أخرى أنك تدرس على المستوى العالمي طبائع النفوس وأنواعها وعلاج كل نوع منها ... وتخرج من الصلاة وقد تجددت قلبا ونفسا وعقلا وبدنا .
أما عدد رواد الدار فكان قليلا بحيث لا عد فى ليلة من ليالي الأسبوع أكثر من عشرين فردا لكن طابع الجد كان يبدو فى وجوههم جميعا كأن الواحد منهم يحمل مسئولية أمة كاملة ، مع أن أكثرهم لم يكن مسئولا حتى عن نفسه ، لأنهم كانوا طلبة أو من هم فى مستوى الطلبة وقد أقنعني هذا الطابع الذي أبرز شئ فيهم وفى رئيسهم بأن هذه الهيئة هي بغيتي وأمنيتي .
- نظام الدار :
كانت هناك أربعة أيام فى الأسبوع ينتظم فيها الإخوان لسماع دروس : ثلاثة منها تلقى فى مسجد الدار ، والرابع محاضرة عامة تصف لها الكراسي و(( الدكك)) فى فناء الدار ويدعى إليها الجمهور فدرس فى التصوف يلقيه رجل كبير السن يدعى (( حامد بك عبد الرحمن )) كان مفتشا للري وأحيل إلى المعاش ، وكلن درسه فى شرح حكم بن عطاء الله السكندري ، وقد أفدت من هذا الدرس حيث صادفت الحكم التي كان يشرحها حامد بك عندما حضرت له صراعا نفسيا كان يهزني هزا فكأنما كان يخاطبني بتلك الحكم .
ودرس فى تفسير القرآن الكريم يلقيه حكيم الإسلام الأستاذ الشيخ طنطاوي جوهري . وكان يفسر القرآن بالعلوم الحديثة ، وهو لون لم يكن مألوفا فى ذلك الوقت ، وكان الرجل بارعا فى التفسير وفى الإقناع حيث كان على قدم راسخة وفى التفسير وفى العلوم الكونية معا .
والدرس الثالث درس التكوين . وهو درس لا تستطيع أن تسميه درس تفسير ولا درس تصوف ولا درس تاريخ ولا درس أخلاق ولا درس سياسة ولا ترس أدب وإنما هو جامع لذلك كله ويجمع إلى السهل الإحاطة بها لأن كل هذه العلوم والفنون كانت تقدم إلى السامعين ممزوجة يذوب النفس وعصارة القلب ومهجة الفؤاد ، وهو ما يجعل مزدج هذه العلوم والفنون قادرا على صهر النفوس وصياغتها من جديد .
وكان يلقى هذا الدرس المرشد العام ، ومع أن الدرسين السابقين لم يكن يواظب عليهما إلا سبعة أشخاص أو ثمانية كنت أحدهم فإن درس التكوين لم يكن يتخلف عن حضوره أحد من الإخوان . لأنه طراز لا عهد لأحد بمثله أما المحاضرة العامة فبالرغم من المجهود الذي كان يبذله الإخوان فى الإعداد لها وفى دعوة الناس من الشوارع المجاورة لحضورها فإن معظم المقاعد خالية مع أن الذي كان يلقيها فى أكثر الأحيان هو المرشد العام ، ولا يتخلف إلا لعذر فإذا تخلف قام شقيقه (( عبد الرحمن الساعاتي )) بإلقائها .
وعبد الرحمن الساعاتي خطيب مطبوع مفوه تحس حين تسمعه أنك أمام عقبة بن نافع ممتطيا صهوة جوداه بعد فتح الشمال الإفريقي حتى وصل إلى شاطئه ويقول (( لو علمت أن وراءك أرضا لخضتك إليها غازيا فى سبيل الله )) كانت خطب عبد الرحمن الساعاتي خطبا تحرك القلوب وتذكر بالأمجاد وتسيل العبرات ... وإذ ذكرت عبد الرحمن الساعاتي وخطبه الرنانة فتحضرني شخصية شاعر عربي عظيم هو (( محمود غنيم )) الذي يعتبر بلبل الإسلام الصداح والذي كانت قصائده التي تنشر فى مجلة الرسالة فى المناسبات الإسلامية أنشودة يتغنى بها الأدباء ويقتبس منها الخطباء ويحفظها النابهون من الشباب ، وكان (( عبد الرحمن الساعاتي )) كثيرا ما يحلى خطبه بأبيات من قصيدة عامرة لمحمود غنيم ، رأيت أن أنقلها هنا لروعتها ولتعبيرها أدق تعبير عن فكرة الإخوان المسلمين ، وقد نشرت بمجلة الرسالة فى العدد الخاص بالهجرة فى سنة 1936 :
إني تذكرت والذكـرى مؤقـتة
- مـجدا تلـيدا بأيدينا أضـعناه
أنى اتجهت إلى الإسلام فى بلد
- تجده كالطير مقـصوصا جناحاه
وريح العروبة كان الكون مسرحها
- فأصـبحت تتـوارى في زواياه
كم صرفـتنا يد كنا نصـرفهـا
- وبات يمـكنا شـعب مـلكـناه
كم بالعراق وكم بالهند ذو شجن
- شـكا فرددت الأهـرام شـكواه
هي الحقيقة عين الله تـكلؤهـا
- فكـلما حاولـوا تشويهها شاهوا
هل تطلبون من المختار معجزة
- يكـفيه شعب من الأحداث أحياه
من وحد العرب حتى كان واترهم
- إذا رأى ولد المـوتـور أخـاه
وكيف كانوا يدا فى الحرب واحدة
- من خاضـها بـاع دنياه بأخراه
وكيف ساس رعاة الإبل مـملكة
- ماساسها قيصر من قبل أو شـاه
وكيـف كان لـهم علم وفلـسفة
- وكيف كانت لـهم سـفن وأمواه
المسـاواة لا عـرب ولا عـجم
- مالا مـرئ شـرف إلا بـتقواه
وقررت مبدأ الشورى حكومـتهم
- فليـس للفـرد فيـها ما تمـناه
ورحب الناس بالإسلام حين رأوا
- أن السـلام و أن الـعدل مغزاه
يا من رأى عمرا تكـسوه بردته
- والزيت أدم له والكـوخ مـأواه
يهتز كسـرى على كرسيه فرقا
- من بأسه وملوك الأرض تخشـاه
سـل المـعالي عنا إننا عـرب
- شـعارنا المـجد يـهوانا ونهواه
هي العروبة لفظ إن نطقت بـه
- فالشرق والضاد والإسلام مـعناه
استرشد الغرب بالماضي فأرشده
- ونـحن كان لـنا مـاض نسيناه
إنا مشينا وراء الغرب نقبس من
- ضـيائه فأصـابتـنا شـظايـاه
بالله سل خلف بحر الروم عن عرب
- بالأمس كانوا هنا ما بالهم تاهـوا
أين الرشيد وقد طاف الغمام به
- فحـين جـاوز بـغدادا تـحـداه
ملك كملك بني التاميز ما غربت
- شـمس عليـه ولا برق تـخطـاه
ماض نعيش على أنقاضه أمـما
- ونستـمد القوى من وحـى ذكـراه
إني لأعتـبر الإسلام جامـعة
- للشـرق لا مـحض دين سـنة الله
أرواحنا تـتلاقى فيه خافـقـة
- كالنـحل إذ يـتلاقى في خـلايـاه
دستوره الوحي والمختار عاهله
- والمسـلمون وان شـتوا رعـايـاه
لا هم قد أصبحت أهواءنا شيعا
- فامـنن علينا براع أنت تـرضـاه
راع يعيد إلى الإسلام سـيرته
- يرعى بنـيه وعـين الله تـرعـاه
- مجلة الإخوان وشعبهم :
كان للإخوان في ذلك الوقت مجللة أسبوعية هي بنفسها التي كنت أشتريها عقب صلاة الجمعة بمسجد الرفاعى والتي على غلافها صورة الكرة الأرضية مركزوا عليها علم يمسك به قبضتا يدين كتب تحتها (( إنما المؤمنون إخوة )) ..
ولم يكن هناك في ذلك الوقت فروع للمركز العام فى القاهرة ولا في الإسكندرية ولا الصعيد وإنما كانت فروعه فى الإسماعيلية وما حولها وفى بعض بلاد الشرقية والدقهلية وفى المحمودية . وكان بعض أهالي هذه البلاد من الإخوان يحضرون إلى القاهرة لزيارة المرشد العام كما كان المرشد العام يسافر لزيارتهم .
وكانت هناك شعبة فى شبراخيت وأخرى فى كفر الدوار ؛ إلا أن هاتين الشعبتين لم نكونا إلا رجلين أثنين ؛ فى الأولى الشيخ حامد عسكرية وكان واعظ شبراخيت ، وفى الأخرى الشيخ أحمد عبد الحميد وكان من العلماء الأجلاء وكان مشتغلا بالزراعة . كما كان هناك أفراد آخرون كانوا يعاملون باعتبارهم شعبا فى بلادهم منهم الأستاذ عمر عبد الفتاح التلمساني المحامى بشبين القناطر والأستاذ محمد عزت حسن معاون سلخانة طوخ .
- من هم أعضاء المركز العام ؟ :
قدمت أن أعضاء المركز العام الذين لا يكادون يعدون الأربعين كانوا بين طلبة وصغار موظفين . ولكن من هم هؤلاء الطلبة وهؤلاء الموظفون وكيف وصلوا إلى هذا المركز العام المغمور وسط أحشاء القاهرة لا يكاد يعرفه جيرانه الملتصقون به ؟!! .
لقد استنتجت الإجابة على هذا السؤال لأنني كنت حريصا على تحليل كل ما أراه في هذا المركز العام لاسيما ما يتصل بالأشخاص ... المركز العام ، في حي السيدة زينب ... وتستطيع أن تقوا إن أرباع هؤلاء الموظفين والطلبة هم من حي السيدة زينب ، وأكثر هؤلاء من شارع واحد هو شارع زين العابدين الذي كان يسكن فيه فى ذلك الوقت الشيخ طنطاوي جوهري ، والشيخ طنطاوي من أوائل من تعرف على الأستاذ المرشد العام ونجله جمال كان أحد هؤلاء الطلبة وكان طالبا بكلية الهندسة ، وجمال الفندى وكان طالبا بكلية العلوم ومختار إسماعيل وكان مدرسا للرياضة البدنية ، كما كان من سكان الحي الطلبة جمال عامر بكلية العلوم وطاهر عبد المحسن ومحمود أبو السعود ورشاد سلام بكلية التجارة ومحمد سليمان وإبراهيم أبو النجا بكلية الطب ومحمد عبد الحميد أحمد وعبد المحسن الحسيني وأحمد عبد العزيز جلال بكلية الآداب وحسن السيد عثمان ومحمد فهمي أبو غدير بكلية الحقوق . وكان من الموظفين الأستاذ محمد حلمي نور الدين وكان كاتبا فى مصلحة الري والأستاذ اسعد الحكيم وهو شقيق زوجة الأستاذ عبد الرحمن الساعاتي وكانا موظفين معا فى السكة الحديد والأستاذ حسين بدر فى السكة الحديد أيضا والأستاذ أسعد راجح وكان سكرتير لمدير إنجليزي والأستاذ محمد حمص وكل هؤلاء سكان الحي .
وكان من طلبة الأزهر الشيخ أحمد حسن الباقوري وكان فى التخصص وآل شريت وهى أسرة كريمة من أسرة قرية ريفا بأسيوط كان والدهم أستاذ بالأزهر وكان من أسبق الناس إلى الدعوة ومبايعة المرشد العام وكان أبناؤه جميعا وأبناء عمومتهم من أخلص الإخوان منهم الشيخ أحمد شريت والشيخ محمود شريت والشيخ حامد شريت وكلهم تخرجوا فى الأزهر أو دار العلوم وابن عمهم الأستاذ فتحي شريت الذي كان موظفا بالسكة الحديد على ما أذكر ... ومن الأزهر الشيخ عبدا لبارى عمر خطاب وكان طالبا بالمعهد والشيخ عبد اللطيف الشعشاعى وكان طالبا بكلية أصول الدين والشيخ أحمد الشرقاوي وكان طالبا بمعهد القراءات وقد أفدت منه الكثير فى قراءة القرآن وكل هؤلاء كانوا من حي السيدة زينب أو مما يجاورها . فإذا أحصيت بعد ذلك الأعضاء من غير الحي والقريبين منه لم نجدهم يعدون العشرة منهم إسماعيل خيري وأنا وعبد الحكيم عابدين وثلة آخرون .
- الزعابدة :
أشرت من قبل إلى أن أمارات الجد كانت مرتسمة على وجوه رواد الدار ؛ وكانت دروس التكوين التي يلقيها المرشد العام نذكى فى نفوسهم شعلة الجد ، فكان مجرد التحدث فيما سوى الدعوة يعد شيئا غريبا ، فإذا وصل الأمر إلى الضحك وان كان بريئا فقد يعد جريمة .. وكانت مجموعة من سكان شارع زين العابدين تميل إلى شئ من الضحك أو التهريج المحدود البرئ ، فكانت مجموعتنا الأخرى نعتبر ذلك استهتار لا يليق برجال الدعوة ونوجه إليه اللوم والتقريع وظل الأمر على ذلك حتى وجدنا أنفسنا نحن رواد الدار قسمين ؛ قسم يبالغ فى الجد وقسم لا يتخلف عن أداء حق الدعوة ولكنه يميل إلى الدعاية هو فريق من سكان زين العابدين ، وأطلق الأخ محمد عبد الحميد أحمد وكان طالبا من الحكماء لفظ (( الزعابدة)) على هذه المجموعة واتسع بعد ذلك مدلول هذا اللفظ حتى صرنا نطلقه على الهرجين أينما كانوا .
- شخصيات أخرى :
ومن الشخصيات الأخرى التي كانت تتردد على الدار وكانت تلفت النظر الشيخ محمد زكى إبراهيم وكان مدرسا أديبا خطيبا شاعرا متصوفا ، وكان ممن يفهمون الإسلام فهما صحيحا وكان يشتعل حماسا للفكرة الإسلامية وممن يحسنون فهم الجو الاجتماعي والسياسي فى مصر وفى العالم الإسلامي ، ولا أدرى لم يبرز اسم هذا الرجل بين شعراء مصر مع انه كان شاعرا مطبوعا ؛ ولعل السبب فى ذلك أن النزعة الصوفية غلبت عليه ... فقد لاحظت أن الرجل كان ملازما للأستاذ المرشد طيلة المدة التي كانت فيها الدعوة مغمورة لا يعرفها إلا الأقلون ، فلما برزت الدعوة وأمها الكثيرون أخذ هذا الرجل فى الابتعاد حتى اختفى اختفاء تاما ... ثم قرأت أخيرا فى أيامنا هذه أنه ألف جماعة سماها (( العشيرة المحمدية)) ولا اعتقد إلا أن هذه العشيرة تقوم على الفكرة الإسلامية الصحيحة التي كان هذا الرجل من أوائل معتنقيها والعاملين لها والمعاهدين عليها .
وقد أدركت لأول عهدا بهذه الدار شخصيتين كانتا متفرغتين للعمل بالدار هما الأستاذ حمدي الجريسى وكان معروفا انه سكرتير المرشد العام والأستاذ محمد طاهر العربي وكان أتصله بالأستاذ المرشد العام يكلفه بأعمال للدعوة خارج الدار ؛ وقد لاحظت أنهما انقطعا عن الدار انقطاعا فجائيا وتاما مما أثار دهشتنا .
ثم (( محمود هبة الله )) الطالب الأزهري الذي انقطع عن الدراسة وأشتغل بالزراعة فى بلدة (( جنبواى )) مركز إيتاي البارود فكان يقضى أكثر أيامه فى المركز العام يلهب المشاعر بحماسه البالغ وعصاه الغليظة وجسمه الفارع صوته الجهوري وهو نجل (( الشيخ الجنبيهى )) من كبار علماء الأزهر الذين آمنوا بالدعوة وبايعوا عليها لأول عهدها بالقاهرة ... وقد عاش محمود هذا ما عاش لدعوته فلما مرض واشتد عليه المرض وأحس باقتراب اجله أبى إلا إن يموت بين إخوته فطلب من أهله نقله إلى دمنهور حيث كنت أسكن ، وظل بين أيدينا حتى لفظ أنفاسه الأخيرة وهو يردد شعار دعوته ويسال الله أن يبعثه عليها رحمه الله رحمة واسعة وغفر الله لنا وله وأوسع له فى رضوانه وألحقنا به فى مستقر رحمته .
وبعد أن أنقطع عن الدار الأستاذان حمدي الجريسى وطاهر العربي ، أحضر الأستاذ المرشد رجلا مسنا صالحا هو الأستاذ أحمد الحسيني وكان يبدو عليه ضعف البصر حيث تغطى عينيه نظارة سميكة العوينات ، وكنت أحب أن أجالس هذا الرجل ، لأنني اعتقد أن الأستاذ المرشد لا يأتي إلى الدار بمثل هذا الرجل المسن إلا إذا كان لهذا الرجل تاريخ ... وكان الرجل يأنس للحديث معي ... وقد تبين لي أن هذا الرجل من الأدباء الذين أفنوا أعمارهم وكادوا يفقدون بصرهم بين مراجع اللغة ومجلدات الأدب ودواوين الشراء حيث كانوا يدرسون الأدب لذاته لا ليتكسبوا من ورائه ، وبعد أن تضلعوا من مناهل الأدب ، وجدوا أنفسهم على قارعة الطريق لا يكادون يجدون قوت يومهم ... فتلقفتهم أيدي بغاة الشهرة من السراة ؛ يستغلونهم أسوأ استغلال ، حيث يجمع لهم الأدباء ما حصلوه من دور الأدب فيأخذه السراة ويصدرون به كتبا تحمل أسماءهم زورا وبهتانا ملقين لهؤلاء الأدباء بدريهمات لا تكاد تقيم أودهم كما يلقون بفتات موائدهم إلى القطط والكلاب التي يقتنونها ، وصدق الله العظيم (( لا تحسبن الذين يفرحون بما أتوا ويحبون أن يحمدوا بما لم يفعلوا فلا تحسبنهم بمفازة من العذاب ولهم عذاب اليم )) (آل عمران) .
وقد تكشف لي هذا الأمر عندما ظهر كتاب فى الأدب لكاتب شهير من (( بكوات )) الكتاب فاشتريته ، فلما رآه معي الأستاذ احمد الحسيني قص على قصة هذا الكتاب وكيف كان هو ومجموعة من أمثاله من الأدباء المغمورين يستحضرهم هذا ((البك)) ويعد لهم مكانا فى (( بدروم )) قصره ليجمعوا له مواد هذا الكتاب ، وعين لي الأستاذ أحمد الأبواب من هذا الكتاب التي كانت ثمرة جهده...
ومع أن هذا الرجل كان موظفا بالدار فإنه كان من المؤمنين بالدعوة أعمق الإيمان ؛ ويخيل إلى أن الأستاذ المرشد كان شديد الرفق به فلا يكلفه إلا مالا يشق عليه ولعل مهمته كانت قراءة الوفيات المنشورة فى الصحف ليؤدى الأستاذ المرشد العزاء لها .
ومن هذه الشخصيات أيضا الأستاذ أحمد السراوى وهو شخصية ذات ماض فى الحركات الوطنية كنت تجلس إليه فيأخذ حديثه بلبك فإذا رأيت تصرفاته مع الأستاذ المرشد دهشت وأخذ منك العجب كل مأخذ ... ويبدو أنه كان ذا معرفة بالأستاذ بالمرشدين قديم .. وكان إذا جلس إلى الأستاذ المرشد تحس أنه موضع عطفه ... وكان الأستاذ يحدثنا عن غريبا أطواره ... وكانت أخر تجربة للأستاذ المرشد معه - وكنا عليها شهودا - يوم جاء إلى الأستاذ يكاد يبكى لسوء الحال ، فاستأجر له الأستاذ محلا واشترى له مطبعه وورقا ، وحرر بثمن ذلك كله كمبيالات بضمانة الأستاذ المرشد ، واختار له كتابا يعيد طبعه على ورق مصقول أبيض هو كتاب ((إحياء علوم الدين )) ... وأخرج السراوى عدة أجزاء منه وأقبل الناس على شرائه إقبالا منقطع النظير بالسعر الذي حدده هو طبعا ؛ ومعنى هذا أنه حقق ربحا .. إلا أننا فوجئنا بتوقف صدور الكتاب واختفاء السراوى مما اضطر الأستاذ المرشد إلى تسديد ثمن كل هذه الأشياء من جيبه الخاص .
وهذه التجربة وإن عادت على الأستاذ المرشد بخسارة مادية إلا أنها لم تكن فجيعة له ولا مفاجأة فانه كان يتوقع من الأستاذ السراوى مثل هذا التصرف ؛ وكان من طبيعة الأستاذ المرشد أن علمه بحقيقة شخص لا يمنعه من محاولة استغلال بعض مزاياه للدعوة ؛ فالأستاذ من أول يوم قام فيه بالدعوة كان يعلم أن المطبعة من أهم وألزم وسائل الدعوات ، وكان يتمنى أن نتاح له فرصة يستطيع فيها اقتناء مطبعة ، فلما لم تتح له هذه الفرصة حيث لم يكن فى الإخوان فى ذلك الوقت من يستطيع التفرغ لهذا العمل ، انتهز فرصة افتقار السراوى إلى عمل يكتسب منه ، ففعل ما فعل وكان هدفه من ذلك أن يشعر أن هذا المشروع ممكن التحقيق فاختار لذلك المحل قريبا من المركز العام وجعل ربح المشروع كله لجيب السراوى مكتفيا بالاطمئنان على أنه مشروع ناجح ، وبطبع كتاب ينتفع به كثير من الناس وهو يعده أكبر موسوعة إسلامية ... وقد تحقق للأستاذ المرشد ما أراد من هذه التجربة فلما حدث من الأستاذ السراوى ما كان يتوقعه منه لم يفرط الأستاذ فى أدوات الطباعة إلا بالقدر الذي عجز عن سداد ثمنه فاستبقى منها اكبر قدر يمكن استبقاؤه حيث أبقى على الحروف التي سدت ثغرة كبيرة حين انتقلت الدعوة إلى دار العتبة مما سنشير إليه إن شاء الله فى حينه ... ولم تبرح فكرة المطبعة خاطر الأستاذ المرشد لحظة من ليل أو نهار على أنها أولى الوسائل المكملة لبناء الدعوة حتى حققها أخيرا فيما بعد على صورة أكبر من هذه وكان ينوى تطويرها لتكون أعظم مطبعة فى الشرق لان الذين يملكون الكلمة المطبوعة يملكون توجيه العقول والأفكار ، ولكن الظروف السياسية طغت موجتها فجرفت المشروع فيما جرفت .
- المهمات المنوطة بالمرشد العام :
كان مجهود المرشد العام موزعا على عدة نواح أهمها : مهنته التي يكتسب منها عيشه ، وإدارة شئونه الخاصة من رعاية منزل وأسرة وأولاد ثم الدعوة ..
أما مهنته ؛حيث كان مدرسا بمدرسة عباس الابتدائية بالسبتية ، فكان لها وقت محدد - كطبيعة العمل - لم يكن ينتقص منه لحظة بل كان يؤديه كله بأمانة .. ولم يؤثر عنه أنه تأخر يوما عن ميعاد أو أهمل فى أداء عمل أو قصر عن المثل الأعلى للمدرس . بل إنه كان يرى فى عمله لذة ويحس فيه سعادة لأنه كان يعتقد أنه إنما خلقه الله ليكون مربيا ، وقد أهله لذلك تأهيلا كاملا ؛ فكان يرى فى المدرسة حقل تجارب لنظريات التربية القديمة والحديثة ولنظريات تربية وصل إليها بفكره الخاص ؛ حيث تضم المدرسة التلاميذ والمعلمين والفراشين وهم من مختلف البيئات والمشارب والعقليات والظروف والأعمار .
كان مما حدثني به فيما يتصل بذلك ؛ أنه كان عليه فى فترة من الفترات أن يراقب التلاميذ فى أثناء (( الفسحة )) وكان الأستاذ (( تقلا بك )) - أول مراقب مسيحي عين هذا المنصب فى وزارة المعارف - قد حضر إلى المدرسة فى ذلك اليوم ... وكان رجال الوزارة يحرصون على التعرف بالأستاذ المرشد يعلم أن التعليمات المبنية على نظريات التربية الحديثة تمنع الضرب فى المدارس لكنه أمسك بمسطرة باعتبارها عصا فى يده وتعمد إبرازها أمام المراقب حتى يسأله فى ذلك ؛ وكان أن سأله فعلا فشرح له شرحا أثبت خطأ هذه التعليمات وأن تربية التلاميذ فى هذا السن لابد أن يكون الضرب غير المبرح من وسائلها على أن يكون بقيود معينة حيث هناك من الطباع مالا يقوم بغير العصا .
وحسبك دليلا على نجاح سياسته فى هذه المدرسة أن تعلم أنه كان موضع حب جميع التلاميذ والمدرسين والناظر والفراشين واحترامهم ، وأنهم جميعا أحبوا دعوته لحبهم لشخصه ، وكان الجميع يتمنون أن يكونوا فى خدمته ليوفروا له الوقت للقيام بأعباء الدعوة ، لكنه كان حريصا على أن يقوم هو بنفسه بعمله المدرسي كاملا وأن لا يكلف أحدا بحمل أي عبء عنه .
ولقد كنا نحتاج إليه فى أمر هام يخص الدعوة فى وقت يكون هو فيه فى المدرسة فنتصل بالمدرسة تليفونيا أو نذهب إلى المدرسة لمقابلته وفى كلتا الحالتين - إذا كان طلبنا إياه قد صادف وجوده فى حصة من الحصص - كان يقول لمن ذهب ليبلغه بوجودنا لمقابلته أو يبلغه أننا نطلبه على التليفون : قل لهم إنه فى الحصة ولا يستطيع مغادرة الفصل حتى تنتهي الحصة فنضطر إلى الانتظار حتى تنتهي لنقابله أو نتحدث إليه فى التليفون فى فترة الاستراحة بين الحصتين .
وأما شئونه الخاصة فكان يرعاها حق الرعاية ، فلم نسمع بشقاق عائلي فى أسرته كما أن أولاده كانوا يحظون منه بما يحظى به الأبناء من والد مثالي . نعم كان الوقت الذي يقضيه فى بيته ضئيلا إلا أن زوجته كانت معوانا له على الدعوة وسنعرض لهذه النقطة بعد ذلك إن شاء الله .
أما الدعوة فكانت هى محور حياته ، بل هى حياته كلها ، لم يكن يشغله عنها شاغل فى ليل ولا نهار . كانت ملء عقله وقلبه لا مكان فيها لشئ آخر ... لم أقدر النبوة حق قدرها إلا لما رأيت هذا الرجل ، وجلست إليه ، ولازمته وعاشرته .. حينئذ بدأت أحس بقدر النبي ومكانته ، فرجل كحسن البنا هو دون الأنبياء ، ومع ذلك فان الدعوة شغلته بل صهرته حتى أخرجت منه صورة مجسمة لها ؛ فإذا تكلم بالدعوة وللدعوة ، وإذا سكت كان سكوته أسلوبا آخر للدعوة ، وإذا تحرك فلها ، وإذا سكن فلها ، وإذا أحب فلها ، وإذا أبغض فلها ، وإذا ضحك فلها ، وإذا بكى فلها ... فكيف بالنبي الذي صنعه الله على عينه ؟! .. لذا كان مقام النبوة جديرا بقول الله عز وجل (( لقد كان لكم فى رسول الله أسوة حسنه )) ... وهؤلاء من أمثال حسن البنا هم ورثة الأنبياء لأولئك الذين وإن تمرسوا بعلوم القرآن والسنة فإنهم لم ينفعلوا بها انفعالا أنساهم ما سواها ولن ينفعلوا بالفكرة الإسلامية إلا من اختلطت بدمه فصارت أساس تفكيره ، وميزان حياته فى أفقها مل أماله ، وصار كل مرمن أجلها حلوا فى حلقه .
إن أصحاب الدعوات لا ينبغي أن نسوى بهم العباقرة ؛ فالعبقرية لاشك إحدى صفاتهم لمنهم من الناس أوتوا بصيرة نافذة ، وقلوبا حية واسعة ، وألسنة تنطق بالحكمة البالغة فهم يرونه مالا يراه الناس يقتنعون بكمال خلقهم قبل إن يقتنعوا بقوة حجتهم ، وطلاقة ألسنتهم ....تجاس إليهم وأنت غير مكترث إلا بنفسك بل قد تكون لاهيا هازلا ، فتحس بعد قليل أن تيارا دافئا أخذ ينساب فى داخلك فيشيع الدفء فى جنباتك ، ثم لا يلبث هذا الدفء أن تشتد حرارته حتى إن حرارته لتذيب جمود نفسك وتشعل فى أعماق قلبك آمالا كانت خابية تحت أطباق من الثلوج ... وترى عقلك الذى كان زمامه بيد اللهو قد استدار دورة ألقى فيها بسالف أفكارك فى زوايا النسيان وانفتح لأفكار جديدة تستجيب لصدى ما تحرك فى قلبك من جمود نفسك ... وتقوم من مجلسك شخصا آخر غير الذي كنت ، ويتغير مجرى حياتك بهذه الجلسة فتقوم وهموم المجتمع الذى كنت أنت فيه هى شغلك الشاغل وهمك القاعد المقيم بعد أن كنت لا تكترث إلا بنفسك ...
وذلك بأن هؤلاء الناس طراز خلقهم الله وفى قلوبهم مراجل تغلي لا يهدأ غليانها ، فهي تشيع الحرارة حيث كانت ، وتذيب الجمود ، وتبعث الحياة فيما حولها وفيمن حولها .. ومهما سكبت على هذه المراجل من ثلوج الدنيا فإنها تذوب والمراجل لا يهدأ لها أوار ... هى قوة دافعة خلقت لتدفع ولا تندفع . ولتؤثر ولا تتأثر ... قلوبهم مستودع للحياة تسكبه على من حولها من الموتى فيحيون ، ويحس كل واحد منهم بلذة الحياة بعد الموت .. هؤلاء الناس يعطون دائما ولا يأخذون ويمنحون ولا يستمنحون ..
هذا فى أصحاب الدعوات أيا ما كانت الدعوات ؛ أما إذا كانت فى ذاتها تحمل كل معاني الحق والصدق ، فإن شخصية الداعية تكتسب من صدق دعوته قوة على قوة ولا يستطيع أحد فى هذه الحالة أن يقاوم صاحب هذه الدعوة بالحجة والبرهان ، ولا يجد أمامه من وسائل المقاومة إلا الجحود والكذب والنكران ثم وسائل العنف والعسف والجهل والاضطهاد .
هكذا كان حسن البنا ؛ صاحب دعوة وهبه الله قوة أصحاب الدعوات ، وزاده قوة أن دعوته فى ذاتها حق لا مرية فيه (( لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد )) ولذا كان إيمان حسن البنا بدعوته إيمانا تزول الجبال ولا يتزلزل ... كنت إذا رأيته لم نر إلا دعونه ، وإذا تحدثت إليه لم تسمع إلا دعوته .. حتى فكاهته ، وما كان أجمل فكاهته ، وما كان أسرع بديهته ... حتى الفكاهة ؛ لم تكن إلا فى صميم دعوته تخرج من سماعها وقد أضفت جديدا إلى عقلك وقلبك وإيمانك .
نعم إن آمال هؤلاء من الدعاة تبدأ حيث تنتهي آمال جيلهم ... لقد تعرفنا على حسن البنا فى أواسك الثلاثينيات ، فسمعنا منه كلاما عن المستقبل المأمول طالما قوبل من أكثر الناس حينذاك بالاستخفاف والاستهزاء والسخرية ... وإني لألتمس لهؤلاء الناس العذر ؛ فقد ظهر حسن البنا فى وقت خيم فى الظلام الحالك فلا يستطيع أنفذ الناس بصيرة أن يرى أبعد من أنفه ، كانت مصر لا أقول تئن تحت كلا كل الاحتلال البريطاني بل إنها كانت مستكينة لهذا الاحتلال وادعة مسترخية ... كان الحكام يسبحون بحمد الاحتلال ... وكان الشعب يسبح بحمد هؤلاء الحكام ، وكان المثل السائد على ألسنة الناس هو الذى يقول : ليس فى الإمكان أبدع مما كان وكنت تسمع من المثقفين ومن شباب الأحزاب إذا أنت حاولت انتقاد الحكام قولهم : لا تعاند من إذا قال فعل ... لم تكن مهمة الأحزاب نتعدى التطاحن فيما بينهم على المناصب ، فكانوا فى ذلك أشبه بسواد الشعب الفقير حين يتهافتون على ما تلقيه معسكرات الإنجليز من بقايا طعام ، فيعتبر من يحظى بقسط من هذه (( الزبالة )) نفسه فائزا قد نال قصب السبق : كذلك كان الذى يحظى من الحكام بكلمة رضا من رجال السفارة الإنجليز يعتبر نفسه قد حقق أمنيته وبلغ الجبال طولا ويقبل عليه زملاؤه بالتهاني يغبطونه على هذا الفوز العظيم . ولم تكن السراي أحسن من هذه الأحزاب أما الأزهر ، وهو المصدر الوحيد الذى يتلقى الناس منه تعاليم دينهم فإنه كان أداة طيعة فى يد المستعمر عن طريق الحكام ... نشر فى الناس صورة باهته مشوهة للإسلام فكان معنى الإسلام فى نظر الناس بفضل الأزهر لا يتعدى طقوسا تؤدى داخل المساجد أو فى البيوت ، وكادت الاستكانة أن تكون مرادفة للإسلام فى نظر الناس .
ويمكن إجمال وصف الوقت الذى ظهر فيه حسن البنا بأنه ظهر والأمة ميتة تماما لا حراك بها . فإذا خرجت عن دائرة مصر لترى ما حولها من دول عربية وإسلامية ، وجدت كل شعب من هذه الشعوب يغط فى نوم عميق والاستعمار أخذ بخناقهم جميعا ، وقد فقد الجميع كل شئ حتى الإحساس بالظلم ؛ كما أن شعب كل دوله من هذه الدول يجهل كل شئ عن شعوب الدول العربية والإسلامية الأخرى ؛ بل كان المصري على سبيل المثال يعرف الكثير عن البلاد الغربية ويزورها ولا يعرف شيئا عن بلاد شقيقة متاخمة لبلاده ولا يخطر بباله أن يزورها وكذلك كان شعور سكان البلاد العربية والإسلامية الأخرى نحو مصر ونحو بعضها بعضا .
ولذا فإنها كانت مفاجأة مذهلة أن سمع الذين استقروا فى أجداثهم - وارتضوها مساكن لهم - صوتا كالرعد يناديهم أن قوموا من أجداثكم ، ومزقوا أكفانكم ، وانفضوا التراب عن أجسامكم ، فإن أماكنكم التي أرادها الله لكم هى فوق السحاب لا تحت التراب ؛ ألستم ذرية الذين قال الله فيهم (( ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين ؟! .. سيروا ورائي لنحطم الأغلال ، ونبدد سحب الظلام ، لننشر النور فى الآفاق ... قوموا لننسف بروح الإخوة التي سجلها الله لكم فى كتابه ما اصطنع المستعمر من حواجز وهمية بينكم وبين إخوانكم المسلمين فى بقاع الأرض فالمسلمون أمة واحدة (( إن هذه أمتكم أمة واحدة وأنا ربكم فاعبدون )) (92 الأنبياء ) .
أكثر الذين اخترق آذانهم هذا النداء استقبلوه استقبالهم لحلم كاذب لا يستحق إلا الامتعاض والأغراض . وحملة آخرون على أنه هذيان مخبول من حقه عليهم أن يدعوا الله له بالشفاء ؛ ولم يقع فى موقعه إلا من قلة هى التي كان عندها علم من الكتاب ، وهذه القلة الواعية دائما هى فريق من المطحونين المستضعفين .
لفته إلى وراء
- المرشد قبل القاهرة :
يجمل بنا قبل الاسترسال فى سرد ما نحن بصدده من حلقات متصلة فى تاريخ هذه الدعوة تلك الحلقات التى كنت أحد عناصرها أو كنت احد مشاهديها ؛ أن نلقى نظرة نطل بها على أيام لهذه الدعوة لم يشأ القدر أن أشارك فيها أو أن أشهدها بنفسي ؛ فإن تعرفي على الدعوة وعلى شخصية مرشدها كما قدمت إنما كان بالقاهرة .. ولكن الدعوة - كما حدثنا الأستاذ المرشد - لم يكن مهدها القاهرة وإنما شاء الله أن يكون مولدها الذى برزت فيه إلى الوجود هو الإسماعيلية .
حدثنا الأستاذ رحمه الله أنه وأسرته من أهالي قرية (( شمشيرة )) مركز فوه ، وقد نزح والده وهو صغير إلى بلدة المحمودية حيث افتتح الوالد محلا لتصليح الساعات ومن هنا لقب الوالد بالساعاتي ، وقد لصق هذا اللقب بعبد الرحمن شقيق الأستاذ الذى يليه فى السن فعرف بعبد الرحمن الساعاتي . وتعلم (( الأستاذ )) فى المدارس الأولية ولما أتم حفظ القرآن الكريم التحق بمدرسة المعلمين الأولية بدمنهور ولما حصل على الدبلوم عين مدرسا فى مدرسة خربتا الأولية مركز كوم حمادة .
وقد رأى أن يواصل دراسته فدرس دراسة خاصة للالتحاق بدار العلوم ، وقد اضطره ذلك إلى الانتقال إلى القاهرة حيث كان مطالبا بالعمل لكسب عيشه فالتحق بعدة أعمال منها أنه اشتغل عاملا فى محل للبقالة ولقي فى ذلك ما لقي حتى أنه لم يكن يجد وقتا يستذكر فيه دروسه ، ولما حان موعد الامتحان المؤهل للالتحاق بدار العلوم نفسها وجد أن مطالب الحياة الضرورية لم تدع له وقتا نؤهله مذاكرته فيه أن يدخل الامتحان ؛ فشكا إلى الله الذى يعلم أنه لم يقصر لحظة واحدة ... يقول رحمه الله : ونمت ليلة الامتحان فإذا بي أرى فيما يرى النائم رجلا يواسيني ويقول لي : التفت إلى فألتفت إليه فإذا بيده كتاب المادة التى سأمتحن فيها فى الصباح فيفتح الكتاب عند صفحة معينه ويشير إلى أن أقرأ حتى إذا قرأت الصفحة فتح الكتاب عند صفحة أخرى فأقرأها وهكذا حتى أنهى الكتاب فأغلقه وتركني ، فلما أصبحت وجدتني حافظا كل ما قرأت - وكانت هذه طبيعة أحفظ كل ما أقرأه - ودخلت الامتحان فإذا الأسئلة كلها هى نفس ما قرأته فى الرؤيا .. وهكذا مرت ليال الامتحان وأيامه على هذا النحو وظهرت النتيجة فكنت الأول . والحمد لله .
يقول رحمه الله : والتحقت بدار العلوم وكنت أهوى الأدب العربي ما كان منه مقررا دراسته وما لم يكن مقررا وكنت أكتب ما يعجبني من قصائد فى كراريس أعددتها لذلك حتى تكامل عندي من ذلك عدة كراريس ، وكان امتحان الأدب العربي هو الامتحان الرئيسي فى الدار وكان الامتحان فيه تحريريا وشفويا ؛ فلما مثلت بين يدي لجنة الامتحان الشفوي فى امتحان الدبلوم النهائي لدار العلوم سألني رئيس اللجنة عما أحفظ من الشعر فقدمت له الكراريس فقال لي : ما هذه الكراريس ؟ . قلت : إن ما فيها هو ما أحفظه فتعجب الرجل وقال : هل أنت على استعداد أن أسمع أية قصيده أختارها من الكراريس ؟ فأجبته بالإيجاب .. فطفق يطلب إلى أن أقرأ حتى أطمأن إلى أنني أحفظ ما فيها جميعا . ثم قال لي : إني سألك السؤال الأخير : ما أحسن بيت أعجبك فى الشعر العربي ؟ قلت : أحسن بيت أعجبني هو قول طرفة بن العبد فى معلقته :
إذا القوم قالوا من فتى خلت أنني
- عنيت فلم أقعد ولم أتبلد
قال : قم يا بني ، هذا سؤال يسأل للنابهين من الطلبة فى كل عام هنا وفى الأزهر فلم يجيب أحد بمثل ما أجبت به إلا الشيخ محمد عبده ... إنني أنبأ لك بمستقبل عظيم...
- من جهود الطالب حسن البنا:
الحملة الصليبية الجديدة أو الغارة التبشيرية :
سبق لي أن ذكرت أن الفترة التى قام فى خلالها حسن البنا بدعوته كانت فترة حالكة فى تاريخ هذه الأمة ، وأشير هنا إلى أن هذه الحلكة لم تبدأ مع بدء ظهوره على المسرح وإنما كانت الحلكة مطبقة على الأمة من قبل ذلك ؛ وقد بلغ استهتار الإنجليز بمقدرات هذه الأمة أن تجاهلوا أنها أمة مسلمة ذات مجد وتاريخ ففتحوا للحملات التبشيرية أبواب البلاد ، بعد أن مهدوا لها بنشر الجهل والفقر والمرض ، وبعد أن أطمأنوا إلى أن مقاليد الحكم فى البلاد أصبحت فى يد الفئة التى تدين لهم بالولاء والتي فى حقيقة أمرها غريبة عن هذه البلاد فهي كما قال الشاعر
بلاد قد نرى العربي فيها
- غريب الوجه واليد واللسان
انتشر المبشرون فى أنحاء البلاد فى الوجهين البحري والقبلي ، فى المدن والقرى تحت سمع المسئولين من الحكام وبصرهم ، بل إن هؤلاء الحكام فى المدن والقرى كانوا بحكم تعليمات رؤسائهم يسهلون للمبشرين وسائل دخول المدن والقرى كما يسهلون لها وسائل الاتصال بالأهالي وإجراء ما يشاءون من إجراءات بل وإقامة ما يشاءون من منشآت بل واختطاف من يشاءون من أطفال ونساء ؛ وفى الوقت الذى يضربون فيه بيد من حديد كل من تسول له نفسه أن يتعرض سبيل هؤلاء الغزاة ولو بكلمة معتبرين ذلك اعتداء على الحكومة ... صار هذا الشعب نهبا مباحا لهؤلاء المبشرين .
ولم تكن وسيلتهم إلى التبشير بالمسيحية عرضا لعقيدتهم وشرحا لها أمام الناس كما هو المتبادر إلى الذهن من لفظ التبشير ، وغنما وسائلهم هى استغلال فقر الناس وحاجتهم وجهلهم فيأخذون هذا الطراز من الناس ويأخذون نساءهم وأولادهم وينفقون عليهم ببذخ على أن يظلموا معهم داخل كنائسهم ويقولوا مثلما يقولون ... أما الشباب من أبناء الأغنياء فكانوا يغرونهم بالنساء ... كانت وسائلهم أخس الوسائل وأحطها ... وقد استمر عملهم هذا فى جميع أنحاء البلاد أكثر من سنة ومع ذلك لم يخرجوا بمحصول يزيد على عشرات الأفراد من هؤلاء الجهلة الفقراء المدقعين .. لم تكن هذه الحملات العانية للتبشير إذن ذات أثر يذكر فى نتائجها من ناحية تكفير المسلمين لكنها كانت صورة بشعة متوحشة للاستعمار البريطاني أمام شعب أعزل مغلوب على أمره ، تضافرت على قهره حكومته مع الإنجليز ... كان الناس يبكون من شدة الغيظ لأنهم يرون بأعينهم من ينتهك حرمة عقيدتهم - وهى أعز ما يعتزون به - وهم لا يستطيعون أن يدافعوا عن أنفسهم لأن حكامهم جعلوا الدفاع عن النفس فى هذه الحالة جريمة يعاقب مرتكبها
كنا فى ذلك الوقت فى رشيد - ولم تكن رشيد هدفا للمبشرين لأنهم درسوا طبيعة البلاد قبل أن يحضروا من أمريكا وفرنسا وبلجيكا وغيرها من بلاد أوربا فعلموا أن هناك مدنا مغلقة لا أمل لهم فيها حيث لها طبيعة خاصة وتاريخ لا ينسى ومنها رشيد ، فلم يحاولوا دخولها .. لكننا كنا نسمع عما يفعلون بالمحمودية وقراها من خطف الأطفال وإغراء الفقراء بالمال وإغراء الشباب بالعبث وبالنساء ... وكان أهل المحمودية يحضرون إلى رشيد فيروون ما يحدث عندهم فيبكون ويبكون ..
أما الصعيد فكان مرتعا خصبا لهم ، حيث الفقر هناك والجهل والمرض أضعاف ما هو عليه فى الوجه البحري ، وحيث كان الصعيد فى ذلك الوقت يعتبر من المجاهل التى تحتاج إلى من يرتادها ويكشف عن معاناة أهلها المعزولين عن الحياة ... لقد فعلوا فيه الأفاعيل .. وكانت أسيوط نقطة ارتكازهم وكان لهم فيها مستشفى يخطفون الأطفال والنساء من القرى وينقلونهم إليه ، ولا يستطيع أهل المخطوف أن يروه أو يعلموا عنه شيئا ، كما لا يجدون من يشكون إليه . كاد الناس يفقدون إيمانهم بالله أمام هذه القوى العارمة المتضافرة ثم لا يجدون من يعترض طريقهم ؛ حتى الصحف لم تكن تشير إلى ذلك مع أنها صحافة حرة لكن نفوذ الإنجليز وقانون المطبوعات الذى وضعه الإنجليز ، يعطى حكام مصر المتواطئين معهم السلطة فى مصادره أية صحيفة أو وقفها أو سحب الترخيص بها إذا هى تعرضت للمؤامرة المدبرة على إذلال الشعب وتكفيره برضاه أو رغم أنفه ؛ كما أن الأموال الطائلة المعتمدة لحملات التبشير من خزائن أمريكا وانجلترا وفرنسا ودول أوربا كانت تنفق على هذه الصحف بسخاء ..
يقول حسن البنا - الطالب بدار العلوم فى ذلك الوقت - كاد صدري يحترق من زفرات الألم كما كادت تحترق صدور الناس من حولي ، لكنني فكرت فلم أجد لهذا الألم معنى إذا لم يتحول إلى عمل ، ولكن كيف نحوله إلى عمل والحراب مشرعة وجوهنا من رجال الحكم الذين كان يجب أن يكونوا هم ملاذ الناس ، والذين صرنا وإياهم كما قال الشاعر :
وقد كان منا إليك الشكاة
- فأصبحت أنت الذى تشتكى
فكر حسن البنا فرأى أمامه فى الأزهر شخصيات يرجى نفعها لما يلمس فيها من غيرة على الدين واستعداد للعمل إذا وجدوا إليه سبيلا كالشيخ يوسف الدجوى . فاتصل بهذه الشخصيات فوجد فيها تحرقا إلى العمل لكن الطريق أمامهم مسدود ... ثم لاحت فى مخيلته صورة شخصية أخرى لها كيان علمي وأدبي خاص تفردت به دون غيرها ... ولها من ظروفها ما قد يعين على إيجاد بصيص من نور فى هذه الحلكة القاتمة ... تلك هى شخصية (( أحمد تيمور باشا )) ذلك الجليل سليل المجد والصديق الشخصي للملك فؤاد .
استصحب حسن البنا معه عددا ممن استجاب له من هيئة كبار العلماء وطلبوا مقابلة أحمد باشا تيمور فى منزله ... فاستقبلهم الرجل أحسن استقبال وكان يعرفهم جميعا عدا هذا الشاب الصغير .. وتقدم هذا الشاب الصغير فتحدث عن الموضوع . حديث الثكلى عن فلذة كبدها - ووصف الحال التى تظل البلاد وكيف يعبث المبشرون فى البلاد فسادا تحت سمع الحكومة وبصرها بل وفى حمايتها وانفجر فى البكاء حتى أبكى الباشا فأبكى الحاضرين ... وتداول المجتمعون عسى أن يجدوا مخرجا ... وجاءت سيرة الملك فؤاد فقال تيمور باشا إنه صديقي وأثق فى غيرته على الإسلام وتعددت الاجتماعات ونوقشت أفكار ومقترحات وانتهت إلى قرار بأن أول إجراء لابد منه أن نصدر مجلة تتصدى لهذه المؤامرة وتفضح اعتداءاتها وتستنهض الهمم لمقاومتها .. وبمجهود تيمور باشا وتدخل الملك فؤاد صدرت مجلة الفتح وأسندت رياسة تحريرها إلى الكاتب الإسلامي العظيم الأستاذ محب الدين الخطيب .. قد حضرت فى خاطري الآن قصة كان قد حدثنا بها الأستاذ المرشد ؛ وهى تتصل بأساليب المبشرين فى إغراء أبناء الأغنياء من المسلمين بالنساء مما أشرنا إليه قبلا ... ومعذرة إلى القارئ إذ فاتني ذكرها فى موضعها .
وقد حدثنا الأستاذ بهذه القصة فى معرض حديثه عن كتاب ((إحياء علوم الدين )) للإمام أبى حامد الغزالي . وكان الأستاذ المرشد يرى أن هذا الكتاب هو أعظم موسوعة إسلامية ، وكانت إحدى أمانيه أن تتيح له الظروف شرح هذا الكتاب . وقد شرع فعلا فى ذلك فأعد درسا أسبوعيا فى منزله لمجموعة من الإخوان فى شرح هذا الكتاب وكان حريصا على كتابة كل درس يلقيه فى كراسة - مما لم يفعله فى أي درس آخر - ولكن الظروف لم تسعف فقد هبت الأنوار من كل جانب على سفينة الدعوة فعصفت أول ما عصفت بهذه الدروس التى لم ندم إلا بضعة أسابيع ولله الأمر من قبل ومن بعد .
قال الأستاذ : فى أوج الحملة التبشيرية - وكنا إذ ذاك بالمحمودية -كان احد الشبان - وذكر لنا أسمه ولكنني نسيته - من أبناء أثرياء المحمودية قد أغرى بإحدى فتيات المبشرين حتى ملكت عليه فؤاده ... ولما كان الشاب مستقيما متدينا فقد أبدى رغبته للمبشرين فى الزواج منها ، فاشترطوا عليه قبل إتمام الزواج بها أن يتنصر وأن يعمل خادما فى الكنيسة .. ففعل ودخل الكنيسة يقضى فيها نهاره وليله ولا يخرج منها أملا فى أن ينال رضاهم فيحققوا له رغبته الجارفة .
وفى إحدى الليالي ، بينما هو نائم فى الكنيسة رأى فيما يرى النائم أنه فى الجنة - وفيها مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر - ثم رأى رجالا ثلاثة عليهم هيبة ووقار قادمين نحوه ... وتقدم أحدهم فسلم وعرف بنفسه فكان موسى عليه السلام ثم تقدم الآخر فكان عيسى عليه السلام ... ثم أشار إلى ثالثهم وقال أتعرف من هذا ؟ قال : لا قالا .. إنه محمد خاتم النبيين وسيد المرسلين قال : فأخذتني رعدة ... فقالا . إنما جئنا لنعتب عليك فيما فعلت ... وقال عيسى عليه السلام : كيف ترجع على عقبك وتتنصر مع أنني أنا أؤمن بمحمد صلى الله عليه وسلم ؟ ...
قال الشاب : فاستحييت من النبي صلى الله عليه وسلم وتصببت عرقا مما فعلت بدافع الشهوة والهوس وحاولت الاعتذار والتوبة فلم أستطع أن أنطق فقد ألجم لساني ... فسكن النبي صلى الله عليه وسلم من روعي وقال لى : إذا أردت أن تصحح إيمانك فاصعد إلى أعلى الجنة - وحدد لى شجرة معينة - فستجد أبا حامد الغزالي جالسا فى ظلها فتلق عنه كتابه (( إحياء علوم الدين )) .
قال الشاب : فصعدت حتى رأيت أبا حامد فابتدرني بقوله : مرحبا بمن بعث به إلينا رسول الله صلى الله عليه وسلم : ثم أخذ يفتح كتابه ((الأحياء)) ويشرح لى وكلما شرح لي بابا انكشف عن قلبي غمة حتى استيقظت من النوم وقد غسل قلبي ولم يعد للفتاة التى أحببتها شئ فى نفسي ، وخرجت من الكنيسة واقتنيت كتاب الإحياء .
قال الأستاذ : وعكف الشاب على الكتاب فصار شغله الشاغل حتى كاد يحفظه وكنا نرجه إليه فى فهم ما يصعب علينا فهمه منه . وبعد إيراد هذه القصة المعترضة ...... أرجع إلى سياق الحديث فأقول :
أخذت مجلة ((الفتح )) نفضح مؤامرات الإنجليز ، فاضطر الإنجليز إلى الانحناء أمام العاصفة وبدأت الحملة الصليبية لأول مرة نواجه مقاومة . وكانت النتيجة العاجلة لفشل المؤامرة أن اضطر الإنجليز لسحب أذنابهم حكام مصر من المعركة فلم يبق فى أرض المعركة إلا الصليبيون والشعب وجها لوجه .
وتكونت لجنة فى القاهرة برياسة الشيخ محمد مصطفى المراغى الذى كان من قبل شيخا للأزهر لمقاومة التبشير وتكونت لها فروع فى المدن والقرى ، وتصدت هذه اللجان لمن يسمون أنفسهم بالمبشرين ، وما من مرة تقام مناظرة بين الطرفين علنا إلا أنهزم المبشرون بالحجة والبرهان ، بعد أن زال عنصر الترغيب والإغراء ، وعنصر القهر والإرهاب . ولم تستطيع الحملة الصليبية المسعورة بعد ذلك أن تثبت فى أماكنها إلا أياما معدودة ، فكل يوم تجلو عن البلاد فرقة منهم حتى طهرت منهم البلاد فى أشهر معدودات .
إنشاء جمعية الشبان المسلمين
كانت هذه الحملة الصليبية من أشد ما أصاب مصر من ويلات الاحتلال البريطاني ؛ إذ كان القصد منها تحويل مصر إلى معسكرين متناقضين كما فعلوا بالسودان ؛ فشمال السودان وجنوبه مسيحيون . وقد أرضع مسيحيون الجنوب كراهية مسلمي الشمال ... كذلك أرادوا أن يفعلوا بمصر فقد ركزوا على الصعيد فأنشئوا فيه المركز الرئيسي لهم ، وكانوا ينقلون إليه من يختطفونه من أطفال الوجه البحري ونسائه .. وشاء الله مع ذلك أن يخرج من هذا الشر المستطير خير ؛ فلولا هذه الحملة المسعورة ما أستطاع حسن البنا أن يجمع على العمل للإسلام هؤلاء الذين لم تكن تجمعهم جامعة ولا تضمهم رابطة وجزي الله الشدائد كل خير .
وكان من ثمرات ذلك إنشاء جمعية تسمى الشبان المسلمين وأسندت رياستها إلى رجل مسلم غيور هو الدكتور عبد الحميد سعيد . وكان الطالب حسن البنا من أوائل من أشترك فى عضويتها . وقد وجدت الرياضة فى هذه الجمعية باعتبارها وسيلة لجذب الشباب ، وإن كان تطور الزمن قد غلب الرياضة على جميع أغراضها حتى كادت تفقد المعنى الديني الذي أنشئت من أجله .
- كتاب (( الغارة على العالم الإسلامي )) :
كان اختيار الأستاذ محب الدين الخطيب لتحرير مجلة (( الفتح )) اختيارا موفقا ؛ فقد كان من القلائل الذين يفهمون الفكرة الإسلامية فهما كاملا دقيقا ، وكان من العلماء بالتاريخ الإسلامي القديم والحديث ، كما كان محيطا بتواريخ الأمم على اختلافها ، ولم يكن مصري المولد فالمعلوم أنه كان من أهل الشام . وشارك فى الحركات الإصلاحية الإسلامية فى نواحي العالم الإسلامي ويبدو أنه نزح إلى مصر هربا من بطش الفرنسيين الذين كانوا لا يطيقون أن يروا كاتبا إسلاميا حرا فقد نفوا زميلا له هو الأمير شكيب أرسلان .. وقد عمل مع الشيخ محمد عبده ومع الشيخ رشيد رضا ... وكانت مكتبة عظيمة فى شارع درب الجماميز وبها المطبعة التى تطبع مجلة الفتح وقد نقل مكتبته بعد ذلك إلى جزيرة الروضة .. وأنا طبعا لم أحضر مجلة الفتح فى أول ظهورها لكنني حين نزحت من أجل الدراسة إلى القاهرة كنت حريصا على اقتنائها وكنت أجد فى قراءتها متعة عظيمة لأنها هى وحدها التى كانت الصوت المعبر عن الفكرة الإسلامية فى ذلك العهد ، وهى وحدها التى كانت تلتقي على صفحاتها أقلام المجاهدين من أنحاء العالم الإسلامي وكان شعارها المكتوب بجانب اسمها على الغلاف هو هذه العبارة (( أنت على ثغرة من ثغور الإسلام فلا يؤتين من قبلك )) .
وكان من أعظم ما أخرجه الأستاذ محب الدين مما سوى مجلة الفتح كتاب (( الغارة على العالم الإسلامي )) هذا الكتاب يجدر بكل مسلم يريد أن يفهم الحقائق فى هذا العالم أن يقرأه . إذ استطاع هذا الكتاب أن يفضح المؤامرة العالمية التى حاكتها الدول المسيحية للقضاء على الإسلام حيث كان .. ولم يعتمد الكتاب فى فضح المؤامرة على مجرد التشهير بها والتنويه بخطورتها ورص عبارات التحذير منها ، وإنما اعتمد فى ذلك على نشر نصوص اتفاقيات سرية تم عقدها بين الدول فى صورة جمعية عالمية للتبشير ألفتها هذه الدول ، وقد استطاع الأستاذ محب الدين الحصول على نصوص هذه الاتفاقية بطريقته الخاصة . وإذا قرأت نصوص هذه الاتفاقيات وما رصدته هذه الدول لتنفيذها من مئات الملايين من الجنيهات وقرأت الوسائل التى رسموها لتقويض دعائم الإسلام فى نفوس معتنقيه لعجبت لبعد نظر هؤلاء القوم ولبراعتهم فى التخطيط التنظيم .
وقد لقي هذا الكتاب حين صدر مقاومة عظيمة واتبعت فى مقاومته نفس الأساليب الملتوية التى خططوها للقضاء على الفكرة الإسلامية ، وربما كان من هذه الأساليب شراء كل ما يصدر من الكتاب من نسخ وإعدامها فيحولوا بذلك بين المسلمين وبين اطلاعهم على محتوياته .. وهذا أسلوب من أساليب الاستعمار فى محاربة الكلمة المطبوعة
- ليقضى الله أمرا كان مفعولا :
تخرج حسن البنا فى دار العلوم ، وكان أول دفعته بمجموع يصل إلى النهايات ، وكان المتبع أن يوفد أول الدفعة فى بعثة دراسية إلى الخارج ولكن شاء الله أن يحول دون ذلك ، ليقضى الله أمرا كان مفعولا ، وتؤسس دعوة الإخوان المسلمين فى سنة 1928 بعد أن تم تعيينه مدرسا بمدرسة الإسماعيلية الابتدائية .
- في الإسماعيلية :

كانت الإسماعيلية فى ذلك الوقت مدينة أجنبية بكل ما تحتمل هذه الكلمة من معان ، بل إن وصفها بهذا الوصف لا يفي بكل معانيها فهي قطعة من أوربا ، فعلية أهلها أجانب من جميع الجنسيات ، والموظفون المحترمون بها أجانب ، وحاكمها (( الحكمدار )) أجنبي ، والجيش المرابط فيها إنجليزي ... وهؤلاء الأجانب الذين يسكونها يعيشون عيشة أكثر رفاهية وأرغد عيشا وأقوى جاها من تلك التى يعيشها أهلهم وذووهم فى فرنسا وانجلترا وغيرها من بلاد أوربا ... لأنهم فى بلادهم قد لا يجدون من يخدمهم من أبناء جلدتهم إلا القليلين الذين يتقاضون أجرا باهظا قد يعجزون عن أدائه مع ذلك فإن هؤلاء لا يرضون لأنفسهم - حين يخدمونهم - إلا معاملة الند للند ، لا يقبلون منهم غطرسة ولا مهانة ولا كبرياء ... أما فى الإسماعيلية فالمصريون لا يكتسبون قوتهم إلا من خدمة هؤلاء الأجانب الذين يعتبرونهم أصحاب البلد الأصلين أما هم فخدم طارئون لا يتقاضون أجرا على خدمتهم إلا التافه القليل .. أشربت قلوبهم الذل فالرجل منهم لا يشعر أنه أهين إذا ما شتمه سيده الأجنبي أو صفعه أو ركله برجله لأن هذا كان هو الشئ الطبيعي المألوف .
كان سكان هذه المدينة ثلاث فئات : جيش الاحتلال البريطاني وشركة قناة السويس وهى خليط من الأجانب ولكن أكثرهم من الفرنسيين والإنجليز والأمريكيين ... والفئة الثالثة هى خدام هاتين الفئتين وهم المصريون ... ولما كانت الطبيعة البشرية تدفع بالأدنى إلى تقليد الأعلى فقد كان هؤلاء الخدم وهم الأهالي وقد فقدوا مقومات التشبه بسادتهم فى عيشة الرفاهية والبذخ لأنهم فقراء فلم يبق أمامهم إلا التشبه بهم فى شرب الخمر والإباحية على طريقتهم الخاصة .
لم يكن أهل الإسماعيلية جميعا عمالا لدى الأجانب بل كان منهم مقاولون ، وما أفخم صدى هذه الكلمة فى الأسماع ، ولكن ماذا كان عمل هؤلاء المقاولين ؟ كان عملهم توريد الخدم (العمال) من المصريين إلى هؤلاء الأجانب فكانت تجارة رقيق مقنعة وكان من عملهم نهب خيرات البلاد من مختلف قراها وأسواقها من الأغذية وحرمان الشعب منها وتوريدها للمستعمرين .. وكان من عملها شراء الزبالة التى يلقى بها جيش الاحتلال من بقايا الطعام وفتات الموائد وهو ما كان يسميه هذا الجيش (Rubbish ) ويبيعه المقاول الكبير إلى مقاولين صغار وهؤلاء بدورهم ينقلونه إلى مختلف بلاد القطر حيث يتهافت أهالي البلاد المحرومون على شرائه ليقتاتوا به .

لم يكن للحكومة المصرية وجود فى الإسماعيلية ، ولا للقوانين المصرية وجود ... وإنما كان الجيش البريطاني سندا لحكومة مستقلة ذات سيادة هى شركة قناة السويس .
نزل الشاب الصغير حسن البنا هذه المدينة الصاخبة وهو فى سن العشرين ، فرأى المدينة على الحالة التى وصفنا ، ووجد أنها تتكون سادة الأجانب وخدم هم المصريون ، وهاله ما رأى من صلف السادة ومهانة المصريين .. وأحس أن الله تعالى قد أختار له هذا البلد لتكون العجزة الإسلامية واضحة بارزة ... درس الشاب المنطقة المصرية من المدينة فوجد أن المساجد بها على ندرتها لا يؤمها الشيوخ القانون وذوو العاهات ، أما آلاف الشباب فلا مقر لهم بعد الخروج من عملهم إلا المقاهي .. ولما كانت الدعوة فى حاجة إلى الشباب فلابد إذن من الاتجاه إلى المقاهي .
أراد أن يلفت إليه الأنظار ، فدخل إحدى المقاهي المكتظة ، وعلى حين فجأة تنازل جذوة ( بصة ) من إحدى التراحيل ((الشيش )) وألقى بها وهى ملتهبة من أعلى فنزلت على إحدى المناضد وسط الجالسين وتناثرت ، فارتاع الحاضرون وغادروا أماكنهم مذعورين وتلفتوا يبحثون عن مصدرها فرأوا شابا وسيما واقفا على كرسي يقول لهم (( إذا كانت هذه الجذوة الصغيرة قد بعثت فيكم الذعر إلى هذا الحد فكيف تفعلون إذا أحاطت النار بكم من كل جانب ومن فوقكم ومن تحت أرجلكم وحاصرتكم فلا تستطيعون ردها ... وأنتم اليوم استطعتم الهرب من الجذوة الصغيرة فماذا أنتم فاعلون فى نار جهنم ولا مهرب منها )) ...
وهكذا استمر فى موعظته يضرب بها على أسماع مرهفة وقلوب متفتحة وأحاسيس فى أشد حالات اليقظة على أثر المفاجأة فكان لها أعمق الأثر فى نفوس الحاضرين . واتجهوا إليه يسألونه عن نفسه وعن عمله وعن مقره ، وبدأوا يلتفون حوله ويغرمون بالاستماع إليه ، وقد حببهم فيه أنه شاب ، وأنه متطوع لا يتقاضى على موعظته أجرا ولا بغى منها لنفسه نفعا وتوالت كلماته فى المقاهي تنقل الحديث عنه من مقهى إلى أخرى حتى كثر الملتفون حوله فبدأوا فى تنظيم اجتماعاتهم به ، ولما ضاقت بهم المقاهي قرروا تكوين جمعية على تسميتها (( الإخوان المسلمون )) ثم رأوا أن يقوموا ببناء مسجد ودار يجتمعون فيها وبنو المسجد والدار فكانت هى أول دار للإخوان المسلمين .
- من آثار الدعوة فى الإسماعيلية
بنيت دار الإخوان فى الإسماعيلية وبني مسجدهم وساهم فى بنائهما الأهالي كما ساهمت شركة قناة السويس باعتبارهما عملا دينيا تفهمه الشركة كما كان يفهمه سائر الناس فى ذلك الوقت على أنه دروشة .

- شركة جباسات البلاح :
وسرت روح الإيمان الجديد من عمال الإسماعيلية إلى زملاء لهم بعيدين فى الصحراء حيث شركة جباسات البلاح وهى شركة أجنبية أيضا تضم مئات من العمال . وتعلم هؤلاء العمال فيما تعلموا (( الصلاة )) ورأوا أن عملهم بالشركة يضيع عليهم بعض الصلوات لعدم وجود مكان بالشركة يصلح لأدائها ... فتقدم هؤلاء العمال إلى الشركة يطلبون بناء مسجد فيها لتأدية الصلاة فاستجابت الشركة لهم إذ هو مما لا يضيرها فلما تم إنشاء المسجد أو عز إليهم الأستاذ أن يطلبوا من الشركة تعيين إمام للمسجد ليصلى بهم .. ولما كانت الشركة لا عهد لها بشروط الإمامة فقد فوضتهم فى اختيار من يصلح لذلك .
كان الشيخ محمد فرغلي طالبا أزهريا ، نهل من معين الدعوة وارتوى ، وكان قد وضع نفسه فى خدمة الدعوة يوجهه الأستاذ حيث يشاء . فاختاره الأستاذ لهذه المهمة مهمة الإمامة وخطبة الجمعة بمسجد الشركة .
ويسر وجود الإمام داخل الشركة للإخوان العمال أن يدعوا زملاءهم للصلاة فتضاعف بذلك عدد المستجيبين للدعوة من عمال الشركة .
- جنرال لا إمام :
أحس الأجانب المسئولون فى هذه الشركة بعد فترة من وجود هذا الإمام أن عمال الشركة قد تغيروا تغيرا ملحوظا ، فهم وإن زادوا إخلاصا فى عملهم حتى ظهر ذلك فى إنتاجهم إلا أنهم صاروا يعتزون بكرامتهم ولا يقبلون إهانة من أي مسئول بالشركة مهما علت مرتبته مهما كان وراء ذلك من ربح مادي لهم .
إن هذا التطور شئ جديد .. ولم يطرأ على الشركة جديد إلا هذا الإمام الذي عين للمسجد .. إن هذا الإمام ينشر أفكارا صحيحة ونبيلة ومثالية لكنها ستحد من سلطتنا على هؤلاء العمال إذن لابد من إبعاد هذا الإمام . ذهب أحد كبار المسئولين بالشركة واسمه المسيو فرانسوا فى اليوم التالي إلى المسجد بنفسه ونادي الإمام وقال له : إن الشركة قد قررت الاستغناء عنك وستمنحك مكافأة سخية جدا على أن تغادر المسجد الآن ولا تعود إليه .
فقال له الشيخ محمد فرغلي : ولكنني لا أستطيع مغادرة المسجد لأنك لست الذي جئت بي إلى هذا المكان . فقال : ومن إذن الذي جاء بك ؟ قال : الأستاذ حسن البنا .. فبعث مدير الشركة فى طلب الأستاذ حسن البنا . فلما حضر قال له : يا أستاذ حسن أنت لم ترسل إلينا إماما للمسجد وإنما أرسلت لنا جنرالا .
فسأله الأستاذ المرشد قائلا : أحب أن أسألك باعتبارك المسئول الأول فى هذه الشركة ... هل لاحظت عليهم سوء أدب مع زملائهم ؟ قال : لا . قال الأستاذ : إذن لا مانع عندي من سحب الإمام .
- زواج المرشد العام :
كان من بين من استجاب للدعوة من أهل الإسماعيلية أسرة كريمة من أسرها تدعى أسرة الصولى ، وهم تجار من تجار من متوسطي الحال ... وكانت هذه الأسرة من الأسر المتدينة بطبيعتها وممن يربون أولادهم على الدين .. وكانت والدة الأستاذ تزور هذه الأسرة ، فسمعت فى إحدى ليالي زيارتها صوتا جميلا يتلو القرآن فسألت عن مصدر ذلك الصوت فقيل لها إنها أبنتنا فلانة تصلى فلما رجعت الأم إلى منزلها أخبرت نجلها بما كان فى زيارتها وأومأت إلى أن مثل هذه الفتاة الصالحة جديرة أن تكون زوجة له ، وكانت خير عون له فى دعوته حتى لقي ربه شهيدا مظلوما
- انتشار الدعوة فى المنطقة :
كان انتشار الدعوة بعد تأسيسها فى الإسماعيلية أمرا طبيعيا وقد ظل الأستاذ المرشد فى الإسماعيلية نحو خمس سنين انتشرت فى خلالها الدعوة فى منطقة القناة فى الإسماعيلية وبور سعيد والسويس وفى منطقة البحر الصغير من الدقهلية وفى بعض بلاد الشرقية - وكانت تعقد مؤتمرات لهذه المناطق فى أوقات دورية .
الباب الأول في شارع الناصرية
مقدمة
إذا كان لصاحب الدعوة يبغى من وراء دعوته أن يتوطد مركزه ، ويعلو مقامه ، ويكون فى عز من التفاف الناس حوله ، وائتمارهم بأمره ، ومسارعتهم إلى ما يرضيه ، وتنافسهم فى التقرب إليه ، وبذلهم كل نفيس فى سبيله ، فإن ذلك كله قد نوفر لحسن البنا فى الإسماعيلية وما حولها .. ونستطيع أن نقول واثقين إن حسن البنا قد صار أعظم شخصية فى هذه المنطقة .
فماذا يريد إنسان بعد ذلك ؟ إن مثل هذا الداعية - وقد تحقق له أعظم ما يخطر بخيال إنسان ليطيب له المقام حيث العز والجاه والسلطة والشهرة دون منافس ولا منازع .
ولكن حسن البنا لم يكن هدفه الحصول لنفسه على هذه المتع الشخصية التي هي منتهى آمال كثير من الدعاة ، وإنما كان هدفه أبعد من هذا بكثير ... إنه كان يرى أنه يدعو إلى الدعوة عالمية ، فلابد أن ينتقل بها إلى حيث يبلغ صوته أوسع دائرة ممكنة من هذا العالم ... نعم إنه سيترك مكانا يشار فيه بالبنان ، ويتحدث عنه فيه بالإجلال الرجال والنساء الصبيان ، وإذا نادي هرع إليه ألوف من الناس ، وإذا قال ردد قوله ألوف آخرون .. سيترك ذلك إلى مكان لا يعرفه فيه أحد ، ولن يحظى بتوقير واحترام ، وإذا نادي بأعلى صوته لم يستجيب لندائه فرد واحد .. سيترك ذلك إلى مكان يكون فيه من غمار الناس ومجهوليهم .. كان يعلم هذا وأكثر منه ولكن بطبيعة دعوته تفرض عليه أن ينتقل ..
ومن أطراف ما حدثنا به الأستاذ المرشد مما يتصل بهذه المناسبة قوله : إنه بعد انتقال الدعوة إلى القاهرة بثلاث سنسن وانتقال مركزها العام 13 شارع الناصرية بالسيدة زينب ... حضر أحد إخوان الإسماعيلية إلى القاهرة لزيارتي ، ولم يكن هذا الأخ قد زار الأخ قد زار القاهرة من قبل ... وكان يعتقد أن المركز العام للإخوان المسلمين بالقاهرة له من الشهرة ما للمركز العام السابق فى الإسماعيلية وأن من أشهر شخصيات القاهرة ..
فلما نزل من القطار فى محطة القاهرة سأل أول من قابلهم من أهل القاهرة عن المركز العام للإخوان المسلمين ، فلما سمعه هؤلاء يسألهم عن شئ مجهول - وكأنه يسأل عن أحد معالم القاهرة اعتقدوا أنه شخص ساذج وقالوا له - ساخرين - اتجه من هذا الطريق ( وأشاروا إلى ناحية ما ) ثم اسأل هناك ... وظن الأخ أنهم جادون فى كلامهم واتجه حيث أشاروا ثم سأل فأجيب بنفس الطريقة ... وهكذا ظل يضرب فى شوارع القاهرة على غير هدى حتى قابلته صدفه وقد جاوز دار المركز العام بمسافة ... يقول الأستاذ فقص على الأخ ما حدث معتقدا أن هؤلاء الناس دلوه على الطريق وأثنى عليهم ... غير أنه لما قفل راجعا مع الأستاذ المرشد المسافة التي جاوز بها دار المركز العام قال للأستاذ المرشد : إن كل من سألتهم عن الطريق صدقوني إلا هذا المحل ( وأشار إلى محل على بعد أمتار لا تعدو الخمسين من المركز العام ) فقد سألته فقال لي : امش إلى نهاية هذا الشارع ( شارع الناصرية ) فستجد ميدان السيدة زينب فاسأل هناك عن المركز العام .
ضحك الأستاذ المرشد ، وفهم أن الدعوة حتى بعد انتقالها إلى القاهرة بثلاث سنوات لازالت إحدى النكرات حتى أن الملتصقة دكاكينهم بدار مركزها العام لا يعرفونه.
محال إذن أن من يكون هدفه أن يعيش فى جو من الشهرة والانطباع ، والشيعة والأشياع ، أن يغادر مكانا يتوفر له فيه كل ذلك ، لينتقل إلى مكان يكون فيه نكرة مجهولة ، وكمية مهملة ولكن المصلح يستجيب لدعوته مهما كلفته هذه الاستجابة .
انتقل فى عمله الخاص الذى يكتسب منه عيشه منه إلى مدرسة عباس الابتدائية بالسبتيه بمصر ، واتخذ لأسرته مسكنا فى حارة الروم بالغورية ، وجعل مقره هذا مقرا للمركز العام بالقاهرة .. أما تعرفي على الدعوة فلم يكن إلا بعد أن اتخذوا للمركز العام مكانا فى شارع الناصرية ، ويعد هذا الموقع بالنسبة لموقعهم السابق كالخروج من تحت الأرض إلى ظهرها ، وان كانت الدار كما قلت من قبل دارا قديمة متداعية .
- تركيز الجهود على الطلاب :
تكوين لجنة الطلبة :
تحدثت عن الطلبة الذين التقيت بهم فى المركز العام حين ترددت عليه أيام محاولتي استكناه أمر هذه الدعوة وأمر العاملين فيها . وقد لفت نظري اهتمام الأستاذ حسن البنا بالطلبة اهتماما شديدا فإذا تخلف طالب من المنتمين إلى الإخوان لأي سبب من مرض أو غضب أو غير ذلك عطل كل أعماله وخف إلى زيارته فى مسكنه مع مجموعة من زملائه الطلبة ويقضى عنده الساعات الطوال ؛ وهو الرجل الذى يضن بالدقائق أن يقضيها فى استقبال زائر مهما علا مقامه ؛ والرجل الذى كتب على مكتبه هذه العبارة ( الوقت هو الحياة ) لأنه كان يخطئ المثل الذى يقول ( الوقت من ذهب ) ويقول : إن الذهب إذا ضاع أمكن استرداده ولكن الوقت إذا ضاع لم يمكن استرداده . وكان على مكتبه أيضا لافته تقول (( الواجبات أكثر من الأوقات )) .
كان يرى أن الطالب هو أحق إنسان أن يعتني به وأن يحرص عليه وأن يبث إليه ما فى العقل والقلب . كان حريصا على أن تكون أمور الطلبة من اختصاصه هو دون غيره ، ويخيل إلى انتقاله إلى القاهرة كان أهم دوافعه أن يكون فى الموقع الذى يمكنه من الاتصال بالجامعة التي كانت فى ذلك الوقت وحيدة لا أخت لها فى بلد آخر من بلاد القطر .. ومن مظاهر حرصه على الاتصال بالطلبة والعناية بأمرهم ما حدثني به فى ذلك الوقت الأخ الكريم محمد فهمي أبو غدير قال لي : إن الأستاذ المرشد حريص كل الحرص على الاتصال بطلبة الجامعة بكل الوسائل الممكنة ، وكان يعتبر إقناع طالب واحد فى كلية من الكليات أنفع للدعوة من دخول بلد بأسرها فيها ، وكان يتلمس وسائل هذا الاتصال فعلم أن كلية الحقوق قررت على طلبة السنة الأولى بها دراسة مائة حديث نبوي اختارتها .. فهرع الأستاذ إلى هذه الأحاديث المقررة فشرحها شرحا رائعا ونشرها فى مجلة الإخوان وقام الإخوان الطلبة بعرض هذا العدد من المجلة على طلبة الكلية فأقبلوا عليها وتهافتوا على اقتنائها وبهذه الوسيلة اكتسبت الدعوة عددا جديدا من طلبة كلية الحقوق .
وبعد فترة قصيرة من التحاقي بالدعوة رأى الأستاذ المرشد أن يكون للطلبة مجلس إدارة سماه (( لجنة الطلبة )) تمثل كل كلية فيها بطالب فكان يمثل كلية الآداب محمد عبد الحميد أحمد وكلية الحقوق حسن السيد عثمان وكلية الطب إبراهيم أبو النجا وكلية العلوم جمال عامر وكلية التجارة طاهر عبد المحسن وكنت أمثل كلية الزراعة واختار الأستاذ المرشد حسن السيد عثمان رئيسا للجنة واختارني سكرتيرا لها .
كان تكوين اللجنة عملا كبيرا فى أثره وإن كان فى مظهره شيئا تافها ، فلجنة مكونة من ستة شبان صغار فى حجرة صغيرة من شقة متواضعة فى شارع غير مرموق لا نثير شيئا من الاهتمام ، ولا تبعث فى النفوس آمالا ترتقب ... ولكن الأستاذ حسن البنا بحاسته التي حباه الله بها ، والتي يرى بها المستقبل مالا يراه جيله ، كان يعرف ما سيكون لهذه اللجنة من آثار بعيدة المدى ، فكان يعقد عليها آمالا عريضة أثبتت الأيام أنه كان على حق فى عقدها وإذا كنا نريد أن نعرض لآثار هذه اللجنة فسنقول الكثير ، وسيطول القول ، وسنرى آخر الأمر أن جميع تطورات الدعوة وكل ما قامت به من أعمال وما حققت من أمال وما أخفقت فيه من ذلك ، وأن بروز الدعوة على المسرح المصري وانتشارها فى المجالين العربي والإسلامي ، ومواجهتها للاستعمار الغربي وللغزو الفكري الروسي منذ سنة 1936 حتى الآن ؛ كل ذلك هو آثار من هذه اللجنة .
الفصل الأول العمل الطلابي المنظم
على أثر تكوين لجنة الطلبة بدأ عمل منظم فى الوسط الطلابي كانت مظاهره ما يأتي :
أولا : توزيع مجلة الإخوان
لم تكن مجلة الإخوان المسلمين مجلة خبرية ولا مجلة ثقافية عامة حتى يقتنيها المتشوفون إلى معرفة الأخبار أو الذين ينشدون الثقافة للمتعة والتسلية ، وإنما كانت لسانا معبرا عن دعوة الإخوان المسلمين ، وكان الأستاذ المرشد يكتب بقلمه أكثر ما ينشر فيها ، وكان يحاول فى كتابته أن يقنع من يقرأها بالدعوة ؛ فكانت هناك سلاسل من المقالات بعناوين (( دعوتنا )) إلى ، (( إلى أي شئ ندعو الناس )) (( هل نحن قوم عميلون ؟ .. )) وأمثال ذلك مما يوضح بأساليب منوعة طبيعة الدعوة وأهدافها ، ووسائلها وآثارها ، وكانت بقية المقالات يدور حول المعنى نفسه .
كما لم يكن لهذه المجلة رأس مال للإنفاق منه عليها ، ولما كان محرروها لا يتقاضون على التحرير فيها أجرا فإن تكاليفها كانت قاصرة على أجر طباعتها وثمن ورقها وكان الأستاذ المرشد يتكفل شخصيا بالجزء الأكبر من ذلك ... ومجلة هذه حالتها وهذه ظروفها ما كان مصدروها ليفكروا فى حمل عبء آخر من أعبائها بأن يتقاعدوا مع شركة توزيع لتوزيعها ؛ وكيف يقدمون على مثل ذلك وهم عاجزون ومن ناحية عن تقديم ما يتطلبه التوزيع من أجر ، ومن ناحية أخرى لا يستطيعون طبع الحد الأدنى من النسخ حتى تصلح للتوزيع فهم يطبعون منها نسخا بقدر ما يملكون من مال . وهذا القدر لا يفي بعشر ما يتطلب التوزيع العام فى مختلف الأنحاء .
لهذا كان يطبع من هذه المجلة قد عدد الإخوان الذين كانوا يقتنونها من أعضاء شعب منطقة القنال وما حولها وترسل إليهم عن طريق مندوبين من هذه الشعب يحضرون إلى القاهرة لتسلمها أو ترسل إلى هذه عن طريق مندوبين يحملونها إليهم وقد ترسل عن طريق البريد وكانت الكمية التي تستبقى فى القاهرة يوزعها الموجودون بالمركز العام على أنفسهم ، وقد نبقى بعد ذلك بقية لا تجد من يقتنيها .
ونظرت (( لجنة الطلبة )) فى موضوع المجلة فوجدت أن توزيع المجلة هو وسيلة من أهم وأجدى وسائل نشر الدعوة ووجدت أن الطلبة قد يكونون أكثر الطوائف فهما لما يكتب فيها وأحوجهم إلى قراءتها وأنفعهم للدعوة إذا اقتنعوا بأفكارها ، فقررت اللجنة أن يلتزم مندوب كل كلية بعدد من النسخ كل أسبوع يوزعه فى كليته .. وبدأت التجربة بعدد قليل وأخذ العدد فى الازدياد وكان الأستاذ المرشد يتابع هذا التوزيع باهتمام لأنه مقياس لمدى نجاح الدعوة فى كل كلية من الكليات .. وكان بعضنا - نحن أعضاء اللجنة - فى أول الأمر يسدد ثمن أكثر ما التزم به من نسخ من جيبه الخاص ولكن نجاح التجربة أغنى عن ذلك فيما بعد
ثانيا نشر الدعوة داخل الكليات

كانت الكليات خلوا من الدعوة الإسلامية فى الوقت الذى كانت تعج فيه بالأحزاب السياسية والأفكار المنحرفة وكانت رؤية الطلبة زميلا لهم يصلى كافية للتشنيع عليه ورميه بالرجعية ولذا كان الطالب الذى تربى فى بيته على المحافظة على الصلاة يجد مشقة فى أداء الصلاة فى كليته ، وكان يستخفى بالصلاة خشية أن يراه زملاؤه فيرشقونه بألفاظ مؤلمة .. وقد يحمل هذا الكلام على محمل المبالغة أو التخيل ... ولذا فسوف أشرح مواقف توضح للقارئ أن هذا الوصف خلو من أي معنى من معاني المبالغة .
التحقت بكلية الزراعة وكانت الكلية فى تلك السنة 1935-1936 لا تزال مدرسة عليا ، وكانت لا تزال هناك وجبة غذاء فاخرة تقدم للطلبة وكانت فترة الغداء هذه تطول أكثر من ساعة وتمتد فترة الدراسة بعدها إلى ما بعد العصر ؛ فكان أداء صلاة الظهر أمر لا مفر منه فى فترة الغداء ... ولما كنت طالبا جديدا وكنت حديث عهد بالكلية فقد تولتني الحيرة أين أؤدي صلاة الظهر ، فلم أجد أمامي من أتوسم فيه معرفة إلى ذلك إلا الفراشين فدلني أحدهم على المكان وكان هذا المكان قبة مبنية على الأرض ، ولكي أدخل تحت هذه القبة كان على أن أهبط سبع درجات سلم حيث أدخل مكانا مظلما يشغل ثلاثة أرباع مساحته الضئيلة قبر عليه ستار من قماش مهلهل وحول القبر قطع بالية من حصير قذر لا يتسع لصلاة اثنين معا .
انقبضت نفسي حين دخلت هذا المكان وتعجبت كيف تؤدى الصلاة فى مثل هذا المكان ، ولكوني طالبا صغيرا حديث عهد بالكلية اضطررت لأداء الصلاة فيه فترة من الزمن ، حتى إذا استقرت فى خاطري معالم هذه الكلية بدأت أبحث عن طريقة للتخلص من أداء الصلاة فى هذا الجب البغيض . وقد لاحظت أنه لحماية هذا المهبط إلى الجب أقامت الكلية سورا قصيرا من الحديد حوله ولكنه على وجه الأرض طوله نحو ثلاثة أمتار وعرضه نحو أو يزيد ؛ فتمنيت لو أننا صلينا فى هذا المكان ... ولاحظت أن هناك طالبا مواظبا على أداء صلاة الظهر فأحببته وتعرفت عليه وكان أسمه (( محمود مكي )) بالسنة الثالثة - وتبين لي بعد ذلك أنه مندوب (( مصر الفتاة )) بالكلية - فعرضت عليه أن نصلى فوق الأرض فى المساحة التي يحصرها السور فهمس فى أذني بأن هذا غير ممكن وإن أحدا لن يجرؤ على الصلاة فوق الأرض ، وأننا نصلى تحت القبة حتى لا يرانا زملاؤنا فيسخروا منا ويتهكموا علينا
أثارني هذا الاستخذاء وأجج فى صدري مرجلا من الغضب فنقلت الحصير البالي من تحت القبة إلى المساحة التي يحصرها السور من سطح الأرض ، ثم وقفت فى هذا المكان وأذنت أذان الظهر بأعلى صوتي فكان أذاني هذا إحدى العجائب إذ تقاطر الطلبة والفراشون وموظفو الكلية من مختلف الجهات إلى حيث أؤذن ليرو بأعينهم ما لم يصدقوا فيه أسماعهم .. فكانوا يعتقدون أن اجتماعهم فى مواجهتي وتكأكؤهم على كاف لإخجالي مما أقوم به فأكف عن إكماله ، ولكنني قبل أن أقدم على ما أقدمت عيه كنت مقدرا حدوث ما حدث بل حدوث ما هو أكبر وأنهيت الآذان ، وأقمت الصلاة وصليت والجموع فى مكانها لا تتحرك ، وأبصار الجميع شاخصة إلى .... وفى اليوم التالي فعلت ما فعلت بالأمس . والباطل لا تقوى صولته إلا إذا تخاذل أهل الحق عن حقهم أما إذا اعتزوا بحقهم . ووقفوا شامخين أمام سيل الباطل فإن الباطل ينحسر سيله ويرتد خاسئا وهو حسير ... فبعد أيام قلائل وجد محمود مكي والطلبة الذين كانوا يستخفونه بصلاتهم وجدوا فى أنفسهم الجرأة أن يصلوا معي على وجه الأرض ومن العدد يكثر يوما بعد يوم ضاقت هذه المساحة بالمصلين
كان لهذا العمل أثره فى فتح الطريق أمام الدعوة الإسلامية وهى دعوة الإخوان المسلمين ،فلقد كان أمام الطلبة المؤمنين باب مغلق تهيب كل منهم أن يحاول معالجته فكان هذا العمل بمثابة اقتحام الباب (( وإذا قال موسى لقومه يا قوم اذكروا نعمة الله عليكم إذ جعل فيكم أنبياء وجعلكم ملوكا وآتاكم ما لم يؤت أحدا من العالمين . يا قوم أدخلوا الأرض المقدسة التي كتب الله لكم ولا ترتدوا على أدباركم فتنقلبوا خاسرين . قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين إنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فانا داخلون . قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون . وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين )) .
كان هذا هو العمل الذى لابد منه حتى تجد الدعوة الإسلامية الجديدة لنفسها طريقا وسط هذا المزحم الزاخر بالفكر والدعوات التي توطنت واستقرت فى نفوس هذا الشباب المأمول والذي عمل المستعمر وذيوله من قديم على الاستحواذ على عقله وفكره وعواطفه ومشاعره بعد أن ربوا على أيديهم وفى أحضانهم جيلا بثوا فيه أفكارهم ثم ألقوا إليه بمقاليد الأمور .
لقد كان دخول الدعوة الإسلامية كليات الجامعة أشبه برجل فقير ولد له ولد فجاء قوم من الأغنياء فاغتصبوا ولده وطردوا هذا الرجل الفقير وشردوه كل مشرد ، وربوا هذا الطفل فى قصورهم فنشأ لا يعرف إلا لغتهم ولا يتغذى إلا بغذائهم ولا يتزيي إلا بزيهم ... فلما اهتدى والده بعد لأي إلى مكانه فى القصر ، اقتحم إليه فقوبل اقتحامه بعاصفة من الدهشة والاستنكار حتى من ولده الذى لم يكن يعرفه .. فما كان من الوالد - وهو صاحب حق - إلا أن ثبت فى مكانه ، وتمادى فى إصراره - ولصاحب الحق صولة - حتى بدأ قلب الولد ينبض بالرابطة الإلهية الأصيلة وألقى بنفسه بين ذراعي والده .
- حرم الجامعة :
كانت مصر فى ذلك الوقت لا تزال قريبة عهد بالتعليم الجامعي ، ولم تكن الجامعة حتى ذلك الوقت الذى أتحدث عنه إلا مبنيين أثنين فى آخر شارع المدارس بالجيزة أحدهما لكلية الآداب والآخر لكلية الحقوق ، وبين المبنيين مبنى ثالث تعلوه قبة ضخمة هو إدارة الجامعة . ووسط ذلك كله أرض فسيحة مغطاة بالنجيل الأخضر تسمى (( حرم الجامعة )) وكان حرم الجامعة هذا هو معترك أصحاب الدعوات ، حيث كان طلبة كليتي الآداب والحقوق فى ذلك الوقت يعدون أنفسهم بحكم ثقافتهم الأدبية والقانونية قادة الطلبة حيثما كانوا ، وهم الذين تفوضهم الأحزاب فى تمثيلها فى الأوساط الطلابية ، وكانت خزائن الأحزاب مفتوحة للطلبة المشايعين من هاتين الكليتين .
كان حرم الجامعة حتى ذلك الوقت حلبة نزال مستمر بين الأحزاب المصرية ، الوفد والأحرار الدستوريين والسعديين والحزب الوطني ثم جد عليهم ممثلو (( مصر الفتاة )) ... ثم استقر رأينا فى (( لجنة الطلبة )) على النزول بالدعوة إلى حرم الجامعة ؛ وكنت الوحيد من خارج الكليتين العتيدتين الذى أصبح له مكان بينهم فى هذا الحرم .. وكانت المناقشات بيننا وبين ممثل مختلف الأحزاب تستعر حتى أصبح لنا صوت مسموع فى هذا الحرم .
ثالثا : نشر الدعوة فى الأقاليم
سبق لي أن أشرت إلى أن الدعوة لم تكن معروفة إلا فى إقليم القنال وما يتاخمه من بعض بلاد الدقهلية والشرقية وبلاد معينة لأنها موطن أشخاص معينين من السابقين فى الدعوة كالمحمودية وكفر الدوار وشبراخيت وشبين القناطر ؛ ومع ذلك تكن الدعوة فى هذه المناطق معروفة على صورتها الكاملة بل تعرف منها جوانب محددة على القدر الذى كانت تسمح به ظروف الدعاة وظروف المدعوين . ووجد الأستاذ المرشد ثمرة جهود سنة كاملة بين يديه من شباب الجامعة بل من أنضج شبابها قد يصل عددا إلى المائة يفهمون الدعوة على أوسع دائرة من الفهم ومن أقدر الناس على توضيحها لغيرهم ، فكان لابد من الإفادة من هذه المجموعة التي يندر وجود مثلها فى هيئة من الهيئات .
أعد الأستاذ المرشد فى أواخر العام الدراسي مذكرة من نحو عشرين صفحة شرح فيها طرق الاتصال بالطبقات المختلفة من الناس والأساليب المثلى لمخاطبة كل طبقة ، وضمنها مجموعة من الآيات والأحاديث التي يستعين بها الداعية ، وطبع هذه المذكرة على (( البالوظة )) وقسم الطلبة مجموعات يضم بعضها طالبين وبعضها ثلاثة وبعضها أربعة ووزع هذه المذكرات على المجموعات وقسم القطر المصري على هذه المجموعات فكان نصيب مجموعتنا وتتكون من طالبين : رشاد سلام من كلية التجارة وأنا - مدينة الإسكندرية .
ولما بدأت الإجازة الصيفية انتشرت هذه المجموعات فى أنحاء القطر .. وإلى هذه البعثات يرجع الفضل فى نقل الدعوة إلى كل مكان فى مصر ، وفى الانتقال بالدعوة من طور إلى طور جديد ؛ ومن طور كانت فيه جمعية موضعية تقارن بالجمعيات الإسلامية الأخرى التي كانت موجودة بالقاهرة مثل جمعية مكارم الأخلاق وجمعية البر والإحسان وجمعية الشفقة الإسلامية وجمعية دفن الموتى وأمثالها إلى طور أخر زاحمت فيه دعوات دينية كانت منتشرة فى كثير من بلدان القطر مثل الجمعية الشرعية وجمعية أنصار السنة كما بدأت تزاحم أفكار أساسية مسيطرة فى كثير من البلدان مما تعود الناس إطلاق اسم الأحزاب عليها .
وكانت المفاجأة المثيرة فى هذه البعثات أن الناس لأول مرة رأوا دعاة إللا الين من شباب لم يكن يمت إلى الدين بصلة رسمية .. إذ كان طلاب الجامعة - وكانوا إذ ذاك عددا قليلا - يتهمون فى عقيدتهم وينظر إليهم على أنهم أصبحوا غرباء عن بلادهم حتى فى العادات والتقاليد .. فكان غريبا أن يروا من هذا الشباب من يغشى المساجد ومن يتكلم فى الناس كلاما حلوا جميلا مطعما بآيات كريمة من القرآن وبأحاديث شريفة من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم ؛ ويكسو هذا الكلام الجميل روعة وجلالا وتأثيرا صدوره من قلوب مؤمنة به طاهرة نقية لا تسألهم عليه أجرا .
تمخضت هذه البعثات عن تكوين شعب فى جميع عواصم المديريات ( المحافظات ) وفى بعض حواضر المراكز .. نعم كان أكثر هذا الشعب يتكون من عدد قليل من الفقراء ومتوسطي الحال إلا أنهم كانوا مؤمنين بالدعوة فقد استجابوا إليها دون طمع فى منصب أو جاه أو مال ودون خوف من بطش فأصحاب الدعوة أنفسهم مجردون من ذلك كله حتى إن زعيم الدعوة ليس إلا مدرسا فى مدرسة ابتدائية .
رابعا : عام المعارك
بدأ هذا العام - وهو العام الثاني منذ التحقت بالدعوة - وقد أصبح لدعوة الإخوان كيان ملموس ، فقد أحس الطلبة فى بلادهم - وأكثرهم من خارج القاهرة - بدعاة من زملائهم انتشروا فى خلال الصيف فغزوا الريف ودخلوا بالدعوة إلى أحشاء البلاد .. وجاء هؤلاء الطلبة فى العام الدراسي الجديد إلى كلياتهم لامسين الكيان الإخوانى ، فلا عجب إذا هم نظروا إلى زملائهم من الإخوان من طلبة الكلية نظرة توحي بالاهتمام .
وكان لابد لهذا الكيان الملموس - وقد وجد - أن يعمل ، وأن يكون لعمله صدى ، وأن يكون لهذا الصدى دوى يلفت الأنظار ويشغل الرأي العام .
- (1) معركة المساجد :
من البديهي أن تكون الخطوة الأولى لدعوة إسلامية أن توجد المسجد الذي هو رمز الإسلام وقاعدته التي تبعث منها أشعته فتضئ ما ولها – ولا نكر أنه كان فى بعض الكليات مصليات لأداء الصلاة لكنها كانت فى أماكن حقيرة أنشأها عادة السعاة والفراشون ، وكان الطلبة الذين يريدون تأدية الصلاة يستنكفون أن يؤدوها فى هذه الأماكن لحقارتها من ناحية ولعدم وجود أماكن للوضوء بجانبها من ناحية أخرى ... ومن هنا نشا ما طلق عليه معركة المساجد وقد نشأت هذه المعارك فى أكثر الكليات فى خلال هذا العام لكن أشد هذه المعارك إثارة ما كان فى كليتي الزراعة والآداب لما كان لهما من معان كبيرة ودلالات .
فى كلية الزراعة :
أشرت آنفا إلى المحاولات التي بذلتاها فى كلية الزراعة فى السنة الماضية فى سبيل الإعلان بالصلاة والظهور بها من تحت الأرض إلى سطحها ، وما كان لتلك المحاولات - التي عدت جريئة من آثار بعيدة المدى فى نفوس الطلبة والمدرسين وإدارة الكلية . ولم نكن - نحن الإخوان - نتصور أن هذه الآثار قد وصلت إلى حد هيأت فيه النفوس تهيئة عظيمة .
رأينا - نحن إخوان الكلية - أن نطالب إدارة الكلية بفرش هذه المساحة الضئيلة التي نصلى فيها بجانب القبة بحصير جديد ... وأول إنسان اتجه إليه نظري ، وعول عليه أملى لمساعدتنا فى هذا الأمر هو وكيل الكلية وكان معروفا بالصلاح والتقوى ، وبأنه من دراويش مسجد الحسين فذهبت إليه وحدثته فى الموضوع وأنا واثق فى الإجابة ، ولكنني سمعت منه كلاما صدمني وهدم آمالي حيث قال أولا : لا داعي لهذا ، وهذه القطع من الحصير موجودة فى المصلى من قديم ولم يشك منها أحد غيركم ، فلما طلبت منه أن يحضر للصلاة معنا عليها غضب وقال : إن إدارة الكلية لا شأن لها بمثل هذه الأمور !! .
نقلت ما دار بيني وبين الرجل إلى إخوانى بالكلية فأسفوا لخيبة أملهم فى الرجل المصلى الذي لا يدع السبحة من يده والذي لا يدع يوما دون أن يصلى العشاء بمسجد الحسين ثم يطوف بالمقام .. ولكن خيبة أملهم لم تقعد بهم عن مواصلة الجهد واقترحوا أن نتقدم بهذا الطلب إلى العميد - وكان الوكيل قد حذرنا من ذلك خوفا من أن يسلبنا ما اكتسبتاه من حق الصلاة فوق سطح الأرض باعتبار العميد رجلا بعيدا عن هذه الاتجاهات ... ولكن ذلك لم يمنعنا أن نجازف وتقدمنا إلى العميد وكان الأستاذ محمود توفيق الحفناوى (بك)
استمع العميد إلى مطلبنا . واطرق قليلا ثم بعث فى طلب وكيل فحضر . فقال له : إن هؤلاء الطلبة يطلبون طلبا متواضعا . وأنا أتابع موضوع المصلى وتطوراته التي حدثت فى العام الماضي . وأنا معجب بجهود هؤلاء الطلبة المتدينين . وأنا لا قبل أن تكون مصلى الكلية هذا المكان الحقير . ثم قال للوكيل : أتعرف المكان الذي يقام فيه سرادق الغداء فى العام الماضي ؟ قال : أن يقام مكانه مسجد وتلحق بالمسجد حديقة خاصة به ...
ذهل الوكيل مما سمع من العميد ثم زاده ذهولا لقول العميد له : أحب أن تتفرع أنت شخصيا لإنجاز هذا العمل فتقيم المسجد وتفرشه بأفخر فرش وتشرف على زرع الحديقة بالأزهار الجميلة المناسبة ثم تعين له إماما يتفرغ للإمامة وشئون المسجد ..
ثم قال العميد : إن هذا المشروع سيتكلف كثيرا ، ومن الممكن أن قيمه على حساب الكلية باعتباره منشأة من منشأتها ، ولكنى أحب أن يشعر الجميع بالمعاني السامية التي تدور حول إقامة مسجد بالكلية ولا يكون ذلك إلا إذا ساهم فيه الجميع طواعية ، وسأفتتح الاكتتاب بعشرة جنيهات منى .. وأمر الوكيل بإعلان الاكتتابات وكتابة اسم كل مكتتب والمبلغ الذي اكتتب به على سبورة توضع على حامل فى مدخل مبنى الكلية ... وانهالت الاكتتابات من الأساتذة والمدرسين والطلبة ، وأشاعت هذه الطريقة فعلا روحا جديدة فى الكلية طلبة وأساتذة .. وجميع مبلغ كبير غطى المطلوب وزاد .
وقد أفدنا من هذه التجربة ما يأتي :
- أن المجهود النابع من قلوب مخلصة لابد أن يثمر (( والعمل الصالح يرفعه ))
- أن الذين ينحرفون بالمعاني الإسلامية الكبيرة إلى مظاهر الدروشة وما يصاحبها عادة من الضعف والخنوع والاستكانة ، ليسواهم الذين يصلحون أن يعينوا على النهوض بالمجتمع الإسلامي بل هم المثبطون .
- أن هناك رجالا من أولى العزائم فى حاجة إلى ما يكشف عن عزائمهم من عمل جريء مخلص فيرى الناس من هذه العزائم والهمم جلائل الأعمال التي يعجز عنها أكثر الناس . وبني المسجد وبنيت بجانبه دورة مياه خاصة به وألحقت بهما حديقة غناء وصار يؤذن فيه وتقام الصلاة ويمتلئ بالمصلين وقد يضيق بهم على سعته .. وكان ذلك فاتحة عهد جديد لدعوة الإخوان المسلمين بالكية وانتصارا ساحقا للفكرة الإسلامية .
فى كلية الآداب :
كان أداء الصلاة فى كلية الآداب أمرا شاقا لعدم وجود مكان محدد معد لهذا الغرض وفى إبان معركة المسجد بكلية الزراعة استيقظت فكرة إقامة مسجد بكلية الآداب ... ولكن الوضع فى هذه الكلية يختلف عنه فى كلية الزراعة ، فالكلية عبارة عن مبنى واحد ، فليس بداخله مساحات من الأرض يمكن استغلالها فى بناء مسجد . وليس بالكلية مرافق تسهل هذه العملية .. ولذا فإن مجال الاختيار فى هذه الكلية كان محصورا فى تخصيص حجرة من حجرات الكلية تكون قريبة من دورة مياه .
وتقدم الإخوان بالكلية إلى المسئولين بها يطلبون تخصيص حجرة لتكون مسجدا ، وكما هو معتاد رد المسئولون يعتذرون بعدم وجود مكان لذلك ، ورفع الإخوان مظلمتهم إلى عميد الكلية وكان الدكتور منصور فهمي ( باشا ) ولم يكن معروفا عن الرجل اهتماما بالدين ... وطلب العميد المتظلمين وسألهم عن الحجرة التي يريدونها ، فعينوا له عدة حجرات فقال الرجل : ينبغي أن تخصص للصلاة أكبر حجرة فى الكلية وأفخم حجرة بها .. وقال : أليس مكتب الأستاذ ة الإنجليز يشغل أفخم حجرة فى الكلية ويلحق بها أفخم دورة مياه ؟ قالوا بلى : قال : سأوقع الآن أمرا بإخلاء هذه الحجرة وتخصيصها ودورة المياه الملحقة بها للوضوء والصلاة . وعلى إدارة الكلية إعداد حجرة أخرى لتكون مكتبا للأستاذ الإنجليز . وبلغت الدهشة بالإخوان كل مبلغ لأن الإنجليز فى تلك الأيام كانوا سادة البلاد وأصحاب الكلمة والنفوذ وإن هذا الرجل بتصرفه هذا يضع نفسه فى فوهة مدفع قد يعصف بمستقبله فأراد الإخوان أن يفتحوا للعميد بابا للتراجع عن هذا القرار إلى قرار أدنى خطورة منه .
ضحك الرجل وشكر الإخوان على كريم شعورهم نحوه وإيثارهم مصلحته وقال لهم : لعلكم ظننتم أن هذا القرار كان منى وليد حماس بعثته فى نفسي حرارة الموقف وشدة التأثر .. لا والله يا أولادي ... لقد كان هذا القرار فى نفسي منذ سنوات ولكنى كنت محتاجا إلى من يدفعني إلى إصدار ه فكان مجيئكم هو هذا الدافع ...
أنا أعرف مدى سلطة الإنجليز فى بلادنا ومدى الإرهاب الذي جعل حول كل انجليزي هالة يراها المصري فينكمش مهما كان هذا المصري عظيما ... ولكن سرا طويته بين أحناء ضلوعي من قديم وسأفضي به لأول مرة بين أيديكم الآن : لما كنت مبعوثا فى فرنسا واصلت دراستي بها حتى أخذت فى إعداد رسالتي للحصول على الدكتوراه ، وأعددتها فعلا ، ولما عرضتها على الأساتذة الذين سيناقشونها وبيدهم منحى الدرجة وبيدهم منعها أجمعوا على أنهم لن يمنحوني الدرجة - مع إقرارهم بأن الرسالة جديرة - إلا إذا أضفت إليها عبارات أهاجم فيها الرسول صلى الله عليه وسلم وأمام طيش الشباب . وخوفي من الرجوع إلى مصر بغير الدكتوراه فاعتبر خائبا ... أذعنت .. ومنذ ذلك الوقت وأنا نادم وأترقب فرصة تتيح لي عملا أكفر به عن هذه الخطيئة ... وقد أتحتم لي يا أبنائي هذه الفرصة فشكرا لكم ودعوني أعمل هذا العمل لعل ضميري يستريح ..
وصدر القرار فكان مفاجأة مذهلة للجميع لاسيما للإنجليز الذين - لشدة ذهولهم -لم يستطيعوا أن يفعلوا شيئا إلا التنفيذ - وبذلك تحولت أعظم حجرة بالكلية وأعظم دورة مياه إلى مسجد بملحقاته .
- معركة مع المخابرات البريطانية
مع أنه كانت فى بلادنا حكومة مصرية إلا أنها لم تكن تعرف حقيقة ما يدور على أرض بلادها من حركات فى حين كان الإنجليز يرقبون هذه الحركات ويرصدونها. كان الإخوان فى الكليات حتى ذلك الوقت فى طور التكوين لا يزالون يعرضون فكرتهم الإسلامية عن طريق الإقناع الفردي ، وعن هذا الطريق الفردي صار للدعوة أنصار من طلبة الجامعة كثيرون ...لم تفهم الحكومة المصرية حتى ذلك العهد فكرة الإخوان ولا أهدافهم ولك الإنجليز تنبهوا لخطورة هذه الدعوة حين رأوا فجأة استجابة لها فى أوساط طلبة الجامعة ... وأقوال فجة لأنهم لم يكونوا يعرفون عن دعوة الإخوان شيئا قبل أن تصل الجامعة ، وتبين لي أن الأستاذ المرشد كان حريصا من أول يوم قام فيه بالدعوة على أن يموه على الإنجليز ، ويتفادى أي إجراء يستلفت نظرهم .
ولما تنبه الإنجليز اتخذوا إجراء عجيبا ... أرسلوا إلى القاهرة رجلا إنجليزيا أستاذا فى التاريخ لزيارة كلية التجارة ، فالتف حوله الطلبة والأساتذة فعرفهم بنفسه فقال إنه إنجليزي مسلم بعد أن أعتنق الإسلام . عن اقتناع سمى نفسه (( خالدا )) وأنه أستاذ فى التاريخ وأنه جاء إلى القاهرة باعتبارها العاصمة الإسلامية الكبرى ليسعد باللقاء والحديث مع رجال الجامعة من الأساتذة والطلاب حديث الأخ لإخوته .. سرى بين الطلبة نبأ هذا الأستاذ الإنجليزي المسلم فتقاطروا عليه كل يريد أن يوجه له سؤالا ... فتن الطلبة به بل والأساتذة . وسرت روح الافتتان إلى كليات أخرى فصارت تتوافد منها مجموعات بعد مجموعات للالتقاء به فى كلية التجارة .
ولا أدرى لم اختار كلية التجارة بالذات ليظهر فيها دون الكليات الأخرى ؟ ولكن لعل اختيارها كان لكونها تقع فى حي المنيرة فى وسط المدينة ، ولأن الدراسة فيها تسمح للطلبة بالتجمع فى حين كليات أخرى كالطب مثلا وإن كانت فى وسط المدينة إلا أن الطلبة فيها مشتتون بين المعامل وعنابر المرضى .
واستجابة لطلبة المفتتنين به من الطلبة والأساتذة نظمت الكلية محاضرات يلقيها - وأنا شخصيا لم تتح لي فرصة لحضور محاضراته ولا للالتقاء به - ولكن إخوان كلية التجارة كانوا ينقلون إلينا كل شئ عنه يوما بيوم ، لأننا فهمنا الهدف من إيفاده فى هذا الوقت بالذات ، وفهمنا اللعبة الإنجليزية التي طبعا لم تخطر على بال أحد من الطلبة ولا من الأساتذة ....
كانت محاضراته تدور حول كيفية اقتناعه بالدين الإسلامي ثم كان يتطرق من ذلك إلى شرح الفكرة الإسلامية وأن العقيدة الإسلامية هي العقيدة الوحيدة التي تتمشى مع العقل وتخضع للمنطق ، وفى أثناء شرحه للفكرة الإسلامية كلن يجنح بها إلى النواحي العبادية والتصوفية ، ومن طرف خفي يقصرها على هاتين الناحيتين فيبالغ بها فيهما ويباعد بها عن الشئون الدنيوية والتشريعية وكان أسلوبه هذا يلقى هوى فى نفوس الكثيرين من خلاه الذهن عن حقيقة الفكرة الإسلامية .
والإخوان المسلمون فى فهمهم للفكرة الإسلامية يعرفون أية مواضع منها توغر صدر الإنجليز باعتبارهم قادة المستعمرين فى ذلك العهد . ويعرفون أيضا الخطط التي وضعها الإنجليز لمحاولة التخلص من هذه المواضع ، ويعرفون أن هذه المواضع هي ما يتصل من الفكرة الإسلامية بالتشريعات التي تنظم الحياة وتكون الدولة الإسلامية المثالية ... فالإنجليز يرتضون من الفكرة الإسلامية - إن كان لابد منها - الجزء الذي يتصل بالعبادة ويحاولون أن يمسخوا هذه العبادة بما يلقون عليها من ظلال الرهبانية مما يسمونه تصوفا بحيث يتقوقع المسلم على نفسه فلا يبالى بما يدور حوله فى الحياة ، ويستوي عنده أن تكون بلاده حرة أو مستعمرة ، لأنه حسب هذا الفهم المشوه للفكرة الإسلامية ، يعتقد أنه أدى كل ما أوجبته عليه .
الإنجليز بالذات - من دون المستعمر - لم يحاولوا مهاجمة المسلمين بالحديد والنار كما فعل الفرنسيون والايطاليون وغيرهم ، بل إنهم مكنوا لاستعمارهم فى البلاد الإسلامية بوسيلتين اثنتين معا : الأولى الاستيلاء بوسائل الإغراء المختلفة - من مال ومناصب - على مراكز التوجيه الإسلامية والأخرى : إبراز الفكرة الإسلامية للشعب مبتورة ممسوخة .
فعلوا ذلك فى مصر ، فبعد أن ضمنوا أن المتربع على عرش البلاد صنيعة لهم - حتى إن الخديوي توفيق طلب حمايتهم واستجابوا له - ضمنوا بذلك أن الذين سيتداولون الحكم فى البلاد هم الفئة الغريبة عن الشعب بعواطفها وآمالها وبلغتها .. ثم وجدوا أن مركز التوجيه الإسلامي فى البلاد هو الأزهر فعملوا - عن طريق صنائعهم الحكام - على أن تكون مناصبه الرفيعة لمن تستهويهم المناصب ولمن يبيعون دينهم بعرض الدنيا ، وعن طريق هؤلاء سرت الفكرة المبتورة عن الإسلام فى مختلف أوساط الشعب الطيب القلب فانخدع ، وبهذا الأسلوب الهين اللين نام الشعب وغط فى نومه ولم يعد يبالى بما يجرى حوله فى بلده ولا فى أي بلد إسلامي ... فالمجازر تجرى فى سوريا وفى ليبيا وفى المغرب بأقسامه ، ويقرأ عنها فى الصحف ، ولا يشعر بأي معنى من معاني التعاطف مع هؤلاء المسلمين الذين يظلمون ويقتلون ، ولا بأي معنى من معاني الغضب حيال من يقترفون هذه الجرائم ... نجح الإنجليز فيما لم ينجح فيه الطليان والفرنسيون حيث استطاعوا بطريقتهم الهادئة الملتوية إخماد الجذوة الإسلامية فى نفوس المصريين فأصبحوا لا يحسون ولا يشعرون .
وفعلوا مثل ذلك فى الهند ، وقد اختلفت الوسائل فى مظاهرها ولكن الهدف هو الهدف ... اختاروا شابا مسلما ينسوا منه رقة فى الدين وتطلعا إلى المنصب والشهرة والمال ، فأغدقوا عليه وكان اسمه (( غلام أحمد )) وأوعزوا إليه أن يدعى أنه نبي من عند الله أرسله الله بعد محمد وبشريعة محمد إلا أن الجهاد قد نسخ منها ... وباعتبار الهند فى ذلك الوقت شعبا موغلا فى الأمية والجهل والفقر والخرافة انخدع بعض الناس بهذا الدعي ، كما اشترى الإنجليز له بالمال أتباعا من أمثاله يروجون له ، وينشرون دعوته ، فضلا عن رجال الإدارة والحكم من الإنجليز وأذنابهم الذين كانوا جميعا فى خدمته ... وقد ألف كتابا سماه (( البيان )) على ما أذكره وقد اطلعت عليه عند عمى رحمه الله ، ادعى أنه الكتاب الذي أوحاه الله إليه بعد القرآن ... ومن الطريف أنه قد بلغت به الوقاحة والاستخفاف بعقول الناس فى الهند يقول فى هذا الكتاب إن الله قد بعثه بنسخ الجهاد لاسيما ضد الإنجليز ... ولما كان هذا المدعى الوقح من بلدة فى الهند تسمى (( قاديان )) فقد سمى دينه (( بالقاديانية )) أو (( بالأحمدية )) نسبة إلى اسمه ... وأكثر الإنجليز ممن يدعون أنهم مسلمون هم من أنباع هذا الكذاب .
وفعل الإنجليز مثل ذلك فى إيران ثم نقلوه إلى الشام وفلسطين أيام كانت تحت انتدابهم .. فقد ساندوا رجلا إيرانيا اسمه (( بهاء )) فادعى أنه (( باب الإله )) فهو درجة بين النبوة والإلوهية وأن الله بعثه بدين يجمع بين الأديان السماوية الثلاثة الإسلام واليهودية والمسيحية ، وأنه أيضا جاء بالسلام فلا جهاد ، حتى العبادة جاء بها مخففة فالمسلم البهائي يصلى ركعتين مرة طول حياته ، والمسيحي يصلى صلاته فى الكنيسة مرة واحدة أيضا وكذلك اليهودي ...
وقد ألقت الحكومة الإيرانية القبض على (( بهاء )) هذا وحاكمته وأعدمته وطاردت فلول أتباعه الذين هربوا من البلاد ... فمن الذي يلقاهم بالأحضان وأوسع لهم ؟ تلقاهم الإنجليز فأحسنوا وفادتهم ومكنوا لهم فى فلسطين ووضعوهم فى المناصب الحساسة والمناصب الرئيسية .. وقد قرأت فى ذلك الوقت إحصائية لموظفي حكومة الانتداب فى فلسطين وأديانهم فكان البهائيون يمثلون أكبر نسبة ... وهؤلاء الموظفون البهائيون فى حكومة الانتداب بفلسطين هم الذين مهدوا لقيام الصهيونية ومكنوها من أرض فلسطين ومن رقاب أهلها .
ولا داعي للحديث عن الأساليب الإنجليزية الملتوية الأخرى التي أسسوها بالتحالف مع أقطاب اليهود لتفتيت القوميات ، وتفويض العقائد ، وتفكيك أواصر المجتمع كالماسونية وأخواتها مما قد نعرض له فى فصل قادم إن شاء الله ....
وقد فعل الإنجليز كل هذه الأفاعيل بالمسلمين فى مختلف بقاع الأرض ، وكان حرصهم على نجاح خطتهم فى مصر أشد من حرصهم على نجاحها فى أي مكان آخر لأنهم يعرفون أن مصر هي مركز الإشعاع للعالم الإسلامي كله ... وقد نجحوا فى مصر كما قدمنا ، واطمأنوا لذلك تمام الاطمئنان ، وطال اطمئنانهم حتى إن الأمور صارت تجرى فى مصر على ما يتمنون بالقصور الذاتي دون تدخل منهم أو جهد يبذلونه ... وحتى إنهم أخذوا يحولون جهودهم فى التخريب إلى بلاد أخرى ... غير أنهم أحسوا فجأة بدبيب حياة عاد يدب فى جسم الأمة فى مصر من جديد فهبت أجهزة المراقبة عندهم نتلاوم لم يحسوا بهذا العبث إلا بعد أن وصل إلى الجامعة المصرية ؛ فأخذوا فى وضع تكتيك سريع لأخذ الطريق على هذا البعث فأرسلوا هذا الأستاذ الإنجليزي المسلم (( خالدا )) ........
واستطاع (( خالدا )) بأسلوبه البارع الأخاذ أن يستولى على مشاعر الكثرة الغالبة من الطلبة والأستاذة ، وأن يصور لهم الفكرة الإسلامية كما أرادتها حكومته التي أرسلته .... وكان لابد لإخوان كلية التجارة من إفساد التكتيك المحكم لهذا الرجل ، وكان فى كلية التجارة مجموعة من أنضج الإخوان مثل محمود أبو السعود وطاهر عبد المحسن ورشاد سلام ، وكان محمود أبو السعود يتقن الحديث بالإنجليزية كأهلها .. وكان تكتيكهم الذي رسموه أن يواظبوا على حضور محاضرات الرجل ، وأن ينبثوا فى أماكن مختلفة بين الحاضرين ، وأن يواجهوا إليه أسئلة متدرجة أعدوها يتناوبون توجيهها ، وهى أسئلة تلزمه أن يتعرض للنواحي التي يتعمد إغفالها وتفاديها من الفكرة الإسلامية وهى ما يتصل بموضوع الإسلام والدولة ، والإسلام والتشريع ، والإسلام والجهاد ، والإسلام والقومية ، والإسلام والوطنية .
وأمطروه بالأسئلة بطريقة مرتبة ومهذبه ، وكان الرجل يجيب عليها بلباقة يتمكن بها من تفادى الإجابات المحددة ؛ فإذا سئل مثلا عن الإسلام والدولة والإسلام والتشريع قال إن الإسلام كغيرة من الأديان يشرع لمتبعيه أسلوبا فى الحياة ، ولو اتبع أصحاب كل دين أسلوب دينهم لسعدوا فى الحياة ولصارت لهم دولة قوية ذات شأن... وهكذا ظل الإخوان يلقون إليه بالأسئلة وهو يتفادى حتى ضيقوا عليه الحصار تضييقا خانقا ووضعوه أمام سؤال الإجابة عليه إلا بلا أو نعم ؛ قالوا له أنت الآن رجل مسلم فهب أن حربا نشبت بين المسلمين وبين بريطانيا فمع أي الفريقين تحارب ؟ ... وحاول الرجل التهرب من الإجابة لكن الإخوان حاصروه ، لاسيما وقد لقي السؤال هوى فى نفوس جميع الحاضرين من الطلبة والأساتذة فأيدوا الإخوان فى سؤالهم وطلبوا الإجابة عليه ......
وأحس الرجل أن الحصار قد أحكم حوله ... وأراد الله فضح أمره فنطق - مكرها - باللفظ الذي قوض الصرح الذي بناه أوفد فى مهمته حيث قال : انحاز إلى بريطانيا . فانفض الجمع الحاشد مرة واحدة مشيعينه بالاحتقار واللعنات . وهكذا فسدت الخطة التي وضعها الإنجليز لأخذ الطريق على الإخوان المسلمين وهم لا يزالون فى أول الطريق .
- مع المعركة فى فلسطين
باعتباري كنت منشغلا بالدعوة الإسلامية منذ الصغر كنت ذا إلمام بشيء غير قليل عن كل بلد إسلامي ، ومن هذه البلاد فلسطين . لكن معلوماتي عن فلسطين لم تكن تتعدى الشكل العام للأطوار التي مرت ببلاد الشام منذ وضعت الحرب الكبرى الأولى أوزارها فى سنة 1918 وما انتهى إليه الوضع من تواطؤ الاستعمار الغربي على سحب ما كانوا قطعوه للعرب من وعود ، وعلى تقسيم بلاد الشام بين الإنجليز والفرنسيين ، وكانت فلسطين من نصيب الإنجليز حيث انتدبتهم عصبة الأمم لإدارتها ، وكنت على علم بأن بلفور وزير خارجية انجلترا فى سنة 1917 قد أعطى لليهود وعدا بمنحهم وطنا قوميا فى فلسطين .
لكنني منذ حملتني قدماي إلى المركز العام للإخوان المسلمين فى شارع الناصرية لاحظت من المرشد العام ومن القلة القليلة من الإخوان بهذا المركز توجيه اهتمام خاص إلى قضية فلسطين ؛ وقرأت فى مجلتهم الكثير عن فلسطين . كما وجدت بالمركز العام مجلات واردة أليه من فلسطين ومن سورية بها من أخبار فلسطين ما كان يعد جديدا على ؛ فهمت مما قرأت أن الإنجليز يقومون بحملة مدبرة للقضاء على الكيان الإسلامي فى فلسطين وتمكين اليهود نم الاستيلاء عليها ... ثم رأيت مفتى فلسطين السيد أمين الحسيني ومعه مساعده الشيخ صبري عابدين وحوله مجموعة من قادة فلسطين رأيتهم يحضرون إلى المركز العام فى الناصرية ذلك المكان المتواضع ويتبادلون الكلمات الملتهبة مع المرشد ومع الإخوان الطلبة الذين كانوا أقدم منى صلة بالإخوان .... وسمعت المفتى يشرح مؤامرات الإنجليز التي تلجئ الرجل المسلم الساذج إلى بيع أرضه لليهودي تمهيدا منهم لتمكين اليهود واستيلائهم على مقاليد الأمور بفلسطين بحكم ملكيتهم لأرضها .
وقد استنتجت من زيارتهم لهذا المركز العام المتواضع المجهول وسط أحشاء القاهرة أنهم لا نصير لهم فى القاهرة إلا هذه العصبة التي تأوي إلى هذا المركز العام .. وقد تبين لي فيما بعد أن استنتاجي كان صحيحا حين دس الإخوان صحفيا كان عضوا بالإخوان إلى رئيس الوزراء يسأله عما سيفعله إزاء تصرفات الإنجليز الظالمة فى فلسطين فرد عليه رئيس الوزراء بقوله : (( إنني رئيس وزراء مصر ولست رئيس وزراء فلسطين )) . على أن هذا الرد حين نشر بالصحف وقرأه الناس لم يحظ بأي اهتمام من الشعب ولم يقابل بأي اعتراض أو استنكار أو امتعاض باعتبار أن فلسطين وما يتصل بها لا يعنيهم فى قليل ولا كثير فهؤلاء فلسطينيون أماهم فمصريون .
فهمت فيما فهمت أن السيد أمين الحسيني كون هيئتين لتنظيم العمل ضد المستعمر الإنجليزي واليهود الصهيونيين تسمى إحدى الهيئتين بالهيئة العربية العليا وتسمى الأخرى بالمجلس الإسلامي الأعلى وكان هو رئيس الهيئتين . والسيد أمين كان رجلا ذكيا ورعا شجاعا على علم ودراية بالدين والسياسة وكان موضع ثقة الجميع ، وقد استطاعت هاتان الهيئتان أن تشنا حربا شعواء ضد اليهود وحملتهم الإنجليز وقد استشهد فيها الكثيرون مثبتين بذلك أنهم شعب مسلم كريم ... وقد قرأت فى مجلة سورية كانت تصل إلى المركز العام فى تلك الأيام أن بعض ساسة البلاد العربية سألوا المفتى عما بلغهم من أن بعض العرب فى فلسطين يبيعون أرضهم لليهود فرد عليهم بقول : ليس من طبيعة العربي أن يفعل ما تذكرون كما أنه ليس من طبيعة البلبلان يكون أخرس ولكن المستعمر قابله الله هو صاحب الجناية لا العربي ورحم الله الشاعر الذى قال :
بلابل الله لم تخرس ولا ولدت
- خرسا ولكن بوم الشؤم رباها
فهمت بعد ذلك أيضا أن الإخوان المسلمين أخذوا على عاتقهم النهوض بمهمة محددة هي أن يقوموا يجمع تبرعات لمجاهدي فلسطين ؛ فكان الأستاذ المرشد فى كل يوم جمعة يوزعنا على عدة مساجد فى القاهرة ، يرسل إلى كل مسجد اثنين على الأقل أحدهما يخطب بعد الصلاة ويشرح للناس ما يقترفه الإنجليز من مظالم فى فلسطين ويوضح للناس أن فلسطين هي البلد الذى به بيت المقدس ثالث الحرمين وأولى القبلتين وأن الإنجليز يريدون أن يسلموا هذا الحرم المقدس إلى اليهود . ويقوم الأخ الآخر بتلقي التبرعات فى صندوق معه .
وقد نجحت هذه الطريقة فعلا فى تحقيق النتائج الآتية
- فى إحاطة الناس علما بأن هناك بلدا مسلما بجوارنا سمه فلسطين يراد بيعه لليهود .
- فى إيقاظ الروح الإسلامية فى الشعب المصري الذى تضافرت قوى الاستعمار وأذنابه من الحكام ومحترق فى الدين على تضليله وتخديره حتى نام وأغرق فى النوم .
- فى إيجاد وعى لدى هذا الشعب بأن الإنجليز أعداء لنا وللإسلام ..
- فى إقامة الدليل المادي الملموس على أن الحكومة المصرية مهما كان لونها أو حزبها إنما هي خادم ذليل للمستعمر الغاصب .
- فى جمع مبالغ من المال من تبرعات الناس
أ- أما من ناحية النتيجة الأولى فلقد كان فى مصر يجهلون فى ذلك الوقت أن هناك بلد اسمه فلسطين ، وأن هناك البلد بجوارنا وهو أقرب إلى القاهرة من أسوان .. وبطبيعة الحال فإن من يجهل مجرد وجود بلد بهذا الاسم وأنها بلد مسلم فإنه يكون خالي الذهن عما يجرى بداخله من مؤامرات ... كما سبق أن أشرت إلى أن المصريين كانوا فى ذلك الوقت يعيشون فى عزلة ولا يعرفون أحدا ممن حولهم ولا يعينهم أن يعرفوا .
وكان الإخوان أول من طرق أسماع المصريين بهذا الاسم ، وأول من لفت نظرهم إليه ، وأول من شغلهم بمتابعة مؤامرات اليهود ومكائد الإنجليز فى هذا البلد المسلم وأول من أثار قضية كان المصريون خلاة البال عنها تماما وظل الإخوان يرفعون راية هذه القضية حتى شاء الله أن يكون الشاغل الأكبر بل الوحيد لمصر وللعرب وللمسلمين وللعالم كله .
ب - وأما إيقاظ الروح الإسلامية فى مسلمي الشعب المصري المضلل فإن هذا الموضوع كان معضلة أمام دعوة الإخوان ، والإخوان وقد فهموا دعتهم ، وجدوا أن بينهم وبين توضيح معضلة دعوتهم - وهى المعنى الإسلامية العليا - لهذا الشعب عقبات كأداء مما حشا به المستعمر وأذنابه عقوله من التضليل والأوهام ، ومما تناولوا به عواطفه ومشاعره من تخدير حتى لم نعد تستجيب لداعية ملهم ولا لخطيب مفوه ، ولا تستقيم مع منطق أو برهان .. فكان لابد لكي يصل الإخوان إلى هذه العقول المضللة والمشاعر المخدرة من قارعة تحل قريبا من دارهم نوقظ هؤلاء الموتى بزلزالها وتبعثهم من أكفانهم بصواعقها ... فكانت قضية فلسطين هي القارعة وهى الزلزال وهى الصاعقة .
لقد اختصر نهوض الإخوان فى ذلك الوقت بقضية فلسطين الزمن اختصارا ، وأغنى عن الكثير من الخطب والمحاضرات والمقالات والمؤلفات ؛ فلو أن مائة محاضر مقنع ومائة خطيب مصقع بذلوا أقصى ما يستطيعون فى الإبانة عما تضمنته الفكرة الإسلامية من معاني التعاون والإخاء التي تربط بين المسلمين فى كل مكان ؛ لما أثمرت جهودهم عشر معشار ما كانت تثمره كلمة ثائرة من شاب من الإخوان يوجهها إلى جمهور المصلين بعد صلاة الجمعة يشرح فيها ما يرتكبه اليهود والإنجليز من فظائع ضد إخوانهم المسلمين فى فلسطين ، ويطلب منهم الغوث لإنقاذ بيت المقدس قبل أن ينتزعه الإنجليز من المسلمين ويسلموه لليهود ليحولوه إلى معبد يهودي .
وسأضرب مثلين يوضحان مدى تأثير مثل هذه الكلمات المستمدة من صميم الواقع والتي تعتمد فى لحمتها وسداها على قضية فلسطين ، وقد اخترت هذين المثلين لأنني لمست التأثير فيهما بنفسي : كلفت فى يوم من أيام الجمعة بالقيام بهذا الدور فى مسجد الدور فى مسجد الرفاعى بالقاهرة ، وكان مسجد الرفاعى فى ذلك الوقت - وكما ذكرت من قبل - أفخم مسجد فى القاهرة ويؤمه فى صلاة الجمعة طبقة من أعلى أهل القاهرة ثقافة لأنه فضلا عن فخامته فإن خطيبه الشيخ محمود على أحمد كان خطيبا مفوها على مستوى يندر وجود مثله .
وبعد صلاة الجمعة وقفت وخاطبت الناس بالأسلوب المشار إليه آنفا ، وكنت حريصا أن أرفع المصحف بيدي طيلة مخاطبتي للجمهور وأقول لهم إن إخوانكم فى فلسطين إنما يقتلون فى سبيل هذا الكتاب وإن اليهود والجنود الإنجليز يقتحمون البيوت ويمزقون هذا الكتاب ويدوسونه بأحذيتهم .... فماذا كان بعد ذلك ؟ ... وماذا كان من صدى لهذه الكلمات فى نفوس الحاضرين وعقولهم ؟ .......
كان التصرف الذى تصرفه خطيب المسجد - تنفيذا لتعليمات الحكومة المصرية وحفاظا على وظيفته أن تنتزع منه مع أنه كان من قبل صديقا للإخوان - أن طلب من المصلين - وكان مطاعا فيهم ونافذ عليهم - أن يمنعوني من الكلام فلم يتقدم أحد .. واكتفوا بهذا الموقف السلبي حياء من الرجل الذى لم يتعودوا أن يعصوا له أمرا ... فلما رأى الرجل تقاعسهم أمر خدم المسجد - وكانوا كثرة أشداء - أن يمنعوني بالقوة فتقدموا نحوى ؛ وهنا نسى الجمهور تقديرهم لخطيب المسجد وبحركة غير إرادية وقفوا فى وجه الخدم وهددوهم إذا مسوني بأذى أن يقذفوا بهم خارج المسجد ، فتراجع الخدم ... فلم يجد خطيب المسجد وسيلة إلا أن يقف فوق كرسي الدرس - وأنا واقف على أرض المسجد - ويخطب ضدي ليفض الناس من حولي ولكن أحدا من الجمهور لم يلتفت إليه وظلوا جميعا ملتفين حولي متأثرين بكلامي تأثرا ظهر تأثيره فى ملء الصناديق الأربعة التي كان يحملها زملائي فى نواحي المسجد ، وفى النهاية أقبلوا على يكادون يبكون من التأثر يدعون الله لنا أن يعيننا على هذا الجهاد .
والمثل الآخر صورة مماثلة للمثل السابق غير أنه يختلف عنه فى مستوى المسجد ومستوى المصلين فيه ، فبينما كان مسجد الرفاعى يضم عليه القوم وأعلاهم ثقافة، كان مسجد قنطرة الدكة بميدان الأوبرا يضم المستوى الشعبي من المصلين ، وحدث فيه نفس الذى حدث فى المسجد السابق إل أنه فى هذا المسجد بعد أن وجد خطيب المسجد أن الخدم عجزوا عن الوصول إلى تقدم هو بنفسه نحوى وطرق صدري بذراعيه ، وكنت رافعا المصحف بيمناي ، فاجتمع المصلون عليه وانتزعوني منه وألقوا بالرجل خارج المسجد وهو يقول للناس : لا تخربوا بيتي إنه يشتم الإنجليز .
وهذا الذى حدث لي فى هذين المسجدين حدث مثله لزملائي فى مساجدهم بل إن منهم من كان رجال الشرطة يدخلون المسجد استجابة لطلب الإمام ويلقون القبض على الأخ الخطيب ويجرونه جرا فى الشارع حتى يصلوا به إلى قسم البوليس .
ولكن الذي أحببت أن أبينه للقارئ هو أن لجوء الإخوان إلى شرح قضية فلسطين لجمهور المسلمين فى المساجد كان أقصر الطرق للوصول بهم إلى فهم الفكرة الإسلامية فهما صحيحا بما فيها جانب القوة والحرية والجهاد والسياسة وهو ما كانوا يعجزون عن فهمه بالأساليب المجردة من المحاضرات والمقالات وما إليها .
ج - وأما إيجاد الوعي لدى الشعب المضلل بأن الإنجليز أعداء لنا وللإسلام ، فقد يبدو لجيل هذه الأيام غريبا أن يكون جيش أجنبي يحتل أرض قوم ولا يشعر هؤلاء القوم بمقت هذا المستعمر والحقد عليه ، ولكن الإنجليز استطاعوا أن يخدعوا الشعب المصري عن طريق صنائعهم من الحكام فأوهموه أن كل خير إنما يأتي عن طريق الإنجليز ، وشغلوا الشعب بمعارك جانبية حزبية ، فلم يعودوا يشعرون بوطأة الاحتلال فكان على الإخوان أن يقتحموا هذه الأسوار العالية وما كان لهم أن يفعلوا ذلك لولا تذرعهم بقضية فلسطين وما يجرى على أرضها من مؤامرات ومظالم ومذابح ضد العرب والمسلمين .
د - وأما إقامة الدليل على أن الحكومات المصرية على اختلاف نزعاتها وأحزابها إن هي إلا خادم ذليل للمستعمر ؛ فإن الشعب حتى ذلك الوقت لم يكن يرى من حكومة اضطهادا إلا موجها إلى أنصار حزب معارض لها ، أما حينما قام الإخوان بأعباء الدعوة إلى تأييد العرب فى فلسطين فى محنتهم التي دبرها الإنجليز فقد رأى الشعب بعينيه أن حكومات مصر على اختلاف أحزابها تقاوم الإخوان وتحاول منعهم عن الدعاية ضد الإنجليز وعن فضح إجرامها : بل إن الشعب سمع بأذنيه أئمة المساجد وخطباءها الرسمين بإيعاز من حكومتهم يحاولون منع الإخوان ويقولون للناس بصريح العبارة فى معرض تبريرهم هذا المنع : إنهم - أي الإخوان - يهاجمون الإنجليز ، وإذا لم أمنعهم فسيعرضني ذلك لقطع عيشي .. ففهم الناس لأول مرة أن هؤلاء السادة الحكام الذين كانوا يعتبرونهم مثلا عليا فى الوطنية ليسوا فى حقيقة أمرهم إلا خدما وأذنابا للمستعمر . فاعتماد الإخوان فى حديثهم إلى الناس على قضية فلسطين كان بمثابة جرعة منبهة لهذا الشعب المسكين أخذ يستفيق على أثرها من غشيته وأخذ يرى الأوضاع على حقيقتها .
ه - لم يبق من النتائج إلا جمع المال وهو لم يكن مقصودا لذاته بل كان وسيلة للتعبير عن المشاركة الوجدانية كما يقولون ؛ بمعنى أننا كنا نريد أن نعرف مدى تأثير حديثنا مع الناس فكانت هذه القروش التي يقدمها السامعون هي تعبيرهم عن تأثرهم بما نقول . ومساهمة رمزية منهم فى استعدادهم لتحمل أعباء المعركة التي يخوضها إخوانهم ضد اليهود والإنجليز .. ولهذا المال الذى كنا نجمعه لفلسطين قصة ستأتي فى سياق أحداث للدعوة سنذكرها فى موضعها إن شاء الله .
وإذا كان الشئ بالشئ يذكر ، فلا يفوتني أن أنوه هنا بحملة من حملات الدعاية لقضية فلسطين كانت هذه المرة خارج القاهرة وكانت فى مسجد السيد أحمد البدوي فى طنطا وكان الداعية فيها الأخ عبد الحكيم عابدين وكان إذ ذاك طالبا بكلية الآداب ومعه مجموعة من الإخوان .. وقد اخترت هذه الحملة بالذات لأنها هي وحدها دون غيرها من مئات الحملات قد شاء الله لها أن تسجل بقلم الكاتب الإسلامي الرفيع الأستاذ مصطفى صادق الرافعي ؛ فقد كان أحد المصلين بالمسجد فى ذلك اليوم ، وقد هاجت الحملة فى نفسه كوامن الأسى على ما آلت إليه حال المسلمين من تدهور وانحطاط فسجل هذه الكوامن كما سجل الأماني التي بعثتها هذه الحملة فى نفسه : سجل كل ذلك فى مقال رائع على صفحات مجلة الرسالة التي كانت توزع فى ذلك الوقت على نطاق لا يقل عن نطاق توزيع جريدة الأهرام . وكان تسعة أعشار قرائها إنما يقتنونها من أجل مقال الرافعي الذى كان دائما يتصدرها ... وقد جمعت مقالات الرافعي هذه بعد وفاته فى كتاب (( وحى القلم )) فى ثلاثة أجزاء .
والمقالة التي سجل فيها الرافعي هذه الحملة سماها (( قصة الأيدي المتوضئة )) ومن حق القارئ على أن أمتعه بنقل فقرات من هذه المقالة التاريخية المثيرة والبالغة الروعة :
(( قال الراوي )) : وصعد الخطيب المنبر وفى يده سيفه الخشبي يتوكأ عليه ( كانت وزارة الأوقاف يلزم كل خطيب مسجد أن يمسك بسيف من الخشب وهو يخطب الجمعة ) فما استقر فى الذروة حتى خيل إلى أن الرجل قد دخل فى سر هذه الخشبة ، فهو يبدو كالمريض تقيمه عصاه ، وكالهرم يمسكه ما يتوكأ عليه ؛ ونظرت فإذا هو كذب صريح على الإسلام والمسلمين ، كهيئة سيفه الخشبي فى كذبها على السيوف ومعدنها وأعمالها .
وتالله ما ادري كيف يستحل عالم من علماء الدين الإسلامي فى هذا العصر أن يخطب المسلمين خطبة جمعتهم وفى يده هذا السيف علامة الذل والضعة والتراجع والانقلاب والإدبار والهزل والسخرية والفضيحة والإضحاك ، ومتى كان الإسلام يأمر بنحر السيوف من الخشب ونحتها وتسويتها وإرهاف حدها الذى لا يقطع شيئا ، ثم وضعها فى أيدي العلماء يعتلون بها ذوأبة كل منبر لتتعلق بها العيون ، وتشهد فيها الرموز والعلامة ، وتستوحي منها المعنوية الدينية التي يجب أن نتجسم لترى ؟ ...
أفي سيف من الخشب معنوية غير معنى الهزل والسخافة وبلاهة العقل وذلة الحياة ومسخ التاريخ الفاتح المنتصر ، والرمز لخضوع الكلمة وصبيانية الإرادة ؟ ....
قال : وكان تمام الهزأ بهذا السيف الخشبي الذى صنعته وزارة أوقاف المسلمين ، أنه فى طول صمصامة عمرو بن معدي كرب الزبيدى فارس الجاهلية والإسلام ( كان طول الصمصامة سبعة أشبار وافية وعرضه شبرا ) فكان إلى صدر الخطيب ، ولولا أنه فى يده لظهر مقبضه فى صدر الرجل كأنه وسام من الخشب .
قال : وكان الخطيب إذا تكلف وتصنع وظهر منه انه حمى وثار ثائره ، أرتج وغفل عن يده ، فتضطرب فيها قبضة السيف فلنكزه فى صدره كأنما تذكرة أن فى يده خشبة لا تصلح لهذه الحماسة (القاعدة الشرعية أن البلد الذى يفتح بالسيف يخطب فيه الخطيب بالسيف . ولما ضعف المسلمون أنف السيف منهم وأطاعهم الخشب ) .
قال : وخطب العالم على الناس ، وكان سيفه الخشبي يخطب خطبة أخرى : فأما الأولى فهي محفوظة معروفة ولا تنتهي حتى ينتهي أثرها ، إذ هي كالقراءة لإقامة الصلاة ، وكانت فى عهدها الأول كالدرس لإقامة شأن من شئون الاجتماع والسياسة ؛ فبينها وبين حقيقتها الإسلامية مثل مابين هذا السيف من الخشب وبين حقيقته الأولى؛ وأما الخطبة الثانية فقد عقلتها أنا عن تلك الخشبة وكتبتها ، وهذه هي عبارتها :
ويحكم أيها المسلمون .. لو كنت بقية من خشب سفينة نوح التي أنقذ فيها الجنس البشرى ، لما كان لكم أن تضعوني فى هذا الموضع ؛ وما جعلكم الله حيث أنتم إلا بعد أن جعلتموني حيث أنا ، نكاد شرارة تذهب بى وبكم معا ، لأن فى وفيكم المادة الخشبية والمادة المتخشبة .
ويحكم لو أنه كان لخطيبكم شئ من الكلام الناري المضطرم ، لما بقيت الخشبة فى يده خشبة وكيف يمتلئ الرجل إيمانا بإيمانه ، وكيف يصعد المنبر ليقول كلمة الدين من الحق الغالب ، وكلمة الحياة من الحق الواجب وهو كما ترونه قد انتهى من الذل إلى أن فقد السيف روحه فى يده ؟ أيها المسلمون .. لن تفلحوا وهذا خطيبكم المتكلم فيكم ، إلا إذا أفلحتم وأنا سيفكم المدافع عنكم ، أيها المسلمون .. غيروه وغيروني .
قال راوي الخبر : ولما قضيت الصلاة ماج الناس ، إذ انبعث فيهم جماعة من الشبان يصيحون بهم ويستوقفونهم ليخطبوهم ثم قال احدهم فخطب ، فذكر فلسطين وما نزل بها ، وتغير أحوال أهلها ونكبتهم وجهادهم واختلال أمرهم ، ثم استنجد واستعان ، ودعا الموسر والخف إلى البذل والتبرع وإقراض الله تعالى ، وتقدم أصحابه بصناديق مختومة فطافوا بها على الناس يجمعون فيها القليل والأقل من دراهم هي فى هذه الحال دراهم أصحابها وضمائرها .
قال : وكان إلى جانبي رجل قروي من هؤلاء الفلاحين الذين تعرف الخير فى وجوههم والصبر فى أجسامهم والقناعة فى نفوسهم والفضل فى سجاياهم ، إذ امتزجت بهم روح الطبيعة الخصبة فتخرج من أرضهم زروعا ومن أنفسهم زروعا أخرى ، فقال لرجل كان معه : إن هذا الخطيب خطيب المسجد قد غشنا وهؤلاء الشبان قد فضحوه ، فما ينبغي أن نكون خطبة المسلمين إلا فى أخص أحوال المسلمين .
قال : ونبهني هذا الرجل الساذج إلى معنى دقيق فى حكمة هذه المنابر أخبار الجهات الأخرى ويذيعها فى صيغة الخطاب غلى الروح والعقل والقلب ، فتكون خطبة الجمعة الكلمة الأسبوعية فى سياسة الأسبوع أو مسألة الأسبوع ، وبهذا لا يجئ الكلام على المنابر إلا حيا بحياة الوقت ، فيصبح الخطيب ينتظره الناس فى كل جمعة انتظار الشئ الجديد ، ومن ثم يستطيع المنبر أن يكون بينه وبين الحياة عمل .
قال : وخيل إلى بعد هذا المعنى أن كل خطيب فى هذه المساجد ناقص إلى النصف لأن السياسة تكرهه أن يخلع إسلاميته الواسعة قبل صعوده المنبر ، وأن لا يصعد إلا فى إسلاميته الضيقة المحدودة بحدود الوعظ الذى هو مع ذلك نصف وعظ ... فالخطبة فى الحقيقة نصف خطبة أوكأنها أثر خطبة معها أثر سيف ...
قال : وأخرج القروي كيسه فعزل منه دراهم وقال : هذه لطعام أنبلغ به ولأوبتي إلى البلد ثم أفرغ الباقي فى صناديق الجماعة ، واقتديت أنا به فلم أخرج من المسجد حتى وضعت فى صناديقهم كل ما معي ، ولقد حسبت أنه لو بقى لي درهم واحد لمضى يسبني مادام معي إلى أن يخرج عنى . قال الراوي : ثم دخلت إلى ضريح صاحب المسجد أزوره وأقرأ فيه ما تيسر من القرآن ، فإذا هناك رجال من علماء المسلمين اثنان أو ثلاثة ثم توافى إليهم آخرون فتموا سبعة ... وكان من السبعة رجل ترك لحيته عافية على طبيعتها ، فامتدت وعظمت حتى نشرت حولها جوا روحانيا من الهيبة تشعر النفس الرقيقة بتياره على بعد .
قال : وأنصت الشيوخ جميعا إلى الشبان ، وكانت أصوات هؤلاء جافية صلبة حتى كأنها صخب معركة لأفن خطابة ، وعلى قدر ضعف المعنى فى كلامهم قوى الصوت ، فهم يصرخون كما يصرخ المستغيث فى صيحات هاربة بين السماء والأرض .
فقال أحد الشيوخ الفضلاء : لا حول ولا قوة إلا بالله ... جاء فى الخبر (( تعس عبد الدينار تعس عبد لدرهم )) ووالله ما تعس المسلمون إلا منذ تعبدوا لهذين حرصا وشحا (( ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون )) ولو تعارفت أموال المسلمين فى الحوادث لما أنكرتهم الحوادث .
فقال آخر : وفى الحديث (( إن الله يحب إغاثة اللهفان )) ولكن ما بال هؤلاء الشبان لا يوردون فى خطبهم أحاديث مع أنها هي كلمات القلوب ؟ فلو أنهم شرحوا للعامة هذا الحديث لأسرع العامة إلى ما يحبه الله .
قال الثالث : ولكن جاءنا الأثر فى وصف هذه الأمة (( إنها فى أول الزمان يتعلم صغارها من كبارها فإذا كان آخر الزمان تعلم كبارهم من صغارهم )) فنحن فى آخر الزمان ، وقد سلط الصغار على الكبار يريدون أن ينقلوهم عن طباعهم إلى صبيانية جديدة .
قال الراوي : فقلت لصديق كان معي : قل لهذا الشيخ : ليس معنى الأثر ما فهمت ، بل تأويله أن آخر الزمان سيكون لهذه الأمة زمن جهاد وأقتحم ، وعزيمة ومغالبة على استقلال الحياة فلا بصلح لوقاية الأمة إلا شبابها المتعلم القوى الجرئ كما نرى فى أيامنا هذه ، فينزلون من الكبار تلك المنزلة ، إذ تكون الحماسة متممة لقوة العلم . وفى الحديث (( أمتي كالمطر لا يدرى أوله خير أم آخره )) .
قال الراوي : ولم يكد الصديق يحفظ عنى هذا الكلام ويهم بتبليغه ، حتى وقعت الصيحة فى المكان ، فجاء أحد الخطباء ووقف يفعل ما يفعله الرعد ، لا يكرر إلا زمجرة واحدة ، وكان الشيوخ الأجلاء قد سمعوا ما قيل ، فأطرقوا يسمعونه مرة رابعة وخامسة ، وفرغ الشاب من هديره فتحول إليهم وجلس بين أيديهم متأدبا متخشعا ووضع الصندوق المختوم .
فقال أحد الشيوخ : ممن أنت يا بني ؟ قال : أنا من جماعة الإخوان المسلمين . قال الشيخ : لم يخف علينا مكانك ، وقد بذلتم ما استطعتم فبارك الله فيك وفى أصحابك.
وسكت الشاب ، وسكت الشيوخ ، وسكت الصندوق أيضا ...
ثم تحركت النفس بوحي الحالة ، فمد أولهم يده إلى جيبه ثم دسها فيه ، ثم عبث فيه قليلا ثم ... ثم أخرج الساعة ينظر فيها .
وانتقلت العدوى إلى الباقين ، فأخرج احدهم منديله يتمخط فيه ، وظهرت فى يد الثالث مسبحة طويلة ، وأخرج الرابع سواكا فمر به على أسنانه ، وجر الخامس كراسة كانت فى قبائه ، ومد صاحب اللحية العريضة أصابعه إلى لحيته يخللها ، أما السابع فثبتت يده فى جيبه ولم تخرج ، كأن فيها شيئا يستحى إذا هو أظهره أو يخشى إذا هو أظهره من تخجيل الجماعة .
وسكت الشاب ، وسكت الشيوخ ، وسكت الصندوق أيضا ...
وقال الراوي ونظرت فإذا وجوههم قد لبست للشاب هيئة المدرس الذى يقرر لتلميذه قاعدة قررها من قبل ألف مرة لألف تلميذ ، فخجل الشاب وحمل صندوقه ومضى .
أقول أنا : فلما انتهى الراوي من (( قصة الأيدي المتوضئة )) قلت له لعلك أيها الراوي استيقظت من الحلم قبل أن يملأ الشيوخ الأجلاء الصندوق ، وما ختم عقلك هذه الرواية بهذا الفصل إلا بما كددت فيه ذهنك من فلسفة تحول السيف إلى خشبة ، ولو قد امتد بك النوم لسمعت أحدهم يقول لسائرهم : بمن ينهض إخواننا المجاهدون وبمن يصولون ؟ لهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (( جاهل سخي أحب إلى الله من عالم بخيل )) ثم يملئون الصندوق ...
الفصل الثاني : الدعوة على متفرق طريقين
(( هل نهاجر ؟ )) :
كان حسن البنا - كدأب أصحاب الدعوات - حريصا على أن يرتاد بدعوته أخصب أرض تنمو فيها وتترعرع . وكان يرى - كما كنا جميعا نرى - أن مصر تزخر بالكثير من مظاهر الانحراف عن الدين مما تألم له نفس الرجل المؤمن ، وكان يفد إلينا فى مصر بين الفينة والفينة أفراد من بلاد عربية وبلاد إسلامية نرى فى علمهم وسلوكهم المثل العليا التي نرتجيها فاعتبرنا هؤلاء الأفراد صورة مصغرة لبلادهم ومجتمعاتهم التي جاءوا إلينا منها ، فتاقت نفوسنا إلى تلك البلاد ووددنا لو انتقلنا إليها بدعوتنا حيث نجد الملاذ الطيب والملجأ المنيع والركن الشديد والخصوبة المأمولة ، وتحدثنا فى ذلك معا وتحدثنا فيه مع الأستاذ المرشد فوجدنا لحديثنا فى هذا الموضوع صدى طيبا كأنما صادف هوى فى نفسه .
وأخذت هذه الفكرة يعظم أمرها فى نفوسنا وفى نفس الأستاذ المرشد حتى إنه جاء فى يوم من الأيام وكاشفنا بأنه أصبح مقتنعا بالفكرة وبأن انتقالنا بالدعوة إلى بلد آخر أقرب إلى الإسلام يوفر علينا كثيرا من المشاق وكثيرا من الوقت ولكنه يريد أن يعرف مدى استعدادنا للهجرة يوم تتقرر الهجرة ، وما هي إلا لحظات حتى رأى منا ما يطمئن نفسه ، فسر وانشرح صدره .
- ترجمة القرآن الكريم ومعركتها :
اقتراح ترجمة القرآن الكريم إلى اللغات الأخرى ، اقتراح نشأ فى أروقة الجامع الأزهر ، باعتبار ذلك الوسيلة المثلى لنشر الإسلام فى بقاع الأرض ، حيث اعتقد الأزهر أن وجود القرآن الكريم باللغة العربية هو العائق الأكبر أمام من لا يعرفون العربية ، فإذا أزلنا هذا العائق بإيجاد القرآن مترجما إلى مختلف اللغات صار انتشار الإسلام سهلا ميسورا .
الدافع إلى هذا الاقتراح كما يبدو دافع نبيل ، يستهوى نفس كل غيور على الإسلام ، فإذا علم أن الأزهر بثقله العلمي والإسلامي يقف من وراء هذا المقترح فإن أحدا لا يتخلف عن تأييده ويتحمس لهذا التأييد ... ولهذا سرت فكرة الترجمة هذه فى مختلف البلاد ومختلف الأوساط .
وقد انبثق هذا الموضوع عن الأزهر قبل أن انزح إلى القاهرة ، وكنا نشعر -نحن قراء الصحف - أن الحكومة تؤيد هذا الاقتراح ولكنها تقدمه إلى الشعب عن طريق الأزهر حتى يكتسب صبغة تحببه إلى النفوس ، ولا أدرى الدوافع التي دفعت الحكومة إلى تأييد هذا الاقتراح .
ومع أن الأزهر هو الذى قدم الموضوع إلى الشعب والحكومة تطل إلى الشعب من ورائه ، ومع أن علماء الأزهر فى ذلك الوقت كانوا يتوخون إرضاء الحكومة ، فإن رجلا من رجال الأزهر تصدى للفكرة غير عابئ بالأزهر ولا بالحكومة ، وكتب فى جريدة الأهرام سلسلة ضافية من المقالات النارية يفند فيها فكرة الترجمة ويهاجمها مهاجمة لا هوادة فيها ولازلت أذكر اسم هذا العالم الجرئ الشيخ محمد سليمان نائب المحكمة الشرعية العليا بالقاهرة ، ونظرا لأهمية موضوع الترجمة ولروعة المقالات التي كانت تكتب لتأييده وتلك التي يكتبها هذا الرجل لمهاجمته خصص لها (( الأهرام )) صدر صفحته الأولى فكان الناس يتهافتون على قراءة هذه المقالات يريدون أن يصلوا إلى الحقيقة فى أمر خطير يمس الناس جميعا فى أعز ما يعتزون به وهو القرآن الكريم .
ونزحت إلى القاهرة وموضوع ترجمة القرآن محتدم على أشده ، فلما اتصلت بالإخوان وجدت الأستاذ المرشد يهاجم فكرة الترجمة وحجته فى ذلك أن الترجمة مستحيلة لأن التركيب القرآني العربي فى ذاته معجز للعربي حين يحاول فهمه فهو يفهم منه بقدر طاقته فى الفهم والتصور وقد يفهم منه عربي آخر ما لم يفهمه الأول لأنه أوسع تصورا - ويفهم من الآية فى عصر من العصور ما لم يفهم منها فى عصر سابق والآية والألفاظ هي الألفاظ ، فالإقدام على ترجمة القرآن إقدام مستحيل ومسخ للقرآن ونزول به عن مكانته مما يعد اعتداء على الإسلام فى أقدس مقدساته ... وكان للإخوان - على قلتهم فى ذلك الوقت - أثر ملموس فى مهاجمة هذه الفكرة لأنهم كانوا الهيئة الوحيدة التي تهاجم علنا .
وأذكر أنني بعد اقتناعي بهذا الرأي كتبت مقالة بمجلة الإخوان هاجمت فيها فكرة الترجمة من ناحية أخرى وهى ما يرجوه الأزهر من ورائها فقلت ما مجمله إن الأزهر إذا كان يرجو من وراء ترجمة القرآن أن ينشر الإسلام فى بلاد لا يتكلم أهلها العربية فإن هذا وهم ، فإذا كان دستور الدعوة إلى الإسلام هو قول الله تعالى (( أدع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن )) فإن الحكمة تقتضى أول ما تقتضى أن يكون الداعي موضع احترام المدعو ... ولما كانت الأمم الإسلامية لازالت موضع احتقار الأمم الأخرى لأنها أمة متخلفة متأخرة جاهلة مستعمرة ، فإن الخطوة الأولى ليست هي ترجمة القرآن وإنما هي التخلص مما هي فيه من أسباب الضعف والانهيار حتى تتبوأ مكانا محترما بين الأمم وحينئذ نبدأ بتوجيه الدعوة إلى الإسلام وحينئذ تلقى قبولا .
- الحج :
قدمت أن الأستاذ المرشد قد كاشفنا بأن فكرة الهجرة بالدعوة إلى بلد آخر من البلاد الإسلامية يكون أقرب إلى الإسلام من مصر قد سيطرة على تفكيره وملأت نفسه، ولكنه لم يقدم على هذه الخطوة حتى يحدد أي هذه البلاد الإسلامية أشد قربا من الإسلام ، وخير وسيلة لتحديد هذا البلد هو الحج ، فإن الحج يجمع جميع الطبقات من جميع بلاد العالم الإسلامي .. فإذا اختلطنا بهذه الطبقات من جميع هذه البلاد استطعنا أن نقيم كل بلد من البلاد الإسلامية تقيما صحيحا . وقد صحب الأستاذ المرشد فى هذا الحج مائة من الإخوان من مختلف البلاد المصرية وقد وحد زيهم جميعا فكل منهم يرتدى جلبابا أبيض وطاقية بيضاء .
وسافر وفد الحجيج وقلوبنا ترفرف عليهم حيث كانوا وأديت فريضة الحج بالوقوف بعرفة وبعد أيام قلائل جاءنا البريد بطرد كبير فتحناه فإذا هو مجموعة من العدد الأخير من جريدة (( أم القرى )) وهى الجريدة الوحيدة التي تصدر فى السعودية فى ذلك الوقت وكانت جريدة شبه رسمية ، فتعجبنا من وصول هذه الجريدة إلينا لأول مرة فقد كانت تصلنا من بلاد إسلامية أخرى مجلات وصحف ولكن هذه الجريدة لم تصلنا إلا هذه المرة ولكنها إذ تصل تصلنا منها هذه الكمية الضخمة ، وتصفحنا الجريدة وكانت قليلة الصفحات فوجدنا يشغل مكان الصدارة فيما خطاب للأستاذ حسن البنا المرشد العام للإخوان المسلمين ألقاه فى مؤتمر عظماء المسلمين فى الحج ، وقد لاحظنا أن الخطاب على طوله - فهو يشغل أكثر صفحات الجريدة - ليس إلا مجموعات من آيات القرآن الكريم لا يفصل كل مجموعة منها عن الأخرى إلا سطر أو سطران من كلام الأستاذ المرشد
- الرجوع من الحج بمفاجآت ومفاهيم جديدة :
كنا نعول الكثير على رجوع الأستاذ المرشد من الحج ، فإن مستقبلنا ومستقبل الدعوة كان متوقفا على نتائج هذه الرحلة ، وقد أعددنا لاستقباله كل ما نستطيع إعداده ، وعلى سبيل المثال كلفنا الأستاذ عبد الرحمن الساعاتي بوضع نشيد نستقبله به فأنشأ نشيدا جميلا لا يحضرني الآن إلا مطلعه الذى يقول :
مرحبا يوم قدوم المرشد
- عمت الأفراح أرجاء الندى
وقدمنا اليوم كما نهتدي
وكنا نتمرن جميعا على إنشاده معا ، كما أننا حشدنا أكبر عدد من الإخوان بالقاهرة وغيرها حتى امتلأ فناء الدار لأول مرة مع أضواء ساطعة فى أنحائه . وقد حضر الأستاذ المرشد إلى دار المركز العام قبل أن يذهب إلى منزله فلم يره أهله وأبناؤه إلا بعد انتهاء الحفل .
وبدأ الحفل بتلاوة القرآن الكريم ثم ألقينا السيد ثم تكلم الأستاذ عمر التلمساني المحامى - وكانت هذه أول مره أراه فيها - وأذكر أنه افتتح كلمته بقوله : يسير على من صناعته الكلام أن يقول ويترجم عن مشاعره ولكنى أراني عاجزا عن القول .....)) ثم ألقى الشيخ محمد زكى إبراهيم قصيده رائعة كانت تقاطع أكثر أبياتها بالهتاف والتكبير - ولم تكن الكلمات التي تلقى سواء منها الشعر والنثر إلا كلمات هادفة عظيمة المدلول - ولازال يطن فى أذني من هذه القصيدة استعيد أكثر من مرة لروعته يقول فيه :
وصلاح الدين فى عمته
- هد دنيا قبعات علنا
وناهيك بما تضمنه هذا البيت من معان تهدم دعاوى كانت رائجة فى ذلك الوقت ، وكان يدعو لها حتى رؤساء الوزارات فى مصر ورؤساء الأحزاب ، فقد صرح رئيس حزب الوفد - مصطفى النحاس - وكان رئيسا للوزراء بأنه معجب بحركة أتاتورك بدون تحفظ - وتتلخص حركة أتاتورك هذه فى أنه قضى على الدين الإسلامي ، ولبس القبعة وأمر الأتراك بلبسها ، حتى اللغة التركية أمر بكتابتها بالحروف اللاتينية بعد أن كانت تكتب بالحروف العربية ، مدعيا أن هذه الحركة ستجعل من تركيا دولة عظيمة .
ثم قام الأستاذ المرشد ليلقى كلمته التي كنا نزن كل حرف منها بميزان ، وأستطع أن أقرر أن هذه الكلمة كانت من أهم وأعظم ما صدر عن الأستاذ المرشد لأنها وضعت أسسا جديدة للدعوة وغيرت كثيرا من المفاهيم ، وأوضحت السبيل وحددته ، ويمكن تلخيص ما اشتملت عليه هذه الكلمة فى نقاط ثلاث :
- أولا :ذكر الأستاذ المرشد أن همه كله كان منصبا على الالتقاء بوفود المسلمين من مختلف الطبقات من كل بلد إسلامي فى العالم ، والتحدث معهم ، ودراسة أحوالهم، ومناقشة مشاكلهم ، والتعرف على مستواهم الحضاري والثقافي والديني ، ومعرفة مدى تسلط المستعمر على بلادهم ، ومستوى فهمهم للإسلام وعلاقته بالحياة . قال : وقد اتصلت بالمحكومين والحكام فى كل بلد من البلاد الإسلامية وخرجت من ذلك باقتناع تام بأن فكرة الهجرة بالدعوة أصبحت غير ذات موضوع وأن العدول عنها أمر واجب ، فمصر على ما فيها من عيوب هي أحسن بيئة للدعوة الإسلامية.
- ثانيا : أن دراسة أحوال المسلمين فى البلاد الإسلامية فى أنحاء العالم ضاعفت العبء الملقى على عواتقنا فقد كنا نعتقد أن هذه البلاد ستكون عونا لنا على لإصلاح مصر ، فتبين لنا أنها هي فى ذاتها عبء يقتضى منا بذل أضعاف ما نبذله فى مصر لمجرد بعث الحياة فيها ، فالبون شاسع بين مستوى هذه البلاد ومستوى مصر سواء فى الدنيا أوفى الدين .
- ثالثا : أن فكرة ترجمة القرآن فكرة ساذجة وخاطئة بل وجريمة قد لا تعدلها جريمة ترتكب فى حق الإسلام ، وساق فى إثبات ذلك مثلا واقعيا فقال : لعلكم تعجبتم حين وصلكم نحو مائة نسخة من جريدة أم القرى وفى صدرها كلمة لي .... إن لهذا الموضوع قصة هي غاية الأهمية ، وتجربة فى الدعوة الإسلامية لم تكن تخطر ببالي ولا ببال أحد ، تجربة فسرت آيات فى كتاب الله لم نكن نفهمها على وجهها الصحيح ، وقال إنني سافرت إلى الحج ولم أكن إلى فكرة ترجمة القرآن بنفس الخطورة التي أصبحت الآن أنظر إليها .
قال : اعتاد الملك عبد العزيز آل سعود أن يدعو كل عام كبار المسلمين الذين يفدون لأداء فريضة الحج إلى مؤتمر بمكة المكرمة تكريما لهم وليتدارسوا أحوال المسلمين فى العالم ، وكان فى وفود الحجاج من كل بلد إسلامي فى العالم وزراء وأمراء وزعماء سواء فى ذلك البلاد العربية وغير العربية فكان من مصر مثلا الدكتور محمد حسين هيكل ومن سورية ولبنان والعراق واليمن وإمارات الخليج وشمال أفريقية حكام وزعماء وكان من بلاد أفريقية الوسطى والجنوبية ومن جميع البلاد الإسلامية فى أسيا ومن جاليات المسلمين فى أمريكا الجنوبية وأوربا ؛ كل هؤلاء وجهت إليهم الحكومة السعودية دعوات لحضور هذا المؤتمر ؛ وطبعا لم توجه إلينا دعوة باعتبارنا من عامة الحجاج .
قال : علمت بموعد هذا المؤتمر وبمكانه الذى سينعقد فيه ، فأعددت نفسي والإخوان المائة فى هيئة موحدة هي الجلباب الأبيض والطاقية البيضاء ... وفى الموعد المحدد فوجئ عليه القوم المجتمعون بمائة رجل فى هذه الهيئة يخطون خطوة واحدة يتوسط الصف الأول منهم رجل هو المرشد العام ... فكان هذا حدثا منيرا للالتفات ... ودخل هؤلاء فاتخذوا أماكنهم فى نهاية الجالسين ؛ وبدأ المؤتمر بكلمة ترحيب من مندوب الملك .
ثم قام مندوب من كل بلد إسلامي فتكلم بلغه بلاده ؛ فألقيت عشرات الخطب بعشرات اللغات ومنها العربية التي ألقى بها الدكتور هيكل وأمثاله ممثلو الدول العربية ... يقول الأستاذ المرشد : وقد لاحظت أن الحاضرين يبدو على وجوههم السأم وغلب على أكثرهم اللوم ... وقد ناقشت هذه الظاهرة مع نفسي وأدرتها فى خاطري فوجدت أن السأم والنوم أمر تمليه الطبيعة البشرية فمادام السامع لا يفهم ما يقال - وهو لا يستطيع أن يغادر المؤتمر - فمن حقه أن يسأم وأن يستسلم للنوم قال فصبرت حتى انقضت الساعات الطوال التي استغرقها المندوبون فى إلقاء خطاباتهم واستغرقها الحاضرين أن يتقدم بملاحظاته إن كان له ملاحظات ... قال الأستاذ : فطلبت الكلمة واعتليت المنصة وارتجلت كلمة كانت أطول كلمة ألقيت ، وكانت الكلمة الوحيدة التي أيقظت الحاضرين ، وفوطعت بالإعجاب ، واهتزت لها المشاعر ، وبعثت فى المؤتمر جوا من الحيوية الدافقة وما كدت أنهى كلمتي حتى أقبلت على جميع الوفود تعانقني ، وتشد على يدي ، وتعاهدني وتطلب التعرف على وعلى من معي ، وتفتح قلوبها للفكرة التي تضمنها كلمتي .
يقول الأستاذ المرشد : لقد أحسست وأنا جالس فى المؤتمر بأن المستعمر أفلح فى القضاء على أسباب التفاهم بين البلاد الإسلامية بعضها وبعض بالقضاء على اللغة العربية فيها وإحلال لغة غيرها محلها ؛ فاندونيسيا تتكلم بلغة اندونيسية والهند بلغة هندية والصين بلغة صينية ونيجيريا بلغة نيجيرية وغانا وغينيا وهكذا ... وفكرت فأسعفني خاطري بأن الشئ الوحيد الذى لا يزال باقيا بلغته العربية ويقرأه الجميع بألفاظه العربية لأن العبادة لا تكون إلا بألفاظ التي أنزل بها هو القرآن . فالكل على اختلاف بلاده ولغاته ولهجاته يفهمه : فعزمت على أن تكون كلمتي كلها آيات من القرآن أرتبها ترتيبا يوضح كل ما فى نفسي من معاني الإسلام وأهدافه ووسائله ، وكيف يعالج النفس البشرية ويضع حلولا للمشاكل الحيوية ، ولاحظت من أول آية بدأت بها كلمتي أنني ضربت على الوتر الحساس فى قلب كل جالس فى المؤتمر ، وأحسست أن كل كلمة من آية أتلوها تقع من قلوب الحاضرين موقعها ، وتفعل فى نفوسهم فعلها ؛ حتى ذاب الثلج الذى جمد المشاعر طيلة الساعات السابقة ، وبدأ الدف حتى غلت مراجل القلوب والتهبت المشاعر وكان لابد فى نهاية الكلمة من تجمع هذه القلوب والتفافها .
ويمكن تلخيص نتائج هذه الكلمة وأثارها فى الآتي :-
- أثبتت بما لا يتطرق إليه شك أن وجود القرآن باللغة العربية هو الرباط الأبدي الوحيد بين المنتمين إلى الإسلام حيثما كانوا ومهما اختلفت ألسنتهم وثقافتهم ، وأنه فى صورته هذه التي نزل بها من السماء هو بمثابة الروح فى جسد هذه الأمة الإسلامية ، وأنه هو كلمة السر التي متى سمعها المسلم أنس بقائلها ، وأحس أن بجانبه أخا يحبه ويفتديه مهما اختلفا بعد ذلك فى كل شئ .
- تبين تبينا قاطعا أن فكرة ترجمة القرآن ، إما أن تكون فكرة قوم من المسلمين بلغوا من السذاجة حدا يؤسف له ، وإما أن تكون وليدة تفكير استعماري تبشيري خطير للقضاء على آخر رباط يربط الجسد الممزق ، أو هو قطع الشريان الوحيد الباقي فى هذا الجسد ، ولذا كان على المسلمين أن يقفوا لهذه الفكرة المدمرة بالمرصاد .. وتبين كما قال الأستاذ المرشد أن قول الله تعالى عن كتابه العزيز : (( إنا أنزلناه قرآنا عربيا لعلكم تعقلون )) معناه أن هذا القرآن لا يكون قرآنا إلا إذا كان عربيا وما كنا نعقل حقا ولا كان أحد يدور بخلده قبل هذا المؤتمر أن عروبة اللغة هي جزء من القرآن لا يتجزأ وأن العروبة اللغوية الأزمة له هي السر الخفي الذى تتحطم على صخرته مؤامرات الأعداء ومكائد الحاقدين على هذا الدين ... وعلى حد قول الأستاذ فى كلمته التي ألقاها فى تلك الليلة فى دار المركز العام إذ قال : إن كان لابد من ترجمة فلتترجم الأمم إلى القرآن ، لا أن القرآن تترجم إلى الأمم .
- أحس الحاضرين لأول مرة بحرارة التيار الإسلامي يسرى فى مشاعرهم ، ورأوا لأول مرة أن العالم الإسلامي قد تمخض عن داعية من نوع جديد لم يألفوا له مثيلا من قبل ؛ فهو قادر على إثارة المعاني الإسلامية فى النفوس ، وقادر على جذب القلوب بالجاذبية الإلهية التي هي القرآن ، وقادر على جمع المتنافر منها تحت راية الإسلام ، وقادر على بث روح الأخوة التي تصهر النفوس فى بوتقة الإسلام ، فهرع الجميع يلتفون حول هذا الداعية الجديد ، ومن هنا سارعت (( أم القرى )) إلى نشر الخطاب بنصه فشغل معظم صفحاتها ، ولم تنشر إلى غيره . وبدأ أل سعود يتعرفون على الداعية الجديد .
- بقدر ما كان لهذه الظاهرة الإسلامية الرائعة من أثر طيب فى نفوس جميع الوفود فيبدو أنها لم تقع من نفس الموقع ، فقد شعر هذا الوفد بالمهانة حين رأى جميع الوفود انفضت عنه ولم نعره اهتماما وهم الوزراء وكبار الساسة وأصحاب البلاد وسادة العباد ، والتفوا حول هذا الرجل النكرة الذى لم يسمعوا عنه ولم يعرفوا اسمه إلا فى هذا المؤتمر ... وسوف نتحدث فى باب قادم إن شاء الله عن أحداث وقعت فى مصر نتيجة هذا الشعور الأثيم .
الباب الثاني فى ميدان العتبة الخضراء
مقدمة الباب الثاني
كان من أثر البعثات الطلابية فى أنحاء البلاد أن انتشرت الدعوة واتسع نطاق الرقعة التي استجابت لها ، وتضاعف عدد أعضائها أضعافا كثيرة ، كل هذا فضلا عما سبق الإشارة إليه من انتشار الدعوة فى كليات الجامعة والمدارس والمعاهد والأزهر ، ولم تعد الدار بشارع الناصرية صالحة لاستيعاب هذا العدد الكبير من الناس ، وما يستتبعه من اجتماعات ومحاضرات ومؤتمرات وأوجه نشاط ؛ وكان لابد من البحث عن مقر للمركز العام يتسع لذلك ؛ وسرعان ما وفق الله إلى مكان بهذه المطالب ويمتاز بالميزات الآتية :
- كثرة عدد حجراته واتساع مساحاتها فقد كان به سبع حجرات ، واحدة منها كانت مساحتها تبلغ مجموع مساحات جميع حجرات المركز العام السابق .
- كان له (( فراندة )) تتسع لمئات الكراسي وتصلح لعقد المؤتمرات فضلا عن الاجتماعات والمحاضرات
- كان موقعه أحسن موقع من حيث يقع فى ميدان العتبة الخضراء ، وكان إذ ذاك أعظم ميدان فى القاهرة وهو ملتقى المواصلات ومعترك التجارة ومهوى أفئدة أهل القاهرة والوافدين إليها من مختلف البلاد .
ويقع هذا المقر فى العمارة التي بها لوكاندة البرلمان التي كانت هي الأخرى معلما من معالم القاهرة .وقد اقتضى هذا الانتقال أن ينتقل الأستاذ المرشد من سكنه إلى مسكن قريب من المركز الجديد لأنه كان حريصا على قرب مسكنه من المركز العام فاتخذ مسكنا فى شارع محمد على .
وكان الإخوان إلى ما قبل الانتقال إلى هذا المقر الجديد من الضآلة فى العدد ، ومن الاختفاء فى المكان بحيث لم يكن يحب لهم حساب ، ولا يكاد يحس بوجودهم أحد ، وكانوا ذائبين فى المجتمع ، وكانت صلتهم بالقاهرة التي يعيشون فيها شبه مقطوعة فهي مقصورة على شعبهم القليلة فى منطقة القنال وما حولها ؛ وقد حاول الأستاذ المرشد سدى إشعار القاهرة بوجود الإخوان بمحاضرات يعلن عنها بدعوات وبمنشورات حتى وصل به الأمر إلى أنه انتهز فرصة إقبال شهر ربيع الأول فى تلك السنة فأعلن عن محاضرات يلقيها كل ليلة بالمركز العام فى الناصرية وطبع آلاف الإعلانات عن هذه السلسلة من المحاضرات ؛ وكنا نذهب جميعا كل ليلة إلى مسجد السيدة زينب نؤدي صلاة العشاء ثم نخرج من المسجد ونصطف صفوفا يتقدمنا الأستاذ المرشد ينشد نشيدا من أناشيد المولد النبوي ونحن نردده من بعده فى صوت جهوري جماعي يلفت النظر ، وكانت الفاصلة التي نرددها هي هذا البيت :
صلى الإله على النور الذى ظهرا
- لنا بشهر ربيع الأول أشهرا
وكان الناس يجتمعون فعلا علينا ، ويسيرون معنا فى الطريق ونحن ننشد بنغمة محبوبة وكان أفراد منا يوزعون الإعلانات على الناس والمحلات على الجانبين فى أثناء سير الموكب حتى إذا وصلنا إلى دار المركز العام لم يدخل معنا فيه إلا عددا قليل لا يسمن ولا يغنى من جوع ..
كان الانتقال إلى المقر الجديد طفرة بالنسبة لوضع الإخوان ولإمكانياتهم ، وتستطيع أن تقدر ضآلة هذه الإمكانيات إذا علمت أن الإخوان حتى ذلك الوقت لم يكونوا إلا مجموعة من الطلبة مهما ذكرنا عن تضاعفهم عددا فإنهم لا مورد لهم وبجانبهم عدد من صغار الموظفين هم أنفسهم الذين كانوا موجودين بالمركز العام لأول مرة زرته ... والمقر الجديد يحتاج إلى نفقات كثيرة فإيجاره أضعاف إيجار القديم ونفقات تأثيثه وأجر المياه والنور فيه وأجر الكراسي التي تلزم للحفلات والمحاضرات ... وهذه النفقات لا قبل لهذه المجموعة القليلة الفقيرة بها ... ولكن الأستاذ المرشد كان لا يعير النواحي المادية اهتماما ؛ فهو يقدم كل ما يملك ويعتقد بعد ذلك أن الله لن يخذله ؛ وكان الله سبحانه دائما يحقق أمله وصدق الله إذ يقول فى الحديث القدسي (( أنا عند حسن ظن عبدي بي )) .
وقد دفع الأستاذ المرشد بكل ما معه ، ولم يدخر أحد شيئا يستطيعه إلا قدمه ، ولم يتخلف إخوان الإسماعيلية وإخوان القنال عما تعودوه دائما ، فقد كانوا سندا وردءاً للأستاذ المرشد فى كل موقف شديد ، وأتم الله فضله وتم الانتقال ، وأثث المكان ، وأخذ الإقبال يزداد على المكان الجديد الذى وجدوا معه فيه سعة .
وكان الأستاذ يرمى من وراء هذه النقلة فى المكان التهيؤ لنقل الدعوة إلى طور جديد له السمات الثلاث الآتية باعتبارها أهدافا يجب تحقيقها :
- إبراز الإخوان المسلمين باعتبارهم فئة متميزة من الفئات الأساسية فى المجتمع المصري .
- الأخذ بأساليب عملية قوية فى التكوين والتربية.
- فضح مؤامرات الإنجليز والحكومة والانطلاق بقضية فلسطين .
الفصل الأول إبراز الإخوان باعتبارهم فئة متميزة من الفئات الأساسية فى المجتمع المصري
اتخذ الأستاذ المرشد لتحقيق هذا الغرض الأساليب الآتية :-
الأسلوب الأول الشارة والمجلة
ما كان يستقر بنا المقام فى الدار الجديدة حتى دعانا الأستاذ المرشد إلى اجتماع وعرض علينا فكرته فى وجوب أن تكون لنا شارة مميزة ، ومجلة معبرة ، ووافقنا جميعا على الفكرة .
الشارة : اقترح كل منا هيئة معينه للشارة وانتهينا إلى أن يكون لنا نوعان من الشارات ؛ نوع يعلق على الصدر فى جانبه الأيسر ونوع يلبس فى إصبع اليد ، وقال لنا الأستاذ فكروا فى هيئة لكل من هذين النوعين من الشارات على أن يكون تفكيركم محصورا فى صيغة قرآنية ...
وقد أخذ الأستاذ بفكرتي فى هيئة شارة الصدر ؛ وهى أن تكون قطعة معدنية مستديرة فى مساحة القرش محدبة السطح ، يطلى سطحها بالميناء الزرقاء ، ويرسم عليها - رسما بارزا - سيفان متقاطعان يحملان على تقاطعهما مصحفا بلون أحمر ويكتب تحت تقاطع السيفين كلمة (( وأعدا )) وقد نال هذا الاقتراح استحسان الأستاذ والإخوان ؛ وتعلق هذه الشارة بدبوس ملحوم فى ظهرها .
وأما شارة الأصبع فكان مقترح هيئتها الأستاذ المرشد ؛ فرأى أن تكون دبلة من الفضة ذات عشرة أضلاع ، وينقش على ضلعين منها بالمينا السوداء كلمتا (( الإخوان المسلمون )) .
أسباب اختيار هذا الوضع لشارة الإصبع :
يبدوا أن فكرة هذه الشارة بهذا الوضع كانت فكرة راودت الأستاذ المرشد من قديم ،حتى إنه حين عرض علينا موضوع
أن نكون لنا شارة خاصة كان يريد أن نكون شارتنا هي هذه الشارة وحدها دون غيرها ، ذلك أن فكرتها كانت مختمرة فى ذهنه وأن دلالاتها كانت من الروعة بحيث يقتنع بها كل من سمعها أو لاحظها ونتلخص هذه الدلالات أو المعاني أو الخصائص فيما يأتي :-
- أولا : أنها باعتبارها تلبس فى الإصبع فإنها تكون ملازمة لصاحبها فى كل وقت وفى كل مكان فى الليل والنهار وفى اليقظة وحين يلبس ملابسه وبعد أن يخلعها .
- ثانيا : أنها مصنوعة من الفضة ، والتختم بخاتم من الفضة من السنة التي فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم وحث عليها .
- ثالثا : أن كونها ذات عشرة أضلاع تذكر لابسها بآيات كريمة من القرآن تضفى على هذا الرقم لونا من القدسية فى حياة الناس فى الدنيا والآخرة وهناك بعض هذه الآيات :
أ - الوصايا العشر فى قوله تعالى :
قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليكم (1) أن لا تشركوا به شيئا (2) وبالوالدين إحسانا (3) ولا تقتلوا أولادكم من إملاق نحن نرزقكم وإياهم (4) ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها ما بطن (5) ولا تقتلوا النفس التي حرم الله إلا بالحق . ذلكم وصاكم به لعلكم تعقلون . (6) ولا تقربوا مال اليتيم إلا بالتي هي أحسن حتى يبلغ أشده (7) وافوا الكيل والميزان بالقسط لا نكلف نفسا إلا وسعها (8) وإذا قلتم فاعدلوا ولو كان ذا قربى (9) وبعهد الله أوفوا . ذلكم وصاكم به لعلكم تذكرون . (10) وأن هذا صراطي مستقيما فاتبعوه ، ولا تتبعوا السيل فتفرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون ( الآيات 151،152،153من سورة الأنعام)
ب - الدرجات العشر فى قوله تعالى :
(1) إن المسلمين والمسلمات (2) والمؤمنين والمؤمنات (3) والقانتين والقانتات (4) والصادقين والصادقات (5) والصابرين والصابرات(6) والخاشعين والخاشعات (7) والمتصدقين والمتصدقات (8) والصائمين والصائمات (9) والحافظين فروجهم والحافظات (10) والذاكرين الله كثيرا والذاكرات . أعد الله لهم مغفرة وأجرا عظيما . (الآية 35 من سورة الأحزاب ) .
ج - فى صفات المؤمنين فى قوله تعالى :
(1) التائبون (2) العابدون (3) الحامدون (4) السائحون (5) الراكعون (6) الساجدون (7) الآمرون بالمعروف (8) والناهون عن المنكر (9) والحافظون لحدود الله (10) وبشر المؤمنين . (الآية112 من سورة التوبة
د - مقومات البر فى قوله تعالى :
ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر (1) من أمن بالله (2) واليوم الآخر (3) والملائكة (4) والكتاب (5) والنبيين (6) وآتى المال على حبه ذوى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفى الرقاب (7) وأقام الصلاة (8) وآتى الزكاة (9) والموفون بعهدهم إذا عاهدوا (10) والصابرين فى البأساء والضراء وحين البأس . أولئك الذين صدقوا وأولئك هو المتقون (الآية 177البقرة )
هـ - الأوامر العشر فى قوله تعالى:
(1) واعبدوا الله ولا تشركوا به شيئا (2) وبالوالدين إحسانا (3) وبذي القربى (4) واليتامى (5) والمساكين (6) والجار ذي القربى (7) والجار الجنب (8) والصاحب بالجنب (9) وابن السبيل (10) وما ملكت أيمانكم . إن الله لا يحب من كان مختالا فخورا (36النساء)
صفات المتذكرين فى قوله تعالى :
إنما يتذكر (1) أولو الألباب (2) الذين يوفون بعهد الله (3) ولا ينقضوا الميثاق (4) والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل (5) ويخشون ربهم (6) ويخافون سوء الحساب (7) والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم (8) وأقاموا الصلاة (9) وأنفقوا مما رزقناهم سرا وعلانية (10) ويدرءون بالحسنة السيئة ، أولئك لهم عقبى الدار (19-22 الرعد) .
ونفذت الشارتان ، وانتشرنا انتشارا عظيما فى القاهرة والأقاليم . وصارت هاتان الشارتان مميزتين للإخوان وسط المجتمع .. وكان هذا المظهر بمثابة نزول بالدعوة إلى الميدان ، وهجوم صامت على الأفكار الأخرى ، هذا فضلا عما كان له من أثر فى تعريف الإخوان بعضهم ببعض حيثما التقوا .. وكثيرا ما كانت الشارة لافته نظر الكثيرين فتقدموا يستفسرون من معانيها فكان هذا الاستفسار فاتحة لشرح الدعوة لهم . كما أنها بدأت تشعر المجتمع والحكومة بأن هناك فئة جديدة ذات فكرة محددة تتصل بالدين قد وجدت بين ظهرانيهم . وعلى العموم فإن هذه الشارة كما كانت مميزة للإخوان فى المجتمع فإنها كانت سببا فى نشر الدعوة وتوضيحها ودفعها إلى الأمام سواء فى القاهرة أوفى الأقاليم .
المجلة :
لسنا مع الأستاذ المرشد كذلك وتناولنا موضوع المجلة المعبرة ، وقد يسأل سائل فيقول : ألم تكن للإخوان مجلة تسمى مجلة الإخوان المسلمين ؟ فنقول بل كانت لنا مجلة ((الإخوان المسلمون )) ولكن هذه المجلة قد اصطبغت بصبغة خاصة فهي تقتصر على شرح علمي ومنطقي للدعوة قلما تخرج عن ذلك فتمس الأحداث الجارية فى البلاد إلا من بعيد ، وكانت أشبه بمجلة خاصة يقرأها الإخوان ليلموا بأخبار إخوانهم فى مختلف الجهات وليقر أو لتفسير آية أو حديث ، ويقرأوا مقالة للأستاذ المرشد توضح جانبا من جوانب الدعوة ، ولذا فإنها لم تكن تخرج عن نطاق الإخوان ... وليس معنى ذلك أنها لم تكن ذات غناء بل إنها كانت جانبا ضروريا للدعوة فى طورها الذى كانت تصدر فيه ؛ فقد كان الإخوان فى ذلك الوقت فى حاجة إلى استيضاح نواحي فكرتهم ، والتيقن من صحتها ، والتميز بينها وبين غيرها من النزاعات التي انتسبت إلى الإسلام وإلى أنها ذات كفاءة عملية فى المجتمع .
ولذا فإن هذه المجلة كانت وعاء كما قدمنا لمقالات متسلسلة كان يكتبها الأستاذ المرشد فيها تحت عنوان (( إلى أي شئ ندعو الناس )) وتحت عنوان ((دعوتنا )) وتحت عنوان (( هل نحن قوم عمليون )) كانت هذه المقالات تثبيتا للفكرة الإسلامية فى نفوس الإخوان ، ووسيلة ناجحة لإقناع كثير من الناس بالدعوة وقد جمعت هذه المقالات فى رسائل كل رسالة بعنوان من هذه العناوين وصارت فى جميع أطوار الدعوة وحتى اليوم إحدى وسائل توضيح معالم الدعوة والإقناع بها .
ومع ذلك فقد اعتور هذه المجلة عقبات أهمها قلة المال فقد كانت ضئيلة الانتشار ، ومعنى ذلك أنها كانت لقلة ما يطبع منها باهظة التكاليف ، كما أنها كانت خالية من الإعلانات ، وقد أدى ذلك إلى انقطاعها لاسيما بعد أن فقد الإخوان مطبعتهم ، وقد سبق أن أشرت إلى ذلك فيما كتبت عن الأستاذ أحمد السراوى .
جلسنا نفكر فى اسم لمجلة نصدرها ، بعد أن شرح الأستاذ المرشد الوضع الذى ستكون عليه هذه المجلة ، وأنها ستكون مختلفة تماما عن سابقتها ، حيث تكون معبرة عن الطور الجديد الذى انتقلت إليه الدعوة ، واقترح كل منا عدة أسماء ولكن الأستاذ تمسك أيضا بأن يكون الاسم من القرآن ... واقترحنا عدة أسماء وردت فى القرآن ثم أستقر الرأي على أسم اقترحه الأستاذ هو (( النذير)) .
وينبغي أن اذكر بهذه المناسبة أن انتقلنا إلى الدار الجديدة هذه ، دفع إلينا بمجموعات كبيرة من الشباب كان منهم شاب أسمه (( صالح عشماوي )) كان أكبر منا قليلا لأنه كان قد تخرج فعلا فى كلية التجارة وكان له إيراد لا يحتاج معه إلى الالتحاق بوظيفة ، وقد وقع عليه اختيار الأستاذ المرشد ليكون رئيسا لتحرير هذه المجلة : ولا أدرى هل أختاره الأستاذ العمل لمجرد أنه شخص متفرغ ، أم لأنه توسم فيه مع ميزة التفرغ أنه كاتب يجيد الكتابة ، مع أنه لم يكن قد مضى على التحاقه بالدعوة إلا فترة قصيرة. وعلى كل ، فقد تكشف لنا حين صدرت المجلة أنه كاتب عظيم وأنه كان أهلا لهذه المهمة .
وصدرت مجلة النذير فى ثوب جديد ، وفى أسلوب جديد ؛ أسلوب ثوري ناقد ، لا يترك حدثا فى مصر ولا فى بلد عربي أو إسلامي إلا علق عليه من وجهة النظر الإسلامية تعليقا قويا . وبقدر ما كانت مجلة (( الإخوان المسلمون )) يحررها الأستاذ المرشد كلها تقريبا بنفسه ، فإنه ترك تحرير هذه المجلة لصالح متفرغا هو لما كان يتمنى أن يتفرغ له مما لا يستطيعه غيره .. واجتذبت (( النذير)) بأسلوبها القوى الثوري الكتاب الشباب الثائرين فكانت فى مجموعها شعلة ملتهبة ، وكان لفلسطين من مقالاتها نصيب الأسد ؛ وقد فضحت مقالاتها ألاعيب الاستعمار فى فلسطين وتخاذل الحكومة المصرية عن مد يد العون إلى أهل فلسطين ...
وقد انتشرت هذه المجلة انتشارا كبيرا فكان يوزع منها أكثر من عشرة أضعاف ما كان يوزع من المجلة السابقة . وكانت من الوسائل فى نشر الدعوة فى قطاعات كبيرة من الشباب الذى يميل بطبيعته إلى الثورة ... وكان مما سهل لهذه المجلة الطريق أن حروف الطباعة كانت ملك الإخوان وموجود بالدار ذلك أن الأستاذ المرشد كان حريصا - بعد أن وقع من الأستاذ السراوى ما وقع فى شأن المطبعة - أن يستبقى شيئا منها فاستطاع أن يبقى على الحروف .
الأسلوب الثاني الاتصال بالتجمعات فى مصر

ولم يكن بمصر فى ذلك الوقت تجمعات ذات صبغة غير سياسية إلا (( نقابة معلمي التعليم الإلزامي )) حيث لم تكن قد تكونت نقابات مهنية ولا عمالية بعد ؛ فكانت هذه النقابة أكبر تجمع غير سياسي فى البلاد ، ويمتاز هذا التجمع بأنه تجمع مثقف ، وله فروع فى كل أنحاء القطر ، وكان أعضاؤه منتشرين فى العواصم والحواضر والمدن والقرى مهما نأت وصغرت .. ولم تكن هذه النقابة تجد فى مصر من يوليها عطفا ولا اهتماما .
كان الأستاذ المرشد يعرف كل ذلك عن النقابة ، وكان يحس نحوهم بعاطفة لأنه كان منهم فى يوم من الأيام ولأن هذه الفئة كانت فئة مطحونة من شدة ما كانت ترزح تحته من ظلم . فهذا المعلم - وكان المعلمون فى ذلك الوقت لا يعرفون إلا التفاني فى العمل والإخلاص فى أدائه - هذا المعلم كانت الحكومة تنظر إليه نظرة ازدراء فتمنحه أدنى مرتب لموظف فى الدولة ، وتحرم عليه الترقي مهما طالت سنواته فى العمل ... وقد انتهز الأستاذ سعة هذه الدار الجديدة ، وأوسع لهم فيها مكانا يعقدون فيه مؤتمراتهم وتعاون الإخوان معهم فى رفع مظالمهم إلى الحكام .
وهذه المجموعة الكبيرة من المعلمين - مع ما كانت ترمى به من ضيق الأفق وضحالة الثقافة ، أبرزت لنا فى مؤتمراتها بهذه الدار من الأدباء والخطباء والشعراء من يضاهئون الصفوة الممتازة من مشاهير الفنون فى مصر ؛ كم ألقوا من قصائد عصماء وخطب رنانة ؛ ولازالت تطن فى أذني حتى اليوم عبارة جاءت على لسان أحد خطبائهم إذ يقول : قولوا رئيس الوزراء (( ألم نربك فينا وليدا ولبثت فينا من عمرك سنين ؟ )) .. فكان من أروع ما سمعت من اقتباس .
أما الدعوة فقد اكتسبت الكثير من إفساح المجال فى دارها لمؤتمرات هذه النقابة العتيدة وتعاونها معهم ؛ فلقد شعر هؤلاء الناس بأن هذه الدعوة دعوتهم ، وأنها أجدر الدعوات بالانتماء إليها لأنهل هي وحدها التي فتحت صدرها لهم ولأنها هي دعوة القرآن ؛ فبعد أن كانت مؤتمراتهم عندنا يقتصر الحديث فيها على مطالبهم وشئونهم الخاصة ، رأينا هذه المؤتمرات تتناول شئون الدعوة كما يتناولها الإخوان أنفسهم ولازال عالقا بخاطري شطره من بيت قصيدة عامرة ألقاها أحد شعرائهم فى أحد هذه المؤتمرات وتناول دعوة الإخوان المسلمين ، وكيف أنها ملكت عليه مشاعره ، وصارت كل شئ فى حياته فيقول : يا ليت لي من بردها تكفيني .
وعن طريق هذه النقابة دخلت الدعوة كل مكان حتى النجوع والكفور ، فكان أعضاؤها هم حملة الراية حيثما كانوا ... وقد صاغت الدعوة منهم رجالا حملوا أعباء ، وخاضوا الغمرات ، وكانوا غرة فى جبين الدعوة الإسلامية وما وهنوا وما استكانوا .
كانت هذه الخطوة من الأستاذ المرشد من أعظم الخطوات المباركة التي أقدم عليها ، ودلت حقا على خبرته بالمجتمع الذى يعيش فيه وأعمق وأبعد مدى من خبرة قادة مصر فى ذلك العهد .
الأسلوب الثالث عقد المؤتمرات الإخوانية
كانت المؤتمرات الإخوانية حتى ذلك العهد مؤتمرات موضعية ؛ كانت حفلات للتعارف أكثر منها مؤتمرات ذات قرارات إيجابية ، ولم يكن هذا تقصيرا من المؤتمرين ، وإنما كان جهد المقل حيث لم تكن الدعوة قد جاوزت منطقة القناة وما حولها ... أما والدعوة قد اتسع نطاقها حتى لم تعد تخلو مديرية (محافظة) من عدة شعب بها وبحواضرها كما أصبح للدعوة كيان بالقاهرة ، وصار لها معاقل فى الجامعة والأزهر وفى المعاهد والمدارس بل وصار لها صدى فى بلاد عربية أخرى فقد آن الأوان لعقد مؤتمرات لهؤلاء المستجيبين ولتلك الشعب المتناثرة فى أنحاء البلاد حتى تحس هذه الشعب برباط يربطها معا وحتى تتاح الفرصة لوجودها معا فى مكان واحد فتتعارف وتتفاعل وتوجه وننتج
ورأى الأستاذ المرشد أن يعقد مؤتمرين أحدهما للإخوان فى الوجه البحري والآخر للإخوان بالوجه القبلي وكانت نظريته فى ذلك أن يكون هذان المؤتمران مقدمة لمؤتمر عام للإخوان فى القطر كله يعقد فى القاهرة فيكون أسلوب التدرج هذا تمهيدا صالحا للمؤتمر العام حتى يكون عقدة محوطا بأسباب النجاح . ورأى الأستاذ أن يعقد المؤتمر الأول فى المنصورة والآخر فى أسيوط .
- 1- مؤتمر المنصورة :
وقد اختيرت المنصورة لتوسطها الوجه البحري . ومع أن هذا المؤتمر كان مؤتمرا فرعيا إلا أن القرارات التي اتخذت فيه كانت قرارات خطيرة بل إنها كانت أول قرارات ذات شأن يتخذها الإخوان منذ قيام دعوتهم إذ هي قرارات عملية ... ولعل الأستاذ المرشد رأى أن يخص هذه المؤتمرات الفرعية بهذه القرارات العملية دون المؤتمر العام المزمع عقده باعتبار المؤتمرات الفرعية مهما عظم أمرها فإن الروح العائلية تكون دائما مسيطرة عليها ، أما المؤتمر العام فهو مؤتمر مفتوح قد يغشاه من غير الإخوان من يزيدون عن حضوره من الإخوان عددا ولذا تكون قرارات المؤتمرات عامة تتصل بشئون الدولة وتعالج مشاكلها .
كان حديث الأستاذ المرشد فى هذا المؤتمر منصبا على موضوع واحد محدد هو وجوب تميز الإخوان وكان حديث الأستاذ فى هذا الموضوع مفاجأة لكثير من الحاضرين ؛ لأن الدعوة كانت حتى ذلك الوقت لا بالى أن يكون العضو فيها مصطبغا بصبغات أخرى سواء أكانت هذه الصبغات الأخرى اجتماعية أم دينية أم اقتصادية أم سياسية ... أما فى هذا المؤتمر فقد بدأت نغمة أخرى تضرب على وتر شديد مثير أخذ يهز السامعين هزا عنيفا ...
فهم الحاضرون من حديث الأستاذ الذي خاطب فيه العقول والقلوب أن دعوة الإخوان دعوة جامعة شاملة ينبغي لمن ينتسب إليها أن يرى فيها غناء عن غيرها ، وفهموا أن معنى ذلك هو أن يخير كل ذي مبدأ مع مبدأ الإخوان نفسه بين المبدأين ليختار أحدهما ويدع الآخر .
وتطرق الأستاذ فى حديثه عن التميز إلى نقطة هامة أخرى فقال إن تميز الإخوان يقتضيهم تكاليف قد لا يطالبون بها إذا لم يكونوا إخوانا ، فهذه الدعوة الجامعة الشاملة شاق طريقها ، ثقيل حملها لأنها الدعوة التي عجزت عن حملها السموات والأرض والجبال ، فينبغي أن يعد العاملون بها والحاملون أمانتها أنفسهم إعدادا خاصا بحيث يملكون زمام أنفسهم .
قد رشحوك لأمر لو فطنت لـه فاربأ بنفسك أن ترعى مع الهمل
فلنقاوم أنفسنا فيما تعارف عليه الناس من عادات تمكنت منهم حتى ملكت أعنتهم مع أنها أمور إذا لم تضر فإنها لا تنفع وضرب لذلك مثلا بالتدخين وطلب إلى الإخوان المدخنين أن يمنعوا عن التدخين وعن الكيوف بأنواعها وقال : خير عادة أن لا تكون أسير عادة .
وأذكر أنه كان من بين حاضري هذا المؤتمر الأخ الكريم الأستاذ محمد الهادي عطية وكان محاميا شرعيا كبيرا وأستاذا للشريعة فى كلية المقاصد الخيرية ببيروت وكان إذ ذاك فى سن يناهز الستين فرأيناه ينتصب واقفا حين سمع كلام الأستاذ المرشد ويخرج من جيبه علبة سجاير ويفتحها ويلقى بما فيها على الأرض ويدوسه بقدمه ويعلن أنه طلق التدخين منذ اللحظة . وقد أخبرني بعد خروجنا من المؤتمر أنه ظل يدخن أربعين عاما وكان يدخن فى ذلك الوقت فى اليوم الواحد أربعين سيجارة ... وقد كنت أنا حريصا على متابعة هذا الأخ الكريم لأعرف عواقب هذا الامتناع المفاجئ دون تدرج فأخبرني فى لقائي به بعد عدة أشهر بأن شيئا مما يشاع من انهيار أو صداع أو شئ من ذلك لم يصبه ... ومعنى هذا أن العزيمة الماضية وثقة المرء فى نفسه وفى سلامة الطريق الذي يسلكه كل ذلك يكسبه مناعة ضد العوارض التي تصيب ضعفاء العزيمة الذين يدفعون إلى طريق سلكوا فيه راغمين محرجين . سلكوا فيه ونفوسهم لازالت تتلفت إلى وراء بشوق ولهفة .
كان لهذا المؤتمر آثار بعيدة المدى سواء فى الناحية الشخصية حيث رأى الإخوان لأول مرة أن الدعوة تتدخل فى شئونهم الخاصة وفى عاداتهم وأمزجتهم . أو فى ناحية العامة فى علاقات الإخوان بالمجتمع الذي يعيشون فيه ويتكيفون حسب مصالحهم معه - لقد استغرق كل أخ من الإخوان وقتا طويلا فى مناقشة مقررات هذا المؤتمر مع نفسه حتى ركن إلى جانب من الجانبين . كما كان لهذا المؤتمر آثارا خارج المحيط الإخوانى سنعرض لها فى مكان آخر إن شاء الله .
- 2- مؤتمر أسيوط :
لم أحضر هذا المؤتمر ولكن الإخوان الذين حضروه أخبروني بأنه كان صورة من مؤتمر المنصورة واتخذت فيه نفس القرارات .
- صلاة العيد في الإسماعيلية :
معذرة فى هذا الاستطراد فى رحلتنا من القاهرة لحضور مؤتمر المنصورة فقد اقترح الأستاذ المرشد أن نمر فى طريقنا على الإسماعيلية ، وقد صادف هذا الاقتراح هوى فى نفوس الجميع لأن للإسماعيلية مكانة خاصة فى نفوس الإخوان باعتبارها الحبيب الأول ومهوى الفؤاد
نقل فؤادك حيث شئت من الهوى
- ما الحب إلا للحبيب الأول
وقد نزلنا الإسماعيلية ، وكانت هذه أول مرة فى حياتي ، ولم يكن أمامنا فرصة للتجول فيها لرؤية معالمها والإلمام بصورة كاملة عنها ، حيث كان المقرر أن نبيت بها تلك الليلة - وكانت ليلة عيد الفطر - ثم نصبح لنصلى فيها صلاة العيد ثم نستأنف سفرنا إلى المؤتمر . وقد قضينا بقية يوم وصولنا بدار المركز العام بها بين احتفاء إخوان الإسماعيلية بنا وبين كلمات الإعجاب التي كنا نزجيها إليهم . وكان من أجمل ما قيل فى هذا اللقاء كلمة الأخ محمد عبد الحميد أحمد - حيث قال : إن قيام الدعوة فى الإسماعيلية وهى معقل الاستعمار فى مصر يذكرنا بأن موسى الذي قضى على فرعون قد تربى فى بيته .
وبعد صلاة الفجر ، خرجنا متوهجين لصلاة العيد ، وقد عودهم الأستاذ المرشد على أدائها فى خارج المدينة فى مكان فسيح أشبه بالصحراء ، ولم أر فى حياتي صلاة عيد قبل هذه فى روعة هذه الصلاة ، إن المسلمين على بكرة أبيهم اتجهوا إلى هذا المكان فكل يسلك الشوارع التي تؤدى به إلى مكان الصلاة والكل يكبر تكبير العيد منذ يخرج من منزله حتى يصل إلى المكان فكل ، والتكبير بصوت جهوري فكنت ترى جميع شوارع المدينة تسيل بجموع المسلمين تصيح بالتكبير بصورة لا يملك الإنسان أمامها نفسه فترى الدموع تنهمر من العيون لروعة المنظر وروعة ما تسمعه .. وبعد أداء الصلاة لم يغادر أحد مكانه وقام الأستاذ المرشد فخطب الناس خطبة زلزلت القلوب وأبكت العيون ثم قام الناس جميعا يتصافحون ويتعانقون والكل متجه إلى الأستاذ المرشد ليصافحه .
والحق إن صلاة العيد إذا أديت على حقيقتها بهذا الأسلوب ، فإنها تكون أعظم مظاهرة إسلامية تحيى ميت المشاعر ، وتبعث الحياة فى نفوس الخاملين .. إنها بعث سنوي للأمة الإسلامية .
- 3- المؤتمر الخامس :
أطلق على هذا المؤتمر اسم ((المؤتمر الخامس )) على اعتبار أنه سبق بأربعة مؤتمرات عامة بمعنى أنها كانت تمثل فى كل منها شعب الإخوان التي كانت موجودة فى أوقات انعقادها ، ولكن هذه الشعب كانت كما سبق أن ذكرت - قليلة العدد وفى ركن محدد من أركان البلاد ، ولذا فإنها وإن كانت عامة لجمعها كل الشعب إلا أنها كانت موضعية فى حقيقتها ، ولعل هذا كان السبب فى أن المجتمع المصري لم يشعر بها ... أما هذا المؤتمر فهو فى حقيقة الأمر يعد المؤتمر العام الأول لأنه أول مؤتمر اشتمل على خصائص المؤتمرات العامة ...
وقد صادف عقد هذا المؤتمر مناسبة مرور عشر سنوات على تأسيس دعوة الإخوان المسلمين فقد عقد فى عام 1357 هجرية الموافق 1938 ميلادية .. وقد رأى الأستاذ المرشد أن يعقده فى سراي آل لطف الله بالقاهرة مع أن هذا المكان باهظ التكاليف لكن الأستاذ اختاره لأنه كان فى ذلك الوقت المكان المرموق الذي تتجه إليه الأنظار - وهو المكان الذي عقده فيه المؤتمر البرلماني العالمي لمشكلة فلسطين ، وكان الأستاذ المرشد يعتبر هذا المؤتمر أول فرصة يواجه فيها المجتمع المصري والدولي بدعوته ، فأعد خطابا جامعا ضافيا ، وضح فيه غاية الإخوان وخصائص دعوتهم ، ووسائلهم وخطوات منهاجهم ، وموقفهم من الهيئات المختلفة . ونظرا لأهمية هذا الخطاب التاريخي والذي طبع فى رسالة خاصة والذي كان له ما بعده لأنه حدد المواقف بكل وضوح وصراحة فسنوجز للقارئ صورة مصغرة منه إذا لم يتح له أن يقرأ الخطاب بأكمله :
1 - بدأ الحديث يذكر الرجال الذين كانوا أول من فاتحهم بفكرته ووجد الاستجابة منهم فذكر أحمد تيمور باشا كما ذكر من أصدقائه الأستاذ أحمد السكري والأستاذ الشيخ حامد عسكرية والأستاذ الشيخ أحمد عبد الحميد .
2 - شرح نظرة الإخوان إلى الإسلام باعتباره الفكرة التي تضم كل المعاني الإصلاحية .
3 - قرر أن دعوة الإخوان دعوة سلفية سنية صوفية سياسية رياضية علمية ثقافية اقتصاديي اجتماعية.
4 - أشار إلى أن من خصائص دعوة الإخوان ما يأتي :
- أ - البعد عن مواطن الخلاف
- ب - البعد عن هيمنة الكبراء والأعيان
- ج - البعد عن الهيئات والأحزاب
- د - التدرج فى الخطوات
- ه - إيثار النواحي العملية على النواحي المظهرية
- و - تواؤمها مع روح الشباب
- ز - سرعة الانتشار فى المدن والقرى
5 - أشار إلى ستة من شباب الجامعة منذ سنوات ، وهبوا الله نفوسهم وجهودهم ، فأيدهم الله فإذا بالجامعة كلها من أنصار الإخوان المسلمين ، كما أشار بمثل ذلك إلى الأزهر .
6 - تحدث عن تساؤل المتسائلين ، هل فى عزم الإخوان أن يستخدموا القوة وأن يقوموا بثورة عامة ؟ فقال : إن وطنا كمصر جرب حظه فى الثورات فلم يجن من ورائها إلا ما تعلمون ـ أما الإخوان فإنهم سيستخدمون القوة العملية حيث لا يجدي غيرها ، وحيث يثقون أنهم قد استكملوا عدة الإيمان والوحدة . وهم حين يستخدمون هذه القوة سيكونون شرفاء صرحاء وسينذرون أولا ، وينتظرون بعد ذلك ثم يقدمون فى كرامة وعزة ، ويتحملون كل نتائج موقفهم هذا بكل رضاء وارتياح . وأما الثورة فلا يكفر الإخوان المسلمون فيها ، ولا يعتمدون عليها ، ولا يؤمنون بنفعها ونتائجها . وإن كانوا يصارحون كل حكومة فى مصر بأن الحال إذا دامت على هذا المنوال ، ولم يفكر أولو الأمر فى إصلاح عاجل سريع لهذه المشاكل ، فسيؤدى ذلك حتما إلى ثورة ليست من عمل الإخوان المسلمين ولا من دعوتهم ، ولكن من ضغط الظروف ، ومقتضيات الأحوال ، وإهمال المرافق . وليست هذه المشاكل التي تتعقد بمرور الزمن وسيتفحل أمرها بمضي الأيام نذيرا من هذه النذر ، فليسرع المنقذون بالأعمال .
7 - وتكلم عن الإخوان المسلمين والحكم فقال : فالإخوان المسلمون لا يطلبون الحكم لأنفسهم فإن وجدوا من الأمة من يستعد لحمل هذا العبء وأداء هذه الأمانة ، والحكم بمنهاج إسلامي قرآني ، فهم جنوده وأنصاره وأعوانه ، وإن لم يجدوا فالحكم من منهاجهم ، وسيعملون لاستخلاصه من أيدي كل حكومة لا تنفذ أوامر الله .
8 - وتكلم عن الإخوان المسلمين والوطنية فقال : ومن هنا كان المسلم أعمق الناس وطنية ، وأعظمهم نفعا لمواطنيه ، لأن ذلك مفروض عليه من رب العالمين ، وكان الإخوان المسلمون أشد الناس حرصا على خير وطنهم ، وتفانيا فى خدمة قومهم يتمنون لهذه البلاد العزيزة كل عزة ومجد وكل تقدم ورقى وكل فلاح ونجاح .
9 - وقال عن القومية العربية : الإخوان المسلمون يعتبرون العروبة كما عرفها النبي صلى الله عليه وسلم فيما يرويه ابن كثير عن معاذ بن جبل رضي الله عنه (( ألا إن العربية اللسان . ألا إن العربية اللسان )) ومن هنا كانت وحدة العرب أمرا لابد منه لإعادة مجد الإسلام وإقامة دولته ، وإعزاز سلطانه ، ومن هنا كان على كل مسلم أن يعمل لإحياء الوحدة العربية وتأييدها ومناصرتها وهذا هو موقف الإخوان من الوحدة العربية .
10 - وقال عن الوحدة الإسلامية : الإخوان المسلمون يقدسون هذه الوحدة ، ويؤمنون بهذه الجامعة ، ويعملون لجمع كلمة المسلمين وإعزاز أخوة الإسلام ، ينادون بأن وطنهم هو كل شبر أرض فيه مسلم يقول لا إله إلا الله محمد رسول الله .
11 - وقال عن الوحدة العالمية : ولى أن أقول بعد هذا إن الإخوان يريدون الخير للعالم كله فهم ينادون بالوحدة العالمية ، لأن هذا هو مرمى الإسلام وهدفه ومعنى قول الله تبارك وتعالى (( وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين )) .
12 - ثم تناول الإخوان من الأحزاب السياسية فى مصر فقرر أن العلاج الحاسم الناجح أن تزول هذه الأحزاب مشكورة فقد أدت مهمتها ، وانتهت الظروف التي أوجدتها ، ولكل زمان دولة ورجال كما يقولون .
13 - واختتم كلامه بالحديث عن موقف الإخوان من دولة الاستعمار ، فبدأ بانجلترا ثم بفرنسا ثم بايطاليا وتكلم عن فلسطين وحيا مفتيها ورجاله ، وحذر الوفود الإسلامية فى مؤتمر المائدة المستديرة بلندن من مكر انجلترا وخداعها وأشار إلى جرام الطليان فى طرابلس وفرنسا فى المغرب العربي ، ووجه كلامه إلى الإخوان بهذا الصدد فقال أيها الإخوان : هذا كلام يدمى القلوب ويفتت الأكباد ، وحسبي هذه الفواجع فى هذا البيان فتلك سلسلة لا آخر لها وأنتم تعرفون هذا ولكن عليكم أن تبينوه للناس ، وأن تعلموهم أن الإسلام لا يرضى من أبنائه بأقل من الحرية والاستقلال فضلا عن السيادة وإعلان الجهاد ولو كلفهم ذلك الدم والمال ، فالموت خير من هذه الحياة ، حياة العبودية والرق والاستغلال . وأنتم إن فعلتم ذلك ، وصدقتم الله العزيمة فلابد من النصر إن شاء الله (( كتب الله لأغلبن أنا ورسلي إن الله لقوى عزيز )) .
الأسلوب الرابع الاحتكاك بالأحزاب والهيئات

لم يكن الاحتكاك بالأحزاب والهيئات من الأساليب التي يسعى الإخوان إلى إنتاجها ابتغاء التميز الذي يهدفون إليه ، ولكن هذا الاحتكاك دخل فى أساليب التميز رغم أنفهم .. لأن كل ما حرص عليه الإخوان فيما قرروه فى مؤتمراتهم إنما كان لمجرد حفظ كيانهم والاستجابة الكاملة لفكرتهم ، ولم يقصدوا فيما قصدوا مهاجمة غيرهم أو تجريح سواهم ... ولكن الذي حدث هو أن عددا من الإخوان فى مختلف البلاد - اقتناعا بمقررات مؤتمرات المنصورة وأسيوط والمؤتمر العام الخامس بالقاهرة - أخذوا ينحازون إلى دعوتهم بكل قلوبهم وعقولهم وبكل ما يملكون ، وتبين فيما بعد أن هذا الانحياز قد اعتبر من جانب بعض الأحزاب والهيئات اعتداء عليها وانتقاصا من أرضها ، مع أن دعوة الإخوان لم ترغم هؤلاء الذين انحازوا إليها على هذا الانحياز كما أنها لم تغرهم بأي نوع من أنواع الإغراء ، ذلك أنها لا تملك القليل ولا الكثير من وسائل الإرغام ولا وسائل الإغراء ، وإنما هو الإيمان والاقتناع .
والجهات التي آذتها المقررات الايجابية لمؤتمرات الإخوان جهات ثلاث : الأحزاب السياسية التقليدية والأحزاب السياسية الناشئة والهيئات الدينية .
أما الأحزاب التقليدية وهى فى ذلك الوقت الوفد والأحرار والدستوريون والسعديون ، فهذه أحزاب أوجدتها ظروف معينه وانتهت هذه الظروف وكان يجب أن تنتهي هذه الأحزاب بانتهائها ولكنها تشبثت بالبقاء دون أن يكون لها برامج محددة أو أساليب إصلاحية معينة ، ولم يكن لها جميعا إلا هدف واحد تسعى إليه هو الوصول إلى كراسي الحكم لا يبالون عن أي طريق يصلون ، وفى غضون هذا التهالك على الحكم ضيعت مصالح البلاد ، وديست كرامتها ، وتمكن المستعمر من رقاب أهلها ، وفقد الشعب الرؤية الصحيحة بعد أن استطاعت هذه الأحزاب قلب المفاهيم لكلمات تتصل بالروح الوطنية ، فاختفت من قاموس هذه الأحزاب كلمة المستعمر وحل محلها الحليف ، واختفت كلمة الثورة وحل محلها المفاوضة ، وزفوا إلى الشعب معاهدة الإذلال والاحتلال فى ثوب معاهدة الشرف والاستقلال . هذه الأحزاب بعيدة كل البعد عن دعوة الإخوان المسلمين ولا يكاد يكون بيننا وبينهم وجه شبه فى حين أن بيننا وبينهم كل أوجه الخلاف فنحن فى واد وهم فى واد آخر .
- أما الأحزاب الناشئة والفتية :
فهي جماعة مصر الفتاة .. ويأتي الحزب الوطني يتأرجح بين هذا النوع الفتى وبين النوع التقليدي فهو وإن كان أقدم الأحزاب تكوينا إلا أنه لا يزال يحتفظ بمبادئ محددة ورثها عن مؤسسه الأول مصطفى كامل لكن موجة الانحراف بالوطنية طغت عليه وسلبته فاعليته ولذا قلنا إنه يتأرجح بين النوع الفتى وبين النوع التقليدي ، والذي يهمنا فى هذا القسم هو جماعة مصر الفتاة وقد قدمت فى صدر هذه المذكرات نبذة عن هذه الجماعة وعن مؤسسها الأستاذ أحمد حسين .
وإذا كان الاحتكاك بيننا وبين الأحزاب التقليدية أمرا طبيعيا ، لأن الفروق بين فكرة الإخوان وبين شعارات هذه الأحزاب فروق شاسعة هي أقرب إلى أن تكون كالفرق بين الحق والباطل ، فإن القارئ بذلك فى غنى عن شرح أسباب الخلاف ونواحي التناقص ... أما مصر الفتاة باعتبارها هيئة تنزهت عن كثير من عيوب الأحزاب التقليدية ، فإن الاحتكاك بها يدعو القارئ إلى شئ من التأمل ، ويقتضى منا التبسط فى شرح نواحي الاختلاف بين فكرة الإخوان المسلمين وفكرة مصر الفتاة ، حيث يجمع بين الهيئتين من أوجه الشبه من الإخلاص والطهر ما يجعل الاحتكاك بينهما أمرا بعيد الاحتمال .
قدمت من قبل أنني منذ أول يوم لي بكلية الزراعة تعرفت فى المكان المعد للصلاة بالكلية على طالب يسبقني بسنتين فى الكلية اسمه محمود مكي وتوطدت الصداقة بيني وبينه ثم تبين لي بعد ذلك أنه هو رئيس طلبة مصر الفتاة بالكلية وبمرور الأيام تعرفت على زملائه بالكلية وتوطدت صلة الصداقة بيني وبينهم ، ذلك أنهم على شاكلتنا شباب طاهر مستقيم يرنوا إلى الإصلاح ...... وكانت مثل هذه الصلات تربط الإخوان فى جميع الكليات بزملائهم من أعضاء مصر الفتاة .
ودعوة الإخوان وإن كانت قد تأسست قبل مصر الفتاة ببضع سنين إلا أن مصر الفتاة سبقتنا إلى الجامعة فجذبت إليها مجموعات من الشباب الغض الذي كان متلهفا على فكرة جديدة يشعر فيها بجو جديد غير الجو المألوف من هذه الأحزاب التي جرح كل منها الآخر فأصبحت كلها مجرحة فى نظر الشباب . فلما أراد الله لدعوته أن تدق أبواب الجامعة ، كان علينا - نحن دعاتها - أن نعلنها للجميع. فكنت - كما يفعل إخوانى فى كلياتهم - انتهز الفرصة التي يكون الطلبة فيها يستجمون فى حدائق الكلية وأقف مع بعض الزملاء أتحدث عن فكرتنا فيلتف حولنا زملاء آخرون وتتسع دائرة الملتفين فأشرح لهم أهدافنا ووسائلنا فيتوجهون إلى بالأسئلة لاستيضاح ما يرغبون استيضاحه ، ويتناول الحديث برنامجنا فى الإصلاح الاجتماعي والاقتصادي والسياسي وعلاقات الدعوة ومواقفها من جميع الأفكار والمبادئ والهيئات والطوائف والدول ... وهذه المناقشات لابد أن ينتهي المشتركون فيها إلى موقف من ثلاثة مواقف ، أفراد اقتنعوا عقلا وعاطفة وهؤلاء يعلنون انضواءهم تحت لواء الدعوة ، وأفراد اقتنعوا عقلا ولم يقتنعوا عاطفة وهؤلاء يظلون فى موقف المراقب الذي يريد مزيدا من الإقناع ، وأفراد جاءوا لمجرد المجادلة والمكابرة وهؤلاء لا شأن لنا بهم ، وبالطائفتين الأولين تثرى الدعوة ويكثر أنصارها .
والمجاملات فى الصداقة أمر مطلوب إلا فى ألأفكار والمبادئ والعقائد ، فلم تكن صداقاتنا مع زملائنا من أعضاء مصر الفتاة تحملنا على مجاملتهم على حساب دعوتنا .... ولكن قيامنا بتقديم فكرتنا إلى زملائنا الطلبة فى الكليات كانت تغصب هؤلاء الأصدقاء لأنها بطبيعتها تحد من انتشار فكرتهم ولم يتعودوا من قبل على مثل ذلك . فقد على أن تكون لهم الغلبة دائما فهم يكسبون من أنصار غيرهم ولا يكتسب أحد من أنصارهم ، فإذا رأوا أن هذه القاعدة التي ألفوها قد تغيرت فإنهم يغضبون .
وكان لابد لنا فى ثنايا عرضنا لدعوتنا أن نتعرض للأفكار العنصرية التي كانت فى ذلك الوقت تسيطر على أفكار الشباب فى مصر وفى أوروبا حيث كانت ألمانيا تدعو بشعار يقول (( ألمانيا فوق الجميع )) وانجلترا تزهو بأن الإنجليز جنس متميز من أجناس العالم فهم (( الجنس الذي يجرى فى عروقه الدم الأزرق )) وتركيا كانت تحكمها (( جمعية تركيا الفتاة )) وشعار (( مصر فوق الجميع )) وإذ كان تعرضنا للشعارات الأوربية المشار إليها بالمهاجمة على اعتبار أنها تمييز عنصري لا يقره الإسلام ، كان السامعون يفهمون من تلقاء أنفسهم الرد على سؤالهم دون أن نجيبهم إجابة مباشرة
ولقد آتت الجهود التي بذلتاها فى عرض فكرتنا على زملائنا الطلبة فى الكليات أكلها ، فأقبلوا على الدعوة مهرولين ، ومن هؤلاء الذي أقبلوا من كان خالي الذهن من سائر الأفكار ، ومنهم من كان معتنقا فكرا معينا فلما حضر المناقشات ووضعت فيها الأفكار المختلفة موضع البحث ألم بأخطاء كانت خافية عليه واختار الفكر الأصوب لأنه كان باحثا عن الحقيقة لا متعصبا لشئ معين .
وتصادف أن كان من الفريق الأخير طالبان من كلية الزراعة كانا عضوين فى مجلس الجهاد الأعلى لمصر الفتاة هما جلال عنبر وزكى صالح ، ولما كان هذا المجلس هو الهيئة العليا لإدارة الحزب ، فكان لانتقال عضوين منه إلى دعوة الإخوان المسلمين رجة عنيفة فى أوساط مصر الفتاة ، اضطر الحزب معها إلى موالاة اجتماعاته لبحث الأمر ، وكلف المجلس الأعلى أحد أعضائه وكان طالبا مرموقا فى كلية الحقوق اسمه حمادة الناحل بالاتصال بهذين العضوين وإقناعهما بالرجوع ، واتصل بهما فعلا ودارت بينه وبينهما مناقشات ثم استدعاهما المجلس الأعلى مجتمعا للمناقشة .
ولقد كنت فى مناقشاتي مع شباب مصر الفتاة بالذات رفيقا غاية الرفق ، لأني كنت أرى فيهم مثلا عظيمة غير أنهم فى حاجة إلى قليل من التوجيه ، ولذا فقد كنت - حين أخبرني الإخوان الكريمان أن المجلس الأعلى قد حدد لهما جلسة لمناقشتهما - قلت لهما إننا لا نرى مانعا من أن تكونا معهم ومعنا فنحن نرى أنفسنا مكملين لما فى مصر الفتاة من نقص ... ولكن .. لما كانت مصر الفتاة فى ذلك الوقت فى أزهى أيامها ، وفى عنفوان قوتها ، عز عليها أن تقبل بهذا الوضع وقالوا لهما : من لم يكن لنا وحدنا كان علينا .
ومنذ هذه الحادثة بدأ مصر الفتاة ترى فى الإخوان المسلمين لأول مرة - على حداثة عهدهم بالجامعة - منافسا قويا ومزاحما خطيرا لا تسهل مهاجمته ، إذ ليس له عورات يهاجم منها ... ويجدر بي هنا أن أعيد وأكرر أن تنافسنا مع مصر الفتاة كان تنافسا من نوع كريم ، تنافسا بين نبلاء ، فمصر الفتاة كانت فى تنافسها معنا أكرم من أن تلجأ إلى أساليب الكذب والافتراء التي تستبيحها الأحزاب التقليدية ، لأن أعضاء مصر الفتاة كان أكثرهم من صفوة الشباب وخلاصة الأمة ... ومن الطريف أن أورد هنا بيتين من قصيدة نشرت فى ذلك الوقت مجلة النذير للأخ الكريم جلال عنبر - وكان شاعرا عذب الشعر - لخص فيها ما انتهى إليه موقفه فقال :
إن هذا الفتى الذي كان يدعـو
- مصر فوق الجميع طول الزمان
طـلق اليوم مــــــــبدأ (( المجد للنيل )) فناء لا مـبدأ الإخوان
نبل ، وتحرك من جهة إلى جهة على أساس مبادئ وأهداف بعضها أنبل من بعض ، ليس فيها أهواء ولا جرى وراء منافع مادية .
كانت مهاجمتهم للإخوان مهاجمة بالعمل الإيجابي ، الذي تراءى لهم أنه العمل الذي سيتفوقون به على الإخوان فى ميدان الأعمال ، والعمل الذي سيشد الأنظار إليهم ، وسيقنع الشباب بأنهم أحق أن يلتف حولهم ، ويظهر الإخوان بمظهر المتقاعدين المتخاذلين ....
- تحطيم الخمارات :
فى صباح يوم من الأيام قرأنا فى الصحف أن جماعات من مصر الفتاة هاجمت عددا من الحانات فى القاهرة وحطمت واجهاتها وبعض محتوياتها ، وقد تم القبض على عدد من الجناة ويجرى التحقيق معهم .
وفهمت فى الحال أننا المقصودون بهذا العمل ، وأيد ذلك حين انتظمنا فى الدراسة فى ذلك اليوم أن انطلق طلبة مصر الفتاة يفخرون بهذا العمل الإيجابي ، ويتيهون به على الجميع ويتوجهون بهذا التيه إلى الإخوان ، بل ويفصحون عن ذلك صراحة فى حديثهم مع الطلبة الآخرين ...
ولما كان هذا الإجراء وهذا التحدي موجها إلى الإخوان بعامة وإلى إخوان كلية الزراعة بخاصة ، فقد رأيت فى موقف يقتضيني أن لا أقف مكتوف اليدين أمام التحدي لاسيما أن طلبة الكلية أحسوا بهذا التحدي وأخذوا ينتظرون منا ردا عليه ، ورأيت أن الرد الشفوي فى هذا الصدد لا يجدي لسببين : أحدهما : أن من غير المستطاع جمع الطلبة جميعا فى مكان واحد ليستمعوا ، والآخر : لأن الرد الشفوي تصاحبه عادة حالات انفعالية تجعل من العسير على التكلم جمع أطراف الموضوع والإحاطة به من جميع نواحيه ... وكانت مجلة النذير فى هذه الأيام قد انتشرت وذاع صيتها فى أوساط طلبة الكلية فرأيت أن يكون ردى مقالا على صفحات النذير ليكون إقناعا لإخواننا وزملائنا بالكلية ولجميع الكليات ومختلف الطوائف فى القاهرة وفى أنحاء البلاد .
وكان المقال على ما أذكر بعنوان (( تحطيم الخمارات )) وملخص ما جاء بالمقال هو أن الدعوة الإسلامية باعتبارها دعوة الخلود فإنها لا تعتمد فى خطواتها على الارتجال أو الفطرة ، وإنما تعتمد على أساليب رصينة تتمشى مع العقل وتخضع للنواميس الكونية ... فرسول الله صلى الله عليه وسلم دعا أول ما دعا إلى الوحدانية ونهى عن عبادة الأصنام ، ومع ذلك ظل فى مكة ثلاثة عشر عاما يصلى وهو ومن معه من المسلمين فى الكعبة والأصنام منصوبة فوقها يعبدها المشركون ، لم يفكر هو ومن معه من المسلمين فى تحطيم واحد منها ، ثم هاجر إلى المدينة مكرها ، وظل بها عددا من السنين يدعوا الناس إلى الإسلام حتى التف حوله الناس ، واشتد أزره ، وقوى ساعده ، ورأى فى نفسه وفى أتباعه الكفاءة لملاقاة المشركين بمكة ، فاتجه إليها فاتحا بعد ثماني سنوات من الهجرة ، وانتصر واستسلمت مكة بمن فيها دون قتال ، ودخل رسول الله صلى الله عليه وسلم الحرم وأمر بتحطيم الأصنام فأنزلت من فوق الكعبة وحطمت واحدا وهو يقول (( جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا )) تحت سمع حماتها وبصرهم دون أن يحركوا ساكنا أو يرفعوا بذلك رأسا ،ودخل الجميع الإسلام دون حرب ولا دماء ... ولم تعد الأصنام إلى الأبد .
لو أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كبر عليه أن تعبد الأصنام وهو يصلى فى الكعبة وحاول تحطيمها فى أول دعوته ، ماذا عسى أن يكون قد حدث له ولدعوته ؟ ... إنه كان سيقتل هو ومن معه وتقتل معه دعوته وهى فى مهدها ، ولما كان هناك فى التاريخ دعوة للإسلام ...
ثم أشرت إلى أن هذا الإجراء من تحطيم للحانات وما أشبهه ليس مما يعجز الإخوان ، فإن عددا قليلا من قطاع الطرق يستطيعون أن يقوموا به ... ثم ما النتيجة من هذا العمل ؟ هل حرمت الخمر فى مصر ؟ هل أغلقت الحانات ؟ ... كل ما كان من نتائج هي أن الخمر استمرت كما هي مباحة ، ولم تغلق الحانات ، أما الحانات التي حطمت فقد عوضتها الحكومة من جيوبنا نحن المصريين بأضعاف قيمة ما تحطم من واجهاتها ومحتوياتها فجددت تجديدا زاد من عدد روادها ... ثم ألقى عدد من الشباب الطاهر البرئ الذي لم يحسن توجيهه فى السجون .. هذا عمل كالطبل الأجوف صوت ضخم يلفت الأنظار ثم تلتفت فلا ترى وراءه شيئا .
ووزعت (( النذير )) فى هذا الأسبوع توزيعا واسعا فالكل متلهف على معرفة موقفنا من التحدي فبقدر ما روجت مصر الفتاة لعملها هذا ووسعت من دائرة الفخر به انتشرت (( النذير )) .. كان لهذا المقال أثر كبير فى أوساط الشباب ، وكان صدمة لمصر الفتاة ، ألجم دعاتها ، وأفحم المتفاخرين من رجالها بل جعلهم يتوارون خجلا ... وبدأ الإخوان فى الكليات يرفعون رءوسهم ويتبوءون مكانهم ، ويواصلون مكاسبهم من المنتسبين لمصر الفتاة وغيرها .
وكان الذي فاجأ الناس أن قرءوا خطابا موجها من المرشد العام إلى وزير العدل يطالبه فيه بالإفراج عن المقبوض عليهم فى هذا الحدث لنيل مقصدهم ، ويحثه فيه على إصدار القوانين التي تطهر البلاد من المنكرات التي تثير النفوس المؤمنة وتحرج الصدور .
- نحن والأحزاب التقليدية :
لم تكن الأحزاب التقليدية حتى ذلك الوقت تقيم للإخوان وزنا ، لأنها ، لأنها أولا كانت تعتقد أن السلطة أو الحكم إنما هو دوله بينهم ، يتبادلونه واحدا بعد الآخر ، وأن كائنا من كان مهما قال ومهما فعل ، مادام لم ينازعهم السلطة والحكم فإنه لا يعنيهم أمره . وثانيا لأن رجال هذه الأحزاب لم يكونوا يفهمون الإسلام على أنه دين ودولة ... إلا أن حدثين حدثا فى تلك الأثناء أرغما هذه الأحزاب على أن تستفيق من غرور السلطة ، وتهبط من علياء بروجها العاجية ، بعد أن أحسوا ببوادر زلزال على الأرض هز بروجهم العاجية هزا .
أولهما : الصبغة الجديدة :
فإن كبار رجال الأحزاب فى الريف بدئوا يرون ظاهرة جديدة ، تلك أن أشخاصا . وإن كانوا قلة - ممن كانوا يصطبغون بصبغهم الحزبية ، بدئوا يرونهم يطرحون هذه الصبغة بحجة أنهم إخوان مسلمون . وكان المعهود حتى ذلك الوقت أن الذي يطرح صبغة حزب من الأحزاب لا يطرحها إلا ليصطبغ بصبغة حزب آخر يتوسم فيه زيارة انتفاع يعود عليه ... أما اطراح الحزبية عامة بدعوى أن الشخص من الإخوان المسلمين فإنها بدعة جديدة تستحق النظر !!
ثانيهما : أول مظاهرة إسلامية بالجامعة :
بدأت هذه الأحزاب تشعر بشئ من الضيق حين رأت هذه (( الجمعية )) أخذت تزحف نحو العاصمة (( القاهرة)) وتتشعب فيها أي تكون لها شعبا ، مع أن القاهرة كانت تعتبر لهذه الأحزاب حرما أمنا .. كيف لا وهى مقر الحكام ، ومترقبي الحكم ، ومقر دور الأحزاب التي كانت كعبة القاصدين من أنحاء البلاد .
يضاف إلى ذلك أن هذه الأحزاب فوجئت فى يوم من أوائل أيام تلك السنة (1938) بمظاهرة تخرج من الجامعة المصرية تضم أكثر من أربعة آلاف طالب ، تجوب شوارع الجيزة ، وتخترق شوارع القاهرة ، وتقطع شارع المنيل حتى تصل إلى مقر الأمير محمد على ولى العهد، والمظاهرة تهتف مطالبة بالحكم بالشريعة الإسلامية ... نعم إنها كانت بمناسبة الاحتجاج على الكتابين اللذين قررا على طلبة قسم اللغة الإنجليزية بكلية الآداب وفيهما تهجم وسباب للنبي صلى الله عليه وسلم مما قد نبسط الكلام عنه فيما بعد إن شاء الله ... إلا أنها كانت مظاهرة إسلامية تدعو إلى الحكم بكتاب الله والشريعة الإسلامية .. نغمة جديدة ... ويطل عليها الأمير محمد على ويبادلها التحيات والعواطف ويعد بالعمل على إجابة مطالبها ... مثل هذه المظاهرة لم يكن يستطيع تسييرها ولا تدبيرها إلا حزب واحد فقط بعد إعداد كبير بل وبذل مادي سخي ذلك هو حزب الوفد .
كما أن حزب الوفد - بعد أن حلت فرق (( القمصان الزرقاء )) التي كان قد أنشأها - رأى لهذه ((الجمعية )) فرقا من القمصان الكاكى وإن كانت تسمى كشافة أو جوالة إلا أنها فرق لا تختلف عن فرقه التي حلت إلا فى لون القمصان وهذه الفرق فى نمو مستمر. إن هذه الجمعية تستحق أن يحسب لها حساب ، وتستحق أن ينظر إليها بعين الريبة ، وتستحق أن تعد العدة لمقاومتها ، ووقفها عند حد ، أو إزالتها من الوجود .
لم يثنهم عن هذا العزم أن الأستاذ المرشد كان يقول فى محاضرات الثلاثاء : إننا لسنا طلاب حكم وإنما نحن نطالب بالحكم بالشريعة الإسلامية ، من حكم بها من الحكام فإننا مستعدون أن نغسل على قدميه ... كما لم يثنهم أننا كنا فى الأقاليم نزور ممثليهم ، ونصل حبال الود معهم ، ونتعاون معهم على النهوض بأحوال البلاد من مواساة الفقراء والمساكين .
بدئوا خطتهم فى مهاجمة الدعوة بنشر آراء فاسدة عفي عليها الزمن واندثرت فيما اندثرت من أباطيل فإذا بنا نقرأ فى جريدة البلاغ وكانت جريدة حزب الوفد المسائية وكانت واسعة الانتشار مقالة عن كتاب (( الإسلام وأصول الحكم )) لعلى عبد الرازق تشيد فيه بمهاجمة صاحب الكتاب لفكرة أن الإسلام دين ودولة ... وقد لفت نظر الأستاذ المرشد إلى هذا المقال وعرضت عليه أن أكتب ردا عليه فأذن لي وكتبت الرد وطلبت إلى الجريدة نشره فى نفس المكان كما يقضى بذلك قانون المطبوعات واضطرت الجريدة لنشره .
- محاولتهم الإيقاع بين الإخوان والحكومة :
أخذت صحفهم تحاول إبراز جوالة الإخوان على أنها نظام عسكري ، والقانون يحرم على الهيئات الشعبية أن يكون لها نظام عسكري ، فيجب أن تلغى كما ألغيت فرق القمصان الزرقاء وفرق القمصان الخضراء ... وتقدم أحد محرري جريدة المصري - التي كانت فى أوائل أيامها وكانت لسان حال حزب الوفد - إلى الأستاذ المرشد بأسئلة وجهها إليه فى هذا الشأن وطلب منه الإجابة عليها .. وقد اعتقدوا أنهم بذلك قد أحرجوه وأنه سيتهرب من الإجابة فإذا به يجيب إجابة تخطت جرأتها وثبات الظنون...
وظهرت (( المصري )) فى اليوم التالي بعنوان بالخط العريض يملأ أعلى الصفحة الوسطى يقول : (( المرشد العام للإخوان المسلمين يقول : نعم أنا أدعو إلى تسليح الجيش المصري وإلى تسليح الشعب )) ( فى خلال تلك الأيام كان مجرد الحديث عن التسليح يعد جريمة لأن الجيش المصري نفسه كان محدد العدد وكان تحت رحمة لجنة عسكرية إنجليزية ) وفى تفاصيل الإجابات يقول : إن فرق الإخوان ليست فرقا عسكرية وإنما هي فرق جوالة مسجلة فى جمعية الكشافة الأهلية ، وليس معنى ذلك أنني راض عن هذا الوضع الذي ألزمتنا به قوانين البلاد بل إنني أرى من الواجب أن يكون جيشنا جيشا قويا ، وأن يسلح أعظم تسليح ، وأن تنشر الروح العسكرية فى الشعب وأن يسلح هذا الشعب حتى يستطيع أن يحرر بلاده من الاستعمار .
فرحت الأحزاب بهذه التصريحات الخطيرة التي خيل إليهم أنهم استطاعوا أن يجروا الأستاذ المرشد إلى الإدلاء بها حتى يحقق معه ويحال إلى المحاكمة وتلغى جمعيته باعتبارها حاجة على القانون .
وطلب الأستاذ المرشد للمثول أمام رئيس نيابة فى القاهرة كان معروفا عنه أنه يحب الإنجليز وقد أخبرني الأستاذ المرشد بذلك حين تسلم إعلان النيابة وقال لي : إنني أهدف من حديثي فى جريدة المصري إلى أن أطلب للتحقيق معي ، ويبدوا أنهم اختاروا هذا الرجل بالذات لما يعرفون عن ميوله إنجليزية .
ومثل الأستاذ المرشد أمام الأستاذ رفقي رئيس النيابة وفتح محضر التحقيق وظل رئيس النيابة يسأل والأستاذ يجيب ويفيض فى الإجابة ويتعب الرجل فأجل التحقيق إلى اليوم الثاني واستغرق التحقيق عدة أيام وملأ أكثر من مائة صفحة ، وقد انتهز الأستاذ المرشد فرصة التحقيق وأخذ يشرح دعوة الإخوان كما أبدى رأيه فى مختلف مرافق الدولة ، وكيفية إصلاحها ، فهو يهاجم الوضع ويشفع هجومه بالوسائل التي يمكن أن يصلح بها . وكان المحقق حريصا على أن يحصل من الأستاذ المرشد على اعتراف بما جاء على لسانه بجريدة المصري فيما يخص بالناحية العسكرية والتسليح فاعترف الأستاذ بكل كلمة نشرت وزاد على ذلك أنه يحمل الحكومة تبعة التقصير فى حق الجيش وفى حق الشعب لأنها لا تعمل على نشر الروح العسكرية والتسليح ذلك ، لأن الإسلام يدعو إلى القوة والحرية .
وانتهى التحقيق وكانت الأحزاب تنتظر انتهاءه بفارغ الصبر ، ليروا الأستاذ المرشد مكبلا بالأغلال مقدما إلى المحاكمة ، وكنا نحن الإخوان لا نقل عنهم اشتياقا إلى هذا الموقف ... وقد طلب الأستاذ المرشد من المحقق عند انتهاء التحقيق أن يأذن له بنسخة من أوراق التحقيق بحجة احتياجه إليها للدفاع عن نفسه أمام المحكمة فرفض المحقق .. وكان الدافع الحقيقي لطلب الأستاذ نسخة من التحقيق هو أنه كان يرى أن التحقيق هو إحدى الوثائق الرائعة لنشر الدعوة والإقناع بها ، وأذكر أننا حاولنا بعد ذلك الحصول على النسخة بطريقة غير رسمية .
وكانت المفاجأة لنا وللأحزاب أن صدر قرار بحفظ التحقيق ، وهو ما لم يكن متوقعا ، وكان أسفنا لذلك لا يقل عن أسف الأحزاب . وكل يغنى على ليلاه - وطبعا لم يكن الموعز بالحفظ هو الحكومة ، وإنما كان الإنجليز لأنهم رأوا فى إثارة ما جاء بالتحقيق تنبيها للشعب وإيقاظا لآماله .
- مؤامرة لاغتيال المرشد العام :
سأورد هذه المؤامرة كما حدثت وقائعها بين يدي وتحت سمعي وبصري ، ولكنني لا أستطيع أن أجزم حتى اليوم هل كان تدبيرها والدافع إليها فرديا وشخصيا أم أن ذلك كان بإيعاز من الحزب نفسه ... كنت ومجموعة كبيرة من طلبه الإخوان ندرس فى الجيزة ونسكن فيها ، وكانت الجيزة فى ذلك الوقت - كغيرها من البلدان المصرية - مدينة ليست بالشاسعة الأرجاء ، وليست مكتظة بالسكان . وهى باعتبارها عاصمة إقليم زراعي ريفي فهي مدينة ريفية ، ولكن ينساب إليها التيار الحضري باعتبارها ضاحية من ضواحي القاهرة .... ومع أن الإخوان لم يكونوا بعد قد أنشئوا لهم شعبة يجتمعون فيها إلا أنها كانت نقطة ارتكاز للدعوة لا يستهان بها ؛ حيث كانت مساكن الإخوان الطلبة فيها شعبا بعدد هذه المساكن ، وكان إخوان القاهرة يعرفون هذه المساكن ويفدون إليها للزيارة ولمناقشة موضوعات تهم الدعوة .
وكان لحزب الوفد شخصية قويه فى الجيزة ممثلة فى محام شرعي شهير يدعى ع . ب . وهو من أهالي الجيزة وله منزل فخم بها أشبه بالقصر يطل على الشارع العمومي المؤدى إلى الهرم ، وكان من ذوى الأملاك وعضوا بمجلس النواب وعضوا بالهيئة الوفدية ومن أكبر أعيان الجيزة .
وكانت مناصب الشيخ وأبهته ، وما كان يحيط به نفسه من مظاهر الثراء ؛ وفى مقدمتها كثرة العاملين فى خدمته ، والمروجين له ؛ جعلته فى نظر الناس شيئا آخر غير عمله الرسمي .
ولم يكن الإخوان باعتبارهم أصحاب دعوة - يرون فى إنسان الخير الذي لا شر معه كما لا يرون فى إنسان الشر الذي لا خير معه ، ولذا فإنهم كانوا يتقدمون بدعوتهم إلى كل إنسان ؛ فإذا كان هذا الإنسان شيخا وأزهريا ومعمما كان أجدر أن يتقدموا إليه لاسيما وأهل الجيزة الأصليون الذين يعيشون فيها كابرا عن كابر قليلون ، والقليل من هؤلاء مثقفون ، والدعوة تتوخى الظفر بمثقفين حيث يكونون عادة أعمق فهما ، وأوسع أفقا ، وأقدر على إقناع غيرهم بما اقتنعوا به .
والدعوة موجودة بالجيزة منذ التحقنا بالكليات واتخذنا الجيزة سكنا لنا ، ومضى على ذلك سنتان وهذه هى السنة الثالثة ، ولكن لم يخطر ببالنا أن نتصل بهذا الشيخ وهو نائب المدينة وأبرز شخصياتها ، كما لم يخطر ببال الشيخ ونحن على قيد خطوات منه أن يتصل بنا ... ولكن شيئا جد فى الأمر جعل الشيخ يبحث عنا ، ويتقرب إلينا ، ويفسح لنا من وقته الثمين وداره الفارهة ... إن هذا الشئ الذي إنما هو المؤتمرات الإخوانية وما أسفرت عنه مما ألمحنا إليه ، وتصريحات الأستاذ فى جريدة المصري وما أحاط بها من ظروف ، وقد كان من أثر هذه المؤتمرات والتصريحات أن دعمت مركز الإخوان وفتحت للدعوة أبوابا كانت مغلقة انسابت منها إلى أوساط جديدة لم نكن نعرف عنها شيئا .
التقى بي عدد من زملائي الطلبة القاطنين بالجيزة وقالوا لي : إن الشيخ ع . ب . دعاهم إلى مكتبه فى منزله وعرض عليهم تكوين شعبة للإخوان بالجيزة ... وحين طرق سمعي هذا النبأ سرحت بخاطري فى أجواء متناقصة عشتها ؛ منها جو (( الوفد )) وجو (( الإخوان )) وجو (( مؤتمر المنصورة )) وجو هذا الشعب الطيب الفقير الغافل ، وجو(( الذئاب والشياطين )) التي تلبس مسوح الهررة والملائكة متحلية أمام هذا الشعب الطيب بما يضفيه عليها المنصب والثراء من حلى تأخذ بالأبصار .
كيف يكون هذا ؟ الوفد يصب فى الأقاليم جام غضبه على القلة القليلة من الإخوان الذين كانوا أعضاء فى الوفد ثم أعلنوا تجردهم لدعوة الإخوان ، والوفد الذي يتآمر عن طريق جريدته (( المصري )) ليوقع بين الإخوان والحكومة إيقاعا لا يؤدى إلا إلى نسف الدعوة نسفا لولا لطف الله وحياطته لدعوته ..
كيف يستقيم هذا مع تقدم الشيخ نائب الجيزة وعضو الهيئة الوفدية إلى الإخوان فجأة يقترح عليهم تكوين شعبة للإخوان بالجيزة ، ويقول له الإخوان : إذن نبحث عن مكان للشعبة فيقول : لا داعي للبحث ، تنشأ هنا فى منزلي ؟!!! ... لقد أحسست أن وراء الأمر شيئا مريبا ... ولكنى لم أبد للإخوان شيئا مما دار فى خاطري ، وعزمت على لقاء الرجل والاستماع إليه ، وملاحظة ما يدور حوله ... وقابلت الرجل ووجدت منه استعدادا كبيرا بل تهافتا على إنشاء الشعبة ، واحتضانها ، والتكفل بكل ما يلزم من نفقات ... وأحضر لافتة كتب عليها اسم الشعبة ، وعلقها على الدور الأرضي من منزله ، وجعل الاجتماعات فى مكتبه ، وقد واظبت على هذه الاجتماعات فترة من الزمن ألممت فيها بالكثير مما كنت حريصا على الإلمام به ، مما ضاعف ما فى نفسي من شكوك .
وكلفت مجموعة من الإخوان المتمرسين بالتعرف على اتجاهات المجتمعات بالنسبة للإخوان ؛ وهى مجموعة متخصصة لها القدرة على التكيف بجو الهيئة المطلوب معرفة اتجاهها تكيفا يشعر المسئولين بهذه الهيئة أنهم أخلص العاملين لها ؛ وبذلك يغشون الجلسات المضروب حولها نطاق السرية ، ويظهرون بذلك على أدق أسرارها .
وقد أكد لي هؤلاء ما كان يتردد فى نفسي من شكوك ؛ وأخبرني أن الشيخ ورجاله سيقيمون للأستاذ المرشد حفلا كبيرا بمناسبة لا أذكرها الآن - لعلها كانت المولد أو الهجرة أو الإسراء ، وأنهم سيحاولون فى خلال هذا الحفل إحداث شغب وفى غمرة هذا الشغب يغتالون الأستاذ المرشد .
وفعلا طلب الشيخ أن يقام حفل كبير لهذه المناسبة وأصر على دعوة الأستاذ المرشد إليه متكفلا هو بكل نفقات الحفل ، وما كان الإخوان ليرفضوا عرضا كهذا ، وحدد الموعد ، ووجهت الدعوات لحضور أهل الجيزة ، ووجهت الدعوة إلى الأستاذ المرشد .
وأرسيت قواعد سرادق فخم كبير ، ولم يبق على ليلة الحفل إلا ليلة واحدة ، ولم أكن قد قابلت الأستاذ المرشد فى خلال الأسبوع السابق لانشغالي بالجيزة ، وبما يعده الناس الطيبون من أمور فى الخلفاء والله يكتب ما يبيتون ... ذهبت إلى المركز العام فى تلك الليلة وقابلت الأستاذ المرشد على انفراد وطلبت إليه لا يحضر هذا الحفل ، وألححت عليه فى ذلك ، فتعجب وسألني عن السبب ، فقلت له : لا داعي لمعرفة السبب ولكنى أرجو منك بحق الدعوة عليك أن لا تحضر هذا الحفل ؛ فأصر على حضوره ما لم يعرف السبب فقلت له : إن القوم وضعوا خطة لاغتيالك وقصصت عليه القصة ... فضحك وقال لي يا محمود أنخاف الموت ؟... كيف نخاف الموت ونحن نعلم الناس لا يخافوا الموت ؟ والله لأحضرن إن شاء الله هذا الحفل .. وأظننى بكيت حينئذ وتركته .
تركته وسارعت بالاجتماع مع مجموعة من الإخوان المسئولين من الجيزة والقاهرة ، وأخبرتهم بما كان بيني وبين الأستاذ وقلت لهم لابد إذن من وضع خطة محكمة، فنحن نعرف الأشخاص الذين وكل إليهم تنفيذ المؤامرة ونعرف مهمة كل منهم .... ووضعت الخطة وهى تتلخص فى قيام جوالة الإخوان بإحكام الرقابة على تنظيم الحفل . وبدأ الحفل ، وانتظر المدبرون أن يحدث شئ مما بيتوه ولكن شيئا لم يحدث ، ورأوا بأعينهم رجالهم الذين أعدوهم للقيام بأدوارهم ، ثابتين على مقاعدهم كأنما سمروا عليها ، وكأنما خيطت شفاههم أو سدت أفواههم ، ولا يستطيعون حتى أن يتلفتوا يمينا ولا شمالا فأحسوا بفشلهم ، وشعروا بأن الإخوان قد كشفوا مخططهم فلم يستطع الشيخ بعد هذا الفشل إلا أن يحاول الغض من قدر الأستاذ المرشد بأن قدم قبله عددا كبيرا من زملائه وأصدقائه ممن يعتقد أنهم من قوة البيان والقدرة الخطابية بحيث لا يكون للأستاذ المرشد بعدهم قيمة ، ثم إنه عمل على أن يشغل الوقت بهذا العدد الكبير من الخطباء بحيث يستنزفون يقظة الحاضرين ؛ فلا يجد الأستاذ إذا قام بعدهم استعداد لسماعه ، أو انتباها لكلامه ، بل إنه اعتقد أنهم لتأخر الوقت الذي يحين فيه دوره سيكون أكثر الحاضرين قد سئموا الاستماع وسيخرجون ويتركونه .
ونفذت هذه الخطة الجديدة بمهارة ، وكثر الخطباء وتعددوا ، وأطالوا قاصدين وأملوا وأسأموا ، وأخذ الكرى بمجامع الأجفان ، وترنح الجالسون نائمين على مقاعدهم ، حتى إذا ما تحقق للشيخ ما أراد وقد قارب الليل على الانتصاف قدم الأستاذ المرشد ؛ فوقف وحمد الله وأثنى عليه ثم نزع ببيتين أو ثلاثة أبيات من الشعر القديم وما كاد ينتهي من البيت الثالث حتى رقصت مشاعر الحاضرين ولا أكاد أذكر من هذه الأبيات الآن إلا شطرة من بيت تقول (( لأنت اليوم أحسن منك أمس )) لعبت هذه الأبيات حين ألقاها بقلوب النائمين فاستيقظت طربا ، وكأنما استيقظوا على حلم جميل .
وظل الأستاذ يهدر من قلب مفعم متأجج ، يقذف بشآبيب من نور تشق طريقها إلى ظلمات النفوس فتبددها ، وكأنما يتلقى من على أنوار السماء ، وظل كذلك ساعة وأكثر من ساعة ، وتكبير الناس قد بلغ عنان السماء ، حتى إذا ختم كلمته ، قام الناس مقبلين عليه ، ولقد رأيت شابا فى ربيع العمر من أهل الجيزة يقول له : أأنت حسن البنا أقسم بالله إنك لست حسن البنا ، إنما أنت ملك .
وهكذا انتهت الليلة (( بنصر الله . ينصر من يشاء وهو العزيز الرحيم . وعد الله لا يخلف الله وعده ولكن أكثر الناس لا يعلمون. يعلمون ظاهرا من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون )) (( ورد الله الذين كفروا بغيظهم لم ينالوا خيرا وكفى الله المؤمنين القتال وكان الله قويا عزيزا )) ....
وبدأ الشيخ منذ ذلك اليوم يتراجع فى حماسه المصطنع للإخوان ، ويتملص وينسحب حتى رجع إلى حقيقته ورفعت اللافتة التي كان يعلم الله ماذا يقصد من ورائها ، واكتسبت الدعوة عن طريق هذا الرجل ، ورغم أنفه ، خلقا كثيرين ، ما كانوا ليتصلوا بالدعوة لولا ما كان من أمره . وإن الله - كما يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم - لينصر هذا الدين بالرجل الفاجر (( والله من ورائهم محيط )) .
- نحن والهيئات الدينية :
يمكن حصر الهيئات الدينية فى مصر فى ثلاث فئات : الصوفية والسنية والخيرية . وحديثنا مما يتصل بالموضوع الذي نعالجه سيكون مقصورا على الفئتين الأولين دون الثالثة لأن هذه بطبيعتها لا تقوم على أساس تصور معين للفكرة الإسلامية ، ثم إن أعمالها التي قامت من أجلها كانت مستوعبة ضمن أعمال شعب الإخوان فى كل مكان . كانت أولى خصائص دعوة الإخوان منذ أول يوم وستظل كذلك بإذن الله (( البعد عن مواطن الخلاف )) وخير توضيح لهذه الخصيصة ما ضمنه الأستاذ المرشد خطابه الجامع فى المؤتمر الخامس حيث قال :
(( فأما البعد عن مواطن الخلاف الفقهي ؛ فلأن الإخوان يعتقدون أن الخلاف فى الفرعيات أمر ضروري ، لابد منه ، إذ أن أصول الإسلام آيات وأحاديث وأعمال تختلف فى فهمها وتصورها العقول والأفهام . لهذا كان الخلاف واقعا بين الصحابة أنفسهم ، ومازال كذلك وسيظل إلى يوم القيامة ؛ وما أحكم الإمام مالك رضي الله عنه حين قال لأبى جعفر المنصور وقد أراد أن يحمل الناس على الموطأ : إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم تفرقوا فى الأمصار ، وعند كل قوم علم ، فإذا حملتهم على رأى واحد تكون فتنة ( وليس العيب فى الخلاف ولكن العيب فى التعصب للرأي ، والحجر على عقول الناس وأدائهم - هذه النظرة إلى الأمور الخلافية جمعت القلوب المتفرقة على الفكرة الواحدة ، وحسب الناس أن يجتمعوا ( على ما يصير به المسلم مسلما ) . كما قال زيد رضي الله عنه . وكانت هذه النظرة ضرورية لجماعة يريدون أن ينشروا فكرتهم فى بلد لم تهدأ بعد فيه ثائرة الخلاف على أمور لا معنى للجدل ولا للخلاف فيها )) .
ومقتضى هذه النظرة أن ندعو المسلمين إلى مالا خلاف عليه وندع جانبا ما فيه خلاف ، ولكن هذه النظرة وإن لقيت الاستجابة والترحيب من أكثر الناس إلا قوبلت باعتراض ومقاومة من أقوام من الفئتين المشار إليهما آنفا .
أولا : الصوفية :
الأصل فى الصوفية أخذ النفس بأسلوب يطهرها من أدرانها ويزكيها ويصقلها فيرقى بها فى مدارج الكمال الإنساني حتى يكون المسلم أداة نافعة لنفسه ولذويه وللمجتمع ؛ وعلى هذه الأسس الرفيعة نشأت فكرة الصوفية وهى فكرة يقرأها الإسلام ويعمل لنشرها ويحث عليها ؛ لأنها بهذا الأسلوب أساس لكل إصلاح ، ودعامة لكل نهضة ، وضمان لكل نجاح . ولا بأس أن يتصدى لتربية النفوس بهذا الأسلوب رجال أوتوا مقدرة على التربية والتوجيه ، ومن هنا نشأت مدارس أو باللفظ الاصطلاحي نشأت طرق صوفية لكل طريقة شيخ ومريدون أو تلاميذ :
وكلهم من رسول الله ملتمس
- غرفا من البحر أو رشفا من الديم
ونحن - الإخوان المسلمين - نعتبر أسلوب التربية الروحية أساس دعوتنا لأن تكوين الفرد المسلم متوقف على الأخذ بأكبر نصيب من هذا الأسلوب مع مداومة الأخذ به ، واللجوء إليه ، والاستمداد من فيضه .
ولكن ليس معنى ذلك أن ينقطع المسلم لهذا الأسلوب ، وينعزل عن المجتمع لا يبالى ما ينال هذا المجتمع من خير وما يصيبه من مصائب .. وليس معنى ذلك أن يتخذ هذا الأسلوب وسيلة للارتزاق وجمع المال ، والتسلط على الناس ، وكسب الصيت والشهرة .
ومما يؤسف له أن بعض مشايخ الطرق قد انحرفوا بأتباعهم عن الطريق السوي واتخذوا طرقهم وسائل لألوان من هذه الأغراض المادية المشوهة لسمعة الصوفية والدين نفسه ، ومنهم من أراد أن ينعزل بمريديه عن المجتمع .
وهذان النوعان من الانحراف - مع أنهما طرفا نقيض هما اللذان اعترضا طريقنا فى الدعوة وراحا يعلنان الحرب علينا مادمنا لا نقرهما ولا نرضى سبيلهما سبيلا ؛ أما دعاة العزلة فقد أحسوا بأن تيار العمل الإسلامي الإيجابي قد استدرج عددا كبيرا من أنصارهم الذين كانوا يعتقدون أن العزلة هي السبيل الأقوام لتحيل ثواب الله ورضاه ؛ فلما عرضت عليهم الفكرة الإسلامية بشمولها وإحاطتها بكل شئ عرفوا أنهم لم يكونوا على شئ فى انتهاجهم سبيل العزلة ، فخرجوا من عزلتهم ، وساروا مع الركب حتى صاروا فى المقدمة .
وأما الآخرون من المشايخ الذين اتخذوا الصوفية مرتزقا ، ووسيلة إلى الكسب المادي ، وسبيلا إلى استغلال جهل المسلمين وسذاجتهم فهؤلاء مفسدون فى الأرض وكان لنا معهم دور ؛ حيث كان انتشار الدعوة فى مكان بمثابة إعلان حرب على هؤلاء ، فالدعوة بطبيعتها تثقف معتنقها وتوسع مداركه وتعطيه مقياسا يقيس به الأمور فيعرف به الخير والشر ويعرف به الحق والباطل . ويعتبر هؤلاء المشايخ تفتيح أذهان الناس وتنوير عقولهم إعلان حرب عليهم .... وهؤلاء المشايخ يجدون الطريق أمامهم ممهدا فى الأرياف والأقاليم حيث السذاجة وطيبة القلب وحسن الظن والأمية والجهل ؛ وسأعرض بين يدي القارئ مثالا واقعيا وكانت وقائعه معي شخصيا بين القاهرة ورشيد :
تعرف على هذا الشيخ ، ولا أدرى كيف تعرف على ، فقد كنت فى ذلك الوقت فى القاهرة أغشى كل مكان واتصل بكل المجتمعات حتى المقاهي البلدية فى أحشاء القاهرة لأعرض الدعوة على كل مجتمع بالأسلوب الذي يناسبه وكان الكثيرون من مختلف الأوساط يستجيبون للدعوة وكان ملتقاي معه فى البيت الذي أسكنه فى الجيزة ؛ فكان يزورني ويبيت عندي .
كان هذا (( الشيخ )) شابا ، لا يكبرني بسنوات قلائل ، وكان وسيما يلبس ملابس المشايخ من القماش الأبيض الناصع من قمة رأسه إلى إخمص قدمه ، وكان يدعى الشيخ (م . ف ) من صان الحجر وكان متوقد الذهن ، مشتعل الذكاء وإن كان حظه من التعليم ضئيلا ، وكان سريع الخاطر ألمعيا ألوفا كثيرة المعارف والأصدقاء ... وقد لاحظت أن أصدقاءه من طبقة الأغنياء المتعلمين ، وقد عرفني بعدد منهم فى القاهرة والجيزة .
وقد أثار عجبي أن أصدقاء هؤلاء أو قل مريديه يسكنون الشقق الفخمة والفلل الفارهة وعندهم الرياش والخدم ويعيشون فى بذخ ، ويتمنى كل واحد منهم أن يكون الشيخ ضيفه الدائم ويلحون عليه أمامي إلحاح الملتمس من بركانه ، ومع ذلك فقد كان يأبى الاستجابة لهم ، ويؤثرني عليهم ، وهو يعلم أن سكنى ومعيشتي دون ذلك ، وأنه لن يجد الراحة عندي كما يجدها عندهم .
وكان مما سرني منه أنه كان حين يعرفني بأحد هؤلاء ، يعرفه بي باعتباري من الإخوان المسلمين ويفاخر بذلك ويثنى ويأخذ فى شرح الدعوة لهم ... كما كان يعجبني منه أنه لم يكن يربطني بنفسه فى غدواته وروحاته . باعتباره ضيفا عندي - بل كان يقوم من الصباح فلا أراه إلا بالليل ، اللهم إلا الساعات القلائل التي كان يصحبنى فيها لتعريفي بأصدقائه هؤلاء الأثرياء .
وليس معنى أنه كان يلوذ بي أنه كان دائم الوجود عندي ، وإنما كان يلوذ بي فى فترات تردده على القاهرة فقد تردد على القاهرة فقد تردد عليها خلال تلك السنة نحو ثلاث مرات ، يمكث فى كل مره نحو أسبوع ، وكان حين يعزم على السفر يقول إنه مسافر لحضور مولد سيدي كذا فى بلدة كذا .
وجاءت إجازة الصيف ، وسافرت إلى رشيد لقضاء فترة بها ، وبعد وصولي إليها بأيام وبينما أنا فى منزلنا جاءني شاب لا أعرفه وقال إنه موفد من قبل الشيخ (م.ف) . وقد أرسلني إليك لأخبرك أنه حضر اليوم إلى رشيد وهو موجود الآن بقهوة كذا ويرجو أن يراك هناك . فقلت للشاب اذهب وأحضره معك إلى هنا ، فذهب ثم جاء يقول إن الشيخ يشكرك ويرجو أن يراك فى المقهى ... وذهبت إلى المقهى والتقيت به مرحبا وعاتبته على عدم إجابته دعوتي إياه للمنزل فشكر .. ولاحظت أن أصحاب المقهى وروادها من العمال يحتفون بالشيخ ... ثم كانت المفاجأة
قال لي : أتعرف لماذا جئت بالذات إلى رشيد ؟ .. لزيارة أخيك .. قال هذا أحد الواجبات لكن الذي جاء بي فى هذا الوقت بالذات وفجأة أنني رأيت فى المنام ؛ وقص على رؤيا ملخصها أن (( سيدي على المحلى )) المدفون فى أكبر مسجد فى رشيد - جاءه فى المنام وعاتبه على أنه لم يحي له مولدا وحدد له يوم كذا موعدا للمولد - وهذا اليوم المحدد يوافق اليوم التالي لحضور الشيخ وانتهى من قصته وطلب إلى أن أعينه على هذه المهمة حتى يفي بوعده للولي .... وهنا بدأ الخلاف - لأول مرة - بيني وبينه ، ونصحته بأن يعدل عن هذا العزم ، فرأيت منه إصرارا ، فرجوته بحق ما بيني وبينه من صداقه أن يعدل فرفض بإصرار ؛ فأخذت أشرح له أن هذا يتعارض مع اتجاهي ، وأن البلاد كثيرة ولا داعي لاختيار رشيد لأن فى هذا الإصرار تحديا لي وهو مالا أنتظره منه ، فلم يخفف ذلك كله من إصراره .
فقلت له : إن معنى هذا أنك لن تجد منى المعونة التي تطلبها فقال : إنك إذا لم تعنى فأهل الخير غيرك كثيرون . فقلت له : إنك بإقامتك هذا المولد ستمتهن حرمة المسجد ، وستجعل منه ساحة للفجور حيث يجتمع حولك السفلة من الرجال والنساء والأطفال ممن لا يعرفون للمسجد حرمة ولا يجتمعون إلا على اللهو واللعب والفسق والفجور ، وأنت فى غنى عن أن تكون سببا فى ذلك فاتق الله وأعدل عن عزمك .
لم يزده ذلك كله إلا تمسكا برأيه وإصرارا على عزمه ، ويبدو أنه رأى فى رواد هذا المقهى من الأميين والبسطاء عينة مشجعة ......
وافترقنا وتركته فى المقهى ونحن على خلاف شديد بل على تناقض مؤلم . واستعدت الماضي ففهمت حل اللغز الذي طالما حيرني حين كان يؤثرني بالمبيت عندي رافضا إجابة رجاء مريديه الأثرياء فى المبيت عندهم ، وفهمت لماذا كان يشيد بي وبدعوة الإخوان أمامهم ؛ لقد كان هذا طعما ألقاه ليصطادني به فى الوقت المناسب ، ومقدمة لما يحدثني الآن بشأنه ... وأسفت أشد الأسف أن يجعل هذا (( الشيخ )) هدفه من تعرفه بي أن يجعلني سلما يتسلق عليه ليصل إلى رشيد ؛ المدينة الهادئة الواعدة التي لم يطرقها (( شيخ )) من قبل ليستغلها باسم الدين ويقيم لأحد من أوليائها مولدا ... ومعنى أن يقيم شيخ فى بلد من البلاد مولدا أنه أضاف إلى موارده السنوية موردا جديدا مما سيجبيه من أهالي هذا البلد باسم المولد من فقرائها وأغنيائها ومما سيقدمه السذج رجالا ونساء إلى الشيخ من قرابين لعلاج ما استعصى من مشاكلهم وأمراضهم!!
جمعت إخوان شعبة رشيد ، وشرحت لهم علاقتي بهذا الرجل ، وما كان بيني وبينه ، وما فاجأني به من عزمه على إقامة مولد برشيد ، وبينت لهم خطورة السكوت على ذلك .. والإخوان حيث كانوا يفهمون فكرتهم وعلى ضوء هذه الفكرة يبدون رأيهم فيما يعرض لهم من أمور وستجدهم جميعا دون اتصال فيما بينهم رأيا واحدا واتجاها واحدا ... واتفقنا على الوقوف فى وجهه آخذين فى اعتبارنا ذكاء هذا الشاب وقوة دهائه .
وبدأ الشيخ فأعد لنفسه مجلسا بالمسجد بجانب مقصورة المدفون وسط المسجد . وعلق فوق مجلسه أنوارا ساطعة جعلت الليل نهارا ، واتصل ببعض من جاءوا يتعرفون عليه من أهل البلد ممن بهرهم المنظر وطلب من كل منهم طلبا سارعوا إلى تلبيته فبعضهم أرسل مئات الأرغفة ، وبعضهم أرسل إليه الشاي وبعضهم أرسل السكر وبعضهم أرسل إليه نقودا .. ومد الرجل الموائد ، وتوافد عليه حثالة الناس ممن لم يغشوا المساجد من قبل ... وأخذ الشيخ يشنع على الإخوان فيخرج من جيبه إحدى بطاقات الدعاية للدعوة كان قد حصل منى عليها من قبل وكان يعتز بها ولكنها الآن يعرضها ويقول للناس : انظروا : إنهم يقولون لهم مبادئ .. إذن هم حزب وليسوا دعوة دينية ... والتف حول الشيخ فى هذه الليلة - وهى الليلة الأولى من سبع ليال أعلن عنها - محبو السهر فى المقاهي التي لا يجدون فيها من الفوضى والتهريج ما يجدونه هنا مما يبعث النشوة فى نفوسهم ... وتوافد الشباب المتسكع ، والنساء الساقطات على المسجد يأكلون ويشربون ويعبثون ؛ وهو مع ذلك كله ، ووسط ذلك كله يقيم حلقة الذكر وهو جالس وسطها يغذى المترنحين فيها بين الفينة والفينة بكلمة أو صيحة .
ووضع الإخوان خطة حكيمة كان من نتيجتها أن أنفض الناس من حول الشيخ فوجد نفسه وحيدا مما أيأسه من هذا البلد فغادره إلى غير رجعة ووقى الله رشيد أن نكون فريسة لدجالين يتخذون الدين وسيلة لإضلال الناس وابتزاز أموالهم .
- ثانيا : السنية :
وهذه الفئة كانت تمثلها هيئة واحدة تسمى (( الجمعية الشرعية )) ثم انشقت عنها جماعة أخرى سمت نفسها (( جمعية أنصار السنة المحمدية )) . وتركز الجمعيتان على تنقية العقيدة الإسلامية مما علق بها من شوائب وعلى مقاومة البدع وإحياء السنن ، وتختلفان فيما بينهما فى نظرة كل منهما إلى كيفية تنقية العقيدة مما قد نرجئ الإشارة إليه إلى وقت آخر ... ولهاتين الجمعيتين أنصار كثيرون فى القاهرة وفى طوائف المثقفين وفى طلبة الجامعة ممن لقنوا هذه الأفكار فى بلادهم قبل التحاقهم بالجامعة . والأفكار التي قامت من أجلها هاتان الجمعيتان أفكار طيبة لاشك فيها ، ولكن تصورها فى أدمغة من يحملونها إلى الناس ثم نصور المنقولة إليهم لها بعد ذلك أنشأ ما أدى إلى التطرف والتحريف فى كثير من الأحيان (( وما آفة الأخبار إلا رواتها )) ..
وسأضع بين يدي القارئ مثالين يوضحان هذا المعنى الذي أومأت إليه وكنت فى المثالين أحد الشاهدين :
- الجمعية الشرعية :
فى عام 1939 كنت أسكن فى ضاحية بجانب الجامعة تسمى (( بين السرايات )) وكنت أصلى الجمعة دائما فى القاهرة لكنني اضطررت مرة إلى الصلاة فى هذه الضاحية فدخلت مسجدا قريبا من سكنى فإذا به أحد مساجد الجمعية الشرعية ، وصعد المنبر شيخ معمم ذو لحية طويلة وخطب الناس ... فماذا كان موضوع الخطبة فى تلك الأيام التي كانت فيها فلسطين شعلة من النيران وكان الإنجليز يقتحمون بيوت المسلمين ويحطمون كل ما فيها ويمزقون ما بها من مصاحف ويطأونها بأحذيتهم ، ويأخذون المجاهدين ويسومونهم ألوان العذاب ويطردون المسلمين والمسلمات من بيوتهم ليسلموها لليهود ....
كان موضوع الخطبة : قراءة سورة الكهف فى المساجد يوم الجمعة ... وأفرغ الخطيب جهده فى تقرير أمر عجيب ، هو أن قراءة سورة الكهف فى المساجد يوم الجمعة كفر ، ولم يكتف سيادته بل قال : لا أقول إنها كفر بالنعمة بل كفر بالله ورسوله بحيث لا يقبل الله من فاعلها صرفا ولا نصرا .... وقد أحسست أن موجة استياء قد عمت المصلين حتى إن بعضهم بدأ يفكر فى جذب الخطيب من فوق المنبر وكادت تحدث فى المسجد فتنة .
- جمعية أنصار السنة :
فى خلال هذه السنة أوفى السنة التي قبلها كنت فى الإجازة الصيفية وكنت فى موطني رشيد ، وكان عندي صديق كان طالبا فى إحدى كليات الأزهر وكان ضيفا عندي لأنه من بلدة أخرى ..وقد رأى أن نتربص بعد صلاة العصر على كورنيش النيل ، وبينما نحن نسير فى هذا الطريق والجو هادئ وممتع رأى صديقي رجلا قادما يبدو أنه قطع الطريق الذي بدأنا فيه ثم قفل راجعا فقال لي إن هذا الرجل القادم صديق له ، والتقينا به فإذا به شاب فى ربيع العمر معمم وذو لحية عريضة فتعانقا وصافحته .. وأخذ صديقي يعتب عليه فى انقطاعه الطويل عنه ، فاعتذر قائلا ، إنني كنت نزيل المستشفى مدة تزيد على الشهر ولم أغادرها إلا منذ أيام ، فسأله صديقي عن سبب دخوله المستشفى فقال : السبب هو جهل هذا الشعب وسوء أدبه ووقاحته فسأله صديقي وما علاقة هذا بدخولك المستشفى ؟ .. قال : أوفدتني الجمعية فى الإسكندرية لألقى درسا فى مسجد ( حدده ) بالرمل ، فجعلت موضوع الدرس (( الصلاة فى النعلين )) فقلت للناس إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يصلى فى نعليه فقال لي أحد الحاضرين : لم تكن الشوارع فى مكة والمدينة بها من النجاسات مثل ما فى شوارعنا ثم إنهم كانوا يصلون على الحصى ... قال فقلت لهم : هذه سنة وعلينا أن نقتدي بالرسول وأن نصلى فى نعالنا ندلكها ثلاث مرات ثم ندخل المسجد بها ونصلى فيها فقامت اعتراضات كثيرة من أنحاء المسجد فوقفت وأمسكت بنعلي وقلت لهم : أليس هذا نعلى ؟ .. قالوا : بلى قلت : انظروا وأخذت أدلك بهما وجهي وأقول : لكي تقتنعوا . فرأيتهم قد قاموا وهجموا على بنعالهم وظلوا يضربوني بها حتى فقدت رشدي ولم أدر إلا وأنا بالمستشفى ومعظم أجزاء رأسي ووجهي وذراعي وظهري وصدري عليها الأربطة .
فأخذ صديقي يواسيه حتى طيب خاطره ثم سأله عما جاء به إلى رشيد فقال إن الجمعية أوفدته لإلقاء درس بمسجد المحلى ... فأحسست كأن الله عز وجل أتاح لي فرصة اللقاء مع هذا الداعية الأحمق لأعفى أهل بلدي رشيد من غوائل حمقه . واتصلت بإخواني فى الشعبة فحاولوا بين الرجل وبين الاتصال بالجماهير حتى رجع إلى جمعيته عازما على أن لا يعود إلى رشيد مرة أخرى .
أما فى الجامعة فقد كان زملاؤنا الطلبة من أعضاء هاتين الجمعيتين ينتقدوننا قائلين : كان عليكم قبل أن تدعوا إلى ما تدعون إليه أن تدعوا أولا إلى تصحيح العقيدة ومحاربة البدع .. وقد كان لنا مع زملائنا هؤلاء مناقشات مستفيضة وجلسات طويلة انتهت آخر الأمر باستجابتهم للدعوة واقتناعهم بأسلوبها وفكرتها ، فصاروا من أقوى الإخوان إيمانا وأثبتهم على العهد وأجرئهم فى الحق وأصبرهم على مكارهه .
ولم يكن ردنا على إخواننا هؤلاء فى خلال هذه الفترة من حياة الدعوة ردا موضوعيا بحيث نناقش فيه تفاصيل العقيدة وتوصيف البدعة بل كنا نقول لهم : انظروا إلى العالم الإسلامي بجميع أجزائه هل ترون فيه بلدا واحدا حرا طليقا أم أنه جميعا مستعبد رازح تحت أثقال من الاستعمار ؟ إن مثلنا ومثلكم كمثل أسرة ورثت بيتا شبت فيه النيران ؛ فهل يتجادل الورثة فى كيفية اقتسام البيت وترتيب أثاثه أم يلقون بحقوقهم فى الاقتسام جانبا ويتفرغون متحدين أولا لمكافحة النيران ؟ ....
وقبل أن نختم الحديث عما كان من علاقات بيننا وبين الهيئات الدينية فمن حق هذه الهيئات أن نقرر أن الخلاف بيننا وبينها لم يكن خلافا عميق الجذور كذلك الذي كان بيننا وبين سواهم من القطاعات وإنما كان خلافا أخويا كانت الغيرة على الإسلام الباعث من ورائه ، وإذا كان من صور منفرة فإنها لم تكن إلا من أفراد معينين أو مجموعات محددة لا ينبغي اتخاذها أساسا فى الحكم على هذه الهيئات العتيدة التي يرجع إليها فضل كبير فى إثراء الدعوة بأكرم مجموعة من رجالها وأنصارها .
الأسلوب الخامس :الاتصال بزعماء المسلمين فى مصر والخارج
بدأت الجهات التي نعمل باسم الإسلام الرسمي منها وغير الرسمي تحس بوجود الإخوان . وأخذ المجاهدون القدامى يتنسمون فى الإخوان روح التضحية المؤمنة التي طالما افتقدوها ؛ فأخذوا يأوون إلى كنف الدعوة بطرق مختلفة ليس بينها الطريقة العلنية الظاهرة .
التقى الأستاذ المرشد فى تلك الحقبة من المجاهدين القدامى عزيز المصري ومحمود لبيب وعبد الرحمن عزام وصالح حرب ومحب الدين الخطيب ... وأذكر يوم زار عبد الرحمن عزام الأستاذ المرشد بهذه الدار أنني كنت فرحا ،لأنني كنت أعلم الكثير عن هذا الرجل أيام سياحتي فى مركز أبى المطامير حيث مكثت نحو شهر أنتقل بين كبار رجالاته وشيوخه الذين كان لهم تاريخ مازال مجهولا هذا الشاب عبد الرحمن عزام وإيمانه وبسالته وتضحيته .....
ولما كنت أعلم عن اتصاله بالسنوسية ، وحرصا منى على تجلية فكرة الإخوان له ، كتبت فى مجلة النذير مقالا عن السنوسية - والسنوسية دعوة قام بها السيد أحمد الشريف السنوسي فى ليبيا وكانت تقوم على التصوف والجهاد ، وكان لها أتباع كثيرون هم الذين قاوموا الاستعمار الايطالي المؤيد بالنفوذ البريطاني وكان منهم عمر المختار ، وصار منهم عبد الرحمن عزام حين أعلنت إيطاليا الحرب على المجاهدين السنوسيين فترك عبد الرحمن عزام دراسته فى كلية الطب فى مصر وتطوع مع المجاهدين السنوسيين وأبلى أعظم بلاء - وقد تحدثت فى هذا المقال عن تسلسل قيادات الدعوة الإسلامية فى العصر الحديث ومنها جمال الدين الأفغاني ثم الإخوان المسلمون ، ووازنت بين هذه الأطوار للدعوة الإسلامية ؛ وأثبت أن دعوة الإخوان قد استوعبت الدعوتين وزادت عليهما بنظام أشمل ، وقيادة أشد إحكاما وأبعد نظرا .
وعزيز المصري كان من قواد الجيش المصري الذين لم يطلق الإنجليز وجودهم فيه ، وكان هذا الرجل من المؤمنين بالفكرة الإسلامية وبالدولة الإسلامية العالمية ، وقد عمل مع الترك أيام الخلافة العثمانية باعتبارها رمزا للدولة الإسلامية وله فى ذلك المجال تاريخ مجيد ... وعلى شاكلة عزيز المصري كان صالح حرب فقد كان هو أيضا غصة فى حلق الإنجليز ... وقد توفى فى تلك السنة الدكتور عبد الحميد سعيد رئيس جمعية الشبان المسلمين فرشح الأستاذ المرشد اللواء صالح حرب خلفا له . ومحب الدين الخطيب كاتب إسلامي أشرت إليه فى صدر هذه المذكرات ، وكان بلا شك أعظم كاتب صحفي إسلامي فى مصر ، وكان من أوسع الناس علما وخبرة بالتاريخ الإسلامي والحركات الإسلامية القديم منها والحديث .
أما محمود لبيب فكان زميلا لعزيز المصري وصالح حرب ، وله جولات فى تركيا مركز الخلافة ، وله إحاطة بتاريخ الحركات العسكرية السري منها والعلني ، وكان يمتاز بأنه رجل عمل ، عميق الإيمان ... وقد قطع حياته العسكرية عند رتبة الصاغ ( الرائد ) وكرس حياته بعد ذلك للعمل الصامت للدعوة الإسلامية ... وله فى دعوة الإخوان آثار بعيدة المدى سنتحدث عنها فيما بعد إن شاء الله .
أما شمال أفريقيا وهو المغرب العربي وإن كانت الظروف السياسية لم تتح لمقابلات بين المجاهدين فيه وبين الإخوان فإن الإخوان كانوا حريصين على مراسلة هؤلاء المجاهدين للتعرف على حقائق الأحوال عندهم فكانت هناك مراسلات بيننا وبين عبد الحميد بن باديس فى الجزائر الذي كان يتزعم حركة لمقاومة خطة ( فرنسة ) الجزائريين للقضاء على عروبتهم وإسلامهم ، فكون جمعية جعلت مهمتها إنشاء مدارس إسلامية وكانت السلطات الفرنسية تلاحق هذه المدارس بالقوانين الجائزة التي تضيق الخناق عليها وتضع العقبات فى طريق إنشائها وفى طريق الملتحقين بها والمتخرجين فيها ....
وكانت هناك مراسلات بيننا وبين المجاهدين فى مراكش مثل علال الفاسى وحزبه الذين كانوا يقاومون الاستعمار الفرنسي ويقاومون (( الظهير البربري )) وهو قانون أصدره الفرنسيون بذروا به بذور الشقاق بين عنصري الأمة المغربية التي تتكون من العنصر البربري وهم سكان البلاد الأصليون ، والعنصر العربي وهم السكان الفاتحون ... ولما كان طبيعة الإسلام تقضى على النعرات القبلية والدعوات العرقية فقد أنصهر العنصران فى بوتقة الإسلام وخرج من الانصهار شعب لا يعرف انتماء إلا إلى الإسلام فجاء الغزاة الفرنسيون ليوقظوا ما أماته الإسلام من التعالي بالآباء والأجداد ... وقد استمات هؤلاء المجاهدون من كلا العنصرين فى مقاومة هذه الفتنة وكان صدى هذه المقاومة لا يحس به فى مصر إلا الإخوان المسلمون ولا يظهر أثره إلا على صفحات مجلاتنا .
ولا داعي هنا لذكر مفتى فلسطين وزعمائها ومجاهديها فهذه قضية تبنتها الدعوة عند إنشائها يوم كان ساسة مصر وزعماؤها يعلنون أنهم ليسوا مسئولين عن هذه القضية ولا يعنيهم أمرها .
ولقد كان المجاهدون فى خارج مصر يشعرون أن قد صار لهم بوجود الإخوان موئل ومكان وصدر مفتوح ذراعاه دائما يتلقاهم فى شوق وحب ، فكانت وسائلهم تنهال على المركز العام .. ولا أنسى يوم سمحت سلطات الاستعمار للأمير شكيب أرسلان - وكان منفيا من بلاده سورية بأمر الفرنسيين إلى سويسرا ، وسمح له بالرجوع إلى سورية فرأى أن يمر على مصر - لم يكن مسموحا له بالإقامة فيها - فأبرق إلى الإخوان بموعد مروره ، فتلقاه الأستاذ المرشد والإخوان وتعانق الجميع كأنما كانوا أصدقاء منذ نعومة الأظفار مع أن أحدا منهم لم ير الآخر من قبل (( ولكن الشكوك أقارب )) .
والأمير شكيب أرسلان ليس أميرا بالمعنى المتعارف عليه من الانتساب إلى بيت مالك ؛ وإنما أمره قلمه ؛ فهو كاتب لا يشق له غبار وقد لقب بأمير البيان . وهو بلا شك أقوى قلم كتب عن الإسلام والدعوة الإسلامية .. لم أقرأ مما كتب عن القرآن والدعوة الإسلامية أقوى ولا أنفذ إلى لب المعاني مما كتب الأمير شكيب فى مقدمة كتابه (( حاضر العالم الإسلامي )) .
وإذا كتب مؤرخ عن الدعوة الإسلامية العصر الحديث فلابد أنه سيكتب عن كتاب ( حاضر العالم الإسلامي ) لأنه أوسع وأوضح وأجمع ما كتب عن هذا الموضوع . والأصل فى هذا الكتاب رحلة قام بها مستشرق أمريكي يدعى (( ستودارد)) طاف فيها بأنحاء العالم الإسلامي وكتب عما شاهده رسالة أو كتيبا صغيرا سماه (( حاضر العالم الإسلامي )) فجاء الأمير شكيب وعلق على ما جاء بهذه الرسالة فجاء التعليق أكثر من عشرين ضعفا للرسالة وكان التعليق أعظم من الكتاب حتى إن الكتاب كله كان معروفا ومنسوبا إلى الأمير شكيب .. والكتاب مرجع لا ينبغي لمن يرشح نفسه أن يكون داعية للإسلام أن يغفل قراءته . وقد كنت استعرته من الأستاذ المرشد وقرأته - وهو يقع فى أربعة أجزاء - ولخصته فى كراسة فقدت فيما فقد .
- مقابلة المرشد لمحمد محمود باشا :
محمد محمود باشا من الشخصيات التي غمطت حقها لأن استمساكها بالمثل وتعلقها بأهداف النبل وترفعها عن الدنايا ، جعلها حصادا سهلا لجحافل تجار السياسة ، وموطئا لينا لمواكب النفاق ومزوري التاريخ وعباد الحكم .... كان رجلا من عظماء مصر الذين ساهموا فى جميع أطوار الجهاد الوطني ، وفى مقدمة المجاهدين ، ولكنه كان ذا دين وخلق ، فأبى أن يتاجر بجهاده كما تاجر زملاء له .
ورث المجد عن آبائه ، وكان على أعلى درجة من الثقافة الغربية ، ولكنه مع ذلك كان حريصا على آداب الإسلام وتقاليد القرية ... فمع توليه رياسة الوزارة أكثر من مرة لم يؤثر عنه أنه أعطى الدنية فى وطنه ، كما لم يؤثر عنه أنه جعل زوجته أو بناته عرضة لا عين الناس ولا نهبا لنظراتهم ؛ بل عاش ما عاش - رحمه الله - وعاشت زوجته وبناته من بعده ما عشن لم تنهشهن عين مصري ولا أجنبي .
ولم أكن أعلم عن هذا الرجل إلا ما نوهت عنه مما فيه الكفاية أن يجعل صاحبه موضع التقدير والتبجيل والاحترام - كما لم يكن غيري من الناس يعلم عنه أكثر من ذلك - حتى كنت فى إحدى رحلاتي لنشر الدعوة فى إقليم البحيرة فى أواخر الثلاثينيات وقضيت فترة منها فى مركز أبى المطامير ، واتصلت هناك بشيوخ القبائل ورجالات المنطقة فكشفوا لي فى ثنايا أحاديثهم عن صفحة مجيدة مطمورة من تاريخ هذا الرجل ، عمل أعداؤه على حجبها عن الشعب ، ولم يحاول هو الكشف عنها مع أنه كان قادرا على ذلك فقد تولى رياسة الوزارة أكثر من مرة - كما قدمت - مكتفيا بما عند الله .
قال لي هؤلاء الشيوخ :
لما أعلنت إيطاليا الحرب علي المسلمين في ليبيا ، شدد الإنجليز قبضتهم علي مصر حتى تقطع الصلة بينها وبين ليبيا فلا يتسرب إلي ليبيا من مصر شيء من المساعدة المادية أو الأدبية في خلال تلك الملحمة غير المتكافئة حتى يتم لإيطاليا افتراس ليبيا والقضاء التام علي المجاهدين فيها .. وكان للانجليز في كل محافظة في مصر موظفون من الإنجليز يشغلون المناصب الحساسة فيها حتى يكونوا عيونًا علي الموظفين المصريين الكبار والصغار . وكان محافظ البحيرة في ذلك الوقت هو محمد باشا ؛ فرأي الرجل أن وقوف المصريين موقفاً سلبيًا من إخوانهم في ليبيا لا يليق ولا يقره عرف ولا دين ؛ فاتصل سرًا بشيوخ مركز أبي المطامير علي أن يعدوا قوافل من الطعام والسلاح والذخيرة ليرسلوها إلي المجاهدين في ليبيا من طرق غير مطروقة ، وكلما أعدوا قافلة أخبروه قبل إطلاقها في الطريق حتى يرسل إليها من يلقي القبض عليهم ويودعهم الحجز في المحافظة إلي أن تصل القافلة بسلام ... فإذا ضبط الإنجليز قافلة من هذه القوافل لم يكن هؤلاء الشيوخ مسئولين عنها لأنهم كانوا في الحجز قبل ميعاد ضبطها .
وفي سنة 1938 كان هذا الرجل رئيسًا للوزراء . وكان معنا في ذلك الوقت أخ كريم – أنسيت اسمه – كان موظفاً كبيرًا في وزارة الزراعة وكان صديقاً حميماً لمحمد محمود باشا ... ولشدة إعجاب هذا الأخ بشخصية الأستاذ المرشد أكثر من الحديث عنه لصديقه رئيس الوزراء حتى أغواه بأن يقابله ولكنه اشترط أن تكون المقابلة برياسة الوزارة وأن لا تزيد علي ربع ساعة لكثرة شواغله وارتباطاته ... وتمت المقابلة وتناقش الرجل مع الأستاذ المرشد في مواضيع شتى حتى انتهت ربع ساعة فقام الأستاذ مستأذنًا فرفض الإذن له حتى انتهي الربع الثاني والثالث وهكذا إلي ساعتين كاملتين ... وقام رئيس الوزراء فودعه بنفسه ... فلما قابله صديقه قال له محمد محمود باشا :
- " والله لولا العرف والتقاليد لعينت هذا الرجل وزيرًا للخارجية ، وأنا موقف أنه سيجعل لمصر في ظرف أشهر معدودة مكانة مرموقة بين دول العالم " . وناهيك بالعرف والتقاليد في تلك الأيام ... إنها كانت أقوي من القوانين ؛ فلم تكن المناصب الوزارية يتبادلها إلا أشخاص معينون لا يقلون عن سن معينة ، ومن أسر معينة .. وكان الأستاذ في ذلك الوقت شابًا في حوالي الثلاثين ومدرسًا في مدرسة ابتدائية .
- لقاء المرشد العام بالملك فاروق :
كان الملم فاروق في ذلك الوقت في مستهل أيامه فقد تولي العرش في عام 1938 ، وكان الناس يتوسمون الخير في الملك الشاب ... وكان الأستاذ المرشد يري أن أقصر طريق لتحقيق أهداف الدعوة ، والأخذ بالأسلوب الإسلامي في إصلاح البلاد إنما يكون بالاتصال بهذا الملك الشاب وإقناعه بالدعوة ... ومعني هذا الإقناع أن يوقن بأن انتهاءه لهذه الدعوة سيصلح البلاد ويحفظ له عرشه .
وفي سبيل إبراز هذه الفكرة إلي حيز الواقع اتصل المرشد برجل محايد كان يأنس في رجاحة عقله وفي صدق وطنيته ونزاهته ، وكان في نفس الوقت من أقرب الشخصيات إلي الملك حيث كان أستاذه من قبل ؛ فذلك هو " علي ماهر " ... وكان علي ماهر من القلائل الذين يتفهمون فكرة الإخوان ويقدرونها كما يقدرون الأستاذ المرشد كل التقدير ، وكان يعرف غير قليل عن قوة الصف الإخواني وتماسكه وكان يري ما كان يراه الأستاذ المرشد من أن أقرب الطرق وأسلمها لإصلاح هذا البلد هو في إقناع الملك بدعوة الإخوان وانتمائه لفكرتهم واستناده إلي صفهم . وكان الإخوان قد أقاموا في صيف ذلك العام معسكراً ضخمًا في "الدخيلة" بجاني الإسكندرية وكان الإخوان من مختلف البلاد يفدون إلي هذا المعسكر ليقيموا فيه أيامًا يرجعون إلي بلادهم ليفد غيرهم ... وكان الأستاذ المرشد شبه مقيم بهذا المعسكر الذي كان مقررًا أن يستمر شهرًا ...
ولقد زرت المعسكر في أواخر الشهر الذي كان محددًا له ضمن مجموعة من إخوان رشيد ، وكنت عازمًا علي قضاء سحابة النهار ثم مغادرته مساء لكن الأستاذ أصر علي بقائنا ثلاثة أيام فنزلنا علي أمره ، ولم أكن أعرف سبب إصراره ولكن تبين لي بعد ذلك أنه كان لأمر هام . كنت أعرف رأي الأستاذ المرشد فيما يتصل بالملك ، ولكني لم أكن أعرف أن استبقاءنا كان ذا علاقة بهذا الشأن حتى جاء اليوم الثالث من فترة بقائنا – وكان يوم جمعة – فإذا بالأستاذ يطلب منا جميعًا أن نرتدي زى الجوالة . ورأيناه قد ارتدي الزى قبلنا ، ثم أخبرنا أن الملك سيؤدي اليوم صلاة الجمعة في مسجد سيدي جابر وبأننا سنكون في استقباله أمام المسجد وبأننا ستصل الجمعة معه ؛ وفهمت بعد ذلك أن هذا الأمر قد اتفق عليه من قبل ، ورتبت خطواته بين علي ماهر والأستاذ المرشد . وقد وضح هذا وضوحًا تامًا ، حين ذهبنا إلي المسجد واصطففنا أمامه وكنا أكثر من مائة جوال يتقدمنا المرشد بملابس الجوالة ، وحضر الركب الملكي يتقدمه الملك بجانبه علي ماهر – وكان في ذلك الوقت رئيسًا للديوان الملكي فيما أذكر – فحييناه هاتفين له وللإسلام ؛ فأخذ علي ماهر بيد الأستاذ المرشد وقدمه للملك فسلم عليه الأستاذ مصافحًا باحترام دون تقبيل يده كما كان العرف في ذلك الوقت – ودون انحناء .
رجعنا بعد صلاة الجمعة إلي معسكرنا ، وكان الأستاذ يشعر بالرضا النفسي لأنه أحس أنه خطا الخطوة الأولي التي كان علي الداعية المصلح أن يبدأ بها ، ثم لا عليه بعد ذلك إن هي لقيت استجابة أم لقيت إعراضًا .. المهم أنه أعذر إلي الله وإلي الناس وإلي التاريخ ... حتى لا يأتي في يوم من الأيام من يقول : لو أن هذا الداعية عرض دعوته علي ولي الأمر قبل أن يسلك بها هذه المسالك . وكنا نعتقد في ذلك الوقت بسذاجتنا وحسن ظننا أن الله تعالي قد اختصر لنا الطريق ، واختار لنا غير ذات الشوكة ، وأن هذا الشاب الذي يبدو وادعًا في مظهره ، وبجانبه الرجل العاقل علي ماهر لابد أنه سيتجه اتجاهًا إسلاميًا فيسعد ويسعد الناس ... ولم نكن نعلم ما خبأه القدر لنا كدعوة ولهذا الشاب كملك طائش مغامر ... وكأنه قد غاب عنا أن حاشية هذا الشاب . وإن كان فيها علي ماهر فإن فيها ألف شيطان .
الفصل الثاني : الأخذ بأساليب عملية في التكوين والتربية ونشر الدعوة
كان أسلوب التربية في دار الناصرية يتمثل في درس كان يلقيه الأستاذ المرشد ليلة في الأسبوع في مسجد الدار الصغير ، ويحضر هذا الدرس من شاء من الإخوان فقد يحضر مرة عدد قليل وقد يكثر حاضروه في مرة أخري ، وكان هذا الدرس يستغرق نحو الساعة ... ثم تحول هذا الدرس فترة من الزمن إلي درس في تلاوة القرآن ، ولا أنسي أنني أفدت من هذا الدرس في التلاوة وكان يقرأ سورة يونس هي كلمة "يهدي" فقد كنت أقرأها بغير تشديد الدال وذلك في قوله تعالي " أفمن يهدي إلي الحق أحق أن يتبع أمن لا يهدي إلا أن يهدي " .
وكان أكثر وقت الأستاذ المرشد يقضيه في إقناع شخص أو شخصين بالدعوة ، وكذلك كنا نفعل ، وتستطيع أن تقول إن هذه الفترة كانت طور الدعوة الفردية ، حيث لم يكن ممكنًا أن تقوم تنظيمات علي غير أشخاص ؛ فمادام العنصر الضروري غير موجود وهو الأشخاص المؤمنون بالفكرة الإسلامية المستعدون للعمل لها ، والبذل في سبيلها ، فلا تنظيم ولا تكتيك ... والواجب الذي تفرضه المرحلة هو بذل الجهد لتوفير العنصر الأساسي .
وقبيل الانتقال إلي الدار الجديدة كانت الدعوة قد أثمرت وآتت أكلها سواء في ذلك القاهرة والأقاليم – وقد أشرت إلي ذلك في سياق البعثات الطلابية التي أوفدها الأستاذ المرشد إلي الأقاليم في نهاية العام الدراسي 1936- فلما تم الانتقال إلي الدار الجديدة حيث الموقع والسعة تدفق الشباب إلي الدار ؛ فلما وجدت المادة الخام كان علي الصانع الماهر أن ينتفع بها أتم الانتفاع ، وأن يصهرها في بوتقته ، ويستخلص منها المعدن النقي بعد أن يقشع عنه ما كان يخالطه من شوائب ، وكان عليه أن يصوغ من هذا المعدن ما ينفع الناس .
فلما توفرت المادة الخام بدأ الصائغ الصناع صياغتها بالأساليب التالية :
الأسلوب الأول نظام الكتائب
نظام الكتائب نظام فريد مبتكر ، ولعل الأستاذ المرشد قد اشتقه من اجتماعات دار الأرقم بن أبي الأرقم حيث كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يجمع المؤمنين به في ذلك الوقت المبكر – وكانوا قلة – فيبثهم ما عنده ، ويفضي إليهم بذات نفسه ويأخذهم بأسلوب من التربية الروحية العالية حتى خرج من تلك الدار المتواضعة من كانوا أعلام الهدي ومن حملوا شعلة النور الإسلامي فأضاءوا بها جنبات الدنيا .... وهذا النظام بين مختلف أنظمة التكوين بعد نظام التكوين المركز وأسلوب التربية العميقة المباشر لأنه وحده هو النظام الذي يجد فيه الموجه والموجه نفسيهما متجردين متفرغين كل منهما للآخر وجهًا لوجه لا تشغل أيًا منهما عن نفسه ولا عن صاحب شاغله فيكون القلب والعقل معًا في أسمي حالات التهيؤ للتلقي والإلقاء وبالتعبير الحديث للاستقبال والإرسال .
وكان في نية الأستاذ المرشد أنه يتدرج في إنشاء الكتائب حتى يسلك فيها كل إخوان المركز العام علي أن يقوم هو بنفسه فيه بدور التوجيه والتربية ، فبدأ أول خطوة فيه بأن جمع من الرعيل الأول أربعين أخاً كانوا هم الكتيبة الأولي ثم لبث أن جمع أربعين آخرين فكانوا الكتيبة الثانية وكان النظام يقتضي أن تتم كل كتيبة أربعين أسبوعًا .
ويتلخص نظام الكتيبة في الآتي :
- تبيت الكتيبة ليلة في الأسبوع في المركز العام ويبيت معهم الأستاذ المرشد .
- يصلون مع الأستاذ المرشد المغرب والعشاء .
- يتناولون طعام العشاء معًا طعامًا رمزيًا .
- يتذاكرون معًا ويتسامرون .
- بعد صلاة العشاء بوقت قصير ، وفي لحظة محددة ينامون علي الأرض في حجرة واحدة واسعة ، ويتخذ كل منهم حذاءه وسادة له وينام الأستاذ المرشد معهم علي نفس الهيئة .
- يستيقظون قبل الفجر بساعتين ويتوضئون ويتهجدون بعض ركعات فرادي .
- نطفأ الأنوار ويجلسون منصتين إلي تلاوة نحو جزء من القرآن الكريم يتلوه قارئ الكتيبة وكان الدكتور محمد أحمد سليمان .
- يضاء النور ويستمعون إلي درس من الأستاذ المرشد في التكوين النفسي والروحي والعلمي للداعية مع عرض لتاريخ الدعوات والدعاة ، وبيان مواطن الضعف في كل منها وفي كل منهم ، وما يقابل ذلك في الدعوة الإسلامية وكيف يتجنب الداعية مواطن الضعف التي عصفت بسابقيه .
- فترة قبيل الفجر للاستغفار .
- أذان الفجر ثم صلاة الفجر خلف الأستاذ المرشد .
- توزيع الورد القرآني علي أعضاء الكتيبة وقيام الأستاذ المرشد بتفسيره تمهيدًا لحفظه ، والورد القرآني هو ورقة يجمع فيها الأستاذ المرشد الآيات القرآنية ذات الهدف الواحد ، فورد للإيمان وورد للوفاء وورد للجهاد وورد للتفكر وهكذا ، وسأحاول عرض بعض أمثلة من هذه الأوردة في نهاية الكتابة عن هذا الأسلوب من أساليب التربية إن شاء الله .
- فإذا طلعت الشمس قرأ الجميع معا في صوت خافت " الوظيفة " وهي أدعية من القرآن الكريم ومن السنة النبوية كان يدعو بها النبي صلي الله عليه وسلم إذا أصبح وإذا أمسي .
- إفطار بسيط ثم يتجه كل منهم إلي عمله .
ويلحق بنظام الكتيبة أيضًا ما يلي :
- (أ) شعار هذا النظام هو " كل وأنت شبعان ونم وأنت مستيقظ " ومعني هذا الشعار الطاعة التامة ، و الالتزام الكامل بالنظام المقرر فقد يكون إلزام نفسك بالأكل وأنت شبعان أثقل علي نفسك من إلزامك بالامتناع عن الأكل وأنت جائع وكذلك نومك وأنت مستيقظ أصعب من استيقاظك وأنت نائم .
- (ب) ومن شعار هذا النظام الامتناع عن تناول المكيفات من شاي وقهوة فضلا عن الدخان .
- (ج) كان يوزع علي كل فرد من أعضاء الكتيبة في أول كل شهر كشف يسمي استمارة المحاسبة ، وهو يضم عشرين سؤالاً يجيب عليها الفرد كل ليلة حين يأوي إلي فراشه " بنعم أو "بلا " كتابة أمام كل سؤال وفي خانة اليوم حيث يضم لكشف ثلاثين خانة لشهر كامل – وفي نهاية الشهر يجمع عدد " لا " وعدد " نعم " فإذا رجحت " نعم " حمد الله وطلب منه التوفيق إلي الزيادة منها وإذا رجحت " لا " أسف وندم واستغفر الله وجدد التوبة وحاول مراقبة نفسه فيها حددته له الاستمارة من مواطن الضعف في نفسه وفي تصرفاته .
- (د) كان يوزع علي أفراد الكتيبة رسالة تسمي " المنهج العلمي " وهي تضم أسماء مجموعة مختارة من الكتب في كل فن من فنون العلوم الإسلامية والتاريخية والتربوية ، ويطلب من عضو الكتيبة أن يقرأ ما يستطيع من هذه الكتب لتزوده بذخيرة من المعلومات تنير له الطريق في دعوته ، وتجعله أهلا لقيادة الدعوة في مختلف الأماكن والظروف .
ولا شك في أن نظام الكتائب هذا هو النظام الأمثل للتربية لأنه يجمع كل وسائل التربية الحديثة التي تحدثت عنها الكتب العلمية المتخصصة ، والتي تدرس علي أنها ترف علمي يحلق بدارسه في آفاق الخيال ؛ جمعها هذا النظام وأخرجها إلي حيز الوجود ، وطبقها تطبيقاً دقيقاً رائعًا ، و صقل بها نفوسًا ، وثقف بها عقولاً ، وسما بأرواح أصحابها سموًا ملائكيًا ، مع مزج هذه النفوس معًا بوتقة واحدة هي بوتقة الفكرة الإسلامية مزجًا صاغ منها صفا متراصًا متماسكًا . ومن تمام روعة هذا النظام أنه لم يكن يقتصر تأثيره علي الليلة التي كانت محددة للمبيت ؛ وإنما كان أثره ممتدًا طيلة الأسبوع ، فكشف المحاسبة أو استمارة المحاسبة كان لابد من ملء خاناتها كل ليلة ، والورد القرآني كان يحفظ ويكرر صباح كل يوم والوظيفة كانت تقرأ كل يوم في الصباح وفي المساء .
وإذا علمنا أن ليالي الكتائب لم تكن كلها تقضي بدار المركز العام بل كان الكثير منها يقضي خارجه ، فقد قضينا بعض هذه الليالي في مدرسة خاصة في شبرا – لا أذكر اسمها الآن – وكنا نصل الفجر في مسجد الخازندار القريب من المدرسة . وأذكر بهذه المناسبة أن الناس تعودوا أن يقرأ الإمام في فجر الجمعة آيات من سورة السجدة تبدأ بقوله تعالي : " وقالوا إذا ضللنا في الأرض أ إنا لفي خلق جديد " وكان الأستاذ المرشد قد تعود أن يقرأ بنا الفجر في هذا المسجد وأخذ في قراءة السورة من أولها – وكان يصلي معنا كثيرون من أهل الحي ممن اعتادوا الصلاة في المسجد – تعالت أصولات المأمومين يقولون " وقالوا إذا ضللنا " ظنًا منهم أن الإمام نسي أن اليوم يوم الجمعة فقرأ بسورة أخري . كما قضينا بعض الليالي خارج القاهرة ، وقد قضينا إحدى هذه الليالي في ضاحية بجانب المعادي اسمها " البساتين " وفي صباح تلك الليلة باشرنا أنواعًا من الرياضة منها ركوب الخيل .
وكان من روعة هذا النظام أننا كنا نري قائدنا وإمامنا لا يتميز عنا بشيء في مأكل ولا مشرب ولا ملبس ولا منام بل كان هو أكثرنا تضحية حيث كنا في ذلك الوقت عزابًا وكان هو يترك بينه وزوجته وأولاده ، الأمر الذي زادنا حبًا له وإجلالاً . وأثر هذا النظام وروعته لا يكاد يحس بعمقها في النفوس ، ولا بامتزاجها بالقلب إلا من كابده وعاناه . وحسبك أن تتصور إنسانًا خرج من بيته مهاجرًا إلي مكان ما ، وفي هذا المكان تجرد من مظاهر الدنيا فاتخذ الأرض فراشه ، وحذاءه وسادته ثم في وقت السحر قام من نومه وتوضأ وناجي ربه في سجوده ثم استمع في هدأة الظلام إلي جزء من القرآن يتلوه متجرد مثله ثم أصغي بعد ذلك إلي حديث من قائد متجرد يبثه ما في نفسه ، ويهدي إليه خلاصة تجربته ، ويذكره بفضل ربه ، ويتركه بعد ذلك يستغفر ربه ويتوب إلي خالقه حتى يؤذن الفجر . وبعد صلاة الفجر ، في هذا الجو الروحي ، وضمن هذه الجماعة الواعية المتجردة تزاول رياضة بدنية عادية داخل الدور إن كان المبيت في الدور – أو رياضة قوية كالسباق وركوب الخيل والمصارعة إن كان المبيت في صاحية خارج الدور .
ثم لا يزال عضو الكتيبة في كل يوم من أيام الأسبوع يعد نفسه للإجابة علي أسئلة استمارة المحاسبة التي لابد أن يقف بين يديها كل ليلة قبل أن يأوي إلي فراشه ، وهذه الأسئلة لا تدع كلمة تكلمها ولا حركة تحركها ، ولا عملا صدر منه ، ولا خاطرًا هجس في نفسه إلا حاسبته عليه وطلبت منه الإجابة في شأنه ... ولا يزال كذلك طيلة الأسبوع حتى يحين موعد الليلة التالية للمبيت بالكتيبة . إن هذا الأسلوب قد خرج ملائكة تمشي علي الأرض ، وخرج مجاهدين لا يخافون في الله لومة لائم ، وخرج علماء بهذا الدين علي نور وبينة منه ، ودعاة يهتدي بهم الناس ؛ وهم مع ذلك أساتذة كل في فنه ومهنته . وفي خلال إقامتنا بهذه الدار – دار العتبة – كون الأستاذ المرشد الكتيبتين الأولي والثانية ولم تتم أي من الكتيبتين المناهج المعدة لها لأسباب سنذكرها إن شاء الله في فصل قادم .
1 – ورد المعرفة :
- وإذا سألك عبادي عني فإني قريب أجيب دعوة الداع إذا دعان ، فليستجيبوا لي وليؤمنوا بي لعلهم يرشدون –
- وهو الله في السموات وفي الأرض يعلم سركم وجهركم ويعلم ما تكسبون –
- وله ما سكن في الليل والنهار وهو السميع العليم . قل أغير الله أتخذ وليًا فاطر السموات والأرض ، وهو يطعِم ولا يُطعم ، قل إني أُمرت أن أكون أول من أسلم ولا تكونن من المشركين . قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم . من يصرف عنه يومئذ فقد رحمه وذلك الفوز المبين . وإن يمسسك الله بضر فلا كاشف له إلا هو وإن يمسسك بخير فهو علي كل شيء قدير . وهو القاهر فوق عباده وهو الحكيم الخبير –
- الله خالق كل شيء وهو علي كل شيء وكيل ، له مقاليد السموات والأرض والذين كفروا بآيات الله أولئك هم الخاسرون . قل أفغير الله تأمروني أعبد أيها الجاهلون . ولقد أوحي إليك وإلي الذين من قلبك لئن أشركت ليحبطن عملك ولتكونن من الخاسرين . بل الله فاعبد وكن من الشاكرين ، وما قدروا الله حق والأرض جميعًا قبضته يوم القيامة والسموات مطويات بيمينه سبحانه وتعالي عما يشركون –
- وهو الذي في السماء إله وفي الأرض إله وهو الحكيم العليم . وتبارك الذي له ملك السموات والأرض وما بينهما وعنده علم الساعة وإليه ترجعون –
- فلله الحمد رب السموات ورب الأرض رب العالمين ، وله الكبرياء في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم –
- ففروا إلي الله إني لكم منه نذير مبين ، ولا تجعلوا مع الله إلهًا آخر إني لكم منه نذير مبين –
- هو الله الذي لا إله إلا هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم . هو الله الذي لا إله إلا الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن العزيز الجبار المتكبر سبحان الله عما يشركون . هو الله الخالق البارئ المصور له الأسماء الحسني يسبح له ما في السموات والأرض وهو العزيز الحكيم –
- يا أيتها النفس المطمئنة . ارجعي إلي ربك راضية مرضية . فادخلي في عبادي وادخلي جنتي –
- قل هو الله أحد . الله الصمد . لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفوا أحد –
- 2 – ورد الوفاء :
- يا بني إسرائيل اذكروا نعمتي التي أنعمت عليكم وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم وإياي فارهبون –
- ليس البر أن تولوا وجوهكم قبل المشرق والمغرب ولكن البر من آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيين وآتي المال علي حبه ذوى القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتي الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس ، أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون –
- ومنهم من عاهد الله لئن أتانا من فضله لنصدقن ولنكونن من الصالحين . فلما آتاهم من فضله بخلوا به وتولوا وهم معرضون . فأعقبهم نفاقًا في قلوبهم إلي يوم يلقونه بما أخلفوا الله ما وعدوه وبما كانوا يكذبون . ألم يعلموا أن الله يعلم سرهم ونجواهم وأن الله علام الغيوب –
- أفمن يعلم أنما أنزل إليك من ربك الحق كمن هو أعمي إنما يتذكر أولوا الألباب . الذين يوفون بعهد الله ولا ينقضون الميثاق . والذين يصلون ما أمر الله به أن يوصل ويخشون ربهم ويخافون سوء الحساب . والذين صبروا ابتغاء وجه ربهم وأقاموا الصلاة وأنفقوا مما رزقناهم سرًا وعلانية ويدرءون بالحسنة السيئة أولئك لهم عقبي الدار . جنات عدن يدخلونها ومن صلح من آبائهم وأزواجهم وذرياتهم والملائكة يدخلون عليهم من كل باب . سلام عليكم بما صبرتم فنعم عقبي الدار –
- وأوفوا بعهد الله إذا عاهدتم ولا تنقضوا الأيمان بعد توكيدها وقد جعلتم الله عليكم كفيلاً إن الله يعلم ما تفعلون
- وأوفوا بالعهد إن العهد كان مسئولا –
- من المؤمنين رجالاً صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضي نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا –
- إن الذين يبايعونك إنما يبايعون الله يد الله فوق أيديهم فمن نكث فإنما ينكث علي نفسه ومن أوفي بما عاهد عليه فسيؤتيه أجرا عظيمًا –
- لقد رضي الله عن المؤمنين إذ يبايعونك تحت الشجرة فعلم ما في قلوبهم فأنزل السكينة عليهم وأثابهم فتحًا قريبًا ومغانم كثيرة يأخذونها وكان الله عزيزًا حكيمًا –
- يا أيها الذين آمنوا لم تقولون مالا تفعلون . كبر مقتاً عند الله أن تقولوا مالا تفعلون . إن الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفاً كأنهم بنيان مرصوص –
- 3 – ورد التفكر :
- إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار والفلك التي تجري في البحر بما ينفع الناس وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها وبث فيها من كل دابة وتصريف الرياح والسحاب المسخر بين السماء والأرض لآيات لقوم يعقلون –
- إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب . الذين يذكرون الله قيامًا وقعودًا وعلي جنوبهم ويتفكرون في خلق السموات والأرض ربنا ما خلقت هذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار –
- إن الله فالق الحب والنوى يخرج الحي من الميت ويخرج الميت من الحي ذلكم الله فأني تؤفكون . فالق الإصباح وجعل الليل سكنًا والشمس والقمر حسبانًا ذلك تقدير العزيز العليم . وهو الذي جعل لكم النجوم لتهتدوا بها في ظلمات البر والبحر قد فصلنا الآيات لقوم يعلمون وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع قد فصلنا الآيات لقوم يفقهون . وهو الذي أنزل من السماء ماء فأخرجنا به نبات كل شيء فأخرجنا منه خضرًا نخرج منه حبًا متراكبًا ، ومن النخل من طلعها قنوان دانية وجنات من أعناب والزيتون والرمان مشتبها وغير متشابه . أنظروا إلي ثمره إذا أثمر وينعه إن في ذلكم لآيات لقوم يؤمنون –
- إن ربكم الله الذي خلق السموات والأرض في ستة أيام ثم استوي علي العرش يغشي الليل النهار يطلبه حثيثا والشمس والقمر والنجوم مسخرات بأمره ألا له الخلق والأمر تبارك الله رب العالمين –
- هو الذي جعل الشمس ضياء والقمر نورًا وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلا بالحق يفصل الآيات لقوم يعلمون . إن في اختلاف الليل والنهار وما خلق الله السموات والأرض لآيات لقوم يتقون –
- الله الذي رفع السموات بغير عمد ترونها ثم استوي علي العرش وسخر الشمس والقمر كل يجري لأجل مسمي ، يدبر الأمر يفصل الآيات لعلكم توقنون . وهو الذي مد الأرض وجعل فيها رواسي وأنهارا ومن كل الثمرات جعل فيها زوجين اثنين غشي الليل النهار إن في ذلك لآيات لقوم يتفكرون . وفي الأرض قطع متجاورات وجنات من أعناب وزرع ونخيل صنوان وغير صنوان يسقي بماء واحد ونفضل بعضها علي بعض في الأكل إن في ذلك لآيات لقوم يعقلون –
- وهو الذي سخر البحر لتأكلوا منه لحمًا طريًا وتستخرجوا منه حلية تلبسونها وتري الفلك مواخر فيه ولتبتغوا من فضله ولعلكم تشكرون . وألقي في الأرض رواسي أن تميد بكم وأنهارا وسبلا لعلكم تهتدون ، وعلامات وبالنجم هم يهتدون –
- ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين . ثم جعلناه نطفة في قرار مكين . ثم خلقنا النظافة علقة فخلقنا العلقة مضغة فخلقنا المضغة عظامًا فكسونا العظام لحمًا ثم أنشأناه خلقاً آخر فتبارك الله أحسن الخالقين –
- ألم تر أن الله أنزل من السماء ماء فأخرجنا به ثمرات مختلفا ألوانها ومن الجبال جدد بيض وحمر مختلف ألوانها وغرابيب سود . ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه وغرابيب سود . ومن الناس والدواب والأنعام مختلف ألوانه كذلك إنما يخشي الله من عباده العلماء إن الله عزيز غفور -
- الله الذي خلق سبع سموات ومن الأرض مثلهن يتنزل الأمر بينهن لتعلموا أن الله علي كل شيء قدير وأن الله قد أحاط بكل شيء علما –
- 4 – ورد المراقبة :
- وعنده مفاتح الغيب لا يعلمها إلا هو ويعلم ما في البر والبحر وما تسقط من ورقة إلا يعلمها ولا حبة في ظلمات الأرض ولا رطب ولا يابس إلا في كتاب مبين . وهو الذي يتوفاكم بالليل ويعلم ما جرحتم بالنهار ثم يبعثكم فيه ليقضي أجل مسمي ثم إليه مرجعكم ثم ينبئكم بما كنتم تعلمون . وهو القاهر فوق عباده ويرسل عليكم حفظة حتى إذا جاء أحدكم الموت توفته رسلنا وهو لا يفرطون ، ثم ردوا إلي الله مولاهم الحق ألا له الحكم وهو أسرع الحاسبين
- وما تكون في شأن وما تتلو منه من قرآن ولا تعملون من عمل إلا كنا عليكم شهود أإذ تفيضون فيه وما يعزب عن ربك من مثقال ذرة في الأرض ولا في السماء ولا أصغر من ذلك ولا أكبر إلا في كتاب مبين –
- سواء منكم من أسر القول ومن جهر به ومن هو مستخف بالليل وسارب بالنهار . له معقبات من بين يديه ومن خلفه يحفظونه من أمر الله –
- إن ربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون . وما من غائبة في السماء والأرض إلا في كتاب مبين –
- يا بني أنها إن تك مثقال حبة من خردل فتكن في صخرة أو في السموات أو في الأرض يأت بها الله ، إن الله لطيف خبير . يا بني أقم الصلاة وأمر بالمعروف وانه عن المنكر واصبر علي ما أصابك إن ذلك من عزم الأمور –
- وما كنتم تستترون أن يشهد عليكم سمعكم ولا أبصاركم ولا جلودكم ولكن ظننتم أن الله لا يعلم كثيرًا مما تعملون . وذلكم ظنكم بربكم أرادكم فأصبحتم من الخاسرين –
- أم أبرموا أمرًا فإنا مبرمون . أم يحسبون أنا لا نسمع سرهم ونجواهم بل ورسلنا لديهم يكتبون –
- ولقد خلقنا الإنسان ونعلم ما توسوس به نفسه ونحن أقرب إليه من حبل الوريد . إذ يتلقي المتلقيان عن اليمين وعن الشمال قعيد . ما يلفظ من قول إلا لديه رقيب عتيد –
- ألم تر أن الله يعلم ما في الأرض ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدني من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا ثم ينبئهم بما عملوا يوم القيامة إن الله بكل شيء عليم –
- وأسروا قولكم أو اجهروا به إنه عليم بذات الصدور . ألا يعلم من خلق وهو اللطيف الخبير –
- 5 – ورد الإخلاص :
- صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون ، قل أتحاجوننا في الله وهو ربنا وربكم ولنا أعمالنا ولكم أعمالكم ونحن له مخلصون –
- يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا الكافرين أولياء من دون المؤمنين أتريدون أن تجعلوا الله عليكم سلطانًا مبينا . إن المنافقين في الدرك الأسفل من النار ولن تجد لهم نصيرًا . إلا الذين تابوا وأصلحوا واعتصموا بالله وأخلصوا دينهم لله فأولئك مع المؤمنين وسوف يؤت الله المؤمنين أجرًا عظيما . ما يفعل الله بعذابكم إن شكرتم وآمنتم وكان الله شاكرًا عليمًا –
- إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفًا وما أنا من المشركين . وحاجه قومه قال أتحاجوني في الله وقد هدان ولا أخاف ما تشركون به إلا أن يشاء ربي شيئًا وسع ربي كل شيء علمًا أفلا تتذكرون . وكيف أخاف ما أشركتم ولا تخافون أنكم أشركتم بالله ما لم ينزل به عليكم سلطانًا فأي الفريقين أحق بالأمن إن كنتم تعلمون . الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون -
- قل إني هداني ربي إلي صراط مستقيم – دينًا قيمًا ملة إبراهيم حنيفاً وما كان من المشركين . قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين . لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين . قل أغير الله أبغي ربا وهو رب كل شيء ولا تكسب كل نفس إلا عليها ولا تزر وزرة وزر أخري ثم إلي ربكم مرجعكم فينبئكم بما كنتم فيه تختلفون –
- قل إنما أنا بشر مثلكم يوحي إلي أنما إلهكم إله واحد فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحًا ولا يشرك بعبادة ربه أحدًا –
- إنا أنزلنا إليك الكتاب بالحق فاعبد الله مخلصًا له الدين ألا لله الدين الخالص والذين اتخذوا من دونه أولياء ما نعبدهم إلا ليقربونا إلي الله زلفى إن الله يحكم بينهم فيما هم فيه يختلفون إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار . لو أرادوا الله أن يتخذ ولدًا لاصطفي مما يخلق ما يشاء سبحانه هو الله الواحد القهار –
- قل إني أسرت أن أعبد مخلصًا له الدين وأمرت لأن أكون أول المسلمين . قل إني أخاف إن عصيت ربي عذاب يوم عظيم . قل الله أعبد مخلصًا له ديني فاعبدوا ما شئتم من دونه قل إن الخاسرين الذين خسروا أنفسهم وأهليهم يوم القيامة ألا ذلك هو الخسران المبين . لهم من فوقهم ظلل من النار ومن تحتهم ظلل ذلك يخوف الله به عباده يا عباد فاتقون –
- هو الذي يريكم آياته وينزل لكم من السماء رزقاً وما يتذكر إلا منن ينيب . فادعوا الله مخلصين له الدين ولو كره الكافرون –
- الله الذي جعل لكم الأرض قرارًا والسماء بناء وصوركم فأحسن صوركم ورزقكم من الطيبات ذلكم الله ربكم فتبارك الله رب العالمين . هو الحي لا إله إلا هو فادعوه مخلصين له الدين الحمد لله رب العالمين –
- وما أمروا إلا ليعبدوا الله مخلصين له الدين حنفاء ويقيموا الصلاة ويؤتوا الزكاة ذلك دين القيمة –
- 6 – ورد الإيمان :
- يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين . الذين استجابوا لله والرسول من بعد ما أصابهم القرح للذين أحسنوا منهم واتقوا أجر عظيم . الذين قال لهم الناس إن الناس قد جمعوا لكم فاخشوهم فزادهم إيمانًا وقالوا حسبنا الله ونعم الوكيل . فانقلبوا بنعمة من الله وفضل لم يمسسهم سوء واتبعوا رضوان الله والله ذو فضل عظيم . إنما ذلكم الشيطان يخوف أولياءه فلا تخافوهم وخافون إن كنتم مؤمنين –
- ربنا إننا سمعنا مناديا ينادي بالإيمان أن آمنوا بربكم فآمنا ربنا فاغفر لنا ذنوبنا وكفر عنا سيئاتنا . فاستجاب لهم ربهم أني لا أضيع عمل عامل منكم من ذكر أو أنثي بعضكم من بعض ، فالذين هاجروا وأخرجوا من ديارهم وأوذوا في سبيل الله وقاتلوا أو قتلوا لأكفرن عنهم سيئاتهم ولأدخلنهم جنات تجري من تحتها الأنهار ثوابًا من عند الله والله عنده حسن الثواب –
- إنما المؤمنون الذين إذا ذكر الله وجلت قلوبهم وإذا تليت عليهم آياته زادتهم إيمانًا وعلي ربهم يتوكلون . الذين يقيمون الصلاة ومما رزقناهم ينفقون . أولئك هم المؤمنون حقاً لهم درجات عند ربهم ومغفرة ورزق كريم –
- إن الذين آمنوا وهاجروا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله والذين آووا ونصروا أولئك بعضهم أولياء بعض والذين آمنوا ولم يهاجروا ما لكم من ولا يتهم من شيء حتى يهاجروا وإن استنصروكم في الدين فعليكم النصر إلا علي قوم بينكم وبينهم ميثاق والله بما تعملون بصير –
- إن الله اشتري من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويُقتلون وعدًا عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفي بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم .التائبون العابدون الحامدون السائحون الراكعون الساجدون الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر والحافظون لحدود الله وبشر المؤمنين –
- قد أفلح المؤمنون الذين هم في صلاتهم خاشعون . والذين هم عن اللغو معرضون . والذين هم للزكاة فاعلون والذين لفروجهم حافظون . إلا علي أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم فإنهم غير ملومين . فمن ابتغي وراء ذلك فأولئك هم العادون . والذين هم لأماناتهم وعهدهم راعون . والذين هم علي صلواتهم يحافظون . أولئك هم الوارثون الذين يرثون الفردوس هم فيها خالدون –
- ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يفتنون . ولقد فتنا الذين من قبلكم فليعلمن الله الذين صدقوا وليعلمن الكاذبين –
- لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر وذكر الله كثيرًا . ولما رأي المؤمنون الأحزاب قالوا هذا ما وعدنا الله ورسوله وصدق الله ورسوله وما زادهم إلا إيمانًا وتسليمًا . من المؤمنين رجال صدقوا ما عاهدوا الله عليه فمنهم من قضي نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا –
- قالت الأعراب آمنا قل لم تؤمنوا ولكن قولوا أسلمنا ولما يدخل الإيمان في قلوبكم وإن تطيعوا الله ورسوله لا يلتكم من أعمالكم شيئًا إن الله غفور رحيم . إنما المؤمنون الذين آمنوا بالله ورسوله ثم لم يرتابوا وجاهدوا بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله أولئك هم الصادقون –
- فآمنوا بالله ورسوله والنور الذي أنزلنا والله بما تعملون خبير . يوم يجمعكم ليوم الجمع ذلك يوم التغابن ومن يؤمن بالله ورسوله ويعمل صالحًا يكفر عنه ويدخله جنات تجري من تحتها الأنهار خالدين فيها أبدًا ذلك الفوز العظيم
الأسلوب الثاني نظام الجوالة

عند الحديث عن الدعوة في دار شارعه الناصرية فاتني أن أذكر أنه كان مما اشتملت عليه حجر المركز العام حجرة صغيرة لفرقة الرحلات وكان يرأس فريق الرحلات الطالب محمد أحمد سليمان بكلية الطب والذي أذكره أننا جميعًا كما أعضاء في هذا الفريق ، وكنا نلبس الملابس الخاصة به في المناسبات وكانت هذه الملابس تشبه ملابس ركوب الخيل فهي قميص كاكي وبنطلون كاكي طويل بمنفاخ .. ويخيل إلي أن الأستاذ المرشد رسم في ذهنه صورة لوسائل إبراز حقيقة الدعوة الإسلامية ، فوجد أن هذه الصورة لا تكتمل إلا بوجود مظهر للقوة البدنية ولم يستطع التعبير عن هذا المظهر في ذلك الوقت كما لم تسعفه الوسائل إلا بتخصيص حجرة من حجرات المركز العام وإن كانت أصغرها لهذا النشاط ووضع علي بابها لافتة باسم هذا النشاط وإن ظلت هذه الحجرة مغلقة دائمًا أو ما يقارب الدوام .
كما أنه أراد في دار شارع الناصرية أن يعبر عن معني الجهاد في الفكرة الإسلامية فكلف نجارًا – بإرشاد من أحد العسكريين – بصناعة أنموذج لبندقية ، وكان هذا الأخ العسكري يدربنا في فناء الدار بل استعمال البندقية في مختلف الظروف والأوضاع بهذا النموذج الخشبي . فلما تم الانتقال إلي الدار الجديدة في العتبة ، ووجدت السعة ، ووجد الشباب المتطلع إلي الحركة والنشاط رأي الأستاذ الفرص مواتية لإبراز الصورة التي في ذهنه إبرازًا أوضح فطور فريق الرحلات إلي فريق الجوالة .
والصورة التي رسمها الأستاذ في ذهنه منذ قام بدعوته في الإسماعيلية عن هذا الجانب من نشاط الدعوة لم تكن هي فريق للرحلات أو فريق الجوالة ، وإنما كانت فريقاً عسكريًا يحقق فكرة الجهاد في الإسلام ؛ إلا أن الرجل وقد آتاه الله الحكمة " ومن يؤت الحكمة فقد أوتي خيرًا كثيرًا " لم يكن يؤمن بالطفرة ، بل كان يؤمن بالتطور وبأنه قانون الحياة ، ولابد للدعوات أن تخضع لقوانين الحياة ، إذا هي أرادت أن تشق طريقها ، ولم يكن الرجل يتجاهل ما حوله ولا يتعامي عما بين يديه ، فتدرج بالصورة التي في خاطره تدرج الأم بمولودها . وكان هذا الرجل – بثاقب فكره ، ومرهف حسه ، وبخاصية أودعه الله إياها – يتحدث إلي الناس عن أمور يراها هو واقعة لا محالة ، وهي في خواطرنا شيء من هواجس النفس وأوهام الخيال ؛ فإنه كان يعد من حياطات الحذر من أخطار يتوقعها ولا نكاد نصدق وهو يحذرنا منها ... ثم لا تقع هذه الأخطار إلا بعد سنوات ... وعندما تواجهنا نري أسباب الحيطة التي اتخذها منذ سنوات – دون مبرر في نظرنا إذ ذاك – هي وحدها التي تحضننا إزاء هذه الأخطار .
كان الأستاذ يتحرق شوقاً إلي إبراز الدور العسكري لتجلية فكرة الجهاد ، ولكنه رأي الدعوة لازالت في مهدها ، ولم تتجاوز في طورها الجديد مرحلة الحبو ، ورأي الحكومات المصرية ومن ورائها الإنجليز لابد أنهم متربصون – في يوم ما – بالدعوة الدوائر لأنها عدوهم الأساسي ؛ إذن فلابد من أن تتحاشى الدعوة في هذا الطور كل ما يعتبرونه في عرفهم خروجًا علي القانون . وكنا إذ ذاك في الثلث الأخير من الثلاثينيات وكان تكوين منظمات عسكرية لا يعد خروجاً علي القانون فحسب بل يعد إحدى الكبائر ، ... لهذا لجأ إلي إبراز الطور الجديد في خاطره ، إلي مظهر ألبسه لباس القانون . لم يكن في مصر إذ ذاك صورة فيها رائحة العسكرية مسموح بها إلا جمعية الكشافة الأهلية ، وكان صغار السن من المنتسبين إليها يسمون " كشافة " وكان الكبار يسمون " جوالة " وصار الإخوان المسلمون فرقة جوالة منتسبة إلي جمعية الكشافة الأهلية .
وتبني الإخوان قانون الكشافة وهو يتمشي مع الفضائل الاجتماعية التي يدعو إليها الإسلام ، وأذكر أننا لم نعدل فيه إلا لفظاً واحدًا من إحدى مواده التي تقول : وأن أطيع رؤسائي طاعة عمياء ، عدلناها إلي طاعة تامة لأن الإسلام لا يعترف بالطاعة العمياء – وشرحنا قانون الكشافة بآيات القرآن الكريم وأحاديث النبي صلي الله عليه وسلم وربما كان فريق الإخوان المسلمين هو الفريق الوحيد من المنتسبين إلي جمعية الكشافة الأهلية الذي استعمل هذا القانون استعمالا كاملا وطبقه أحسن تطبيق .
- مشكلة الملابس :
بانتساب جوالة الإخوان إلي جمعية الكشافة الأهلية صاروا ملزمين بملابسهم المميزة الموحدة وهي تتكون من قميص كاكي وبنطلون كاكي قصير ... ولما كان الإخوان قد تعودوا أداء الصلاة في أوقاتها مهما كانت الظروف فإنهم كانوا يؤدون الصلاة وهم في هذه الهيئة حين يحين وقت الصلاة ... فانطلقت أفواه واسعة تسلقهم بألسنة حداد ، وكانت هذه الأفواه لطائفتين ؛ طائفة دفعتها الغيرة علي الإخوان ومبلغ علمهم أن هذه الهيئة تتنافي مع الصلاة ، والطائفة الأخرى من أولئك الحاقدين الملتمسين للبرءاء تشنيعًا ؛ فما كادوا يرون الإخوان يصلون في هذه الهيئة حتى ذهبوا يملأون الدنيا تشنيعًا ، وكانت الجمعيات الإسلامية التي أشرنا إليها في الفصل السابق من الطائفة الأولي . وظل الإخوان صابرين تحت هذا الوابل من النقد اللاذع أكثر من عام حتى وجد الأستاذ المرشد حل هذا الإشكال في كتاب البخاري تحت عنوان علي ما أذكر " ما تجوز الصلاة فيه " وكان المرشد يقول إن الإمام البخاري في كتابه الصحيح لم يكن مجرد محدث فحسب بل كان فقيهًا مجتهدًا صاحب مذهب والعناوين التي جعلها لأبواب صحيحه هي آراؤه ومذهبه وتحت هذا العنوان حديث معناه : أن رجلا جاء إلي عمر بن الخطاب رضي الله عنه وسأله من الملابس التي يؤدي بها الصلاة فقال له : " صل في ثوبين ، صل في ثوب وسروال في ثوب واحد ، صل في كذا ... حتى قال له صل في تبان " هو ما يلبسه المصارعون .
ويكاد يكون هناك ما يشبه التلازم بين الكتائب والجوالة فعضو الكتائب يكون في أغلب الأحيان جوالا لأن الأستاذ المرشد كان هو رئيس النظامين ؛ وإذا استثنينا الكتيبتين الأوليين اللتين تحدثت عنهما فإن أسلوب الجوالة كان في أكثر الأحوال هو الخطوة الأولي للشباب الذين انضموا تحت لواء الدعوة لأنه نظام عسكري المظهر فيه معني الفتوة التي تستهوي الشباب ، وكم من الشباب تم إصلاحه وظهرت مواهبه عن طريق نظام الجوالة وكان من قبل شبابًا لاهيا عابثًا . وقد لا أكون مغاليًا إذا قلت إن نظام الجوالة بما فيه من مبادئ وأهداف رفيعة تحث علي الأخوة والإيثار والشجاعة والمروءة والتضحية لم يكن له وجود قبل إنشاء جوالة الإخوان المسلمين ، فلقد كنت علي اتصال بهذا النظام منذ كنت طالبًا بالدراسة الثانوية وكنت أتتبع أخباره في مختلف البلاد المصرية وكان هذا سببًا في أنني رفضت أن أنضوي تحت لوائه لأنني لم أر فريقاً من المنتسبين إليه كان جادًا في انتحال مبادئه والاهتداء بتوجيهاته : حتى إني أسأت الظن بالنظام نفسه واتهمته بأنه في ذاته نظام غير جاد ... فلما انتسب الإخوان إلي هذا النظام شعرت كأنما كان هذا النظام جسدًا لا روح فيه فكان الإخوان هم روحه ردت إليه فبعثت فيه حرارة الحياة .
ولقد كان نظام الجوالة في الإخوان المسلمين وسيلة لإصلاح الشباب بطريقتين :
الطريقة الأولي أن الشباب الذين انتظموا في سلكه صاغهم كما قلت صياغة جديدة بعثت من أعماق نفوسهم ما كان كامنًا فيها من طاقات خارقة ، ومواهب باهرة ، وصاروا مثلا عليا في الاستقامة والإيثار والتضحية ، والطريقة الثانية بما كانت تبعثه جموعها الحاشدة ، وطوابيرها المنتظمة ، وخطواتها المتسقة ، وطبولها المثيرة ، وهتافاتها المزلزلة ، وعسكريتها غير المحترفة ؛ من روح تشعر هذا الشعب بأن للحق قوة تحميه فتطمئن قلوب تحب الحق ولكنها كانت خائفة ، وتهتز فرقاً قلوب كانت سادرة في الباطل فكانت تجاهر بباطلها اعتمادًا علي أن الطريق أمامها سهل مفتوح ، فلما رأت بعينها قوة الحق انكمشت بباطلها مستخفية مرتجفة . وقد يجمل بي – في صدد حديثنا عن الجوالة – أن أنقل للقارئ من قصيدة لعمي الأستاذ محمود عبد الحليم الكبير رحمه الله وكان شاعر رشيد ونائب شعبة الإخوان بها يصف فيها هذه الفرق العتيدة ، التي أخذت بلبه ، وأشعلت جذوة الأمل في نفسه فقال :
قفا نحيـي الشـباب الناهضين قفـا
- الرافعين لمصر ذكرهـا شـرفـا
وكـبروا لرجـال كالـسيوف تـري
- نظم السيـوف وتجواب الفلا ترفـا
سـاروا بقـلب يروع الأسـد جرأته
- وصدق عـزم إلي العلـياء منصرفا
تقـلدوا الجـد والإقـدام واطرحـوا
- ثوب النعيم وعافـوا اللهـو والسخفا
واستبطنوا محض حب الخير واستبقوا
- واستظهروا حكمة في نصرة الضعـفا
أهـلا بفتيان صـدق شب جمعهـمو
- علي المروءة والإخــلاص وائتـلفا
فهم ليوث . علي النفس اعتمادهمـو
- لا يضمرون لمــا ينـتابهم آسفـا
طابوا نفوسـًا كما طابت شمـائلهـم
- وللفضيلـة أضحـي حبـهم كـلفـا
راضوا نفوسـاً بخفض العيش منبتها
- واستبدلوا بمجــاني خفضه شظفـا
شعارهم أن خـذوا للدهر أهبتـكـم
- فيما نكدر من حالاتـه وصـفـــا
فـإن تصونوا قوي الأبدان نامـيـة
- حفظتمو الروح والأوطـان والخلفـا
إن الحيـاة كبيداء فـإن لبــسـت
- برد الشبـاب تبدت روضـة أنفــا
وليس أعجز ممن قد أنبـح له المـ
- ـحيا معافـى ولاقي حتـفه دنفــا
وجوهر الروح أسمي في الحقيقة من
- أن يرتضي المرء مختـارًا له التلفـا
الله فيهـا فقد شاءت عنـايـتـــه
- باللؤلؤ الرطب أن سوي له الصـدفا
والشعب إن زاد للعلـيا تعطـشــه
- ففي قوي النشء منه تعليـل شفــا
يخوض غمـرة هول الدهر مقتحمـا
- ويمتطي غـارب البيداء معتسقـــا
إن صوب الدهر سهمًا قـام معترضا
- في وجهـه ناصبًا أبطاله هدفــــا
من كل عضب إذا شاقتـه مكـرمـة
- مضي سراعًا وإن شام الحنـا صدفـا
يهتـز للـبر إذ يدعي لـمرحـمـة
- مساعـفًا أو رأي مسـتنجـداً هتـفا
فمـا دعوه " بكشـاف " مجـازفـة
- حتى رأوه لعـادي الضر قد كشـفـنا
تلك الفضائل .... ما ترعون حرمتها
- أرضيتم الله والأوطــان والسـلفـا
ستشكون مصر والتاريخ نهضتكـم
- ما مجـد الدهر من تاريخـها صحـفا
وأيام كانت الهيئات السياسية تنشئ فرقاً عسكرية من شبابها ، كانت جوالة الإخوان المسلمين موضع سخرية من هذه الهيئات ذات القمصان الملونة فالقمصان الزرقاء للوفد والقمصان الخضراء لمصر الفتاة وكانت مصر الفتاة تتيه علينا بفرقها ذات القمصان الخضراء وترمينا بالضعف لركوننا في فرقنا إلي نظام رسمي ، وكنا نشكو إلي الأستاذ المرشد حملاتهم علينا في هذا الصدد ونتمنى لو أن الأستاذ قبل رجاءنا وخلصنا من نظام الجوالة لمكون فرقاً ذات قمصان بلون نختاره ؛ فكان الأستاذ يطمئن نفوسنا ويقول لا تعبأوا بأقوالهم واصبروا وسترون أن العاقبة لنا ... ودارت الأيام وجاءت حكومة أصدرت قانونًا يحرم علي الهيئات أن تكون لها فرق عسكرية أو شبه عسكرية ذات قمصان ملونة فألغيت هذه الفرق بين يوم وليلة ولم تبق إلا فرق جوالة الإخوان لأنها نظام معترف به في الدولة والفرق مسجلة في جمعية الكشافة الأهلية ؛ ... وقد رأينا أن الرجل كان أبعد نظرًا منا ومن غيرنا .
وكان لنظامي الكتائب والجوالة أنشدة تومئ إلي أهداف الدعوة ومعانيها فكان النشيد الأول الذي كنا ننشده بدار الناصرية وردحًا من دار العتبة هو نشيد " يا رسول الله " من نظام الشيخ الباقوري وهذا نصه :
يا رسول الله هـل يرضـيك أنـا
- إخـوة في الله للإســلام قمنــا
ننفض اليوم غبـار النوم عنـــا
- لا نهـاب المـوت لا بل نتـمنى
- أن يرانا الله في سـاح الفــداء
إن نفسًا ترتضي الإســلام ديـنا
- ثم ترضي بـعــده أن تستكـينا
أو تري الإسـلام في أرض مهـينا
- ثم تهـوي العيش نفس لن تكـونا
- في عـداد المسـلمين العظمـاء
حبـذا الموت يريـح البائـسيـن
- ويـرد المــجـد للمستعبديــن
فلنمت نحن فــداء المسـلميـن
- سـادة الدنـيا برغـم الكاشـحين
- وليسد في الأرض قانون السـماء
أن للدنـيا بـنا أن تطهـــرا
- نحن أسـد الله لا أسـد الســري
قد قطعـنا العهـد ألا نـقـبرا
- أو نـري القــرآن دستور الورى
- كل شـيء ما سوي الدين هـباء
أيقظـت جمعـية الإخوان فيـنا
- روح آبـاء كـرام فاتحــينـــا
أسعـدوا العالم بالإسـلام حينـا
- فاستـجبنــا للمعـالي ثائـريـنـا
- وتسـابقنـا إلي حمــل اللواء
غــيرنا يرتاح للعيش الـذليل
- وسوانا يرهـب المـوت النـبيــل
إن حييــنا فعلي مجـد أثـيل
- أو فنيـنا فإلي ظــل ظـليـــل
- حسبنـا أنا سنقـضي شهـداء
وحين كنا ننشد هذا النشيد في دار الناصرية اقترحت علي الإخوان تغيير الشطرة التي تقول " أيقظت جمعية الإخوان فينا " إلي " قد أثارت دعوة الإخوان فينا " باعتبارنا أصحاب دعوة لا أعضاء جمعية . ولما انتقلنا إلي دار العتبة نشر عبد الحكيم عابدين ديوانه " البواكير " وكان يضم مجموعة من الأناشيد اختار منها الإخوان نشيدًا سموه نشيد الكتائب وهذا نصه :
هو الحـق يحشــد أجنــاده
- ويعتـقـد للمـوقف الفـاصــــل
فصفـوا الكتـائب أســـاده
- ودكـوا به دولـــة البـاطــــل
نبي الهـدي قد جفونـا الكـرى
- وعفنـا الشهـي مـن المطعــــم
نهضنا إلي الله نحـلـوا السري
- بروعــة قرآنـــه المحــكــم
ونشهـد من دب فـوق الثـري
- وتحت السمـا عـــــزة المسـلم
دعــاة إلي الحق لسنـا نـري
- لـه فــدية دون بــذل الــــدم
هو الحـق يحشــد أجنــاده
- ويعتـقـد للمـوقف الفـاصــــل
فصفـوا الكتـائب أســـاده
- ودكـوا به دولـــة البـاطــــل
تآخـت علي الله أرواحـنــا
- إخـاء يروع بنــــاء الـزمــن
وباتت فــدي الحـق آجـالنا
- بتـوجيه " مـرشــدنا " المؤتمــن
رقاق إذا ما الــدجى زارنـا
- غمـرنا محــاربينا بالحـــــزن
وجنــد شداد إذا رامنــــا
- لبـأس رأي أســدًا لا تــهـــن
هو الحـق يحشــد أجنــاده
- ويعتـقـد للمـوقف الفـاصــــل
فصفـوا الكتـائب أســـاده
- ودكـوا به دولـــة البـاطــــل
أخا الكفـر إما تبعـت الهـداه
- فأصبحـت فينـا الأخ المفتــــدي
وإما جهلت فنحـن الكمـــاه
- نقاضـي إلي الـروع مـن هــددا
إذن لأذقنـاك ضعف الحـيـاء
- وضعـف الممـات ولـن تنـجــدا
فإنـا نصـول بروح الإلــه
- و نقفـو ركـاب بنـي الهــــدي
إلي النصر في الموقف الفاصل
- إلي النصـر في المـوقف الفــاصل
- المعسكرات :
ويلحق بنظام الجوالة إقامة المعسكرات ، وكان الإخوان بين الفنية والفنية يقيمون معسكرات في ضواحي القاهرة ، وكانت معسكراتهم تدريبًا علي الصبر والاحتمال ، وتعويدًا للنفس علي تحمل أشق الظروف . وكانوا يقيمون هذه المعسكرات باعتبارهم من فرق الجوالة المسجلة في جمعية الكشافة الأهلية ، وكان من حقهم بهذا الاعتبار أن يستغلوا الأماكن التي أعدتها هذه الجمعية لإقامة المعسكرات الكشفية ، فكثيرًَا ما أقام الإخوان معسكرات كانت في بعض الأحيان تستمر طول الصيف في معسكر الكشافة بحلوان ، وكان لكل معسكر برنامج يستوعبه أفراد كل دفعة يتضمن أنواعًا من الرياضة البدنية والتدريبات العسكرية والتربية الروحية ومنها حفظ قدر معين من القرآن الكريم مع تفسيره ، ويعتقد في نهاية المدة امتحان الدفعة قبل تسريحها .
وفي صيف سنة 1938 قرر الإخوان إقامة معسكر عام كبير في الدخيلة في الإسكندرية ، وقرر الأستاذ المرشد أن يكون علي رأس القائمين بأمر هذا المعسكر ، وضربت في أرضه الرملية خيام ضخمة ، وتوافد الإخوان علي هذا المعسكر من مختلف البلاد ؛ فكان بمثابة مركز عام في تلك الفترة ، وكان هذا المعسكر فرصة عظيمة أتاحت لكثير من الإخوان من بلاد مختلفة أن يتعارفوا . كما كانت فرصة لشباب الإخوان أن يجلسوا ويقضوا أيامًا وليالي مع كبار الإخوان ، ويتناقشوا معهم ، ويمتزجوا بهم . وقد كنت عازفاً عن المشاركة في هذا المعسكر ؛ وربما كان سبب ذلك هو أنني حين زرته لأول مرة ؛ أحسست أن فيه ما يشبه الترف إذا ما قيس بما عهدناه من قبل في معسكراتنا ... ولكنني فهمت أخيرًا أن الأستاذ المرشد – الذي كان مقيما في المعسكر – كأنما قصد إلي هذا ليشرك فيه طبقة من الإخوان لم يتعودوا علي معيشة الشطف التي ألفناها ... وقد تحقق ذلك فقد رأيت كثيرين من هذه الطبقة وهو يحاول أن يمزجهم بغيرهم من سائر الإخوان بأسلوبه العذب المحبب ، وقد استطاع فعلا أن يجعل من هذا المعسكر أداة لمزجهم .. ولعل القارئ يذكر أننا نوهنا عن هذا المعسكر في الفصل السابق حين تكلمنا عن لقاء الأستاذ المرشد مع الملك فاروق .
الأسلوب الثالث لجنة الأربعة والعشرين
في أوائل صيف عام 1938 بعد أدائنا الامتحانات وقبيل ظهور النتيجة .. وكان ثلاثي كلية الآداب محمد عبد الحميد أحمد وعبد المحسن الحسيني وعبد الحكيم عابدين – وهم يسبقونني في الدراسة بعام – الدفعة الأولي وباكورة الذين يتخرجون في الكليات من طلبة الإخوان ... دعا الأستاذ المرشد إلي اجتماع في بيته في شارع محمد علي ؛ وكانت دعوة شخصية موجهة إلي أشخاص معينين تنبئ عن أهمية خاصة لهذا الاجتماع . والتقينا في بيت الأستاذ فكان اجتماعًا يضم عددًا قليلاً من ذوى السابقة في الدعوة ، وكانت مجموعتنا من الطلبة الذين كانوا يحملون عبء الدعوة ضمن المدعوين .
ثم تكلم الأستاذ فقال ما ملخصه : إن الدعوة قد اتسع نطاقها ، وثقلت تبعاتها ، ولم يعد يكفي أن يحمل عبئها رجل واحد ، وقال إنه فكر في مجموعة تشاركه حمل هذا العبء وانتهي تفكيره إلي عقد هذا الاجتماع الذي يضم من يتوسم فيهم القدرة علي هذه المشاركة . وقال : إن المشاركة في حمل هذا العبء من صاحبها أن يجعل حياته ومستقبله وآماله طوع مشيئته هذه الدعوة ، بحيث يقدم مصلحتها علي مصلحة نفسه ، ويحصر آماله فيها ، ويشكل حياته ومستقبله بحيث تكون هي الأصل ، وكل ما سواها يضحي به عن رضا نفس ... وضرب مثلا بنفسه فقال : إنني كنت أستطيع بما أكرمني الله به من خصائص ، وما حباني به من مواهب أن أسلك طريقاً في الحياة يسرع بي إلي أعلي المناصب ، ويوفر لي ولأسرتي حياة الاستمتاع والرفاهية ؛ ولكنني وجدت هذه الدعوة تقتضيني أن أهبها كل وقتي وكل جهدي ، فلم أتردد في تنكب طريق المناصب والرفاهية ، وعرضت عن ذلك كل الإعراض ، وسلكت الطريق الذي يوفر لدعوتي ما تريد ، وأنا أعلم أن مثل هذا الطريق ليس فيه لي ولأسرتي إلا حياة الخشونة والكفاف .
وتكلم الأستاذ المرشد في ذلك وأفاض ، ونقلنا إلي جو من الجد لم ينقلنا إلي مثله من قبل ، وواجهنا في صراحة بأمور خطيرة لم تعهدها منه من قبل ؛ فلقد كان من عادته – مهما ادلهمت الأمور – أن يكون من الرفق بنا بحيث لا يمسسنا من مخاطرها إلا أقل القليل في الوقت الذي يواجه المخاطرة هو وحده . ولا أدري لعله حتى ذلك الوقت لم يكن يري فينا من النضج ما تكون معه أهلا لمواجهة المخاطر ، وتحمل التبعات . وانتهي في حديثه إلي أنه يريد تكوين لجنة من أربعة وعشرين عضوًا يرشحون أنفسهم من بين الحاضرين يشاركونه حمل أعباء الدعوة علي الأسس التي شرحها ... وقال إنه لا يلزم أحدًا من الحاضرين بما لا يستطيعه بل كل فرد مخير في سلوك الطريق الذي يري أنه الأمثل له في الحياة ، لأن هذا يوم له ما بعده ، وسيقرر كل فرد مصير بنفسه دون إكراه ودون مجاملة ... ومهما اختلفت بنا طرق الحياة فستكون مع ذلك أصدقاء وأحباء .
ومرت فترة ؛ أخذ كل من الحاضرين يراود نفسه ، ويستعرض من آماله ، ويعجم عود نفسه ، ويتخيل ما هو مقبل عليه من تضحيات لن تمسه وحده بل إنها ستشكل حياة أسرته ، ثم أخذ كل واحد يدل ما استقرت عليه نفسه ، ويعلن ما انتهي إليه من قرار . ولست في هذا المجال بصدد سرد تفاصيل ما قيل في هذا الاجتماع ، ولا بصدد ذكر من الذي توقف ومن الذي واصل السير ، ولا بصدد تحليل الشخصيات التي ضمها الاجتماع ، فكل هذا لا يعنيني ولا يعني القارئ بقدر ما يعنيني أن أعرض لشرح خاصية من خاصيات هذا الاجتماع الرجل المرشد ، آتاه الله وإياها ولم يؤتها إلا لقلة الذين يبنون الأمم ، ويوجهون التاريخ . كان الأستاذ المرشد إذا دعا لاجتماع ، حدد له هدفاً وأعلنها إلا أنه يكون قد احتفظ لنفسه بأهداف أخري لهذا الاجتماع ... ولا يكاد ينتهي اجتماع إلا بإصابة جميع الأهداف ؛ المعلن منها وغير المعلن دون أن يشعر أحد من الحاضرين بأن غير الهدف المعلن كان مقصودًا .
ففي هذا الاجتماع الخطير الهدف ، لاحظت وجود مستويات متفاوتة ؛ منها ما يسامت الهدف ويساميه ومنها ما هو دونه بقليل ومنها ما هو بعيد عنه ، وعجبت حين أظهرنا الأستاذ علي هدف هذا الاجتماع لم دعا إليه كل هذه المستويات ؟ أما كان الأنسب أن تقتصر الدعوة إليه علي المستوي المسامت للهدف ؛ ولاسيما وهو أدري الناس بجهد كل أخ وطاقته وآماله ؟ . وانتهي الاجتماع مسفرًا الاجتماع عن نتائج نجملها فيما يلي :
- مجموعة أعطت الكلمة ، وعاهدت علي المواصلة ، وسارعت إلي البيعة .
- مجموعة أعطت الكلمة ، وعاهدت علي المواصلة ، مؤجلة البيعة .
- مجموعة اعتصمت بالصمت مبيتة نية الفرار .
لقد قصد الأستاذ من جمع هذه المستويات المتباينة إلي أن يستمعوا إلي حديثه هذا المثير الملتهب وهو يعلم أن أفرادًا من الحاضرين – هو يعرفهم – لا يعتبرون الحديث إلا ترديدًا لما تملئ به نفوسهم وقلوبهم فهم به مستبشرون . ويعلم أن أفرادا آخرين من الحاضرين هم معادن نفيسة لكن الكشف عن نفاستها في حاجة إلي طرق شديد ، فجاء بهم إلي هذا الاجتماع لتكون حرارة حديثه ما بيديه الفريق الأول من شجاعة وفتوة وفدائية بمثابة طرق عنيف لنفوسهم في حال التهابها .. ويعلم أن أفرادًا غير أولئك وهؤلاء ارتبطوا بالدعوة ، حين كانت بعيدة عن التيارات ، في سلام وأمن وأمان ، ربط بعضهم رباط من صداقة أو قرابة أو نسب أو غيرها ، وتعودوا أن يكونوا المتصدرين فيها ، ومع تطور الدعوة وتغير ظروفها لازالوا متشبثين بهذه الصدارة ولم يعودوا أهلا لها ؛ إقصاؤهم بطريقة مباشرة ؛ فجاء بهم إلي هذا الاجتماع ليستمعوا إلي الحديث نفسه وإلي مبادرات الآخرين إزاءه فيقتنعوا بأنهم سيطالبون بما لا يستطيعون فيقصون أنفسهم بأنفسهم وتتخلص الدعوة من أعباء هي في غني عن حملها .
ويخيل إلي أن هذا الاجتماع لم يكن هدفه إلا ما ذكرت ؛ فإن لجنة الأربعة والعشرين لم تدع لاجتماع بعد هذا ... وكل الذي حدث بعد الاجتماع التاريخي أن رأينا إخوانًا كانوا (راكنين) إلي الدعة قد دب في نفوسهم النشاط ، وبدأوا ينخرطون في سلك العاملين المجدين ، ورأينا مجموعة من ذوي القرابات والنسب والصداقات الشخصية لم يكونوا إلا أثقالا علي الدعوة توهن كاهلها وقد انقطعوا عن الدار ؛ فتحررت الدعوة أو انطلقت بعد أن كثرت شكوى الإخوان منهم حيث كان وجودهم عاتقاً ومشكلة .
أما مجموعتنا فكانت شغل الأستاذ الشاغل ، وهدفه الأصيل حيث كانت محط آماله ومنتهي رجائه وكان حريصًا علي أن يحدد كل فرد منها موقفه ، ويعلن عن مدي تحمله ، كأنما كانت هي بيت القصيد في هذا الاجتماع لاسيما وقد تمخضت عن أول بواكيرها فقد تخرج في ذلك العام ثلاثي كلية الآداب ... والطالب طالما كان طالبًا فهو الشخصية المطلقة المتحررة من كل قيد المعفاة من كل مسئولية ، فإذا ما تخرج مسئوليات الحياة لأول مرة فهو شخصية أخري ؛ ولذا فإن الأستاذ في حديثه كان في أكثره موليا وجهه نحونا ، متجها ببصره إلينا كأنما كان يخصنا بهذا الحديث ، وبعد أن أفرغ من حديثه اتجه إلينا بكليته وأخذ يسأل كلا منا علي حدته ما الذي استقر رأيه عليه ، ثم توقف طويلا عند ثلاثي كلية الآداب وبالتحديد عند عبد الحكيم عابدين وعبد المحسن الحسيني ، فإن الأستاذ المرشد كان يعلم من صفاء نفس محمد عبد الحميد أحمد ما يجعله أهلا لوصف رسول الله صلي الله عليه وسلم " إنه لو لم يطع الله لم يعصه " ولكنه كان يعلم أن الاثنين الآخرين تكتنفهما ظروف معقدة ؛ ولذا فقد أولادهما التفاتًا خاصًا ، ووجه إليهما أسئلة محددة ، وطلب عنها إجابات صريحة .
ولقد كان الزميلان صريحين واضحين كل الوضوح ؛ أما أولهما وهو عبد الحكيم عابدين فقد وضع نفسه رهن إشارة الدعوة ، وقال إنه يعلم أن الطريق أمامه مفتوح في كليته ولكنه قرر إيثار الدعوة بكل وقته وأنه سيكتفي بوظيفة إدارية لا تقتطع من وقته إلا القليل ، وأنه يبايع علي ذلك مع استعداده لترك وظيفته إذا اقتضت ظروف الدعوة ذلك مع شدة حاجته إلي مورد هذه الوظيفة . وأما الآخر فقد كان شجاعًا حسبما علمته الدعوة ، وقال : إنني في حاجة إلي سلوك طريق الدراسة ، وإنني أعتقد أن إكمالي الدراسة مع تخصص فيما يتصل بالقرآن من العلوم العربية لن يبعدني عن ميدان الدعوة ، وأفاض في الإبانة عن وجهة نظره ، محاولا إقناع الاجتماع برأيه .
ولابد من الإشارة هنا إلي أن الأستاذ المرشد قد بدأ يشعر وقد حققت الدعوة بروزًا في المجتمع المصري وأن فكرتها قد تبلورت أحس معه أعداؤها بأنها أضحت ذات شوكة لا ينبغي الغض من قيمتها ولا التغاضي عن خطورتها فأخذوا يعدون العدة للهجوم عليها من كل جانب – شعر الأستاذ بذلك فسارع إلي النداء فيمن يأنس القدوة علي الوقوف معه في الصف الأول أمام العدو في المعركة الوشيكة الوقوع . لقد كان في موقفه هذا كموقف قائد الجيش الذي رأي جيش الأعداء مقبلا علي مرمي النظر فانتدب للقائهم كبار ضباطه ؛ فإذا ببعضهم يعتذر بحجة أنه يريد الاستزادة من دراسة العلوم العسكرية في كلية أركان الحرب . ومعذرة إلي القارئ إذا أنا أنهيت الحديث عن هذا الموضوع دون أن أتعرض بالذكر لأسماء الذين دعوا إلي هذا الاجتماع ولأسماء الذين استجابوا ولأسماء الذين تخلفوا مكتفيًا بأمثلة ، وحسب القارئ أن رأي بعينيه كيف تطورت الأمور بالدعوة وكيف تناوحتها الأحداث الجسام بعد ذلك وعمن تمخضت هذه الأحداث الجسام .
الفصل الثالث : مهاجمة الإنجليز واليهود والانطلاق بقضية فلسطين
ظلت قضية فلسطين – مع كل ما بذله الإخوان في سبيل تنبيه الأذهان إليها – شبه مجهولة إلا في حدود المساجد التي غشيها الإخوان بكلماتهم في أيام الجمع ؛ وهي مهما كثرت عددًا فإنها لا تصل إلي عشر مساجد للقاهرة ... وبانتقال الدعوة إلي الدار الجديدة في العتبة قرر الأستاذ المرشد أن ينطلق الإخوان بهذه القضية انطلاقة واسعة تنتهي إلي الهدف الأساسي وهو أن نشعر الناس جميعا بها ، وأن نجعلها قضية عالمية تفض مضاجع الإنجليز واليهود .
- وقد اتخذ الإخوان لتحقيق ذلك الوسائل الآتية :
- أولا : استمر نظام الخطابة في المساجد وجمع التبرعات .
- ثانيًا : سلط الأستاذ علي الحكومة وعلي الإنجليز قلم صالح عشماوي في مجلة النذير ، وقد نجح صالح في كتابة مجموعة من المقالات النارية في كثير من الأحيان إلي مصادرة المجلة ، وقد كنا نهرب أعدادًا منها ... ولما كان الأسلوب الهجومي العنيف محببًا إلي نفوس الشباب ، فقد انتشرت المجلة انتشارًا واسعًا في الجامعة وفي المصالح الحكومية وفي الأقاليم بل وقد طار صيتها إلي الأقطار الشقيقة مثل سوريا والأردن ولبنان والعراق .
- ثالثًا : بدأنا في طبع منشورات نهاجم فيها الأقاليم ونشرح مظالمهم في فلسطين وتبين فيها خطر اليهود ، وكنا نوزعها في الكليات والمصالح الحكومية والمحلات التجارية والمقاهي وفي الأقاليم .
- رابعًا : دعونا إلي مقاطعة المحلات اليهودية في القاهرة ، وطبعنا كشفاً بأسماء هذه المحلات وعناوينها ، والأسماء الحقيقية لأصحابها وذيلنا هذه الكشوف بهذه العبارة : " إن القرش الذي تدفعه لمحل من هذه المحلات إنما تضعه في جيب يهود فلسطين ليشتروا به سلاحًا يقتلون به إخوانك المسلمين في فلسطين " .
وقد وزعنا هذه الكشوف علي أوسع نطاق في القاهرة والأقاليم ، فكان لها دوي هائل لأنها أول دعاية مست العصب الحساس لليهود ، وقد بلغ من تأثير هذا الأسلوب في الدعاية أن علقت عليه الصحف الإنجليزية تستعدي الحكومة المصرية علي مصدري هذه المنشورات . وإتمامًا لفضح الخطة الصهيونية أصدرنا رسالة أو كتيبًا صغيرًا يضم أسماء الصحف اليهودية التي يصدرونها في أنحاء العالم والبلد الذي تصدر فيه كل صحيفة والأسماء التي يتستر خلفها أصحابها الحقيقيون من اليهود ووزعنا هذا الكتيب علي أوسع نطاق .
ومع أن الحكومة المصرية مدفوعة من الإنجليز قد جردت حملات قوية لمصادرة هذه المنشورات بالذات إلا أنها لم تتمكن من الوصول إلي شيء منها وكانت تفاجأ برؤيتها في أيدي الناس في الشوارع والمحلات وفي المدارس والمعاهد والجامعة وكان كبار موظفي الدولة والوزراء يذهبون في الصباح إلي مكاتبهم فيجدون هذه المنشورات عليها ... ذلك أننا كنا حريصين علي أن تدخل هذه المنشورات دار المركز العام وإنما كنا نطبعها في أماكن بعيدة عن الأعين ونودعها في مثل هذه الأماكن .
خامسًا : كتاب " النار والدمار في فلسطين "
أحب أن أنبه القارئ بهذه المناسبة إلي أن النقود التي كنا نجمعها لفلسطين من المساجد والمقاهي والبارات لم يكن القصد من جمعها إعانة إخواننا المجاهدين الفلسطينيين بما فهم كانوا من هذه الناحية في غير حاجة إليها لأن أغنياء أهل فلسطين من التجار كانوا من وراء هؤلاء المجاهدين ، وقد حضر السيد أمين الحسيني في بعض زياراته للمركز العام للإخوان ومعه بعض هؤلاء التجار وعرفنا بهم ... وإنما كان جمعنا لهذه التبرعات – كما قدمت في فصل سابق – أسلوبًا من أساليب التأثير في نفوس الناس بهذه القضية وربطاً لقلوب الناس وعقولهم بها واختبارًا لمدي تجاوبهم معها . وأضيف الآن إلي ذلك أن هذه المبالغ لم تكن ترسل إلي المجاهدين بل كانت تصرف في شئون الدعاية لهذه القضية بأمر اللجنة العربية العليا ثم إن اللجنة كانت ترسل إلينا من أموالها الخاصة مبالغ طائلة لنضيفها إلي ما عندنا للإنفاق علي هذه المهمة الخطيرة التي كانت اللجنة تعتبرها أهم وألزم للقضية من الجهاد المسلح الذي يقوم بأعبائه المجاهدون في فلسطين نفسها ... وإلا لما كان للإخوان وهم لازالوا في مهدهم أن ينهضوا بمهام الدعاية المجلجلة التي أقضت مضجع الإمبراطورية البريطانية والتي تحتاج إلي إنفاق واسع النطاق .
استطاعت اللجنة العربية العليا لفلسطين أن تطبع كتابًا سمته " النار والدمار في فلسطين " وأمدتنا بعشرات الألوف منه . ويقع هذا الكتيب في نحو ثمانين صفحة تشرح ألوان القطائع والتعذيب التي ارتكبها الإنجليز ضد مجاهدي فلسطين .. وكل نوع من هذه القطائع معزز بصور فوتوغرافية وبأسماء المجاهدين الذين ارتكب معهم هذا التعذيب ، فكان في الكتاب أكثر من خمسين صورة كل واحدة منها توضح نوعًا من أنواع التعذيب أو جريمة من فظائع الإنجليز ، فصورة توضح هجومهم علي أحد بيوت المجاهدين وتبرز صور الإنجليز وهم يمزقون المصحف الشريف ويدوسونه بأحذيتهم ، وصورة توضح الجنود الإنجليز وهم يعلقون مجاهدًا من رجليه ورأسه إلي أسفل ويضربونه بالسياط وهو في هذا الوضع ، كما جاءوا بصور لمجاهدين ربطهم الجنود الإنجليز من أعضاء حساسة يخجل المر من ذكرها ... ولقد كانت اللجنة من المهارة ومن حسن الإعداد بحيث استطاعت تسجيل هذه الفضائح علي الإنجليز بالكاميرا ! دون أن يشعروا .. وقد جمعوا هذه الصور المثيرة التي تحرك الجبان في هذا الكتاب وأرسلوه إلينا .
ولقد قمنا بتوزيعه في أسرع وقت فلم تمض ثلاثة أيام حتى عم الكتاب القاهرة وأنحاء الأقاليم ، وقامت قيامة الصحف البريطانية والبرلمان البريطاني لمواجهة هذه الكارثة المدمرة . وداهمت المركز العام قوة من رجال البوليس وفتشت الدار وكان باقيًا من الكتاب سبعمائة وخمسون نسخة فتحفظت عليها ، وسأل رئيس القوة عن صاحب هذه الكتب فتقدم إليه الأستاذ المرشد وقال له : أنا صاحبها فنقلت القوة النسخ إلي سيارة كانت تنتظرها وطلي الضابط من الأستاذ المرشد أن يصحبه إلي النيابة وبدأ وكيل النيابة في التحقيق مع الأستاذ علي الوجه الآتي :
- س : هل أنت صاحب هذه الكتب ؟
- ج : نعم أنا صاحبها .
- س : ألا تعلم أن هذه الكتب تهاجم السلطات وتثير الشعب ضد دولة صديقة وحليفة بحكم المعاهدة ؟
- ج : أعلم ذلك وقد قصدت مهاجمة هذه السلطات ومهاجمة هذه الدولة الحليفة .
- س : ألا تعلم أن القانون يعاقب علي هذه الجريمة ؟
- ج : أعلم وأنا لا أمانع في إحالتي إلي القضاء لأني معترف بهذه الجريمة ومصر عليها .
وانهي وكيل النيابة التحقيق ووقعه الأستاذ المرشد وقرر وكيل النيابة حبس الأستاذ المرشد علي ذمة هذه القضية حتى تحدد جلسة لنظرها . ورفع للتحقيق إلي النائب العام كما قدمت صورة منه إلي وزارة الداخلية – وأحب أن أنبه هنا إلي حقيقة مؤلمة كانت تعاني منها البلاد في تلك الأيام هي أن وزارة الداخلية كانت فرعًا من السفارة البريطانية فقد كان وكيل هذه الوزارة بالذات ترشحه في حقيقة الأمر هذه السفارة من المصريين الموالين لها فهو مصري الجنسية بريطاني النزعة ، وكان لهذا الوكيل – فيما يمس مصالح للانجليز – سلطة الوزير وفوق سلطة رئيس الوزراء . وقامت وزارة الداخلية بتقديم صورة التحقيق إلي السفير البريطاني في انتظار كلمة ثناء منه علي هذه الخدمة العظيمة .. وقرأ السفير التحقيق حتى وصل إلي نهايته فقطب جبينه وقال لصنيعهم : إنك بهذا التحقيق قدمت لحسن البنا أعظم خدمة وأنت لا تدري .. لقد استطاع هذا الرجل أن يضحك عليكم ... لقد وزع الكتاب وأصبح في أيدي الناس في كل مكان .. وما صادرتموه منه لا يعد شيئا يذكر بجانب ما تم توزيعه ، إن أمنية هذا الرجل هي أن يقدم إلي القضاء ليتخذ من منصة الدفاع عن نفسه في هذه القضية السياسية وسيلة إلي نشر أفكاره ، وإلي التشهير بنا وفضيحتنا وتوصيل ما تضمنه الكتاب إلي أسماع من لم يصل إليه عن طريق الصحف التي ستتباري في نشر ما يقال في القضية كدأب الصحف في القضايا السياسية ... هذا التحقيق يجب أن يحفظ وأن يفرج عن الأستاذ البنا في الحال "
وأفرج عن الأستاذ المرشد فعلا قبل أن يتم في الحبس أربعا وعشرين ساعة ، وقد فوجئ الأستاذ بهذا الإفراج لأنه كان يعتقد أن حكام مصر من الغباء بحيث لا يفهمون هدفه .. وقد زالت الحيرة من هذه المفاجأة حين جاءت عيوننا التي كانت ترصد التحركات وأخبرونا بما كان من أمر الداخلية مع السفير البريطاني ..
- دوسيه لحسن البنا بالسفارة البريطانية :
وقد أخبرنا عيوننا هؤلاء أنه منذ ذلك اليوم بدأ الإنجليز يهتمون بحسن البنا وأعدوا له دوسيها جمعوا فيه تاريخ حياته ، وأخذوا يعدون العدة للقضاء عليه وعلي دعوته . لقد كان هذا الكتاب صاعقة علي الإنجليز حقاً ، فقد اقترف الإنجليز في فلسطين فظائع يندي لها جبين الإنسانية خجلا ، وظنوا أنهم بمكرهم وبملكهم للدنيا قد أحاطوا بكل شيء قدرة وعلمًا فارتكبوا ما ارتكبوا مطمئنين إلي أن جرائمهم هي في طي الكتمان وأن فلسطين نفسها أصبحت في عزلة عن العالم كله ، وكان الله تعالي أشد منهم مكرًا فأمد هؤلاء المجاهدين بالقدرة التي تمكنوا بها من تسجيل مخازيهم لا بالقلم وحده بل هو أدق وأعمق تأثيرًا في النفوس وهي الصور الشمسية الواضحة الناطقة المعبرة . " ومكروا ومكر الله والله خير الماكرين " .
ومهما تكن عند امرئ مـن خليـقـة
- وإن خالها تخفي علي الناس تعـلم
خامسًا : " مظاهرات لأول مرة في جميع أنحاء القطر " :
قبل حلول اليوم السابع عشر من شهر نوفمبر في تلك السنة وهو يوم ذكري وعد بلفور المشئوم وضع الإخوان خطة بحيث يقوم الإخوان في جميع شعب القطر كله في ذلك اليوم بمظاهرات صاخبة ، يهتفون فيها بهتافات محددة . وقد نجحت هذه الفكرة وقامت المظاهرات . وكان قيامها في يوم واحد في جميع أنحاء البلاد دليلا علي قوة الدعوة ، وهزًا لكافة الحكومة ، التي أمرت بإلقاء القبض علي مديري هذه المظاهرات .. كما أن نجاح هذه المظاهرات جعل الإنجليز يشعرون أنهم أصبحوا لأول مرة يواجهون عدوًا حقيقيًا متغلغلا في أحشاء الشعب وليس من السهل قهره لأنه يعتصم في جميع تصرفاته بالدين .
ولقد كانت هذه المظاهرات أول تنبيه لأذهان الشعب المصري في القرى والمدن نحو قضية فلسطين بعد أن كان التنبيه مقتصرًا تقريبًا علي القاهرة ولكن التنبيه في هذه المرة جاء تنبيهًا قويًا مثيرا أغني عن كثير من وسائل التنبيه السابقة التي اختصت بها العاصمة . وكما أن هذه المظاهرات كانت كسبًا رائعًا لقضية فلسطين ، فإنها عادت علي دعوة الإخوان المسلمين بفوائد كبيرة وأظهرت في هذا الشعب المغلوب علي أمره مواهب مذهلة ، وتوضيحا لذلك سأضرب للقارئ مثلا بما تم في هذا الصدد بإحدى شعب الإخوان :
قام الإخوان بشعبة رشيد بمظاهرة كغيرها من الشعب ، وفي اليوم التالي وصلني خطاب بالقاهرة يطلب حضوري إلي رشيد لأمر هام فسافرت فوجدت أن المظاهرة سببت نزاعًا بين فريقين ، أحدهما يمثله الإخوان الصغار السن من الطلبة والعمال الذين قاموا بالمظاهرة واعتقل بعضهم ، والفريق الآخر يمثله الإخوان الكبار سنا ومكانة وأدبية والذين جاء بهم الإخوان الصغار سنا وأسند إليهم المناصب الرئيسية في الشعبة ليكونوا واجهة لهم أمام الأهالي ، والذين كان بعضهم قد قبل الانضمام إلي الشعبة – مجاملة لي شخصيًا حيث كانت تربطني بهم صلات . تقدم إلي هؤلاء الإخوان الكبار وقالوا : أيرضيك أن يقوم الإخوان في الشعبة بمظاهرة يهتفون فيها هتافات ضد الحكومة وضد الإنجليز ويوقفوننا في موقف حرج مع رجال البوليس الذين طلبوا إلينا أن نأمر الإخوان بفض المظاهرة ، فلما حاولنا ذلك رفضوا واستمروا في المظاهرة حتى قبض علي عشرة منهم وهم الآن في سجن المركز ؟ .
قلت لهم : أتعرفون لماذا قاموا بالمظاهرة ؟ قال : لأن المركز العام أرسل منشورا بذلك .
قلت : ماداموا قد فعلوا تنفيذًا لأمر المركز العام فإنه يستحقون الشكر .
قالوا : إذن أنت موافق علي عملهم . قلت : نعم .
قالوا : إذن فلتسمح لنا بالاستقالة من الشعبة لأننا لا نستطيع تحمل هذه التبعات .
ومما ينبغي ملاحظته أن هذه كانت أول مظاهرة تقوم في رشيد أو في الأقاليم مصر بوجه عام منذ مظاهرات سنة 1919 والذي حدث في شعبة رشيد من ابتعاد أشخاص لمسوا في الدعوة خشونة كانت فوق طاقتهم قد حدث في الشعب الأخرى ، وكانت هذه أول هزة للكيان الإخواني أو بمعني آخر كانت أول تصفيه تمخضت عن تخلص هذه الشعب من أشخاص ضعاف – أدو دورهم – ولم يعد وجودهم بها إلا ثقلا علي كاهلها .
- من مواهب هذا الشعب :
من طرائف ما حدث للإخوان العشرة الصغار سنا – الذين كانوا بين طالب وعامل وصانع وصياد – والذي ألقي القبض عليهم في رشيد وأودعوا سجن المركز ، وقد تخلي عنهم – كما قدمت إخوانهم الكبار ذوو الحيثية في المدينة والمقربون إلي رجال الإدارة بالمركز ، أنهم أودعوا في زنازين ، كل في زنزانه علي انفراد ولم يكن فيهم في ذلك الوقت من تجاوز السادسة عشرة إلا القليل ، وقد أحضر أهلهم لهم طعامًا فمنع عنهم ، وعوملوا أسوأ معاملة – وتصادف أن كان في سجن المركز بجانبهم شخص من أهل رشيد يعتبر رئيس عصابة ويعتبر أخطر مجرم في المدينة وقد ارتكب عدة جنايات وسجن أكثر من مرة ، وكان في هذه المرة متهمًا في جناية ...
وصبر الإخوان الصغار – الذين لا نصير لهم – علي الإيذاء والجوع حتى حان موعد الصلاة فقام أحدهم للصلاة داخل زنزانته بأعلى صوته ، فجاء زبانية السجن وطرقوا عليه الباب وهددوه إذا هو لم يوقف الأذان أن يفتحوا عليه الزنزانة ويؤدبوه ... وهنا سمع صوت من الزنزانة المجاورة يهدد هؤلاء السجانين بقتلهم إذا لم يتركوا الشاب الذي يؤذن يكمل أذانه وإذا لم يحضروا له ولزملائه لوازم الوضوء وإذا لم يفرشوا لهم فرشًا طاهرًا يؤذن عليه الصلاة ... كان هذا الصوت هو صوت الرجل الخطر ، الذي كانت حياته سلسلة من الجرائم المروعة ، كان صوت " محمد أبو العلا " وهنا توقف الزبانية عن خطتهم وبدأوا يتفاهمون مع " محمد أبو العلا " عما يريده متعجبين من اهتمامه بشباب يعملون للدين ، ولا يتصور العقل أن يكون المدافع عنهم محمد أبو العلا ملك الإجرام في رشيد ولم يكن أمام الزبانية إلا الاستجابة كارهين لطلبات محمد أبو العلا ، الذي شفع تهديده لهم بقوله : " كل ما تريدون أن توجهوه لهؤلاء الشباب من الإهانة وجهوه إلي أنا نيابة عنهم ، أما هؤلاء فأنا أضعهم داخل عيني ، ويجب أن تضعوهم أنتم أيضًا داخل عيونكم لأنهم يدافعون عن الدين " .
ويسرت للإخوان وسائل الوضوء والصلاة ، وصاروا يؤذنون لجميع الأوقات ، وسمح بدخول الطعام إليهم ، وفتحت لهم أبواب الزنازين ، وقضوا الفترة التي قضوها في هذا الحجز معززين مكرمين ، وصدق الله العظيم إذ يقول " إن الله يدافع عن الذين آمنوا " وصدق رسول الله صلي الله عليه وسلم إذ يقول " إن الله لينصر هذا الدين بالرجل الفاجر " .
وإذا كان من تعليق علي هذه الظاهرة المثيرة للدهشة فإننا نقول : إن عاطفة الانتصار للدين غريزة في أعماق كل نفس مهما تنوعت مسالك أصحاب النفوس في الحياة ،وإن كثيرين ممن وصمهم مجتمعهم بأنهم عتاة المجرمين ليسوا في حقيقة الأمر مسئولين عن مسلكهم هذا بقدر ما تقع المسئولية في ذلك علي مجتمعهم .. وقد أعجبني مقال نشر في إحدى المجلات الأدبية للأستاذ توفيق الحكيم في أواخر الثلاثينيات يقول فيه : إن العقل البشري مقسم إلي مناطق ، كل منطقة مستقلة تمامًا من أخواتها ، وأن من هذه المناطق منطقة للدين ، وضرب مثلا برجل سكير تراه وهو يعاقر الخمر يسمع من يطعن في الدين فينبري له ثائرًا في وجهه من أجل الدين . ولا يفوتني بهذه المناسبة أن أشير إلي أن عددًا لا بأس به ممن كانوا قطاع طريق قد استجابوا للدعوة وصلح أمرهم وصاروا من المؤمنين الأقوياء .
- سابعًا : أول مؤتمر عربي من أجل فلسطين :
أقصد جهود الإخوان في سبيل هذه القضية مضاجع الإنجليز ، فاشتعل الشعور بالنقمة عليهم لا في الجامعة المصرية فحسب بل أحسوا بهذا الاشتعال في أنحاء البلاد العربية من أقصاها إلي أقصاها وكانت سياسة انجلترا تقوم علي أساس فصل مصر عن البلاد العربية ، واستطاعوا فعلا تحقيق هذا الهدف من سياستهم حيث أقنعوا المصريين بأنهم فراعنة وليسوا عربًا ، كما أقنعوا البلاد العربية بأنهم هم العرب وأن المصريين ليسوا عربًا وإنما هم فراعنة ... وكنت تشعر فعلا بأن المصريين مقتنعون بهذه الفكرة الماكرة الخبيثة كما تشعر بأن أهل الشام والعراق والحجاز واليمن والمغرب مقتنعون أيضا بذلك ، وكانت لنا مناقشات طويلة وحادة في حرم الجامعة مع ممثلي الأحزاب في هذه النقطة بالذات لأنها نقطة جوهرية في دعوتها .
وكان الذي دفع الإنجليز إلي ترسيخ هذه الفكرة في أدمغة المصريين وأدمغة سكان البلاد العربية الأخرى اعتقادهم بأن نجاح استراتيجيتهم الاستعمارية في الشرق متوقف علي عزل مصر عن البلاد العربية الأخرى فمصر تعتبر رأسًا والبلاد العربية الأخرى بقية الجسد فإذا فصل الرأس عن الجسد فقد الرأس الحياة وفقد الجسم الحياة ، وعاث الإنجليز فسادًا دون أن يصادفوا في أي مكان من يعترض طريقهم أو يقف في وجههم . وجذع المصريون بهذه الفكرة ردحًا طويلا من الزمن ، وقاست زعامات سياسية كبيرة سايرت الخدعة ولم يخطر لها ببال أن تولي موضوع العروبة أي اهتمام . واطمئنانًا إلي نجاح هذه الخدعة دبر الإنجليز جريمة بيع فلسطين لليهود وهم في مأمن أية مقاومة .. وكيف لا يأمنون وقد استطاعوا أن يجعلوا المصري المثقف حين تطلب منه مساعدة لمجاهدي فلسطين يتساءل : : وأين تقع فلسطين هذه أهي في أوروبا ؟ كما استطاعوا أن يجعلوا رئيس وزراء مصر حين يسأله أحد الصحفيين ماذا أعددتم لقضية فلسطين ؟ فيجيب : أنا رئيس وزراء مصر ولست رئيس وزراء فلسطين .. ومعني هذا أن مصر حكومة وشعبًا صاروا معزولين عزلا تامًا عن الأمة العربية ، وأخطر ما في هذا العزل أنهم عزلوا قلبًا وشعورًا وعاطفة .
لقد استطاع الإخوان المسلمون ، والإخوان المسلمون وحدهم أن يفسدوا علي الإنجليز خطتهم ، وأن ينسفوا الجدار الشاهق السميك الذي شيده الإنجليز ليفصل مصر عن بقية امة العربية ، ولكنهم لم يستطيعوا إنجاز هذه المهمة الخطيرة إلا بجهود مضنية متواصلة مكثفة استمرت أكثر نمن خمس سنوات متوالية ، حققوا في نهاياتها المعجزة حين وصلوا قلوب شعب مصر بقلوب إخوان عرب لهم في فلسطين ، وحين صارت قضية فلسطين قضية عامة في مصر يتألم قلب المصري لها ، ويكره الإنجليز من أجلها ... وبذلك استطاع الإخوان أن يمدوا بين مصر والأمة العربية أول جسر ربط بينهما . ولقد عبرت مشاعر المصريين نحو فلسطين ممثلة في جهود الإخوان عن طريق هذا الجسر إلي البلاد العربية فكانت بمثابة جرعة منبهة لهذه البلاد فبدأت تحس بأنها الجسد الذي كان يفتقد رأسه وقد وجد رأسه في مصر .
وقد استغل الإخوان هذا الجسر الذي أقاموه خير استغلال فوجهوا الدعوة لرجالات البلاد العربية لعقد مؤتمر لدراسة مشكلة فلسطين في مصر واستجاب الكثير منهم ومثلث أكثر البلاد العربية بنخبة من كبار رجالها في ذلك الوقت ،و لم يبق في ذاكرتي من أسمائهم بعد هذه المدة الطويلة إلا الأستاذ فارس الحورى وهو مسيحي من ذوي المستوي الرفيع في التفكير الذي يترفع عن التعصب ويقدر المعاني الإسلامية العليا التي تنظم العقائد والأجناس والألوان المختلفة في سلك واحد نضيد هو الأمة الإسلامية العتيدة ، وكان هذا الرجل زعيما سوريا ، تولي رئاسة الوزارة في سوريا أكثر من مرة وكان خطيبًا مفوهًا ، ومع أنه كان في ذلك الوقت مشتعل الرأس شيبًا إلا أنه شاب الروح والقلب تكلم في المؤتمر فألهب المشاعر وآثار الشجون . وكان هذا المؤتمر أول مؤتمر عربي يعقد من أجل فلسطين ، وقد عقد في دار المركز العام بالعتبة ، وتعاقب فيه الخطباء من مختلف البلاد ثم تكلم الأستاذ المرشد ، وانتهي المؤتمر بقرارات تطالب حكومات الدول العربية بالتدخل من أجل إنقاذ فلسطين من المؤامرة الإنجليزية اليهودية وكان لهذا المؤتمر آثار بعيدة المدى لأنه جعل الحكومات العربية تحس لأول مرة أن عليها مسئولية تجاه مشكلة فلسطين .
- ثامنًا : المؤتمر البرلماني العالمي :
تطايرت أنباء المؤتمر العربي الذي انعقد بدار المركز العام بالعتبة بالقاهرة إلي أنحاء البلاد العربية والإسلامية وإلي أنحاء العالم كله ، وكان أشد الناس اهتمامًا بهذا المؤتمر الإنجليز . وصار يتوافد علي دار المركز العام رجال كثيرون من زعماء البلاد العربية والإسلامية ومن ذوي الرأي فيها ، وكان ممن توافد الأمير فيصل بن عبد العزيز آل سعود والأمير أحمد بن يحيي ومعهما بعض إخوتهما ، أوفدوا من قبل والديهم ملك السعودية وإمام اليمن ليتفاهموا مع الحكومة المصرية ومع الإخوان المسلمين فيما يجب عمله لإنقاذ فلسطين .
ولما كانت أكثر البلاد العربية في ذلك الوقت رازحة تحت أثقال الاستعمار ، فقد تمخض التفاهم بين زعماء البلاد الإسلامية والإخوان عن وسيلة يتفادون بها اللجوء إلي هذه الحكومات المكبلة ، وتبرز بها البلاد العربية والإسلامية متضامنة ، وكان ذلك بأن توجه الدعوة إلي جميع برلمانات العالم لعقد مؤتمر في القاهرة لمعالجة قضية فلسطين . وقد وجهت الدعوة وأوفدت كثير من البرلمانات ممثلين لها ، وانعقد المؤتمر بسراي آل لطف الله بالقاهرة ، وكان هذا أول مؤتمر عالمي من أجل فلسطين ، وتحدث الكثير من زعماء العالم ، وشرحت القضية من جميع جوانبها ، وانتهي المؤتمر بقرارات موجهة إلي جميع دول العالم عامة وإلي حكومة انجلترا خاصة بوجوب تسوية هذه القضية بما يحفظ حقوق أهل فلسطين .
وهنا بدأت انجلترا تشعر بأن سياستها في فلسطين أصبحت مهددة ، فأوقفت حملات القتل والسجن والتعذيب والتنكيل ، وأبدت استعدادها للتفاهم ، وطلبت عقد مؤتمر من أجل فلسطين في لندن يضم العرب واليهود وممثلي الحكومة البريطانية ، وكان من ممثلي العرب عدا عرب فلسطين الأميران فيصل بن عبد العزيز وأحمد بن يحيي واشترك الإخوان في المؤتمر باعتبارهم سكرتيرين للأميرين ومترجمين لهما ، و أذكر أن ممن أوفد معهما من الإخوان الأخ محمود أبو السعود وكان طالبا بكلية التجارة ويجيد اللغة الإنجليزية كتابة وتحدثاً ، وسمي هذا المؤتمر بمؤتمر المائدة المستديرة . وما كان الإخوان لينتظروا من مؤتمر المائدة المستديرة قرارًا يحل المشكلة يرد الحق إلي نصابه ، وإنما كان هدفهم أن يكون مجرد عقد هذا المؤتمر خطوة جديدة علي طريق إسماع العالم مظلمة أهل فلسطين التي طالما حاول الإنجليز ومن ورائهم يهود العالم أن يلقوا عليها ستارًا كثيفاً يحجبها عن العالم .
الفصل الرابع : الفتنة الأولي : أولاً : أضواء علي نواح من شخصية حسن البنا
رأي الشيخ طنطاوي جوهري

عهد إلي الأستاذ المرشد في يوم من أيام هذا العام 1938 أن أنقل له في كراس أرجوزة جمع فيها ناظمها كل ما يتصل بالتصوف من أهداف ووسائل ودرجات وآداب وأصول ، وأكاد أذكر أنني كنت أنقلها من كتاب لابن عجيبة في شرحها .. وكنت جالسًا ظهر ذلك اليوم وحدي في المركز العام ، واتخذت لي مقعدًا وقمطرًا في شرفة الدار .
وبينما كنت أنقلها في شغف – حيث كان لي سابقة اتصال بالمتصوفة عملاً ، كما كنت أعكف الساعات الطوال في الأيام والليالي علي قراءة " إحياء علوم الدين " للغزالي ... بينما أنا كذلك إذ دخل علي رجل أحبه وأجله ، وكنت مشتاقًا إلي لقائه كما كنت أحس أنه يحبني ولم أكن رأيته منذ كنا في 13 شارع الناصرية ، ذلك هو الأستاذ الشيخ طنطاوي جوهري ، الذي كان يلقب في ذلك الوقت " بحكيم الإسلام " وأظنني تحدثت عنه في أوائل هذه المذكرات حديثًا عابرًا .. ولقد علقت نفسي هذا الرجل من أول لقاء ، وقد سمعت عنه الكثير قبل أن أنزج إلي القاهرة فلقد كان الرجل شخصية بارزة في مصر ، فلما التقيت به في القاهرة رأيت فيه الرجل الذي يقول ما يفعل ويفعل ما يقول ، فمع أنه كان أستاذا في دار العلوم ، ولم ألقه إلا بعد إحالته إلي المعاش بأكثر من عشر سنين إلا أنك كنت تري فيه شابًا في عنفوان شبابه ، فهو متوقد الذهن ، يتحدث معك في كل علم من العلوم الكونية من نبات وحيوان وحشرات وجيولوجيا وكيمياء وطبيعة ورياضة وميكانيكا وفك وموسيقي كأنما هو متخصص في كل واحد منها ، وتراه عن طريق هذه العلوم يدلك علي وجود الخالق ووحدانيته وقدرته وحكمته ورحمته .
هذا فضلا عن العلوم العربية بأنواعها من نحو وصرف وبلاغة وأدب ، وقد أنف كتابا سماه " الجواهر " في تفسير القرآن الكريم في ستة وعشرين جزءًا أتبعها بعد ذلك كما أخبرني بستة أجزاء أخري ، وقد كنت أطالع في هذا التفسير بدار الكتب ، وهو يفسر الآيات التفسير المعتادة ثم يتبع هذا التفسير بتفسير علمي يقود القارئ إلي الإيمان بالله إن كان غير مؤمن ، ويزيده إيمانًا إن كان من المؤمنين .. ومما أذكر من دروسه التي كان يقيمها علينا في دار شارع الناصرية وكانت سببا في تشوفي إلي دراسة العلوم الزراعية بعد أن كنت قد التحقت بكلية أخري حيث كان يفسر لنا قوله تعالي " ما تري في خلق الرحمن من تفاوت " أنه قال لنا إن علماء النبات بدراستهم توزيع أوراق الأشجار علي فروعها ، وجدوا أن هذا التوزيع في أشجار العالم كله خاضع لنظام معين لا يخرج عنه أبدًا هو نظام المتواليات العددية – وهي إحدى قوانين علم الجبر – فكل عائلة من عائلات النبات توزع أوراقها علي فروع أشجارها بموجب متوالية عددية ذات أس لا تحيد عنه مهما كثرت أشجار هذه العائلة وتعددت أماكنها واختلقت البيئات التي تنمو فيها ... وقد حاولت ملاحظة ذلك بنفسي فوجدته صحيحًا فكيف يلمس هذا النظام الرائع إنسان ثم لا يؤمن بأن لهذا الكون إلهاً واحدًا وصدق الله تعالي إذ يقول " لو كان فيهما آلهة إلا الله لفسدنا فسبحان الله رب العرش عما يصفون " وحيث يقول إنما يخشي الله من عباده العلماء " .
ولقد كان الشيخ طنطاوي جوهري في أيامه ذائع الصيت في مصر وفي خارج مصر ، وكثيرًا ما كان يقصده العلماء من البلاد الشرقية ومن الغرب ، من أمريكا وانجلترا وفرنسا ، يتلقون علي يديه علومًا معينة .. وأذكر في فترة من أيام شارع الناصرية أنه كان يحرص بعد إلقاء درسه علينا في المركز العام أن يكون في بيته مبكرًا – بعد العشاء – لأن مستشرقة فرنسية قدمت من فرنسا خصيصًا لتحضر عليه شرح " الرسالة القشيرية " وهي من المراجع الأساسية في علم التصوف ، وتعد من الرسائل الفلسفية المعقدة . وقد تقدم في إحدى السنوات ببحث في الموسيقي لنيل جائزة نوبل للسلام – وما كانت هذه الجائزة لتعطي لمصري في ذلك الوقت حتى لو لمس السماء بيده – وقد اطلعت علي هذا البحث فوجدته كتيبًا في نحو مائة صفحة من القطع المتوسط ، ومع أنه بحث في الموسيقي إلا أنك إذا قرأته وجدت كل ما فيه بحوثا في الكيمياء ولكنه أثبت بالقوانين الكيماوية – بطريقته الخاصة – أن هذا الكون إن هو إلا موسيقي . ولم يكن هذا الرجل يدرس القرآن وما يتصل به من علوم ، ويدرس التصوف وما يحيط به من فلسفة ، بقصد الدراسة العلمية ليتشدق بها ، ويبرز في المجتمع .. والرجل لم يكن بحاجة إلي ما يبرزه فقد كان ذائع الصيت كما قدمت ، رفيع المكانة عند الكافة ، بل كانت دراسته دراسة يتقرب بها إلي خالقه ، وقد استنتجت ذلك في موقفين له :
- الموقف الأول : أن هذا الرجل علي علو قدره ، وذيوع صيته ، ورفيع مكانته ، وكبر سنه وسعة علمه ، لم يستكبر عن أن ينضوي راضيًا تحت لواء الإخوان المسلمين ، وتحت قيادة حسن البنا الذي لم يكن في ذلك الوقت أكثر من شاب مغمور ، مدرس في مدرسة ابتدائية لا يكاد يعرفه أحد .
- الموقف الآخر : أن هذا الرجل كان يلقي علينا درسه في المركز العام بشارع الناصرية بين المغرب والعشاء ، فكان في كثير من الأحيان يأتينا قبيل المغرب فيكلف أحدنا بشراء رغيف صغير جاف وحبة طماطم واحدة ، وحين يؤذن المغرب يأكل الرغيف بحبة الطماطم مع قليل من الملح ويكتفي بذلك إفطارًا من صيامه ، ويتبين لنا في أكثر هذه الأيام أنه كان في بلدته " وراق العرب " وهي من ضواحي القاهرة وتبعد عنها أكثر من عشرة كيلومترات وأنه ذهب إليها في الصباح ماشيًا ورجع منها في المساء ماشيًا .
دخل علي هذا الرجل العظيم وأنا جالس في شرفة المركز العام بعد الظهر وحدي أنقل أرجوزة التصوف التي أشرت إليها من قبل مسلم وقمت من مكاني وتلقيته بما يتناسب مع مقامه ،وأعددت له مقعدًا بجانبي فابتدرني سائلا ماذا تفعل ؟ فأجبته فقال لي : إنها أرجوزة جميلة في التصوف أقرأها علي فأخذت أقرأها فقال لي : ما هكذا يقرأ الشعر يا بني قلت ؛ هل لحنت في شيء مما قرأت ؟ قال : لا إنك لم تلحن ولكن ما هكذا يقرأ قلت : إذن فكيف يقرأ ؟ قال : هل كانوا يقرأونه في سوق عكاظ كما تقرأه ؟ قلت : إذن فكيف كانوا يقرأونه ؟ فتناول الكتاب وأخذ يقرأ بنغمة حلوة كأنه يغنيه ثم قال : لا معني للشعر إذا لم يقرأ بهذه الطريقة ، ولذا فإنهم كانوا ينشدون الشعر لا يقرأونه ، أليس الشعر موسيقي ؟ .. ثم قال لي عندما وصل في الأرجوزة إلي أبيات تتحدث عن الحجب والكشف : أنصت إلي يا محمود فأنصت إليه فقال : إن الرجل ليأخذ نفسه بأساليب الرياضة النفسية فيرقي من درجة إلي أخري حتى يدرك اسمي درجات السمو فيصل إلي درجة الكشف حيث ينكشف له الكون ويري بنور الله ما ستره الله عن خلقه من الغيب . فهل هناك منزلة أعلي من هذه المنزلة ؟ ! ..
قلت : لا أعتقد أن هناك منزلة أعلي من ذلك .
قال : بل هناك منزلة أعلي من تلك متعجبًا : وما عساها تكون تلك المنزلة ؟ ..
قال : هي منزلة رجال يصطنعهم ربهم ، ويختارهم من بين خلقه ، ويكل إليهم مقارعة الفساد ومنازلة الظلم ، وإشعال جذوة الإيمان بالله في القلوب ، وبث روح الأخوة بين المؤمنين ؛ حتى تتكون لدعوة الله قوة ترفع صوت الله في الأرض ، فثقف للظلمة والمفسدين بالمرصاد .. ثم قال الشيخ : واعلم يا بني أن هذه المهمة التي يختار لها الله تعالي هؤلاء الرجال تقتضي أن يحجبهم عن غيبه فهم دائما محجوبون لكنهم مع هذا الحجب أعلي درجة من أهل الكشف ؛ لأن أهل الكشف لا ينتفع بهم الناس ، أما هؤلاء فينتفع بهم خلق كثيرون بل ينتفع بهم أمم ينقلونها من حال إلي حال ... قال واعلم يا بني أن من هذا النوع من الرجال الرسل فموسي أعلي درجة من الخضر ، وسليمان أعلي درجة من الذي عنده علم الكتاب ، ومنهم كبار الصحابة من أمثال أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ومنهم كبار المصلحين ومنهم حسن البنا .
قلت : أهكذا تري حسن البنا ؟ ...
قال : نعم ، قلت : وكيف عرفته ؟ .
قال : سمعت عنه فذهبت إليه وجلست معه وسألته إلا يدعو ؟
قال : أدعو إلي القرآن .
قلت : دع هذا اللفظ الكريم من حديثنا ، فإن هذا اللفظ الكريم ظالمًا بينًا : لقد انتحله الجميع وانتسبوا إليه ؛ ما من فرقة قامت في الدولة الإسلامية – مهما كانت زائغة عن الإسلام – إلا وادعت أنه تدعو إلي القرآن ... فأجبني بتفاصيل ما تدعو إليه في كل ناحية من نواحي الحياة ... قال فشرح لي تفاصيل دعوته فوجدتها في حدود كتاب الله ... قال : ثم رأيت في الشاب وآرائه وفهمه لكتاب اله ،وإحاطته بالتاريخ وفهمه للمجتمع الذي نعيش فيه ، وذكائه وألمعيته وشخصيته الأخاذة ، ومقدرته علي جمع الناس علي دعوته ، وصبره علي المكاره ، وتعففه عما في أيدي الناس ـ، وبذله في سبيل دعوته ، ولين جانبه ،وتواضعه بحيث لا تكاد تميزه من أتباعه ؛ قال فرأيت فيه صفات القائد الذي يتفقده العالم الإسلامي .
أقول : وحرصًا مني علي أمانة النقل أقرر أن هناك بقية لهذا الحديث ولكني لا أذكر هل الذي قالها لي هو الأستاذ الشيخ طنطاوي جوهري أم أن الذي قالها لي هو الأستاذ المرشد بعد أن حدثته بما دار بيني وبين الأستاذ الكبير من حديث ، تلك هي : أنه بعد انتهاء الحوار بينهما علي النحو الذي ذكرت وبعد أن أعلن الشيخ اقتناعه قال له الأستاذ المرشد : يا سيدي الأستاذ ؛ إنك أستاذنا وأستاذ الجميع وأنت حكيم الإسلام وأراك أحق بمنصب الإرشاد لهذه الدعوة مني .. وهذه يدي أبايعك .. فقال الشيخ : لا يا أخي ... أنت صاحب الدعوة وأنت أقدر عليها وأنت أجدر بها ... وأنا أبايعك علي ذلك – ومد فبايعه – ولم ينكث – رحمه الله بيعته إلي لقي ربه ... حتى إنه لما وقعت الفتنة الأولي وانشق جماعة من الإخوان مما سيأتي بيانه في موضعه إن شاء الله وأسسوا جماعة " شباب محمد " ذهبوا إليه وطلبوا منه أن يكون مرشدًا عامًا لهم فرفض قائلاً " لا يجوز أن يكون للمسلمين إلا مرشد عام واحد " .
قوة روحية جارفة
قد يلاحظ القارئ أني حين أصف حسن البنا لا أتعرض لميزاته العقلية والذهنية مع أنه كان فيها الذروة التي لا تسامي خصوبة ذهن وحدة ذكاء واتقاد قريحة وحافظة تعي فلا يفلت منها شيء وذاكرة لكل ما رأت أو سمعت حتى أسماء الأشخاص مهما طال عليها الزمن وتباعدت بها البلاد فقد يزور قرية في أعماق الصعيد ويلتقي بعد سنوات في القاهرة يفرد منها فتراه يناديه باسمه ولقبه ويسأله عن أبنائه بأسمائهم – ومع ذلك فأنا لا أتعرض لهذه الميزات لأن كثيرًا من الزعماء يتمتعون بأنصبة متفاوتة منها .
ولكن الميزة التي تنقطع دونها الأعناق والتي قلما يجود الزمان بزعيم يظفر بنصيب منها هي القوة الروحية الخارقة ولقد كان حسن البنا – رحمه الله – عميق الإيمان بالله ، شديد الثقة فيه ، يؤمن بالغيب الذي يسمونه الآن " ما وراء الطبيعة " وكان كثيرًا ما يردد قول ابن الفارض .
ولأنك ممن طيشتــته طروسـه
- بحيث استقلت عقلــه واستبـدت
فإن وراء العقل علمـًا يجـل عن
- مدارك غايـات العقـول السليمـة
وكان يري في القرآن ما لا يراه غيره ؛ وإن كنا جميعًا نردد عبارات مؤداها أننا نؤمن بأن القرآن هو كل شيء لكننا في تصرفاتنا في الحياة نتصرف وكأنما لا نؤمن بما نردد .. أما هو فكان القرآن هو حياته وهو عمله وحركته ، وهو تفكيره وسكونه ، وهو كلامه وسكوته ، وهو دائرة آماله وهو مرجعه ولا مرجع له غيره .. لقد كنت أحار في تصور قول أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها عن رسول الله صلي الله عليه وسلم إنه كان " خلقه القرآن " حتى لقيت حسن البنا وصاحبته فبدأت الصورة تتضح أمامي . لم أر إنسانًا يحفظ القرآن كما يحفظه هذا الرجل ؛ لم يكن يتحدث مع أي أحد كان في أمر من الأمور إلا صدع بالآية دون ما إعمال فكر كأنما أنزلت عليه ... ولم أكن أقدر هذه المقدرة حق قدرها إلا بعد أن حفظت القرآن وقرأته غيبًا علي نفسي وعلي غيري عشرات المرات ، و مع ذلك كنت إذا حاولت تذكر آية معينة في موضوع معين أعجز في أكثر الأحيان عن الإتيان بها ... وفهمت من ذلك أن حفظ القرآن شيء وخاصية الاستشهاد بآيات منه في مواضع مختلفة شيء آخر .
سألته مرة أي التفاسير تنصحني أن أقرأ ؟ فقال لي : إن كنت تريد نصيحتي فلا داعي لقراءة تفاسير ... إن القرآن واضح .. حسبك أن تعرف معاني الكلمات الغريبة عليك وهي قليلة ثم اقرأه وتدبر معانيه وافتح له قلبك ، وأنت تعرف سيرة رسول الله صلي الله عليه وسلم ؛ إذا فعلت فإنك سيتضح لك من معانيه مالا تظفر به من كتب التفسير . وكان له مصحف من القطع الذي هو فوق المتوسط ، وكنت أري فيه في مواضع متعددة ملاحظات كتبها بخطه ؛ لعلها معاني سنحت له وومضت في قلبه فرأي أن يقيدها أمام الآيات قبل أن ينساها .... لم يكن يدع لحظة فراغ إلا ملأها بالقرآن ؛ حين كما نصاحبه في السفر ، سواء أكان السفر بالقطار أم الأتوبيس كان يمضي الطريق مغمضًا عينيه يتلو القرآن حتى نصل إلي الجهة التي نريدها .
حدثني مرة أنه قرأ في كتاب – سماه لي وقتها ولكني أنسيت أسمه الآن – أن رجلا جاء إلي الإمام أحمد بن حنبل وشكا له أن أخاه تنتابه حالة يفقد فيها وعيه ، ويمزق ملابسه ، ويهاجم من حوله ، ويريد أن يفتك بأقرب الناس إليه ، وقال إنه عرضه علي الأطباء حتى يئسوا منه ولا يدرون ماذا يفعلون ... وكان الإمام أحمد بالمسجد فقال للرجل أحضر أخاك وهو في هذا الحال فلما أحضره أمره أن يرقده ثم أخذ الإمام يقرأ القرآن حتى سمع الجميع صوتًا منبعثاً من جسم الرجل المريض يستغيث بالإمام ويقول له : حسبك وسأفعل ما تريد . فقال له الإمام : دع هذا الرجل واخرج من إصبع قدمه قال الصوت سمعًا وطاعة ، وخرج من إصبع قدم الرجل وإذا بالمريض يستيقظ كأنما حل من عقال ، وكأن لم يكن مصابًا من قبل .
قال لي الأستاذ : وقد شغلتني هذه القصة وكنت أتأهب – حسب جدول زياراتي – لزيارة إخوان السويس . وركبت القطار وظللت طيلة الطريق أفكر في هذه القصة وأتعجب لما فيها وأقول : أهو سر الإمام أحمد أو هو سر القرآن أم أن القصة فيها مبالغة ؟.. ولم تزل هذه الأفكار تراودني حتى وصل القطار محطة السويس ، ونزلت من القطار فوجدت الإخوان متجمعين في انتظاري فعانقتهم ، ولاحظت أن واحدًا منهم كان يقف وحده بعيدًا ، فقربت منه فرأيت علي وجهه أثر الحزن ؛ فتركت الإخوان وانتحيت به جانبًا وسألته عما يحزنه ، فقال لي : إن الذي يحزنني أمر خطير ، وإنني قد ضقت ذرعًا بالحياة ، وسدت أمامي الطرق ،وأحاط بي اليأس من كل جانب ... إن زوجتي امرأة صالحة مطيعة ، ولي منها أبناء صغار ، وقد اعتراها منذ عام مرض ينتابها بين الحين والحين ؛ تفقد فيه رشدها ،و تتحول إلي وحش كاسر ، إذا استطاعت الوصول إلي أي منا حاولت قتله ، وتحطم كل شيء أمامها ... وقد عرضتها علي الأطباء هنا وفي القاهرة حتى يئسوا ... وقد انتابها المرض اليوم ، ولما كنت أعلم بقدومك اليوم أدخلتها حجرة وأغلقتها عليها وجئت أنتظرك لأعرض عليك مصيبتي لعلك تعينني فيها ....
يقول الأستاذ لي : فابتسمت والأخ لم يعلم لم ابتسم ... وتذكرت قول إبراهيم عليه السلام " رب أرني كيف تحيي الموتى قال أولم تؤمن قال بلي ولكن ليطمئن قلبي . قال فخذ أربعة من الطير فصرهن إليك ... الآية " قال الأستاذ : قلت له هيا بنا إلي البيت .. واستأذنت من الإخوان . ودخلنا البيت ودخلنا الحجرة المغلقة فرأيت امرأة بها ، فقلت له : ادخل وغطها تمامًا بملاءة بحيث لا يبين منها شيء ، ففعل ثم دخلت الحجرة ووقفت بجانب السرير وأغمضت عيني وأخذت أقرأ القرآن ، وظللت أقرأ حتى سمعت صوتًا منبعثاً من جسم المرأة ولكنه صوت رجل يقول : كيف تكون يا بنا إمامًا للناس وتنظر إلي عورات النساء ففتحت عيني فرأيت جزءًا من ساقي المرأة قد انكشف نتيجة ما ينتابها من حركات عنيفة ... فأمرت زوجها فغطاها ثم واصلت قراءة القرآن حتى سمعنا صوت الرجل المنبعث من جسم المرأة يقول في نغمة استعطاف : إنك إمام المسلمين وتريد أن تحرقني وأنا مسلم ... قال الأستاذ فقلت له : إن كنت مسلمًا لما آذيت مسلمة .. قال : وماذا تريد مني ؟ قلت دع هذه المرأة واخرج . قال أمهلني .. فواصلت القراءة . فقال بعد قليل استحلفك بالله إلا أمسكت عن القرآن حتى لا أحترق وسأخرج ... قلت إن كنت خارجًا فاخرج من إصبع قدمها . فأراد أن يساوم فواصلت القراءة فصرخ مستغيثًا وخرج من إصبع قدمها فقامت المرأة كأنما حلت من عقال وكأن لم تكن أصيبت من قبل .
وكان مما حدثنا به الأستاذ المرشد في صدد ما كان من الأستاذ أحمد السراوى معه ؛ أنه في أوائل أيام نقله إلي القاهرة من الإسماعيلية ونعرفه بالأستاذ السراوى أن طلب إليه الأستاذ السراوى أن يصاحبه في قضاء مصلحة له فسار معه حتى دخل معه منزلا فوجد نفسه في مكان يشبه أن يكون عيادة طبيب ، وجاء الطبيب قبالتي وأخذ يحملق في عيني وأنا أنظر إليه في تعجب ولا أدري ماذا يريد مني .. يقول الأستاذ المرشد : وبعد نحو ساعة وقف الطبيب وقال للسراوى : صاحبك هذا قوة روحية خارقة ، ليس في الدنيا الآن قوة تستطيع التغلب عليها ولا أن تعادلها ؛ لقد حاولت معه بجميع الوسائل ولم أتركه إلا بعد أن أحسست أنني إذا زدت علي ذلك لحظة فسأنام أنا .. قال الأستاذ المرشد وبعد أن خرجنا سألت السراوى عن هذه المفاجأة فقال لي لقد لاحظت أن فيك قوة روحية خارقة ، فحاولت أن أعرف مدي هذه القوة ، فاتفقت مع هذا الرجل – وهو أقوي منوم مغناطيسي في مصر – علي مبلغ كبير إذا هو استطاع أن ينومك ، ولم أشأ أن تعرف عن عزمي هذا شيئًا حتى آخاك علي غرة دون أن تستعد . وقد خسر الرجل المبلغ .
بصيرة نافذة ورأي ملهم حول سيد قطب
انتهي سوق الأدب في مصر بل في الشرق العربي كله إلي مجلة " الرسالة " التي كانت تصدر في القاهرة . كان يصدرها أديب كبير هو الأستاذ أحمد حسين الزيات . وقد استطاع هذا الرجل بحكمته أن يجعل مجلته هذه ملتقي أفكار الأدباء وأقلامهم علي اختلاف نزعاتهم ، وتباين وجهاتهم فقد كان يكتب فيها مصطفي صادق الرافعي وهو حامل لواء الأدب الإسلامي ، كما كان يكتب فيها عباس محمود العقاد وكان معروفاً عنه في ذلك الوقت أنه يمثل الجانب الآخر .
وكان لكل من الرجلين مدرسة علي شاكلته ومريدون ، وكان من تلامذة العقاد في ذلك الوقت شاب أديب درعي اسمه " سيد قطب " ولم يكن سيد قطب مجرد تلميذ للعقاد بل كان أقرب تلاميذه إليه وأنصفهم به وأشدهم تشيعًا لأدبه وأفكاره واتجاهاته ؛ حتى إن مجلة الرسالة بعد أن لقي الرافعي ربه ظلت فاتحة صفحاتها للكتابة عن الرافعي ردحًا من الزمن فكان أشد الكتاب تهجمًا علي الرافعي وإشادة بالعقاد هو سيد قطب ... وكان هذا المتهجم علي الرافعي يحز في نفوس الألوف من قراء " الرسالة " الذين كانوا لا يقتنونها كل أسبوع إلا لمقالة الرافعي التي كان الزيات يجعلها دائما المقالة الافتتاحية لكل عدد ، وتأتي من بعدها مقالات العقاد وغيره من أمثال أحمد أمين وطه حسين وأحمد زكي ، وكان الناس يتدارسون مقالة الرافعي حتى إن منهم من كان يحفظها عن ظهر قلب .
علي أن " الرسالة " مهما أفسحت من صفحاتها للأضداد ؛ فقد كان لها من الكرامة والرهبة والوقار ما يجد الكاتب فيها نفسه ملتزمًا بهذا الوقار مهما كان بطبيعته سفًا منحلاً ، وقد يجد هؤلاء فيها سوي " الرسالة " من الصحف مجالا لنشر آرائهم وإبراز إسفافهم . وقد قرأت ي ذلك الوقت في جريدة " الأهرام " مقالا لسيد قطب يدعو فيه دعوة صريحة إلي العري التام وأن يعيش الناس عرايا كما ولدتهم أمهاتهم – وكانت هذه البدعة قد انتشرت في بعض بلاد أوروبا – وقد أثارني هذا المقال إثارة لم أستطع معها أن أقاوم القلم الذي وجد في العقل والمنطق والخلق والحياء ألف دليل ودليل يدحض هذه الدعوة ، ويثبت أنها دعوة تخريبية بهيمية دخيلة .
حملت المقال الذي كتبته وذهبت إلي الأستاذ المرشد – كدأبي في كل مقال أكتبه في غير مجلتنا – وكنت مزمعًا نشره في " الأهرام " مطالبًا إياه بنشره في نفس المكان الذي نشر فيه المقال المردود عليه ....قرأه الأستاذ المرشد ثم أطرق طويلا – علي غير ما عودني – ثم التفت إلي وقال : يا محمود إن المقال متين الأسلوب ، قوي الحجة ، جدير أن ينشر ، وقد سبق أن أجزت لك ، ما نشرته في بعض الصحف اليومية .. ولكتن في هذه المرة مرت بخاطري عدة خواطر أحب أن أعرضها عليك فقال :
أولاً : لا شك أن فكرة المقال فكرة مثيرة تجرح قلب المؤمن .
ثانيًا : كاتب هذا المقال شاب متأثر بالبيئة التي تعرفها ونعرفها جميعًا وهي التي تغذيه بمثل هذه الأفكار .
ثالثًا : إن هدف هذا الشاب من كتابة هذا المقال ليس هو مجرد التعبير عما يؤمن به ، وإنما هو محاولة جذب الأنظار إليه علي أساس عرفهم من أن الغاية تبرر الوسيلة .
رابعًا : إن قراء " الأهرام " عدد محدود بالمسبة لسكان هذه البلاد . وليس كل قراء " الأهرام " قد قرأوا هذا المقال ، فأكثر قراء الأهرام لا يقرأون فيه إلا الأخبار . وأكثر الذين قرأوا المقال لم يستوعبوا فكرته لأنهم اعتادوا قراءة المقالات غير الرئيسية قراءة عابرة .
خامسًا : إذا نشرنا ردًا علي هذا المقال في الأهرام " كانت لذلك النتائج التالية " :
- أ) سيثير نشر الرد اهتمام الذين لم يقرأوا المقال الأصلي إلي البحث عنه وقراءته ، كما سيدفع الذين قرأوه قراءة عابرة أن يقرأوه مرة أخري قراءة متأنية ، وستبرز بذلك فكرة المقال في مختلف المجتمعات وتكون موضوع مناقشة واهتمام .. ونكون بذلك قد عملنا – من حيث لا نقصد – علي تحقيق مآرب صاحب المقال من جذب الأنظار إليه وجعل اسمه علي الألسنة .
- ب) نكون – من غير قصد – قد تسببنا في لفت الأنظار إلي لون من الرذائل ربما علقت به بعض النفوس الضعيفة ولو لم نرد عليه لمرت الدعوة إلي هذه الرذائل في غفلة من الناس غير معارة أي اهتمام ولطمرت في طيات النسيان .
- ت) الرد نوع من التحدي ، والتحدي يخلق في نفس المردود عليه نوعًا من العناد ، وهذا العناد يجعله يتعصب لرأيه مهما اقتنع بخطئه ، ونكون بذلك قد قطعنا عليه الرجعة ؛ وفي هذا خسارة نحن في غني عنها .
وهذا الكاتب شاب وترك الفرصة أمامه للرجوع إلي الحق خير من إحراجه ... وما يدريك لعل هذا الشاب يفيق من غفلته ، ويفئ إلي الصواب ، ويكون ممن تنتفع الدعوة بجهوده في يوم من الأيام .
ثم قال : ما رأيك في هذه الخواطر ؟ ..
قلت : إنها مقنعة تمام الإقناع .... ومزقت الرد بين يديه .. ولا داعي للإشارة إلي ما كان من أمر هذا الشاب ،وما يسره الله من اليسري حتى صار علمَا من أعلام الدعوة ، ثم كان من شهدائها ... وإن كان شيء من نبوءة الأستاذ المرشد رحمه الله لم يتحقق في حياته .
ضوء علي بعض شخصيات الدعوة
- أحمد رفعت :
كان ذلك في عام 1937 . شاب لم يتجاوز العشرين ، كنت تلمح في قسمات وجهه وسامة الإيمان ، وفي بريق عينيه الذكاء والنضج ، وفي نبرات حديثه تحس الطيبة المنبعثة من قلب سليم ، كما تشعر بحماس جارف وتفان في سبيل فكرته التي يؤمن بها – وكان شابًا صغيرًا إلا أنه جاد في كل أحواله لا يعرف الهزل ولا يميل إليه ، ولا يعترف به .. تحس في حركاته المنطلقة انطلاق السهم مدي ما يعتمل في نفسه من آلام وآمال . يحسن الحديث ، ويقدر علي الإقناع .. إذا رأيته أحببته ،وإذا خالطته ازددت له حبًا ... لم يكن ينقصه مع كل هذه المزايا إلا الخبرة بالحياة والتجارب التي تجعل نظره الذكي نظرًا شاملاً ... كان طالبًا في مستهل الدراسة بكلية التجارة في القاهرة ، وكان ممن تعرفوا علي الدعوة بعد انتقالها إلي دار ميدان العتبة ، إلا أنه كان داعية مثمرًا في كليته ، و كان والده موظفاً في القاهرة ويقيمون في حي المنيرة .
- صديق أمين :
صنو أحمد رفعت وزميله في الكلية وفي الإخوان وفي السن وفي السنة الدراسية وفي المستوي الثقافي والعقلي ، ولم يكونا يفترقان إلا وقت النوم ، ولم يكن يذكر أحمد رفعت إلا ذكر معه صديق أمين فيقال : رفعت وصديق ،ومعني ذلك أن لرفعت القيادة ... وصديق من سكان المنيرة أيضًا ، ووالده مقاول ، وهو كصنوه شخصية ذكية محببة علي إيمان وعزم .
- عزت حسن :
شخصية إخوانية قديمة الصلة بالدعوة لم أسعد بلقائه إلا عفوًا ، ولكني كنت معجبًا به لما كنت أقرأ له من مقالات في مجلة " الإخوان المسلمون " التي كانت تصدر قبل اتصالي بالدعوة . كان له قلم سيال ، وأسلوب طلي ، وتحس حين تقرأ له أنك تقرأ لعاشق شغفته الدعوة حبًا ، وأفنت قلبه صبابة . وإذا قرأت له أحسست أنك تقرأ لأديب كبير ، ضليع في اللغة والأدب . ولقد كنت أتصوره – وأنا أقرأ له – أنه من أفذاذ من تخرجوا في كلية الآداب أو دار العلوم حتى فوجئت بأنه ليس علي الصورة التي تصورتها وإنما هو رجل لم تسعفه الظروف بأن يواصل مراحل التعليم فاقتصر علي المرحلة الابتدائية ، وانسلك في سلك الوظائف الصغيرة حتى كان في تلك الأيام معاون سلخانة طوخ ، وكان إذ ذاك في العقد الرابع من السن تقريبًا ، وكان مقيمًا في طوخ ، ولا يحضر إلي القاهرة إلا لمامًا ... فإذا حضر استقبله الأستاذ بالعناق ؛ لأنه كان يحبه ، ويقدر فيه جمال الأسلوب ، وحسن الأداء ، وفيض الروحانية ... وكان الأستاذ المرشد – باعتباره من أعلم الناس بأسرار اللغة وآدابها ، ومن أقدرهم علي التعبير عنا في نفسه بل وفي نفس غيره سواء باللسان أو بالقلم – كان قديرًا علي فهم الرجل من كتابته ، ولقد كنا نحب هذا الرجل لحب الأستاذ المرشد له .
طالب في كلية الحقوق من أسرة مرموقة في طما الصعيد ، وكان أكبرنا – نحن الطلبة – سنًا وجسما ، متفان في الدعوة ، وكان عنوانًا كريمًا لدعوته ، وكان من الأغنياء الأسخياء ، وكنا نعده في ذلك الوقت عثمان الدعوة وقد اتخذناه – بتوجيه من الأستاذ المرشد – رئيسًا للجنة الطلبة ... ومع كل هذه المميزات الطيبة ، فقد كانت تغلب عليه روح التطرف الناشئة عن البراءة المطلقة كبراءة الطفولة ؛ فلا يكاد مثلا يسمع أو يقرأ أن المسلمين الآن لا إمام (خليفة) لهم ، وأن لصلاة الجمعة علاقة بالإمامة ؛ فيمتنع عن صلاة الجمعة حتى يصير للمسلمين إمام – وهو أم يحتاج في تحقيقه إلي أجيال وأهوال – ومع ذلك فإنه كان يبذل الكثير في سبيل دعوته ، وكان محببًا إلينا جميعًا ، ومحببًا إلي الأستاذ المرشد .. وكان صديقه الذي لا نكاد نراه إلا معه هو الأخ الكريم محمد فهمي أبو غدير ، زميله في الكلية ومن أسرة كريمة في الواسطي أسيوط ، وقد التحقا بالدعوة معًا أو لعل فهمي كان أسبق ، وعلي كل فهو يشترك مع صنوه حسن في كل صفاته الطيبة ، وفي درجة إيمانه بدعوته ، لكنه كان يختلف عنه في أنه كان أوسع أفقاً في فهم الفكرة الإسلامية وفي معالجة الأمور بمقاييسها ، وبهذه المرونة كان فهمي أكثر إنتاجًا لدعوته وكانت مناقشاته أكثر نجاحًا ، وكان محببًا كثير الأصدقاء ، حتى من غير الأوساط الإسلامية – وكثير من هؤلاء – بهذه المرونة – صار من الإخوان ، ومن لا يصر منهم صار من محبي الدعوة وأصدقائها .
وكان مدرسًا بمدرسة التجارة المتوسطة في القاهرة في ذلك الوقت ، وكان بالطبع أكبر منا سنا ، وقد أخبرنا الأستاذ أن عيسي كان من أسرة مسيحية أسلمت جميعها عن اقتناع .. وكان الأستاذ المرشد يحب عيسي ويقربه ويؤثره ، ويقدمه دائمًا للحديث إلي الإخوان ، لأنه كان محاضرًا لبقاً ، ومحدثاً طويل النفس ؛ وكان عيسي مندمجًا في منظمات الإخوان فكان أحد أعضاء الكتائب ؛ إلا أنه لم ينتظم في سلك الجوالة .. وكان كأنما يري أنه جيل غير جيل الطلبة ؛ فلم تكن بينه وبيننا نحن الطلبة صلات وثيقة ترفع فيها المجاملات ؛ مع أنه كان معنا من هو أكبر منه سنًا وهو الأخ الكريم الأستاذ محمد حلمي نور الدين وكان نجله زميلا لي بالكلية ؛ ومع ذلك كنت إذا رأيته بيننا لم تحس إلا أنه طالب معنا .. وليس معني ذلك أنه كانت بيننا وبين الأخ عيسي جفوة ، بل إننا كنا نحبه ونقبل عليه وكان يبادلنا هذا الحب والإقبال .
أقدم منا جميعًا صلة بالدعوة ، وقد التحقنا بالدعوة فوجدناه " شاعر الإخوان " وممثل الأزهر والطريف أنه كان زعيما لطلبة الأزهر ومع ذلك لم يلتحق حتى ذلك الوقت من الأزهريين – الطلبة – بالدعوة غيره وآل شريت وعبد اللطيف الشعشاعي وعبد الباري عمر خطاب – ومع ذلك كان من أقرب الشخصيات إلي الأستاذ المرشد . كان يكبرنا بسنوات قليلة إلا أنه لم يكن يحس بعد تخرجه لا بإحساس الطالب ، ولا أعتقد أنه يحس بغير ذلك حتى الآن ؛ لأن ميزة إحساس الطالب هي تلك الحيوية الدفاقة في أفكاره وتصرفاته وآماله .التحقنا بالدعوة فوجدنا نشيدها من وضعه ، وإذا قرأت النشيد استطعت أن تعرف منه شخصية الباقوري وأفكاره ، وما يعتمل في نفسه – وقد أثبتنا هذا النشيد في فصل سابق . وقد قضت الظروف بأن تكون مجموعة من الإخوان منها الباقوري وأنا علي اتصال شبه دائم فترة طويلة تزيد علي العام ، وقد استطعت خلالها أن أحس حقاً بأن جوانح هذا الشاب إنما تنطوي علي قلب شاعر . ولست أقصد بذلك ما تعارف عليه الناس من الاتجاهات اللفظية للشعر ، وإنما أقصد بالقلب الشاعر ، القلب المترع بالمشاعر النبيلة ، والعواطف الجياشة ، والأحاسيس المرهفة الدفاقة .. ومعني أن إنسانًا تنطوي جوانحه علي قلب شاعر ؛ أن كل ما يصدر عنه لا نراه إلا مصطبغاً بألوان هذه العواطف والأحاسيس وأنه يتجه حيث الحب والامتزاج النفسي ، والانصهار الروحي ، والآمال المحلقة .
ظللنا فترة طويلة في دار العتبة نقضي اليوم كله منذ الظهيرة حتى منتصف الليل بدار المركز العام ، وكثيرًا ما كان الأستاذ المرشد يكون معنا ؛ ولم يكن لنا غذاء إلا ما يحضره لنا " عبد الوهاب فراش المركز العام " من فلافل شارع عبد العزيز حتى صار شعارنا شطرة قالها الباقوري بعد أن أخذت منه الفلافل كل مأخذ : " أم الفلافل ملجأ الإخوان " . ومن الطرائف أن الأستاذ المرشد كان بعد الغذاء يقيل ساعة علي إحدى مقاعد المركز العام وينصحنا أن نفعل مثله إلا أننا لم نكن نفعل لقائنا الوقت في الحديث معًا ، ثم يستيقظ الأستاذ من النوم ونصلي العصر ؛ فيتذكر أن ستقام الليلة – بعد المغرب – ندوة بالدار أو محاضرة أو مناظرة أو مؤتمر فيقول للباقوري : يا شيخ أحمد اعمل لنا قصيدة تلقيها الليلة بمناسبة كذا ، فيجلس الباقوري في ناحية وفي خلال الساعة الباقية علي ميعاد الحفلة يخرج لنا بقصيدة عصماء قد يحتاج غيره لإعداد مثلها إلي أيام وأسابيع .
وبمناسبة هذا الغداء بالمركز العام ، كنت أذهب إلي المركز العام في مثل هذا الوقت وأكون بالصدفة صائمًا صيام نفل ؛ فيتفقدني الأستاذ المرشد علي مائدة الطعام فلا يجدني فيسأل : أين ذهب فلان فيقولون له إنه أخبرنا أنه اليوم صائم ، فيدعوني ويقول لي : ما هدفك من هذا الصيام ؛ فأقول : ثواب الله فيقول لي : إذن فكل معنا وستحصل علي ثوابين معًا ؛ ثواب الصيام بالنية ،وثواب أعظم منه بإدخال السرور علي إخوانك بمشاركتك لهم في الطعام . ومع هذه الشاعرية الدافقة في الباقوري فإنه لم يخرج لنفسه ديوانًا ، ولم يسمح لنفسه أن يلقي قصيدة خارج نطاق الإخوان في ناد من النوادي ولا في حفل من الأحفال ولا في صحيفة ولا في مجلة ؛ وكثيرًا ما كنت أعتب عليه في ذلك ، وأنا أعتقد لو أنه أراد لنفسه هذا الاتجاه لكان من أشهر الشعراء .
ويبدو أن قلبه الشاعر كان يتحكم في إرادته ، وأذكر بهذه المناسبة أنه في إحدى الليالي التي كان يقضيها معنا في الجيزة في منزل الأخ عبد الفتاح البساطي – وكثيرًا ما كنا نترك بيوتنا الأيام والليالي سواء منا من كان يسكن في الجيزة مثلي أو يسكن في القاهرة مثل عبد الحكيم عابدين وعبد المحسن الحسيني ومحمد عبد الحميد أحمد الباقوري ، ونقضي تلك الأيام والليالي معًا في بيت البساطي – في إحدى تلك الليالي بينما كان الباقوري يعبث بكتب علي مكتب عبد الفتاح إذا به يفتح كتابًا منها وينظر فيه ثم يتفجر مكبرًا مهللاً وهو يقول : الحمد لله وجدت ما أعياني البحث عنه . فالتفتنا إليه وسألناه ما هذا الذي أعياك البحث عنه وما هذا الذي وجدته ؟ قال : إني أقبل يد الأستاذ المرشد وبعد كل مرة أقبل فيها يده ، أسأل نفسي هل هذا عمل يرضاه الإسلام وهل لهذا العمل سند من السنة ؟ ومع ما يتلجلج في نفسي من هذا التصرف من شكوك ومع ما وصلت إليه من يأس من العثور علي أثر في السنة أستند إليه ، فقد كنت دائمًا لا أستطيع أن أقاوم نفسي في تقبيل يد الأستاذ ... والآن وأنا أعبث في هذه الكتب وليس في نيتي البحث عن شيء ، تناولت هذا الكتاب وفتحته فتحًا عشوائيًا فإذا بعيني تقع علي هذا الحديث – (كان كتاب رياض الصالحين للإمام النووي) وقرأ لنا الحديث وكان راوي الحديث علي ما أذكر عبد الله بن عمر رضي الله عنهما ، وفي سياق الرواية يقول " فتقدمت إلي رسول الله صلي الله عليه وسلم فقبلت يده ثم ساق الحديث . ولقد كان لهذا الحديث أجمل الوقع في نفوسنا جميعًا فقد كان يتلجلج في نفوسنا ما كان يتلجلج في نفس الباقوري ، ولا نملك مع ذلك إذا التقينا بالأستاذ إلا أن نقبل يده – علي كره منه ومقاومة شديدة – فكان هذا الحديث إرضاء لعقولنا في عمل كان ينطلق من صميم قلوبنا متخطياً حواجز العقل والقياس والمنطق . ولا أدري حتى اليوم السبب الذي من أجله عزف الباقوري عن مجاراة طبيعته الشعرية ومحاولته إخفاء هذه الطبيعة عن المجتمع ، أهو السبب الذي من أجله نسب إلي الإمام الشافعي قوله :
ولولا الشعر بالعلمـاء يــزري
- لكنت اليـوم أشعـر من لبيــد
أم هو سبب آخر ، ولكن الذي أتصوره أن مصادرة المرء لطبيعة أصيلة فيه ، قد تؤدي – دون أن يريد ودون أن يحس – إلي إبراز عواطفه وانفعالاته في صورة مشوهة لا يستطيع تداركها ولا تهذيبها ولا السيطرة عليها ، مع أنه لو جاري طبيعته مع شيء من القصد والمراقبة لأتت تصرفاته وتعبيراته عما في نفسه سديدة محكمة مثيرة لإعجاب كل قارئ وكل سامع ، ولصار صاحبها من الناس ملء السمع والبصر ... وقد يعجز الكاتب الأديب عن التعبير عن معني عميق الغور في نفسه إذا لزم نفسه التعبير النثري ، في حين يجد المجال فسيحًا في عالم الشعر في لمس هذا المعني وتصويره ، ذلك أن الشعر يسع من العواطف مالا يتسع له النثر . وإذا كان للشاعرية من المزايا ما يعجب ويبهر ، فإن لها جانبًا قد يبعث علي الحيرة ويثير الدهشة ، فلقد كان الباقوري مع ذلك شطحات تلقي به خارج المركز العام فنفتقده بالشهور حتى نكاد في غمرة العمل المتواصل للدعوة أن ننساه ، لكن الأستاذ المرشد لم يكن ينساه بل كان كأنما يتغافل عنه حتى إذا احتاج إليه بعث في طلبه فحضر بين يديه وألقي علي كاهله من أعباء الدعوة ما شاء أن يلقي .
أوردت هذه الأسماء التي ألقيت شعاعًا من الضوء علي كل منها لأن لها اتصالا بعنوان هذا الفصل ولكن عبد الحكيم عابدين لا علاقة له ولا اتصال بهذا العنوان وإن كانت فصول قادمة إن شاء الله شبيهة بهذا العنوان سيكون هو قطب رحاها ، فرأيت أن أختم به تلك الأسماء في معرض إلقاء الضوء عليها ، لاسيما وذكر الباقوري يقتضي ذكر عبد الحكيم عابدين لأنهما فرسا رهان ، ورضيعا لبان ، نهلا من منبع واحد ، وصدر بعد ارتواء ، تجمعهما سجية أدبية ، وسليقة عربية ، وقلب شاعر يفيض بالعواطف الدفاقة والأحاسيس المرهفة . وقد سبق في أوائل هذه المذكرات أن نوهت بما طبع عليه عبد الحكيم عابدين من شاعرية حين تعرفت عليه في أول لقاء لي معه عن طريق إسماعيل الخبيري . وحين أنشدني قصيدة طويلة يصف فيها وسائل الطريقة الصوفية التي كان ينتسب إليها في تربية مريديها وتهذيب نفوسهم ، ولازال لهذه القصيدة وقع في نفسي حتى اليوم لأنها فريدة في بابها ، فريدة في هدفها ، بعيدة المدى في دلالاتها ، فهي من الناحية الشعرية لا يكاد يصدق صدور مثلها جزالة ورصانة وتصويرًا من شاب لا يجاوز العشرين فضلا عن أن هذه الوسيلة في تربية النفس هي في ذاتها من السمو بقدر ما هي من العنف بحيث لا تتوق إليها ولا تتحمل مشقة معاناتها إلا نفس صافية شفافة عركت صاحبها الحياة وفعلت بها الأفاعيل ، ولا تكون هذه النفس عادة إلا نفس كهل علي الأقل إن لم تكن نفس شيخ ... فإذا كان الذي يضع نفسه تحت طائلة هذه المحاسبة العنيفة للنفس شابًا غض الإهاب فإنه إذن لشاب في نضج الشيوخ فهما وصبرًا وعقلا .. ولذا فقد علقت نفسي هذا الشاب . منذ هذا اللقاء الأول فقد كشفت لي قصيدته هذه عن معدن نفسه ودخائلها واعتمالاتها واتجاهاتها .. ولعله بادلني نفس الشعور حين لاحظ وقع هذه القصيدة في نفسي ومناقشتي له في بعض أبياتها ومقاطعها . وحين أحس مني تذوقاً للشعر من الناحية الأدبية وتذوقي لمعاني القصيدة من الناحية الصوفية .
كانت كلية الآداب كما قدمت تقوم علي الثلاثي الإخواني محمد عبد الحميد أحمد وعبد المحسن الحسيني وعبد الحكيم عابدين . وليس معني هذا أنهم وحدهم كانوا الإخوان بها فقد كان بها إخوان كثيرون ولكن هؤلاء الثلاثة كانوا عماد الدعوة وركيزتها ، وكان الثلاثة في صف دراسي واحد وفي قسم اللغة العربية في مقدمة صفهم ، وكان لكل منهم ميزة تخصص لها : أما محمد عبد الحميد فكان حكيما ينطق بالكلمات القصار أو يكتبها فتري فيها روعة الفكرة وجمال الابتكار .. وأما عبد المحسن فكان مجادلا عن الدعوة قوي الإقناع ، وكان همه منصبًا علي محاولة ربط الدعوة بالتاريخ الإسلامي ، ولذا فإنه كان كثير الغوص في مراجع التاريخ ...
وأما عبد الحكيم فكان له طريق وحده ، كان يشارك زميليه في القيام بأعباء الدعوة في الكلية إلا أنه كان قليل الحضور إلي المركز العام أيام كان في شارع الناصرية ، ولعله مع إيمانه بالدعوة كان لا يزال مشدودًا إلي طريقته الصوفية ... كما أن نضوجه الأدبي ، وسرعة بديهيته ، ونزعته الشعرية الأصيلة قد قربته من أستاذته فكان طه حسين يأنس إلي الجلوس معه ، ويناقشه ويجادله ويطارحه الشعر ... ومعني ذلك أنه وإن شغل بذلك عن ارتياد المركز العام في ذلك الوقت ؛ فإنه كان يسد ثغرة كان لابد من سدها وهي تقديم الدعوة إلي الأساتذة في الوقت الذي كنا نحن فيه مشغولين بنشرها بين الطلاب . ومثالا لذلك نومئ إلي المظاهرة التي أشرنا إليها في الفصل الأول من هذا الباب والتي دعا إليها الإخوان في الجامعة احتجاجًا علي الكتابين اللذين قررتهما كلية الآداب علي قسم اللغة الإنجليزية فيها وفيهما سب للنبي صلي الله عليه وسلم وافتراء وقح عليه .. فنقول : إنه كان من آثار هذه المظاهرة أن ألغي الكتابان وأغلقت الجامعة إلي أجل غير مسمي وظلت مغلقة والدكتور طه حسين عميد الكلية معتصم ببيته وأعلن أنه لن يغادره إلي الجامعة إلا في رفقة الطالب عبد الحكيم عابدين ... وقد ذهب عبد الحكيم إلي الدكتور طه حسين وصحبه إلي الجامعة حيث التقيا بالأستاذ أحمد لطفي السيد مديرها في مكتبه فأخذ لطفي بك يسأل عبد الحكيم عن دعوة الإخوان .. وشرع عبد الحكيم يشرح له الفكرة ووسائلها وأهدافها ولكن بدا بعد هذه الإفاضة في الشرح كأن الأمر لم يتضح للطفي بك كما ينبغي ولاحظ الدكتور طه ذلك فقال : يا لطفي بك .. هل تريد أن تعرف كل شيء عن الإخوان المسلمين قال : نعم .. قال : سأختصر لك ذلك في كلمتين اثنتين : إنهم يريدون أن يستردوا الأندلس فكان هذا من طه حسين فهما قد استوعب فيه من أهداف دعوة الإخوان ما لم يستوعبه كثير من المنتمين إليها .
هذا ولقد شاءت الظروف أن أعرف عبد الحكيم عن قرب ... وقد عرفني بوالده حين حضر إلي القاهرة لزيارته وكان رجلا أميا فارع الطول ، وسيما تلمح في بريق عينيه ، وفي قسمات وجهه سلامة القلب ، ونقاء السرية وتحس في ثنايا حديثه وفي جرس صوته براءة البداوة ، وتستطيع أن تري قرارة نفسه علي طرف لسانه ، لا يحول بينهما حائل من مكر أو خداع .. ولكن لقائي مع الرجل لقاء عابرًا بحيث يتصنع فيه ما شاء من التصنع ، بل كانت رفقة الأيام والليالي ذوات العدد ، فقد كنا معشر هذه المجموعة من الإخوان دار كل منا هي دار جميعنا وجيب كل منا جيب جميعنا . وقد تركت هذه البداوة بذكائها اللماح ، وعواطفها الفياضة ، وبراءتها الطفلية الطاهرة ، طابعها الوراثي في نفس عبد الحكيم وفي كل ما يأتي من قول وعمل وسكون وحركة وتخيل وتصور ومع أن للبداوة جمالا عبر عنه المتنبي بقوله :
حسن الحضـارة مجلوب بتطويـة
- وللبداوة حسن غير مجـلــوب
فإن واقع الحياة قد يصطدم بها ويتمرد عليها ، فالصراحة – وهي من خصائص البداوة – وإن كانت في ذاتها فضيلة إلا أنها – علي إطلاقها – قد لا تستقيم مع طبيعة الحياة ، ولعل مما يشير إلي هذا قول رسول الله صلي الله عليه وسلم " لو تكاشفتم ما تدافنتم " فطبيعة التعامل مع الناس تقتضي أن لا يفيض المرء بكل ما في نفسه من عواطف بل عليه أن يستبقي في قرارة نفسه قسطاً كبيرًا من شعوره ولا يبرز منه إلا بقدر ، وفي ذلك يقول الهادي إلي أقوم سبيل صلي الله عليه وسلم " أحبب حبيبك هونًا ما عسي أن يكون بغيضك يومًا ما . وأبغض بغيضك هونًا ما عسي أن يكون حبيبك يومًا ما " .
ومن هذا الجانب النبيل من جوانب البداوة التي طبع عليها أتي عبد الحكيم ، ومن مأمنه يؤتي الحذر . ولقد كان الباقوري ممن تجيش صدورهم بفيوض غامرة من العواطف المتأججة والأحاسيس لكنه كان يحجزها بسد منيع من الخوف ، الخوف من النقد .. حتى إذا أمن هذا الجانب ، ووجد نفسه بيننا في منزلنا بالجيزة – حيث تجتمع المجموعة التي نوهت عنها آنفا – انطلق علي سجيته والتقت سجيته بسجية عبد الحكيم وتبادلا من العواطف ما كان الأخ محمد عبد الحميد يسميه " بالشاعريات " وكما كان لهذه " الشاعريات " في الدعوة آثار طيبة لأنها لم تخرج عن كونها مظهرًا من مظاهر الود الذي تطرب له النفس الشفافة المشرقة ، إلا أنه اتخذ بعد ذلك ذريعة لذوي النفوس الحاقدة والقلوب المريضة مما جر علي الدعوة كوارث ، وما كان أغنانا عن حوض غمارها . ولا ينبغي أن ننسي – في غمار الضوء علي شخصية عبد الحكيم عابدين – أن نذكر ديوانه " البواكير " الذي نشره في خلال تلك الفترة من دار العتبة ، وقد لقيت هذه البواكير من الأوساط الأدبية علي اختلاف نظراتها ومستوياتها ترحيبًا وتقديرًا حيث كان أكثرها ثمرًا جنبا في تمام النضج وكمال الازدهار ، كما تلقفته الأوساط الإسلامية في شوق باعتباره أول ديوان إسلامي تغني بكل معاني الدعوة ، ونظم من أهدافها أناشيد رائعة هتف بها الصغير والكبير وردده في اعتزاز القريب والبعيد .
خيوط الفتنة
أطلقت " الفتنة الأولي " علي هذه الفتنة التي أنا بصدد الحديث عنها ، وأنا أعلم أن فتنة قبلها وقعت في الإسماعيلية قبل نزوح الأستاذ المرشد إلي القاهرة ، ولقد سمعت عن هذه الفتنة وقرأت كتيبا كان ضمن المطبوعات المهملة بدار المركز العام بشارع الناصرية .. وقد فهمت من قراءتي لهذا الكتيب أنها كانت أسلوبا مألوفا مكررًا يحدث في كل مجتمعاتنا حين يبعث الحقد بعض ذوي النفوس الضعيفة علي الكيد لرجال أحبهم الناس والتفوا حولهم .. ووجد هؤلاء الحاقدون أنفسهم أهون علي الناس من أن يعيروهم اهتمامًا فلم يجد هؤلاء إلي الكذب والافتراء والاختلاق أملا في فض هؤلاء المحبين عن محبوبهم ، ورجاء تمزيق صفهم حتى يجدوا في هذا التمزق راحة لنفوسهم ، وإرضاء لنزوات الحقد المشتعل في قلوبهم ... وأمثال هؤلاء قلما آمالهم بل سرعان ما ينكشف زيفهم ، ويفتضح أمرهم ، وينقلبوا خاسرين دون أن تمس الدعوة بأذى أو ينتقص منها شيء وهذا هو ما حدث فعلا في الإسماعيلية .
أما هذه الفتنة فهي نوع آخر ، مثلها ومثل سابقتها كمثل بيت معمور بالسكان شبت النار خارجه ومدت ألسنتها نحوه ، فتنبه الناس من خارجه ومن داخله يكافحونها حتى أخمدوها دون أن تنال من البيت شيئًا ، وبعد فترة من الزمن شبت النار من داخله ولم يحس بها السكان إلا بعد أن استشرت وتأججت بما أنت عليه مما جاورها من أثاث ، فقام أهل البيت يوقظ بعضهم بعضًا ليتعاونوا علي مكافحتها بعد أن كادت تأتي علي ما بالبيت كله ، فكان علي أهل البيت وحدهم عبء مكافحتها لأن أحدًا ممن هم خارج الدار لا يعلم شيئًا عما يعانيه أهل البيت ... وكان الأدهى والأمر أن عددًا كبيرًا من سكان البيت رفضوا التعاون مع المكافحين مستمرئين ما يصل إليهم من دفء بعثته النيران قبل أن تصل إليهم بلهيبها ، فصارهم المكافحين همين هم مكافحة النار وهم ركل هؤلاء المستمرئين بأقدامهم حتى يتحركوا قبل أن تأكلهم النيران .
لم تنشأ هذه الفتنة عن فساد في النفوس ، أو ضعف في الأخلاق ، أو استهتار بالدين ، ولا عن تسابق إلي مغانم أو تلهف علي عرض من أعراض الدنيا .. وإنما نشأت بين مجموعة بلغت نفوسها من الصفاء درجة الشفافية ، و سمت أرواحهم حتى حلقت مع الملائكة ... لا أعتقد أنه كان علي وجه الأرض في ذلك الوقت قوم أصفي نفوسًا ولا أتقي قلوبًا ولا أعلي هممًا ، ولا أشد حبًا للإسلام ولا أسمح بالنفس والمال في سبيله من هذه المجموعة التي أوقدت نار هذه الفتنة وكانت هي وقودها . وليس أشد علي دعوة من الدعوات أو مجتمع من المجتمعات ، من فتنة تنشأ من داخله .. إنها الخطر المدمر الفتاك ، الذي إذا نجح ينسف الجميع نسفاً ويذره دفاعًا صفصفًا . ولقد هوجمت الدولة الإسلامية ، تأليت عليها الأمم من كل جانب ، وتناسي المختلفون من الأعداء اختلافاتهم وجمعوا قوتهم ليضربوا الأمة الإسلامية ضربة رجل واحد ، فما قال كل ذلك من صلابة قناتها ولا أوهن من عزمها ولا انتقص من سلطانها ... ولكن الذي فعل بالدولة الإسلامية الأفاعيل ، وأوقف المد الإسلامي الذي عجز الأعداء عن وقفه هو تلك الفتن التي نشأت بين الحين والحين من داخل الدولة . وقد تنشأ هذه الفتن الداخلية عن حسن قصد أو سوء نية إلا أنها تتساوي في نتائجها المدمرة وفي أخطارها التي تصعب الإحاطة بها .
أما فتنتنا هذه التي نحن بصدد الحديث عنها فإنها كانت فتنة داخلية منبعثة من حسن قصد ، وصادرة عن قلوب لا يشك في إخلاصها ... وكان الأستاذ المرشد كثيرًا ما يحذرنا من مداخل الشيطان الخفية إلي قلوب الصالحين ، ومن افتنانه في الاحتيال علي هذه القلوب فيدفع بها إلي المغالاة في الخير تخرج بها حدود الخير وتلقي بها في بحار الشر ، ويذكر بقول رسول اله صلي الله عليه وسلم " إن هذا الدين متين فأوغل فيه برفق فإن المنبت لا أرضًا قطع ولا ظهرًا أبقي " . كانت الدعوة في تلك الحقبة من الزمن في أزهي أيامها ، تشق طريقها في جميع البيئات والأوساط كما تشق السفينة البحر الهادئ والريح رخاء ، كل يوم تخرج بربح من الرجال وشباب يقبلون علي الدعوة ويبايعون عليها ... وكادت الدار – علي سعتها – تضيق بالوافدين ، وأصبح للدعوة صوت مسموع في جميع القضايا سواء علي المستوي المصري والمستوي العربي الإسلامي ، وصدرت رسالة " نحو النور" تعالج كل هذه القضايا علاجًا واضحًا عمليًا لا لبس فيه ، وكأن الدعوة كانت تتهيأ لتأخذ مكانها القيادي .
بينما نحن في ذلك إذ بمجموعة من أطهر الإخوان قلبًا تستوقف هذا الركب السائر لتوجه إليه حديثاً ، فوقف الركب يستمع فإذا بالأخ أحمد رفعت يعترض علي كل ما تتخذه الدعوة من أساليب ، ويدعو الإخوان إلي أساليب أخري ... ولم ير الإخوان في هذا الاعتراض ما يلفت النظر فلكل أخ الحق في نقد ما يري أنه يستحق النقد وتنشأ عن هذا النقد مناقشة بين الأطراف تنتهي إلي الطريق الأقوم . وفي هذا كسب كبير للدعوة ونماء وثراء . ولكننا حين أخذنا في مناقشة أحمد رأيناه جانحًا – علي غير عادته – إلي التعصب لرأيه ، رافضًا الاستماع إلي حجج من يناقشه ثم رأينا مجموعة من حوله تتعصب لأحمد وتكاد تهدد من يعارضه ، وبدا لنا أحمد فيمن حوله كأنما هو شيخ حوله مريدوه يأمر فيهم وينهي وهم يسارعون في مرضاته ... ومع كل هذا لم تعر الأمر اهتمامًا خاصًا وانطلقنا في طريقنا ولكننا رأينا بعض من كان ينطلق معنا من جنود قد توقفوا ليسيروا في ركاب أحمد ... ورأينا أحمد ومجموعته لا يدعون اجتماعًا عامًا أو خاصًا ينعقد في الدار إلا وفرضوا أنفسهم عليه وتحدث فيه أحمد بالأسلوب المهاجم الذي لا يقبل مناقشة ولا معارضة ، فتعطلت بذلك الاجتماعات والدروس حتى محاضرة الثلاثاء .
ورأيت الأستاذ المرشد مهمومًا وحاولت مواساته فطلب إلي أن أحاول إقناع أحمد ، لأن الأستاذ كان يعلم أن لي مكانة خاصة في نفس أحمد ، فجلست إلي أحمد وحاولت إقناعه لكنني لاحظت أنه يعاملني كأنما لم يعرفني من قبل ، بل أحسست كأن المجموعة التي حوله تحاول التحرش بي ، فأخبرت الأستاذ المرشد بما كان من أمره معي ، فازداد الأستاذ همًا وحزنًا وطلب إلي لأول مرة منذ بايعته أن أكون بجانبه في هذه المحنة ، وأن أبدأ بإعداد كلمة ألقيها في اجتماع الكتيبة الأولي ، ففعلت وكانت كلمة تدور حول جمع الكلمة ونبذ ما يدعو إلي الفرقة ، وأن الاجتماع علي نصف الحق خير من التفرق علي الحق كله وتمثلت في ذلك بقول كرم الله وجهه " كدر الجماعة خير من صفو الفرد " وكان لهذه الكلمة تأثير في مجموعة من إخوان الكتيبة حصنتهم من أن ينجرفوا في تيار الفتنة . والظاهرة العجيبة التي لاحظتها هي أن دعوة أحمد رفعت كانت تلقي كثير من الإخوان آذانًا صاغية واستجابة سريعة ، ولا أدري أكان هذا لقوة حجته وبراعة إقناعه ، أم لأن دعوته المتطرفة صادفت فترة كان الإخوان فيها في حالة خلوة روحية نتيجة للنظام التربوي العنيف الذي أخذهم الأستاذ المرشد به في تلك الأيام فكانوا يتمنون أن يجدوا من يدعوهم إلي تخطي رقاب الزمن ليحققوا ما احتبس في صدورهم من آمال ، فما كادوا يسمعون أحمد رفعت حتى وجدوا دعوته صدي لما يتردد في جنبات نفوسهم فأقبلوا عليه .
- مطالب أحمد رفعت :
وعقد الأستاذ المرشد جلسة ضمت صفوة الإخوان وتحدث ما شاء الله أن يتحدث ثم دعا أحمد رفعت ليحدد اعتراضاته علي الإخوان ومطالبه التي يريدها فقام أحمد وحدد اعتراضاته ومطالبه في ثلاثة بنود :
- الأول : أنه يري أن الإخوان تجامل الحكومة وتتبع معها سياسة اللف والدوران ويجب علي الإخوان أن يواجهوا الحكومة بالحقيقة التي قررها القرآن في قوله " ومن لم يحكم بما أنزل الله فأولئك هم الكافرون " .
- الثاني : موضوع المرأة وإلزامها حدود الإسلام في عدم التبرج والاحتشام ، يري أحمد أن الإخوان لم يتخذوا إجراء ما في شأنه مكتفين بدعوة المرأة إلي ذلك بالنصيحة والكلام دون العمل . ويري أحمد أن يسلك الإخوان بصدد هذا الأمر الخطير مسلكًا عمليًا بأن يوزع الإخوان أنفسهم في شوارع القاهرة ومع كل منهم زجاجة حبر كلما مرت أمامه فتاة أو امرأة متبرجة ألقي عليها من هذا الحبر ، حتى يلطخ ملابسها فيكون هذا رادعًا لها .
- الثالث : موضوع فلسطين : يري أحمد أو وقوف الإخوان في مساعدة مجاهدي فلسطين عند حد الدعاية لهم جمع المال لهم هو تقصير في حق القضية وقعود عن الجهاد وتخلف عن المعركة وعلي الإخوان أن يتركوا أعمالهم ويتطوعوا في صفوفهم وإلا كانوا من الخالفين .
ونصدي بعض الحاضرين للرد علي أحمد في الاعتراضيين الأولين فقالوا :
إن مواجهة الحكومة يجب أن لا تكون إلا بعد توفر عاملين :
- توعية الشعب بالحقائق الإسلامية التي لازال حتى اليوم خالي الذهن منها ، ولازال الشعب يجهل علاقة الإسلام بالحكم وعلاقة الإسلام بالتشريع – ونحن لولا اتصالنا بدعوة الإخوان ما فهمنا هذه المعاني .
- اكتساب الدعوة قوة شعبية تستند إليها إذا ما أرادت مواجهة الحكومة ، ولازالت الدعوة حتى اليوم دعوة وليدة في حاجة إلي تثبيت لدعائمها وبسط لرواقها .
والمواجهة بغير توفر هذين العاملين لن تكون إلا انتحارًا لا نتيجة له ولا جدوى من ورائه .
أما موضوع المرأة فكان ردهم عليه هو أننا لو أخذنا باقتراح الأخ أحمد لكانت النتيجة في اليوم الأول للأخذ بهذا الأسلوب أن يلقي القبض علي جميع الإخوان ويجر معهم التحقيق ويودعون السجون حتى يحاكموا أمام القضاء الذي يقضي بمعاقبتهم بالسجن والغرامة وإذا قضوا العقوبة وعادوا إلي نفس الأسلوب فإن العقوبة تضاعف . ومادامت التي لطخت ثيابها ستعوض ثمن هذه الثياب مضاعفاً من جيوب الإخوان ثم تري الذي لطخ ثيابها قد أودع السجن فما الذي يمنعها من لبس ما كانت تلبسه وإذن فلا جدوى من وراء هذا الأسلوب في ردع المتبرجات وكل الذي تجنيه هو إلقاء شبابنا في السجون وتعطيلهم من الدراسة وقد يكون في تلك الأحكام قضاء علي مستقبلهم .
أما موضوع فلسطين فكان الأستاذ المرشد قد اتصل في شأنه بالسيد أمين الحسيني مفتي فلسطين فرد علي الأستاذ المرشد بخطاب قرأه علينا في هذا الاجتماع وفيه يقول سماحة المفتي :
- " إن المجهود الذي يبذله الإخوان في الدعاية لقضية فلسطين في مصر هو القدر المطلوب الذي نحن في أمس الحاجة إليه ولا يستطيعه غيرهم ، ولسنا في حاجة إلي متطوعين " .
والعجيب الذي لا أزال أذكره أن بعض عقلاء الإخوان رأيتهم يقفون في هذا الاجتماع ويتحدثون تأييدًا لأحمد رفعت بعد أن اقترح هذه الاقتراحات وأذكر منهم الأستاذ عيسي عبده الذي كان موقفه هذا صدمة شديدة للأستاذ المرشد الذي ما كان يتصور منه هذا الموقف .
وانتهي هذا الاجتماع وقد ازداد عدد مؤيدي أحمد ، ولعل ذلك قد بعث في نفسه شيئًا من الغرور فبدأ يتحدي الأستاذ المرشد مباشرة ويوجه إليه ألفاظًا نابية ويخاطبه بأسلوب لا يليق به ثم ازدادوا تطرفاً فصار هو وشيعته يسبون الأستاذ المرشد ويوجهون إليه الشتائم مما أثارنا وأخرجنا عن طورنا وحاولنا مواجهتهم بشيء من العنف ولكن الأستاذ غضب وحال بيننا وبين ما نريد وأبي علينا أن ننالهم ولو بكلمة تؤلمهم ، ومع ذلك فلم يخجلوا أمام هذا النبل بل كانوا يضاعفون عن سفاهتهم .
ولا يفهمن القارئ من قولي إن عدد مؤيديهم قد كثر أن قد صار معهم أكثر الإخوان ، فالكثرة الغالبة من الإخوان في القاهرة كانت كلها في موقف المستاء نمن تفكير هذه الفئة ومن تصرفاتهم ولكنهم كانوا يرون الأستاذ المرشد يحميهم من بطش الإخوان بهم فكانوا في حيرة من أمرهم فكان الأخ من هؤلاء الأخوة الكرام إذا جاء كعادته إلي دار المركز العام تلقاه أفراد هذه الفئة فإما التزم بفكرهم وإلا أسمعوه ما يكره من سله وسب الأستاذ المرشد ورميهم بأفظع التهم ، حتى كره الإخوان أن يحضروا إلي المركز العام حتى خلا المركز العام لهذه الفئة لا يشاركهم فيه أحد سواي تقريبًا حيث كنت حريصًا علي الحضور كل ليلة لأكون بجانب الأستاذ كما طلب إلي . موقف مؤلم ومدمر لا نحسد عليه ؛ فلا نحن بمستطيعين تحديهم مباشرًا خوفاً من أن يدخلوا معنا في معارك بالأيدي والأرجل كما بدا منهم أكثر من مرة ، ولا نحن بمستطيعين منعهم من شتم الأستاذ وسبه ، ولا نحن بمستطيعين أن نقنع الأستاذ برفع حمايته عنهم أو الإقلال من حنوه عليهم وعطفه نحوهم .
- توقف كل شيء في المركز العام :
ما معني هذا ؟ المركز العام للإخوان المسلمين تتوقف فيه الحركة توقفًا تامًا فلا جلسات للهيئات الإدارية تعقد ولا اجتماعات للجوالة ولا اجتماعات للكتائب ولا محاضرات الثلاثاء ولا اجتماعات الطلبة ولا العمال ، وينقطع جميع الإخوان عنه ، حتى إخوان الأقاليم إذا حضر وفد منهم حالت هذه الفئة بينهم وبين مقابلة الأستاذ المرشد وينصرفون دون مقابلته – وهو موجود بمكتبه بالدار – بعد أن يسمعوا ما يكرهون من سبهم وسب أستاذهم ويغادرون من الدار باكين , لابد من وضع نهاية لهذا العبث ولابد من التفكير في عمل ولابد من التفكير في حل .
- الحـل :
لقد وصلت إلي حل ، لكن هذا الحل متوقف نجاحه علي قبول الأستاذ المرشد بفكرة انقطاعه تمامًا عن المركز العام . وذهبت إلي الأستاذ وقلت له : يا أستاذ إن هذه الدعوة دعوتنا جميعًا وإنني أطالبك باسم جميع الإخوان الذين لازالوا علي العهد والبيعة أن تنقطع عن المركز العام منذ اليوم انقطاعًا تامًا . قال : لماذا ؟... قلت لأن خطة قد وضعت لمقاومة هؤلاء الخارجين . والخطة تقتضي أن لا يجد هؤلاء الحنان والحماية اللتين لا تستطيع أن تتخلي عنهما في معاملتهم . قال : ولكني لا أقبل أن يصاب أحد من هؤلاء الأخوة بأذى مهما قالوا . قلت : نعطيك الكلمة علي أن لا نمسهم بأذى . قال مادام انقطاعي عن المركز العام يعين علي القضاء علي هذه الفتنة فأنا عند رأيكم .
- هل هو تسام أو انحدار إلي الحضيض : ؟ :
لقد كان حنو الأستاذ عليهم ، والتزام صفوة الإخوان بيوتهم ، وتفرد هؤلاء الخارجين ينشر فكرتهم عن طريق المركز العام دون مقاومة ، واكتسابهم كل يوم أفرادًا من الإخوان الحديثي العهد بالدعوة ، كان كل ذلك مغريًا لهم بالتمادي في ضلالهم ، والتغالي في انحرافهم ، حتى وصل بهم الغرور إلي الحد الذي أدعي فيه أحمد أنه يتلقي تعليمات وأوامر تلقيًا مباشرًا عن رسول الله صلي الله عليه وسلم ، أدعي أولا أنه عليه الصلاة والسلام يأتيه في الرؤيا ويوجه إليه أوامره . وقد وجد من يصدقه في ذلك ومنهم أفراد من أكرم الإخوان وأخلصهم فمنهم صديق أمين ومنهم محمد عزت حسن ومنهم حسن السيد عثمان .. وكانت هذه الأوامر والتعليمات كلاها منصبة علي أن الإخوان المسلمين قد تخاذلوا عن القيام بدعوتهم ، وأنهم خانوا الدعوة ، وأن الرسول عليه الصلاة والسلام قد اختار أحمد رفعت للقيام بأعباء الدعوة بالطريقة التي شرح لنا طرفاً منها . ثم تعاظم به الغرور فادعي أن يتلقي من رسول الله صلي الله عليه وسلم جهارًا نهارًا في تمام اليقظة ، ثم ادعي أنه صلي الله عليه وسلم يحضر معه الغداء ويتناول معه الطعام , ويتلقي منه الأوامر والتعليمات علي المائدة .
ولما صار حسن السيد عثمان من مصدقيه ، والمؤمنين بخرافاته ؛ وكان حسن كما قدمت شابًا ميسورًا الحال يسكن هو وإخوته الطلبة في منزل فسيح وثير الأثاث ؛ فقد أفسح من بيته لأحمد ،وانقطع هو وأحمد وصديق من كلياتهم كما انقطع محمد عزت حسن عن عمله وحضر إلي القاهرة للإقامة معهم . وكان مما أثارني ، وحملني علي التفكير في خطة حاسمة للوقوف في وجه هذه الفتنة المتفاقمة ، أنني رأيت إخوانًا كرامًا من ذوى العقل والسبق والرزانة يحضرون هذه الجلسات في منزل حسن السيد عثمان ، وعلمت أنهم كادوا يقعون في حبائلهم بدليل توالي ترددهم علي جلساتهم في هذا المنزل ، ومن هؤلاء الإخوان الشيخ أحمد الباقورى .
- تنفيذ خطة المقاومة :
لما قبل الأستاذ أن ينقطع عن المركز العام اعتبرت ذلك إيذانًا بنجاح الخطة ، وكانت الخطوة الأولي أن أحضرت كشفاً ، وكتبت فيه أسماء الإخوان الذين احتفظوا بإيمانهم بدعوتهم وقيادتهم ولزموا بيوتهم ، فوجهت إلي كل منهم دعوة لاجتماعه بمنزل الأخ عبد الفتاح البساطي في الجيزة .. وقد استجابوا جميعا لحسن صلتي بهم – وانعقد الاجتماع وتحدثت إليهم عن تطورات الفتنة ، وما وصلت إليه ،وعن قبول الأستاذ المرشد فكرة انقطاعه عن المركز العام وشرحت لهم شرحًا أقنعهم بأن التزامهم بيوتهم ، وتركهم المركز العام لهذه الفئة المخرفة ، إنما هو بمثابة إعانتهم علي التمادي في ضلالهم ،وأن حق الدعوة عليهم يقتضيهم ارتياد المركز العام كل ليلة لا يتخلف منا أحد .
ويجدر بي قبل الاسترسال في تفصيلات هذا الاجتماع أن أستدرك فأشير إلي نقطة هامة اضطررت من أجلها إلي تأجيل موعد هذا الاجتماع أكثر من مرة حتى استوفي بحثها ، فلقد أعددت لهذا الاجتماع العدة لسد كل ثغرة من ثغرات الشك قد تكون تطرقت إلي نفوس بعض من يحضرون ، فجمعت في كلمتي من الآيات والأحاديث والحكم ووقائع التاريخ ما يقنع كل متردد ، إلا نقطة واحدة وقفت أمامها ساهمًا عاجزًا ، هي ادعاء هؤلاء رؤية النبي صلي اله عليه وسلم والتلقي عنه . قد يكون من السهل الإقناع ببطلان ما يدعي هؤلاء المدعون أنه تلقوه عن رسول الله صلي الله عليه وسلم إذا كان هذا الذي تلقوه يتعارض مع نص صريح من نصوص الشريعة الإسلامية .... ولكن إذا كان الذي تلقوه مما هو دون ذلك من أمور يجوز فيها الخلاف كالوسائل والخطط التي تسلك للنهوض بأعباء الدعوة ، فإن الحكم ببطلان ادعائهم في ذلك ليس أمرًا ميسورًا .
وقد شغلتني هذه النقطة وأقضت مضجعي ، وظللت دائب البحث عن رد مقنع وإجابة شافية تملأ النفس وتزيل الحرج حتى أراد الله – وإذا أراد الله شيئًا يسر أسبابه – فقد كنت في زيارة أخ كريم من إخواننا الطلبة الصالحين بكلية الصيدلة هو الأخ عبد المنعم أبو الفضل ، وكان والده من كبار العلماء فبينما أنا أعبث في مكتبة والده التقطت كتابًا وتصفحته فوقع نظري عفوًا علي عنوان الموضوع الذي يشغل بالي فقرأته بتلهف فوجدت فيه طلبتي وبغيتي ، فالمؤلف يقول إن حديث رسول الله صلي الله عليه وسلم الذي يقول فيه " من رآني في المنام فقد رآني حقاً – فإن الشياطين لا تتمثل بي " حديث صحيح لا شك فيه ، ولكن هذا الحديث موجه إلي فئة معينة هي فئة صحابة رسول الله صلي الله عليه وسلم دون غيرهم ، لأنهم هم وحدهم الذين رأوا رسول الله صلي الله عليه وسلم رأي العين وفي مخيلتهم صورته الحقيقية ، وهم بذلك الذين يستطيعون إذا رأوا في منامهم من يدعي أنه رسول الله أن يحكموا علي هذا المدعي صادق أو كاذب ... أما من سوي هؤلاء الصحابة ممن لم يروا النبي صلي الله عليه وسلم رأي العين فإنهم إذا جاءهم في المنام من يدعي أنه رسول الله فكيف يحكمون بصحة ادعائه وليس في مخيلتهم صورته صلي الله عليه وسلم الحقيقية ؟ وكان هذا الكتاب هو كتاب " الاعتصام " للإمام الشاطبي .. وقد جعلني ما قرأت من تحليل هذا الرجل لهذا الحديث أزداد إيمانًا بأن سلفنا الصالح رضوان الله عليهم عباقرة . وقد رتب الرجل علي هذه المقدمات نتائج ملخصها الحكم ببطلان كل ما يأتي عن طريق هذا الادعاء .
أثلج صدري وقوعي علي هذه الدرة الثمينة ، وأحسست بن الله تعالي معيننا علي ما نحن بسبيله ، وضاعف ذلك من همتي ، وانعقد الاجتماع كما قدمت ، وأثرت هذه النقطة وأوردت قول الشاطبي فيها ، ولقد شعرت بأن إثارتها وإيراد الرد عليها قد أزال حرجًا كان يتردد في النفوس ولم يكن بد من إزالته ، وانتهينا في هذا الاجتماع إلي مقررات محددة هي :
- أولا : الاعتقاد بأن أحمد رفعت ومجموعته ومن يلوذ بهم علي خطأ .
- ثانيًا : تعهد كل فرد من المجتمعين بارتياد المركز العام كل ليلة حسب النظام الذي سيوضع لذلك .
- ثالثًا : التعهد بعدم مس أحد من مجموعة أحمد رفعت بأي نوع من الإيذاء .
- رابعًا : تعهد كل فرد من المجتمعين منذ اليوم بمقاطعة أحمد رفعت ومجموعته مقاطعة تامة بمعني أن لا يلقي عليهم السلام وأن لا يرد عليهم السلام إذا ألقوه عليه ، وأن لا يتحدث إليهم ، وأن لا يرد عليهم إذا وجهوا إليه حديثًا ، وأن لا يعيرهم سمعه ، وأن لا يومئ إليهم ولو بإشارة حتى إذا شتموه لا يرد عليهم .
- خامسًا : كل من يرتاد منزل حسن السيد عثمان – حيث يقيم أحمد رفعت – يسري عليه نظام المقاطعة .
- سادسًا : تكوين لجنة – كنت أحد أعضائها – تكون مهمتها تنفيذ هذه القرارات – وإذا رأت هذه اللجنة أن أحد الإخوان أخل بهذه القرارات قدمته إلي لجنة أخري تناقشه وتحدد موقفه وتعلنه حتى يعامل علي أساس موقفه المعلن .
- سابعًا : يجدد المجتمعون البيعة للأستاذ المرشد علي مبادئ الدعوة وعلي الطاعة في المنشط والمكره وعلي تنفيذ هذه المقررات .
وقد أعد محضر سجل فيه كل ما دار في هذا الاجتماع من كلمات ومناقشات وما انتهي إليه من مقررات ، ووقع جميع الحاضرين عليها ، وقد رفعته إلي الأستاذ المرشد في بيته . ومنذ ذلك اليوم بدأ تنفيذ نظام المقاطعة ، وقسمنا الإخوان علي أيام الأسبوع السبعة بحيث يحضر كل يوم عدد محدد حتى يتمكن الإخوان الجمع بين تنفيذ المقررات وبين قضاء مصالحهم من مذاكرة وغيرها .
وكان مشهدًا رائعًا ومؤلمًا معًا حين دخل أحمد رفعت وخلفه مريدوه إلي المركز العام فيجدوه غاصًا بالإخوان – علي غير ما اعتادوا – فيلقون السلام فلا يرد عليهم أحد ، فيكررون إلقاء السلام فلا يتلقون ردًا ، فيجلسون ويتوجهون نحو هؤلاء الإخوان بالشتائم فلا يردون عليهم .. ثم يدخل رواد من الإخوان حديثي العهد بالدعوة فيتلقاهم إخواننا مرحبين ويبلغونهم المقررات التي اتخذت في الاجتماع وبأن الأستاذ المرشد أقرها فيلتزم هؤلاء الرواد بنظام المقاطعة ويرجع هؤلاء إلي زملائهم وأصدقائهم من الإخوان في كلياتهم ومعاهدهم ومكاتبهم فيبلغونهم ما بلغوا ، ومن أراد من هؤلاء أن يشهر في وجه الخارجين سلاح المقاطعة حضر إلي المركز العام ليشترك مع المكلفين بالحضور ، وامتنع الباقون عن الحضور إلي المركز العام خوفا من أن يخرجهم الخارجون فيردوا عليهم محرجين أو مجاملين فيقعوا تحت طائلة المقاطعة .
وبذلك استطعنا أن نخلي دار المركز العام بعد أيام إلا منا ومنهم ، وصرنا وجهًا لوجه ، فيجلسون الساعة والساعتين لا يجدون من يتحدث إليهم ولا من يتحدثون إليه ، ويبحثون عن الأستاذ المرشد فلا يجدون له أثرًا . وتكرر هذا نحو ثلاثة أسابيع شعر هؤلاء الخارجون بعدها أنهم قد عزلوا عزلا كاملا عن المجتمع بل عن الحياة نفسها ... وبدأ الذين كانوا يلعبون علي الحبلين من الإخوان ، والذين اتخذوها لعبًا ولهوًا يشعرون أن نظام المقاطعة الذي هادنهم فترة في أول الأمر قد اقترب منهم وكاد يطبق علي أعناقهم فانسحبوا من الموكب الذي طالما عززوه وصفقوا له ، وكانوا سببًا في إيغال قائده في الضلال ، انسحبوا منه مكرهين ولزموا بيوتهم ... ووجد أحمد رفعت وحواريوه أن من كانوا حولهم أخذوا في الانفضاض عنهم ، حتى لم يبق حولهم أحد ، فاضطروا إلي عدم الحضور إلي المركز العام ، الذي صار بالنسبة لهم سجنًا .. ومحاولة منهم في البحث عن مجتمع قد يجدون فيه تفريجًا لكربهم ومجالا لنشر آرائهم رضوا بما كانوا يرفضونه من قبل ، وهو الرجوع إلي كليتهم كلية التجارة التي كانوا يرون أنفسهم أعظم من أن ينتظموا طلبة فيها ، وكيف لا وقد أصبحوا أنبياء أو أقرب إلي الأنبياء . وقد خاب رجاؤهم حين دخلوا الكلية فوجدوا طلبتها يصدون منهم صدودًا حيث كان إخواننا الكرام بالكلية ملتزمين بنظام المقاطعة وكانوا قد أعطوا زملائهم صورة كاملة عن أفكار أحمد وزمرته وخرافاتهم ..
حينئذ وجد أحمد نفسه حبيسًا في بيت السيد عثمان وليس معه إلا صديق أمين ومحمد عزت حسن لا أحد غيرهم يطرق عليهم البيت بالليل ولا بالنهار ، فأصيب أحمد بما يشبه الجنون . حتى رق قلبنا له ولمن معه ، وبعثت إليهم من يعرض عليهم الصلح علي أن يرجعوا إلينا تائبين ، معلنين توبتهم ، فاختلفت إجاباتهم ، أما صديق فإنه جاء إلينا وأعلن توبته ، أما حسن السيد عثمان فإنه أعلن أن سيلزم بيته غير متعرض للدعوة بشر ، وأما محمد عزت حسن فلا أدري ما كان من أمره غير أنه قد اختفي اسمه من مجتمع الدعوة منذ ذلك اليوم يقال إن ظل متابعًا حمد .. وأما أحمد فقد عز عليه أن يرجع إلي الصف ويعلن توبته بعد أن صور له الوهم وأوهمه من حوله – وجنوا عليه – أنه يوحي إليه ... قرر أحمد السفر إلي فلسطين لينضم إلي المجاهدين في محاربة للانجليز واليهود ... ولما علمنا بعزمه هذا أرسل إليه الأستاذ المرشد وطلب إليه الحضور ليجهزه بالمال والسلاح ، ويسلمه إلي مجموعة المجاهدين الفلسطينيين الذين كانوا يتصلون بنا حتى يؤمنوا له الطريق ، لأن المجاهدين يشكون في كل من يرونه في طريقهم – ماداموا لا يعرفونه – ويعدونه جاسوسًا عليهم ويقتلونه فرفض أحمد طلب الأستاذ المرشد وأصر علي الذهاب وحده ، وذهب فعلا ، ولقي مصرعه كما كنا نتوقع علي أيدي المجاهدين . ولعمري لقد فعل أحمد رفعت ما فعل ، ولكن قلوبنا لا تزال إلي اليوم تتقطع وتنفطر حزنًا عليه فقد كان شابًا نادر المثال ولكنه ضل الطريق .
خـاتمـه
استغرقت هذه الفتنة منذ كانت بصيصًا تحت الرماد حتى قضي عليها قرابة نصف عام كانت الدعوة في خلاله ، عرضة للانتهاء والزوال ، ولكن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا ... صحيح أن الدعوة توقفت توقفاً تامًا فترة تزيد علي الشهر ، وهي الفترة التي كان لابد من احتجاب الأستاذ المرشد في بيته خلالها ، ولكنها خرجت منها أقوي مما كانت ، واكتسبت من تجربتها هذه فوائد كانت لها عونًا في أيامها التالية . كان مما تعلمته الدعوة من هذه التجربة أن اتخاذ الحماس مقياسًا تولي علي أساسه الثقة للفرد المتحمس أمر يجب أن يعاد فيه النظر ، فالحماس مع السطحية في فهم كتاب الله وتاريخ الدعوة الإسلامية والخبرة بواقع الحياة أمر من الخطورة بمكان ، فإن هذه السطحية تجعل من الحماس منحدرًا إلي الحضيض ، وإن خيل لصاحبه أنه مرقي في السماء ، فأحمد لم يكن له قبل الانضمام إلي الدعوة أدني معرفة بالإسلام ولا بالقرآن ولا بالسيرة ولا بالتاريخ الإسلامي ، وحين اقتنع بالفكرة الإسلامية انقض عليها بحماس بالغ ، وقيل أن يتزود بكل معالم الطريق اندفع اندفاعًا غير بصير فاصطدم وتحطم وكان يحطم معه الدعوة .
وكان مما تعلمته الدعوة أيضًا من هذه التجربة أن اللين وإن كان هو الصفة التي يجب أن تنحل بها القيادة في كل أطوارها ، فإن هناك مواقف تحتاج إلي الحسم ، ولما كان الحسم يتعارض مع اللين فكان من كياسة القائد حينئذ أن يتواري ويخلي الطريق لغيره – وقد يكون هذا الغير أصغر منه ولكن لا يفل الحديد إلا الحديد ، وترك الطالبة يتفاعلون كان أجدي من تدخل القيادة بينهم . وكان مما تعلمته الدعوة كذلك أن الدعوات يجب أن تكون أشد حذرًا علي نفسها من أتباعها المقربين منها علي نفسها من أعدائها الخارجيين ، فإن أتباعها علي إصابتها في مقتل .
ولقد كنت سجلت كل ما قلته وكل ما تحدثت به وكل ما خطر ببالي فيما يتصل بهذه الفتنة وكل ما اتخذناه من أساليب لمعالجتها في كشكول ، دونت فيه كل المقررات وأسماء المبايعين عليها وتوقيعاتهم وآثار تلك المقررات أودعته أحد الأخوة الكرام الذين كانوا معنا في ذلك الوقت ولا أدري ألا يزال هذا الكشكول موجودًا أم عدا عليه ما عدا علي غيره من غارات المباحث العامة التي لم تكن تنقطع . وقد تكون خير خاتمة لهذه التجربة القاسية أن أتيت هنا ما جاء علي لسان الأستاذ المرشد بصددها في خطابه الجامع الذي ألقاه في المؤتمر الخامس تحت عنوان : مصارحة :
" أيها الإخوان المسلمون وبخاصة المتحمسون المتعجلون منكم : اسمعوها مني كلمة عالية داوية من فوق هذا المنبر في مؤتمركم هذا الجامع – إن طريقكم هذا مرسومة خطواته ، موضوعة حدوده ولست مخالفاً هذه الحدود التي اقتنعت كل الاقتناع بأنها أسلم طريق للوصول ، أجل قد تكون طريقاً طويلة ولكن ليس هناك غيرها ثمرة قبل نضجها أو يقتطف زهرة قبل أوانها فلست معه في ذلك مجال ، خير له أن ينصرف عن هذه الدعوة إلي غيرها من الدعوات ، ومن صبر معي حتى تنمو البذرة وتنبت الشجرة وتصلح الثمرة ويحين القطاف فأجره في ذلك علي الله ، ولن يفوتنا وإياه أجر المحسنين : إما النصر والسيادة ، وإما الشهادة والسعادة .
أيها الإخوان المسلمون : ألجموا نزوات العواطف بنظرات العقول ، وانبروا أشعة العقول بلهب العواطف وألزموا الخيال صدق الحقيقة والواقع ، واكتشفوا الحقائق في أضواء الخيال الزاهية البراقة ، ولا تميلوا كل الميل فتذروها كالمعلقة ، ولا تصادموا نواميس الكون فإنها غلابة ، ولكن غالبوها واستخدموها وحولوا تيارها واستعينوا ببعضها علي بعض ، وترقبوا ساعة النصر وما هي منكم ببعيد .
أيها الإخوان المسلمون : إنكم تبتغون وجه الله وتحصيل مثوبته ورضوانه ، وذلك مكفول لكم مادمتم مخلصين ، ولم يكلفكم الله نتائج الأعمال ولكن كلفكم صدق التوجه وحسن الاستعداد ، ونحن بعد ذلك إما مخطئون فلنا أجر العاملين المجتهدين ، وإما مصيبون فلنا ضعف أجر الفائزين المصيبين ، علي أن التجارب في الماضي والحاضر قد أثبتت أنه لا خير إلا في طريقكم ، ولا إنتاج إلي مع خطتكم ، ولا صواب إلا فيما تعلمون ، فلا تغامروا بجهودكم ولا تقامروا بشعار نجاحكم واعملوا والله معكم ولن يتركم أعمالكم والفوز للعاملين " وما كان الله ليضيع إيمانكم إن الله بالناس لرءوف رحيم " .
- خسائرنا في هذه الفتنة :
إن فتنة كادت تودي بالدعوة ، مهما نصرنا الله عليها ، وأنقذنا من براثنها ، لا يمكن أن نخلص منها دون خسائر ، ولسنا ننكر أنه كانت خسائر لكنها كانت في أضيق الحدود ونجملها فيما يلي :
- خسرنا أحمد رفعت ومحمد عزت حسن وكانا أخوين عزيزين .
- خسرنا عددًا من الإخوان الكرام ولكن خسارتنا إياهم لم تكن خسارة أبدية بل كانت خسارة مؤقتة فقد اختار هؤلاء الإخوان أن يلزموا بيوتهم لأنهم كانوا لا يزالون في شك من أن الدعوة تسلك طريق القوة والجد الذي ينبغي أن تسلكه الدعوة الإسلامية .. وقد لزموا بيوتهم فعلا ردحًا من الزمن حتى أثبتت لهم الأيام أنهم كانوا علي خطأ حين تعجلوا مواقف قبل أوانها ، وقد دارت الأيام وواجهت الدعوة المواقف التي تعجلوها ولكن بعد أن ثبتت أركانها ، وتعمقت في قلوب الناس جذورها ، فخرجوا من بيوتهم ولحقوا بالركب مرة أخري وكان منهم حسن السيد عثمان وعيسي عبده .
- خسرنا مجلة " النذير " لأن صاحب امتيازها تخلف عن الركب ، ومع أن المركز العام للإخوان المسلمين هو صاحب الامتياز الحقيقي لهذه المجلة ، ولم يكن الأستاذ محمود أبو زيد إلا مجرد اسم اختير لأنه كان محاميًا لتتم الصورة الرسمية لإصدار الترخيص بالمجلة ، مع هذا رأي الأستاذ المرشد ترك المجلة له حين رآه متمكنا بالحقوق الرسمية .
- خسرنا عددًا قليلا من خبرة الإخوان علي رأسهم الأخ محمد المغلاوي رحمه الله وكان محاميًا وأخا من العباد الذين يطيلون الصلاة ركوعًا وسجودًا وكان بيني وبينه مودة خاصة وحب عميق وقد صارحني بأنه يكن لي ولإخواني كل حب وتقدير ولكنه لا يستطيع الصبر علي ما اختطته الدعوة لنفسها من أسلوب بطئ ومع ذلك فهي ذلك فهي أحسن التكوينات الموجودة في مصر ولذا فإنه سيحاول إنشاء تكوين جديد حثيث الخطي يتجاوب في خطو سريع مع ما يجيش في صدورنا وتضطرم به نفوسنا .
وقد صدق ما وعد أسس تكوينًا جديدًا سماه " شباب محمد " وقد التقي في آماله بآمال شخصية مسلمة هي شخصية الأستاذ حسين يوسف فكونا معًا هذا التكوين الجديد ، وانضم معهم مجموعة من الإخوان المتعجلين وأفراد آخرون . والأستاذ حسين يوسف رحمه الله كان مدرسًا في مدرسة الفنون التطبيقية ومع ذلك فإنه كان ناقما علي ما جرت عليه هذه المدرسة من رسم الرجال والنساء عاريات وكتب في ذلك الكثير من الاحتجاجات . وكان عضوًا في مجلس الجهاد الأعلى لمصر الفتاة ، وقد التقيت به في مدرسة الفنون التطبيقية حين كنت أحضر اجتماعات طلبة الإخوان ، بالمدرسة – وكان لنا بها شعبة قوية – فكان الأستاذ حسين يحضر هذه الاجتماعات ، ودارت بيني وبينه مناقشات وقد اقتنع بأن مصر الفتاة ينقصها عنصر الدين ولكنه يري أن الإخوان المسلمين تعوزهم الجرأة .. ولذا فإنه ما كاد يلتقي بالأخ المغلاوي فكان وإياه كالمثل العربي الذي يقول " وافق شن طبقه " بإنشاء التكوين الذي يرضي ضمائرهما .
ولكن هل حقق هذا التكوين الجديد آمالهما ... هذا ما أجاب عليه الزمن ، ولا داعي لأن نثبت هنا حكم الزمن وإجابته فكلنا نعرفها ، وما أيسر التحقيق في سماء الخيال وما أشق مواجهة الواقع ، وكم من خيالات محققة طواها الزمن إذا ما حاولت النزول إلي ميدان الواقع .
الباب الثالث في ميدان الحلمية الجديدة (في المبني القديم)
مقدمـة الباب الثالث
- مد جديد :
خرجنا من هذه المأساة الأليمة ،وفي القلوب جراح لا تندمل علي مر الزمن ، لأنها تتصل بأخوة قلوب لا صداقة طريق ... ولم يكن مناص من استئناف المسير بعد هذا التوقف الطويل .. ودوي نداء القائد فسرعان ما استجاب الجنود ، ورأينا الدعوة تشق طريقها شقاً ما كانت تستطيعه من قبل ... وأحسست في التفاف الإخوان حول قائدهم كأنما شعروا وأيقنوا أن دعوتهم وقد عبرت المحنة .. هي دعوة الحق .. ودعوة الحق جديرة بالتفاني فيها والبذل في سبيلها ، فصار الإخوان ألصق بدعوتهم من ذي قبل ...
ورأينا الشباب ، من كل مهنة ، ومن كل حي ، يتقاطرون علي المركز العام أفواجًا يلتمسون طريق الله لإصلاح الناس ليلتزموه وليكونوا حماته والداعين إليه ... وكانت الظاهرة الجديدة أننا رأينا بابنا يطرقه طوائف من العمال والتجار وذوي المهن ، ولم يكن حتى قبيل المحنة يطرقنا إلا الطلبة وقلة من صغار الموظفين ، وهنا بدأت فكرة تكوين شعب ذات كيان حقيقي في أنحاء القاهرة ، وهو ما كان يتوق إليه الأستاذ المرشد من قديم . العجيب حقاً .. أن الدعوة خرجت من هذه المحنة كأنما نشطت من عقال فالإقبال عليها من كل فج عميق ، والدار ضاقت بروادها ، واتجه فكر الأستاذ إلي البحث للمركز العام عن مكان آخر يتسع للنشاط الجديد .
- الانتقال إلي الحلمية الجديدة :
اهتدي الأستاذ المرشد إلي دار في ميدان الحلمية الجديدة ، وهي منزل كامل لا جزء من منزل كالمقرين السابقين في الناصرية والعتبة ... وميدان الحلمية الجديد يقع في قلب القاهرة القديمة لكنه أجمل وأنظف حي فيها . والمنزل يطل علي الميدان نفسه ويتكون من دورين أحدهما يقع نصفه تحت الأرض ونصفه الأخر فوقها ، والدور الآخر مما يسمونه " السلاملك " حيث تصعد إليه بصف الدرج . وفوق هذا السلاملك سطح فسيح . ويلحق بالمنزل فناء واسع تقرب مساحته من مساحة المنزل كله ، وبجانب بوابة المنزل علي يمين الداخل حجرة منفردة كأنها حجرة البواب . ولابد أن الله تعالي علم من مستقبل دعوته ما لم نكن نعلم ، فهيأ لها مكانًا ما كنا نحلم به وموقعاً وسطًا ، كما يسر للأستاذ المرشد سكنًا قريبًا من هذا المكان ، وهو ما كان الأستاذ المرشد دائمًا حريصًا عليه .
- مرحلة جديدة :
كان الانتقال بالمركز العام من دار إلي أخري مرتبطاً بالانتقال بالدعوة من مرحلة إلي مرحلة جديدة ، فكانت فترة الإقامة بدار شارع الناصرية مرحلة من مراحل الدعوة لها حدودها ولها خصائصها ولما سماتها كما بينا ، ثم كانت فترة الإقامة بدار ميدان العتبة مرحلة أخري لها حدودها وسماتها الخاصة بها والمميزة لها ، ثم كان الانتقال إلي دار ميدان الحلمية إيذانًا التي صادرت شجيرة ثم غلظ عودها وأخرجت شطأها فآزرها وطال ساقها وألقت بفروعها ذات اليمين وذات الشمال .. نعم إنها بذلك قد اكتسبت ثباتاً وقوة لكن استطالتها وارتفاعها قد جعلها عرضة لمهب الرياح من كل اتجاه ، لقد كانت في مرحلتيها الأوليين وهي بادرة ثم وهي شجيرة في مأمن من أن تنال منها هبات الرياح ، أما في هذه المرحلة وقد أغلظت واستطالت وتفرعت وتشعبت فإنها صارت عاتقاً في طريق الرياح من أية ناحية هبت ، فعليها حينئذ أن توطن نفسها علي استقبال صفعات الرياح وأن ترد عليها بمثلها أو أن تحاول تحاشيها بحركة ماكرة ماهرة .
كان حسن البنا يعلم كل هذا وهو يعد العدة للانتقال بالمركز العام من العتبة إلي الحلمية الجديدة ، وستري إن شاء الله خططه التي وضعها منذ الشهور الأولي في هذه الدار ما يدلك علي أن كل هذه المعاني كانت في خاطره . لم يغب عن خاطر الأستاذ لحظة أن عدوه الطبيعي الذي يتربص به ، والذي عليه أن يواجهه في كل لحظة إنما هو الإنجليز .. عدو قوي ماكر : واسع الحيلة ، حسن الاستعداد ، قادر علي المواجهة لكنه يؤثر التستر وراء صنائع له من أهل البلد الذي يريد السيطرة عليه ... لم يغب عن خاطر الأستاذ أن عليه أن يواجه كل هذه الأساليب ، ولم يغب عنه أن صنائع الإنجليز في مصر كثيرون ، وقد زودهم الإنجليز بمختلف وسائل السلطة ، وأن هؤلاء الصنائع بعد أن تربوا في أحضان الإنجليز ، وتمرنوا في خيرات بلادهم التي سلبها الإنجليز وخصوهم بها دون أصحابها .
لم يغب شيء من هذا عن خاطره ، كما لم يغب عنه لحظة أن الإنجليز بوسائلهم الخاصة وبواسطة أذنابهم المصريين يراقبونه ويعدون عليه أنفاسه ، ويعدونه عدوهم الأصيل وعدوهم الوحيد ، لأنه وأن هذا المبدأ وهذه الفكرة إنما تقوم علي أساس القرآن الذي لا يجتمع والظلم في مكان واحد ، لابد أن يقضي واحد منهما علي الآخر . لقد عمل حسن البنا في المرحلة السابقة كل جهده أن يتحدي الإنجليز تحديًا سافرًا لفضح فظائعهم من ناحية ، وليلفت الأنظار إلي دعوته من ناحية أخري . لأن دعوته كانت في أمس الحاجة إلي وسيلة من وسائل الإعلام ليحس بها هذا الشعب الغافل ... أما في هذه المرحلة فإنه لم يعد في حاجة إلي وسائل إعلام فقد أحس الناس بالدعوة ، وأقبلوا عليها ، حتى امتلأت السفينة لم يعد بين حافتها وبين الماء قيد شبر .. ودفعتها الرياح حتى وصلت إلي وسط البحر . وركبت أمواجه المتلاطمة ، وصارت مهمة القائد أن يحسن توجيهها ، وأن يحاول أن يتفادى ما يتدافعها من أمواج حتى تصل إلي مرفأ أمين . وعليه مهمة أخري لابد أن ينهض بها في وقت واحد مع مهمته الأولي ، تلك هي إعداد هؤلاء الركاب بحيث لا يأخذهم علي غرة لصوص البحر وقطاع الطريق وما أكثر عددهم وأشد بأسهم .
- سمات هذه المرحلة وخصائصها :
أرسي الأستاذ المرشد قواعد العمل في هذه المرحلة علي الأسس الآتية :
- أولاً : بدأت هذه المرحلة مع بدء اندلاع الحرب العالمية الثانية في 1939 ، وكان الأستاذ المرشد يري أن الحرب العالمية تغير وجه العالم ، وتفعل في سنواتها مالا يتم فعله من تغيير في مئات السنين ، فهي تختصر الزمن .. وعلي العقلاء الانتفاع بهذه الميزة قبل فواتها .
- ثانيًا : ومن هنا فإن يري أن المرحلة التي يحتاج الإخوان في قطعها إلي عشرات السنين ، يمكنهم – بالانتفاع بهذه الميزة – أن يقطعوها في سنوات قلائل .
- ثالثًا : أن مواجهة الأعداء والخصوم بهيئة ضعيفة وتكوين هزيل مجازفة غير مأمونة بل إنها قد تؤدي بالفكرة الإسلامية إلي الزوال ، فإذا أضفت إلي ذلك أن هذه المواجهة ستكون في ظروف كلها ظروف استثنائية وكل المرافق للمستعمر ، و المستعمر أعصابه علي أشدها لأنه يخوض حرب حياة أو موت ، كانت المواجهة انتحارًا لا شك فيه ولا إفلات فيه .
- رابعًا : كما أنه يري أن انشغال المستعمر بالحرب ومن ورائه الحكومة المصرية ، فرصة للعمل للدعوة دون عوائق ، وعلي الإخوان في هذه الحالة أن يكشفوا من جهودهم حتى ينجزوا أكبر قدر من العمل في أصغر قدر من قبل أن تنتهي الحرب فجأة فيتفرغ هؤلاء – المستعمر والحكومة – للكيد للدعوة وبث العراقيل في طريقها قبل أن تكون قد استكملت عناصر قوتها .
- خامسًا : أنه يري أن عناصر القوة التي يجب استكمالها في أقرب وقت هي عنصران : التشعيب والتكوين ، أما الأول فهو العمل علي أن تصل الفكرة الإسلامية إلي كل فرد في أنحاء مصر وأن يصل صداها إلي البلاد العربية والإسلامية وأن يكون للدعوة شعبة في كل حاضرة ومدينة وقرية وعزبة في جميع أنحاء مصر ، وأما التكوين فيكون بالعمل علي ربط المنتمين إلي الدعوة معا بروابط من الإخوة والحب والتعاون في ظل أسلوب عمل من التربية البدنية والروحية والثقافية .
- سادسًا : أنه في سبيل إنجاز هذا العمل الكثير ، يجب علي الإخوان – في خلال فترة الحرب أن يغضوا الطرف عن الشئون السياسية فيتجنبوا اتخاذ مواقف سياسية محددة ما استطاعوا إلي ذلك سبيلا مكتفين بالتعرض لما سوي ذلك من الشئون التربوية والاجتماعية والاقتصادية وإذا دهمهم موقف سياسي معين فعليهم أن يتفادوه ، وأن يطوعوه لخدمة هدفهم الكبير .
- سابعًا : أنه يري أنه إذا سلك الإخوان هذا المسلك فإنهم سيفاجئون العالم بعد انتهاء الحرب بأقوى هيئة قادرة علي المواجهة وقادرة علي النهوض بأثقل التبعات ، ويستحيل علي أية قوة في الأرض أن تقضي عليها ، لأنها تكون قد تركزت في النفوس ، واختلطت بالمهج ، وضربت بجذورها في الأعماق .
علي هذه الأسس السبعة سار العمل طيلة سنوات الحرب ، وشقت السفينة طريقها في بحر هادئ كالحصير ، وكلما هبت عاصفة عمل القائد الماهر علي تفاديها حتى وصلت إلي شاطئ الأمان فكانت هي السفينة الوحيدة التي وصلت في سلام بجميع ركابها الذي أقلعت بهم من أول الطريق وبأضعاف هؤلاء من ركاب السفن الأخرى التي أشرفت علي الغرق في أثناء الطريق فمدت إليهم يد الإنقاذ بها من كل جانب .
الفصل الأول : في البناء الداخلي : التركيب البنائي للدعوة في هذه المرحلة
حتى ما قبل هذه المرحلة لم يكن للدعوة تركيب بنائي بالمعني الاصطلاحي المعروف ، وإنما كان هناك المركز العام في القاهرة وفي الأقاليم شعب متناثرة ، وتتلقي هذه الشعب تعليماتها من المركز العام وكان المركز العام يخص نفسه بأساليب معينة في التربية لا يطالب الشعب بالقيام بمثلها مثل نظام الكتائب ، ونستطيع أن نجمل النظام البنائي الذي كان سائدًا بأنه كان أقرب إلي النظام المركزي ... فلما انتشرت الدعوة وعمت أنحاء البلاد وكثرت الشعب حتى لم تعد مدينة ولا حاضرة ولا قرية تخلو من شعبة كان لابد من نظام بنائي جديد يسهل معه العمل وتتوزع فيه المسئولية وتتحدد به الحقوق والواجبات وتتيسر عن طريقه الاتصالات والمتابعة .
- والخطوط الرئيسية للنظام البنائي الجديد هي :
- أولاً : المكاتب الإدارية :
اعتبر كل إقليم إداري في الدولة مكتبًا إداريًا ومعني هذا أنه صار للإخوان المسلمين في كل عاصمة لمحافظة مكتب إداري هو بمثابة المركز العام للإخوان في أنحاء المحافظة فكل شعب المحافظة تابعة له وهو يشرف عليها ويصدر إليها التعليمات ويتابع تنفيذها . ومنوط به نشر الدعوة في الأماكن التي لم تصل إليها الدعوة في حدود المحافظة ، كما أنه مكلف بمعالجة ما يجد من مشاكل في شعب المحافظة وعليه نقل النظم التربوية التي يضعها المركز العام إلي جميع هذه الشعب والإشراف علي الأخذ بها كما أن عليه توضيح ما تتخذه الهيئات العليا للدعوة من قرارات للشعب التابعة له مع متابعة تنفيذ هذه القرارات . ويتكون المكتب الإداري من أعضاء مجلس الإدارة لشعبة عاصمة المحافظة مضافاً إليهم نواب الشعب الرئيسية في المحافظة ، وعلي كل شعبة من شعب المحافظة المساهمة بجزء من ماليتها في تكوين رصيد للمكتب الإداري يخصص للإنفاق منه علي نشر الدعوة .
- ثانيًا : مجالس إدارات الشعب :
يدبر شئون الدعوة في كل شعبة مجلس إدارة يتكون من عدد من الإخوان ينتخبهم أعضاء الشعبة فيما بينهم ويرأس كل مجلس إدارة الشعبة ، ومهمة مجلس إدارة شعبة عاصمة المركز مع شعب بلاد المركز هي نفس مهمة المكتب الإداري بالنسبة لشعب عواصم المركز ، وهكذا تتسلسل القيادة وتتدرج المسئولية .
ثالثا : المركز العام :
تعتبر القاهرة كغيرها من المحافظات مكتبًا إداريًا تتبعه شعب القاهرة ، وفي القاهرة أيضًا المركز العام للإخوان المسلمين وهو شيء آخر غير المكتب الإداري للقاهرة فهو يتعامل مع المكتب الإداري للقاهرة كتعامله مع أي مكتب إداري آخر . والمركز العام هو المقر الذي يجمع اللجان والأقسام التي تمثل أوجه النشاط التي يقوم الإخوان بمباشرتها أداء لحق الدعوة وتحقيقًا لأهدافها وهذه اللجان والأقسام هي :
لجنة الطلبة واللجنة الثقافية وقسم العمال وقسم الجوالة وقسم نشر الدعوة وقسم الكتائب والأسر وقسم الخدمة الاجتماعية وقسم الاتصال بالعالم الإسلامي وقسم الأخوات المسلمات . ولكل لجنة من هذه اللجان ولكل قسم من هذه الأقسام فرع في كل مكتب إداري تتلقي هذه الفروع تعليماتها من اللجنة الموجودة بالمركز العام وترفع إليها تقاريرها وتستعين بها في تنفيذ برامجها ... وقد لا يكون لبعض الأقسام فروع في المكاتب الإدارية لأن طبيعة مهمتها ترتبط بالقاهرة دون غيرها من البلاد مثل قسم الاتصال بالعالم الإسلامي .
قـيادة الدعـوة
ويمثلها هيئات ثلاث هي :
- أولا : الهيئة التأسيسية :
وهي الهيئة العليا للدعوة يناط بها رسم الخطوط الرئيسية لسياسة الدعوة ، ويرجع إليها في كل ما يمس هذه السياسة أو ما يجد من أمور خطيرة أو ما يستدعي تعديلا في هذه السياسة أو ما يتصل بكيان الدعوة من قوانين أو إجراءات أو تصرفات ... واجتماعها العادي مرة كل عام ولكن للمرشد العام دعوتها للاجتماع في أي وقت يري ضرورة لاجتماعها لعرض مسائل جوهرية عليها . وقد تكونت هذه الهيئة أول ما تكونت في سنة 1941 من مائة عضو اختارهم المرشد مراعيا في اختيارهم الشروط الثلاثة الآتية :
- أن يكونوا من السابقين الأولين في الدعوة .
- أن يكونوا ذوي كفاءات ممتازة أو ذوي تضحيات بارزة من أهل الرأي .
- أن يكونوا ممثلين لمحافظات القطر ما أمكن .
وتعتبر الهيئة التأسيسية الجمعية العمومية للإخوان المسلمين ، ومن اختصاصها أن تنتخب من بين أعضائها لجنتين تكمل بها هيئات قيادة الدعوة هما مكتب الإرشاد العام ولجنة العضوية .
- ثانيًا : مكتب الإرشاد العام :
ويتكون من اثني عشر عضوًا ومهمته تنفيذ السياسة التي أقرتها الهيئة التأسيسية وحددت خطوطها العريضة ، وإصدار القرارات في مختلف شئون الدعوة مما تلتزم بتنفيذه المكاتب الإدارية وشعبها ... وهو يعتبر مجلس الإدارة للدعوة يمثلها أمام الرأي العام وأمام الجهات الرسمية .
- ثالثاً : لجنة العضوية :
وتتكون من سبعة أعضاء مهمتها اختيار الأعضاء الجدد للهيئة التأسيسية ، وتحقيق ما يثار حول أعضاء هذه الهيئة وإصدار القرارات في شأنهم ... وقد رأي الأستاذ المرشد أن أكون عضوًا في هذه اللجنة لما يعلم من صلتي بالكثير من قدامي الإخوان وحديثيهم في القاهرة وغيرها من البلاد ، ولهذا فقد طلب إلي أن أكون بجانبه عند اختياره للأعضاء المائة ليكونوا أعضاء الهيئة التأسيسية حتى يكون ذلك نبراسًا لي عند اختيار أعضاء جدد عن طريق لجنة العضوية فيما بعد . علي أن أعضاء الهيئة التأسيسية لم يزد عددهم حتى منتصف الخمسينات عن مائة وخمسين عضوًا مع أنه كان من حق لجنة العضوية قانونًا اختيار عشرة أعضاء جدد كل سنة ولكن ظروفاً نشأت أعفت اللجنة من أجلها بعض الأعضاء حالت دون استيعاب هذا العدد .
ولقد كان من حكمة الأستاذ المرشد وبعد نظره أن أنشأ الهيئة التأسيسية في هذا الوقت بالذات فقد ظهر بعد ذلك من المواقف والمشكلات والأزمات والخلافات ما لو لم تكن هذه الهيئة موجودة لقضي علي الدعوة وانهار صرحها ، وسوف يري القارئ إن شاء الله الكثير من ذلك فيما بقي من هذه المذكرات . كما أن وجود هذه الهيئة قد أغني عن عقد المؤتمرات التي كانت تعقد كل سنة أو سنتين يحشد فيها أكبر عدد من مختلف بلاد القطر ليلخص أمامهم الأستاذ المرشد ما قطعته الدعوة في خطوات منذ المؤتمر السابق وليشرح لهم بعض ملامح الخطة المستقبلية وكانت هذه المؤتمرات تكلف الإخوان الكثيرين الذين يحضرون من بلادهم الكثير من الجهد والمال كما تكلف المركز العام مثل ذلك ... ومع ذلك فقد كانت طبيعة هذه المؤتمرات لا تتيح فرصة مناقشة ما يعرض من تقارير عن الماضي أو مقترحات للمستقبل .
علي أن هذه المؤتمرات لم تكن ليصلح عقدها بعهد أن كثرت الشعب وكثر عدد الإخوان في كل مكان بحيث تضييق بمندوبيهم الأمكنة في القاهرة مهما اتسع نطاقها للاجتماع والنوم .. أما وقد أنشئت الهيئة التأسيسية علي القواعد الثلاث التي أشرت إليها فإن الأستاذ المرشد كان يدعوها بأعضائها المائة فتضمهم حجرة فسيحة من حجرات المركز العام فيعرض عليهم ما يشاء ويناقشهم ويناقشونه ويقترح عليهم ويقترحون عليه ، ويتحدث كل منهم عن مشاكل محافظته ويصلون في النهاية إلي قرارات مدروسة محددة ، فيرجع هؤلاء الأعضاء إلي محافظاتهم يشرحون لإخوانهم ما تم في الاجتماع بتوضيح وتفصيل ... فيتحقق بهذا الأسلوب مالا تحققه المؤتمرات مع إعداد الدعوة وإعفاء الإخوان من كثير من الجهد والمال والمشقة . ولهذا فقد كان المؤتمر السادس الذي عقد قبيل تكوين الهيئة التأسيسية في 9 يناير سنة 1941 هو آخر المؤتمرات .
- استطراد :
لست أدري هل يعد استطرادًا أن أترك هذا الحديث العام لأتحدث عن أمور تخصني ، أم أن حديثي عن هذه الأمور هو من الحديث المتصل ؟ .... إن هناك مجموعة في هذه الدعوة لم تعد حياتها الخاصة منفصلة عن الدعوة بل هي جزء منها ؛ لأنها ارتضت يوم خيرها الأستاذ في اجتماع لجنة الأربعة والعشرين في منزله أن تضع حياتها ومستقبلها رهنا بما تطلبه الدعوة . لقد كانت الدعوة في شخص مرشدها تتحكم في وقت هذه المجموعة فتوجهها التوجيه الذي تريده . فكان الأستاذ المرشد مع شدة احتياجه أن نكون بجانبه ، يمنعنا من الحضور إلي المركز العام طيلة الشهر الذي يسبق الامتحان لأنه يري في إنهائنا حياتنا الدراسية نفعًا للدعوة لا يتوفر لها إذا طالت هذه الحياة الدراسية . وكان الفرد من هذه المجموعة حين يتخرج لا يتجه إلي حياة عملية لا بعد أن يستشير الأستاذ المرشد باعتباره أبصرنا بالاتجاه الأنفع للدعوة ... أفليس الحديث في هذه الأمور إذن حديثاً في صلب الدعوة وفي صميمها ؟ ...
- بعد التخرج :
يحسن قبل التطرق إلي ما كان من شأني بعد التخرج أن أبدأ بإشارة موجزة إلي الحالة الاجتماعية التي كانت سائدة في مصر فيما يتصل بالوظائف والموظفين حتى يكون القارئ علي صورة واضحة ؛ كان المتخرجون ف ي أية كلية من الكليات أو مدرسة عليا كما كان أكثرها يدعي في ذلك الوقت لا يجد أمامه عملا يلتحق به ويرتزق به ... كانت فرص العمل نادرة ندرة تصل إلي درجة العدم ، ولم يكن العمل إذ ذاك موجودًَا إلا في الوظائف الحكومية . كان المتخرج يوم يتخرج يكتب طلبات التحاق بعدد وزارات الحكومة ومصالحها ويرسلها جميعا وينتظر لعله يصادف عملا في أي منها ، ولم يكن عادة يصله رد .. ويظل هكذا عاطلا ، وبعد كل ستة أشهر يعيد كتابة الطلبات وتحفي أقدامه في ارتياد الوزارات التي يتوسم أن يجد فيها عملا أيًا كان ، فإذا كان محظوظاً وجد بعد سنتين من تخرجه عملا باليومية في إحدى الوزارات ؛ ومعني ذلك أنه لا يضمن أن يستمر في العمل طول العام فقد يستغني عنه في أي يوم من الأيام . لم يكن في نيتي العمل في وظيفة حكومية بعد تخرجي حتى ولو وجدت وظيفة مناسبة ، وإنما كانت نيتي معقودة علي القيام بعمل حر ، بل إنني حددت نوع العمل أن يكون في الألبان ، ولم نكن ندرس الألبان في كلية الزراعة إلا في السنة النهائية . كاشفت الأستاذ المرشد بعزوفي عن الالتحاق بالوظائف الحكومية ، وبعزمي علي الاشتغال الحر بالألبان ، فزكي الفكرة ، وأبدي استعداده لمؤازرتي في هذا السبيل ، ومن قبل نالت الفكرة قبولا لدي والدي وأبدي استعداده لإمدادي بالمال اللازم .
- مشروع الألبان :
كانت الفكرة مختمرة في نفسي ، وعزمي علي تنفيذها علي أشده ، ولكن كيف أنفذها ، وكيف أنتقل بهذا العوم إلي واقع الحياة ؟ كانت معضلة أمام شاب ناشئ لا خبرة له بالحياة . وبعد أيام ناداني الأستاذ ، وكان لتوه راجعًا من رحلة له في الصعيد وقال لي : لقد عثرت لك علي طلبتك . ذهبت إلي مغاغة من أجلك لأني أعلم أن أخاً كريمًا فيها وزميلاً لك تخرج في كليتك منذ أربعة أعوام ، كان قد أنشأ معملا للألبان فيها ، وقد رأيت أن أقابله وأعرض عليه فكرتك ، وقد قابلته وعرضت عليه الفكرة فزكاها ، وأخبرني بأنه أغلق المعمل لأنه محتاج إلي شريك ، ورحب بك شريكًا له .. وكذلك ذلل الأستاذ المرشد عقبة كئودًا كانت في طريقي . وكان لي زميل في الدراسة تخرج معي هو عباس نجل الأخ الكريم الأستاذ محمد حلمي نور الدين ، وقد اقترح والده أن يكون شريكًا ثالثًا في المشروع فرحبنا به .. كنا في ذلك الوقت عقب امتحان البكالوريوس مباشرة أي في أواخر يونيه وأوائل يوليه سنة 1939 ولما كان موسم الألبان يبدأ مع ظهور البرسيم في الحقول فد كانت أمامنا فترة نقضيها في القاهرة قبل الذهاب إلي مغاغة حتى يجئ شهر أكتوبر علي الأقل .
- مفـاجـأة :
لم يكد يمضي علينا بعد ذلك شهر واحد وإذا بوفد من إخوان مغاغة – محافظة المنيا – يطرقنا في المركز العام علي غير موعد ويعرض علينا مشكلة غريبة . تتلخص هذه المشكلة في أن في مغاغة مدرسة ابتدائية أهلية تملكها جمعية قبطية . وهي المدرسة الابتدائية الوحيدة – (المدرسة الابتدائية في ذلك الوقت تعادل في أيامنا هذه المدرسة الإعدادية) – التي يلتحق بها أبناء مغاغة وضواحيها الكثيرة ... وناظر المدرسة من قديم هو الأستاذ الشيخ حسن سيد وهو من العلماء وإمام وخطيب المسجد الكبير بمغاغة ... فلما أنشئت شعبة الإخوان المسلمين بمغاغة انضم إليها فضلاء أهالي مغاغة ومنهم الأستاذ الشيخ حسن سيد وأسندت رياستها إليه ... ولم يدر بخلد الإخوان ولا خلد الأستاذ الشيخ حسن سيد أن في هذا تعارضًا مع مصلحة المدرسة ... ولكن تبين أن هناك عقولا ضعيفة ، وصدورًا لا تنطوي إلا علي الحقد والضغينة رأت في انضمام الأستاذ الشيخ حسن إلي الإخوان خروجًا علي الطاعة وتمردًا علي العبودية ، فلم يفاتحوه في ذلك ليقنعهم بخطأ نظرتهم إلي الإخوان المسلمين ، ويشرح لهم أن هذه الدعوة إنما يريد الخير لا للمسلمين وحدهم بل لجميع سكان البلاد علي اختلاف عقائدهم ؛ ون الإخوان – حين انضم إليهم واختاروه رئيسًا لهم – لم يرو في عمله في مدرسة الأقباط ما يتعارض مع دعوتهم ....
لم يفاتحوه في ذلك بل أسروه في نفوسهم حتى انتهي العام الدراسي فلم يفاتحوه أيضًا ، وانتظروا حتى قاربت إجازة الصيف علي الانتهاء وتيقنوا أن جميع المدارس الأهلية في القطر قد استوفت العدد اللازم لها من المدرسين والنظار وأن جميع المدرسين قد تم تعاقدهم مع المدارس ، حينئذ فاجئوا الرجل الذي أفني زهرة شبابه في خدمتهم بخطاب يقولون فيه إن الجمعية قد قررت الاستغناء عنه . وينبغي أن يعلم القارئ أن المدارس الأهلية – أو كما نسمي الآن المدارس الخاصة – في ذلك الوقت لم تكن تحت إشراف حازم من وزارة المعارف لاسيما ما يتصل بحقوق العاملين في هذه المدارس من نظار ومدرسين وكتبة وعمال بل كان كل هؤلاء تحت رحمة ملاك هذه المدارس ؛ فهم الذين يتعاقدون معهم علي المدة التي يردنها علي المرتب الضئيل الذي يحددونه ، وعلي عدد الحصص التي يدرسونها في اليوم وفي الأسبوع ، وهم الذين يلغون هذه العقود في أي وقت يشاءون ودون إبداء الأسباب .
وكانت مرتبات هؤلاء المدرسين من الضآلة بحيث لا تكاد تصدق ؛ فقد لا يصل مرتب المدرس إلي ثلاثة جنيهات ... كما لا يخفي أن مرتبات موظفي الحكومة كما قدمت – وإن كانت أحسن حالا من ذلك ، إلا أن مرتبات أئمة المساجد في وزارة الأوقاف لم تكن أحسن حالا من مرتبات المدارس الأهلية فكان مرتب الإمام المتخرج في الأزهر ويحمل شهادة العالمية في حدود الجنيهات الثلاثة . وقد رأيت أن أشير إلي ذلك حتى يتضح للقارئ فداحة المصيبة التي أصابت هذا الرجل الذي خدم هذه المدرسة ثمانية عشر عامًا والذي كان يعول أسرة كبيرة ، وقد رتب معيشته ومعيشة من يعول علي أساس هذا المورد الذي يكتسبه من عمله بهذه المدرسة حيث لم يكن مرتبه من وظيفته في الأوقاف يبلغ نصف مرتبه من المدرسة ... وفي الوقت الذي انقطع عنه فيه هذا المورد أضحي عاجزًا أن يجد عملا يعوضه عنه لأن التوقيت الذي اختاره ينبأ الاستغناء عنه توقيت مدبر ، أملاه الحقد الأسود بقصد القضاء علي هذا الرجل تامًا ، وفضيحته أمام الناس حيث تظهر الفاقة عليه وعلي أولاده وذويه ، ويضطر إلي الاستدانة والاستجداء ... ولم يكن في ذلك الوقت في تلك المدارس حق للمفصول أو المستغني عنه في معاش ولا مكافأة .
- وامعتصماه :
كان وقع هذه القصة حين قصها وفد إخوان مغاغة علي سمع الأستاذ المرشد كوقع كلمة " وامعتصماه " علي سمع الخليفة العباسي المعتصم بالله حين نقلت إليه عن المرأة المسلمة التي أسرت ببلاد الروم منتهزين فرصة أنها امرأة وحيدة لا نصير لها في بلادهم .. وكان رد الأستاذ المرشد تمامًا كرد الخليفة إذ قال لإخوان مغاغة وهو يبتسم " لا بأس . إذن ننشئ له مدرسة يكون هو ناظرها وصاحبها " . لم يكن لقولة الأستاذ المرشد هذه معني في عرف العقل والمنطق والقياس للأسباب الآتية :
- أولاً : لم يبق علي بدء الدراسة إلا أقل من شهر واحد .
- ثانيًا : أن هذا المشروع إذا أريد تنفيذه فإنه يحتاج إلي رأس مال لا يقل عن بضعة آلاف من الجنيهات في ذلك الوقت ؛ علي أن يسترق تنفيذه إذا وجد المال سنة علي الأقل .. فكيف يمكن مجرد التفكير فيه وليس لدي الشعبة ولا المركز العام شيء من هذا المبلغ .
- ثالثاً : إذا افترضنا جدلا أن مدرسة كاملة المباني وافية بجميع ما يشترط من الشروط الصحية والاجتماعية نزلت لنا من السماء الآن ، فإن العقبة الكبرى التي لا يمكن تذليلها هي العثور في هذا الوقت علي مدرس واحد يتعاقد معه بعد أن ارتبط كل مدرس بمدرسته .
- رابعًا : أن إعداد المقاعد والقماطر والسبورات لمدرسة كهذه يحتاج إذا وجد المكان والمال إلي عدة أشهر .
- خامسًا : إذا افترضنا جدلا أن هذه المدرسة موجودة بكامل معداتها ومدرسيها فإنها باعتبارها مدرسة جديدة تحتاج إلي عام كامل – مع جميع وسائل الإعلام الميسورة – حتى يعلم الناس بوجودها .. ثم هي لا تبدأ إلا بالسنة الأولي أي بالصف الأول فقط ، لأن الناس لن يثقوا بها إلا إذا أثبتت نتائجها جدارتها لاسيما وفي المدينة مدرسة قديمة أثبتت جدارتها من قبل والجميع يثقون بها .
تلقي وفد إخوان مغاغة وتلقينا نحن الحاضرين من إخوان المركز العام قولة الأستاذ هذه بابتسامة فيها كل المعاني التي تضمنتها الخمسة أسباب السابقة ، ولكن الأستاذ المرشد مصممًا علي قولته حيث كررها أكثر من مرة تكرار الواثق المتمكن ... ومع ارتيابنا بل ما نراه من استحالة في تحقيق هذا المشروع فإن ثقتنا التي تفوق كل تصور في الأستاذ المرشد جعلتنا نتهم عقولنا ونتهم المنطق والواقع ونصدق ما يقول ..... إن هذا الرجل الذي أتاه الله تعالي من العلم والحكمة ما بهر عقول كبار العلماء فطلبوا إليه أن يؤلف كتبًا يودعها هذه المعارف فكان رده عليهم : إنني لا أؤلف كتبًا يكون مصيرها تزيين الوقوف وأحشاء المكتبات ، وإنما مهمتي أن أؤلف رجالا أقذف بالرجل منهم في بلد فيحييه ، فالرجل منهم كتاب حي ينتقل إلي الناس ، ويقتحم عليهم عقولهم وقلوبهم ، ويبثهم كل ما في قلبه وعقله ، ويؤلف منهم رجالا كما ألف هو من قبل .
إن هذا الرجل الذي ربي هذا الشباب الغض علي أسمي المعاني الإنسانية وأجلها من إيمان وإيثار وتضحية لم تكن تربيته هذه تربية عقيما يقف بها عند حدود تطهير النفس وتزكية الروح ثم يعتزل أصحابها المجتمع متفانين في العبادة ، بل كان يربيهم هذه التربية ثم يلقي بهم في خضم المجتمع باعتبار أنهم كنوز يستثمرها في إصلاح ما فسد منه وبناء ما انهار من بنيانه .. وكان الأستاذ نفسه هو أقدر الناس علي استثمار هذه الكنوز وأبرعهم في الإفادة منها ، وأبصرهم بمكامن اللآلئ والدرر فيها ، وأكثرهم تمكنا من سد كل ثغرة من ثغرات المجتمع بما يناسبها من هذه اللآلئ والدرر كما يقول المثل العربي " يضع الهناء مواضع النقب " . علي أساس من معرفته بما تحت يده من هذه الكنوز قال واثقا قولته التي قالها ... قالها وهو يعلم أنها بحكم العقل وحده والمنطق والحساب إنما هي نوع من المحال ، ولكن الذي بيده مفاتيح هذه الكنوز هو فرق العقل والمنطق والحساب " والله يرزق من يشاء بغير حساب " . إن العنصر البشري طاقة كامنة لا حدود لقوتها ولكنها مفتقرة دائمًا إلي من يستطيع تفجيرها .
- إنشاء المدرسة أو تحقيق المحال :
قال الأستاذ المرشد لوفد إخوان مغاغة ، أنتم مكلفون بأمرين اثنين عليكم أن تنجزوهما :
- الأول : أن تقولوا للأخ الأستاذ الشيخ حسن سيد إن الإخوان قرروا أن ينشئوا لك في مغاغة مدرسة ابتدائية تبدأ الدراسة فيها من أول هذا العام الدراسي وتكون أنت ناظرها .
- الثاني : أن تجتمعوا بإخوانكم جميعًا وتدبروا مكانا يصلح أن يكون مدرسة مهما كان إيجاره والمركز العام متكفل بدفع إيجاره .
فإذا تم تدبير المكان فأخبرونا لنكمل الخطوات الأخرى إن شاء الله .
وبعد أيام وصل وفد من مغاغة يحمل إلينا نبأ إيجاد المكان المطلوب وقالوا إن الأخ المهندس الزراعي الأستاذ شلبي محمد جاد وكيل الشعبة – وهو نفسه الأخ الذي كان الأستاذ المرشد قد اتفق معه لأكون شريكاً له في معمل الألبان – قدم لنا منزلا يملكه ملحق به فناء واسع وهو مكون من ثلاثة طوابق ليكون مقرًا للمدرسة ، وتبرع بقيمة إيجاره في السنة الأولي . وأراد الأستاذ المرشد أن يقتحم علي منافسينا بصاعقة تذهلهم وتفقدهم رشدهم ، فقال لوفد مغاغة : ارجعوا إلي إخوانكم واطبعوا أكبر عدد ممكن من الإعلانات واكتبوا فيها أن المدرسة الإسلامية بمغاغة قد استقدمت جميع هيئة التدريس بها من القاهرة وكلهم من خريجي كليات الجامعة ويحملون شهادات البكالوريوس والليسانس – واكتبوا أسماءهم ومؤهل كل منهم أمام اسمه – واكتبوا في الإعلان أنهم سيحضرون إلي مغاغة يوم كذا في قطار الساعة كذا – وحدد لهم اليوم والساعة ...
وقال لهم : عليكم أن توزعوا الإعلانات في جميع أنحاء مغاغة وفي جميع قري المركز .. وعليكم أن تكونوا جميعًا في انتظارهم علي محطة السكة الحديد . ثم التفت إلي وقال : عليك أن تتأهب أنت وزميلك عباس حلمي ومحمد بسيوني (تخرج محمد بسيوني في ذلك العام في كلية الحقوق) للسفر معًا إلي مغاغة في يوم كذا وفي قطار الساعة كذا وهو اليوم والساعة اللتان حددهما لإخوان مغاغة . ودعوت زميلي وقابلنا الأستاذ فقال لنا : إنكم ستقومون بأهم دور في هذا المشروع الذي أنا أعده مشروع الساعة للدعوة والاختيار الدقيق لها ، وستحملون أنتم أكبر عبئ فيه ... إن عليكم أن تعرفوا الناس بأنفسكم وبمؤهلاتكم ، وعليكم أن تزوروا أعيان مغاغة وجميع البيوت المعروفة في قري المركز ... وستكون زياراتكم هذه لهذه البيوت مبعث ثقتهم في نجاح المشروع ، ودافعًا لهم علي التبرع له بسخاء ... ثم عليكم مع ذلك أن تتعاونوا مع إخوان مغاغة في تدبير كل ما يلزم المدرسة من مقاعد وقماطر وغيرها ... وحين تبدأ المدرسة فعليكم أن تقوموا بأنفسكم بتدريس جميع العلوم وسنضم إليكم في التدريس الأستاذ الشيخ حسن سيد الناظر ، ولا تتركوا مواقعكم في التدريس إلا بعد أن نعثر علي عدد كاف نتعاقد معه من المدرسين المحترفين . تلقينا هذه التعليمات من الأستاذ المرشد ولم يخطر ببالنا أننا مقدمون علي أشق مهمة علي الإطلاق ..
لا يعرف الشوق إلا من يكابـده
- ولا الصـبابة إلا من يعـانيـها
- مظاهرات من نوع جديد :
حزمنا أمتعتنا – ولم تكن أمتعة ذات بال ، فهي لا تعدو أن تكون ملء حقيبة ضمت أمتعتنا نحن الثلاثة ... وركبنا القطار الذي حدده لنا الأستاذ وتوكلنا علي الله ، حتى إذا صارت محطة مغاغة قاب قوسين أو أدني أعددنا أنفسنا أمام باب عربة القطار التي كنا فيها لنكون أول النازلين حين يقف القطار ، ولما كنا لم ننزل بمغاغة من قبل طمأننا الأستاذ أن سنجد في انتظارنا عددًا من الإخوان الذين عرفناهم في القاهرة . ووقف القطار ، ولم نكد نقدم رجلا للهبوط حتى رأينا المحطة تموج بمئات الناس الذين يبدو عليهم أنهم من علية القوم ، ورأينا الجميع يشيرون بأيديهم إلينا ، وتقدم نحونا الإخوان الذين عرفناهم في القاهرة وتناولوا حقيبتنا وخذوا بأيدينا وأحاطوا بنا ، وخرجنا من المحطة في موكب ضخم مهيب نتقدمه نحن الثلاثة وحولنا إخوان مغاغة وخلفنا هذه الجموع كأننا " عرسان " يزفون ليلة الزواج والهتاف " الله أكبر ولله الحمد " يشق عنان السماء .. وسلكوا بنا في هذا الموكب الشارع الرئيسي الذي يخترق المدينة من أولها لآخرها ، وعلي طول الطريق يرشفنا الناس علي الجانبين بنظرات ، ويوجهون نحونا إشارات كأنهم كانوا علي علم بمقدمنا وفي شوق لرؤيتنا ، حتى وصلنا إلي الدر لم تعد لتكون مقر المدرسة فدخلنا ودخل معنا كثير من الناس وأخذ الجميع يرحبون ويبدون سرورهم بمقدمنا .
كان باقيًا علي موعد بدء الدراسة في المدارس الابتدائية أقل من شهر ، ولم يكن بد من تقسيم المسئوليات علي الإخوان لينهض كل بما يوكل إليه في أسرع وقت ممكن ، وكان من مسئولية الأخ الأستاذ شلبي محمد جاد المتبرع بالدار أن يغير من شكل المبني ومحتوياته فيهدم أجزاء ويضيف أجزاء حتى يتواءم المبني مع الرسم الذي طلبته وزارة المعارف وجعلته شرطا لاعترافها بالمدرسة ، وكان علي الأخ الأستاذ محمد فؤاد سليمان ومعه مجموعة من الإخوان أن يحصلوا من مخازن الوزارة ومن المكتبات الأخرى علي الكتب اللازمة والكراريس وغيرها من الأدوات المكتبية للصفوف الأربعة . وهكذا قسم العمل وكان الموكول إلينا من المسئوليات هو أن نشترك في النهار مع اللجان المختلفة في مسئولياتها حتى إذا انتصف النهار وتناولنا طعام الغداء ، أعددنا أنفسنا لرحلة يومية يشترك معنا فيها الأستاذ الشيخ حسن سيد وبعض الإخوان لنزور كل يوم بلدًا من بلاد المركز أو بلدين لنشرح للناس مزايا هذه المدرسة والسبب في إنشائها وما كان من أمر الغدر بالشيخ حسن سيد كما يرون بأعينهم الأشخاص ذوي المؤهلات العالية الدين سيقومون بمهمة التدريس ، فتكون نتيجة كل زيارة من هذه الزيارات ضمان نقل أولادهم من مدرسة الأقباط إلي المدرسة الإسلامية وإلحاق أولادهم الجدد بها ، ثم تبرعًا سخيا يقدمه أثرياء البلد لحساب إنشاء هذه المدرسة .
كان هذا المجهود المتواصل شاقًا فقد كنا نغادر مغاغة كل يوم عصرًا ولا نعود إليها إلا منتصف الليل لنستأنف في الصباح الباكر العمل مع اللجان المتعددة المسئوليات . انهالت التبرعات من أثرياء القرى التي زرناها وتمكنا بذلك من شراء جميع احتياجات المدرسة من كتب وأدوات وسبورات ومكاتب وكراسي للمدرسين والزوار وأدوات النظافة وغيرها ثم واجهتنا معضلة أننا نريد قماطر للتلاميذ ونريد عددًا كبيرًا يتسع للعدد الذي قدرناه من التلاميذ نتيجة دعايتنا وزياراتنا ، وإذا كان معنا ثمن هذه القماطر فإن صناعتها قد تستغرق عدة أشهر ولم يبق علي موعد بدء الدراسة إلا عشرة أيام . تذكرت أن أحد أصدقائنا في رشيد كان قد أنشأ مدرسة ابتدائية في مطوبس ولكنه أخفق في المشروع فباع محتوياتها فاشتراها أخ كريم من إخواننا التجار برشيد فأرسلت إليه أن يشحن لنا جميع هذه القماطر (التخت) التي اشتراها فوصلت مع بدء الدراسة وكانت جديدة وقد طلب في الواحدة المزدوجة المقاعد ثلاثة عشر قرشًا وهو نفس الثمن الذي اشتراها به مع أنه كان يستطيع أن يبيعها في ذلك الوقت بأكثر من ثلاثين قرشًا ، ولو أننا اضطررنا إلي صنعها لتكلفت أكثر من ضعف ذلك .
- بدء الدراسة :
بدأت الدراسة في موعدها والمدرسة مستوفية جميع مالا تستوفيه مدرسة إلا بعد مضي أربع سنوات علي إنشائها أو أكثر إذا كانت الظروف مواتية ، وكادت مدرسة الأقباط تتوقف لولا ما تبقي بها من أولاد الأقباط وقليلا ما هم ، وأحس المستكبرين الغادرون بفشلهم وخطأ تقديراتهم فبعثوا إلي الأستاذ الشيخ حسن سيد يطلبون الصلح معه لكن الرجل رفض أن يضع يده في يد غادرين . وقمنا نحن الثلاثة بالتدريس طول اليوم ومعنا الناظر وابنه وأخ كريم حصل علي دبلوم الفنون التطبيقية في ذلك العام هو الأخ الأستاذ حسن عبد الله القباني قام بتدريس مادة الرسم ، فكان كل منا يدرس جميع حصص اليوم متصلة ، وقد يدرس لفصلين في آن واحد .. وقد انتهكتنا هذه الفترة التي دخلناها ونحن في أشد حالات الإرهاق من أثر الزيارات المتلاحقة للبلاد .... وكان الإخوان في خلال ذلك سواء في القاهرة وفي مغاغة يجدون في البحث عن مدرسين للتعاقد معهم حتى وفقوا إلي ثلاثة منهم حلوا محلنا بعد شهر من بدء الدراسة ، وقد أدركونا ونحن في الرمق الأخير .
- تقييم هذه التجربة :
كان هذا العمل الذي انتدب الإخوان أنفسهم للقيام به في مغاغة ، والذي حتمت الظروف النهوض بأعبائه ، كان امتحانًا قاسيًا ورائعًا لهذه الدعوة التي تعد في عمر الدعوات دعوة ناشئة ، وقد كشف هذا الامتحان عن طبائع هذه الدعوة بأسلوب جلي وقد تتضح منه القسمات التالية :
- أولا : أثبتت الدعوة للإخوان أنفسهم أنها دعوة إيجابية فعالة ، كما أثبتت ذلك لغير الإخوان ممن شهدوا مسرح الأحداث ، وبينت للجميع أنها دعوة لا تقف عند حد الأقوال والدعاية الكلامية والإقناع العقلي بالأسلوب المنطقي بل إنها تفعل ما تقول وقد تفعل كثر مما تقول .
- ثانيا : أثبتت أن العنصر البشري إذا ما تربي التربية الإسلامية السليمة الكاملة النابعة من الكتاب الكريم يستطيع أن يأتي بما يشبه المعجزات ، وأنه لا تعوقه العوائق المادية مهما عظمت .
- ثالثاً : أن القيادة القادرة التي تولت الشباب الغض وأنشأته علي أقوم الأسس وأعطته من ذات نفسها هي التي تعرف مقدار ما يكمن في هذا الشباب من طاقة خارقة للعادة ، وهي التي تعرف كيف توجه هذه الطاقة ومن توجهها لإنجاز أعمال يحكم العقل والقدرة المادية والمنطق باستحالة إنجازها .. ومن دستور هذه القيادة المأثور قولها : إذا صح العزم وضح السبيل .
- رابعًا : فسرت معني الأخوة الإسلامية " المسلم أخو المسلم لا يحقره ولا يخذله ولا يسلمه " وأنها إنما تقوم علي أسس من التضحية والإيثار لا علي الأثرة والاستغلال ، فهذا المجهود الذي بذل في إنشاء هذه المدرسة في الظرف المعين الذي كان يجب أن ننشأ فيه ، لا يمكن تقديره بمال مهما كثر ، ومع ذلك وبغير من ولا أذي حين اكتمل المشروع الاكتمال سلم إلي الأخ الذي هببنا لنجدته يتصرف فيه كما يشاء حيث قال الأستاذ المرشد حين بلغه نبأ الغدر به " إذن ننشئ له مدرسة يكون هو ناظرها وصاحبها " .
- خامسًا : أثبتت الدعوة أنها مع قدرتها دعوة سلام وعفة ، فقد كان في تصور من دبروا جريمة الغدر من قادة جمعية الأقباط ، كما كان في تصور الناس جميعًا في مغاغة أن رد الإخوان علي هذه الجريمة النكراء سيكون الاعتداء علي هذه الجمعية باليد واللسان ، ولكن المفاجأة كانت في أن شيئًا من هذا لم يحدث ، وإنما كان الرد هو ما تحدثنا عنه دون مس أي من هؤلاء كانت بكلمة نابية أو لفظ جارح ، ذلك أن الدعوة الإسلامية أبعد الدعوات عن فحش القول وعن الاعتداء ، لكنها تهب هبة المذعور لحماية من اعتدي عليه من أبنائها ولا تدخر وسعًا في حمايته وحياطته ..
- إلي مشروع الألبان :
بعد أن تم إنشاء المدرسة وبعد أن تسلم المدرسون المتعاقد معهم أماكنهم في المدرسة اتجهنا إلي مشروعنا الأصلي الذي اعترض طريقه هذا المشروع المدرسي الطارئ ، وكان من توفيق الله أننا فرغنا من مشروع المدرسة في الوقت المناسب لمشروع الألبان ، وتذاكرت وشريكي الأستاذ شلبي المشروع وكان معمله مجهزًا أحسن تجهيز وكتبنا عقد الشركة وعرضناه علي الأستاذ المرشد – لأنه كان حريصًا علي الاطلاع عليه – ووقعناه – وفهمت من شريكي أن سبب فشله في المشروع هو عدم تصريف منتجاته فتكفلت أنا بذلك بعد أن استوثقت من إخوان القاهرة التجار استعدادهم لشراء كل ما ينتجه المعمل ، واستمرت الشركة موسم لبن كاملا كنت خلاله كثير التردد علي القاهرة ثم رأيت إنهاءها .
وقد يكون مفيدًا للقارئ أن أسرد علي مسامعه تفاصيل هذا المشروع ولكن إيجازًا للقول أكتفي بوضع خلاصة له بين يديه ولا أكون بذلك قد خرجت علي الموضوع فتاريخ الدعوة هو تاريخ القائمين بها والعاملين لها والذين كرموا حياتهم للنهوض بها ، فلم يكن تحركي لهذا المشروع إلا بوحي من هذه الدعوة ، وما كان اهتمام الأستاذ المرشد به إلا لكونه يري أن مثل هذه المشاريع دعائم للدعوة ، وهاك الخلاصة :
- لم يكن يعوذنا المال فالمال كان متوفرًا ولم يكن يعوزنا تصريف الإنتاج فقد كان المطلوب منا أكثر من ضعف إنتاجنا .
- لم يكن يعوزنا الإخلاص فشريكي كان من المثل العليا التي يندر وجودها وممن يخشون الله ويتقونه ، وسأذكر واقعة واحد تنبئك عن مدي عمق إيمانه بالله ، فقد كان يملك قطعة أرض واسعة في وسط مغاغة فجاءه رجل أجنبي من خارج مغاغة وعرض عليه ثمنًا مشرفًا لهذه القطعة يبلغ ضعف ما يستحق لينشئ عليها دار للسينما وإذا لم يرغب في بيعها فليدخل معه شريكاً في هذه السينما – وكانت السينما في ذلك الوقت أربح مشروع – فطلب منه مهلة وسألني رأيي في هذا العرض فأجبته بأن السينما ما هي إلا أداة لعرض ما يراد عرضه فيها ولكن الأفلام التي تعرض هي عادة أفلام تدعو إلي الرذيلة .. فرفض عرض الأجنبي علي ما فيه من إغراء خشية أن يكون فيه ما يغضب الله .
- لم نبع صفقة إلا بربح ومع ذلك خسرنا خسارة كبيرة نتيجة قلة اللبن الوارد إلي المعمل ، والمصاريف اليومية والشهرية التي كان لابد من صرفها علي المعمل كانت تكفي لتصنيع عشر أضعاف كمية اللبن التي كانت ترد لنا ، ومن هنا نشأت الخسارة .
- سبب قلة الوارد إلي المعمل ترجع إلي إيثار شريكي عدم المجازفة بدفع أثمان اللبن لأصحاب المواشي قبل توريده إلينا في حين أن تجار " السمن " في القاهرة كانوا يدفعون لأصحاب المواشي في مغاغة مبالغ كبيرة قبل بدء موسم البن .. وقد اختلفت وجهة نظرنا في هذا الموضوع فكنت أري أننا أولي بالاطمئنان علي مالنا إذا دفعناه إلي هؤلاء الفلاحين من أولئك الذين يعيشون في القاهرة ويدفعون لهم الأموال . ولكن شريكي – لظروف شرحها لي قابلته في تربيته وهو طفل – جعلت عنده في كل تصرفاته فرط حرص .
وكما أن قيامي بهذا المشروع كان بمشورة من الأستاذ المرشد ، فقد كان إنهائي له وفض الشركة بمشورة منه أيضًا ... علي أن الذي أحب أن ألفت النظر إليه أن فض الشركة بيني وبين الأخ الأستاذ شلبي لم يكن له أي أثر علي ما بيننا من علاقة أخويا وسوف يأتي إن شاء الله في سياق هذه المذكرات ما يوضح ذلك .
- رأي عظيم لرجل عظيم :
قدمت من خلال الحديث من مشروع الألبان أنني كنت في خلال فترة قيامي بهذا المشروع أتردد علي القاهرة ففي إحدى مرات ترددي وكان مساء يوم خميس وجدتهم في المركز العام يوزعون الدعاة يوم الجمعة علي عدة مساجد ، فلما رأوني بينهم أدخلوني في التوزيع فكان من نصيبي ومعي الأخ صالح عشماوي مسجد أحمد زكي باشا بالجيزة .
وذهبت وزميلي إلي المسجد قبيل صلاة الجمعة ، ولما أذن للصلاة صعدت المنبر وخطبت الناس وأنا أتفحص وجوههم ، فلاحظت من بينهم وجهًا مشرقاً لشيخ معمم ذي لحية بيضاء وقور يرمقني وكأنه هو الذي يتفحصني ، فشغلني أمر الرجل حتى أنهيت الخطبة وصليت بالناس ، ثم قدم الناس يصافحونني وأنا أبحث عن الرجل فلم أجده بين من صافحوني .. فلما انفض الجميع وقلبي منشغل بالرجل تبين لي أنه باق في مجلسه . فلما رأي الناس قدًا تكشفوا عني رأيته قادمًا نحوي فتقدمت نحوه ، ومد يده إلي فشددت علي يده ثم صافح وميلي ثم خرجنا ثلاثتنا من المسجد وسرنًا معًا وقد طلب حين خرجنا من المسجد أن نشرب عنده القهوة فقبلت علي التو شوقاً إلي معرفة الرجل ، حتى إذا كنا أمام " فلة " جميلة قال تفضلوا ، ولمحت علي باب " الفلة " الخارجي لافته عليها اسم صاحبها فظننت رجلنا ساكنًا بها . فلما دخلنا وأخذنا مجالسنا قال الرجل : نريد أن نتعارف ، وقدم لي بطاقته ، فإذا عليها نفس الاسم المكتوب علي لافتة " الفلة " وهو " منصور مهران " الأستاذ بدار العلوم سابقًا ، فبدأت أعرف قدر الرجل ، وإن كنت ازددت له احترامًا فقد كنت أوليه لوقاره احترامًا يتواءم وهذا الوقار .. ثم التفت إلي فقلت : أنا فلان بكالوريوس زراعة وصاحب معمل ألبان في مغاغة ، وزميلي صالح مصطفي عشماوي بكالوريوس تجارة ومحاسب .
قال الشيخ : كم تعطيكم جمعية الإخوان المسلمين التي تنتسبون إليها في كل مرة تقومون بنشر دعايتها وإذا كانت تحاسبكم بالشهر فكم تعطيكم شهريًا .
قلت له : إن الجمعية لا تعطينا شيئًا لنشر دعوتها لا بالمرة ولا بالشهر .
قال : إذن من الذي يتكفل الدعاة بمقابل أتعابهم ومصاريف انتقالهم ؟ .
قلت : ليس عندنا مقابل أتعاب ، وكل منا يتكفل بمصاريف انتقاله .
قال : أنتما فقط أم هذا حال جميع الدعاة ؟ .
قلت : هذا حال جميع الدعاة .
قال : أليس للجمعية دعاة بمرتبات تدفعها لهم ؟ .
قلت : كل الدعاة مثلنا متطوعون . بل إن هؤلاء الدعاة يقدمون للجمعية من جيوبهم .
قال : كم يدفع العضو في الشهر ؟ .
قلت : الاشتراك في جمعيتنا ليس محددًا فمن الأعضاء من لا مقدرة عنده فلا يدفع شيئًا ، ومنهم من يدفع خمسة قروش ومنهم من يدفع عشرة قروش وهكذا ومنهم من يدفع جنيها أو أكثر حسب قدرته ولا فرق بين الجميع .
قال : ومن هو رئيس الجمعية ؟ .
قلت : ليس للجمعية رئيس وإنما لها مرشد هو الأستاذ حسن البنا وهو متخرج في دار العلوم وكان أول دفعته وهو مدرس بمدرسة عباس الابتدائية بالسبتية .
قال : وهل حددت الجمعية له مرتبًا من ماليتها ؟ .
قلت : لا .. وإنما هو يقسم مرتبه الذي يأخذه من وزارة المعارف بينه وبين أولاده وبين الجمعية ، وهو يقوم بنشر الدعوة في الأقاليم ويسافر كل أسبوع مرة أو أكثر علي حسابه الخاص .
قال الرجل .. اسمعوا يا أولادي .. إن هذا اليوم أسعد أيام حياتي ..إنني أؤمن بأن هذا الدين لا ينبض به إلا دعاة يبذلون له ولا يرتزقون منه .. ثم قال : نحن الأزهريين عيال في دراستنا علي كتب الرجال الأمجاد الشيخ الصباغ والشيخ النجار والشيخ الحداد وهؤلاء العلماء لم يسموا بهذه الأسماء إلا لأنها صناعاتهم . فالشيخ الصباغ كانت مهنته التي يرتزق منها هي صباغة الأقمشة ، والشيخ النجار كانت مهنته النجارة وهكذا كان لكل مهنته التي يكتسب عيشه منها ثم في وقت فراغه يضع هذه المؤلفات الإسلامية التي نحن مدينون بمعارفنا لها تقربًا إلي الله .
يا أولادي ... اليوم أموت وأنا مرتاح الضمير لأن الفئة التي كانت تنقص المجتمع الإسلامي قد وجدت ، ونهضة الإسلام كانت مرهونة بوجودهم . وهنا وقفت وزميلي مستأذنين وشاكرين الشيخ حسن ضيافته ودعوته لزيارة المركز العام فاعتذر بأنه قد لا يستطيع لضعفه لكنه حملنا التحية للأستاذ المرشد . ولما رجعنا وقابلت الأستاذ المرشد أبلغته تحية الشيخ وأطلعته علي بطاقته فقال لي إنه كان أستاذه ، ولما حدثته بحديثه استمع إليه باهتمام وقال : إن أمثال هذا الرجل بمثل هذا الفهم قليل في عالمنا اليوم .
- الشاي في الصعيـد :
كنت منذ صغري من محبي الشاي ومن المقبلين علي احتسائه كل صباح في المنزل ، فلما شبيت وكنت في السنة الرابعة الثانوية ونظرت إلي هذا الشراب فوجدته له جنايتين علينا نحن المصريين ، إحداهما إنه صادر عادة لنا أو بالتعبير المألوف " كيفاً " سيطر علي أعصابنا بحيث لم تعد تستطيع الاستغناء عنه ، فكأنما استعبدنا فصار لنا سيدًا وصرنا له عبيدًا والأخرى أنه مع ذلك بضاعة أجنبية ، واقتنعت بوجوب مقاطعته .
ولما كنت في مغاغة لاحظت أن أهل الصعيد أشد انغماسًا في هذا " الكيف " منا نحن أهل الوجه البحري ، فالعمال مثلا ينفقون أكثر مما يكتسبون علي الشاي .. وقد لمست خطورة هذا الشراب عن قرب حين كان ساكنا معي الأخ الأستاذ حسن عبد الله القباني وهو من أهل قوص إحدى حواضر قنا وهو مدرس الرسم بالمدرسة كما ذكرت قبلا .. فرأيته يهيئ لنفسه الشاي كل صباح بطريقة يكثر فيها من الشاي الجاف ويظل يغليه في الماء حتى يصل إلي قوام يشبه قوام الزيت ، وحتى إن طعم السكر لا يظهر فيه مهما أكثرت منه عليه ، و يخشي منه قبل أن يذهب إلي المدرسة ثلاثة أكواب صغيرة ثم يذهب للمدرسة ويبدأ عمله في الساعة الثامنة حتى إذا وصلت الساعة العاشرة حيث استراحة التلاميذ ظهرًا فيتغذي ويهيئ الشاي لنفسه بطريقة الصباح ، ثم يذهب إلي المدرسة لفترة ما بعد الظهر حيث تنتهي الدراسة الساعة الثالثة فيجد الفراش بالكوب في انتظاره ثم يشرب الشاي بعد العشاء بمثل طريقة الصباح ،وقد يشرب مرة بين الساعة الثالثة والعشاء .
إنه هو الذي ذكر لي هذا النظام الذي يلتزمه والذي إذا افتقد مرة من مراته عجز عن أداء عمله حتى يسعف بالشاي . ولقد أخبرني أن الشاي في حياتهم هو كل شيء حتى إن أطفالهم يفطمون علي الشاي وأنه هو شخصيًا فطم علي الشاي . ولما كانت القدوة هي أقوي وسائل التأثير فقد سهل علي إقناع الأخ الكريم بضرر الشاي وخطورته وعاونته في أتباع خطة انتهت إلي مقاطعة الشاي والاستعاضة عنه بمشروبات وطنية أخري كالكركديه والينسون والنعناع ، فأدي ذلك إلي تحرره من هذه العادة المسيطرة كما أدي إلي تحسن كبير في صحته . وبهذه المناسبة أذكر أنه لما جاء موعد إجازة نصف السنة وسافر الأخ حسن إلي بلدته قوص ليقضي الإجازة فيها فلما عاد من الإجازة قال لي سأروي لك شيئًا طريفاً وقع لي في هذه الإجازة .. قال : لما وصل بي القطار إلي محطة قوص ، وكان أهلي علي علم بموعد وصولي نظرت من القطار فوجدتهم في انتظاري علي رصيف المحطة ، فنزلت من القطار ومعي حقيبتي فلم يتقدم نحوي أحد منهم ليحمل عني حقيبتي كالمعتاد ، كما لم يتحرك أحد منهم كأنهم لم يروني ، فتقدمت نحوهم حتى التصق بهم ولم يمد أحد منهم يد لمصافحتي فعجبت وقلت لهم مالي أراكم هذه المرة تتجاهلوني ماذا حدث ؟ قالوا من أنت ؟ قلت أنا حسن عبد الله فبدا عليهم الدهشة وقالوا أنت حسن ؟ إذن أنت تغيرت كل التغير ، لقد كنت نحيفًا أسمر الوجه ونراك الآن ممتلئ الجسم أبيض الوجه ماذا حدث ؟ فتذكرن أن شيئًا لم يحدث لي إلا لمقاطعتي للشاي التي أدت إلي فتح شهيتي للطعام فقلت لهم فتعجبوا .
وقد يكون الإسراف في الشاي فعلا من أسباب ضعف الجسم فلازلت أذكر كلمة للأخ الدكتور محمد أحمد سليمان قالها في أثناء محاضرة كان قد ألقاها علينا في المركز العام حيث قال : إن الشاي يحتوي علي حمض العفصيك " التنيك " الذي يستخدم في دبغ الجلود ، وقال إن الهضم في المعدة يتم عن طريق أهداب قطيفية تبطن المعدة من داخلها فإذا نزل الشاي علي هذه الأهداب القطيفية دبغها أي قضي عليها فتعجز المعدة من الهضم .
مواجهة بين المرشد العام وطه حسين
لما انتقلت الدعوة بمركزها العام إلي ميدان الحلمية الجديد ، رأي الأستاذ أحمد السكري أن ينتقل إلي القاهرة ورأي الأستاذ المرشد أن يهيئ له ذلك فألحقه بوظيفة في ديوان وزارة المعارف سكرتيرًا لمدير التعليم الزراعي . وفي ذلك الوقت عين الدكتور طه حسين المستشار الفني لوزارة المعارف ، وهو منصب لم يكن موجودًا من قبل ولكنه أنشئ للدكتور طه شخصيًا ، وكان لتعيين الدكتور طه في هذا المنصب دوي هائل في جميع الدوائر التعليمية والثقافية في مصر وفي خارج مصر ، باعتبار أن صاحب هذا المنصب هو الذي سيوجه الثقافة في مصر حيث يشاء ، وسيحتكم في تلوين ثقافة البلاد باللون الذي يروقه . وقد يكون هذا المنصب أخطر المناصب تأثيرًا في بلد ناشئ كمصر تتجاذبه تيارات متضاربة لا يدري أيها أنفع له ولا إلي أيها يتجه . ولطه حسين نزعات عرفت عنه واشتهر بها . وتوجس الكثيرون خيفة مما عسي أن يسفر عنه تعيينه في هذا المنصب الخطير .
وطه حسين أديب ضليع تلقي الأدب علي الشيخ المرصفي الذي كان إمام عصره ، ودرس في الأزهر حتى أوشك أن يحصل علي شهادة العالمية منه – وهي أعلي شهاداته – ولكنهم – لسبب ما – أسقطوه مع أنه لم يكن يعوزه العلم ولا اللغة ولا الذكاء .. فاتجه منذ ذلك الوقت – مكرها – إلي الجامعة المصرية الناشئة وحصل منها بتفوق علي الليسانس ، وأوفدته الجامعة في بعثة إلي باريس حيث حصل علي الدكتوراه وتزوج فرنسية حضرت معه إلي مصر وعين مدرسا بكلية الآداب وصار يكتب ويحاضر في الجامعة وخارجها ... واقتحم إلي ميدان السياسة وناصر حزب الوفد فاعتبر بذلك من المناوئين للسراي ... وألف مؤلفات في الأدب الجاهل والشعر الجاهلي كان لها ضجة في أنحاء البلاد ، واستطاع بذلك أن يبرز في المجتمع ، فحقق بذلك من آماله مالم يكن ليحققه لو أنه حصل علي العالمية وسلك طريقها ..
وكاد الأزهر في حملاته عليه أن يعصف به ويقضي عليه قضاء تامًا لولا أنه كان يأوي بانتسابه لحزب الوفد إلي ركن شديد .. ومع ذلك فإن الأزهر بعدائه له واستعداده للسراي استطاع في إحدى الفترات أن يفصله من الجامعة فاحتضنه الوفد وأوسع له من صحفه يحرر فيها بأسلوبه الأدبي الناقد مستغنيًا بذلك عن مرتب الجامعة .. ولكنه بعد كل هذا استطاع أن يرجع إلي الجامعة ويصير عميدًا لكلية الآداب وتبوأ علي المناصب حتى وصل إلي هذا المنصب الذي استحدث أجله تقديرًا لمكانته وإقرارًا بفضله . علي أن احتفاء حكومة في بلد كمصر – لاسيما في الزمن الذي نحن بصدده – بإنسان وإحلاله في أعلي المناصب وإضفاء الألقاب الرنانة عليه ، ليس دليلا علي فضله ولا علي جدارته ، فمثل هذه الحكومات إنما تستوحي قراراتها وتستلهم اختياراتها من إهواء شخصية أو عصبية حزبية أو توجيهات أجنبية ... ولست أقصد من هذا إلي الطعن في طه حسين أو الغض من مقدرته الأدبية أو الاستخفاف بمواهبه الفطرية ، فقد ألمحت إلي ذكائه ومكانته الأدبية ، ولكنني أحببت أن لا يولي القارئ اتجاهات الحكومات في ذلك العهد من الاهتمام والتقدير أكثر مما تستحق .
أما عن طه حسين نفسه فإنه .. مع ذكائه ونافد بصيرته – شاب طاردته أكبر جامعة دينية في بلده فتلقفته جامعات فرنسا ، وأوسعت له من وارف ظلها ، فأحس في ظلالها بترحاب لم يحط بشيء منه في بلده وتقلب في أحضان نعمة لم يذق مثلها في منشئه ، ولم تكتف فرنسا بذلك كله بل حبته أيضا قطعة من نفسها حتى يكون حيث كان ومعه روح فرنسا تسيطر علي بيته ونفسه وقلبه وعقله ، تلك هي زوجته ... ولولا أن طه حسين منطويًا علي قلب حصين – لأنه كان يحفظ القرآن منذ نشأته – لما كان مثله بعد ذلك إلا فرنسيًا مخلصًا . وضع طه حسين في هذه الأثناء كتابة " مستقبل الثقافة في مصر " ضمنه أراء فيما يجب أن تتجه إليه الثقافة في مصر ، وكان لهذا الكتاب دوي كبير في جميع الأوساط لاسيما الأوساط التعليمية والتربوية التي كان يعنيها موضوع الكتاب قبل غيرهم ، ولأن الكتاب كان دعوة صريحة إلي الاتجاه إلي الغرب بطريقة مزعجة فقد جاء في الكتاب ما يكاد يكون نصه " وأري أن نأخذ بالحضارة الغربية خيرها وشرها حلوها ومرها " .
وقد تناولت الكتاب أقلام النقاد بين قادح ومادح ، وسالت أنهار الصحف بهذا النقد ، فالمادحون هو الذين تربوا في أحضان الحضارة الغربية فهم بها مفتنون ، والقادحون كان أكثرهم من أعداء طه حسين التقليديين ... ولا أعتقد أن كتابًا في العصر الحديث في مصر استأثر باهتمام المشتغلين بالتربية والتعليم مثلما استأثر به هذا الكتاب ، للظروف التي صدر فيها والتي أشرت إلي ظرف منها . كنت في ذلك الوقت في عملي في مغاغة ، ولم تكن وسائل المواصلات ولا وسائل الإعلام قد تقدمت في بلادنا في ذلك العهد بعد ؛ فلم يكن الراديو قد انتشر في مصر أو قد وجد ، فكانت الأحداث التي تضطرب بها العاصمة قلما يصل من أنبائها إلي غيرها من البلاد لاسيما بلاد الصعيد ولولا أن هذا الكتاب قد ظهر وقرأت عنه وأنا أتردد علي القاهرة في أوائل أيام انتقالي إلي مغاغة لكنت كأهل الصعيد خالي الذهن عنه .. وصلني خطاب من الأستاذ المرشد يخبرني فيه أنه سيحضر لزيارة إخوان " سدس الأمراء " وأنه يريد أن أكون في انتظاره علي محطة " ببا " وحدد لي اليوم وموعد وصول القطار ...." وفي الموعد المحدد كنت والأستاذ شلبي ومجموعة من الإخوان في انتظاره ، وقد صحبناه إلي سدس الأمراء – وهي قرية من أعمال مركز ببا محافظة بني سويف .. وكان يومًا كريمًا من أيام الله ..
وفي أثناء ذلك انتهز الأستاذ فرصة كنت وإياه منفردين فقال لي : أتعرف يا محمود لماذا حرصت هذه المرة علي أن تقابلني ؟ قلت : لعله خير إن شاء الله . قال : إن عندي حديثًا يجب أن تعرفه وظروفك حالت دون أن تكون معنا لتشهده . قلت متشوقاً : وما عساه أن يكون ؟ قال : لعلك طبعًا علمت بما كان من أمر كتاب الدكتور طه حسين الذي أصدره أخيرًا عن " مستقبل الثقافة في مصر " وما تناولته الصحف من نقده ، قلت نعم ... قال : لقد بلغني أن الرجل لم يكترث بكل ما كتب وأنه مصمم علي وضع آرائه في الكتاب موضع التنفيذ باعتباره " مستشار الوزارة " ولم أكن لضيق وقتي قد اطلعت علي هذا الكتاب بعد .. وقد اتصل بي بعض أصدقائنا من الغيورين وطلبوا إلي أن أنقد الكتاب .. فلما قلت لهم إنني لم أطلع عليه قالوا : إنه لم يعد هناك وقت وكان يجب أن تكون قد قرأت الكتاب فقد ظهر منذ عدة أشهر والدكتور طه حسين لم يكترث بكل ما كتب وبكل ما قيل وقد قرر وضع الكتاب موضع التنفيذ ، ولا ينبغي أن يكون هناك تغيير جذري في سياسة البلد الثقافية دون أن يقول الإخوان كلمتهم قال : ولم يكتفوا بذلك بل أخبروني أنهم حددوا موعدًا في دار الشبان وطبعوا الدعوات وكان الموعد بعد خمسة أيام . قال الأستاذ : ولم أكن أستطيع التحلل من مواعيد كنت مرتبطًا بها في خلال هذه الأيام الخمسة فلم أجد وقتًا أخصصه لقراءة هذا الكتاب إلا فترة ركوبي الترام في الصباح إلي مدرستي وفترة رجوعي منها في الترام ، قال : فقرأت الكتاب – لأنه لم يكن كبيرًا– وكنت أضع علامات بالقلم الرصاص علي فقرات معينة..ولم تمض الأيام الخمسة التي كنت قد استوعبت الكتاب كله .
قال الأستاذ : وفي الموعد المحدد ذهبت إلي دار الشبان فوجدتها – علي غير عادتها – غاصة .. والحاضرون هم رجالات العلم والأدب والتربية في مصر ، ليس من هو دون هذا المستوي .. ووقفت علي المنصة واستفتحت بحمد الله والصلاة والسلام علي رسول الله ، وبجانبي الدكتور يحيي الدرديري السكرتير العام للشبان المسلمين : ورأيت الكتاب كله منطبعًا في خاطري بعلاماتي التي كنت علمتها بالقلم الرصاص ... قال وبدأت أول ما بدأت فقلت : إنني لن أنقد هذا الكتاب بكلام من عندي وإنما سأنقد بعضه ببعضه .. وأخذت – ملتزمًا بهذا الشرط – أذكر العبارة من الكتاب وأعارضها بعبارة أخري من نفس الكتاب .. ولاحظ الدكتور الدرديري أنني في كل مرة أقول " يقول الدكتور طه حسين في الكتاب في صفحة كذا وأقرأ العبارة بنصها من خاطري ثم أقول ويناقض الدكتور طه نفسه فيقول في صفحة كذا وأقرأ العبارة بنصها أيضًا من خاطري ، فاستوقفني الدكتور الدرديري ، وطلب إلي أن أمهله حتى يحضر نسخة من الكتاب ليراجع معي النصوص والصفحات لأنه قرأ الكتاب ولم يلاحظ فيه هذا التناقض وكأنه لم يقرأ العبارات التي يسمعها الآن .
وأحضر له الكتاب ، وظل يتابعني فيجد العبارات لا تنقص حرفًا ولا تزيد حرفاً ، ويجد الصفحات كما أحددها تمامًا ، فكاد الدكتور الدرديري يجن كما ساد الحاضرين جو من الدهشة والذهول ، والكل يتجه – كلما قرأت من خاطري عبارتين متناقضتين – إلي الدكتور الدرديري كأنهم يسألونه : أحقاً هذه العبارات في الكتاب ؟ فيقول الدكتور الدرديري في كل مرة " تمامًا بالنصوص والصفحات " . قال الأستاذ وظللت علي هذه الوتيرة حتى أنهيت الكتاب كله وأنهيت المحاضرة .... فقام الجميع وفي مقدمتهم الدكتور الدرديري بين معانق ومقبل . قال الأستاذ : ولما هممت بالانصراف رجاني الدكتور الدرديري أن أنتظر برهة لأنه يريد أن يسر إلي حديثاً ، واقترب مني وأسر في أذني سرًا تعجبت له قال : لما نشرنا عن موضوع محاضرتك وموعدها اتصل بي الدكتور طه حسين وطلب إلي أن أعد له مكانًا في هذه الدار يستطيع فيه أن يسمع كل كلمة تقولها دون أن يراه أو يعلم بوجوده أحد فأعددنا له المكان وحضر المحاضرة من أولها إلي آخرها ثم خرج دون أن يراه أو يعلم به أحد .
قال لي الأستاذ المرشد : وفي اليوم التالي ، طلب الدكتور طه حسين بمكتبه بوزارة المعارف الأستاذ أحمد السكري وقال له : أحب أن ترتب لي اجتماعًا بالأستاذ حسن البنا في أي مكان بحيث لا يكون معنا أحد وبحيث لا يعلم به أحد ، وليكن هذا المكان في بيته أو بيتي أو في مكتبي هنا ، فليختر واحدًا من هذه الأمكنة . قال الأستاذ : وأبلغني الأستاذ أحمد السكري بذلك فريت أن يكون الاجتماع في مكتبه بالوزارة . قال : وبدأ الدكتور طه الاجتماع بقوله : لعلك يا أستاذ حسن لا تعلم بأني حضرت محاضرتك وبأنني كنت حريصًا علي حضورها وعلي الاستماع إلي كل كلمة تقولها لأنني أعرف من هو حسن البنا ، وأقسم لك لو أن أعظم عظيم في مصر كان في مكانك ما أعرته اهتمامًا .... قال لي الأستاذ المرشد : فشكرته ثم سألته عن رأيه في المواضع التي وجهت النقد إليها في الكتاب وهل لديه من رد عليها ؟ .
قال الدكتور طه : ليس لي رد علي شيء منها ، وهذا نوع من النقد لا يستطيعه غيرك ، وهذا هو ما عناني مشقة الاستماع إليك ،ولقد كنت استمع إلي نقدك لي وأطرب ... وأقسم يا أستاذ حسن لو كان أعدائي شرفاء مثلك لطأطأت رأسي لهم ، لكن أعدائي أخساء لا يتقيدون بمبدأ ولا بشرف ، إن أعدائي هو الأزهريون ، وقد ظنوا أنهم يستطيعون أن يمحوا أسمي من التاريخ ، وقد كرست حياتي لإحباط مكايدهم ، وهاأنذا بحمد الله في الموضع الذي وتتقطع أعناقهم دونه ... ليت أعدائي مثل حسن البنا إذن لمددت لهم يدي من أول يوم . ثم قال الدكتور طه : هل هناك سوي ذلك مما قد تختلف عليه مما تعرفه عنه ؟ .
قلت : هناك قضية العلم والدين ، إنكم تنادون بأن يكون الدين في خدمة العلم ،و هو الرأي الذي تقوم عليه الحضارة الحديثة في الغرب ... وهذا الرأي خاطئ لأن معناه أنه إذا اصطدم الدين مع العلم في أمر من الأمور نبذ الدين واتخذ العلم دينًا . يجب الفصل بين العلم والدين ، لأن الدين حقائق ثابتة والعلم نظريات متطورة ، فإذا ألبسنا العلم ثوب الدين جمدنا العلم ، إذا نحن أخضعنا الدين للعلم ، فلسفنا الدين فأخرجناه بذلك من طبيعته ولم يعد دينًا .
قال الأستاذ : ثم تناقشنا في مواضيع مختلفة تدور حول طبيعة الفكرة الإسلامية ، ومدي إحاطتها بكل نواحي المجتمع فكان آخر حديث لي بعد أن تحدثنا أكثر من ساعتين أن قلت له : لو أن أصحاب الآراء حين يختلفون حول أمر من الأمور لم يعتقد كل منهم أن رأيه هو الصواب كله وأن آراء غيره هي الخطأ كله بل أضاف إلي اعتقاده في صحة رأيه اعتقادًا بأنه قد يكون في آراء الآخرين نوع من الصواب وإن لم يبن له ، .. لما اشتد الخلاف ووصل إلي خصومة تطمس في ظلماتها معالم الحقيقة . وينقلب النقاش من كونه وسيلة للبحث عن الحقيقة إلي محاولة للانتصار للرأي والمجادلة بالباطل قال الأستاذ وقلت له : إن خير مثل يوضح ذلك ما ذكره الإمام الغزالي من أن أربعة من العميان وقفوا فيل فلمس أحدهم أقرب ما يقابله منه فكان الخرطوم فقال إن الفيل ما هو إلا خرطوم طويل رفيع ، ولمس الثاني أذن الفيل فقال : لا إن الفيل هو صفحة جلدية واسعة ، ولمس الثالث رجل الفيل فقال : لا ... بل هو عمود مستدير ، ولمس الأخير جسم الفيل فقال لا : بل هو حائط عريض أملس ... قال الأستاذ : فلو أن هؤلاء الأربعة لم يتعصب كل منهم لرأيه وتركوا فرصة للتفاهم فيما بينهم .. ولا يمكن تفاهم إلا إذا أفترض كل منهم أن يكون في رأي غيره بعض من الحقيقة – لامتدت يد كل منهم إلي مواضع أيدي زملائه فيلمس ما لمسوا فتتكون عند كل منهم صورة كاملة عن الفيل .
هذا ... وبعد أن رويت عن الأستاذ المرشد ما رويت في هذه الواقعة ، يجدر بي أن أقرر – تحريًا للصدق – وصونًا لأمانة النقل – أني أسجل ما دار في هذه اللقاءات بعد ستة وثلاثين عامًا من سماعي إياها فقد أكون أنسيت بعضًا منها – وقد أنسيت بغير شك الكثير – وقد لا يكون تعبير عن البعض الباقي في الذاكرة منها دقيقًا تمام الدقة .. لكنني كنت حريصًا علي تسجيل الخطوط العريضة منها ، وتسجيل أن من آثار هذا اللقاء أن عدل الدكتور طه حسين عن آرائه التي سجلها في كتابه هذا وفي كتبه ومقالاته التي سبقته وكان في بقية حياته خط آخر استحق به أن يكون عميد الأدب العربي .
عودة إلي البناء الداخلي للدعوة
بعد هذا الاستطراد الذي تناولنا فيه تجربة مغاغة والمواجهة بين الأستاذ المرشد وطه حسين ، نرجع إلي ما خصصنا له هذا الفصل مما يتصل بالبناء الداخلي للدعوة فنقول : سافرت إلي القاهرة ناوياً الإقامة فيها فرأي الأستاذ المرشد أن يسند إلي بعض مهام الدعوة حيث كنت في تلك الأثناء متفرغًا فكلفني بالإشراف مع الصحافة والطلبة .
- 1 – صحافة الدعوة :
- مجلة التعارف :
بعد أن فقد الإخوان مجلة النذير في أعقاب الفتنة الأولي لم يعد للإخوان مجلة يملكون امتيازها فلجئوا إلي استئجار مجلات كان أصحابها قد حصلوا علي الترخيص بها لإصدارها لحسابهم – لأنهم يعجزون عن ذلك – وإنما فعلوا ذلك حتى تستأجرها منهم هيئة من الهيئات .. وقد ظل المركز العام منذ انتقاله إلي الحلمية الجديدة يستأجر مجلات من هذا النوع عدة سنوات وكلما صودرت واحدة استأجر أخري ومن هذه المجلات النضال والمباحث والتعارف ... والمجلة التي أسند إلي الإشراف عليها كانت مجلة التعارف ، وكان إشرافي عليها في الفترة التي سقطت فيها فرنسا في يد الألمان ، وكان لسقوطها دوي هائل في أنحاء العالم لم تستطيع الثبات أمام هجمات الألمان حتى ركعت علي ركبتيها واستسلمت وتألفت فيها حكومة جديدة علي رأسها الماريشال بتيان وكان من أشهر القواد الفرنسيين ، وقد صرح تصريحًا مشهورًا سجله التاريخ أقر فيه بأن هذه الهزيمة المنكرة إنما تعزي إلي الانهيار الخلقي الذي انحدر إليه الشعب الفرنسي .
وكان هذا التصريح مثار تعليقات في الصحافة العالمية لأمد طويل لأن سقوط فرنسا بهذه السرعة كان مفاجأة أذهلت العالم كله .. وكان أشد الناس اهتمامًا بتصريح الماريشال بيتان أولئك الذين ظلوا سنين طويلة من قبل يحذرون شعوبهم وحكوماتهم من سوء العاقبة إذا لم يتمسكوا بأهداب الدين والخلق .. وكان الإخوان المسلمون في مصر علي رأس هذا الصنف من الناس وكانت مجلتهم هي المرآة التي تعكس مدي اهتمامهم بهذا التصريح فظلت تكتب أمدًا طويلا المقالات الضافية تعليقًا علي سقوط فرنسا وأسباب هذا السقوط التي اعترف بها ماريشال فرنسا . وكانت هناك سلسلة متصلة من المقالات في هذا الموضوع دبجها يراع طالب بكلية أصول الدين كانت قطعًا أدبية بالغة الروعة ، فلما وصلتني المقالة الأولي منه أخذت بروعتها ولكنني حين رتبت وضع المقالات في المجلة جعلتها في الصفحات الداخلية باعتبار أنها علي كل حال من كتابة طالب ولكنني حين عرضت علي الأستاذ المرشد الترتيب الذي هيأته للنشر توقف عند هذه المقالة وقال لي : ألم تأخذ بلبك هذه المقالة ؟ قلت : بلي . قال : ولم لم تجعلها المقال الافتتاحي إذن : ألأنه طالب ؟ قلت : هذا فعلا هو السبب . قال : أري أن تجعلها المقال الافتتاحي وأن تجعل كل مقالاته دائمًا المقالات الافتتاحية لأنني أشم في كتابته أدب الرافعي رحمه الله . وقال لي : إنه الرافعي الصغير ، وكان هذا الطالب الذي أطلق عليه الأستاذ المرشد لقب " الرافعي الصغير " هو إسماعيل حمدي الطالب إذ ذاك بكلية أصول الدين ، وكنا إذ ذاك في الإجازة الصيفية فكان يرسل إلي مقالاته تبعً من بلدته " إمري " .
وبهذه المناسبة أذكر أن الأستاذ المرشد كان يضع أدب الرافعي في أعلي مراتب الأدب في عصره وينظر إلي الرافعي باعتباره رائد الأدب الإسلامي ، وناهيك بمن يحله الأستاذ المرشد هذا المحل ، فالأستاذ المرشد كان هو الرجل الذي لو شاء أن يتخصص للكتابة الأدبية لملك ناصيتها ولكان قمة الأدب ولما لحق به كل من تسنموا هذه القمة ... فكان رحمه الله – وهو صاحب الدعوة الإسلامية في هذا العصر ... يري الرافعي رحمه الله في مقام حسان بن ثابت في عصر النبوة ... وكان – كما ألمحت من قبل – يحفظ الكثير من شعر الرافعي مع أنه أكثر الناس – وكنت منهم – لا يعرفون أن الرافعي كان شاعرًا ناثرًا ولا يعرفون أن له ديوانًا مطبوعًا ، وأنا شخصيًا لم أر هذا الديوان إلا عند الأستاذ المرشد ، ولا شك في أن القوي الخفية المعادية للفكرة الإسلامية كانت من وراء حجب ما أمكنها حجبة من أدب الرافعي عن الجمهور لأنه كان أدبًا نفاذًا إلي القلوب صادرًا من قلب يضطرم باسمي العواطف الإسلامية ، وحسبك أن تستمع إلي نشيده الوطني الذي اخترق بأعجوبة هذه الحجب المصطنعة فردده الشعب في أثناء صحوة من صحواته الوطنية والذي فاصلته :
لك يا مصر السـلامة
- وســلامًـا يا بــلادي
إن رمي الدهـر سهـامًا
- اتقيــهــا بفـــؤادي
- واسلمي في كل حيـن
ومن أبياته التي كان الأستاذ المرشد يتمثل بها قوله :
لو كل مزمار لهو عنـدنا خنث
- لنــابه مدفـع عنـانه بشـع
إذن لكانت لنا بين الورى لغـة متى تقل قولها في العالم استمعوا
وكان الأستاذ المرشد حريصًا علي تربية خليفة يخلف الرافعي في أدبه لأن الدعوة الإسلامية لا تستغني عن قلم يدافع عنها في عالم الأدب ويرفع رايتها بين الرايات فيه ، وكان يرشح اثنين لهذه الخلافة : إسماعيل حمدي ، وعبد المنعم خلاف ؛ وكان يعمل دائمًا علي إفساح الطريق لهما بكل ما يستطيع من وسائل ولكن يبدو أن النكبات التي توالت علي الدعوة لم تدع لهما فرصة . وكان من الكتاب الذين يوصيني الأستاذ بالعناية بهم وإفساح المجال لمقالاتهم " محمد الغزالي " الذي كان إذ ذاك طالبا بكلية أصول الدين أيضا فقد كان الأستاذ المرشد يبدي إعجابه بقلمه وبأسلوبه
- مجلة المنار :
مجلة المنار هي المجلة التي كان يصدرها ويحررها الأستاذ الشيخ محمد رشيد رحمه الله ، وكان قوامها ما ينشره في صدرها من تفسير القرآن الكريم للشيخ محمد عبده ، حيث كان الشيخ محمد عبده يلقي درسًا في جامع الأزهر في تفسير القرآن تحضره مجموعة من صفوة العلماء ورواد الفكر والأدب والوطنية وكان له في مقدمتهم زميله وأقرب تلامذته إلي نفسه الشيخ محمد رشيد رضا .. وكان الشيخ محمد رشيد رضا حريصًا علي كتابة ما يلقيه أستاذه في الدرس وينشره في هذه المجلة تباعًا . ولما كان الشيخ محمد عبده علي رأس رواد الفكرة الإسلامية في هذا العهد وصاحب نظرية إصلاحية أبرزت الفكرة بصورة شاملو لم يكن للناس ، ولا لعلماء الأزهر بها عهد ، فقد كان تفسيره للقرآن طرازًا جديدًا من التفسير تهافت الناس علي قراءته في أنحاء مصر وفي أنحاء العالم العربي والإسلامي وكاتب الوسيلة الوحيدة إلي ذلك هي اقتناء مجلة المنار ... وبذلك حظيت هذه المجلة من الذيوع والانتشار مع التوفير والاحترام بما لم تحظ به مجلة أخري في العالم العربي والإسلامي لاسيما في أوساط العلماء والأدباء والمثقفين .
ولما اختار الله الشيخ محمد عبده إلي جواره واصل الشيخ محمد رشيد رضا إصدار المنار مقتضيا أثر أستاذه في التفسير بنفس الأسلوب وبنفس المستوي حيث كان الشيخ رشيد في درجة من العلم والإدراك والإحاطة لا تقل عن درجة أستاذه فيها ... ولذا فقد ظلت المنار بعد وفاة الشيخ محمد عبده في مكانها الرفيع من نفوس العالم العربي والعالم الإسلامي . علي أن المنار لم تكن قاصرة علي مقال التفسير – وإن كان مقال التفسير يشغل أكثر صفحاتها – بل كانت تحفل بمقالات وبحوث وفتاوى كان أكثرها بقلم الشيخ رشيد ، وإن كانت لا تخلو من مقالات قليلة لبعض كبار الكتاب الإسلاميين حيث لا يجرؤ أكثر الكتاب علي التقدم إليها بمقالاتهم ....
وظلت " المنار " ف مكانها الرفيع حتى اختار الله الشيخ رشيد إلي جواره وكان قد وصل في التفسير إلي سورة هود ، فأخذت أسرة الشيخ رشيد في البحث عن أكبر عالم في العالم العربي ليخلف الشيخ رشيد في المنار حتى وفقوا إلي طلبتهم فأسندوا تحريرها إلي عالم جليل من سوريا لا أذكر اسمه الآن فحاول متابعة التفسير علي مستوي الشيخ رشيد فأتم تفسير سورة يوسف وهنا فوجئ الأستاذ بأسرة الشيخ رشيد تطلب إليه أن يقوم بأعباء " المنار " . ولم يكن الأستاذ المرشد غريبًا علي أسرة الشيخ رشيد فلقد كان علي صلة وثيقة بالشيخ منذ كان طالبًا بدار العلوم وكانت دار مجلة " المنار " ملتقاه بأكثر من التقي بهم من رجالات الحركة الإسلامية في ذلك العهد واتخذت أكثر القرارات في مواجهة المؤامرات ضد الإسلام في هذه الدار ، وظل الأستاذ علي اتصال بالشيخ بعد قياد دعوة الإخوان وكان يستشيره في كثير من الأمور . تردد الأستاذ المرشد أمام طلب أسرة الشيخ مع علمه بأن إسناد تحرير " المنار " إليه شرف لا يعادله شرف واعتراف له بالزعامة العلمية والأصالة الإسلامية ، ولكن تردده بل رفضه الذي صرح به لأسرة الشيخ كان لسببين يكتمهما عن الأسرة هما :
أولاً : أن إسناد تحرير " المنار " إليه سيقتطع من وقته جزءًا كبيرًا لأنه سيضطر – أخذا بطريقة الشيخ ومتابعة لخطته ومحافظة علي مستوي المجلة – إلي تحريرها كلها بنفسه ، ولما كانت الدعوة لا تتيح له هذا الوقت فإنه يخشي أن تطغي واحدة منهما علي حق الأخرى .. وفي حين أن الدعوة لا تستغني عنه فقد يجدون هم في العالم الإسلامي من يقوم بأعباء " المنار " .
ثانيًا : أنه حرصًا علي استمرار صدور " المنار " باعتباره أحد المعالم الإسلامية يري أن لا يصدرها هو ، حتى تكون في مأمن من المكايد التي يدبرها أعداء الإسلام للدعوة ومنها مصادرة صحفها وسحب تراخيصها ، وقال لهم : إنني مع حرصي في هذا الطور من أطوار الدعوة علي تجنب الاصطدام بالسلطات فإنهم ألغوا لنا عدة مجلات كنا نستأجرها ونصدرها ... وقال لهم : إن أعداء الدعوة من الخسة والنذالة بحيث لا يتورعون عن إلغاء " المنار " نكاية فينا لأنهم لا وازع لهم من دين أو خلق أو حياء .
وأصر الأستاذ المرشد علي الرفض وأصرت الأسرة علي إلزامه حتى اضطر أخيرًا إلي النزول علي إرادتهم بعد أن بين لهم المخاطر . وأصدر الأستاذ " المنار " وصار يحرر أكثر ما فيها بقلمه وبدأ في التفسير حيث انتهي سلفه فبدأ بتفسير سورة الرعد ، فخرجت " المنار " تفسيرًا وتحريرًا في المستوي الرفيع الذي اعتاده قراؤها في العالم الإسلامي أيام الشيخ محمد عبده والشيخ محمد رشيد رضا . وكان لإصدار الأستاذ المرشد مجلة " المنار " أصداء في الأوساط العلمية الإسلامية عبر عنها الأستاذ الشيخ محمد مصطفي المراغي شيخ الأزهر في ذلك العهد بمقال قدم به الأستاذ المرشد إلي قراء المنار أنصف به الرجل الأستاذ المرشد إنصافًا أقر له بالإمامة في العلم وفي الدعوة . وصدر من المنار بضعة أعداد ثم أصابته جائحة من الجوائح الحكومية وانقطع عن الصدور مع انقطاع المجلة الأسبوعية .
الشهاب : ثم أصدر الأستاذ " الشهاب " وهو بديل للمنار وفي نفس اتجاهه ومستواه وبعد أن صدرت منه بضعة أعداد كان مصيره مصير سابقيه .
- 2 – الطلبة :
كانت المهمة الأساسية التي أسندت إلي وشغلت وقتي كله وجهدي كله فهي مرور دائب لا ينقطع علي المدارس والمعاهد والكليات وزيارات للعواصم ومحاضرات ومساجلات ومناقشات ومؤتمرات خاصة بالطلبة كنا نعقدها بدار جمعية الشبان المسلمين وكان الأستاذ يوليها أعظم اهتمام تصدر منها مقررات تطبع وتوزع في القاهرة والأقاليم .
ندوة الخميس : وهي أسلوب استحدثته لمخاطبة الطلبة فقد رأيت أن " حديث الثلاثاء " غير كاف للإجابة علي كل ما تختلج به نفوس الطلبة وعقولهم من أحاسيس ومشاكل وأفكار مع أن الأستاذ المرشد كان حريصًا علي أن يطرق في حديث الثلاثاء مواضيع شتى تمس جميع الفئات . وقد اقترحت علي الأستاذ المرشد أن يخصص يومًا في الأسبوع للطلبة وحدهم يتقدمون فيه بأسئلتهم ويجيب عليها : وبدأنا هذا الأسلوب عن طريق أسئلة شفهية يقوم الطالب في الندوة فيلقي سؤال ويقوم الأستاذ بالإجابة عليه . ثم تبين لي أن لدي بعض الطلبة أسئلة يحجمون من التصريح بها شفاها فطورنا الندوة إلي أسئلة تكتب وتقدم للأستاذ وهو علي المنصة فيجيب عليها ثم تبين لي بعد ذلك أن هناك أسئلة تتلجلج في نفوس الكثيرين منهم ويستحيون أن يتقدموا بها لو مكتوبة – حيث كنت أتسلمها طيلة الأسبوع ثم أقدمها للأستاذ عند عقد الندوة . فأعددنا صندوقاً ثبت علي حائط يلقي فيه كل صاحب سؤال بسؤاله مكتوبا ولصاحب السؤال أن لا يذكر اسمه .. وفي نهاية الأسبوع أفتح الصندوق وأتناول ما فيها من أوراق وأقدمها إلي الأستاذ فيقرأها ويرتبها ويجيب عليها في الندوة .
وكان لهذا الأسلوب آثار طيبة جدًا في توضيح ما كان غامضًا علي كثير من الطلبة من الحقائق والمواقف في الفكرة الإسلامية وغيرها ، كما أنه كان وسيلة ناجحة لحل مشاكل عائلية وعقد نفسية كانت مستعصية ما كان هناك من سبيل للكشف عنها ومعالجتها بغير هذا الأسلوب . وعن طريق هذا الأسلوب الذي وفقنا الله إليه تخرج من هذا الرعيل من الطلبة أفواج انتشرت في أنحاء البلاد فكانوا منار وهدي ودعاة خير لأنهم صاروا بهذا الأسلوب دعاة مستبصرين .
- من آثار النظام الإداري التربوي الإخواني :
تحدثت عن النظام الإداري الذي أخذت به الدعوة حين انتشرت في أنحاء البلاد واقتضي الأمران يرتبط الإخوان بنظام تتسلسل فيه القيادات ويسهل عن طريق الاتصال بين أعلي قيادة وأبعد فرد في أقرب وقت ، وتتوزع فيه المسئوليات توزعًا يفتت نظام المركزية الذي من طبيعته أن تنعدم فيه الفرص لتكوين الشخصية في التابعين ، في حين أن طبيعة الإسلام وأساسه توفير جميع العناصر التي تكون الشخصية لكل فرد من أتباعه " أن لا تزر وازرة وزر أخري . وأن ليس للإنسان إلا ما معي . وأن سعيه سوف يري . ثم يجزاه الجزاء الأوفى " .
ولا شك في أن هذا النظام الإداري قد أتي أكله ، وأثمر أينع الثمر ، فلقد كنت تحضر جلسة من جلسات أصغر وحدة من وحدات هذا النظام الإداري وهي مجلس الإدارة لشعبة فرعية ، فتحس كأنك جالس وسط برلمان يتجلي فيه النظام والديمقراطية بأجلي معانيهما ، فالمناقشات تدور في حدود جدول أعمال يقدمه نائب الشعبة فيدلي كل برأيه متوخيًات المصلحة العامة مهتديًا بأضواء الفكرة الإسلامية دون أنانية ولا تعصب ، وتتلافح الآراء ويخرجون منها بالرأي الذي ينتهون إليه سواء بإجماعهم أو بأغلبيتهم ... وتلمح في عيون الجميع الجد والاهتمام حين يدرسون مواطن الضعف في قريتهم وكيف يعالجون هذه المواطن كأن الواحد منهم يدرس أخص مصالحه الخاصة ، وبعد أن يشخصوا أنواع الضعف ويضعوا علاجًا لكل نوع يوزعون مسئوليات هذا العلاج علي أنفسهم وعلي زملائهم بالشعبة فيعرف كل منهم ما هو منوط عليه به من بذل أو عمل ... وبعد ذلك كله يتكلمون عن مسئولياتهم العامة أمام أمتهم باعتبارهم أعضاء في دعوة مهمتها إصلاح مرافق الأمة الإسلامية بالأسلوب الإسلامي الحكيم ... وحين تسمع حديثهم في هذه الناحية تنسي أنك في قرية صغيرة في أطراف البلاد وأنك بين أفراد من هذه القرية أقرب وصف لهم أنهم أميون أو أشباه أميين ... ولكن المثير حقاً هو ما لهذه الدعوة الإسلامية من صبغة يصطبغ بها المنتمون إليها فتنطلق فيهم هذه الصبغة من طاقات الفهم والإدراك وحسن التقدير وواسع الإحاطة ما يسمو بهم إلي أعلي المستويات مهما كانوا من قبل في أدناها .
وتحضرني في هذا العدد واقعة حدثت في خلال هذه الحقبة من الزمن التي تعالج وصف حال الدعوة فيها وقد حدثني صاحبها عنها في وقتها :
صاحب هذه الواقعة كان أخاً صغيرًا من إخوان شعبة فوة وكان إذ ذاك في سن دون العشرين اسمه الأخ مصطفي عناني وكان يعمل نجارًا في ورشة والده ولم تتح له الظروف أن يحصل علي أدني قسط من التعليم لكنه كان ملمًا بشيء من مبادئ القراءة والكتابة ، فلما شب وصار في السن الذي ذكرت كلفه والده بأن ينوب عنه في شراء الخشب الذي يلزمهم من الإسكندرية ، فكان إذا أعد نفسه لهذه المهمة ليس " بدله " بدلا من ملابس الشغل ، وكان سفره دائمًا في الدرجة الثالثة من القطار ... وكان طلاب جامعة الإسكندرية من أهل دمنهور وما حولها يذهبون صباح كل يوم إلي الإسكندرية بالقطار ويرجعون إلي دمنهور بعد انتهاء الدروس بقطار المساء .
قال لي الأخ مصطفي : أنهيت عملي في الإسكندرية في ذلك اليوم وذهبت إلي محطة الإسكندرية لأخذ القطار الذي يوصلني إلي دمنهور كالمعتاد حيث دمنهور هي المحطة الأولي في ذلك الوقت بين الإسكندرية وفوة – قال فوجدت القطار مزدحمًا أشد ازدحام في الدرجة الثالثة فانتقلت إلي عربة من عربات الدرجة الثانية فوجدت أحد دواوينها مكانًا شاغرًا فاقتحمت إليه وجلست فيه .. وتحرك القطار فلاحظت أن السبعة الموجودين معي في الديوان من طلبة جامعة الإسكندرية وأخذوا يتناقشون في المشاكل الاجتماعية والاقتصادية والسياسية التي كانت تشغل بال الناس في ذلك الوقت ، وظلوا يتناقشون وأنا أستمع فكنت أنا الوحيد الذي ألتزم الصمت في حين تكلم الجميع .. ويبدو أنهم لم يعتادوا أن يروا في مجتمعهم هذا من يلزم الصمت فاتجه نحوي أحدهم وسألني لِم لم تشترك معنا في الحديث وما رأيك فيما أثير من موضوعات ؟ فاعتذرت إليهم من هذا الصمت ودخلت معهم في المناقشة وأخذت أتناول كل موضوع أثاروه وأحلله وأناقشه في ضوء الدعوة فرأيت الجلسة قد تغير وضعها واتخذت وضعا آخر ، فبعد أن كان النقاش يدور بحيث يتبادلون الحديث فيأخذ كل منهم بطرف رأيتهم جميعا قد التزموا الصمت واتجهوا إلي بأسماعهم وأبصارهم ، قال وظللت في تناولي للمواضيع المثارة بالأسلوب الذي ذكرت حتى أتيت عليها جميعًا ، وحينئذ كان القطار قد قارب محطة دمنهور ، فتقدم إلي كل واحد من السبعة يريد أن يتعرف علي وسألوني في أي كلية أنت ؟ فابتسمت فقالوا لا تؤاخذنا في هذا السؤال فنحن نعرف أنك لابد أن تكون طالبا في الدراسات العليا ولكننا نحب أن نتعرف علي كليتك لأننا معجبون بمعلوماتك وثقافتك العالية وهذه فرصة نحب أن لا تفلت منا لنحرص كل يوم علي أن تكون معنا في قطار واحد وفي ديوان واحد لنستفيد منك ... قال الأخ مصطفي فابتسمت أيضًا وكان القطار قد أوشك علي دخول المحطة فقلت لهم : إني لست في جامعة الإسكندرية ولكنني في جامعة أعظم فقالوا : في جامعة القاهرة قلت : لا بل جامعة أعظم قالوا : أين هذه الجامعة ؟ قلت لهم : أنا في جامعة الإخوان المسلمين وأنا لست طالبا وإنما أنا نجار لا أكاد أحسن القراءة والكتابة ولكنني تربيت في هذه الجامعة فخرجت مني ما ترون ، ومع ذلك فما أنا إلا من أصغر طلابها ... قال الأخ مصطفي فكانت هذه الجلسة أعظم دعاية عملية للدعوة . وأن صياغتها للنفوس والعقول تأتي بما يشبه المعجزات .
وقد أوردت هذه الواقعة لأبين للقارئ بيانًا عمليًا ما نوهت عنه من المستوي الرفيع الذي صاغت الدعوة في قالبة المؤمنين بها والعاملين لها والداعين إليها ون هذا المستوي الذي تلمسه في أعلي الهيئات الإدارية في القاهرة ستجده هو نفسه في الهيئة القائمة علي الدعوة في القرية النائية ، فليس هذا المستوي الذي بهر به طلبة جامعة الإسكندرية كان خاصا بالأخ مصطفي بل هو مستوي إخوانه في الشعبة وفي مختلف الشعب " صبغة الله ومن أحسن من الله صبغة ونحن له عابدون " . وهذه الصبغة التي صاغتها الدعوة للإخوان المسلمين ليست بدعًا ، وإنما هي طبيعة هذه الدعوة ودأبها وبدنها فهي التي صاغت من الرعيل الأول عمر بن الخطاب وأبا عبيدة بن الجراح وسعد ابن أبي وقاص وخالد بن الوليد وأسامة بن زيد وأبا ذر الغفاري والمثني بن حارثة ، وإخوانهم فلم يكن هؤلاء من العلماء الذين درسوا علوم الاجتماع بل كانوا رجالا كسائر رجال الجزيرة العربية الذين سماهم القرآن " الأميين " ( هو الذي جعل في الأميين رسولا منهم ، يتلو عليهم آياته ويزكيهم ويعلمهم الكتاب والحكمة وإن كانوا من قبل لفي ضلال مبين . وآخرين منهم لما يلحقوا بهم وهو العزيز الحكيم . ذلك فضل الله يؤتيه من يشاء والله ذو الفضل العظيم " .
ثم إن هذا البرلمان الصغير في الشعبة الفرعية للقرية إذا استشكل عليه أمر ولم يستطع أن يصل فيه إلي قرار فإن بجانبه قربًا منه برلمانًا أكبر منه للشعبة الرئيسية للمركز حيث يعقد اجتماع دوري فيها يحضره مندوبو الشعب الفرعية وهي فرصة سانحة لدراسة ما استشكل علي هذه الشعب من أمور . فإذا تبقي في هذا البرلمان أمور دون حل فاجتماع المكتب الإداري كفيل بإيجاد الحلول . وفي نفس الوقت تتبادل الآراء وتناقش المسائل عن طريق آخر هو طريق الدعاة بين الفينة والفينة من المركز العام . الذين يتحسسون أحوال الشعب في جميع الأنحاء ينقلون نبضها إلي المركز العام ليعالج الأمور علي بصيرة . كما أن هذه التشكيلات المتتابعة في أنحاء البلاد علي ما يخض كلا منها من مسئوليات للدعوة في الشئون المحلية تنطلق في هذا السبيل وهي مطمئنة إلي أن لها ديدبانًا في القاهرة ساهرًا لا يغمض له جفن يرقب تطورات الأحوال في مصر وفي البلاد العربية وفي العالم الإسلامي وفي العالم كله ليسلك بالدعوة السبيل الأقوم إزاء هذه التطورات ، فهو يرقب التطورات كل يوم وكل ساعة فإذا وجد مكتب الإرشاد من هذه التطورات ما عظم عليه معالجته دعا الهيئة التأسيسية التي لكل هذه التشكيلات في داخل البلاد أضلاع فيها لتصدر الرأي البات والقرار الأخير .
- هل تقليد هذا النظام كاف لأثمارة نفس الثمر ؟ :
هذا النظام الإداري المحكم الحلقات ، ما كان لينجح ويؤتي ثماره ، لولا أنه كان مطعمًا بنظام آخر تربوي روحي هو نظام الكتائب .. كان نظام الكتائب يسري في النظام الإداري علي اختلاف درجاته سريان الروح في الجسد فيبعث فيه الحياة والقدرة والحركة .... ولعل هذا هو السر في أن هيئات كثيرة بعضها شعبي وبعضها رسمي أخذت بالنظام الإداري للإخوان المسلمين أخذًا كاملا ولكنها فشلت ، ولم تصل به إلي شيء مما يعود عليها بفائدة أو بتماسك أو بترابط أو ينفع بل كان وبالا عليها وثقلا جديدًا أضيف إلي ثقالها وحملا علي كاهلها ومعوقا في طريقها ، فلقد أخذت الهيئات بالجسد دون الروح .... وقد تستطيع بشيء من الإنفاق أن يصنع لك الفنانون هيكلا رائعًا لجسد عظيم ، ولكنك مهما أنفقت لن تستطيع أن تجد من ينفخ في هذا الهيكل الروح ، لو أنفقت ما في الأرض جميعًا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم إنه عزيز حكيم " " ويسألونك عن الروح قل الروح من أمر ربي وما أوتيتم من العلم إلا قليلا " .
قسم الأخوات المسلمات

كان واضحًا في ذهن حسن البنا أن دور المرأة في الإسلام دور خطير ، له أثره البعيد في تكوين الرجال وأمهات المستقبل ... والدعائم التي ارتكزت عليها دعوة الإخوان المسلمين هي تكوين الفرد المسلم ثم الأسرة المسلمة ثم المجتمع المسلم ثم الحكومة المسلمة . وحين أسس الأستاذ المرشد أول دار للدعوة في الإسماعيلية وأنشأ مسجدًا ، اتبع ذلك ببناء مدرستين إحداهما للأبناء سماها " معهد حراء الإسلامي " والأخرى للبنات أطلق عليها " مدرسة أمهات المؤمنين " وقد عني بهذه المدرسة عناية كبيرة – حيث لم تكن فكرة تعليم البنات قد وضحت السامي للبنات والأمهات والزوجات ، وبين مقتضيات العصر ومطالبه من العلوم النظرية والعلمية والعملية . وقد أدت المدرسة رسالتها فاستتبع ذلك إنشاء قسم الأخوات المسلمات سمي في أول الأمر " فرقة الأخوات المسلمات " يتألف من نساء الإخوان وقريباتهن ، وتقوم بالتدريس فيه مدرسات علي كفاءة خاصة من أهل الإسماعيلية نفسها . ووضع الأستاذ لهن لائحة خاصة ننظم طرائق السير ووسائل نشر الدعوة بين السيدات والفتيات من بيوت الإخوان وغيرهن ... وقد جاء " بمذكرات الدعوة والداعية " للأستاذ المرشد في هذا الصدد وفي صفحة 150 ما يلي :
- لائحة فرق الأخوات المسلمات :
" وللذكري نثبت هنا أول لائحة للأخوات المسلمات ، وكان عليها العمل بالإسماعيلية وبالقاهرة بعد ذلك :
في غرة المحرم سنة 1352 ، 26 أبريل 1933 تألفت في الإسماعيلية فرقة أدبية إسلامية تسمي الأخوات المسلمات ، الغرض من تكوين هذه الفرقة :
التمسك بالآداب الإسلامية ، والدعوة إلي الفضيلة ، وبيان أضرار الخرافات الشائعة بين المسلمات .
وسائل الفرقة : الدروس والمحاضرات في المجتمعات الخاصة بالسيدات ، والنصح الشخصي والكتابة والنشر .
- نظام الفرقة :
- تعتبر عضوا في الفرقة كل مسلمة تود العمل علي مبادئها وتقسم قسمتها وهو " علي عهد الله وميثاقه أن أتمسك بآداب الإسلام وأدعو إلي الفضيلة ما استطعت " .
- رئيس الفرقة هو المرشد العام لجمعيات الإخوان المسلمين ، ويتصل بأعضائها وكيلة عنه تكون صلة بينهن وبينه .
- كل أعضاء الفرقة ومنهن الوكيلة إخوان في الدرجة والمبدأ ، وتوزع الأعمال التي يستدعيها تحقيق الفكر عليهن ، كل فيما يخصه .
- يعقد أعضاء الفرقة اجتماعًا خاصًا بهن أسبوعين يدون فيه ما قمن به من الأعمال خلال الأسبوع الماضي ،وما يرونه في الأسبوع الآتي . وفي حالة ما إذا كثر عدد يصح أن يقتصر هذا الاجتماع علي المكلفات بالأعمال منهن .
- تصدر اشتراكات مالية اختيارية حسب المقدرة ، وتحفظ في عهدة إحدى الأخوات للإنفاق منها علي مشروعات الفرقة .
- يصح تعميم هذا النظام في غير الإسماعيلية في حدود هذه اللائحة .
- – يعمل بهذه اللائحة بمجرد التصديق عليها من أعضاء الفرقة التأسيسية ، والتوقيع منهن بما يفيد ذلك .
.... وبانتقال الدعوة إلي القاهرة تكونت بالقاهرة " فرقة الأخوات المسلمات " .. وقد اتخذ مقرًا به المنزل رقم 17 شارع سنجر الخازن بالحلمية الجديدة واختار الأستاذ المرشد الأخ الأستاذ محمود الجوهري سكرتيرًا لهذا القسم منذ إنشائه ، وظل الأخ الكريم يباشر هذه المهمة ويؤديها أحسن أداء حتى الآن بمعاونة الأخت الكريمة عقليته من الله عليها بالشفاء وأسبغ عليها ثوب العافية . وقد ساهم القسم في المشروعات الاجتماعية النافعة من المستوصفات ودور الطفولة ورعاية الأيتام والمدارس وتنظيم مساعدة الأسر الفقيرة .. وأنشأ " دار التربية الإسلامية للفتاة " بشارع بستان الفاضل بالمنيرة .
ولما انتشرت الدعوة في أوساط الفتيات والأمهات في القاهرة والأقاليم رؤى إدخال تعديل علي لائحة القسم تضمن " أن يكون مقر شعب الأخوات المسلمات ودروسهن دور شعب الإخوان المسلمين أو بيوتهم أو المساجد التي يشرفون عليها بشرط أن يلاحظ إخلاء الدور من الإخوان تمامًا كلما كان هناك اجتماع أو درس للأخوات " ... وقد انتشرت شعب الأخوات في القاهرة والأقاليم حتى زاد عددها علي المائة شعبة . وكما كانت جهود الأستاذ – كما ذكرنا من قبل – موجهة في معظمها العناية بالطليعة من الجامعين طلبة وخريجين ، فإنها كذلك وبنفس القدر من العناية والاهتمام كانت موجهة إلي الطليعة بنفسه ولم يكن يتخلف عن هذه الدروس حتى في حالة المرض . ومن هذه الطليعة تكونت لجان الزائرات اللاتي يقمن بزيارات لشعب الأخوات في أنحاء القطر ويشرفن علي سير الدعوة فيها وينظمن إقامة المعارض الإنتاجية للأخوات ويوجهن المؤسسات الثقافية والعلاجية والعملية . وكانت لقسم الأخوات نشاط في مختلف الميادين حتى إنه في مارس سنة 1946 تقدم إلي المندوب السامي البريطاني بالقاهرة بمذكرة احتجاج علي اعتداءات جنود الجيش البريطاني المحتل علي الآمنين من المصريين .
- علاقة قسم الأخوات بالنظام الإداري للإخوان :
أخرت الحديث عن هذا القسم – مع بالغ أهميته – لأني وإن كنت أوردته ضمن الأقسام الإدارية للإخوان المسلمين فإنني كنت حريصًا علي النأي به عن الارتباط الإداري وأساليبه .. وقد نشأ حرصي هذا مما كنت ألاحظه من حرص الأستاذ الإمام رحمه الله علي هذا المعني فيما يتصل بهذا القسم الرئيسي الكبير . ذلك أن مهمة هذا القسم في رأي الأستاذ رحمه الله هي إعداد جيل من الفتيات والنساء يزود بأعظم قدر من التربية الإسلامية المستنيرة مع قسط من المعلومات الفقهية والتاريخية استعدادًا لإنشاء البيوت الإسلامية التي قد تعتمد في إنشائها علي المرأة أكثر مما تعتمد علي الرجل ... فالزوجة هي التي تعين زوجها علي النهوض بأعباء الدعوة الإسلامية ، وهي التي تقعد بهمته عنها ، والأم هي التي ترضع أبناءها وبناتها حب الخير وهي التي تدفعهم إلي الشر .
وإذا لم توجد في البناء الإخواني الأم المسلمة الصالحة ، والزوجة المسلمة الصالحة فهيهات أن يقوم هذا البنا مهما كان الرجال مثلا عليا ... ولهذا قام بناء الدعوة حين قام علي أساسين معًا ، ففي الوقت الذي ينشأ فيه الرجال شيبًا وشبانًا كان ينشأ فيه النساء أمهات وأخوات ... جدران متوازيان ومتسامتان ... ولكن لما كانت فرص الاجتماعات أمام الأخوات غير متاحة بالقدر الذي هي متاحة للإخوان فإن الأستاذ رحمه الله كان حريصًا علي أن يجعل هذه الاجتماعات خالصة للتثقيف والتربية دون أن يقتطع من وقتها أو كثير في الانشغال بالشئون الإدارية ، كما كان حريصًا علي أن لا يضيع جزء من جهود الأخوات في الالتفات إلي المناصب الإدارية والإعداد لها والتطلع إليها مما قد لا يتناسب مع طبيعة المجتمعات النسائية إذا أريد الإنتاج دون معوقات . وربما كان هذا الأسلوب من أهم الأسباب في نجاح التنظيمات النسائية في الإخوان المسلمين بينما فشلت مثيلاتها في جهات أخري .
ولما كانت دعوة الإخوان المسلمين دعوة عملية لا تعترف بالترف العلمي ولا تقف عند حدود التضلع من العلم الإسلامي لمجرد التضلع بل هي حقول تجارب يرى العضو فيها انه مطالب بتطبيق ما تعلم أولا بأول في هذه الحقول في البيت وفى العمل وفى الشارع وفى النادي وفى نفسه أولا فإن الأخوات كن كلما تعلمن شيئا من التعاليم الإسلامية يجدن أمامهن حقل التجارب في بيوتهن يطبقن فيها هذه التعاليم على أنفسهن وعلى أزواجهن وأبنائهن وأهليهن . ومن هنا كانت الدعوة تسير قديما إلى الأمام لا يعوقها عائق فإن العربة متى كان يجرها حصانان وكلاهما يجر في اتجاه واحد فإنها تنطلق في طريقها أمنة مطمئنة إذ كل العوائق الخارجية يمكن تفاديها أما الذي لا يتفادى لا يقاوم ولا أمل معه في مواصلة السير فهو العوائق الداخلية الناشئة من داخل البيت ومن داخل الأسرة وناهيك بعربة يجرها حصانان كل يجرها في اتجاه مضاد بفضل قسم الأخوات المسلمات وعلى الأسس0 القويمة التي أسسه عليها الأستاذ الإمام أسست بيوت على تقوى من الله ورضوان وأنشئت أسر متماسكة طاهرة رصينة لا يتطرق أليها الوهن ولا يعرف طريقها التمزق الذي عصف بكثير من الأسر الأم والأب ذوا هدف واحد ويرميان عن قوس واحدة والأبناء والبنات يقتفون أثار الأبوين على هدى وبصيرة .
لقد أثبت هذا القسم جدارته في كل الأحوال في حال الرخاء وحال الشدة وإذا كان تفصيل الحديث عما خاضه الإخوان من غمرات الظلم والإعنات الوحشية لم يحن بعد فحسب القارئ في هذا المقام أن يعلم أن قسم الأخوات المسلمات قد خاض نفس الغمرات وتحملت عضواته من المشقات والأهوال ما قد يفوق ما تحمله الإخوان وكلا وعد الله الحسنى .
ولقد بهت الأعداء لما قد فوجئوا به من عمق إيمان الأخوات وشدة ثباتهن على الحق وقوة صبرهن على المكاره واستهانتهن بوسائل التخويف والإرهاب مما ذكر الناس بالسابقات الأوليات من الرعيل الأول من الصحابيات الجليلات – فقد كان منهن من قمن بدور أسماء ذات النطاقين بنت أبي بكر حين كانت تقوم بنقل الطعان والأخبار إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبى بكر خارج مكة بينما كانت قريش قد رصدت مائة ناقة لمن يدلها عليهما وكان منهن من ألقى بهن في غياهب السجون والمعتقلات وكن يسمن فيها العذاب مما ذكر الناس بسيمة أم عمار بن ياسر رضي الله عنهم جميعا.
- نظام الأسر:
باعتبار الإخوان المسلمين هيئة من الهيئات لها كيان حدده القانون ولها نشاط يجرى داخل أبنية في مختلف البلاد تعتقد فيها الاجتماعات وتلقى فيها المحاضرات كان هذا النظام الإداري المطعم بأسلوب الكتائب كافيا لربط أواصر الكيانات الإخوانية بعضها ببعض ولكن باعتبارهم فكرة تحمل أعباء نشرها دعوة فإنهم في حاجة إلى أسلوب أخر من أساليب الربط أداة من أدوات الاتصال . والأفكار والدعوات بطبيعتها لا تكاد تنشأ في مكان حتى ينشأ معها فيه أعداؤها ولا تكاد تذيع وتعتنق حتى تجرد لها الهجوم والمطاردة ولا نكاد نثبت أقدامها حتى تقتلع اقتلاعها عنيفا ليلقى بها بعيدا في غياهب النسيان. ... أعداؤها حريصون علي محو آثارها .. وإذا هم عاجزون عن محو آثارها من النفوس فليسوا بعاجزين عن محو آثارها من الدرر والبنيان ... والأنظمة الإدارية مرتبطة بالدور والبنيان فإذا زالت الدور والبنيان فإن الأنظمة الإدارية لا تغني فتيلا . وإذن فلابد من رباط يربط معتنقي الأفكار والمستجيبين للدعوات بعيدًا عن الدور والبنيان ، ولا يترك هذه الجموع المؤقتة ضائعة هائمة علي وجوهها إذا فقدت الدور ذات اللافتات وذات المقاعد والمكاتب ... وكان هذا الرباط هو نظام الأسر .
ولم يكن الإخوان المسلمون هم أول من عرف أهمية هذا النظام ، فقد عرفه قبلهم دعوات أخري ، كما انتظم في مثله من بعدهم تجمعات أخري ، لكن هؤلاء وهؤلاء سموه نظام الخلايا ... والفرق بين النظامين فرق كبير ، فنظام الخلايا نظام حيواني مأخوذ عن الحيوان فالعلاقات فيه علاقات مادة ومصلحة وهذا الرباط يستبيح معه أعضاء الخلية أن يقتلوا عضوا منها إذا استنفذوا جهده ولم يعد صالحًا لحمل أعباء يفعل أعضاء خلية النحل في بعضها الآخر ، ولكن نظام الأسرة الإخوانية يقوم الارتباط فيه علي أساس الأخوة والحب والإيثار والتعاون ، يحمل القوى فيها الضعف ، ويقتدي كل عضو فيها بنفسه وبماله الأعضاء الآخرين ، ولهذا لم يسمها خلية بل سموها " أسرة " .
وتتكون الأسرة من خمسة أفراد ، وهذا العدد هو أدني عدد لجماعة تريد أن تؤدي جميع أنشطة الدعوة من دراسة للفكر ونشر لها والأخذ بنظم التربية البدنية والعقلية والروحية ، مع متابعة تطورات الأحداث ودراسة كل تطور وإصدار القرار المناسب له ، وتلقي التعليمات من القيادة ووضعها موضع التنفيذ والإلمام التام بغيرها من الأسر ، ويمكن التعبير عن الأسر بأنها هيئة الإخوان المسلمين في صورة مصغرة ... وتكوين الأسرة من هذا العدد القليل يسهل لها الوجود في أي مكان وفي أي وقت دون التنفيذ بمكان معين أو زمن معين .. وللأسرة نقيب هو الذي يتصل بالقيادة المحلية والقيادات المحلية نقيب يتلقي من القيادة الأعلى وهكذا حتى يكون التلقي في أوله من المرشد العام ... وللأسرة صندوق للطوارئ ، وهذه الصناديق كلها في النهاية هي صندوق الدعوة ، وكما أن علي الأسرة أن تتلقي التعليمات فلها أن تقترح بنفس الطريق . ونظام الأسر ليس حلقة مقفلة وليس بالنظام العقيم ، بل هو نظام ولاد مثمر فقد تلد الأسرة نتيجة اتصال أفرادها بمجتمعهم أسرًا جديدة بعدد أفرادها ، وتلتزم الأسر الجديدة بنظم الأسرة المقررة من الدراسة والتربية والبذل ونشر الدعوة – وهكذا أعد الإخوان المسلمون أنفسهم لمواجهة الظروف التي قد تتعرض لها كل دعوة بهذا الرباط المحكم الوثيق .
النظام الخاص أو الجهاز السري
قدمت أن الدعوة بانتقالها إلي مقرها الجديد بالحلمية الجديدة قد اشتد عودها وقوي ساعدها وبدأت تبرز قليلا علي مسرح الحياة المصرية ... وأدرك الأستاذ المرشد بحاسة القيادة التي وهبه الله إياها أن أعداء الدعوة التقليدين وهم المستعمرون وعلي رأسهم الإنجليز ثم أذنابهم من الحكام المصريين الذين هم اليد التي يبطش بها هذا المستعمر ... أدرك أن هؤلاء الأعداء هم للدعوة بالمرصاد ،وأن الدعوة يجب أن لا تكون فريسة باردة لهم ، بل أن تكون ذات شوكة لا يسهل التهامها ... ومن هنا نبتت فكرة " النظام الخاص " للدفاع عن الدعوة . وقد أدرك الأستاذ المرشد نم قضية فلسطين قضية الإخوان المسلمين ، وأن الإنجليز بتواطئهم مع اليهود لن يعدلوا عن خطتهم ويسلموا البلاد لأهلها إلا مكرهين ، وعلم الأستاذ المرشد أن الإنجليز يسلحون عصابات اليهود ، وأنه لابد من معركة فاصلة بين الإخوان المسلمين وبين هذه العصابات مادام الإخوان مصرين علي تحرير هذه البلاد وإنقاذ المسجد الأقصى الذي هو هدف اليهود الأصيل ... وأدرك الأستاذ المرشد أن الحكومة المصرية والحكومات العربية حكومات ضعيفة هازلة متخاذلة بل متواطئة ،وأن ليس في البلاد العربية جيوش سوي الجيش المصري ، ولكن هذا الجيش من الهزال والجهل وعدم الخبرة بحيث لا يقوي علي مواجهة عصابات اليهود المدربة المسلحة بأحدث أسلحة الإنجليز الأمريكان والتي تحارب عن عقيدة مستمدة من دينهم ... أدرك الأستاذ المرشد هذا أيضًا فكان ذلك حافزًا علي سرعة الاستعداد لتكوين " النظام الخاص " .
كان ذلك في عام 1940 حين دعا خمسة منا هم صالح عشماوي وحسين كمال الدين وحامد شربت وعبد العزيز أحمد ومحمود عبد الحليم ، وعرض علينا الدواعي التي رآها تقتضي الاستعداد وإنشاء نظام خاص تواجه الدعوة به مسئولياتها في المستقبل ... واقتنعنا برأيه فكون منا نحن الخمسة قيادة هذا النظام وعهد إلينا بإنشائه وتنظيمه وتدريبه ، علي أن يكون علي أساس من العسكرية الإسلامية القوية النظيفة ، وعلي أن يحاط بالسرية المطلقة بحيث لا يعرف عنه أحد شيئًا إلا أعضاؤه ، وعلي أن يكون تمويله من جيوب أعضائه لأنه علامة الجد فيمن تقدم للتضحية بروحه أن يضحي بماله ... ورتب القيادة بحيث يكون صالح عشماوي الأول باعتباره المتفرغ الكامل ويليه كمال الدين حسين فمحمود عبد الحليم فحامد شربت فعبد العزيز أحمد . وعند مباشرة عملية الإنشاء وجدت نفسي أشبه بالعضو المنتدب لهذه القيادة حيث رأيتني أعمل وحدي ولعل ذلك لأن إخواني في القيادة رأوا أنني أوثقهم صلة بالطلبة – باعتباري مندوبًا للطلبة – والطلبة هم العنصر الأساسي في جميع التكوينات ... وقد تخيرت مجموعة منهم توسمت فيهم الجد وعمق الفهم والاتزان ، وعرضت عليهم الفكرة فاستجابوا لها وكانوا هم نواة هذا " النظام " كما تخيرت أفرادًا من شباب الموظفين ومجموعة من العمال الفنيين ذوي الثقافة الإسلامية واستجاب الجميع فكان هؤلاء جميعًا هو الرعيل الأول في هذا النظام " الذي أطلق عليه بعد ذلك " الجهاز السري " نظرًا لأنه يقوم علي السرية المطلقة .
ومما ينبغي التذكير به أن هذا الرعيل الأول قد اشتركوا في حرب فلسطين سنة 1948 وقد أبلوا فيها أعظم بلاء شيد به الأصدقاء والأعداء ، وقد استشهد كثير منهم علي أرضها الطاهرة . وكان برنامج المنضوين تحت لواء هذا النظام يقوم علي الأسس الآتية :
- تقسيمهم إلي أسر – خاصة بهم – مع تسلسل القيادة – مع اشتراكهم في جميع أوجه النشاط العامة للدعوة .
- دراسة عميقة مستفيضة للجهاد في الإسلام وما جاء بشأنه في القرآن الكريم من سور وآيات وما جاء بشأنه في السنة النبوية والتاريخ الإسلامي القديم والحديث مع أخذ العضو نفسه بأنواع من العبادات والصيام .
- التدريب علي الأعمال الشاقة .
- التدريب علي توزيع المنشورات .
- التدريب علي التخاطب والتراسل بالشفرة .
- التدريب علي استعمال الأسلحة .
- المبالغة علي السمع والطاعة في المنشط والمكره وكتمان السر .
وقد أخذنا من أول يوم في وضع هذا البرنامج موضع التنفيذ ، ومن طرائف ما أذكره بهذا الصدد في الأيام الأولي لهذا التنفيذ : أن أحد الإخوان كان طالبا إذ ذاك في إحدى كليات الأزهر وكان سمينا وكان التدريب في ذلك اليوم علي القفز من شرفة ارتفاعها ثلاثة أمتار وقد رأيت إعفاء هذا الأخ من القفز فأبي إلا أن يقفز وكادت قفزته تلحق به الأذى لولا أن تداركه إخوانه . كما أننا كنا نطبع منشورات بكلام غير ذي هدف معين غير أنه كلام يلفت النظر ويثير الاستغراب وكان إخوان النظام يوزعونها علي المنازل والمكاتب والمتاجر والمدارس والملاهي بطريقة لا يحس بها أحد مع تخصيص شارع لكل واحد منهم .. ثم يصبح في اليوم التالي كل عمله فإذا سمعنا من زملائنا في المصالح الحكومية وفي غيرها من أماكن التجمع استغرابهم لما جاء في منشور وصل إليهم يقول كذا وكذا علمنا أن التدريب قد نجح .
وكانت المشقة الكبرى أمامنا هي الحصول علي الأسلحة ، وقد ذلل لنا هذه الصعوبة أننا كنا إذ ذاك في السنة الثانية من سني الحرب العالمية ، وكانت جيوش المحور – ألمانيا وإيطاليا – قد بدأت تطرق أبواب بلادنا من ناحية الصحراء الغربية ، وجلب الإنجليز إمدادات من جنودهم وجنود الإمبراطورية من هنود واستراليين وأفريقيين ... وعن طريق هؤلاء نشأت في صحراء مصر تجارة السلاح ، فكنا نشتري من هؤلاء التجار بنقودنا القليلة وبما كان يصلنا من مال من الهيئة العربية العليا بفلسطين . وأقبل خلص الإخوان علي الانخراط في سلك هذا النظام الجديد ، الذي كان ترجمة لما طالما درسوه وسمعوه عن الفكرة الإسلامية الشاملة التي ما قدمت إلا لتحرر الناس من عبادة العباد إلي عبادة الله وحده والتي شرع الله فيها الجهاد دفاعا عن الدين وجعله قمة الأمر وسنامه ليكون وسيلة إلي ذلك
- الابتعاد عن القاهرة :
بعد تجربتي في موضوع الألبان مكنت في القاهرة متأهبًا لاستئناف تجربة أخري من العمل الحر بعد أن أقضي فترة تستقر خلالها نفسي ولم يخطر ببالي أن أتقدم إلي عمل حكومي لندرة الأعمال من ناحية ولحقارتها وحقارة السبيل إليها من ناحية أخري فقد كانت الوظيفة الحكومية علي حقارتها لابد للوصول إليها من وساطة من وزير أو كبير وهو ما أربا بنفسي عنه . ولكن إعلانا نشر في الصحف تطلب فيه وزارة المالية ثلاثين من الحاصلين علي بكالوريوس الزراعة لنعينهم في وظيفة فرازين للأقطان تمهيدًا لتمصير هذه الوظيفة التي لم يكن يشغلها حتى ذلك الوقت إلا الأجانب وجاء في الإعلان أن التعيين في هذه الوظائف الثلاثين سيكون عن طريق مسابقة تجري بين المتقدمين .
وجاءني زملائي ليجبروني بهذا الإعلان الذي جاء فيه ما يغري بهذه الوظائف من الناحيتين المادية والأدبية ولكنني – لسوء ظني بالأساليب الحكومية كما قدمت – رفضت مشاركتهم في التقدم لهذه الوظائف فما كان منهم إلا أن تحدثوا مع الأستاذ المرشد في ذلك فاستدعاني وأقنعني بوجوب التقدم لهذه الوظيفة قائلا : هب أنك وجدتها كسائر الوظائف تعتمد علي الوساطات فماذا خسرت ؟ لن تخسر شيئًا إذا أنت توقفت عن المضي في طريقها ، وقد تكون هذه الوظيفة علي غير ما اعتاد الناس وتكون الحكومة هذه المرة جادة فيما نشرت من امتحانات فلا نكون قد أضعنا علي أنفسنا الفرصة .
وكان رأي الأستاذ المرشد في محله وتقدمت فرأيت بنفسي في الامتحان الأول – الذي تقدم إليه نحو خمسمائة منهم كثير من الموظفين – زملاء كان معهم خطابات توصية من وزير الزراعة ووكيل وزارة المالية لشئون القطن قدموها إلي لجنة الامتحان ، ولم يكونوا ضمن الستين الذين نجحوا في هذا الامتحان وكنت أحدهم وقد شجعني ذلك علي دخول الامتحان الشفوي بعد ذلك الذي تمخض عن فوز ثلاثين كنت واحد منهم أيضًا . ولما كانت زراعة القطن وتجارته تعم أنحاء القطر ما عدا القاهرة فقد كان ابتعادي عن القاهرة أمرًا لابد منه ، وقد رأي المرشد أن أطلب تعييني في دمنهور .
لما استقر الرأي علي أن ألتحق بهذه الوظيفة وأن أكون بذلك بعيدًا عن القاهرة وكان – الأستاذ المرشد علي علم بأنني أكاد أن أكون المباشر الوحيد .. دون زملائي في القيادة – لمهمة الإشراف علي " النظام الخاص " طلب إلي الأستاذ أن استخلف من يباشر الإشراف علي هذا النظام . وقد نظرت فإذا جميع أعضاء هذا النظام مرتبطون بأعمال تشغل أكثر وقتهم وتستفرغ معظم جهدهم والإشراف علي هذا النظام يحتاج إلي تفرغ أو ما يقرب من التفرغ علي الأقل كما يحتاج إلي صفات معينة تتناسب مع خطورة هذه المهمة .
منذ التحقت بكلية الزراعة كنت أسكن بالجيزة ، وفي السنة الأخيرة لي بالكلية اتخذت لي سكنا مع بعض الإخوان في منطقة خلف مباني الجامعة تسمي " بين السرايات " وكانت الشقة التي نسكنها في الدور الأول من منزل رجل صالح كان يحبنا ونحبه .. فلما جاءه ساكن الدور الأرضي من المنزل رأي أن يستشيرنا ، وكان الساكن طالبا في كلية الآداب ومعه شقيقه الطالب بالمدارس الثانوية ، فلما التقيت بالشابين وتحدثت معهما شمت فيهما الصلاح والخلق الفاضل فصارا من جيراننا ، وكان هذا الجاران هما عبد الرحمن السندي وشقيقه . ثم كان أن جاء الأخ عبد العزيز كامل ليلتحق بكلية الآداب وكان من إخوان الإسكندرية الذين أعرفهم ، وكان يريد أن يسكن قريبًا منا فسكن مع هذبن الجارين مستقلا بحجرة من هذه الشقة .
ولما كانت صلتي بالأخ عبد العزيز تقتضيني أن أكثر من زيارته لأونسه من ناحية ولأنه كان قد التحق بقسم الجغرافيا بكلية الآداب وكنت أحب أن أطلع علي بحوث شائقة لهذا القسم في الأجناس والطبائع وما شابهها من ناحية أخري .. لذا كثر ترددي علي هذه الشقة فكان هذا التردد فرصة لي للتحدث مع الساكنين الآخرين بها . وقد لاحظت علي عبد الرحمن هذا الهدوء والرزانة والجد ، كما لاحظت إقباله علي إقبالا يوحي بأن الدعوة التي عرضتها عليه تملك شفاف قلبه وتشعر بتشوقه إلي يوم يفتديها فيه بنفسه ، وظللت طيلة ذلك العام علي اتصال وثيق به ، حتى إنه كان لشدة ثقته بي ، وفرط حبه لي يعرض علي مشاكله الخاصة – فلما وثقت به تمامًا عرفته بالأستاذ المرشد باعتباره عضوًا بالنظام الخاص " . وقد فهمت منه في أثناء ما عرضه علي من شئونه الخاصة أن له إيرادًا يمكن أن يقوم بشئونه ، فلما كنت بصدد اختيار من يخلفني في الإشراف علي "النظام الخاص " تذكرت عبد الرحمن فرجعت إليه لألم بظروفه التي طرأت منذ انتهت دراستي بالكلية وغادرت " بين السرايات " ففهمت منه أن كل الذي طرأ عليه هو أنه لم يوفق في امتحان تلك السنة وأنه الآن يعيد السنة الأولي ...
فشرحت له ظروفي وأنني مضطر أن أكون خارج القاهرة ، وأنني أبحث عن شخصية تخلفني للإشراف علي " النظام الخاص " واشترط أن تكون مستوفية شروطًا معينة ، وقلت له : إن هذه الشروط تكاد أن تكون مستوفاة فيك عدا " التفرغ " فهو ليس بالأمر الميسور ... فقال لي : إنني أشكر لك حسن ظنك بي ... وأنت تعلم أولا أنني مريض بالقلب ، ومعرض للموت في كل لحظة ، وأحب أن تكون موتتي في سبيل الله ... كما تعلم أن لي إيرادًا – وإن كان محدودًا – إلا أنه يعينني علي مطالب الحياة الضرورية ... وتعلم كذلك أنني رسبت في السنة الأولي بالكلية وأنني أعيدها ... وقد استقر رأيي علي الانقطاع عن الدراسة وسألتحق بوظيفة في وزارة الزراعة بالثانوية العامة ... وبذلك يتوفر لي عنصر التفرغ الذي تطلبه . وعرضت الأمر علي الأستاذ المرشد فوافق عليه ، وأحضرت عبد الرحمن للأستاذ المرشد بايعه أمامي علي أن يقود هذا النظام وعلي أن لا يقدم علي أية خطوة عملية إلا بعد الرجوع إلي لجنة القيادة ثم إليه شخصيًا . وسار عبد الرحمن بالنظام سيرًا موفقاً فحاز حب من يليه من القيادات والأفراد كما حاز ثقتنا حيث كان يرجع إلينا في كل خطوة عملية بل فيما دون ذلك . ومع وجودي في دمنهور كنت أسافر إلي القاهرة في كل شهر مرة أو مرتين يعرض علي عبد الرحمن ما تم في خلال مدة غيابي ، وما يقترحه للمستقبل . واتسعت رقعة النظام في القاهرة ، وأخذت تتشعب في الأقاليم فضمت صفوة الإخوان في مختلف البلاد .
- أول عمل للنظام الخاص :
كنا في ذلك الوقت في أوائل أعوام الحرب العالمية الثانية ، وكانت القاهرة تعج بجحافل الجنود الإنجليز ، وكنت لا تكاد تمشي في شارع من شوارع القاهرة لاسيما الشوارع الرئيسية خصوصًا بالليل إلا ويحتك بك جماعات من هؤلاء الجنود في حالة سكر وعربدة ، يهاجمون الرجال والنساء ، ويعبثون بكل ما تصل إليه أيديهم ، في الوقت الذي تلازمهم فيه أسلحتهم كأنهم في ميدان القتال . وجأر الأهالي بالشكوى من عبث هؤلاء الجنود ، ومن كثرة ما جنوه منن قتل أبرياء وهتك أعراض وتحطيم محلات ، ولكن الحكومات التي تحكم البلاد لم تكن تجرؤ حتى علي توصيل هذه الشكاوى إلي مسامع السادة الإنجليز . ورأي إخوان " النظام الخاص " أن يعملوا عملا يبث الخوف في قلوب هؤلاء الجنود العابثين ، لعل هذا الخوف يردعهم عن عبثهم حين يشعرون أن الطريق أمامهم ليس سهلا كما اعتادوا ، وأن هناك من يقف لهم بالمرصاد ، وأن حياتهم ستكون ثمناً لهذا العبث .
وقرر " النظام " لكي يكون للعمل أبلغ الأثر أن يختاروا توقيتًا معينًا ومكانًا معينًا ومناسبة معينة ، فاختاروا ليلة عيد الميلاد ، واختاروا النادي البريطاني حيث يكون مكتظًا بالجنود الإنجليز وضباطهم وألقوا عليهم قنبلة لم تقتل أحدًا ولكنها بعثت الرعب في نفوسهم وحققت الغرض منها تمامًا فبدأوا يفهمون أنهم يعبثون وسط قوم يستطيعون أن يحفظوا كرامة أنفسهم بأنفسهم وأن يلقنوا من يعتدي عليهم دروسًا قاسية ، وقد قبض في هذا الحادث علي بعض الإخوان أذكر منهم الأخ نفيس حمدي الذي كان إذ ذاك طالبًا والأخ حسين عبد السميع .
- الصاغ محمود لبيب :
ضابط من ضباط الجيش ، كان من القلائل الذين كانت تجيش صدورهم بالحسرة علي ما آلت إليه حال بلادهم ، وكانوا يتناجون سرًا فيما بينهم ، وكانوا يبحثون عن وسيلة لإنقاذ هذه البلاد من ذل الاستعمار ، ومن غائلة الفساد الذي نشره في ربوعها . وكان من رعيل عزيز المصري وصالح حرب ، وكان ممن رحلوا إلي تركيا في أثناء أزمتها واضعًا نفسه رهن إشارتها للمحافظة علي الكيان الإسلامي الذي كانت تمثله في ذلك الوقت الخلافة الإسلامية ، وشارك في كل الحركات العسكرية التي قامت في مصر وفي غيرها والتي كانت بواعثها وطنية إسلامية .
وقد أحيل الاستيداع مبكرًا ولذا كان رتبة الصاغ (الرائد) ، ويبدو أن هذا الرجل كان خيرًا بطبعه وكان ميسور الحال ... جاء ذكر اسمه علي لساني مرة أمام والدي رحمه الله فقال لي إنه يعرفه إذ كان والدي منتدباً ناظرًا لمدرسة بوغاز رشيد – وكان ذلك في أوائل الثلاثينيات – فذكر موظفو فنار رشيد أن نقطة السواحل التي بجانبهم جاءها ضابط يرأسها اسمه محمود لبيب من أتقي الناس ومن أحسنهم معاملة لمرءوسيه وللناس جميعًا ، ولم يحضر إلي هذه النقطة ضابط نال إعجاب جميع الناس والكل يحبونه إلا هذا الضابط ، قال لي والدي : وقد تعرفت عليه وجلست معه فشعرت بعاطفته الإسلامية الجارفة وجدتني أحببته ، إلا أن إقامته في هذه النقطة لم تطل .
تعرف هذا الرجل علي الأستاذ المرشد مبكرًا في أواخر الثلاثينيات ، وكان الأستاذ يحبه ويحترمه ، وكان الرجل – وقد تعرفنا عليه – قليل الكلام .. وكان نواة التكوينات الإخوانية في الجيش كما أنه كان المشرف علي تنظيم التدريبات العسكرية للمدنيين من الإخوان سواء من كان منهم في " النظام الخاص " وغيره ، وكان هو ممثل الإخوان في لجان الاتصال بين الإخوان وبين الجامعة العربية في إعداد متطوعي الإخوان لحرب فلسطين وكان من القلائل الذين كانوا يفهمون الإسلام دينًا ودولة ، وما كاد يعلم بظهور الإخوان المسلمين حتى ألقي بنفسه وماله ووقته وكل مواهبه بين أيديهم ، فقد كانوا أمنيته وحلمه الذي تحقق ... وكان هذا الرجل الصامت من أكثر الإخوان إنتاجًا ، ولم يقبل أن يكون له منصب رسمي من مناصب الهيئة لأنه كان يكره أن يعرف الناس إنتاجه ... ومع أنه لم يكن له منصب رسمي في الدعوة فقد كان الأستاذ المرشد يكل إليه كل ما هو عسكري فيها فكان بمثابة وكيل الدعوة في الشئون العسكرية ... وقد لعب في حرب فلسطين سنة 1948 دورًا عظيمًا .
أول محاكمة في تاريخ الدعوة
- اتهام بمحاولة قلب نظام الحكم :
كانت النية معقودة عند الإنجليز وأتباعهم من حكام مصر علي الوقوف في وجه المد الإخواني الذي بدأ وكأنه السيل المنحدر من فوق الجبل . وقد اقتنع هؤلاء – بالتجربة – بأن مواجهة الدعوة بوسائل العنف والتصدي البوليسي لها لن ينال منها بل قد يزيدها قوة ، ويزيد الرأي العام التفافاً حولها ، وإذن فلابد من إلصاق تهمة ضخمة بهم أولا ، وتدبير مقدمات لهذه التهمة من الإحكام بحيث يكون حكم القضاء فيها ضد الدعوة مضمونًا ودامغًا فينتزع هذا من نفوس الشعب الثقة وحسن الظن بهذه الهيئة ، وهنا تتخذ الحكومة إجراءاتها ضدها بحكم القانون وبتأييد من الشعب ... وهكذا درج الإنجليز علي أن تكون خططهم في محاولة القضاء علي أعدائهم مبنية علي مظهر قانوني مؤثر في نفوس الرأي العام مثير لمشاعره .
كان ذلك في أوائل سني الحرب العالمية الثانية سنة 1942 ، وكان للانجليز في تلك الأيام مؤسسات منتشرة في معظم عواصم البلاد لتكون عيونًا لهم علي تحركات الوطنيين لاسيما الإخوان المسلمين ، وكانت هذه المؤسسات في مظهرها ثقافية لتعليم اللغة الإنجليزية ونشر الثقافة البريطانية وتسمي هذه المؤسسات " المجالس البريطانية " وكانت تباشر عملها في اصطياد الوطنيين ذوي النشاط في المجتمع بواسطة عملاء من المصريين – وما كان أكثر هؤلاء العملاء ، وما كان أحقر نفوسهم ، باعوا أنفسهم للمستعمر لقاء دراهم معدودة ليكونوا سوطًا علي ظهور أبناء جلدتهم – وقد عانيت شخصيًا من هؤلاء العملاء تجربة قد أشير إليها . قام " المجلس البريطاني " بطنطا – بالاستعانة بعملائه المصريين – بتلفيق قضية خطيرة ضد الإخوان المسلمين في شخص فردين من خيرة أفرادها هما الإخوان محمد عبد السلام فهمي وجمال الدين فكيه وحشروا معهما خمسة أفراد آخرين .. والتهمة التي وجهوها إليهم " أنهم يعدون جيشًا للترحيب بمقدم " رومل " القائد الألماني الشهير ، وأنهم يحدثون بلبلة في الأفكار ، ويعدون عناصر معادية للخلفاء " – ولما كانت البلاد في حالة حرب مع الأعداء فقد طالبت النيابة بإعدامهم . وسميت هذه القضية بالجناية العسكرية العليا رقم 882 لسنة 1942 قسم الجمرك وستأتي الإشارة إليها في موضوع قادم إن شاء الله ...
وكان بطل التحقيق في هذه القضية هو الأستاذ محمد توفيق رفقي رئيس النيابة الذي سبق التحدث عنه في المحاولة الأولي لتقديم الأستاذ المرشد إلي القضاء لما نشره في الصحف عن مطالبته بتسليح الجيش المصري وتسليح الشعب المصري . وقد قدمت القضية أمام محكمة الجنايات العسكرية العليا بباب الخلق وكانت مكونة من خمسة أعضاء برئاسة المستشار فؤاد بك أنور وعضوية المستشارين محمد توفيق إبراهيم بك وزكي أبو الخير الأبوتجي بك ( وكانوا يسمونه جارو مصر ) ومعهم اثنان من العسكريين :
ولازالت هذه القضية مائلة في خاطري مع مرور أكثر من ثلاثين عامًا عليها ، وهذه الثلاثون عامًا مليئة بالأحداث الجسام التي كانت جديرة أن تعفي عليها وتمحو من الذهن آثارها .. لكن الذي أبقاها في خاطري هو ما كنت ألاحظه من شدة اهتمام الأستاذ المرشد بها ، حتى إنه كان مواظبًا علي حضور جميع جلساتها ، ولم يكتف بذلك بل كلفني بالمواظبة كذلك علي حضور جلساتها وبأن أكون مجموعة من الإخوان تحضر أيضًا وتكون مهمة كل واحد منهم أن يكتب كل ما يحدث في الجلسة وكل لفظ يقال فيها علي أن أجمع كتاباتهم في كل يوم وأستخرج منها صورة كاملة عن الجلسة أقدمها إليه ، وعلي ضوئها يكتب ملاحظات يقدمها لهيئة الدفاع لتستعين بها في إعداد دفاعها ، وكان الأستاذ يقول لي : " إن هذه القضية تؤرقني لأنها قد أعدت إعدادًا محكمًا ، واختير لها وقت يبرر كل إجراء استثنائي ، فالمحكمة عسكرية والمحقق خادم الإنجليز ، وشهود الزور تحت يد الإنجليز ، والحكام المصريون لا يكنون لنا خيرًا ، وإذ حكم علي فكيه وعبد السلام فسيكون ذلك قضاء علي الدعوة ، فالشعب لازال في غفلة ، ويستطيع الحكام اعتمادًا علي هذا الحكم أن يلوثوا سمعتنا واتخاذ ما يحلو لهم من إجراءات ضدنا " .
اتصل الأستاذ المرشد بأشهر المحامين في مصر وطلب إليهم الحضور في هذه القضية ، وترك لهم أن يحددوا أتعابهم كما يشاءون ، علي أن يولوا القضية كل اهتمامهم ... ولكن هؤلاء المحامين رفضوا أن يتقاضوا أتعابًا وتطوعوا مشكورين ، وأذكر من هؤلاء المحامين الأساتذة محمد علي عليوة باشا وعبد الرحمن البيلي بك ومحمد فريد أبو شادي بك وعمر التلمساني وعلي منصور ... ومع أن هذه المجموعة من أعلام المحاماة لم تجتمع في قضية من قبل فإن الأستاذ المرشد .. رغبة في إتمام دعم هيئة الدفاع – تاقت نفسه إلي محام كان بعد ذلك الوقت الحجة التي يرجع إليها في معضلات القانون سواء إليه شخصياً أو إلي مؤلفاته وكان عميدًا لكلية الحقوق واستقال لا ليترافع وإنما ليستشار في المعضلات ذلك هو الأستاذ علي بدوي بك . كان الأخ محمد فهمي أبو غدير تلميذه ، وهو الذي لفت نظر الأستاذ المرشد إليه ، ولكن أني لنا أن يصل إلي قلبه لاسيما ونحن لا نطلب منه مجرد استشارة بل نريده أن يتبني القضية ويترافع فيها ، وكان فهمي يلمس فيه نزعة إسلامية لكنه لا يجرؤ أن يتفاهم معه فيما نطلب ... وفيما نحن تقلب الأمر تذكر عبد الحكيم عابدين أن الأستاذ الشيخ محمود أبو العيون هو خال علي بك بدوي .. وعبد الحكيم أيام كان غارقاً في بحار التصوف كانت له صلات قوية بكبير أسرة آل أبي العيون الشيخ محمد أبو العيون لأنهم أهل بيت علم وتصوف فانبري عبد الحكيم لحمل مسئولية موضوع علي بك بدوي ... وباتصال عبد الحكيم بخاله الأكبر الشيخ محمد أبو العيون وبشرح دعوة الإخوان لعلي بك وسط ظروف القضية والكشف عن أبعادها وهدف الإنجليز من ورائها قبل علي بك أن يتبني القضية ويدافع فيها دون مقابل .
وقد قضي الإخوان الكريمان فكيه وعبد السلام فترة الحبس علي ذمة القضية ثمانية أشهر في سجن الحضرة بالإسكندرية ، ولما حان موعد تقديمهما إلي القضاء نقلا إلي سجن الاستئناف بالقاهرة . وقد استغرقت المحاكمة جلسات كثيرة لا أذكر عددها الآن ، وكانت كل جلسة تستغرق اليوم كله .. وكان الذي يحيرني هو وجه رئيس المحكمة فؤاد بك أنور ، فقد كنت حريصًا علي أن ألاحظ ملامح وجهه وما تتركه المفاجآت التي تحدث في أثناء الجلسات من آثار علي هذه الملامح ، لعلها توحي إلينا باتجاه هذا الرجل ، ولكنني لم أكن أري في هذه الملامح تغيرًا حتى أنني كنت أقول للأستاذ المرشد كأن وجه هذا الرجل وجه تمثال . وكان في القضية كثير مما يثير سواء في شهادة الشهود المملاة عليهم أو في مهاجمة الدفاع لهؤلاء الشهود لإظهار بطلان شهادتهم أو في مرافعة النيابة وما كالته للإخوان من تهم الخيانة العظمى وما طالبت به من تطبيق مواد الإعدام .. والذي يسمع مرافعة النيابة وما دعمت به من أدلة ومضبوطات وشهادة شهود يفهم أن هذه المرافعة ليست مرافعة رئيس النيابة الذي يقرأها بل هي خلاصة جهود متعددة تضافرت علي تضييق الخناق حول أعناق هؤلاء المتهمين بقصد الإيقاع بما وراءهم من هيئة هي بيت القصيد .
وقد شهدت جلسات القضايا مختلفة ، واستمعت إلي الدفاع فيها ، فلم أر ولم أسمع مثل هيئة الدفاع في هذه القضية ، كان المحامون مستميتين في الدفاع كأن المتهمين أبناؤهم ، وكانوا يفهمون أنهم لا يدافعون عن هؤلاء المتهمين وإنما يدافعون عن هيئة الإخوان المسلمين التي اقتنعوا – قبل أن يقبلوا الوكالة في الدفاع عنها – أنها النبت الطاهر النقي الوحيد في هذا البلد الذي يؤمل في إنقاذ البلاد علي يديه ، والذي تضافرت جهود كل ذوي السلطة من داخل البلاد وخارجها علي تدمير والقضاء عليه قبل أن يكبر ويغلط ويستوي علي سوقه . وهنا كلمة حق يجب أن تقال هي أن السلطات المصرية والبريطانية مع كل ما كانت تدمغ به من ملوك الكثير من وسائل العبث والإفساد ، فنها لم تمد يد عبثها إلي القضاء ، فإن قدسية القضاء كان لها في نفوس الجميع رهبة وتوفير واحترام حتى نفوس هؤلاء العابثين ... نعم إنهم وجدوا من رجال النيابة من باع نفسه لهم ولكن صمام الأمان وهو القضاء نفسه كان سليما مصونًا ، وكان القاضي يري نفسه السلطة العليا فوق كل السلطات كما كان الناس جميعًا حكامًا ومحكومين يرونه كذلك .
ولما جاء دور الأستاذ علي بدوي في المرافعة – وكان آخر المترافعين علي ما أذكر – جاء في سياق مرافعته بصدد ما ورد في بعض الأوراق المضبوطة من عبارات عن قنابل ومتفجرات ونحوها تعليلات طريفة فحواها أن الشعوب والأفراد تتأثر لغة تخاطبها سواء بالكلام المنطوق أو المكتوب بما تعيش فيه من ظروف ، فظروف الحرب المستعمرة التي نعيشها تركت طابعها علي تعبيراتنا فتشبيهاتنا واستعاراتنا وكتاباتنا تلمح فيها أسماء الآلات الحربية فتسمع أو تقرأ أن فلانا ألقي بالأمس قنبلة أو فجر ديناميتًا والقصد من ذلك أن هذا الفلان جاء في حديثه بمفاجأة وأن فلانا فرق جمعًا من خصومه ،وقال : لا يجوز في وقت الحرب كالذي نعيش فيه أن نحمل هذه الألفاظ وهذه العبارات علي ظاهرها وأن لا يستنتج منها معان كانت تؤديها في وقت السلم ، وقدم إلي المحكمة عددًا من " المصور " بعد أن قرأ منها عبارات من هذا القبيل وردت في مقال كاتب من كتابة ، وقال لو أننا أخذنا بهذه الألفاظ وهذه التعبيرات علي ظاهرها لقدمنا هذا الكاتب إلي محكمة الجنايات .
أما بحوث الأستاذ علي بدوي الفقهية في تفنيد شهادة الشهود وما أجري من التفتيش وتحقيق فكانت مستفيضة وكان يستشهد بفقرات من كتبه وكتب غيره ، وكانت المحكمة تنصت إليه باهتمام شديد وكثيرًا ما كان رئيس المحكمة وعضواها يستعيدونه مقاطع من المرافعة يدونوها في أوراق أمامهم ، لأنه ذو صوت خفيض ، ولولا السكون التام الذي كان يخيم علي قاعة الجلسة ما سمعه أحد ، ولعل مكبرات الصوت لم يكن مسموحًا بها في داخل الجلسات في ذلك الوقت – وكان استماع المحكمة إلي الأستاذ علي بدوي كاستماع المغرمين إلي مطرب قد أخذ بألبابهم ، مما يدل علي شغف رجال القضاء في ذلك الوقت بالبحوث الفقهية العميقة دون الوقوف عند السطحيات والقشور وشقشقة الكلام . وبعد انتهاء المرافعات أعلنت المحكمة رفع الجلسة للمداولة لإصدار الأحكام واستمرت المداولة نحو ساعة كانت علينا وعلي الأستاذ بالذات أطول من أعوام الخطورة ما ستتمخض عنه هذه الساعة من كلمات معدودة ينطق بها رئيس المحكمة تقرر مصير هذه الدعوة المرهون بهذه الألفاظ ... وانتهت المداولة وخرجت هيئة المحكمة بكامل أعضائها ووقفنا جميعًا ونطق رئيس المحكمة بالأحكام وفي صدرها براءة فكيه وعبد السلام فهتف الجميع الحاضرين " يحيا العدل " وكأنما كان هذا الحكم بعثًا للأستاذ من مرقده ، فاتجه مستبشرًا إلي المحامين فهنأهم وهنأوه وعانقهم وعانقوه .
وفكيه وعبد السلام كانا " قطبين " من أقطاب الدعوة في طنطا ، وكان فكيه موظفا ببلدية طنطا ، وكان عبد السلام مهندسًا في مصلحة الطرق والكباري بها ، وقد سافر إلي انجلترا بعد ذلك وحصل علي الدكتوراه وعمل أستاذًا بكلية الهندسة بأسيوط ثم عميدًا لها ثم وكيلا لجامعة الأزهر .
وزيادة في خطورة المجالس البريطانية التي لفقت هذه القضية أذكر أنني حين عينت في دمنهور سنة 1941 كنت أغشي المجتمعات فيها وأتحدث عن دعوة الإخوان المسلمين وكانت المقاهي ضمن هذه المجتمعات ... وكان زملائي في العمل والأقدم مني وجودًا في دمنهور يحيطون بي ، حيث كان لهم معارف وأصدقاء من مختلف الطبقات . وجاءني زملائي في يوم من الأيام وطلبوا إلي أن أتوقف عن غشيان هذه المجتمعات فترة ، فسألتهم عن السبب فقصوا علي قصة مؤداها أن مؤامرة قد حبكت للإيقاع بي عن طريق شخص مثقف من أسرة كريمة من أسر دمنهور ويعمل صحفيًا – وذكروا لي اسمه – وفي نفس الوقت يعمل عميلا للمجلس البريطاني بالبحيرة ، سمعني هذا الشخص أتحدث في إحدى المقاهي وتناول حديثي الإنجليز ، فكتب تقريرًا يتهمني فيه بمهاجمة الإنجليز ومعاداة الحلفاء وسمعه زملائي يسأل بعض الحاضرين عن اسمي وعن وظيفتي فتنبهوا إلي غرضه وحاولوا أن يثنوه عن عزمه من تقديم التقرير إلي المجلس البريطاني – وكان التقرب إلي الإنجليز في ذلك الوقت من التفاخر به – لكنهم عجزوا عن ذلك ، و تذكروا أن هذا الشخص شقيق خياط كلهم كانوا زبائنه فذهبوا إليه وقصوا عليه قصة أخيه وفهم الخياط أن هذا التصرف من أخيه إذا تم فإنه سيفقده أكثر عملائه فذهب إلي أخيه وأرغمه علي العدول عن تقديم التقرير ومزقه بنفسه .
محنة أولي القربى أو الفتنة الثانية
إن تقدير الإخوان للأستاذ المرشد ، وحبهم إياه ، وتفانيهم في حبه ، وإثاره علي أنفسهم كان هو الشعور الغامر النابع من كل قلب ، وقد كنا نقرأ عن مدي حب الصحابة رضوان عليهم لرسول الله صلي الله عليه وسلم فكنا نظن ذلك مغالاة من الرواة حتى قام هذا الرجل – حسن البنا – بدعوته ، وتعرفنا عليه ، وسرنا معه ، وعاملناه وعاشرناه فرأينا في خلقه وحديثه وتوجيهاته ومعالجته للأمور صورة مصغرة من حياة رسول الله صلي الله عليه وسلم فأحببناه وازددنا مع الأيام حبًا له وتفانيًا في حبه ، فاستطعنا حينئذ أن نفهم ونتصور ما رواه الرواة عن مدي حب الصحابة لرسول الله صلي الله عليه وسلم وأن ما رواه الرواة لم يكن مغالاة ولا تهويلا بل كان مجرد إشارة إلي معان يعجز التعبير عن تصويرها .
لم يكن الرجل يعيش لنفسه ،ولم يكن يدخر مالا ولا جهدًا ولا وقتًا ولا صحة دون دعوته وأذكر بهذه المناسبة أنه أبلغ وهو بالمركز العام بأن السيدة قرينته قد اشتد عليها المرض فطلب بالتليفون الدكتور الغمراوي – وهو الطبيب الذي كان يعالج الأسرة – ولما حضر الطبيب صحبته إلي المنزل ، وبعد إجراء الكشف أخذ الطبيب في كتابة روشتة الدواء ، فمال علي الأستاذ وطلب مني جنيها سلفة وأعطاه للطبيب ، ذلك أنه كان يجعل مرتبه للدعوة لا ينتقص منه إلا ما يكفي الضرورات الأساسية للبيت الذي كان يعيش أدني عيشة يعيشها بيت في مستواه ... ولا يفوتني أن أذكر أن الأستاذ في أول الشهر التالي أصر رد السلفة إلي مع أنني كنت أقول له إننا نعتبر بيتك جزءًا من الدعوة . كان يعيش لدعوته ، وما فهمت معني قول عائشة رضي الله عنها حين سئلت عن خلق رسول الله صلي الله عليه السلام فقالت " كان خلقه القرآن " إلا بعد أن عايشت هذا الرجل وعاشرته فرأيت كلامه وصمته وحركته وسكونه ويقظته ونومه وحبه وبغضه وكتابته وقراءته وفكره كلها للإسلام فكنا نراه الإسلام في صورة بشر .. عرفنا رجالا قبله وبعده دعاة للإسلام لكن الإسلام لم يكن يشغل إلا جانبا من حياتهم وكانت أمور أخري تشغل الجوانب الأخرى ... أليس القرآن الذي كان خلق النبي صلي الله عليه وسلم هو الذي أشار إلي معني التخلق بالقرآن حيث قال " قل إن صلاتي ونسكي ومحياي ومماتي لله رب العالمين لا شريك له " ؟ .
ألمحت هذه الإلماحة السريعة لأوضح كيف يحب الإخوان أستاذهم وإلي أي مدي يحبونه ويتنافسون في الحظوة برضاه ، باعتبار رضاه من رضا الله عز وجل فهو لا يحب إلا لله ولا يرضي إلا لله ... وكان للأستاذ في ذلك الوقت ولد وبنتان وكانوا صغارًا ،وكان له شقيقتان ، فاتجهت أنظار الإخوان المؤهلين للزواج في ذلك الوقت إلي شقيقته الكبرى ، وتنافس الكثيرون في السعي للخطوة بهذا الشرف ، وكل منهم يعتقد أن له من المكانة في نفس الأستاذ ما يجعله أهلا للخطوة ، ولم يكن أحد يجرؤ علي طلب ذلك صراحة بل كان تلميحًا – وكنا نحن – من أمثالي الدين لم يكونوا بعد مؤهلين للزواج – نرقب هذا التنافس ولا نعرف أي المتنافسين سوف يحظي بما يأمل . وأنا بحكم ما بيني وبين عبد الحكيم عابدين من اتصال دائم كنت أعلم أنه قد دخل هذه الحلبة وقد أسر إلي بذلك طالبًا مني الرأي ... ولم يكن طلبه الرأي مني فيما إذا كان اختياره هذه الزوجة مناسبًا أم يعدل إلي غيرها ، وإنما كان طلبه الرأي فيما إذا كنت أراه هو مناسبًا أم غير مناسب ، وقد أحسست في عرضه الأمر علي ، وطلبه الرأي مني أنه يريد يسمع مني ما يشجعه علي المضي في هذا السبيل . وقد سمع مني فعلا ما يريد ... غير أني كنت أري في قرارة نفسي أن دون تحقيق ذلك لعبد الحكيم خرط القتاد ، فالطلاب كثيرون والضغوط علي الأستاذ المرشد من كل جانب وعبد الحكيم هو أقل الطالبين مالا وأدناهم مركزًا ومكانة في المجتمع ؛ إنه في ذلك الوقت لم يكن يملك ما يصلح أن يكون مهرًا فلا مورد له إلا مرتبه من وظيفته المتواضعة في إدارة الجامعة ومع ذلك فهو مطالب بمسئوليات مالية لأهله – كما أشرت من قبل – والأستاذ المرشد يعلم ذلك - ... لا مؤهل لعبد الحكيم إلا مواهبه الشخصية وما قدمت في فصل سابق من هذه المذكرات من أنه أول أخ تخرج في الجامعة وبايع علي أن يجعل مستقبله رهنا بمطالب الدعوة مع أنه كان أحوج الحاضرين وأقدرهم علي تنمية موارده لاحتياج أهله إلي هذه الموارد .
وكانت المفاجأة أن اختار الأستاذ المرشد عبد الحكيم زوجًا لشقيقته .. فقوبل هذا النبأ في الظاهر بما يشبه الرضا من الجميع ، ولكنني كنت أحس بأن هناك نفوسًا قد أصابها هذا النبأ بشعور من خيبة الأمل .. ومع ذلك فلم أكن أعتقد أن هذا الشعور سيؤدي إلي كوارث . وقد ذكرني اختيار المرشد لعبد الحكيم دون الآخرين بسعيد بن المسيب رضي الله عنه حين طلب إليه أمير المؤمنين عبد الملك بن مروان أن يزوج ابنته لأبنه فأعرض عن ذلك وزجها تلميذه الفقير عبد الله بن أبي وداعة الذي سأله سعيد . لِم لم تتزوج ؟ فقال له : ومن يزوجني وما أملك إلا درهمين أو ثلاثة .
وقد انقسم الإخوان إزاء هذه المفاجأة ثلاثة أقسام :
قسم تلقي هذه المفاجأة بالإجلال والإعجاب لأنها هي نظرة المؤمنين الصالحين حين يختارون لبناتهم . وهذا القسم هو الكثرة العالية من الإخوان .
وقسم أصابته المفاجأة بخيبة أمل حيث أخطأه الاختيار وكان يتمني أن يكون هو المختار .. وهذا القسم هو مجموعة من شبان الإخوان المؤهلين للزواج والذين عرضوا أنفسهم وهم عدد قليل .
والقسم الثالث أصابته المفاجأة بخيبة أمل مع أنهم لم يرشحوا أنفسهم ولم يكونوا صالحين لذلك لأنهم في سن الكهولة ولهم بيوت يعولونها ولكنهم كانوا يتمنون أن لا يتم هذا الزواج لعبد الحكيم بالذات ، لأنهم يعرفون أن عبد الحكيم ذو مواهب تؤهله للبروز في المجتمع ، ولما كانوا هم يشغلون المناصب البارزة في الدعوة ، فقد يزاحمهم عبد الحكيم في هذه المناصب لاسيما واختيار الأستاذ المرشد لعبد الحكيم دليل علي ثقته في هذه المواهب .
وهناك قسم رابع نشأ بعد ذلك كانت مهمته استغلال القسمين الثاني والثالث لتحقيق أغراض في قرارة نفسه أكثرها سياسي وبعضها شخصي .
ولما كانت شخصية المرشد لها من الإجلال في النفوس ما لا يجرؤ معه أحد علي النيل منه ، كما أن مسلكه في مقدرته الفائقة علي توزيع عواطفه علي جميع الإخوان توزيعا يملأ نفوس الجميع لم يتح لأحد أن يجد فيه ثغرة ينفذ منها إليه ، ولا مغمزًا يغمز به ، فكان لابد إذن من البحث عن سبيل آخر لإيذائه عن طريق ملتو غير مباشر ، وكان الطريق هو محاولة تجريح شخصية عبد الحكيم والنفوذ من ذلك إلي تجريح الدعوة نفسها . وسأعرض الآن لواحدة من هذه المحاولات كان مبعثها مبعثا شخصيًا ،وقد بدأت أحداث هذه المحاولة منذ كانت الدعوة في ميدان العتبة وبدأ الطلبة يقبلون علينا وكنا نحسن استقبالهم ونوليهم كل ما نستطيع من اهتمام وعناية وكان من هؤلاء الطلبة طالب في كلية الآداب اسمه (ع.س.أ) ... استقبلناه كغيره من الطلبة ولكني رأيته مقبلا بشكل ملحوظ علي عبد الحكيم عابدين مما جعلني أرتاب فيه ، ولكن هذا الشعور لم يجعلني أقصر في حقه فكنت أعامله كما أعامل زملاءه ... غير أني رأيت عبد الحكيم يوليه من العناية أضعاف ما يولي زملائه – وعبد الحكيم كما قدمت إنسان كله عاطفة ، فما كاد يشعر بإقبال هذا الطالب عليه حتى غمره بسيل من عواطفه فكان كلما قابله قابله بالعناق ، وكنت أفتقد عبد الحكيم فإذا لقيته سألته أين كنت بالأمس فيقول لي كنت عند الأخ (ع) في بيتهم ... وقد أوسع عبد الحكيم له في مجلة النذير فكان يكتب المقالات تمجيدًا في الإخوان المسلمين وإشادة بهم .
لم يكتف عبد الحكيم بأسلوبه العاطفي المتطرف الذي يتعامل به مع هذا الأخ بل جاء يعاتبني في عدم إقبالي عليه بنفس أسلوبه وأخذ يذكر لي مزايا هذا الأخ الأدبية وحماسه المتأجج للدعوة وأسلوبه في الكتابة ، وأخذت أذكره بما سبق أن قلته له من قبل منذ كنا في دار شارع الناصرية وبما حذرته منه من شعور البداوة الذي نشأ عليه والمبني عن حسن الظن المطلق بكل الناس وفي كل الظروف ومن مظهر هذا الشعور البدوي من التغالي في الحب والعناق في كل لقاء وإباحة بيتك لكل من أحببته يدخله في غيابك وحضورك ، ودخولك بيوتهم كأنها بيتك ، ومعاملتك أهليهم كأنهم أهلك ، وقلت له : كل ذلك لا أرضاه .. وقد أرضاه إذا ضمنت لي أنك تعيش في بيئة أو مجتمع من الملائكة المنزهين عن الأهواء المطهرين من سوء الظن وسوء النية .. أما المجتمع الدنيوي الذي نعيش فيه فهو الطيب والخبيث ، وقد ينقلب الطيب خبيثا ، و قد ينقلب الخبيث طيبًَا ، فلا ينبغي أن ننطلق في عواطفنا انطلاقا لا حدود له مهما سمت هذه العواطف وذكرته بوصية رسول الله صلي الله عليه وسلم في ذلك " أحبب حبيبك هونًا ما ، عسي أن يكون بغيضك يومًا ما ، وأبغض بغيضك هونًا ما ، عسي أن يكون حبيبك يومًا ما " .
واشتد الحوار بيني وبين عبد الحكيم ورماني في نهايته بأن معاملتي " الرسمية " للإخوان لاسيما الجدد منهم من أمثال هذا الأخ تنفرهم من الدعوة فقلت له : إنني لا أعامل أحدًا معاملة رسمية كما تدعي بل إنني أعطي كل إنسان حقه في حسن اللقاء ، وكل ما أحاوله هو أن أقتصد في عواطفي ، فالمصافحة عند اللقاء تكفي ، والعناق عند الرجوع من السفر أو بعد الغياب الطويل لا بأس به ، والزيارة في البيوت بدعوة ملحة من صاحب البيت كما يقولون " زر غبًا تزدد حبًا " وكررت تحذيري متمسكًا بطريقتي في المعاملة . وغادر عبد الحكيم الغرفة التي كنا نتلازم فيها من المركز العام وهو مصر علي أنه يسلك الطريق الإسلامي الأقوم ... وشاب ذو نفس شاعرة نشأ في بيئة بدوية ثم تلقفته الصوفية بأشد طرقها تصفية للنفس ثم اتصل بدعوة الإخوان المسلمين التي تضع مرتبة الأخوة في الدعوة فوق مرتبة الأخوة في الدم ، شاب كهذا قلما يعدل عن خطته في الاندفاع بعواطف الأخوة والحب التي تتأجج بين جوانحه إلا بكارثة .
وانتقلت الدعوة إلي الحلمية الجديدة ، واستمر عبد الحكيم في اندفاعه الذي كان يجد له تجاوبًا من الطرف الآخر ، ولا أدري لم كان هذا التجاوب الذي لا أجد مبرراته متوفرة في هذا الطرف بل كنت أري فيه معني التصنع وأشم منه رائحة الاستدراج ، وظللت كعادتي أسأل عن عبد الحكيم في بيته فلا أجده المرة تلو المرة ثم أقابله فيخبرني بأنه كان في بيت هذا الأخ . ومرت الأيام وأعلنت خطوبة عبد الحكيم لشقيقة الأستاذ المرشد ، فكان هذا الإعلان بمثابة إعلان حرب لا هوادة فيها علي عبد الحكيم أو قل في الحقيقة علي الدعوة نفسها ولكن اتخذ عبد الحكيم قميص عثمان . انقلب هذا الأخ الذي أشرت إليه انقلابًا فجائيًا علي عبد الحكيم وخاصمه بغير مقدمات واتهمه بأنه قد اتخذ صداقته له وأخوته معه وسيلة إلي مداعبة شقيقته .. وبغير مقدمات رأينا هذا الأخ يعلن مقاطعته للمركز العام وتبرأه من الدعوة مالم يبتر منها عبد الحكيم ...
مفاجآت وجدت آذانًا صاغية من أولئك الذين أشرت إليهم في القسمين الثاني والثالث ، وجدت هذه الاتهامات الفجائية هوى في نفوسهم فقاموا يروجونها وينشرونها بطريقة مثيرة ،وعادت إلي الذاكرة حادثة الإفك " إن الذين جاءوا بالإفك عصبة منكم ، لا تحسبوه شرًا لكم بل هو خير لكم ، لكل امرئ منهم ما اكتسب من الإثم ، والذي تولي كبره منهم له عذاب عظيم . لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرًا وقالوا هذه إفك مبين " . ولما كان الأستاذ المرشد يعلم عن عبد الحكيم ما أعلم ، كما أنه كان يتوقع أن يكون لإعلان خطوبة عبد الحكيم لشقيقته آثار لابد أن تمس بعض القلوب ، فإنه لم يرعه من هذه الحملة الفجائية إلا كونها جاءت بغير مقدمات وبطريقة مفاجئة تحس معها أن أصحابها قد فقدوا رشدهم فتخلوا عن أدني مبادئ الأدب والحياء .
جاءني عبد الحكيم وهو يكاد يموت غمًا وقال لي ، لقد فهمت الآن أنك كنت علي حق ، وأنك كنت أبعد مني نظرًا ، وأنني لم أكن إلا أبله لا أدري ما يراد بي ، ولا ما يدبر لي ؛ لقد خالفتك وأخلصت لهذا الأخ وجعلت له من نفسي وقلبي مالم أجعله لأشقائي ؛ فكان يدعوني لي منزلهم وعرفني بوالده ووالدته وإخوته وأخواته كما دعوته إلي بيتي كما تعلم ، وتوالت دعواتهم لي حتى إن والديه يدعوانني دونه ؛ وكنت أعتبر والديه والدي وإخوته وأخواته إخواني وأخواتي .. ومرضت شقيقته الكبرى مرضًا خطيرًا ، ولما كانوا يعرفون عن صلتي بالأطباء (كان لعبد الحكيم صداقة وطيدة مع أشهر أطباء القاهرة وكان محببا إلي نفوسهم إلي الحد الذي كانوا يستجيبون له إذا طلبهم بليل أو نهار حيث كان دون أن يتقاضوا أجرًا ، ولم يكن يطلب أحدا منهم لنفسه ولا لذويه إلا نادرًا ، وإنما كان يطلبهم لعلاج من يلجأ إليه من الإخوان) استغاثوا بي وطلبوا إلي أن استدعي لهم طبيبًا كبيرًا معينًا ففعلت واستمر العلاج ولكن المرض قد استفحل حتى صارت الفتاة هيكلا عظيمًا بلا لحم ولا دم ، وعلا وجهها شحوب الموت حتى إن أمها وأخواتها عافوها وابتعدوا عنها ، وشعرت الفتاة بذلك فصارت تبكي وتنعي بنفسها ، وهنا اضطررت أن أجلس بجانبها ، مع أنني في قرارة نفسي باعتباري بشرًا كأي بشر متقزز من منظرها ومن رائحتها ،ولكنني كنت أحاول أن أرفع من روحها ، وأعيد إليها ثقتها في الحياة – ولقد كان والداها وإخوتها وأخواتها – ومنهم هذا الأخ – يشكرونني علي أداء هذه الخدمات الإنسانية التي عجزوا هم عن أدائها .
قال عبد الحكيم : وبتفاني أصدقائي الأطباء في علاجها ، وبما اتبعته من أساليب لرفع معنوياتها تحسنت حالتها ، ودبت فيها الحياة من جديد ... وحتى آخر يوم كنت موضع إجلالهم جميعًا ، ولا حديث لهم إلا حول اعترافهم بجميلي عليهم ، وبإنسانيتي التي فاقت ما عرفوه من إنسانية . قال : وفي اليوم التالي ذهبت كالمعتاد لزيارتهم فرأيت وجومًا علي وجوههم حتى خيل إلي أن الفتاة ماتت ، ولكنني رأيتها بخير ، وحاولت أن أعرف سبب الوجوم فلم أستطع فخرجت وأنا في حيرة من هذا التبدل المفاجئ ، واستعرضت كل تصرفاتي معهم لعلي أذكر شيئًا بدر مني فأغضبهم فلم أجد إلا تقديرًا منهم لكل كلمة قلتها أو تصرف أتيته ، فعزمت علي أن أسأل نجلهم الأخ (ع) حين ألقاه ليلا بالمركز العام كالمعتاد فلم أجده حضر ولكنني سمعت قالة سوء توجه إلي منسوبة إليه . ولا يردد هذه القالة شخص واحد بل ترددها مجموعة معينة بطريقة تشعر بأنها مبيتة ومدبرة ... ولم أصدق أنه هو قائلها في أول الأمر لكنني تبينت أنه هو مصدرها وأنه هو الذي باء بإثمها ، وأنني لم أكن حتى تلك اللحظة إلا سادرًا في حسن ظني متجللاً برداء غفلتي ولم أتنبه من غفلتي إلا الآن ، فإن اليوم الذي في مسائه قلبوا لي ظهر المحن هو نفس اليوم الذي أعلن في صباحه نبأ خطوبتي لشقيقة الأستاذ المرشد ، وما كنت منتظرًا منهم إلا أن يقابلوني بالبشر والتهاني والتبريك .
وعبد الحكيم المشبوب العاطفة ، المتصوف ، الشاعر ، البدوي ؛ لم تكن هذه الصدمة لتقف به عند حد إفاقته من غفلته ، ورد رشده إليه فحسب ، بل إنها قذفت به علي الطرف الآخر البعيد ؛ فإذا به يقرر أن يعتزل الناس لأنه فقد الثقة فيهم ؛ فانقطع عن المركز العام وعن غشيان أي مكان آخر ما سوي بيته وعمله ، وهجر أصدقاءه وأحباءه ومعارفه وحتى أهله ، وعكف علي الصيام المتصل والقيام بالليل تكفيرًا عن زلته بإفراطه في حسن الظن بالناس .. ولما طال انقطاعه ومضي أكثر من شهر زرته في بيته أو بمعني أدق في معتكفه وعاتبته علي هذا الأسلوب فقال لي : ما كنت أعتقد إلا أنك آخر من يعاتبني في ذلك ؛ فالذي أفعله الآن إلا تكفير لمخالفتي لنصيحتك . قلت ، ولكن التكفير لا يكون بالانتقال من النقيض إلي النقيض ،وانقطاعك عن المجتمع لا يقل ضررًا عن أنهماكك فيه مندفعًا بغير حدود ، ولكن المطلوب هو التزام الوسط في كل الأمور .. ومازلت به حتى أنهي اعتكافه وصومه ورجع إلي المجتمع ولكن بعد بضعة أشهر قطع في خلالها شوطًا بعيدًا في حفظ القرآن أو لعله أتم حفظه .
ولم يقف الأمر عند هذا الحد ، وإنما امتدت آثاره وتشعبت إذ صار عداء للدعوة يظهر في صور مختلفة من ابتعاد عن الدعوة إلي استقالات إلي اعتكاف مجموعات تجتمع في البيوت والكل يشيعون قالة السوء بغير علم ، وكلما وجدوا عدوًا للدعوة لاذوا به وظاهروه عليها متناسبين قول الله تعالي " والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانًا وإثمًا مبينا " . ويبدو أن بسط القرآن لقصة الإفك ؛ وجعلها صدر سورة من سوره ، والإسهاب في سرد تفاصيلها ، وتحليل مواقف الفئات المختلفة فيها ، والتهديد بأقسى العقوبة لمثيريها وللراتعين فيها وحتى للذين يلذ لهم مجرد الاستماع إليها ثم يخرج من ذلك كله بتحذير مزلزل فيقول " يعظكم الله أن تعودوا لمثله أبدًا إن كنتم مؤمنين . ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم " ... هذا السرد المفصل في أبرز موضع من السورة يوحي بمدي خطورة هذا الأمر كما يوحي بأن الدعوة الإسلامية في مختلف العهود وعلي مر الزمن عرضة لتكرار مثل هذه الحادثة فيها ولذا حذر جل شأنه من تكرارها بقوله " إن تعودوا لمثله أبدًا " وقرن العودة إلي مثلها بالتخلي عن الإيمان بقوله " إن كنتم مؤمنين " ثم أشار لي اهتمامه بالتفصيل والتوضيح لخطورة العواقب بقوله " ويبين الله لكم الآيات والله عليم حكيم " .
ذلك أن الدعوات الإصلاحية عامة والدعوة الإسلامية خاصة إن هي إلا مجتمعات يتفاعل بعضها مع بعض ، وهذا التفاعل مع اختلاف المشارب ، وتباين البيئات ، وتنوع الآمال ، يؤدي بطبيعته إلي شيء من خلاف في الرأي أو التنافس علي أمل أو تسابق إلي منصب ، وقد يورث مثل ذلك في بعض النفوس الضعيفة العداء ويوقظ فيها الحيطة والحقد ... وحين تفكر هذه النفوس الضعيفة في الانتقام من المخالف أو المنافس أو المسابق لا تجد أمامها وسيلة أيسر ولا أسهل ولا أقل تكليفًا من النيل منه بكلمة يرسلونها في عرضه لا تكلفهم شيئًا ولا تقتضيهم جهدًا ولكنها كافية إ1ذا وجدت آذانًا ممن في قلوبهم مرض أن تهدر كرامته وتهوي به في المجتمع إلي الحضيض بل تخرجه من المجتمع منبوذًا .. فإذا كان هذا المنافس ركنًا من أركان الدعوة دعوة انهارت الدعوة بانهياره وقضي عليه وعليهما معًا .
ولقد وقفنا مع الأستاذ المرشد إزاء هذا الهجوم الغادر الوقفة التي يرضاها الله تعالي ولا يرضي سواها ؛ ظننا بأنفسنا خيرًا كما أمر الله عز وجل في هذا الموقف حيث يقول " لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرًا وقالوا هذا إفك مبين " وكنا كما تمني القرآن الكريم أن يكونه المجتمع الإسلامي إذ يقول : " ولولا إذ سمعتموه قلتم ما يكون لنا أن نتكلم بهذا سبحانك هذا بهتان عظيم " فتولي الله تعالي عنا رد كيد الكائدين في نحورهم وكفي الله المؤمنين القتال وخرجت الدعوة من هذه الفتنة مرفوعة الرأس بأدنى قدر من الخسائر التي هي في حقيقة أمرها تخليص للدعوة من خيال علق بها " لو خرجوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة وفيكم سماعون لهم والله عليم بالظالمين " .
المؤتمـر السـادس
كان المؤتمر السادس هو آخر المؤتمرات العامة للدعوة كما أشرت إلي ذلك من قبل ، ذلك أن الإخوان بعد ذلك قد كثروا وتشعبوا إلي الحد الذي لم يعد مكان يتسع لاجتماعهم علي هذه الصورة ، وقد استغني عن أسلوب المؤتمرات بنظام الهيئة التأسيسية والمكاتب الإدارية وتسلسل القيادة المركزية . وقد أقيم هذا المؤتمر بدار المركز العام بالحلمية الجديدة في 11 ذي الحجة 1329 الموافق 9 يناير سنة 1941 ، وقد حضر عدد كبير جدًا من إخوان القاهرة والأقاليم وكان له صدي مدو في جميع الأنحاء . ومع أنني كنت السكرتير العام المساعد لهذا المؤتمر حيث كان الأستاذ أحمد السكري السكرتير العام فليس لدي الآن مرجع أرجع إليه في تفاصيل هذا المؤتمر غير ما بقي في ذاكرتي مع أننا طبعنا رسالة خاصة بكل ما تم فيه ووزعت علي أوسع نطاق . وقد طرق الأستاذ المرشد في بيانه في هذا المؤتمر كل الموضوعات التي تتصل بالدعوة التي طرقها من قبل في المؤتمرات السابقة لكنه طرق في هذا المؤتمر موضوعين جديدين لم يطرقهما من قبل وهما :-
- الأول : الشركات الأجنبية في مصر :
كان الأستاذ المرشد إذا أراد أن يعد بيانًا ليلقيه في مؤتمر من المؤتمرات الإخوانية العامة تفرغ لنفسه ساعتين أو ثلاثًا فيخرج بالبيان الكامل الشامل ... أما إعداد بيانه لهذا المؤتمر فقد أجهد نفسه فيه إجهادًا كبيرًا واستغرق منه أيامًا كثيرة وقد طلب إلينا أن نمده بمطبوعات إحصائية ضخمة صار يعكف علي قراءتها الأيام تلو الأيام ويقتبس منها البيانات الدقيقة التي جعلها صلب خطابه . وكان بيانه في هذا المؤتمر أطول بيان ألقاه في المؤتمرات . وقد تضمن لأول مرة إحصاء دقيقًا للشركات العاملة في مصر ، وبين أنها جميعًا تقريبًا شركات أجنبية ، وبين جنسية كل منها . وتحدث عن مستوي المعيشة للمصريين وقارنه بمستوي المعيشة لغيرهم .
وتناول هذا الموضوع كان فضحًا لحقيقة كانت جميع الجهات في مصر تتستر عليها فقد حدد عددها بأنها ثلاثمائة وعشرون شركة تسيطر سيطرة كاملة علي اقتصاد البلاد ، وتمتص خيراتها دون أهلها . ويخيل إلي أن تناول الأستاذ المرشد لهذا الموضوع الخطير الذي هو لب الاستعمار كان من أهم العوامل التي لفتت نظر المستعمرون لخطورة دعوة الإخوان المسلمين عليهم ، والتي بدأوا من أجلها يخططون للقضاء عليهم . وكان أول أسلوب لجئوا إليه هو تلفيق تهمة تدمغهم بالخيانة ، وقد تناولت الحديث عنها آنفًا تحت عنوان " أول محاكمة في تاريخ الدعوة " ولولا عدالة القضاء المصري وأصالته لتحقق للمستعمرين ما أرادوا . علي أن تناول لهذا الموضوع كان أمرًا لابد منه ، فما كانت دعوة الإخوان المسلمين مجرد مبادئ وأفكار وفلسفة ، وإنما هي برنامج إصلاحي شامل ، فكيف تتفادى الحديث عن عصابات تسرق قوت الشعب تحت اسم شركات وتنقله إلي بلادها وتترك هذا الشعب يتلوى جوعًا وعريًا وحفاء ... وما كانت المبادئ والأفكار لتغني مثل هذا الشعب فتيلا إذا لم تعمل علي توفير أسباب المعيشة الكريمة له ، وأول هذه الأسباب ؛ أن يعرف الشعب كيف يتسرب قوته وثمرة جهده إلي خارج البلاد .
وإذا كانت هذه الشركات قد استطاعت بمهارتها أن تقطع ألسنة الأحزاب السياسية في مصر علي اختلافها بأن انتقت كل حزب أفرادًا من أبرز من فيه وعينتهم أعضاء وهميين في مجالس إدارتها بمرتبات ومكافآت خيالية فكانت رشوة مقتنعة لم يتنبه إليها الشعب المضلل .. فإن الإخوان المسلمين بحكم إيمانهم بربهم واستمساكهم بعقيدتهم كانوا أنواع أمنع من أن تستحوذ هذه الشركات بأحابيلها وإغراءاتها عليهم فكانوا هم في إعلان كلمة الحق أحق بها وأهلها . وبقدر ما كان تناول الأستاذ لهذا الموضوع مفاجأة للشركات وللمستعمرين ولجميع الجهات المسئولة في مصر وخارج مصر ، فلقد كانت مفاجأة أيضًا للإخوان المسلمين أنفسهم الذين حضروا المؤتمر والذين قرأوا بيانه فيما بعد ؛ لأن الإخوان لم يكونوا قد اعتادوا أن يسمعوا في مؤتمراتهم إلا شرحًا لدعوتهم وتوضيحًا لمواقفهم ... ولكن القيادة الموهوبة هي التي تستطيع أن تنتقل بجنودها وأتباعها من ميدان إلي ميدان في الوقت المناسب وبالأسلوب الذي تستكمل به الدعوة خطواتها وتثبت وجودها وتحقق معانيها في واقع حياتها .
- والموضوع الآخر هو الملك :
وينبغي بهذا الصدد أن نذكر أن الملك فاروقاً كان حتى ذلك التاريخ لا يزال مناط آمال الشعب وموضع احترامه ، لأن سيرته مرضية ومسلكه كان مسلكًا شريفًا ، ولعل ذلك نتيجة تأثير الشيخ محمد مصطفي المراغي عليه . وقد سبق لي أن أشرت إلي هذا الرجل وقلت إنه لم يكن مجرد شيخ للأزهر كسابقيه أو لاحقيه الذين كانوا مجرد موظفين يدينون بالولاء للحكومة والملك ، بل كان شخصية ذات تأثير في الحياة الاجتماعية والسياسية للبلاد وكان موضع احترام الملك فاروق وتوقيره وكان في صحبته إلي المساجد ، وهو صاحب فكرة إعلان القاهرة عاصمة مفتوحة في أثناء الحرب العالمية الثانية ، وقد أعلن ذلك وهو في صحبة الملك في أحد المساجد ، ولم يكن الإنجليز يرتاحون إليه ، ولما توفي الشيخ في سنة 1945 في مستشفي المواساة بالإسكندرية ، أدي الملك فاروق صلاة الجمعة التالية في مسجد سيدي بشر وطلب من المصلين بعد أن يقرأوا الفاتحة علي روح صديقه الشيخ المراغي .. ولم يبدأ فاروق في الانحراف إلا بعد وفاة الشيخ . وحسبك أن تعلم أن فاروقاً هو الذي أمر في ذلك الوقت بجعل الهجرة النبوية من الأعياد الرسمية وأمر بالاحتفال بها وقد سجل ذلك الشاعر الكبير محمود غنيم في قصيدة له ألقاها في المهرجان الأدبي الذي أقيم بدار الأوبرا في 12 فبراير سنة 1942 حيث يقول :
ملك إذا الإسـلام عـد حمـاته
- كان للطليعـة في صفـوف حمـاته
نور الصلاح يلوح فوق جبينـه
- والشـعب يصلحـه صلاح ولاتــه
الله أكبر هـل بصرت بركبـه
- يمـشي الهوينـا غاديـًا لصـلاتـه
والشعب يدعو الله خلف ركابـه
- حتى يهز العـرش من دعــواتـه
فكأنه فاروق يثرب نفســـه
- يسـعي بمـوكبـه إلي جمـعاتــه
قل للمشيد بعيـد هجرة أحمـد
- جـددت عهد الفتـح بعـد فـواتـه
هذا جهــاد في سبيل الله مـا
- نضـج الـدم القاني علي رايـاتـه
معذرة للقارئ في هذا الاستطراد قبل أن أدخل في الموضوع الذي أنا بصدده فقد أحببت أن أسجل تاريخًا لعل أكثره قد حجب عن شباب هذا الجيل بسوء قصد فقد درج حكامنا علي سنة أهل النار " كلما دخلت أمة لعنت أختها : فلكي ينسب حاكم نفسه إلي الفضل لا يرضيه إلا مجرد سابقيه من كل فضل .. أما نحن – الإخوان المسلمين – فلا تستبيح تزوير التاريخ من أجل إبراز فضل لنا ، ولا نبالي أن نشيد بمحاسن أعدائنا إن كان لهم محاسن لأننا ملتزمون بقول الله تعالي " ولا يجرمنكم شنآن قوم علي أن لا تعدلوا ، اعدلوا هو أقرب للتقوى " .
وليس معني هذا أننا ننكر أن فاروقاً هذا تولاه بعد ذلك شياطين الإنس من رؤساء أحزاب وبطانة فاجرة فصنعوا منه شيطانًا فباءوا بإثمه وإثم ما حاق بالبلاد من انحطاط وتدهور ودمار ... ولكن الحقبة التي انعقد فيها المؤتمر السادس للإخوان كان فاروق علي ما وصفنا ، فتعمد الأستاذ المرشد أن يفسد علي الإنجليز وأذنابهم محاولاتهم في إيغار صدر فاروق علي الإخوان بما ألقوه في روعه من أن الإخوان هم أعداء الملك ، فقال في بيانه في وضوح لا ليس فيه : وإن ما يشاع عن أننا أعداء الملك ليس صحيحًا بل إننا نلتزم يقول الإمام مالك رضي الله عنه " لو كانت لي دعوة واحدة مستجابة لجعلتها للسلطان فإن صلاحه يصلح به خلق كثير " . وعلي العموم فإن هذا المؤتمر لم يستوف حظه الجدير به من التسجيل التاريخي لفقداننا المرجع الأساسي في شأنه وهو الرسالة الخاصة به وتجتزئ بهذا القدر عنه الآن وعسي أن تظفر فيما بعد بنسخة من هذه الرسالة فنسجل ملحقًا له إن شاء الله .
- إلي دمنهور :
في 16 يونيه سنة 1941 انتقلت إلي دمنهور حيث تسلمت عملي بمصلحة القطن بها حسب توجيه الأستاذ المرشد لي كما قدمت . ولم تكن دمنهور غريبة علي فقد كنت أقضي في ربوع محافظتها جزءًا كبيرًا من إجازة الصيف كل عام لنشر الدعوة ، إذ كنت أحس إحساسًا داخليًا بأن علي مسئولية خاصة محو هذه المحافظة التي ولدت بها ، .. ولم أكن أتصور أن هذه المحافظة من السعة وترامي الأطراف بهذا القدر الذي وجهته حين عزمت علي ارتياد أنحائها .. وتستطيع أن تقول إنه في خلال تلك السنة وما بعدها بدأ الأستاذ المرشد يقذف كل إقليم من أقاليم القطر بثمرة من ثمرات تربيته التي عكف عليها خلال سني الدراسة في الجامعة . وإذا تحدثت عن الدعوة في إقليم البحيرة وقد ساهمت في إرساء قواعد فيها فإنما أعرض بذلك صورة لإرساء هذه القواعد في كل إقليم والذي كان من نتيجته أن نشرت الدعوة رواقها علي البلاد من أقصاها إلي أقصاها لم تدع عاصمة ولا مدينة ولا قرية ولا نجعًا إلا دخلته وكان لها فيه مستقر ومستودع .
- في دمنهور :
كان يتقاسم النفوذ في هذه المدينة أسرتان ؛ أسرة تنتسب إلي حزب الوفد وأسرة تنتسب إلي الأحزاب الأخرى ، وكنا حريصين علي أن نحسن صلاتنا بالأسرتين ، دون أن يمنعنا هذا من جذب بعض من شباب الطائفتين إلينا . وكان اهتمامنا ينصب أكثره علي طلبة المدارس الثانوية والصناعية والزراعية ، وكنا نأخذ هؤلاء الطلبة ومعهم أتراب من ذوي الحرف بنظام الكتائب الذي خرج منهم رجالا صالحين ، . ولم يكن عدد الإخوان بهذه الشعبة كبيرًا ، كما لم يكن من بين هؤلاء الإخوان شخصيات بارزة من شخصيات المدينة ، كما لم تكن دار الشعبة في مظهرها وأثائها فخمة بل كانت متواضعة بدائية ، لكن كان من يرتاد هذه الشعبة يشعر بفيض غامر من الروحانية الجارفة ، لأن أفراد هذه الشعبة علي صغر أسنانهم ، ضآلة مراكزهم الاجتماعية كانوا أمما يفهمون دعوتهم حق الفهم ويعرفون حقوقها عليهم ويعطون هذه الدعوة حقها من نفوسهم وقلوبهم وألسنتهم وعقولهم وأبدانهم . فتري الجد في حركاتهم وسكناتهم وتري الأخوة والمحبة والإيثار في تعاملهم فيما بينهم ، فلا تلبث حين تجلس إليهم أن تمتزج بهم .
كان الأخ المهندس الدكتور محمد عبد السلام فهمي مدير أعمال بمصلحة الطرق والكباري بطنطا في ذلك الوقت ، وكانت طنطا مسقط رأسه ، وكان من أحبابي الأقربين منذ كنا طلبة بالجيزة ... جاء لزيارتي مرة بدمنهور واختلط بإخوان الشعبة ، فطلب من إدارة الطرق والكباري بطنطا أن تسند إليه المرور علي فروعها بالبحيرة ، ومع ما في ذلك من مشقة عليه فإنه كان يقول لي : إن روحانية هذه الشعبة وما بها من امتزاج نفسي وعمل جاد متناسق كنه موسيقي جذبني وهون علي المشقة .
- اضطهاد حكومي :
ولست أدري لم خصت الحكومة هذه الشعبة باضطهاد دون غيرها من الشعب ودون الاضطهاد الحكومي العام ؟ .. فبينما كانت الشعب جميعًا في أنحاء القطر تنعم بالحرية كانت شعبة دمنهور تهاجم ليلا نهارًا في فترات متقاربة . كان هناك بكباشي اسمه " الرفاعي " له مكتب خاص وإدارة مستقلة ووظيفته مدير الشئون العامة بالمدينة كان يهاجمنا في أثناء المحاضرات الأسبوعية ويحاول منع المحاضرة ويطلبنا للتحقيق معنا في مكتبه ثم لا يجد شيئًا يعتمد عليه من القانون ... كان في دمنهور – وأعتقد أنه كان في كل عاصمة – قسمان للبوليس لكل قسم منها مأمور ومعاون وضباط خاصون به ، أحدهما يسمي البندر ومهمته ما يتصل بمدينة دمنهور نفسها والآخر يسمي المركز ومهمته ما يتصل بما سوي المدينة من قري مركز دمنهور وكان القسمان في مبني واحد .. وكان لبندر دمنهور معاون بوليس اسمه اليوزباشي محمد أبو السعود .. وكان هذا الرجل وكأن لا عمل له إلا الاصطدام بنا ، كان يهاجمنا ليلا نهارًا ويرسل لنا مخبرًا من المباحث لحضور كل محاضرة تلقي بالشعبة ، وبناء علي ما يكتبه هذا المخبر يأتي هذا المعاون في اليوم التالي ليحقق معنا ، وكنت استثقل هذا الرجل السمين ذا الكرش فكنت أصادمه وأتحداه سواء في الشعبة أو في مكتبه في البندر ... وقد ذكرت اسم هذا الرجل ومواقفي معه هنا لأن موقفًا قد حدث لي مع هذا الرجل بعد خمسة عشر عامًا سيأتي الحديث عنه في حينه إن شاء الله .
ولازلت حتى هذه الساعة أجهل الجهة التي كانت تحرض هؤلاء الناس علينا هل هي أوامر حكومية عليا ؟ وهذا مستبعد لأن الأوامر لا تخص شعبة دون أخري . أم هو تحريض موضعي من رجال الوفد في عهد حكومة الوفد ومن رجال الأحزاب الأخرى في أيام حكمهم ... ولكن هؤلاء الناس من الأسرتين كانوا دائمًا يحسنون استقبالنا ولا نحس منهم بروح عدوانية .. أم أنها كراهية شخصية دفعت الشخصين من رجال البوليس إلي تحدينا ؟ ..
- رب ضارة نافعة :
كانت هذه المضايقات المستمرة والمصادمات المتتالية تترك في نفوسنا بعض المرارة ، مع أنها لم تكن تنتهي في كل مرة بأكثر من مشاجرة بيني وبين محمد أبو السعود سواء في دار الشعبة أو في مكتبه .. إلا أن هذه المضايقات كان لها فائدة لم نعرفها إلا بعد نحو عام . ذكرت أن بوليس البندر وبوليس المركز كانا في مبني واحد . وتبين لنا فيما بعد أن ضابطًا من ضباط بوليس المركز برتبة ملازم كان يراقب ما يحدث بيننا وبين هذا المعاون السمين ، وكان يسائل نفسه لم هذا التهجم المستمر علي هؤلاء الشباب بغير جريرة ؟ ولم لم يسأم هؤلاء الناس هذا التهجم المتوالي دون هوادة فيتركوا الفكرة التي من أجلها يساءون هذا الظلم فيستريحوا من هذا العناء ؟ ...
وقد نقل هذا الضابط بعد ذلك رئيسًا لنقطة بوليس " صفط الملوك " مركز إيتاي البارود .. وكانت الدعوة في ذلك الوقت قد سبقت إلي ما حول هذه النقطة ووصلت إلي آل أبي رقيق في " المسين " عن طريق نجلهم صالح أبو رقيق الطالب إذ ذاك بكلية الحقوق بالقاهرة . وتعرف صالح علي هذا في نقطة صفط الملوك ؛ . وكأنما كان هذا الضابط أرضًا خصبة شديدة الخصوبة لا ينقصها إلي الماء لتنبت وتزدهر وتؤتي أشهي الثمار ، وكان الماء هو هذه الدعوة التي احتضنها احتضان الأم لولدها الذي آب بعد غياب طويل ... ومنذ ذلك اليوم عاش هذا الضابط لهذه الفكرة ، ونهم بها زمنًا ، وشقي بها أزمانًا ولكنه شقاء لم يستطع مع بالغ قسوته أن يمس القلب الذي لم تفارقه السعادة لحظة واحدة .
كان هذا الضابط هو الأخ الحبيب الأستاذ صلاح شادي ؛ الذي زرته في بيته في نقطة صفط الملوك في ذلك الوقت وقص علي قصة مراقبته إيانًا في مضايقات المعاون محمد أبو السعود ، وأن هذه المضايقات كانت أول شيء شد انتباهه إلي هذه الدعوة ،وأحس معه أنها دعوة حق ... وقد تصادف أن كان عنده في ذلك اليوم زائر آخر عرفنا به فكان هو شقيق زوجته مدرسًا للغة الإنجليزية بالمدارس الثانوية بالقاهرة وكان هذا الزائر هو الأخ الأستاذ محمد فريد عبد الخالق الذي اقتنع بالدعوة ، وعاهد عليها وصدق ما عاهد الله عليه . وقد أوليت الأخ صلاح شادي هذا الاهتمام لأن هذا الأخ قد نهض بأدوار خطيرة في الدعوة ما كان لينهض بها غيره . ولقي في سبيلها أشد ما يلقاه مؤمن علي يد اعتي الظالمين وسنعرض إن شاء الله لهذه الأمور في مواضعها .
نشر الدعوة بالبحيرة
لم يكن بالبحيرة في ذلك الوقت شعب للإخوان إلا في دمنهور ورشيد والمحمودية وشبراخيت ، فرأينا أولا أن نركز علي تكوين شعبة قوية منظمة في دمنهور ثم نهضنا بنشر الدعوة في بلاد المحافظة فكنا نخصص مساء يوم الخميس ويوم الجمعة كل أسبوع لزيارة مركز من المراكز حتى صار في كل مركز شعبة ثم انتشرت الدعوة إلي ما سوي ذلك من المدن والقرى .. وكان للأستاذ المرشد حنين شديد لزيارة شعب هذه المحافظة التي نشأ فيها وكان له ذكريات في كثير من مدنها وقراها ... وأذكر بهذا الصدد أننا كنا نتنقل معه بين بلاد مركز كوم حمادة حتى وصلنا إلي قرية " خربتا " فقال لنا إنه بعد أن حصل علي دبلوم مدرسة المعلمين الأولية من دمنهور عين مدرسًا في مدرسة خربتا الإلزامية .
- مناقشة حول الربا :
تعتبر دمنهور من أشهر بلاد القطر في تجارة القطن وحلجه وكان بها في ذلك الوقت ثلاثة عشر محلجًا ... ورغب زملائي في العمل تأسيس رابطة لهم تودع أموالها في بنك بفائدة فلما عرضوا علي المشروع رفضته لهذا السبب باعتبار هذه الفائدة ربا ... وكنت مع بعض زملائي في زيارة صاحب أكبر محلج بالمدينة فسألني : هل صحيح أنك تعتبر فوائد البنوك ربًا فأجبت بالإيجاب فتعجب وقال ما حجتك علي ذلك ؟ .. فقلت قول الله تعالي " يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وذروا ما بقي من الربا إن كنتم مؤمنين . فإن لم تفعلوا فأذنوا بحرب من الله ورسوله ،وإن تبتم فلكم رءوس أموالكم لا تظلمون ولا تُظلمون " ومعني هذا أنك إذا أقرضت إنسانً أو بنكًا مبلغًا من المال أو اقترضت منه فحين تسترد هذا المبلغ أو حين ترده يجب أن لا يزيد مليما وأن ى ينقص مليمًا .. وهل الربا إلا عقد ترتبط فيه الزيادة في المال بزيادة المدة ؟ ... قال : إذا كان ما تقول صحيحًا فمعني ذلك أنني في عملي أتعامل بالربا ، فقلت له وهل هناك شك في أن تجارة القطن في بلادنا إنما تقوم علي الربا ؟ قال : إنك تعلم مدي تمسكي بالدين ... ولو علمت بأن تعامل مع البنوك في تجارة القطن ربًا لتركت تجارة القطن ، ولكنك فاجأتني بشيء لم أسمعه من قبل وفي البلد علماء وأزهر .
قلت سأوضح لك الأمر بمثل واقعي : إذا حددت البورصة سعر صنف من أصناف القطن بأربعين ريالا للقنطار ونزل في مركز دمنهور مائة تاجر كل تاجر يعول بيتًا ويملك كل منهم ألف جنيه لشراء القطن من المنتجين ،وتوزعوا في قرة المركز فنزل في قرية منها خمسة تجار ، وعاين أحدهم الأقطان وأعطي سعرًا لها ثلاثة وأربعين ريالا . ثم مر الأربعة الآخرون واحدًا بعد الآخر فزادوا السعر الزيادة المعقولة في حدود خمسة قروش لكل منهم فصار السعر الأقصى أربعة وأربعين ريالا ، ومعني ذلك أن هؤلاء التجار المائة سيشتري عشرون منهم عشرين صفقة وسيجتمع للواحد منهم برأس ماله حوالي مائة قنطار ، يستطيع أن يحلجها لحسابه ويبيعها محلوجة ويجني منها ربحًا مناسبًا يعيش به هو وأسرته عيشة كريمة وربما عاشت بجانبه أسر . أما الذي يحدث الآن فعلا ؛ فصاحب محلج مثلك رأس ماله مثلا عشر آلاف جنيه لو اشتري بها جميعا قطنًا زهرًا فإنها لا تكفي لشراء أكثر من ألف قنطار . فإذا اشتري هذه الكمية ترك فرصة واسعة لمئات من صغار التجار أن يشتروا بجانبه ، ولكن الواقع المؤلم هو أنك لا تعتمد في الشراء علي العشرة الآلاف التي تملكها بل تذهب إلي البنك وتقترض منه بضمان البضاعة وبفائدة محددة فيضع البنك تحت يدك مائة ألف جنيه ، فإذا نزل هؤلاء المئات من التجار الصغار مشترين فلن يستطيعوا منافستك في أية قرية من القرى لأن مندوبيك في القرى سيرفعون السعر رفعًا تقوى عليه المائة ألف جنيه ولا تقوى عليه الألف جنيه وبذلك يتعطل هؤلاء التجار ولا يجدون مناصًا من طرق بابك واللجوء إليك لتتخذ منهم عمالا بأجر زهيد عندك .
وحسب الربا ظلمًا أنه يقضي علي المئات الذين يريدون أن يعيشوا مجرد عيشة كريمة ليرفع علي أنفاسهم فردًا واحدًا ليعيش في أعلي درجات الرفاهية .
- في فوة . تجربة ناجحة للدعوة :
كان عملي الحكومي كما قدمن في دمنهور ، وشاءت الأقدار أن يكون رئيسي فيها رجلا سكيرًا لا يتعفف ، ومع أنني كنت حريصًا علي أن لا أحتك به فإنه كان يعتقد أنني أطارده كالمثل الذي يقول : يكاد المريب يقول خذوني ... وقد عمل هذا الرجل بما له من صلات مع الرؤساء الكبار علي التخلص مني ففوجئت بعد سنة واحدة في دمنهور بنقلي إلي فوة . سافرت إلي فوة وذهبت إلي المحلج الذي سأكون مسئولا عما يدور فيه من عمل ولما رأيت طريقة العمل فيه ومعاملة أصحابه لموظفي الحكومة المشرفين عليه فهمت لماذا اختار لي هذا الرئيس هذا المحلج بالذات ... عرفت أن ثلاثة عشر موظفاً من مصلحة القطن نقلوا إلي هذا المحلج قبلي ولم يستطع أحد منهم أن يستمر فيه إلا عدة أشهر نقل بعدها علي أثر ضربة ضربًا كاد يقضي به إلي الموت ... كان أصحاب هذا المحلج قومًا يريدون أن يربحوا من أي طريق لا يبالون بشرف ولا دين ولا قانون معتمدين في ذلك علي انقطاع بلدتهم عن غيرها لسوء المواصلات كما أن المحلج يقع خارج العمران كما يعتمدون علي فساد ذمم الرؤساء واستعدادهم لقبول المنح والهدايا .
كنت في ذلك الوقت في سن مبكرة لم أعد الاثنين والعشرين عامًا ولم أكن جربت حقارة النفوس التي وجهت بها لأول مرة وعلي حين غرة لم أكن أتصور أن يكيد رجل لم أحتك به ولم أنله بأذى لشاب مثلي في سن أحد أبنائه فيلقي به بين أنياب السباع ... أسفت وتألمت ولكن ذلك لم يكن يؤثر في مباشرتي عملي فقد باشرته .. ومباشرتي عملي في ذلك المحلج لا تعني إلا شيئًا واحدًا هو مصادرة أصحاب المحلج في مورد رزقهم الحرام ... ويبدو أن هؤلاء الناس لم يتعودوا علي رؤية من يقف في طريقهم لأنهم تعجبوا أولا ثم تقدم نحوي ابن صاحب المحلج وكان مديرًا للمحلج ورفع يده مهددًا بصفعي ... وهنا ذهبت إلي مكتبي وكتبت استقالة والدموع تقطر من عيني وأرسلت الاستقالة إلي رئيسي . وحضر رئيسي من دسوق وحاول إصلاح ما بيني وبين إدارة المحلج متوسلا إليهم ومحذرًا إياي من أن يصيبني ما أصاب الثلاثة عشر زميلا من قبلي ومزق الاستقالة .
وهدأت نفسي إلي أنني قبل كل شيء صاحب دعوة ، وأن البيئة التي وجدت فيها في هذا المحلج مهما تلوثت به من مساوئ فإنها لا تخلو من خير دفين ، وعلي صاحب الدعوة أن يكشف عن هذا الخير وإلا كان فاشلا أو كانت دعوته غير جديرة أن تكون دعوة إصلاحية ، ولما كانت دعوته مما لا يتطرق الريب إلا صلاحيتها فإنه هو الذي – إذا لم يستطع النفوذ بها إلي قلوب الناس علي اختلافهم – يكون فاشلا . إن تجربتي في هذا المحلج قد أثبتت لي أن هذا الجنس البشري مهما تدنس ، وانحط إلي أسفل السافلين ، وفشلت في علاجه وسائل الإصلاح فإنه لا يستعصى علي الدين .. وثبت لي أن بلادنا هذه لا تقاد إلي أعلي مراتب السمو والنبل إلا عن طريق الدين .. وكل ما سوي ذلك من وسائل الإصلاح ليس إلا مضيعة للوقت وتبديدًا للجهد ... محال أن يقاد الإنسان إلا من قلبه !!! ...
والناس يريدون أن يروا الإنسان الذي يخالطهم ولا يتكبر عليهم ولكنه يترفع عن متاع دنياهم ... إنهم يقبلون عليه ويحبونه ويفتدونه ... أما الذين يخالطون الناس ويخاطبونهم باسم الدين بعين ، في حين يمدون عينهم الأخرى إلي ما متع الله به هؤلاء الناس من زهرة الحياة الدنيا ، فهؤلاء لا تفتح لهم أبواب القلوب ولا يحظون منهم برضًا ولا تقدير ... يروي أن الرشيد الخليفة العباسي أحس من نفسه يومًا أنه في حاجة إلي من يعظه : فأرسل في طلب كبار العلماء فحضروا ، وصار كل واحد منهم يعظه فيمنحه صرة من المال ، حتى كان آخرهم عمرو بن عبيد فوعظه ما شاء الله له أن يعظه ثم قام وانصرف وجد في السير ، فأرسل خلقه من يحاولون اللحاق به لتسليمه الصرة حتى لحقوا به لكنه رفض .. فرجعوا بها إلي الرشيد فنظر إليه الرشيد وشيعه ببصره وهو يقول :
كلكم يطـلب صيــــد
- كلكم يمـشي رويــــد
غيـر عمـر بن عبيـد
إن الناس يتمنون في أعماق قلوبهم أن يروا من يري نفسه أكبر من دنياهم ليتخذوه لهم القدوة وإمامًا .... ولكن أين هؤلاء وسط البحر الزاخر من عبيد المادة .
لم يمض علي هذه الحادثة التي تهجم علي فيها صاحب المحلج أكثر من شهر حتى فعل مقلب القلوب فعله ، فإذا بصاحب المحلج نفسه الذي كان ظهيرًا لولده من قبل ينادي ولده ، وكان رجلا متزوجًا وذا أبناء – وقال له أمام الناس : كل ما يفعله " فلان " – يقصدني – في المحلج لابد أن تخضع له ، وإذا تعرضت له ولو بكلمة سأطردك من المحلج ومن البيت ... ولم يكن الرجل يقصد بكلامه هذا إحراجي كما قد يتبادر إلي الذهن بل كان يقول وهو يعني ما يقول ، لأنه بعد أن قال ذلك طلب مني أن أجلس إليه وسألني عن الأشياء المخالفة للقانون التي أريد أن أمنعها فسردتها له وهي تتلخص في منع دخول أشخاص معينين تعودوا أن يحضروا للمحلج أقطانًا مغشوشة يبيعونها له بسعر منخفض ... فطلب بواب المحلج أمامي ونبه عليه بمنع دخول هؤلاء الأشخاص مطلقاً .. ثم قال لي : يا فلان لعلك تعلم أن أكثر ربحي كان من هذا النوع من الأقطان ولكنني والله قد أصبح رضاك عني أحب إلي من هذه الأرباح .
- الإقلاع عن الكيوف لا يحتاج إلا إلي عزيمة :
لم يكن هذا الرجل يصلي وكان يشرب الخمر ويتعاطي الحشيش والأفيون ومن قبل كان يتعاطي الهورايين ويجدر بي بهذه المناسبة أن أضع بين يدي للقارئ تجربة مرت بهذا الرجل وحدثني عنها وفي ذكرها نفع كبير لمن يقرأها ، قال لي : كنت في شبابي من أقوي الناس بنية ، وابتليت بتعاطي الهورايين حتى أنحل جسمي إلي حد أنني صرت إذا هبت علي الرياح أخشي أن توقعني علي الأرض ، وكنت في الصيف أنزح إلي الإسكندرية حيث لي بيت فيها ، وكنت خلال إقامتي في الإسكندرية أتردد علي مقهى السنانية ، وكان صاحب المقهى يشتري لي الهورايين وكانت العلبة بعشرين جنيهًا .. وفي إحدى المرات اشتري علبة فلما رجعت إلي المنزل فتحتها وتعاطيت منها فلم أتأثر بها فعلمت أنها مغشوشة فرجعت بها إلي المقهى وأعطيت العلبة لصاحب المقهى وذكرت له ما كان شأنها ، فاستدعي الذين اشتراها منه وذكر له ما قلته بصددها فرد الرجل ردًا فاحشًا ثم التفت إلي وقال : إذا ذكرت ذلك مرة أخري عن بضاعتي فسأصفعك صفعة ألقيتك بها علي الأرض . فكان لتهديد الرجل إياي أثر عميق جدًا في نفسي وقلت لنفسي إن هذا الرجل صادق في كلامه فإنه إذا صفعني فإنه سيلقي بي علي الأرض لأن جسمي لا مقاومة فيه ... يا للهوان إلي هذا الحد أصبحت تافها حتى إن مثل هذا الصعلوك يشتمني ويهددني ... وقررت في نفسي أمرًا ... وهنا انبري صاحب المقهى بماله من سطوة يدافع عني ويشيد بمكانتي ويهدد الرجل ويأمر بتغيير العلبة المغشوشة في الحال فانصاع الرجل وأحضر العلبة الحقيقية فأخذتها ووضعتها في جيبي وغادرت المقهى إلي المنزل .
قال لي : ودخلت شقتي واتجهت إلي المرحاض وأخرجت العلبة وفتحتها وأفرغتها في المرحاض عن آخرها وشددت السيفون ثم دخلت حجرة النوم وبدأت الآلام تنتابني ، وكلما مر الوقت تضاعفت الآلام حتى صرت أصرخ كالمجنون من شدة ما تمزقني الآلام ... وجاءوا بالطبيب فقرر أن أتعاطي الهورايين وإلا فالموت ... فرفضت وآثرت علي الموت ثم جاءوا بأطباء آخرين فقروا نفس القرار وأصرت علي الرفض . وكانت الآلام تستبد بي حتى أفقد وعيي فأنزل من المنزل وأنا لا أحس بنفسي وأهيم علي وجهي كالمجنون حتى كان أهل يجدونني في بعض الأحيان علي بعد أميال نائمًا علي " دكة " أحد البوابين . ظلت هذه الآلام المبرحة نحو شهرًا ثم أخذت تخف شيئًا فشيئًا فقرر الأطباء أن أقضي شهرًا في جهة خارج المدينة فاستأجرت مكانًا في المكس ومكثت فيه حتى اكتملت لي صحتي وعادت إلي عافيتي التي كنت أنعم بها قبل أن ابتلي بهذا " الكيف " الملعون .
وجدير بالذكر أن ننبه إلي أن " الهورايين " هو مسحوق أبيض مخدر يتعاطي عن طريق الشم بالأنف وهو أشد المخدرات تأثيرًا وأخطرها سمية وأقواها استيلاء علي مراكز الإحساس .. وهذه التجربة الواقعية تثبت أن العزيمة القوية قادرة علي قهر اعتي العادات والكيوف مهما تمكنت من النفس واستولت علي مراكز الإحساس فيها .
وجاءني الشيخ صاحب المحلج في يوم من الأيام وقال لي : سأخبرك بشيء يسرك ، لقد امتنعت عن الخمر ... وبعد ذلك بفترة وجيزة أخبرني أنه امتنع عن الأفيون ثم الحشيش ثم طلب مني حين أقوم لصلاة الظهر أن يصحبني فكنا نصل جماعة أنا وهو في مكتبه ، ورأيت في أحد أطراف فناء المحلج حجرة مهجورة مهدمة فسألت عنها فقيل إنها المسجد الذي كان من شروط الترخيص الحكومي بالمحلج أن يكون ضمن بنائه فبني ولم يستعمل حتى تهدم . فأشرت علي الشيخ أن يصلحه فأصلحه وفرشه وكنا نصلي فيه أنا وهو ومعنا كثيرون من الموظفين والعمال بالمحلج . وجاء ميعاد الحج فاستعد الرجل لأداء الفريضة وأداها ثم قام أهل فوة بجمع تبرعات لإصلاح دورة مياه مسجد أبي المكارم أكبر مساجد فوة فلما علم بذلك تعهد بأن يقوم بهذا العمل وحده وقد هدم هذه الدورة وأنشأ دورة أخري علي أحدث طراز كلفها خمسمائة جنيه .
خلاصة القول أن الرجل أجاب داعي الله بعد أن كان غارقًا في بحار الشر فكان برهانًا علي أن الدعوة الإسلامية الخالصة هي وحدها العلاج الناجع لمجتمعنا ولا علاج غيرها .
- الدعوة في فوة :
إذا أحببت أن تعرف معدن أهل فوة فحسبك أن تعلم أن الأستاذ حسن البنا هو من أهل فوة . ولد في شمشيره إحدى قرى مركز فوة ... نزلت هذا البلد الكريم ولم تكن الدعوة قد وصلت إليه بعد ، ولعل السبب في ذلك صعوبة المواصلات إليه في ذلك العهد .. وما كدت أتصل بأهل هذا البلد الكريم حتى أقبلوا علي مستجيبين لدعوة الله وأنشئوا شعبة ضمت صفوة الناس شبابًا وشيبًا وزاولت جميع أوجه النشاط الروحي والثقافي والرياضي والعسكري ، وصار إخوان فوة مثلا عليا في كل وجه من هذه الأوجه .
- تجديد في أساليب الدعوة :
لم يكن بفوة في تلك الأيام أية مؤسسة من مؤسسات الترفيه ، فلا سينما ولا مسرح ... وقد رأيتها فرصة سانحة لنقل الأفكار الإسلامية إلي عقول الفلاحين وعقول الناشئة وأهليهم ، فصغت من أحداث نفي مشركي قريش لرسول الله صلي الله عليه وسلم ولبني هاشم في شعب من شعاب مكة مسرحية ، وكنت من قبل قد وضعت أحداث معركة القادسية في مسرحية باللغة العامية لتخاطب عامة الناس وجعلت هدفها معالجة ما درج عليه الفلاحون ، في ذلك الوقت من الاستدانة بالربا من الجنود الذين أنشئوا مكاتب في المدن ويبعثون بمندوبهم إلي القرى والعزب للإيقاع بهؤلاء الفلاحين العوام . ولما كانت مسرحية القادسية طويلة فقد اجترأت بفصلها الأخير .
وقد استغرقت وقتًا طويلاً في تدريب مجموعة من شباب الشعبة علي التمثيل حتى أتقن كل منهم الدور الذي أسند إليه تمام الإتقان ... وعرض لنا بعد ذلك عائق ضخم وهو المكان الذي تمثل فيه هذه المسرحيات ... ولم يطل بنا البحث فقد خطر لي أن أعرض علي الحاج محمد المصري صاحب المحلج . وكان الوقت في مقتبل الصيف وفناء المحلج خال من القطن – أن نستعمل فناء المحلج لهذا الغرض ، ورحب الرجل كل الترحيب . وأقام الإخوان المسرح مستفيدين بأخشاب المحلج ، وأعلن عن الحفل وأقبل الناس عليه من فوة وما حولها من القرى بالألوف مما لم يكن يتسع له مكانًا آخر غير هذا الفناء المترامي الأطراف . ونجح الحفل بحمد الله وتوفيقه نجاحًا لم يخطر علي بال أحد ، وتأثر الناس بالأفكار التي رأوها وسمعوها وصارت حديثهم الذي يتحدثون به في مجالسهم .. وكان هذا الحفل سببًا في تعديل مسار كثير من الناس وسببًا في افتتاح شعب كثيرة .. وعلي أثر هذا لحفل أدي الشيخ محمد المصري فريضة الحج ورجع نائبًا نقيًا .
- بين حب الناس وحقد الرؤساء :
قدمت أن نقلي إلي فوة لم يكن إلا حقدًا وضغينة من رئيس مارق ، ولما كان لهذا النقل أثر سيء علي الدعوة في البحيرة ، فقد ألح إخوان دمنهور علي الأستاذ المرشد أن يعمل علي رجوعي إلي دمنهور وقد فعل وجاء أمر النقل – ويبدو أنه كان صادرًا من رئيس الوزراء – حيث كان هو وزير المالية – لأن أحدًا من السادة الرؤساء الحاقدين لم يستطع أن يضع في سبيله العراقيل ... والواقع أنني سررت به لا لشيء إلا لأقهر رئيسي المارق في عقر داره في دمنهور .
ولكن الذي حدث أنني رأيت نفسي أمام مظاهرة من إخوان فوة – وما أكثرهم وما أحبهم إلي نفسي – ومن الحاج محمد المصري صاحب المحلج الذي ظن أن النقل طبيعي من الحكومة فقرر أن يذهب إلي الوزير لإلغاء هذا النقل فلما علم بأن النقل إنما جاء عن طريق الأستاذ المرشد ، قرر السفر إليه وحمل معه مجموعة من الإخوان وطلبوا إليه إلغاء النقل ، وشرح له الحاج محمد المصري حالته قبل وجودي بفوة وحالته بعد وجودي ... واتصل بي الأستاذ المرشد تليفونيًا يسألني عن وأبي بعد هذه المظاهرة ولم يكن أمامي باعتباري إنسانًا يقدر الناس إلا أن أوافق علي إلغاء النقل والبقاء بفوة وقد كان . ولما جاء صيف عام 1946 أتممت زواجي ولم أكن أعلم أن الرؤساء المارقين قد تواطئوا علي مؤامرة محبوكة الأطراف لنقلي إلي جهة بعيدة ، وتم لهم ما أرادوا حيث نقلت إلي ديروط بمحافظة أسيوط .
- عرض من الأستاذ :
وهنا عرض علي الأستاذ المرشد أن أستقيل من عملي بالحكومة وأتفرغ للدعوة بمرتب أكبر من مرتبي ، فطلبت منه أن يمهلني حتى أستنير برأي والدي الذي سألته فقال لي : يا محمود لأن نعطي الدعوة خير من أن نأخذ منها " فلما أخبرت الأستاذ بما قاله والدي وقع من نفسه أحسن موقع وقال " ذرية بعضها من بعض " .
- في ديروط :
كانت ديروط في ذلك الوقت بلدًا لا يزال أهلها يعيشون عيشة الجاهلية ، فكل فرد منهم يبيع كل ما يملك في سبيل أن يستأجر لنفسه رجلا أو أكثر مهمتهم أن يسيروا خلفه حيثما سار ،وأن يجلسوا حوله أينما جلس ، وكل منهم يحمل بندقيته علي كتفه ؛ فالفقير يسير خلفه رجل واحد والمتوسط الحال يسير خلفه رجلان أو ثلاثة والثري يسير في موكب من هؤلاء السدنة والحراسة الذين لا لزوم لهم ولا داعي إلا الظهور بمظهر العظمة والقوة المتكلفة المستعارة ... وكانت ديروط في تلك الأيام أكثر بلاد القطر جرائم .... سافرت إلي ديروط وتسلمت عملي بها وأنا أكاد أتميز من الغيظ من نجاح هؤلاء الرؤساء المارقين الذين أرادوا أن يتخلصوا مني ليستمتعوا بالكسب الحرام دون رقيب فقذفوا بي أولا إلي فوة ، ظنًا منهم أنهم ألقوا بي بين براثن الأسد ، وكادوا يحققون أملهم بتركي هذا العمل نهائيًا وقد استقلت فعلا ولكن رئيسي المباشر ثناني عن الاستقالة ، ثم رأوا وجودي بفوة منع عنهم موردًا حرامًا كانوا يستمتعون به من وراء سلوك محلجها سلوكًا يخالف القانون ، وباهتداء صاحب المحلج إلي صراط الله المستقيم لم ير داعيًا يدعوه إلي تقديم ما كان يقدمه إليهم .. فدبروا حين علموا بزواجي أن يقذفوا بي إلي أشد بلاد القطر إجرامًا في الصعيد لأمل وأستقيل فيتحقق لهم ما يريدون .
ذهبت إلي ديروط وحدي دون زوجتي وأقمت في فندقها الكبير أمام المحطة ، وكان دوره الأرضي مطعمًا ومقهى وكان المقهى " سلاحليك " أكبر من سلاحليك مراكز البوليس ، لأنه زبائنه كانوا من هذا النوع المسلح اختيالا وتفاخرًا وجاهلية . فكان الزبون إذا دخل المقهى بتابعيه تناول عمال المقهى منهم السلاح وعلقوه بالسلاحليك ثم يسلمونه لهم عند خروجهم ... وكان عمل يقتضي أن أذهب إلي المحالج التي أشرف عليها صباحًا ومساء حتى الساعة التاسعة كل يوم ، ولما كانت المحالج خارج البلد نصحني قوم من عقلاء البلد أن ى أذهب إلي عملي فترة المساء اتقاء الخطر ؛ وحدث فعلا أكثر من مرة حوادث قتل في هذه المنطقة وبلغ من جرأة المجرمين أنهم كانوا يهاجمون جنود البوليس في هذه المنطقة ويجردونهم من سلاحهم وعجز المركز عن مقاومتهم .
وبعد فترة قصيرة من وجودي بديروط فوجئت بزائر لم أكن أعرفه ولكنه عرفني بنفسه فإذا هو رئيسي مفتش مصلحة القطن في محافظتي المنيا وأسيوط ، وعجبت حين رأيته يواسيني ، وقد لاحظ دهشتي فقال لي : لا تدهش فأنا مظلوم مثلك ، أنا أقدم موظف في المصلحة وأعلاهم مؤهلا ولكني مثلك لا آكل الحرام – كان هذا الرئيس مسيحيًا – فكان جزائي أن ألقوا بي هنا في هذه الوظيفة مع أنني قاربت سن المعاش ... وأنا سمعت عنك وأتابع أخبارك بحب وإشفاق ، فلما علمت أنهم قذفوا بك إلي أسوأ بلد في نطاق سلطة وظيفتي قدمت إليك لأعرض عليك أقصي ما أستطيعه من تخفيف عنك في نطاق سلطتي وهو أن أنقلك إلي مغاغة التي تعد أرقي بلد في التفتيش النابع لي وأقرب بلد فيه إلي القاهرة ... ولما كانت مغاغة ليست غريبة علي فلي فيها إخوة أعزاء وذكريات كريمة رحبت بعرضه وشكرته عليه ...
- كيف كانت تدار شئون الدولة :
وسافر الرجل وبعد يومين وصلني كتاب منه فيه القرار بنقلي إلي مغاغة محل السيد (ع.ح) علي أن يتسلم الأخير العمل في ديروط وعلي أن يكون التنفيذ فورًا . لم أكن أعرف السيد (ع.ح) هذا الذي سيحل محلي وأحل محله ، وإن كنت أعرف مغاغة تمام المعرفة فلم يمض علي فراقي لها إلا سبع سنوات ، وذهبت في اليوم المحدد إلي مغاغة فرأيت عجبًا وسمعت عجبًا ... العجب الأول أنني حين نزلت مغاغة اتجهت مباشرة إلي شريكي السابق وصديقي وأخي الأستاذ شلبي محمد جاد وكان في ذلك الوقت قد صار عمدة مغاغة ، فتلقاني أحسن لقاء ثم تحدثت معه عن سكن لي باعتباره أكبر مالك للعقارات في المدينة ففوجئت بأن مغاغة ليس فيها حجرة واحدة , وقام معي فعلا ومررنا فأثبت مرورنا هذه الحقيقة المرة . ثم رجعنا إلي مكتبه وجلسنا نتحدث وإذا بشخص يستأذن في الدخول فرأيت رجلا يكبر منا جميعا ، في سن تجاوز الخمسين وتشرف علي الستين وعلي عينيه نظارة سوداء فسلم وجلس ، وكأنه كان يريدني دون الحاضرين فانتقل إلي جانبي وعرفني بنفسه فإذا هو السيد (ع.ح) الذي قدمت لأحل محله .
قال لي الرجل : لعلك فوجئت بلقائي إياك في هذا المكان ، فالمكان المعهود للقائي معك هو جهة العمل لتتم عملية التسليم والتسلم ؛ ولكنني لما علمت بأنك ستحضر إلي مغاغة اليوم أيقنت أنك ستنزل عند أخيك الأستاذ شلبي فحرصت علي لقائك عنده . قال الرجل : وسأكون معك صريحًا غاية الصراحة لأني أعلم أنك لست كأي زميل حاول أن ينقل مكاني ... وهنا عجبت لقوله إنه سيكون معي صريحًا كأن في الأمر شيئًا أنا أجهله . قال : إنني هنا منذ عشر سنين وقد حاولوا نقلي أكثر من مرة ففشلوا . قلت : إن هذا الكلام غامض فمن الذين حاولوا ولماذا حاولوا وما الذي يعنيهم من أمر نقلك بالذات وكيف فشلوا ؟ .. قال : يا أستاذ محمود يجب أن تعلم أن كل زملائنا هنا في الصعيد يستفيدون من وظائفهم أكثر من أضعاف مرتباتهم ، وأنت الوحيد الذي أقر الجميع بترفعك عن ذلك – وشرح لي وسائل الاستفادة – ثم قال لي : إنني هنا في مغاغة قد توطدت العلاقة بيني وبين أصحاب المحلجين فيها وأصبحت أعيش من أثر ذلك في رغد والحمد لله .. وإنني اعتبر نقلي من هنا قتلا لي ، ولذا فقد ضحيت بالكثير وبذلت الكثير في سبيل إلغاء نقلي في كل مرة ، حتى إنني في المرة الأخيرة وكانوا قد أحكموا الخناق حول رقبتي اضطررت أن أبذل مبلغًا كبيرًا في السراي (السراي الملكية) حتى صدر أمر منها إلي وزير المالية بإلغاء نقلي وكانت صدمة للذين وضعوا الخطة .
ثم قال : لقد حدثتك بالحقيقة التي لم يكن أحد يعرفها ولم أحدث بها أحدًا غيرك ، ومع ذلك فإذا قررت تنفيذ النقل فلن تلقي مني أية مقاومة لأني لا أجرؤ علي الوقوف في وجه رجل طاهر وإن كنت أجرؤ علي الوقوف في وجه الوزير نفسه . وهؤلاء هم أبنائي ( وأخرج من جيبه صورة لثلاثة أبناء في مختلف المدارس وفي الجامعة ) ثم قام مستأذنا بعد أن عزم علي أن أكون ضيفه تلك الليلة وانصرف وهو يكاد يبكي . وبت تلك الليلة عند أخي الأستاذ شلبي أكرمه الله فقد كان علي العهد لم يتغير ، ولا أنسي ما عرضه علي في تلك الليلة وألح علي في قبوله حيث قال : إن شقتي التي أسكنها واسعة مكونة من ست غرف ، وسأقسمها بيني وبينك تأخذ ثلاث غرف وأنا أخذ الثلاث الأخرى ، فشكرت له جميل عرضه الذي ذكرني بما عرضه الأنصار علي إخوانهم المهاجرين ... وقلت له : يا أخي لقد عرفت الليلة عن عملي الذي أنتسب إليه مالم أكن أعرف ، وسأسافر صبيحة غد إن شاء الله إلي المنيا لمقابلة المفتش الذي نقلني إلي مغاغة وأعتذر إليه بأنني لم أعثر علي سكن ، وأسأل الله تعالي أن يحفظ علي إيماني وسط هذه الفتن .
- عرف الإنجليز عن ديننا مالم نعرف :
في خلال الفترة التي أقمتها بديروط وحدي في الفندق أشار علي بعض الأصدقاء . أن أودع نقودي في صندوق توفير البريد حفظًا لها ... فذهبت إلي مكتب البريد – وكان معاون البريد صديقاً لي وكان شابًا ظريفًا وكان مسيحيًا – وقلت له إنني أرغب في إيداع ما معي من نقود في صندوق التوفير فسألني : هل تريد استمارة للمسلمين أم استمارة بفوائد ؟ فلما سمعت هذا السؤال منه ظننته يمزح معي لأنه يعرف أنني من الإخوان المسلمين فأراد أن يتندر بهذا الأسلوب ، فقد كنت أعرف أن البريد يخير المتعامل معه بين طريقتين : التعامل بالفوائد والتعامل بغير الفوائد ، وكان اعتقادي أن استمارة التعامل بدون فوائد مطبوع عليه " استمارة التعامل بدون فوائد " حيث إن الأخرى مطبوع عليها استمارة للتعامل بفوائد : فقلت للمعاون : دعنا من المزاح وأعطني الاستمارة المطبوع عليها " التعامل بدون فوائد " فرد علي قائلا : إنك حملت كرمي علي محمل المزاح ... إنه ليس مزاحًا وناولني الاستمارة فرأيت مطبوعًا عليها " استمارة للمسلمين " .
كان لهذا الحادث العارض في نفسي تأثير عميق ودلالات مؤلمة ... وقلت لنفسي إن الذي أسس مصلحة البريد في مصرهم الإنجليز وهم الذين وضعوا نظمها وأسسها وأساليبها ، ولا يزال العمل يدور بهذه المصلحة علي نفس النظم والأساليب التي وضعوها . فالإنجليز إذن قد فهموا من ديننا أن المسلم بحكم أنه مسلم لا يجوز له أن يتعامل تعاملا ماليًا مع أحد – ولو كان هذا الأحد مصلحة حكومية – بفوائد لأن الفوائد ربًا والربا حرمه الإسلام وعلي هذا الأساس طبعوا نوعين من الاستمارات نوع بدون فوائد وسموه " استمارة للمسلمين " ونوع آخر بفوائد وفي نظرهم أنه لغير المسلمين . ثم يأتي أكثر المسلمين متنكرين لدينهم متناسين أنفسهم معرضين عن الاستمارات التي أعدت للمسلمين متعاملين بالاستمارات الربوية ... لقد عرف الإنجليز عن ديننا مالم نعرف ، وقدرونا ولكننا احتقرنا أنفسنا .
- التنقل إلي دمنهور ثانية :
كانت الفترة التي قضيتها في ديروط فترة غير مستقرة ، فقد كنت موزع الخاطر ، ثم تخلل هذه الفترة شهور طويلة أصاب البلاد فيها وباء الكوليرا – أعاذنا الله منه ولا أعاد أيامه ، وفي خلاله كان الناس يعيشون في خوف ، وتقطعت الصلات بين البلاد حيث أوقف سير قطارات السكة الحديد وغيرها من طرق المواصلات ، ومنع الانتقال من مكان إلي مكان حتى إنني حين أقبل العيد حاولت السفر إلي رشيد بالطائرة من أسيوط فقيل لي إن جميع الأماكن محجوزة لما بعد العيد بأسبوع ... وقد استضافني في أيام العيد الأخ الكريم السيد محمد حامد أبو النصر في منفلوط المتاخمة لديروط وبالغ في إكرامي أحسن الله إليه وعوضه خيرًا عما ناله من ظلم كبير . ولم ألبث بعد ذلك إلا قليلا حتى نقلت إلي دمنهور ، ويبدو أن مما سهل نقلي هذا أن لهذه الأماكن النائية والبعيدة عن أعين الرقابة طلابًا كثيرين يتهافتون عليها .
ترشيح المرشد العام لمجلس النواب سنة 1942
قد يبدو هذا العنوان كما يبدو العنوان الذي يليه في هذا الفصل وكأنهما دخيلان عليه ؛ إذ أن فيهما احتكاكًا بالحكومات القائمة وقتذاك وقد يراهما القارئ أليق بأن يلحقا بالفصل القادم المخصص للعمل الوطني منهما بالإلحاق بهذا الفصل الذي يعالج العمل الداخلي ... ولكن القارئ سوف يقتنع بأنهما من صميم هذا الفصل حين يعلم أن هدف الأستاذ المرشد من وراء هذا الاحتكاك إنما كان تمهيد السبيل لتثبيت دعائم الدعوة في أنحاء البلاد ، وتأمين خطواتها في هذا السبيل حتى تستكمل كل وسائل القوة المعنوية والمادية .
ومن المسلم به أن أية دعوة ذات أهداف نبيلة وبرامج إصلاحية تريد تحقيق هذه الأهداف والبرامج ينبغي أن يكون من وسائلها إلي ذلك العمل علي الوصول بأعضائها إلي مقاعد المجالس التشريعية ، ولا يتأتي ذلك إلا بخوض المعارك الانتخابية ... ومن بدائه الأمور أنه كلما كان عدد النواب لهيئة من الهيئات أكثر كان تحقيق آمالها أيسر ؛ ولكن الإخوان كانوا يعتقدون أن حصولهم علي مقعد واحد في مجلس النواب كفيل بأن يؤثر في هذا المجلس أبلغ التأثير إذا كان صاحب هذا المقعد هو حسن البنا ؛ ذلك أن لديه من قوة الشخصية والقدرة علي الإقناع مع ما يتمتع به من روحانية فياضة وبلاغة آسرة ما يشد إليه الأسماع والعيون والعقول والقلوب ، وما يفعل في السامعين فعل السحر ... وقد استطاع بهذه المواهب النادرة أن يجمع حوله من الأنصار الذين يفتدون دعوته بأموالهم ودمائهم مئات الألوف في أنحاء مصر وغير مصر من الدول العربية والإسلامية .
لهذا اتخذ الإخوان قرارًا بترشيح المرشد العام عن دائرة الإسماعيلية في الانتخابات التي أعلنت حكومة الوفد إجراءها سنة 1942 ... وإذا كان أعظم المرشحين لم يكن لتقدمه للترشيح من صدي إلا في دائرته التي ينتمي إليها ، فإن تقدم حسن البنا للترشيح كان له صدي يتردد في جميع محافظات القطر ومراكزه وحواضره وقراه بل وقد تعدي ذلك الصدى إلي خارج مصر ؛ ذلك أن في كل مكان من هذه الأماكن رجالا ونساء يعقدون الآمال للعريضة علي هذا الترشيح . وينبغي أن يكون مفهومًا أن ترشيح حسن البنا في دائرة الإسماعيلية ليس له إلا معني واحد هو أنه من قبل أن تجري انتخابات قد صار عضوا بمجلس النواب مهما نافسه في الترشيح مائة مرشح منهم رئيس الحكومة نفسها ، ذلك أن أهالي هذه الدائرة وعن بكرة أبيهم رجالا ونساء وأطفالا يعتبرون ترشيح حسن البنا عندهم شرفًا لا يعادله شرف ، وأن انتخابهم إياه فريضة من فرائض الدين وقربة من أعظم القربات إلي الله عز وجل . وهذه الحقيقة التي يعرفها أهل الإسماعيلية ويعرفها الإخوان في كل مكان ؛ ويعرفها الإنجليز أيضًا ،وإن كان يجهلها – حتى ذلك الوقت – فئات أخري منهم حكام مصر ورجال الأحزاب المصرية الذين لم يستطيعوا أن يفهموا عن الإخوان المسلمين أكثر من أنهم جماعة تدعو إلي الدين الذي لا يخرج في تصورهم عن كونه طقوسًا وعبادات ومحاربة للمنكرات بالوعظ والإرشاد ... بالرغم مما يبذله الإخوان من جهود لتوضيح فكرتهم عن الإسلام باعتباره دينًا ودولة ، وعقيدة وشريعة ، وبرنامجًا إصلاحيًا شاملا لجميع شئون الحياة .
تقدم الأستاذ المرشد يطلب الترشيح إلي وزارة الداخلية كالمعتاد ... فما الذي حدث ؟... بعد أيام قلائل جاء ه رسول من قبل مصطفي النحاس باشا رئيس الحكومة يدعوه لمقابلته .... وسأنقل هنا نص ما جاء في تقرير الأمن العام عن هذه المقابلة وعن هذا الموضوع عامة وقد نشره في جريدة الأهرام في 14-2-75 الدكتور عبد العظيم رمضان مدرس التاريخ الحديث والمعاصر بجامعة طنطا ضمن وثائق نشرها ، قال التقرير :
- " لم يكد يذاع خبر ترشيح الأستاذ حسن البنا ويدفع التأمين إلا واتصل به حضرة عبد الواحد الوكيل بك صهر حضرة صاحب المقام الرفيع مصطفي النحاس باشا ، وتكلم معه في موقف الإخوان المسلمين ، وطلب منه الرجوع إلي رفعة النحاس باشا ، وتكلم معه في موقف الإخوان المسلمين ، وطلب منه الرجوع إلي رفعة النحاس باشا لكي يكون رفعته علي بينة من أمرهم لأن رفعته لديه فكرة غامضة عنهم . وبعد بضعة أيام تلقي دعوة بمقابلة رفعة النحاس باشا ، وتمت المقابلة بفندق مينا هاوس ، وقد طلب منه رفعة النحاس باشا أن يتناول عن الترشيح . وصارحه رفعته أنه يطلب ذلك إيثارًا للمصلحة العامة ولمصلحته (أي مصلحة الأستاذ البنا) إن كان يريد الإبقاء علي جماعات الإخوان المسلمين في مختلف البلدان ، فرفض ذلك وقال إنه يستعمل حقاً من حقوقه الدستورية ولا يري ما يمنعه من الترشيح ، وإن كان هناك موانع فإنه يطلب بيانها لكي يتبين مبلغها من الصحة ، وفضلا عن ذلك فإن قرار الترشيح صدر من هيئة المكتب العام لجماعة الإخوان ، وأنه شخصيًا لا يملك الرجوع في ذلك .
فرجاه رفعة النحاس باشا أن يعمل علي إقناع الأعضاء بالعدول عن ذلك ، وأن رفعته رأي أن يدعوه لينصح له بالتنازل وإلا اضطر إلي اتخاذ إجراءات أخري يراها رفعته قاسية ، ولا يرتاح إليها ضميره ، ولكنه حرصا منه علي مصلحة البلد مضطر إلي تنفيذها . ولما استوضحه تلك الإجراءات قال رفعته إنها حل جماعات الإخوان المسلمين وتلقي زعمائها خارج القطر ؛ وتلك هي رغبة هؤلاء الناس (يقصد الإنجليز) الذين بيدهم الأمر يصرفونه كما يرون ، ونحن مضطرون إلي مجاملتهم خصوصًا في هذه المسائل الفرعية ، وفي هذه الظروف العصيبة ، لأنهم يقدرون علي كل شيء ، وفي استطاعتهم إن شاءوا أن يدمروا البلد في ساعتين .
وقد ترك رفعته فرصة للتفكير في الأمر ، وأن تتم مقابلة أخري في هذا الشأن ، وقد عرض الأمر علي هيئة مكتب الإرشاد فلم توافق الأغلبية علي التنازل ، ولكنه هو شخصيًا وافق عليه لا خوفاً من النفي ولكن حرصًا علي قيام الجماعة واستمرارها في تنفيذ أغراضها . وأخيرًا أستقر الرأي علي التنازل ، وتوجه مرة أخري لمقابلة رفعة الرئيس بوساطة سليم بك زكي الذي بسط لرفعته دعوة الإخوان ومدي انتشارها في المدن والأقاليم ، فانتهز هذه الفرصة وطلب من رفعته ضمانات بقيام الجمعية وفروعها . وعدم الوقوف في سبيلها وعدم مراقبتها والتضييق علي أعضائها للحد من نشاطهم فوعده رفعته بما طلب " .
وقد أوردت ما جاء بتقرير الأمن العام عن هذه المقابلات لأنه هو فعلا نص ما حدثنا به الأستاذ المرشد عقب رجوعه من كل من المقابلتين ، فقد كنا في ذلك الوقت في المركز العام ننتظر رجوعه علي أحر من الجمر لأن موضوع الترشيح كان أمرًا جوهريًا بالنسبة لنا ولجميع الإخوان في أنحاء البلاد ، ولهذا فإنه رأي بعد أن قص علينا ما حدث أن ننتقل إلي الإسكندرية وطنطا وغيرها من العواصم ليقصه عليهم حتى يكون الجميع علي صورة واضحة من الموضوع . وموقف الأستاذ المرشد في هذا الموضوع كان أحد المواقف القليلة التي جاء رأيه النهائي فيها صدمة لمشاعر الإخوان وعواطفهم ، فما من أحد من أنحاء البلاد إلا وشعر بهذه الصدمة التي تمثلت لنا في صورة فرصة أفلتت منا بإرادتنا ولو أننا تمسكنا بها لأفادت الدعوة منها أعظم فائدة . ولم يسلم الإخوان للأستاذ المرشد بما طلبه إليهم ، ولم ينزلوا علي رأيه إلا للثقة التي لا حدود لها فيه ، وللاطمئنان الكامل إلي إخلاصه ومقدرته وبعد نظره وحسن تدبيره للأمور .
وتقريرًا للواقع أقول إن هذا الموقف الذي وقفه الأستاذ في هذا الموضوع – وإن كان قد جرعنا في أوله بعض المرارة – إلا أنه عاد علي الدعوة بما لا حصر له من الفوائد ، وحسب القارئ أن يعلم من قوة الإخوان المسلمين في ظل هذا الموقف وفي خلال أربع سنوات بعده قد تضاعفت أضعافًا كثيرة كما وكيفاً حتى صارت أقوى هيئة شعبية في مصر وفي البلاد العربية علي الإطلاق . ومع أن حزب الوفد الحاكم في ذلك الوقت كان حريصًا علي أن يخرج من تجربته هذه مع الإخوان بكسب معنوي لحسابه ، فإن الإخوان قد خرجوا منها بمكاسب لدعوتهم لا يقاس بأدناها كسب الوفد – إن كان قد كسب شيئًا – فضلا عما أشرنا إليه آنفاً من انفتاح كل الطرق أمام الإخوان لبث دعوتهم في كل مكان دون عوائق ؛ فإن هناك مزايا أخري ما كانت لتنجز وتتخذ سبيلها إلي واقع الحياة في مصر لولا هذين اللقاءين الذين تما بين الأستاذ المرشد والنحاس باشا وعلي رأس هذه المزايا .
- إحياء الأعياد الإسلامية لاسيما مولد النبي صلي الله عليه وسلم وجعله عيدًا رسميًا للدولة وقد أصدر رئيس الحكومة حديثًا رسميًا مستفيضًا تحية لهذه الذكري الكريمة .
- إلغاء البغاء في أنحاء البلاد وكان وصمة عار في جبينها .
- قانون بوجوب استعمال اللغة العربية في تعامل جميع الشركات والمؤسسات ومراسلاتها .
- تحريم الخمر – وإن كان التحريم قد اقتصر علي المناسبات الدينية .
- بذل جهد مشكور في وضع أساس إنشاء الجامعة العربية .
وقد كان الأستاذ المرشد قد أخبرنا فيما أخبرنا به عما دار بينه وبين النحاس باشا في هذين اللقاءين أنه كان حريصًا أن يلقي في روع النحاس باشا أن أتناوله عن الترشيح لابد أن يقابله ما يسد هذه الفجوة بعمل إسلامي تقوم به الحكومة يثلج صدر الشعب الذي كان يؤمل الكثير من العمل الإسلامي من وراء دخولي مجلس النواب ، وقال له إن العمل الإسلامي الذي تقوم به الحكومة يقربها إلي نفوس الشعب ويرفع اسم زعامة الوفد .. وقد تعهد النحاس باشا بالنهوض بهذه المطالب . وقد وفي الرجل بتعهده ، وقد ألقي عقب هذين اللقاءين حديثاً ضمنه هذه المعاني التي اتفق عليها . وعقب صدور هذا الحديث عن النحاس باشا تقابل عبد الواحد الوكيل باشا مرة أخري مع الأستاذ المرشد واقترح عليه أن يصدر بيانًا يسجل فيه أن التنازل قد تم احترامًا لقرار الوفد بترشيح شخص آخر ويعلن فيه تأييده لسياسة الوفد في التعاون مع بريطانيا لتنفيذ معاهدة التحالف – فرفض الأستاذ المرشد ذلك واكتفي بذكر فقرات في خطاب النحاس باشا معلنًا أن الإخوان عون له في سياسة الإصلاح الديني والاجتماعي .. ونثبت هنا نص الخطاب الذي وجهه الأستاذ المرشد إلي النحاس باشا كما نشر بجريدة المصري يوم 23 مارس سنة 1942 تحت عنوان : الإخوان المسلمون يستجيبون لنداء الزعيم – ويعلنون أنهم عون للحكومة في تحقيق برنامجها الإصلاحي .
كتاب قيم من المرشد العام للرئيس الجليل :
بسم الله الرحمن الرحيم
حضرة صاحب المقام الرفيع مصطفي النحاس باشا رئيس الحكومة المصرية .
أحمد إليكم الله الذي لا إله إلا هو ، وأصلي وأسلم علي سيدنا محمد وعلي آله وصحبه وأحييكم فالسلام عليكم ورحمة الله وبركاته . وبعد ....
فقد تحدثتم رفعتكم إلي الأمة المصرية حديثاً رائعًا جميلا ، ضمنتموه كثيرًا من المبادئ القويمة والأماني الطيبة التي يسر كل مصري وأن يحققها الله علي أيديكم ... فقد أشدتم بالصراحة والتعاون والإخلاص ، ودعوتم الأمة إلي مصارحتكم والتقدم إليكم بالنصح ووددتم أن تمتلئ صدورنا جميعًا بهذه المعاني السامية (فنحن أبناء أسرة واحدة وهي الأسرة المصرية الكريمة) .
وقررتم رفعتكم أنه من دواعي سروركم أن تتعاون الأمة والحكومة في هذه الظروف الدقيقة في تنفيذ سياسة خارجية حكيمة ،وتصميم سياسة داخلية بصيرة ... فالواجب يقتضينا والمصلحة تدعونا إلي أن ننفذ بإخلاص وحسن نية أحكام المعاهدة التي وقعناها بمحض اختيارنا وملء حريتنا وقصدنا من ورائها سلامة استقلالنا القومي والاحتياط لمثل هذه الظروف العصيبة .. كما أن الحكومة ساهرة علي أتباع سياسة عمرانية عاجلة لخير الطبقات الفقيرة قبل غيرها .. ومن واجب الحكومة والبرلمان أن يضعا في رأس برنامجهما درس المسائل الاجتماعية والسعي إلي حلها حلا سريعا حاسمًا . وقد أشرتم إلي التطور الجديد في حياة العالم كله تطورًا " هو مقدمة لتطور أعمق غورًَا وأبعد أثرًا يجعل مظهر العالم في غير مظهرة اليوم ؛ " .
ثم ختم هذا الحديث " بأن علينا أن نعبر الطريق المحفوف بالمخاطر ، المحوط بالمكاره ، متعاونين متحدين مع الشعوب الشرقية وإخواننا أبناء العروبة الكريمة كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضًا ، مترقبين بزوغ فجر الحرية والإخاء بين الشعوب ؛ فيقوم عدل الحكام علي أنقاض الظلم والاستبداد ، وتتفيأ أمم ظلال الطمأنينة والسكينة والسلام "
أصغينا إلي هذا الحديث القيم ثم طالعتنا الصحف بنصائحكم الجليلة إلي حضرات المديرين والمحافظين ، ودعوتكم إياهم إلي " أن يكونوا نواة سلام ودعاة صلح وتفاهم بين العائلات ، وأن يديموا التجوال في البلاد ليتبينوا مطالب الأهلين ، وينظروا فيها بالغين المجردة عن كل ميل وهوي ،وأن يستمعوا إلي شكاوى المظلومين ويعملوا علي رفع المظالم عنهم " . وقرأنا في الصحف أن معالي وزير الصحة أخذ يدرس باهتمام مشكلة البغاء تمهيدًا لتخليص مصر من وصمته الشائنة ،وأنه قرر فعلا البدء بإلغاء دور البغاء في القرى والبنادر من أول مايو المقبل . والإخوان المسلمون أمام هذه الآمال الصالحة ، والأعمال الطيبة النافعة ، يرون من واجبهم أن يستجيبوا لندائكم وأن يعلنوا أنهم حريصون كل الحرص علي أن يكونوا عونًا لكم وللحكومة المصرية في تحقيق برنامجكم الإصلاحي الذي أعلنتموه ، مستمسكين دائمًا بآداب الإسلام العالية وتعاليمه القويمة وأخلاقه الفاضلة .
والله نسأل أن يهيئنا جميعًا لخير هذا الوطن العزيز والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
وبعد عام من هذا التاريخ ، ومع التكوين الجديد للوزارة بعد خروج مكرم عبيد باشا منها لخلافة النحاس باشا رغب أعضاء الوزارة في زيارة المركز العام للإخوان ، فوجه الإخوان إليهم الدعوة ، وننقل وصف هذه الزيارة وما تم فيها كما نشرته جريدة المصري يوم 17 مايو سنة 1943 بعنوان ... الإخوان يضيفون وزراء الشعب .
- " أقام المركز العام لجماعة الإخوان المسلمين حفلة كبرى بداره بالحلمية الجديدة في الساعة السابعة من مساء أمس دعا إليها أصحاب المعالي الوزراء فلبي الدعوة فؤاد سراج الدين وزير الزراعة . و . . . . و . . . . و . . . . . . وكان في استقبالهم فضيلة المرشد العام الأستاذ حسن البنا والأستاذ أحمد السكري وكيل الجماعة وبقية الإخوان وفرقة الجوالة الخاصة بهم ، وكان الإخوان يستقبلون كل وزير عند حضوره بالهتاف والتكبير " الله أكبر ولله الحمد " .
وعلي آثر وصول الوزراء حان وقت صلاة المغرب فأذن المؤذن وأم المصلين فضيلة المرشد العام ولما كانت المصلي لا تتسع لجميع الذين حضروا فقد أدي العديدون الصلاة في الحجرات وفي حديقة الدار وخارجها وقد فرشت بالبسط والحصير – وتصادف أن حضر في هذه الأثناء وزير التموين الأستاذ أحمد حمزة فأدي الصلاة مع المصلين خارج الدار ، فكان منظرًا إسلاميًا ديمقراطيًا رائعًا رؤية أصحاب المعالي الوزراء وهم بين الإخوان يؤدون صلاة المغرب في خشوع المؤمنين الصالحين ...
وبعد الصلاة جلس أصحاب المعالي الوزراء مع الإخوان فوق سطح الدار حول موائد الشاي والحلوى والمرطبات .. وافتتحت الحفلة بتلاوة آي الذكر الحكيم ثم ألقي الأستاذ أحمد السكري كلمة ترحيب وتلاه الأستاذ حسن البنا بكلمة أوضح فيها فكر دعوتهم وأهدافهم . وألقي بعد ذلك كل من أصحاب المعالي الوزراء الزراعة والتموين والشئون والتجارة كلمات مناسبة أشاروا فيها إلي مشروعات حكومة الوفد وعلي رأسها النحاس باشا وهي المشروعات التي تحقق الأغراض الإسلامية مثل إلغاء البغاء . وإحياء الأعياد الإسلامية وتحريم الخمر والموبقات وقانون استعمال اللغة العربية وغير ذلك من مفاخر حكومة الوفد . ثم وقف الأستاذ أحمد السكري فشكر الوزراء علي ما أبدوه في كلماتهم من استعداد طيب نحو تشجيع جماعة الإخوان المسلمين ورجالهم أن يبلغوا رفعة الرئيس تحيات الإخوان وأطيب تمنياتهم وأن يقدموا له باقة من كتاب الله وهي الآية الكريمة " ولينصرن الله من ينصره إن اله لقوي عزيز . الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة وآتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر . ولله عاقبة الأمور .
وانتهي الاحتفال في الساعة العاشرة مساء " .
وقبل أن نصل في معالجة هذا الموضوع إلي نهايته ، لا يفوتنا أن نومئ إلي غمزات وردت في تعليق الكاتب الذي أشرنا إليه آنفًا فيما نشره بجريدة الأهرام في 14-2-1975 حيث شكك سيادته في صدور العبارات التي وضعنا تحتها خطوطًا مما نقلناه من تقرير الأمن العام عن النحاس باشا ، وملخصها أن الإنجليز هم الذين طلبوا من النحاس باشا إرغام حسن البنا علي التنازل . وحسبنا في الرد علي هذا المؤرخ الذي يستقي معلوماته من وثائق إدارة الأمن العام ، أن يطلب من هذه الإدارة وثيقة عما تم في ترشيح الأستاذ حسن البنا نفسه في نفس الدائرة في سنة 1944 في أيام وزارة أحمد ماهر ، فإذا لم يعثروا علي هذه الوثيقة ، فليذهب إلي الإسماعيلية ويسأل عشرات الآلاف من أهلها الذين حضروا هذه الانتخابات ولا يزالون علي قيد الحياة ليسمع منهم كيف تدخل الإنجليز بأنفسهم وبجيش احتلالهم المرابط في الإسماعيلية لإسقاط حسن البنا مما سنفصله في الصفحات القادمة إن شاء الله .
وسيادة المؤرخ كان مدرسًا بجامعة طنطا حين أرخ لهذا الموضوع سنة 1975 ، وهذا المنصب يكون صاحبه عادة في سن تناهز الأربعين ، ومعني ذلك أنه في أثناء هذه الفترة التي يؤرخ لها كان في مهد الطفولة . ولكنه حين يؤرخ لهذه الفترة يؤرخ لفترة شهدها جيل لازال يعيش معه فكان عليه وهو مدرس للتاريخ المعاصر ويؤرخ لتاريخ معاصر أن يرجع إلي من عاصروا هذه الأحداث في مواقعها ، وهم لا يزالون علي قيد الحياة بدلا من أن يقتصر في تاريخه علي الوثائق التي لا يكتفي بها عادة إلا في تاريخ لأحداث طال عليها الأمد ولم يعد علي قيد الحياة من يرجع إليه فيها . علي أننا سوف نتناول تعليق هذا المؤرخ بمناقشة موضوعية في الفصل القادم إن شاء الله .
نقل المرشد العام إلي قنا
أشرت في أوائل هذه المذكرات إلي أول بعثة أعدها الإخوان لحج بيت الله الحرام وكان الأستاذ المرشد علي رأسها كما أشرت إلي المؤتمر الذي عقده الملك عبد العزيز آل سعود ودعا إليه عظماء المسلمين في حج ذلك العام وإلي حضور الأستاذ المرشد وإخوانه هذا المؤتمر بغير دعوة باعتبارهم مستمعين ، وإلي تقدم الأستاذ المرشد إلي المنصة بعد انتهاء الخطباء الأصليين من مختلف البلاد الإسلامية ،وإلي اكتساحه كل من تقدموه ، وحظوته وحده دون جميع الخطباء بإعجاب الحاضرين حتى إن الحكومة السعودية نشرت خطبته في جريدتها الرسمية الوحيدة في ذلك الوقت " أم القرى " ولم ننشر سواها . بقي أن نذكر أن من بين الذين حضروا هذا المؤتمر – مدعوين من الحكومة السعودية – ومن بين الذين خطبوا فيه وكانوا موضع رعاية خاصة من جانب الحكومة لا باعتبارهم من كبراء البلاد الإسلامية فحسب بل باعتبارهم أيضًا من كبار الكتاب والأدباء والخطباء والدكتور محمد حسين هيكل باشا " .
والدكتور محمد حسين هيكل باشا أديب من أدباء مصر ، وكاتب من أعظم كتابها ، وله مؤلفات بعضها روائي مثل قصة " زينب " وبعضها تاريخي وتحليل مثل " حياة محمد " و " منزل الوحي " ، وهو من كبار رجال حزب الأحرار الدستوريين ، وتولي رياسة الحزب فيما بعد ، وكان " رئيس تحرير جريدة " السياسة " اليومية الناطقة بلسان هذا الحزب كما كان يصدر مجلة أسبوعية تجمع إلي السياسة الأدب واللغة والتاريخ وكانت تسمي مجلة " السياسة الأسبوعية " . تولي هذا الرجل أول منصب حكومي له في تلك السنة (1944) حيث أسندت إليه وزارة المعارف العمومية ؛ وكأنما كان هذا الرجل يسر في نفسه أمورًا لم يبد بها لأحد وأنه كان يطوي علي أضغان كانت تعتمل في نفسه منذ سنين ولم يجد الفرصة لإصعاد زفراتها التي كانت تحرق قلبه ؛ فلما أتيحت له الفرصة لم يستطع أن يحبس منها شيئًا فأطلقها سوداء قائمة ، شوهاء بشعة .. وكأنما تذكر الرجل مواقف معينة – وإن كان قد طال عليها الأمد – إلا أنها لازالت ماثلة في خاطره حائكة في صدره وإليك وإيماءة إلي هذه المواقف :
- أولا : موقف الأستاذ المرشد في مؤتمر مكة الذي نوهنا عنه آنفاً
ثانيًا : في خلال فترة العشرينيات والثلاثينيات كان اتجاه المثقفين اتجاهًا غريبًا ؛ ذلك أن الطبقة الرائدة منهم كان أكثرها ممن تلقوا تعليمهم في جامعات أوروبا ، وهؤلاء هم الذين كان بيدهم توجيه الثقافة في مصر فنشئوا وكأنهم أجانب عن بلادهم وأهليهم ، وكان أول مظهر من مظاهر تأثرهم بالقرب تنكرهم لدينهم حتى صار التمسك بالدين وأداء فرائضه دليلا في نظرهم علي الجهل والتأخر والبعد عن الحضارة والثقافة ... ولذا كنت تري المؤلفات تتناول ما بهم الغرب والغربيين أكثر مما بهم أهل البلاد ،وبمعني أوضح كان الناس لاسيما القادة مفتونين بالغرب يكادون يحسون بالخزي والعار من انتسابهم إلي تاريخهم وقوميتهم ودينهم .
وكان من أوائل من تلقي العلم في أوروبا وعاد إلي مصر دون أن يفتن عن أصله ودينه محمد أحمد جاد المولي بك ، وكان المفتش الأول للغة العربية بوزارة المعارف العمومية ، وقد وضع كتابين ، أولهما " محمد المثل الكامل " والآخر " محمد الخلق الكامل " تناول فيهما مواقف من حياة الرسول صلي الله عليه وسلم منذ سعد العالم بولادته حتى لحق بالرفيق الأعلى أثبت بها أنه هو وحده الذي حقق المثل العليا التي طالما حلم بها الفلاسفة وتخيلها الحكماء . وعلي عكس ما كان يتوقعه أترابه ومعاصروه من قادة الثقافة في مصر صادف الكتابان قبولا في مختلف الأوساط المصرية والعربية ، وحظيا بانتشار واسع أسال لعاب هؤلاء القادة ، ناظرين إلي ما يجني من وراء هذا الانتشار من ربح مادي وكسب معنوي .. وجريًا وراء هذا الربح بدأوا يفكرون في الرجوع إلي أصلهم ، والانتماء إلي أرومتهم ... ولكن كيف يقتحمون هذا الميدان ؟ لم يقتحموه عن طريق السوي ، ولم يلقوا بأنفسهم بين أحضانه كما يرجع الوليد العاق التائب إلي أحضان أمه وأبيه ، بل اقتحموه عن طريق ملتو كأنما لا يعرفون طريقاً يوصلهم إلي بيوتهم إلا عن طريق الغرباء الذين اتخذوهم أئمة .
أراد الدكتور محمد حسين هيكل أن يكتب في سيرة رسول الله صلي الله عليه وسلم فكيف يكتب ؟ .... كان أحد المستشرقين الفرنسيين واسمه " دير منجهام " قد وضع كتابًا سماه " حياة محمد " فطفق الدكتور هيكل يترجم هذا الكتاب وينشر كل أسبوع فصلا منه في مجلته " السياسة الأسبوعية " ويعلق عليه حتى إذا أتم ترجمة الكتاب ونشره في المجلة معلقاً عليه ، جمع ما نشر من أصل وتعليق في كتاب أخرجه بنفس الاسم . لقي الكتاب رواجًا . والكتاب قيم في أسلوبه وطريقة عرضه للأحداث ومعالجته للمواقف وتحليلها ... وقد نفدت طبعته الأولي لأول ظهورها ، لكن في الكتاب مغمزًا لا يدركه إلا الراسخون في العلم وقد أدركه الأستاذ المرشد وعلق عليه في أحاديثه الخاصة والعامة وفي مجلة الإخوان المسلمين ؛ ذلك أن الدكتور هيكل اقتدي بالمؤلف الفرنسي فيما جرت عليه الحضارة المادية الغربية من إخضاع كل شيء للمقاييس العلمية التي هي نفسها المقاييس المادية مما يطلقون عليه اصطلاح " العلم التجريبي " .. وهذه المقاييس إن صحت في كل ما يتصل بالمادة فإنها لا تصلح أن تكون مقياسًا لما هو وراء المادة ؛ وهو الجزء الأعظم والأهم الذي يقوم علي أساسه الدين .. وقد سبق أن أشرنا إلي هذه النقطة فيما كان من حديث بين الأستاذ المرشد والدكتور طه حسين .
إن الأساس الأول في الدين هو الإيمان بالغيب ، وهو أول صفة للمتقين جاءت في مستهل سورة البقرة " ألم . ذلك الكتاب لا ريب فيه ، هدي للمتقين ، الذين يؤمنون بالغيب " والغيب هو ما وراء المادة أو مالا يحيط به العقل البشري ، ومالا تدركه الحواس الخمس ... ومعجزات الأنبياء من هذا الباب ، ومن الخطأ إخضاعها للعلم التجريبي ، وهو أشد خطأ من قياس الضوء بالمقياس الذي نقيس به القماش مثلا ، مع أن كليهما مادة ؛ فما بالك بما هو ليس بمادة ؟.. ومن هنا أعرض الدكتور هيكل عن معجزات النبي صلي الله عليه وسلم جميعًا ولم يستثن منها إلا القرآن الكريم ... نعم إن القرآن هو أعظم المعجزات لكن هذا لا ينفي أن هناك معجزات أخري ثابتة بصحيح السنة لا يجوز إنكارها وقد يكون في إنكارها مساس بصميم الإيمان . أراد الأستاذ المرشد أن يلفت النظر إلي هذا الخطأ الكبير الذي وقع فيه الدكتور هيكل ، ووقع فيه عن عمد وإصرار حيث سجل في مقدمة كتابه تقيده بالأدلة العلمية التجريبية .. فأعلن الأستاذ المرشد عن حفل تكريمي للأستاذ محمد أحمد جاد المولي بك لكتابه " محمد المثل الكامل " في دار المركز العام ودعا إليه كبار المشتغلين بالأدب والعلم من العاملين في حقل الدعوة الإسلامية .. وفي هذا الحفل ، وفي حضور هذه الجمع المنتقي وفي مقدمتهم المكرم ؛ أعطي جاد المولي بك حقه من الاحتفاء والتكريم باعتباره الرائد الأول وصاحب اللواء الذي اقتحم حلوكة الظلام وأضاء مصباحه المتبلج جنبات الميدان فهرع من خلفه – مهتدين بمصباحه – الجميع حتى المترددون والمعرضون وتحدث الأستاذ المرشد عن المعجزات وأفاض فيها وعن المادية الغربية وافتتان كتاباتها ... أنا لم أحضر هذا الحفل لأنه أقيم قبل أن أتعرف علي الإخوان ، ولكن الأستاذ المرشد حدثني عنه حديثًا مستفيضًا ... ولم يكن يخطر ببال أحد أن هذا النقد الموضوعي البريء سيحمله الدكتور هيكل في نفسه ويدخره ليوم هو في عرفه يوم الانتقام .
ثانيًا : الدكتور هيكل صحفي بني مجده علي الصحافة والتحرير ، ومجلة " المنار " كانت تعتبر في العرف الصحفي في ذلك الوقت قد من قم الصحافة لا المصرية وحدها بل العربية أيضًا التي يشرف صحفي مثل الدكتور هيكل أن تنشر له مقالا ... ثم يري الدكتور هيكل – وقد اعتلي متن وزارة المعارف العمومية – مدرسًا في مدرسة ابتدائية عنده يرأس تحرير هذه المجلة الشامخة ... ولا يقف الأمر عند هذا الحد ، بل يقرظه الشيخ المراغي شيخ الأزهر تقريظًا لا يطمع هو أن يحظي بكلمة واحدة مما جاء به ، ثم يصدرها هذا المدرس المجلة الشامخة ويحررها كلها تقريبًا بقلمه فيرفعها إلي القمة التي كانت عندها أيام صاحبها ... أجج هذا نار الحقد التي طوي الدكتور هيكل ضلوعه عليها .
ثالثا : هذه المواقف الثلاثة لا تمس إلا الدكتور هيكل وحده ؛ لكن هيكل لم يكن يستطيع أن ينتقم لنفسه إذا لم يصادف الانتقام هوي في نفس الحكومة القائمة بأسرها .. وقد كان هذا الهوى محتملا في نفس الحكومة ؛ فإنها كانت حكومة الأحزاب الشكلية التي لا قاعدة لها في الشعب ، ولا تشتد إلا في القصر ، الذي يتخذها مطية إلي مطامعه . وهذه الأحزاب أشد حنقاً علي الإخوان منها علي الوفد ، لأن الوفد حين يغار من الإخوان يحاربهم بنفسه لأنه حزب شعبي له قوة ذاتية ، أما هؤلاء الشراذم من الباشوات خدام القصر ومن هم من وراء القصر ، فإنهم لا شعبية لهم ، فليس لهم قوة ذاتية يحاربون الإخوان بها ندًا لند ، وإنما يستعدون عليهم القصر والإنجليز ، وشتان ما العدوان .
وسط معمعان العمل الدائب في المركز العام الجديد بالحلمية الجديدة ، ووسط البحر الخضم بدعوة الله ، مبايعة علي الإيمان والجهاد .. وسط هذا الجد كله فوجئنا بقرار هازل يجيئنا من الحكومة التافهة بتوقيع وزير المعارف هيكل بنقل الأستاذ المرشد إلي قنا علي أن يكون التنفيذ فورًا ... والقرار تفوح منه رائحة الحقد الدفين النتن . ورد الأستاذ المرشد فورًا علي حامل القرار بالرفض ، ووقف الإخوان جميعًا من وراء هذا الرفض متحدين ما تصنعه هذه الحكومة الحقيرة التي يرأسها أحمد ماهر الذي نلقي الأضواء علي شخصيته بعد قليل إن شاء الله ... وكان حامل القرار قد أبلغ الأستاذ المرشد بأن مجلس الوزراء قرر حل الإخوان إذا لم ينفذ الأستاذ قرار النقل ... وكنا إذ ذاك في أواخر سني الحرب العالمية الثانية والأحكام العرفية سيف مصلت في يد الحكومة ... ومع ذلك قرر الإخوان تحدي الحكومة والوقوف في وجهها ... وتواردت أفواج الإخوان من جميع نواحي القطر تعلن ولاءها ووقوفها وراء الأستاذ المرشد مهما كلفها ذلك .
ورأت الحكومة التافهة هذه السيول الجارفة من الإخوان ، رفضت في أعينهم أمارات الجد والاستعداد ، وأحست بأن الأمر أخطر مما كانت تعتقد ، ورأت أن مصلحتها في التقهقر .. ولكن تقهقرها بعد إقدامها علي القرار المتهوس ليس أمرًا ميسورًا بعد أن شاع وذاع وأصبح علي كل لسان ... فلم تجد وسيلة أمامها لحفظ ماء وجهها إلا توسيط رجال يعرفون أنهم أثيرون لدي الأستاذ المرشد ، وكان هؤلاء أكثر من رجل أذكر منهم الأستاذ الشيخ رضوان السيد وكان من العلماء وكان عضوًا في مجلس النواب وعضوًا في حزب الأحرار الدستوريين وكان صديقًا للأستاذ المرشد ، وأسرة الشيخ وبلده من الإخوان ... وقد تردد هذا الرجل في تلك الفترة العصيبة علي المركز العام مرات كثيرة مما ذكرني – وأنا أكتب هذه السطور – بما نقرأه في أيامنا عن سياسة " المكوك " التي يقوم بها وزير خارجية أمريكا " كيسنجر " في المفاوضات بين مصر وإسرائيل .
وكان الذي يحمله هؤلاء الوسطاء هو ما يشبه الاعتذار ينقلونه عن رئيس الوزراء بأن هذا القرار صدر خطأ وأنه يخشي إن أعلن في الحال رجوعه عنه وسحبه أن يذهب هذا بهيبة الحكومة أمام الرأي العام ، لهذا فهو يلتمس أن يعينه الأستاذ البنا علي تلافي الخطأ بطريقة تحفظ كرامة الحكومة وذلك بأن يقبل تنفيذ القرار لمدة شهر واحد يعود بعده إلي مكانه . ومضي علي قرار النقل الفوري أكثر من أسبوع والإخوان في كل هذه الوساطات مصرون علي الرفض ، مستعدون للتحدي .. وصار مركز الحكومة في حرج شديد ، وهنا دعا الأستاذ المرشد إلي اجتماع للإخوان في المركز العام كان أشبه باجتماع للهيئة التأسيسية موسع بعض التوسيع وتناول الموضوع وتطوراته وقال إنه في خلال هذه الفترة بعد صدور القرار ومقابلة الوسطاء وتقليبه الأمر علي مختلف وجوهه خرج برأي قد يكون مفاجئًا لمشاعر الإخوان هو أن ينفذ قرار النقل وأخذ في شرح رأيه فقال :
- أولا : إن صدور قرار النقل مقترنًا بالتهديد بالحل ، وفر علينا الكثير لأنه كشف لنا عما تكنه صدور هذه الأحزاب الشكلية من كراهية وحقد ، والدعوة في حاجة إلي أن تعرف أصدقاؤها وأعداءها ومدي ما يكنه كل منهم لها من حب وبغض .
- ثانيًا : أن هذا القرار قد كشف لهم عن مدي تضامننا ومقدار قوتنا مع أننا لا نزال في أول الطريق ، كما كشف لنا عن مدي ضعفهم وتخاذلهم مع أنهم قمة السلطة .
- ثالثًا : أن أحزاب الأقلية هذه إنما تعتمد في وجودها علي الملك ، وأن اتصال هذه الأحزاب بالملك لا يزيده إلا فسادًا ، وهم يعملون علي عزله عن الشعب حتى لا يري غيرهم أمامه ، ومن مصلحة الملك وبالتالي من مصلحة الشعب أن تتاح له الفرصة رؤية الإخوان المسلمين باعتبارهم الهيئة الوحيدة التي لا تسعي إلي تحقيق شخصية ، فهي وحدها القادرة علي تقديم النصيحة له وبصلاح الملك تصلح البلاد .. وقد كان في خلد هذه الحكومة أن تصدر قرار النقل ويتم التنفيذ في يوم وليلة دون أن تثار ضجة فيشفون بذلك غليلهم دون أن يصل شيء إلي مسامع تلك ولكن الأمور جرت علي غير ما يحبون وكانت ضجة وصلت إلي كل مسمع ... ومن المصلحة والأمر كذلك أن لا تظهر بمظهر المتعنت . بعد أن أحس الجميع بقوتنا حتى لا يجد هؤلاء فرصة لتشويه موقفنا .
- رابعًا : ليس هدفنا هو منازلة أحزاب الأقلية ، ولا ينبغي لمناوشات جانبية أن تلتفت لها فيشغلنا ذلك عن المعركة الكبرى والتي نعد لها ، ويجب أن ندخر لها كل قوتنا ، ولا نبدد شيئًا منها أمام الإثارات والاستفزازات .
- خامسًا : إننا في حاجة – لتأمين خطواتنا القادمة في الدعوة وهي خطوات هامة وخطيرة – إلي فترة فيها بمنأى عن الرقابة الرئيسية بمختلف أسمائها ، التي تلاحقنا في كل وقت وفي كل مكان ، ولن يتأتي لنا ذلك إلا بظهورنا بالمظهر السلمي الذي قد يبدو مسلمًا بكرامتنا لكن وراءه الخير الكثير للدعوة ، ولن ننس في موقفنا هذا معاهدة الحديبية التي أخفت وراء بنودها – التي أغضبت كبار الصحابة – كل ما سجله الإسلام بعد ذلك من انتصارات وفتوح ... وذكر الأستاذ المرشد أن من ضمن التعهدات التي قطعتها الحكومة علي نفسها – ونقلها إلينا الوسطاء إذا أنا قبلت التنفيذ أن يرفعوا عنا الرقابة البوليسية .. وقال الأستاذ المرشد : وأنا لا أتصور أن يرفعوا عنا الرقابة نهائيًا ولكن قد يخفضونها وهذا يكفينا .
- سادسًا : أن الصعيد الأعلى – لبعد المسافة وسوء المواصلات – لم ينل حظه من عناية الدعوة ، ولعل هذه فرصة أتاحها الله لتدارك ما فات من حق هذه البقعة العزيزة من البلاد .
وكانت المجموعة التي أسر إليها الأستاذ المرشد بهذه الكلمات البالغة الأهمية هم صفوة الدعوة . ومع أن حججه كانت مقنعة عقلا ، فإن عواطفهم المتأججة لم تتحمل أن تري الأستاذ ينزل علي أمر الحكومة فبدأ أكثرهم وقد انفجر في البكاء ... فكان هذا من الجنود هو الموقف الفدائي الأسمى ، كما كان من القيادة الموقف الذي وضح فيه أن هذه القيادة ليست من الطراز الذي تسوقه الجماهير وتجتاحه العواطف ، وإنما هي القيادة الموهوبة الواسعة الأفق النافذة البصيرة ، التي قد تبتلع الهزيمة المؤقتة مسيغة مرارتها وباختيارها لا رغمًا عنها لأنها تري في انسحابها هذا أمام عدوها فرصة لها ستمكنها من القضاء عليها . ولا أستطيع أن أنكر أننا جميعًا كنا فيما يشبه المأتم بعد أن حدثنا الأستاذ حديثه هذا ، ولكن ثقتنا فيه واقتناعنا بقدرته علي الرؤية البعيدة المدى ، وتناوله الموضوع تناولا كأنما اخترق فيه حجب الغيب ، كل ذلك لم نملك معه إلا الموافقة والتأييد .
وأعد الأستاذ نفسه للسفر ، وقد استخلف في هذه الغيبة الشيخ الباقوري ، ولم يبين لماذا استخلفه في هذه المرة دون غيره ، ولكن الحكمة في ذلك لم تكن خافية علينا ولا علي الشيخ الباقوري فقد كان الأستاذ المرشد يريد أن يشعر هذه الأحزاب الحاكمة بمنتهي الأمان من جانبه ، وبالمصير الدارج كان يريد أن " ينومهم " فالشيخ الباقوري موضع ثقة منه ، وهو في الوقت نفسه صهر الشيخ محمد عبد اللطيف دراز الذي كان في ذلك الوقت من كبار رجال أحد حزبي هذه الوزارة وإن لم يكن عضوًا رسميًا في الحزب . وسافر الأستاذ المرشد إلي قنا ، أو قل انتقلت الدعوة إلي قنا .. ومع أنه كان يتردد علي القاهرة إلا أننا لاحظنا أن هذه المنطقة من مصر العليا صات تحتل من تفكيره واهتمامه الجزء الأكبر فقد أخبرنا في أول مرة حضر فيها إلي القاهرة أن هذه البلاد في أمس الحاجة إلي دعوة الإخوان .. فأكثر المسلمين في هذه المنطقة يسيطر عليهم الخمول والكسل مما جلب عليهم الفقر ونشر بينهم الجهل والمرض فصاروا وكأنهم عالمة علي غيرهم ... وقال لنا : إنني سافرت إلي هذه البقعة وأنا علي عزم أن أمكث فيها الشهر الذي تم الاتفاق عليه مع الحكومة ولكنني بعد أن رأيت حالة المسلمين فيها فلن أغادرها إن شاء الله حتى أصل هؤلاء المسلمين بدينهم ليصبحوا مثلا كريمة في النشاط والعمل والإنتاج والعمل والابتكار .
ومضي الشهر ، وانتظر المسئولون في الحكومة أن يستنجزهم الإخوان وعدهم فلم يجدوا .. وجاء الوسطاء والتقوا بالأستاذ المرشد وأخبرهم بأنه لا يريد الرجوع الآن . فأسعد ذلك الحكومة أيما إسعاد .. وظل الأستاذ في قنا شهرًا بعد شهر وإذا بهذه المنطقة التي تضم محافظتي قنا وأسوان قد دبت الحياة في أوصالها وهبت من رقادها ، والتهب شعور هؤلاء الخاملين ، وفهموا الإسلام علي حقيقته فأنشئوا المنشآت وأقاموا العمارات ، وافتتحوا المدارس ، وأقبلوا علي العلم ، وواصلوا الليل بالنهار في العمل ، كأنما كانوا ماردا نائمًا تحت أطباق الثري فقام ينفض عن نفسه أثقال ما هيل فوقه من تراب وانطلق يعوض ما فاته ...
ولما كانت الفئات الأخرى من غير المسلمين في هذه المنطقة قد أثرت وتأثرت من وراء خمول المسلمين وجهلهم وتخاذلهم ، وصاروا سادة المنطقة علي حساب خنوع المسلمين وفقرهم وتقاعسهم فقد فوجئت هذه الفئات بالمسلمين وقد تبدل كسلهم نشاطا ، وخمولهم حركة ، وتقاعسهم عن العمل دءوباً ، وتحجر عقولهم إنتاجًا وابتكارًا ، وتفرغهم اجتماعًا ، وتشاحنهم فيما بينهم حبا وتضامنًا ، ونفورهم من العلم إقبالاً عليه وتسابقًا إليه ، ورضاهم بالفقر انبعاثًا في طلب الغني من أكرم سبله فوجئوا بذلك ، وهالهم ما رأوا من تبدل حال بحال مما يشبه فعل السحر ... فخوفا علي ما حققوا من مراكز مالية وأدبية في حفلة مواطنيهم المسلمين ، وأملا في الاحتفاظ بهذه المراكز – وقد علموا أن شيئًا لم يطرأ علي المسلمين في بقعتهم فغيرهم هذا التغيير ، ونقلهم هذه النقلة التي هي أقرب إلي الخيال ، إلا وجود هذا المدرس الذي نقل إلي بلدهم منذ بضعة أشهر ...
إذن ، فلابد – تداركًا للأمر – من السعي لدي المسئولين بالقاهرة لنقل هذا المدرس من إقليمهم إلي جهة أخري ، لأنهم تصوروا أن هذا الرجل إذا طالت إقامته في بلدهم فسيقضي علي مجدهم ويصفي مراكزهم ... وانهالت الشكاوى من وجود الأستاذ البنا تطلب من الحكومة نقله ، وقامت الوفود من الفئات ذات النفوذ وسافرت إلي القاهرة طالبين من المسئولين الغوث بنقل الأستاذ البنا ... وعلم المسلمون هناك بذلك فقامت المظاهرات تطالب ببقائه بينهم ، فصارت الحكومة مرة أخري في موقف لا تحسد عليه ... ما كادت الحكومة تسر لغياب الأستاذ البنا عن القاهرة ورضاه بالبقاء في هذا المنفي الذي اختاروه له حتى فوجئت بعد بضعة أشهر بقوي ذات النفوذ تطالب بإلغاء نقله إلي قنا ، ويقوي شعبية عارمة يخشي بأسها تطالب بإبقائه بقنا ... ولم تستطع الحكومة اتخاذ أي إجراء لأنها لا تقوي علي الوقوف في وجه ذو النفوذ من أهل قنا ولا علي مواجهة جموع شعب قنا فلم تجد أمامها من سبيل للمرة الثانية إلا اللجوء إلي الأستاذ البنا لأنه هو وحده الذي يستطيع أن ينقذ الحكومة من حرجها .
واستجاب الأستاذ لرجال الحكومة ، وقبل الرجوع إلي القاهرة وتكفل بإرضاء هذه الجموع الشعبية الثائرة ... وقد كان .. ورجع إلي القاهرة بعد أن رد الروح إلي الجسد الإسلامي الذي كان هامدًا في هذه البقعة العزيزة من البلاد .
الفصل الثاني : في العمل الوطني في ظل الحرب العالمية الثانية

كان العمل الوطني دائمًا في الدعوة يسير جنبًا إلي جنب مع العمل في البناء الداخلي ، وما قدم أحدهما علي الآخر إلا لظروف تدعو إلي ذلك ، فخلال الحقبة من الزمان التي ظلت نيران الحرب العالمية الثانية مشتعلة الأوار لم تكن فرصة العمل الوطني متاحة ، فأذهان الناس في جميع شعوب الأرض ، وكل قضايا الشعوب بأحداثها ومواقعها ، مرتعدة خوفًا من شبح وصول لهبها إلي بلادها ، وكل قضايا الشعوب ، ومطالبها وخلافاتها كلها وضعت علي الرف حتى تنقشع سحائب الهول التي أظلت العالم كله .
ورأي الإخوان أن خير ما تستغل فيه هذه الحقبة أن تستغل في إرساء بناء داخلي راسخ للدعوة في قلوب الشعب في مختلف الأنحاء ، وإن اقتضي ذلك التغاضي عن مواقف عارضة في الطريق ربما وسمت الدعوة من أجلها بسمة الضعف والانهزام ، وقد أشرنا في الفصل السابق إلي موقفين من هذه المواقف وكشفنا النقاب عما كان وراءهما من كسب للدعوة في الميدان الذي تريد أن تفرغ جهدها له ولبذل كل ما في وسعها لتأمينه وتثبيت أركانه . ومع ذلك فلم يتوان الإخوان لحظة في أي وقت من الأوقات عن إجابة داعي الوطنية بكل ما يطلبه ذلك الداعي من جهود ، وسنري في هذا الفصل إن شاء الله كيف كان الإخوان دائمًا عند حسن ظن ذلك الداعي . وقد بدأت الحرب العالمية الثانية في أواخر عام 1939 ووضعت أوزارها في سنة 1945 ، وفي خلال هذه السنوات الخمس حدثت تغيرات كبيرة في مصر وفي العالم أجمع .. وكان الأستاذ المرشد في أوائل أيام هذه الحرب كثير الإشارة إلي أهمية سني الحروب وإلي عمق تأثيرها في كل شيء ، ويحذرنا من التباطؤ في ملاحقة أيامها ويقول : إن سنوات الحرب وإن كانت عادة لا تتعدي عدد أصابع اليد فإنها تطوي الزمن طيا ، فيتم من التغيرات في خلالها مالا يتم في مائة عام . ويحثنا علي مضاعفة الجهد حتى لا نؤخذ علي غرة عندما تنتهي الحرب فنجد أنفسنا متخلفين .
ولقد كان حديث الأستاذ المرشد في هذه الناحية علي كثرة ما ردده علي أسماعنا غريبًا لا نكاد نفهمه ، ولكننا مع ذلك كنا نستجيب له ومن ورائه في العمل المتواصل الذي لا يهدأ ليلاً ولا نهارًا ولم نفهم معني ما كان يحثنا عليه وما كان يحذرنا منه إلا بعد أن وضعت الحرب أوزارها ووقفت كل هيئة عند الخط الذي وصلت إليه فوجدنا أنفسنا في المقدمة سابقين سبقاًِ عظيمًا ، فحمدنا الله علي هذه القيادة البصيرة التي قطعت بنا مسافة ما كنا نقطعها في أربعين عامًا قطعتها بنا في أربع سنوات ومن قبل قالوا " في الصباح يحمد القوم السري " .
جبهة لإنقاذ البلاد
ظل الإنجليز في مصر نحوًا من سبعين عامًا ، وديدنهم التسويف والمماطلة ، لا ينتهون مع مفاوضيهم المصريين إلي نتيجة قاطعة ، ولا إلي حل فاصل .. لكنهم في سنة 1936 خرجوا من طبيعتهم ، وطلبوا من مصر وفدًا ممثلا للبلاد ليعقدوا معه معاهدة ، وكأن بنود هذه المعاهدة كانت معدة لديهم فما كاد الوفد المصري يصل إلي لندن حتى وقعت المعاهدة . والمعروف عن الساسة الإنجليز أنهم بعيدو النظر ، يعدون العدة لأمور قد لا يراها غيرهم ، ثم تقع هذه الأمور فلا يؤخذ الإنجليز علي غرة ، ولم يتنبه المصريون ولا ساستهم إلي أن الإنجليز كانوا متلهفين إلي عقد هذه المعاهدة لأنهم كانوا يلمحون في الأفق أن حربًا كانت علي الأبواب ستقع في خلال سنة أو سنتين ، وأنهم يصطلون بنارها ، وأنهم يريدون أن يتخذوا من مصر دريئة لهم ، وأن يجعلوا من حلفائهم المصريين وقودًا لهذه الحرب .
ووقعت الحرب العالمية الثانية ، واجتاحت جحافل الألمان أوروبا في أسابيع ثم انتقلوا إلي شمال أفريقية .. ومن ليبيا زحفوا إلي السلوم حيث كانت الجيوش البريطانية في انتظارهم فاكتسحوها وفرت بأقصى سرعتها أمام قوات الماريشال روميل الذي وقف بقواته عند مشارف الإسكندرية في العلمين علي بعد 70 ميلا من الإسكندرية . كان أحرار المصريين يمقتون الإنجليز ، ويتربصون بهم الدوائر ، ويتمنون أن لو أصابتهم كارثة تأتي عليهم فلا تبقي منهم ولا تذر .. فلما قامت ألمانيا بهجومها المكتسح علي أوروبا هب هؤلاء الأحرار ينتهزون هذه الفرصة لتخليص البلاد من يد الإنجليز ...
كون الأحرار علي اختلاف نزعاتهم جبهة لإنقاذ البلاد ، وكان تكوين هذه الجبهة يجري تحت ستار السرية التامة ، وأنا شخصيًا مع أني كنت أقوم ببعض ما كان يوكل إلي من أعمال لهذه الجبهة – لا أعرف من الجهات المشتركة فيها ولا الأشخاص المشتركين فيه إلا الأستاذ المرشد وعلي ماهر والسيد أمين الحسيني مفتي فلسطين . كانت خطة الجبهة تتلخص في محاولة الاتصال بالحكومة الألمانية والاتفاق معها علي أن تحمل مصر عبء الدفاع عن نفسها ضد الإنجليز في مقابل أن تستقل وتظل صديقة لألمانيا .. وقد حدث الاتصال ، وكانت تصلنا خطب " هتلر " بنصها ، وكنا ننسخ منها نسخًا لتوزيعها علي المشتركين في الجبهة . وأعدت الجبهة العدة لتهريب " عزيز المصري " إلي ألمانيا في طائرة من طائرات الجيش ، لكن الظروف حالت دون ذلك حيث اصطدمت الطائرة بأسلاك اضطرتها إلي الهبوط ، وقبض علي عزيز المصري وعلي قائدي الطائرة حسين ذو الفقار صبري وعبد المنعم عبد الرءوف .. وعلي غير ما كان منتظرًا أصدرت المحكمة العسكرية التي حاكمتها حكمًا برأهم مما أثلج صدور الأحرار الأطهار في كل مكان .
كما استطاع السيد أمين الحسيني أن يهرب إلي ألمانيا ، والتقي بهتلر وتفاوض معه فيما هدفت إليه الجبهة من استقلال مصر ، واستقلال فلسطين والبلاد العربية ، وكان السيد أمين موضع احترام الحكومة الألمانية طيلة الفترة التي مكثها في ألمانيا . وظلت الجبهة تعمل وتعد نفسها لليوم الذي تطرد فيه الإنجليز من مصر حتى شاءت إرادة الله أن ينقلب الموقف رأسًا علي عقب ، ويتقهقر الجيش الألماني حين دخلت أمريكا بثقلها ونزلت قوات الحلفاء في المغرب بقيادة الجنرال الأمريكي إيزنهاور وأصبح الجيش الألماني محاصرًا بين هذا الجيش الجديد والجيش البريطاني . ولم يكن في حسبان ألمانيا أن أمريكا ستدخل الحرب وكانت ألمانيا تحاول دائمًا استرضاءها لأنها تعلم مدي خطورتها ، ولكن تشرشل بأسلوبه المؤثر وزياراته المتكررة وإثارته نزعة الشعوب الناطقة بالإنجليز وأن هذه الشعوب في حقيقتها شعب واحد ، استطاع – علي غير توقع من هتلر – أن يجر أمريكا إلي الحرب . وكان من نتيجة ذلك أن تمكن الإنجليز ، ويبدو أن مخابراتهم كانت علي علم ببعض المعلومات عن هذه الجبهة فكانت الاعتقالات التي اتخذتها حكومة الوفد في 4 فبراير سنة 1942 .
وزارة علي ماهر سنة 1939
تعد هذه الوزارة نسيج وحدها بين الوزارات التي توالت علي الحكم في مصر ، فقد تولت أمور البلاد في أحرج الأوقات عند بدء قيام الحرب العالمية الثانية ، وكان أعضاءها نوعين من الوزراء فبعضهم كانوا وزراء متخصصين ، وبعضهم الآخر كانوا من ذوى التاريخ الوطني الإسلامي الحافل ومن هذا البعض الأخير كان صالح حرب وزيرًا للحربية وكان عبد الرحمن عزام وزيرًا للشئون الاجتماعية وهي وزارة استحدثت لأول مرة في مصر وللأوقاف . وكان هناك تجاوب فكري ونفسي بين هذه الوزارة وبين الإخوان حيث كانت هذه الوزارة وزارة كفاءات لا وزارة الحشد المألوف من ذوي الألقاب ... ولذا فإنها كانت أول وزارة منطلقة غير محددة الأبعاد إلا بما نوحيه إليها المصلحة العامة .. وقد ساعد هذه الوزارة أيضًا علي الانطلاق أنها كانت مؤيدة من الملك الذي كان إذ ذاك في مقتبل أيامه ولم يكن بعد قد تلوث ، فكانت رغباته متوائمة مع رغبات الشعب ، وكان لا يزال يري في علي ماهر شخصية المعلم الناصح القدير .. وكان البرلمان متوائمًا مع الملك فكان مؤيدًا للوزارة ..
كان الإنجليز – وقد أعلنوا الحرب علي المحور (ألمانيا وإيطاليا) – يعتقدون أن مصر – كما تعودوا منها ومن حكامها – ستكون سباقة إلي إعلان الحرب علي المحور تضامنًا معهم ... وقد خاب ظنهم لأول مرة فقد اقتنعت الوزارة بأن لا تعلن الحرب وبأن تعلن الجهاد فكانت هذه ضربة قاصمة لطهر هؤلاء المستعمرين ... وقد لقي هذا التصرف الجريء من الحكومة تجاوبًا من جميع الأوساط في البلاد ، وعده الشعب بطولة من علي ماهر من أعظم البطولات . وبعد أن أذاع علي ماهر قرار إعلان مصر دولة محايدة ، ذهب إلي البرلمان لإلقاء بيان في هذا الشأن وأخذ الرأي علي هذا القرار ، وقد أيد مجلس النواب علي ماهر بالإجماع ، ومع ذلك لم يستطيع الإنجليز أن يضبطوا عواطفهم ولا أن يحتفظوا بوقارهم الذي كان شعار سياستهم الاستعمارية فلم يتورعوا في هذا الموقف عن إسقاط هذه الوزارة وهي مؤيدة من مجلس النواب ومن الشعب ومن الملك .
- محاولة الإخوان لإنقاذ هذه الوزارة :
كان علي ماهر يحس بمراحل الغضب تغلي في صدور الإنجليز ، وكان الإخوان يحسون بذلك ، إلا أن الفرق بين الإحساسين كان كبيرًا فقد كان علي ماهر يتصور أن الإنجليز لن يخاطروا بسمعتهم فيسقطوا حكومة مؤيدة من الشعب والبرلمان والملك ؛ أما الإخوان فكانوا يعتقدون أن هذا الموقف ليس من المواقف التي يتقيد بها الإنجليز حيالها بأية قيود أدبية .. وقد اقترح الإخوان علي الحكومة خطة تلتزم الإنجليز بالتفكير عشرات المرات قبل إقدامهم علي مس هذه الوزارة بأذى ، وقد أقنع الأستاذ المرشد بهذا الرأي للأستاذ عبد الرحمن عزام ، وطلب إليه أن يبلغه إلي رئيس الوزراء ، وقد فصل ولكن علي ماهر كان لا يزال متوهمًا تصوره الذي أشرنا إليه ...
أما اقتراح الإخوان فيتلخص في أن تعلن الوزارة علي العالم نفسها حكومة إسلامية ، ويرتكز هذا الاقتراح علي الدعائم الآتية :
- أولا : أن الإنجليز حين يواجهون بالدين – أي دين – يشعرون بشيء من الرهبة يصرفهم عن المواجهة ، ويبحثون عن صيغة أخري غيرها .
- ثانيًا : أن إعلان مصر حكومة إسلامية معناه أن المساس بهذه الحكومة سيكون مساسًا بجميع المسلمين في أنحاء العالم . ولا تقوي انجلترا – لاسيما وهي في حرب – علي مواجهة ثورة يقوم بها المسلمون في كل مكان تأييدًا لهذه الحكومة ... ولا ننسي أن الإنجليز وهم في حالة السلم لم يستطيعوا مقاومة مظاهرات قام بها المسلمون في الهند احتجاجًا علي تصريح صرحت به الحكومة البريطانية اشتم منه المسلمون رائحة المساس بحكومة الخلافة الإسلامية في تركيا ، ولم يخرج الإنجليز من هذا المأزق إلا بإصدار الشيخ محمد رشيد رضا بيانًا أعلن فيه أن هذا التصريح لا يمس الإسلام .
- ثالثا : أن الجيش البريطاني المحارب والذي كان إذ ذاك في مصر وفي شمال أفريقية كان أكثره من الهنود المسلمين والأفريقيين المسلمين ومساس الإنجليز الحكومة أعلنت أنها حكومة إسلامية بأذى قد يثير هؤلاء الجنود ؛ وفي إثارتهم أشد الخطر .
- رابعًا : أن الإخوان في هذه الحالة سيجدون في يدهم حجة إثارة المسلمين في مصر وغيرها . ولم يعرف علي ماهر أنه قد أسرف في حسن الظن ، وأنه أخطأ في عدم الأخذ باقتراح الإخوان إلا بعد أن أسقطت وزارته .
ولا يشك أحد في أن هذه الوزارة كانت وزارة عظيمة وواقعية وعاملة من أول يوم علي تحدي الإنجليز ؛ ففي أول اجتماع لها اعترفت بروسيا وخفضت مرتبات الموظفين 10% وأحالت بعض كبار الموظفين المعروفين بميلهم إلي الإنجليز إلي المعاش وكان منهم أمين عثمان .. وقد عملت علي اختيار الرجال ذوى التاريخ الوطني المشرف فقد عينت لقيادة الجيش الفريق عزيز المصري وكان عدوًا للانجليز ، وقد بدأ هذا الرجل يحد من تسلط الإنجليز علي الجيش المصري .. وكان الإنجليز يعرفون بواسطة أجهزتهم التجسسية صلة هذا الرجل بالإخوان فعملوا علي إزاحته
وزارة الوفد 4 فبراير سنة 1942
هذا التاريخ من التواريخ المشهورة في السياسة المصرية ، لأنه اليوم الذي طلب فيه الإنجليز من الملك فاروق دعوة " حزب الوفد " لتولي الوزارة وهددوه باقتحام قصره بالدبابات الإنجليزية إذا لم يلب طلبهم وقد فعل ، وتعتبره الأحزاب المصرية بل ويعتبره غيرهم من الأيام السوداء حيث لجأ الإنجليز إلي التدخل السافر في شئون مصر الداخلية ، ويصمون النحاس بالخزي والعار لأنه جاء إلي الحكم علي أسنة رماح الإنجليز . وتصدينا للحديث عن هذه الوزارة أملا لابد منه حيث كان لنا تجربة – تحدثنا عنها في الفصل السابق – وكثير من المعلقين من الجيل الجديد الذي لم يعش هذه التجربة لم يفهموها علي وجهها الصحيح ، ولذا فسوف نحاول إن شاء الله الكشف عن هذا الوجه الصحيح والإبانة عن حقيقة بعض المواقف في هذه التجربة فيقول :
حشر المؤرخ مدرس التاريخ المعاصر بجامعة طنطا الذي أشرنا إليه قبلا " الإخوان المسلمين " ضمن قائمة أعداء الوفد وخصومه إذ جعل عنوان بحثه المنشور بجريدة الأهرام في سنة 1975 " 4 فبراير . وثائق جديدة . صورة من تقارير الأمن العام التي تسجل تحركات خصوم الوفد بعد الحادث " وأورد تحركات الحزب الوطني وحزب الأحرار الدستوريين وحزب السعديين ثم أورد موضوع ترشيح الأستاذ حسن البنا .. وقد رتب سيادة المؤرخ علي ذلك أن تصرف النحاس مع الأستاذ البنا في موضوع الترشيح كان من تلقاء نفسه باعتباره الإخوان خصومًا له لا من وحي الإنجليز ، وقد أورد سيادته في تأييد رأيه هذا الأسباب التالية :
- أولا : أنه ليس من المعقول أن يعري النحاس باشا ضعفه علي هذا النحو أمام الشيخ حسن البنا لإقناعه بسحب ترشيحه . خصوصًا أن النحاس كان في مركز قوة وليس في مركز ضعف . فضلا عن أن علاقته بالشيخ حسن البنا كخصم سياسي لم تكن تجيز له أن يسلم خصمه سلاحًا كهذا السلاح يطعنه به .
- ثانيًا : الوقائع التاريخية تكذب ذلك تمام التكذيب ، فقد بدأ النحاس عهده بالإفراج عن عزيز المصري وحسين ذو الفقار صبري وعبد المنعم عبد الرءوف ، رغم ما هو معروف من أن تم القبض عليهم أثناء هروبهم بطائرة إلي المحور ، ولم يكتف النحاس بذلك بل أمر بشطب القضية فهل فعل النحاس ذلك بأوامر من الإنجليز ؟ اللهم إلا إذا كان الثلاثة قد غيروا مواقفهم وأصبحوا أنصارًا للانجليز .
- ثالثًا : أطلق النحاس سراح محمد علي الطاهر المجاهد الفلسطيني وصاحب جريدة الشورى الذي لجأ إليه في 7 مارس سنة 1942 وكان قد قبض عليه في عهد حسن صبري بطلب من الإنجليز ثم هرب من المعتقل وظل متخفيًا حتى سلم نفسه للنحاس باشا ، وكان هذا الإفراج دون الرجوع إلي الإنجليز .
- رابعًا : سبق أن أنكر النحاس باشا أن القبض علي " علي ماهر " قد تم بطلب من الإنجليز ، وأعلن مجلس الشيوخ أن مصطفي النحاس ليس من طراز رجال الدولة الذين يضعفون أو يستسلمون أو سيستسلمون ، فكيف يظهر استسلامه أمام البنا ويعترف بانصياعه لرغبة الإنجليز بصدده ؟
وانتهي بذلك تعليق السيد " المؤرخ " ويصرف النظر عما ينطوي عليه هذا التعليق من روح التهجم والانحياز فإننا نتناوله من الناحية الموضوعية فنقول :
أولاً : لم يكن بين الإخوان وبين الوفد حتى ذلك الوقت أية خصومة أو عداء فلم يكونوا يعدون الوفد خصما لهم ولم يكن الوفد يعدهم من خصومه ، وقد سبق أن ذكرت في مواضع أخري من هذه المذكرات أن تعليمات الأستاذ المرشد كانت تحت الإخوان المسئولين في هذه الفترة علي إبراز الدعوة بالصورة التي تكون فيها مقبولة من الجميع علي اختلاف أحزابهم ونزعاتهم ، ولم يكن المقصود بالصورة المقبولة من الجميع الأحزاب السياسية وحدها بل يقصد بذلك أن لا يكون بيننا وبين أي صاحب فكرة معينة سواء كانت سياسية أو دينية أو اجتماعية خصومة لأن الدعوة في تلك الحقبة من الزمن كانت في حاجة إلي أن تأخذ طريقها إلي قلوب المواطنين جميعًا علي اختلاف أحزابهم وطوائفهم ومعتقداتهم دون أن تنشغل عن ذلك بمعارك جانبية مسيرتها . فحشر " الإخوان المسلمين " ضمن خصوم الوفد في هذا الصدد مخالف للواقع كما أن تعبير " خصمه السياسي " تعبير فيه افتراء علي التاريخ .
وإذا كانت المسألة مسألة الخصومة السياسية فلم لم يفعل النحاس مع السعديين والأحرار الدستوريين والحزب الوطني وهم خصومه السياسيون دون شك ما فعله مع الإخوان المسلمين ؟ .
ثانيًا : أما إطلاق النحاس باشا سراح محمد علي الطاهر وعزيز المصري وزميليه ، واتخاذ الكاتب ذلك دليلا علي أن النحاس كان يتصرف من تلقاء نفسه دون استحياء من الإنجليز أو دون مبالاة بالإنجليز ، فإن هذا استنتاج نظري وقد بترت الوقائع فيه عن ظروفها .
إن مجيء النحاس إلي الحكم علي أسنة رماح الإنجليز – مهما قيل في تعليله – كان غصة في حلق كل مصري ، وكان النحاس يعرف ذلك ، وكان الإنجليز أيضًا يعرفون ذلك .. فكان علي الإنجليز أن يخففوا في آثر هذه الغصة بإطلاق يد النحاس في إجراءات عليها مسحة الوطنية ، وفي الوقت نفسه لا تضر الإنجليز كإطلاق سراح محمد علي الطاهر وعزيز المصري وزميليه لاسيما وقد أخذت المحكمة التي كانت تحاكم عزيز المصري وزميليه بنظرية الدفاع بطلان قانون الأحكام العسكرية ؛ فضلا عن أن الإفراج عنهم وعن الطاهر لم يكن إلا إفراجًا شكليًا ؛ لأنهم ظلوا تحت مراقبة القسم المخصوص والمباحث العامة .
ثالثًا : أما اعتقال النحاس لعلي ماهر ، وادعاء النحاس أمام مجلس الشيوخ أن هذا الاعتقال لم يتم بناء علي طلب الإنجليز ، فمسألة فيها نظر ... فلا شك أن النحاس يعتبر علي ماهر أشد أعدائه بأسًا ، لأنه يعرف عنه المقدرة السياسية ، وسعة الأفق ، والذكاء اللماح ، واستقلال الرأي . وقوة الشخصية .. يعرف عنه كل ذلك ، ويتمني لو أتيحت له فرصة القضاء عليه ؛ فإذا وجد عند الإنجليز نفس هذا الشعور نحو علي ماهر ، فإنه لا شك سيسارع إلي تنفيذ هذا الإجراء دون طلب من الإنجليز ؛ كما أن الإنجليز لا يطلبونه صراحة ماداموا يثقون أنه سيتم دون أنم يضطروا إلي طلبه .
أما أن ينسب النحاس هذا الإجراء إلي نفسه دون اشتراك الإنجليز فيه فهذا أمر لا يضر الإنجليز في شيء بل إنهم يسعدهم أن يجدوا من يرضي لنفسه أن يتحمل عنهم هذا الوزر أمام الشعب وأمام التاريخ ... وهل كان علي ماهر حبيبًا للانجليز فاعتقله النحاس تحديًا لهم ونكاية فيهم حتى يكون إعلانه في البرلمان أنه اعتقله من تلقاء نفسه مشرفًا له ، ومفخرة يباهي بها .؟ إنه اعتقله في أعقاب مأساة دستورية لم يحدث لها مثيل من قبل في تاريخ مصر – وقد نوهنا عنها من قبل – وقد ضاق الإنجليز به ذرعًا بعد إقالته حين رأوه – بواسطة جواسيسهم – يتعاون مع الأحرار من أبناء مصر علي تكوين جبهة لتخليص مصر من الاحتلال الإنجليزي ووقايتها من احتلال آخر ، حيث كانت جيوش الحلفاء في ذلك الوقت في هزائم متلاحقة . فليس إذن نفي إنسان عيبًا ما عن نفسه دليلا علي براءته من هذا العيب إذا ما كانت كل الظروف والقرائن به تصمه بهذا العيب .
رابعًا : ثم نرجع إلي حديث الأستاذ المرشد عن مقابلته للنحاس باشا فأقول إن الأستاذ المرشد قد نص علينا – في اجتماع خاص بالمركز العام – ما تم بينه وبين النحاس من حديث فكان هو بنفسه وبالحرف الواحد ما قصه علي الإخوان في الإسكندرية وطنطا وغيرها من العواصم .
وبالرغم مما ورد في حديثه في كل من هذه العواصم مخاطبًا الإخوان من قوله " وهذا حديث خاص بكم لا يصح إطلاع غيركم عليه " فإنه كان يعلم أن أشخاص من قبل الأمن العام مدسوسون في كل اجتماع من هذه الاجتماعات ... ومعني ذلك أنه كان دقيقًا في نقل عبارات النقاش الذي دار في أثناء المقابلة مع النحاس لأنه يعلم أن مندوبي الأمن العام سيعرضون هذه الأقوال التي سمعوها منه علي رئيس الحكومة ... فلو أن رئيس الحكومة رأي في هذه الأقوال تزيدًا كما ادعي حضرة المؤرخ لما سكت عن ذلك . ولو أن الأستاذ المرشد كان حريصًا فعلا علي أن يخص الإخوان وحدهم بحديثه ، لانعقدت بذلك اجتماعات أخري ذات صبغة أخري لا يسهل اختراقها ولا التسمع عليها سواء من رجال الأمن أو غيرهم . وسيأتي إن شاء الله في صفحات قادمة وما يوضح مدي فهم الإخوان للاجتماعات ومدي ملاءمتها للأغراض التي تعقد من أجلها .
ينبغي أن يتساءل المؤرخون والمحللون للأحداث عن الدوافع التي حملت الإنجليز علي المطالبة بمجيء الوفد إلي الحكم في هذه الظروف .. هل كان دافعًا واحدًا وأن هذا الدافع كان أنهم في ظروف حرب ، ويجب أن يكون في الحكم حزب الأغلبية حتى يضمنوا في البلاد هدوءًا يساعدهم علي التفرغ لشئون الحرب ؟ هل هذا هو الدافع الوحيد أم أنه كان مع هذا الدافع دوافع أخري ؟ ألا يجوز أن يكون من الدوافع الأخرى محاولة تنظيم الوفد نفسه والقضاء علي سمعته ؟... إن دهاء الإنجليز وبراعتهم السياسية ، ومقدرتهم علي الإفادة الكاملة من كل ظرف ، أمر مسلم به ولا شك فيه ، فهم فعلا كانوا في ظروف دقيقة ، يسهل مهمتهم فيها أن يكون علي رأس الحكومة زعيم الأغلبية ... وهم يعلمون مدي تكالب الوفد علي الحكم وتشوقه إليه .. ويعلمون في نفس الوقت أن الذي يتولي الحكم في ظروف الحرب التي تلازمها دائمًا قسوة الحياة ، وصعوبة وسائل التموين ، مع تعرض البلاد للغارات ... كل ذلك سيخلق الكراهية في نفوس الشعب للجالس علي قمة الحكم ... وقد استطاع الإنجليز تحقيق هذه الأغراض جميعًا حين أتوا بالنحاس إلي دست الحكم ... وقد فهم الشعب بعض ما هدف إليه الإنجليز ، ولكنهم لم يفطنوا إلي كل الأهداف إلا بعد أن تحققت فعلا وخرج الوفد من هذه الجولة في الحكم خاسرًا .
ولقد كانت دهشة الناس في مصر علي أشدها حين رأوا الإنجليز يطلبون الوفد للحكم ، ووجدوا الوفد يسارع بالإجابة كأنما كانا علي ميعاد ... وكان الذين يحسنون الظن بالوفد يتمنون أن يرفض الوفد أن يتولي الحكم بأمر الإنجليز الذين هم بغير شك أعدي أعداء البلاد ، ولكن هؤلاء حين رأوا الوفد مسارعًا إلي إجابة الإنجليز ، علموا أنهم كانوا مسرفين في حسن الظن . وقد عبر الكثيرون عن هذا الشعور بطرق مختلفة كان أروعها خمسة أبيات من الشعر نشلاها " الأهرام " يوم 6-4-1942 للشاعر الكبير الأستاذ محمود غنيم تحت عنوان : الذئب والكبش وهاك هذه الأبيات :
الكبش قـام خطيبـًا فوق رابيـة
- ينعي علي الذئب فتك الذئب بالـغنم
فتمتم الذئب في أذنيه : أنت علـي
- رأس القطيـع أمـير نافـذ الكلـم
فقبل الكبـش ناب الذئب معتـذر
- عما رمـاه به من سـالف التهــم
وقال للشاه : خوضوا وارتعوا معه
- من لاذ بالذئـب منـكم لاذ بالحـرم
فإن تصب أحـدًا منكم مخالبــه
- فإنــها بلسـم يشـفي من السقـم
وكم كان لهذه الأبيات من صدي في نفوس المثقفين في أنحاء مصر ، فلقد عمد الأستاذ محمد غنيم إلي الاستتار وراء التورية حين جعل الموضوع النقدي حديثًا علي لسان الحيوان ، فتلقاها المثقفون بفهم لماح لأن المعني مستقر من قبل نفوسهم . علي أن موضوع 4 فبراير سنة 1942 الذي أقحمنا فيه السيد المؤرخ المعاصر إقحامًا ؛ لم يكن له في نفوس الإخوان ولا في أوساطهم وقد يذكر ، إذا قيس بوقعه في نفوس السراي والأحزاب ... ذلك لأنه بالنسبة للإخوان لم يضف جديدًا إلي معلوماتهم عن الإنجليز ولا عن الوفد ولا عن السراي ولا عن الأحزاب الأخرى .. فالإخوان كانوا يعرفون من تجاربهم في قضية فلسطين أن الإنجليز إذا سمحت لهم الفرص فجروا .. الوفد منذ عقد معاهدة سنة 1936 أصبح يعتبر الإنجليز أصدقاء وحلفاء ، كما يعرف الإخوان أن الوفد أصبح يسعي إلي الحكم لإشباع شهوات أعضائه وأنصاره من مغانم الحكم ولا يبالي من الذي يدعوه إلي الحكم .. أما الأحزاب الأخرى التي لا تصيب لها من الشعب فليس أمامهم إلا التقرب إلي السراي وإلي المستعمر مضحين بمصالح البلاد في سبيل إرضائهما ، فإذا أغضي هذان عنهم وسلما أزمة الحكم لغيرهم لبسوا ثياب الوطنيين ، وأخذتهم الغيرة علي الوطن ، وتباكوا علي ضياع مصالح البلاد .
إنشاء الجامعة العربية
نبتت فكرة إنشاء جامعة الدول العربية أول ما نبتت في أذهان الساسة الإنجليز في أعقاب الحرب العالمية الثانية في غضون سنة 1944 . وقد حاول الإنجليز أن يوهموا العالم أنها إنما نبتت في أذهان العرب فأوعزت إلي نوري السعيد باشا رئيس وزراء العراق أن يرفع أول صوت مناديًا بها ... وكان الإخوان قد عرفوا من قبل مصدرها الحقيقي وأنها من بنات أفكار ساسة الإنجليز .. وقبل أن ينادي بها نوري السعيد ، كان الإخوان قد وضعوها موضع الدراسة والفحص ، وقلبوها علي جميع جوانبها ، وخرجوا من الدراسة بأن يثبتوا هذا المشروع ولو أنه من وضع الإنجليز . كان الإنجليز يهدفون من وراء هذا المشروع إلي استحداث جهاز يسهل لهم بسط نفوذهم علي جميع الدول العربية ، وليس أقدر علي إصابة هذا الهدف من إنشاء هذه الجامعة – ولكن الإخوان رأوا في إنشاء هذا الجهاز – مع سوء القصد في إنشائه – رمزًا يومئ إلي معني عزيز هو من صميم دعوتهم ألا وهو إشعار قسم ذي بال من المسلمين في هذا العالم بأن هناك آصرة قرابة تربطهم ، وأن هذه البقعة مهما تعددت أسماء الدول فيها فإنها أمة واحدة .
ورأي الإخوان أيضًا في إنشاء هذه الجامعة وسيلة تيسر لهم الاتصال بشعوب هذه الدول ، وتضفي علي هذا الاتصال معني الشرعية بعد أن كان هذا الاتصال شبه محرم إلا خلسة ؛ كما أنهم رأوا أنهم – مع تنبههم لأغراض الإنجليز – يستطيعون بوسائلهم الخاصة أن يدسوا أنفسهم في هذا الجهاز أو بالمعني الأدق في تعديل توجيهه بحيث يحقق – بجانب ما أنشأه الإنجليز من أجله – أغراضًا نافعة بالخير علي البلاد العربية والبلاد الإسلامية .
وضع ميثاقها :
دعي إلي القاهرة رؤساء وزارات الدول العربية المستقلة في ذلك الوقت ، وكانت سبع دول تقريبًا هي مصر والسعودية واليمن والعراق وسورية ولبنان لوضع ميثاق لجامعة الدول العربية ويبدو – كما هو في خاطري الآن – أن اجتماع هؤلاء الرؤساء كان في الإسكندرية . وكانت الخطة التي وضعها الأستاذ المرشد أن يكون في استقبال هؤلاء الرؤساء وفد من الإخوان للترحيب بهم ولإشعارهم بأن المهمة التي قدموا من أجلها تلقي من اهتمام الشعب ما هي جديرة به – وهو ما كان الإنجليز يحاولون إبهام الشعوب العربية به – ولذا فإن هذه الحركة من الإخوان قد نالت رضا نوري السعيد الذي كان المتبني لفكرة الجامعة وكان هو الداعي لها ... وقد أتاح الإخوان لأنفسهم بهذا الرضا فرصة الوجود بجانب لجنة الرؤساء ،وعن طريق هذا الوجود استطاعوا أن يعرفوا كثيرًا مما كان يدور خلال اجتماعات هذه اللجنة ، واستطاعوا بطريق غير رسمي الاشتراك في بعض المناقشات .
اختار الأستاذ المرشد الأخ الأستاذ محمد لبيب البوهي رئيس الإخوان بالإسكندرية ليكون ضابط اتصال بين الإخوان وبين لجنة الرؤساء ، وكان اختيارًا موفقًا فقد كان الأستاذ لبيب شخصية مقبولة وأمينة وحكيمة من أولئك الذين قيل فيهم :
إذا كنت في حـاجـة مرسـلا
- فأرسـل حكيمـًا ولا توصــه
فكان الأستاذ لبيب يعرض علينا كل يوم ما دار في الاجتماع الذي حضره ،وكان الأستاذ المرشد يدرس النقاط التي ستكون مدار النقاش في الاجتماع القادم ويوضح الصورة التي يحاول الإخوان أن يضعوا القرار في إطارها ، ويحملها الأستاذ لبيب حيث يجتمع الرؤساء ,, وبأسلوبه اللبق ووسائله الخاصة يصدر القرار علي الصورة المطلوبة أو قريبًا منها .
السيد رياض الصلح
استطاع الأستاذ لبيب أن يكتشف أن بين هذه المجموعة من الرؤساء رجلا عظيمًا ،وشخصية قادرة ، تفهم الأمور علي وجهها الصحيح ، وذات قلب كبير مفعم بالإيمان بالفكرة الإسلامية باعتبارها السبيل الوحيد لإنقاذ البلاد العربية والإسلامية .. وتبين أن الرجل يتابع من طرف خفي نشاط الإخوان وأنه يكن لهم الحب والتقدير .. وتحدث مع الأستاذ لبيب حديثًا صريحًا حول فكرة إنشاء الجامعة ، وأنه حضر بنفسه للاشتراك في وضع ميثاقها لعله يستطيع أن يجعل منها جهازًا نافعًا للعرب كما يجب أن يكون ؛ وطلب منه أن يعتبره الإخوان ممثلا لهم في هذه الهيئة الرسمية التي تضع الميثاق ، وعلي الإخوان أن يمدوه بآرائهم أولا بأول ليدافع عنها ويحاول إدماجها في مواد الميثاق . ذلك هو السيد رياض الصلح رئيس وزراء لبنان وأعظم شخصية في تاريخ لبنان الحديث ، والرجل الذي لم يملأ الفراغ الذي خلفه بموته أحد حتى اليوم ... كان رجلا مؤمنًا قويًا ، واثقاً من نفسه مرهوب الجانب ، من أعظم الرؤساء ، محبوبًا من شعبه ... يري نفسه فوق مستوي الأطماع كما كانت همته غير محدودة بالحدود المصطنعة للعالم الإسلامي المقسم ظلمًا وتعسفًا .
توطدت الصلة بين الإخوان وبين هذا الرجل العظيم ، وكان اكتشاف الإخوان حقيقة هذا الرجل عنصرًا من عناصر إحياء الأمل لدي الإخوان أن هناك كنوزًا مخبوءة يدخرها الله تعالي لدعوته ، فحرص الإخوان علي أن تطل صلتهم به في طي الكتمان حتى يؤدي الرجل ما يستطيع من خير للأمة الإسلامية دون أن يتنبه المستعمرون فيصوبوا إليه سهامهم من كل جانب . ومما تجدر الإشارة إليه ، ومما يجب أن يعيه المتصدون للإصلاح من أصحاب الأفكار والدعوات أن لا يحصروا آمالهم في حدود الظرف المادية المحيطة بهم فيقعد بهم ذلك عن النهوض بالأعباء الجسام ؛ بل عليهم أن لا يتقاعسوا عن انتداب أنفسهم لأشق المهام وأصعبها مراسًا ، فإن ذلك سيفتح أمامهم أبوابًا وسينير لهم سبلا ما كانوا ليروها وهم قاعدون ... فيوم ووجه الإخوان بفكرة الإنجليز في إنشاء الجامعة العربية ودرس الإخوان الفكرة ، فوجدوا أن ولاءهم يقتضيهم أن يتلقوا هذه الفكرة من الإنجليز ويعملوا علي الإفادة منها ؛ يومئذ كان الإخوان في حيرة من أمرهم كيف يقتحمون إلي هذا المؤتمر وهم يعلمون أن رؤساء الدول العربية صنائع للمستعمر ، ولكنهم رأوا أن واجبهم يقتضيهم أن يقتحموا ففعلوا وآمالهم معلقة بوجه الله وحده ، فكان أن فتح الله بين أيديهم أوسع الأبواب بتعرفهم علي هذا الرجل العظيم وصدق الله العظيم " ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم الغالبون وعلي الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين " ... ولقد يسرت للإخوان الأمور حتى إنهم كانوا يطبعون مذكرات يشرحون فيها وجهة نظرهم فيما سيعرض أمام لجنة الرؤساء من مواضيع ويوزعونها علي الوفود لتنير لهم الطريق وتهيئ الجو للسيد رياض الصلح حين يتبني رأي الإخوان ويدافع عنه .
- مكاسب عن طريق رياض الصلح :
وسأحاول الآن أن أسرد بعض ما تمكن الإخوان من تحقيقه من مكاسب عن طريق هذه الجامعة عادت بالخير علي الأمة العربية والإسلامية .
أولاً : إخراج ميثاق جامعة الدول العربية في صورة أكثر فعالية من الصورة التي كان يريدها له الإنجليز ... ومعني ذلك أنه حتى الصورة التي أخرج عليها الميثاق لم تخل من قصور ، ولكن بعض التحسين الذي أمكن إدخاله عليها قلل من هذا القصور ، وجعل هناك مندوحة لتقارب هذه الدول بعضها من بعض تقاربًا حقيقيًا إلي حد ما ، كما أتاح لها أن تعمل عملا إيجابياً وإن كان محدودًا .
ثانيًا : اختيار عبد الرحمن عزام أمينًا عامًا للجامعة .. واختيار رجل كعبد الرحمن عزام لهذا المنصب ليس بالأمر الهين ، إذا عرف من هو عبد الرحمن عزام وعرف تاريخه وجهاده وأفكاره ... لقد كان اختيار هذا الرجل أمنية عزيزة للإخوان ... وقد أشرت فيما سبق إلي صلة عبد الرحمن عزام بالإخوان سواء وهو في الحكم عضوًا في وزارة علي ماهر وفي غير الحكم .
ثالثًا : تعرف الإخوان بالقاضي الكيسي ممثل اليمن في لجنة الميثاق ... وقد ينبغي الإشارة في هذا الصدد إلي أن الدعوة حين وجهت إلي اليمن باعتبارها دولة عربية مستقلة لتشترك برئيس وزرائها في وضع الميثاق جامعة الدول العربية بعث الإمام يحيي حميد الدين إمام اليمن بالقاضي الكيسي ممثلا له علي أن يكون مستمعًا دون أن يشترك في المحادثات .. وقد أثار هذا النوع من الاشتراك في اللجان تندر كثير من الأوساط الصحفية والشعبية في مصر حتى صرت مسري المثل ، فإذا دعا أحد أصدقاءه لغداء مثلا وأجابوا وتقدموا للطعام إلا واحدًا فإن هذا الواحد يقول متندرًا : اعتبروني كيسي في هذه الوليمة .
لكن هذا الرجل " القاضي الكيسي " كان رجلاً ذكيًا ؛ فإن مجرد تعرفه علي الإخوان فتح عينيه علي ما كان يحذره إمامه ؛ فلقد كان إمامه حريصًا علي أن لا يعرف مندوبه شيئًا مما يدور في العالم الخارجي لاسيما الدعوات التحررية حتى اختمرت في ذهنه فكرة ، كانت هي نواة الثورات المتلاحقة التي خلصت اليمن من مظالم الحكم الإمامي المستبد ، وإن كان الرجل " القاضي الكيسي " نفسه قد راح ضحية في طريق التحرير ، رحمه الله وأجزل مثوبته علي ما قدم لبلاده .
رابعًا : الاعتراف باستقلال اندونيسيا وباكستان .
تبني الإخوان الدعوة إلي مؤازرة اندونيسيا في جهادها للتخلص من استعمار هولندا ،ومؤازرة باكستان في تخليص المسلمين من اعتداءات البوذيين وعباد البقر من الهنود ،وإقامة دولة المسلمين باسم باكستان تحمي كيانهم وتمكن الأمر لهم ....
ومع أن جهاد المسلمين في هاتين الجبهتين جبهة اندونيسيا وجبهة الهند كان له صدي مدو في أنحاء العالم كله ، إلا أن الحكومات المصرية لم تحس بشيء من ذلك ، ولم تكن تعير هذا الجهاد العظيم اهتمامًا مع أنها كانت أجدر الحكومات أن تهتم به لأنها الحكومة التي ينظر إليها المسلمون علي أنها زعيمة العالم الإسلامي ومناط آماله .. ولم يفت هذا الشعور المتخاذل في عضد الإخوان فدأبوا علي المناداة بتأييد هذا الجهاد المقدس بكل وسائل التأييد ؛ فكان هناك اتصال دائم بين قادة هذا الجهاد في اندونيسيا والهند وبين الإخوان المسلمين .. وقدمت منها وفود استقبلهم الإخوان أحسن استقبال ، حتى قدم السيد محمد علي جناح زعيم المسلمين في الهند والمطالب بتكوين دولة باكستان ؛ وقد استقبله الأستاذ المرشد وأحسن وفادته وعرفه بعبد الرحمن عزام . ولما أثمر جهاد الاندونيسيين والمسلمين في الهند وأعلنوا إقامة دولتين مستقلين . تخاذل الغرب عن الاعتراف بهما أملا في القضاء عليهما وهما بعد نبتتان غضتان .. وهنا تقدم الأستاذ المرشد بمذكرة إلي جامعة الدول العربية يستشير في رجالها النخوة العربية والغيرة الإسلامية طالبًا منهم الاعتراف بالدولتين الناشئتين . ثم كان لعبد الرحمن عزام الفضل في استصدار قرار باعتراف جامعة الدول العربية ، فكان هذا القرار دعامة الدولتين في الوجود القانوني ، ولم تجد الدول الأخرى بدأ من الاعتراف بهما بعد ذلك القرار .
خامسًا : بلاد الشمال الأفريقي :- كانت بلاد الشمال الأفريقي – المغرب والجزائر وتونس – ترزح تحت كابوس ثقيل من استعمار فرنسي غاشم . وكانت ليبيا تثن تحت وطأة الحكم الإيطالي المستبد .... وعن طريق الجامعة العربية وعبد الرحمن عزام استطاع الإخوان أن يلعبوا أدوارًا في التوفيق بين زعامات الأحزاب في هذه البلاد ومساندة الثورات التي شبت بها ضد المستعمر .. ولم يكن الإخوان حريصين علي إبراز أنفسهم في هذا الميدان بل كانوا حريصين الجامعة العربية لأن إبرازها في هذا الموقف كان أنفع لهذه البلاد وأشد تأثيرًا في السياسة العالمية ، ولو أن الرجال القائمين بهذه الأدوار كان الموجهون منهم من الإخوان العاملين في الجامعة العربية وخطة العمل في هذا المجال كانت باتفاق بين الإخوان وبين أمين الجامعة ، وقد انتهت هذه الجهود – والحمد لله – باستقلال هذه البلاد وتخلصها من وطأة الاستعمار .
سادسًا : تطوع الإخوان في حرب فلسطين :- كان لجامعة الدول العربية دور عظيم في تنظيم التطوع في حرب فلسطين وسنرجئ الحديث عن هذا الدور حتى نبسط الكلام في شأن هذه الحرب إن شاء الله .
- عرض من الملك عبد الله :
في خلال تلك الفترة كان الأستاذ عبد الحكيم عابدين في رحلة خارج مصر زار فيها بلاد الشام بأقسامها ... فلما عاد من رحلته أخذ يشرح لنا ما تم في رحلته حتى وصل إلي الأردن فقال إنه قابل الملك عبد الله الذي أبدي إعجابه بدعوة الإخوان بقيادتهم وأنه ينتظر الخير للأمة الإسلامية علي أيديهم ثم قال الملك : إن الأردن في حاجة إلي جهود الإخوان ، ولتكن أولي خطوات هذه الجهود أن يعين الأستاذ عبد الحكيم عابدين وزيرًا في حكومة الأردن علي أن ينعم عليه وعلي الأستاذ حسن البنا برتبة الباشوية .
فابتسم الأستاذ المرشد وسأل : وماذا كانت إجابتك بات عبد الحكيم ؟ .. قال : وهل تكون إجابتي إلا بالرفض ولكن بأسلوب مهذب ... ولكن الملك مع ذلك أصر علي أن يرجأ البت في هذا العرض حتى أرجع إلي مصر وأقابلك . وقد رد الأستاذ المرشد علي الملك عبد الله برسالة رقيقة استنهضه فيها العمل للإسلام مشيدًا بانتسابه إلي الفترة الشريفة ، وأثني فيها علي حسن ضنه بالإخوان ، واعتذر إليه بأن العمل غير الرسمي للدعوة الإسلامية أحوج إلي جهود الإخوان وأنه يأمل أن تلتقي الجهود الرسمية وغير الرسمية في سبيل هذه الدعوة .
محاولة أخري لدخول مجلس النواب
كان ذلك في أواخر عام 1944 بعد أن استطاع الملك إقالة وزارة الوفد معتمدًا علي ما قدمته له هذه الوزارة من أسلحة بما تورطت فيه من أخطاء مست صميم الشعب في قوته من المأكل والملبس وأقبلت الوزارة وحل مجلس نوابها كالمعتاد ، وأعلن عن انتخابات جديدة لمجلس نواب جديدة ، وقرن هذا الإعلان كالمعتاد أيضًا بالطعن في نزاهة الانتخابات السابقة ، وبأن الانتخابات القادمة ستكون حرة مائة في المائة . وقرر الإخوان دخول هذه الانتخابات بترشيح الأستاذ المرشد في دائرة الإسماعيلية وترشيح عدد آخر من الإخوان في دوائر مختلفة .
كان هناك حرص شديد من الدولة الجديدة علي إبراز هذه الانتخابات في صورة مغايرة لتلك التي كانت عليها انتخابات حكومة 4 فبراير سنة 1942 التي كان من أبرز ما عرف عنها وشوه صورتها منع الأستاذ المرشد العام للإخوان المسلمين من ترشيح نفسه وإرغامه علي سحب هذا الترشيح ،وكان لهذا المنع ضجة في جميع أنحاء البلاد .. ولكن أسلوبًا آخر في الخفاء ومن وراء الكواليس كان يجري حسب مشيئة السادة المستعمرين :- في رسالة بعث بها الصاغ محمود لبيب رحمه الله إلي جريدة المصري في سبتمبر سنة 1950 جاء فيها ما يلي :-
- " في وزارة أحمد ماهر باشا أراد المرشد العام أن يرشح نفسه ، فعلمت أنا من أحد أصدقائي أن خطابًا أرسل من السفارة البريطانية إلي أحمد ماهر باشا يطلب فيه منه أن يعمل علي منع المرشد العام والأستاذ البرير (كان من كبار السودانيين الأحرار المقيمين بمصر المؤمنين بوحدة وادي النيل) المرشح في دائرة عابدين من التقدم للانتخابات ... فأسرعت إلي فضيلة المرشد فأبلغته ذلك فضحك واستبعد هذه الفكرة . وفي اليوم التالي طلبه أحمد ماهر باشا لمقابلته فلما قابله طلب منه أن يسحب ترشيحه .. وحاول أن يقنعه فرفض . فقال له : لماذا تتشدد معي وقد قبلت مثل هذا من حكومة النحاس باشا وتنازلت عن ترشيحك ؟ .
فرد عليه بقوله : إن حكومة النحاس باشا كانت تواجه حالة سياسية مضطربة في الداخل والخارج ولم يكن هناك بد – إجابة لداعي الوطنية الكريمة – من أن نقبل منها هذا ؛ إذ كانت الحالة تدعو إلي توحيد الجهود لا إلي توزيعها لوجود الأعداء داخل الأراضي المصرية . يقول الصاغ محمود لبيب : وقد قابلت بعد ذلك علي البرير بك فقال لي إن أحمد ماهر باشا طلب هو الآخر وأطلعه بالفعل علي خطاب السفارة الإنجليزية . فلما ووجه القصر ممثلا في هذه الأحزاب بإصرار الإخوان علي ترشيح مرشدهم في الانتخابات وجدوا أنفسهم أمام أمرين أحلاهما مر : ففتح الطريق أمام حسن البنا إلي مجلس النواب كارثة حيث نجاحه في هذه الدائرة أمر لا شك فيه .. كما أن منعه من الترشيح يهدم صرح الدعاية الذي شيدوه علي أساس من الحرية المطلقة التي ادعوا أنهم مما جاءوا ليردوا إلي الشعب ما حرمه الوفد منها .
وظلوا في حيرة من أمرهم حتى اهتدوا إلي الحل الأمثل الذي علمنا أخيرًا أنه إنما جاءهم من عند واضعي أدوار التمثيلية والذين اختاروا ممثليها والذين تكلفوا بإخراجها إلي الجمهور ، وتبين لنا أن واضع الرواية ومخرجها قد تضطره الظروف إلي القيام بنفسه بدور البطولة فيها وإلا فشلت التمثيلية ولم تحقق هدفها .. واتضح أن واضعي التمثيلية وموزعي أدوارها هم المستعمرين الإنجليز . وبدا للجمهور علي المسرح أن ترشيح المرشد العام لا يلقي أي اعتراض من الحكومة ونظرًا لما جبل عليه الإخوان من حسن الظن وسلامة الطوية اعتقدوا أن هؤلاء الناس قد راجعوا ضمائرهم ورغبوا في تحسين علاقاتهم بالإخوان والسير في ركب المواطنين الصالحين .
- مفاجـأة :
لم يبذل الإخوان أي جهد في الدعاية للمرشد العام في دائرته – كدأب ما يبذل للمرشحين في دوائرهم – لأن أهل الإسماعيلية بعثوا إلي القاهرة بوفود تمثلهم لتقديم شكرهم إلي الأستاذ المرشد العام أن آثرهم علي جميع دوائر القطر بترشيح نفسه في دائرتهم مع أن جميع الدوائر كانت تتمني أن تحظي بترشيحه فيها .. وتكفل أهل الإسماعيلية بدفع التأمين من جيوبهم . ولما جاء يوم الانتخاب فوجئ أهل الإسماعيلية بتدخل الجيش البريطاني في الانتخابات بأن أحضروا أعدادًا كبيرة من العمال الذين يعملون فيه في سيارات وأدي هؤلاء العمال الانتخاب بتذاكر مزورة بأسماء ناخبين أهل الإسماعيلية وهؤلاء جميعًا ينتخبون المرشحين الآخرين . واحتج أهل الإسماعيلية وأهملت السلطات احتجاجاتهم وانتهي يوم الانتخابات . وظهرت نتائج الانتخابات وكانت نتيجة دائرة الإسماعيلية إعادة بين الأستاذ المرشد وبين مرشح آخر .
هنا بدأ الإخوان يفهمون الوضع علي حقيقته حيث بان الخفي ووضح الأمر ، وتبين أن الإنجليز تعزيزًا لمركز حكومة السعديين التي يريدونها ، وافقوا علي أن تظهر هذه الحكومة أمام الشعب بمظهر الموافق علي ترشيح المرشد العام علي أن يتكلفوا هم – أي الإنجليز – بإسقاطه ويكون ذلك بالطريقة الآتية :
أن يرشحوا ضده أكثر من واحد من المقاولين الذين يعملون معهم في الجيش ... ونظرًا لتوزع قوة الحكومة في جميع دوائر القطر لحفظ الأمن فسيكون جهد الجيش الإنجليزي مع قوة الأمن العادية في الإسماعيلية قاصرًا علي عدم إعطاء المرشد العام أغلبية مطلقة من الأصوات ... فيعاد الانتخاب بينه وبين أحد المرشحين الآخرين ، وهنا في الإعادة تتاح الفرصة لحشد أكبر قوة ممكنة من قوات بوليس الحكومة المصرية للتعاون مع الجيش البريطاني تعاونا يكفي لإسقاطه . وينبغي أن يكون معروفًا أن حكمدار – مدير الأمن – في محافظة القنال كان في ذلك الوقت انجليزيًا ،وأن شركة قنال السويس كان مقرها الإسماعيلية ، وأن قيادة جيش الاحتلال البريطاني كان مقرها الإسماعيلية ،وأن عشرات الآلاف من العمال المصريين الذين يعملون في الجيش البريطاني قد أتوا من مختلف بلاد القطر وأكثرهم من الصعيد ،وكان العامل يتقاضي من الجيش البريطاني أجرًا يعادل ضعفي ما يتقاضاه علي نفس العمل في أي مكان في البلاد .
- معركة الإعـادة :
من التجاوز في التعبير أن تسمي ما حدث في الإسماعيلية في ذلك الوقت معركة الإعادة أو معركة الانتخابات ؛ فإن الذي حدث كان حربًا أعلنتها الحكومة المصرية متضامنة مع الجيش البريطاني ضد أهل مدينة الإسماعيلية . لقد سافرت إلي الإسماعيلية ضمن عدة مئات من الإخوان من مختلف أنحاء البلاد لنشهد هذه المعركة التي توقعنا أنها ستكون معركة حامية ، لكن الذي رأيناه قد فاق كل ما خطر ببالنا ، ولولا أننا شهدنا بأعيننا لما صدقنا أن يحدث هذا الذي حدث .. وشاء الله أن تكون أكثر بلاد القطر ممثلة لتري بعينها الجريمة التي لم يحدث لها مثيل من قبل ولا أعتقد أن يحدث مثلها من بعد حتى تكون كل البلاد في مصر علي علم بما حدث . ولكي يكون القارئ في مخيلته صورة مصغرة لما حدث فسأضع تحت ناظريه بعض مناظر من أحداث ذلك اليوم .
- المنظر الأول : خرج أهل الإسماعيلية منذ الصباح الباكر متجهين إلي أماكن اللجان الموزعة في أنحاء الدائرة ليدلوا بأصواتهم ،ومع كل منهم تذكرته الانتخابية ، فوجدوا أمام مدخل كل لجنة سيارة ضخمة من سيارات نقل الجيش البريطاني تغلق هذا المدخل وتحول بين الناخبين وبين الدخول إلي اللجنة .
- المنظر الثاني : كثر عدد الناخبين بمرور الوقت أمام مقار اللجان ، ولما طال انتظارهم ولم تتحرك السيارات المعترضة ، حاولوا اقتحام السيارات للدخول فإذا بقوات ضخمة من بوليس القنال والبوليس المستقدم من القاهرة ومن جهات أخري تعترض طريقهم وفي أيديهم الأسلحة والهراوات .
- المنظر الثالث : يلجأ الناخبون إلي الأستاذ المرشد يشكون إليه فيتصل بالمحافظ فيطمئنه المحافظ ولكنه لا يعمل شيئًا فيلجأ إلي الحكمدار الإنجليزي فيتز باتريك فيرد عليه بأن عنده تعليمات من الجهات العليا ينفذها .
- المنظر الرابع : القوات الضخمة من البوليس فجأة تهاجم الناخبين المحتشدين أمام مقار اللجان وتعمل فيهم هراواتهم وتهددهم بأسلحتهم حتى تبعد بهم بعض الشيء عن مقار اللجان . ثم تطوقهم تطويقًا محكمًا . وهنا تري ناقلات ضخمة من ناقلات الجيش البريطاني قادمة وهي محملة بعمال الجيش البريطاني ، وفي سرعة جنونية تتجه إلي مقار اللجان ، وتكون السيارات المعترضة للمداخل قد أفسحت الطريق فتدخل هذه السيارة حتى باب المبني الذي به لجنة الانتخابات ، وتلصق مؤخرتها بالباب وتفرغ حمولتها من العمال فيدخل كل منهم ويقدم للجنة تذكرة باسم ناخب من ناخبي اللجنة ، ورئيس اللجنة وأعضاؤها يعلمون أن أحدًا من هؤلاء العمال لا يحمل بطاقة انتخابية باسمه بل ليس منهم من يعرف الاسم المكتوب في البطاقة التي يقدمها ،وكل ما لقنه هؤلاء العمال هو أن ينتخبوا الاسم الذي حفظوه وهو اسم المرشح المنافس للأستاذ المرشد .
- المنظر الخامس : بعد أن تفرغ السيارة حمولتها تظل في وضعها حتى تؤدي الحمولة المهمة المكلفة بها ثم ترجع الحمولة إلي مكانها في السيارات حتى إذا امتلأ رتل السيارات التي جاءت معًا ينطلق الرتل دفعة واحدة خارج مقر الدائرة وفي سرعة جنونية بين صفوف جنود البوليس حتى تختفي عن الأنظار داخل المعسكرات البريطانية ؛ وبعد قليل يأتي رتل آخر ويمثل الدور نفسه .
- المنظر السادس : يدخل الأستاذ المرشد مقر إحدى اللجان ويضبط بنفسه أمام أعضاء اللجنة مائة تذكرة انتخابية مزورة يحملها غير أصحابها من هؤلاء العمال ، ويقدمها لوكيل النيابة فلا يتخذ وكيل النيابة أي إجراء سوي أنه يتسلم التذاكر قائلا إنه سيجري تحقيقًا دون أن يفعل شيئًا .
- المنظر السابع : أمام هذه المهازل وهذا الإجرام لم نتمالك نحن – الإخوان الزائرين – أعصابنا فوجدنا أنفسنا نهاجم سيارات الجيش البريطاني المحملة بالعمال ونحاول منعها من دخول اللجان ، فإذا بقوات البوليس تهاجمنا بقيادة فبتز باتريك الحكمدار ، وقد رأيت هذا الحكمدار الإنجليزي يأمر الجنود بحملنا في سيارات نقل جاءوا بها وحملت أنا شخصيًا مع مجموعة من الإخوان إلي إحدى هذه السيارات وسط مناقشات حادة بيننا وبين هذا الحكمدار . وبعد أن دخل رتل السيارات القادم من المعسكرات البريطانية والذي كنا نهاجمه إلي مقار اللجان أمر هذا الحكمدار بإطلاق سراحنا .
- المنظر الثامن : عند انتصاف النهار ، قرر الإخوان أن يقوموا بعمل عنيف قد يؤدي إلي وقوع ضحايا من الجانبين ، ويبلغ ذلك مسامع الأستاذ المرشد فيحضر حيث يجتمع الإخوان وينهي إليهم رأيه بعدم موافقته علي هذا الإجراء ويقول : إن دماء الإخوان أعز عليه من أن تسفك في سبيل معركة مهما بلغنا في أهميتها فإنها لا تعدو أن تكون معركة جانبية .
ولكن أهمية هذه المعركة الجانبية أنها كشفت لنا بوضوح حقيقة الاستعمار الذي يجثم علي صدر بلادنا وحقيقة ساستنا الذين يتظاهرون أمام الشعب بالوطنية وهم في السر قد تعاقدوا مع الإنجليز علي أن يكونوا مطايا لهم وتعالا في أقدامهم يدهسون بها رقاب الشعب المسكين . وينقضي هذا اليوم الأخير ... وتعلن نتيجة الانتخابات بسقوط المرشد العام في الدائرة التي يعلم كل مصري وكل عربي بل ويعلم العالم كله أن هذه الدائرة هي عقر داره ، وأن رجالها ونساءها وأطفالها لا يهتفون إلا باسمه ويؤثرونه علي آبائهم وأمهاتهم .
موقف مسرحي للانجليز
بدت إقالة الملك لوزارة الوفد يوم إقالتها وكأنها انتصار الملك ... لا لأنه أقال وزارة وفدية – فقد أقال من قبل وزارات وفدية – وإنما لأن وزارة الوفد التي أقالها هذه المرة كانت مؤيدة تأييدًا سافرًا من الإنجليز ، ولازال اقتحام الدبابات البريطانية سور قصر عابدين لإرغام الملك علي استدعاء النحاس للحكم ماثلا في الأذهان ... فكأن الملك وقد تمكن من إقالة هذه الوزارة قد انتصر علي الإنجليز وتغلبت إرادته علي إرادتهم ... ويبدو أن الإنجليز كانوا راغبين في إيهام الشعب بهذا المعني فتظاهروا بأنهم غلبوا علي أمرهم ... وتركوا وسائل إعلامنا تبرز هذا المعني أيضًا حتى استقر ذلك في نفوس الشعب . وقد استطاع الإنجليز – بهذا الموقف المسرحي – تحقيق الأهداف التالية :
الهدف الأول : أنهم حطموا الوفد باعتباره الهيئة الشعبية المسيطرة ، فقد دخل الوفد الحكم وله في نفوس الشعب الحب والإعزاز . وغادره فاقدًا هذا الحب والإعزاز وحل محلهما البغض والمرارة حيث عانوا في ظل حكمه شظف العيش وقسوة الحياة نتيجة ندوة مواد المعيشة ، واستيلاء الجيش البريطاني علي أطيابها ثم تسلط أتباع الوفد من كبار الموظفين والتجار علي البقية الباقية من هذه المواد بالسلب والنهب والاستغلال .. وهو الهدف الذي أشرنا إليه من قبل عند مناقشتنا لحادث 4 فبراير سنة 1942 ... ولا يخفي أن الطريقة السافرة التي اختارها الإنجليز في 4 فبراير لتمكين الوفد من الحكم هي في حد ذاتها قد زلزلت ثقة الكثيرين في الوفد – لكن ما ارتكبه الوفد من أخطاء في أثناء حكمه قد أتت علي البقية الباقية له في النفوس ... وربما كان إحساس الوفد بنجاح سياسة الإنجليز في إفقاده ثقة الشعب هو الذي دفعه بعد ذلك إلي تغيير سياسته التقليدية في معاداة الملك وإبدالها بسياسة التزلف إليه والتملق له .
والهدف الثاني : أنهم رغبوا في إنساء الشعب مرارة ما استقر في نفوسهم من آثار الاعتداء والصلف وامتهان الكرامة فيما اتخذوه من إجراء يوم 4 فبراير سنة 1942 .. وقد رأوا أن ظهورهم بمظهر المستكين المغلوب علي أمره أمام السلطة الشرعية الممثلة في الملك مسحًا لهذه الوزارة أو تخفيفًا منها علي الأقل . ويبدو أن هدف الإنجليز في هذا الصدد قد تحقق إلي حد كبير ، فقد كنت تسمع من الكثيرين في مختلف الأوساط يوم إقالة وزارة الوفد كلامًا فيه معني الشماتة في الإنجليز .
والهدف الثالث : أنهم أرادوا أن يهيئوا جوًا يجعل الشعب علي شوق لاستقبال الوزارة القادمة استقبال الأبطال المتقدمين ، الذين جاءوا رغم أنف الإنجليز ليمسحوا عار يوم 4 فبراير سنة 1942 وليردوا للشعب كرامته وشخصيته .
وهذا ما تحقق فعلا كذلك ؛ فقد بدأ للناس كأنما استرد الملك كرامة الشعب في شخصه ، كما بدالهم كأنما جاء الملك متحديًا سلطة الإنجليز بالرجال الذين هم أعداء الإنجليز ، بدليل أن الإنجليز يوم 4 فبراير سنة 1942 قرروا إبعادهم عن الحكم ... إذن فمرحبًا بهم رغم أنف الإنجليز ... وتظاهر هؤلاء الرجال بأنهم جاءوا إلي الحكم لإنقاذ الحرية رغم أنف الإنجليز .
- انكشاف المؤامرة بين الإنجليز والسعديين :
خدع الشعب تمامًا أمام مكر الإنجليز ونفاق السعديين ... والشعب معذور في أن يخدع فقد أحكم الإنجليز خططهم ، واستطاع الملك وأنصاره السعديين أن يتقنوا تمثيل الدور الذي رشحهم الإنجليز لأدائه ، ولم يكن الشعب يعلم شيئًا عما كان يدور خلف الكواليس قبل أن تفتح أمامه الستارة ليري علي المسرح هؤلاء الرجال وعلي رأسهم الملك وقد ظهروا وبأيديهم سيوف تقطر دمًا مدعين أنه دم الإنجليز المعتدين . ولم يفطن الشعب إلي أن ما رآه علي المسرح لم يكن إلا خدعة كما هو ضحيتها ، ولم يبدأ يسترد وعيه شيئًا فشيئًا ، ويفهم ما كان يدور خلف الكواليس إلا بعد أن صدمته فاجعتان .
أولاهما : انتخابات الإسماعيلية وما أثبتته من أن تسلط الإنجليز وتبجحهم يوم 4 فبراير سنة 1942 لم يكن أوقح ما عندهم إذ أنهم كانوا في انتخابات الإسماعيلية أكثر تسلطًا وأشد وقاحة وتبجحًا . ففي يوم 4 فبراير سنة 1942 لم يجدوا معاضدة في عدوانهم من السلطة الحكومية ممثلة في بوليسها ورجال إدارتها ، أما في الإسماعيلية فقد وجد العدوان الإنجليزي من بوليس الحكومة المصرية ورجال إدارتها ورئيس حكومتها عونًا بل خدمًا يحمون عدوانه ، ويتهافتون علي نيل الخطوة لديه ... في 4 فبراير كان عدوان الحكومة البريطانية موجها إلي الملك وإلي حفنة وراءه من صنائعه البشوات سدته شهواته وخدام نزواته ، ومطلب الإنجليز كان استدعاء الحزب الشعبي للحكم أي أنه كان مطلبًا في ظاهره علي الأقل في جانب الشعب ... أما في الإسماعيلية فقد كان عدوان الإنجليز مؤيدًا بالملك وصنائعه السعديين ، موجها توجيهًا مباشرًا ضد الشعب نفسه ... مما لم يدع للشعب مندوحة للتعليل أو للتأويل أو لحسن الظن في أن هذه المظاهرة التي قام الملك بتدبيرها مع أذنابه للسعديين لم تكن إلا خدعة للشعب ، واستخفافًا بعقليته ، واستهتارًا بفهمه ووعيه ... ولم يدع عند الشعب أدني شك في أن هذه الوزارة السعدية وعلي رأسها الملك ليست إلا طليعة حقيرة للانجليز .
ومن سوء حظ الإنجليز وأذنابهم أنهم ظنوا أن معركة انتخابات الإسماعيلية لن تكون أكثر من معركة في دائرة من ثلاثمائة دائرة أو نحوها لن يشعر بما يدور فيها إلا أهل المنطقة .. ولم يدر بخلدهم أن جميع دوائر القطر ستكون ممثلة يوم الانتخابات في هذه الدائرة ، وأن هؤلاء الممثلين سيرجعون في اليوم التالي إلي بلادهم ويروون لأهل هذه البلاد ما شاهدوه بأعينهم من مآس واعتداء وإجرام . وهكذا استيقظ الشعب المصري في اليوم التالي علي فهم جديد ، ووعي جديد ، ونظرة جديدة إلي الناس وإلي الأمور وإلي الحكومة التي جاءت إلي الحكم باسم حكومة التحرير والإنقاذ ، تحرير الشعب من ديكتاتورية الوفد ، وإنقاذ شرف البلاد وصمة 4 فبراير سنة 1942 .
أما ثانية الفاجعتين التي استيقظ الشعب علي دويها فهي حيرته لم سحب الإنجليز تأييدهم لحكومة الوفد التي ضحوا في 4 فبراير سنة 1942 بجانب كبير من سمعتهم في سبيل إسناد الحكم إليها ، ثم نقلوا تأييدهم إلي الجانب الآخر الذي داسوه بأقدامهم في ذلك اليوم ؟ ...
ظلت الحيرة مستبدة بأفكار الشعب ، لا يجدون لها تعليلا ، حتى استقرت الأمور لهذه الحكومة ، وحظيت بمجلس نواب صنعته بيديها بالمواصفات التي حددها الإنجليز ، حينئذ انطلقت القنبلة التي أفاق علي دويها الشعب من حيرته ، حيث استبان له ما كان ملتبسًا عليه ، وظهر له ما كان مستورًا عنه وتكشف السر الذي كان في طي الكتمان بين السعديين وبين الإنجليز وكان ذلك حين أعلنت الوزارة السعدية برياسة أحمد ماهر الحرب علي المحور (ألمانيا وإيطاليا) . وقد سبقت الإشارة من قبل إلي أن الإنجليز منذ أعلنوا الحرب علي ألمانيا سنة 1939 وهم يلحون علي الحكومات المصرية المتعاقبة أن تعلن الحرب علي ألمانيا تنفيذ البنود معاهدة سنة 1936 فقد ألحوا في ذلك علي وزارات علي ماهر وحسن صبري وحسين سري ولكن ما كانت هذه الحكومات تري أن لا مصلحة مطلقا في إعلان الحرب علي دول لم تمسنا بأي نوع من أنواع الاعتداء ، فإنهم جميعًا أصروا علي رفض هذا الطلب حتى صار رفضه سياسة عامة للدولة يقف وراءها الشعب كله بجميع أحزابه وطوائفه .
حتى وزارة الوفد التي جاء بها الإنجليز في 4 فبراير سنة 1942 عجز الإنجليز عن إخراجها في اتخاذ هذا القرار .. ويبدو أن هذا كان هو السر الحقيقي وراء تخلي الإنجليز عن تأييدها آخر الأمر لاسيما بعد أن عقدوا في الخفاء الصفقة مع السعديين . وجاء أحمد ماهر مطمئنًا إلي تأييد الإنجليز ، متحديًا إرادة الشعب التي أجمع عليها بكل طوائفه متجاهلا شعوره وعواطفه ، وأعلن الحرب علي المحور ، ظنًا منه أن تأييد الإنجليز يحميه من غضب الشعب ، ولكن غضب الشعب كان أقوي مما يظن ؛ إذ قام شاب فدائي من غمار هذا الشعب الغاضب اسمه محمود العيسوي يعمل محاميًا فأفرغ فيه طلقات أردته قتيلاً ، ولما سئل محمود العيسوي في التحقيق عن الدافع الذي دفعه إلي قتل أحمد ماهر قال بصريح العبارة : إعلانه الحرب علي المحور وما قد يجره ذلك علي البلاد من دمار في حرب لا ناقة لنا فيها ولا جمل .
- أحمد ماهـر :
إذا وصل الرجل في قومه أو في دولته بأية وسيلة من الوسائل إلي مركز الصدارة سواء أكان هذا المركز شعبيًا أو رسميًا فقد أصبح من حق الناس في قومه أو في بلده أن يتعرفوا علي تاريخه ، وأن ينقبوا عن دفائن أسراره ،وأن يتعقبوا ما يستخفي به من مسلك بالليل وما يعلن به في النهار ، حتى يكشفوا عن حقيقة أمره ، ويميطوا اللثام عن كنه شخصيته . وإذا كان لكل قوم خصائص ومثل ، وهذه الخصائص والمثل قد تختلف من قوم لقوم ومن شعب لشعب ، فلقد رأينا شعوبا أوربا وأمريكا لا يقوم فيهم زعيم ولا يتصدر رياستهم رئيس إلا كشفوا من أمره – علي ضوء هذه الخصائص والمثل – ما يجعلهم علي بينة من حقيقته ، فإذا رجحت كفته رفعوه إلي مكان الصدارة بأكتافهم ، وحاطوه بقلوبهم ، وإذا خفت موازينه وكشفوا زيف قذفوا به مع أمثاله المضللين إلي غياهب النسيان .
وما أخال الإسلام – باعتباره دعوة عالمية – كان بدعًا من الدعوات في هذه القاعدة السليمة والطبيعة المستقيمة فلقد تتبع القرآن شخصية محمد صلي الله عليه وسلم التي رشحها لقيادة الدنيا إلي يوم القيامة تتبعًا وصل به إلي أدق أسراره الشخصية في بيته مع نسائه . وجعل البحث في مثل هذه الأسرار من حق الأمة التي رشح لقيادتها .. ولا أعتقد أن شخصية من شخصيات العالم مهما بلغت خطورة المنصب الذي أسند إليها أو الزعامة التي سيطرت بها قد أبيح لشعبها أن يعرف من أسرارها الخاصة عشر معشار ما عرف الشعب الإسلامي في أنحاء العالم من أسرار محمد صلي الله عليه وسلم . ومعذرة في هذه المقدمة التي ذهبت بنا بعيدًا عن واقع الحال الذي نعالجه في مذكراتنا هذه عن بلادنا المقبولة الحظ ، المسلوبة الإرادة ، المجني عليها دائمًا .. فقد انفردت الأحزاب بهذا الشعب الطيب ، وشكلت تفكيره بالشكل الذي يرضيها ، فهو لا يتلقي معلوماته إلا منها ، ودرج – كما علمته – علي أن يتلقي ما يتلقاه منها علي أنه حقائق لا يأتيها الباطل من بين يديها ولا من خلفها .
ولا أنكر أنه قد أتي علي وعلي أترابي حين من الدهر كنا ضمن هذا الشعب المغرر به ، فكنا نتلقن من حزب الوفد المعلومات التي تبرز لنا أحمد ماهر هذا في صورة البطل ، وفي صورة الإنسان المثالي .. حتى إذا انفصل عن الوفد وكون ما يسمي بحزب السعديين ، وماء الوفد بجميع النقائض ونسب إليه كل العيوب وجرده من كل المزايا .. واقتنع الشعب بذلك مع أنه كان مقتنعًا بالأمس بعكسه . هذا منطق لا يقره عقل ولا يسيغه ذوق ... ولكن علي هذا درج شعبنا المضلل ، وبهذا الأسلوب السقيم ارتضي لنفسه أن يسير في الحياة معصوب العينين مشلول الإرادة وفي أذنيه وقر ومن بينه وبين الحقائق حجاب .
أما والإخوان المسلمون أصحاب فكرة مضيئة ، ومنهج واضح المعالم ، وغاية بينة القسمات فإن الفرد منهم لا يضل ولا ينحرف لأن ميزانه بين يديه لا يفارقه لحظة ، يزن به كل شخص من تصرفه ، ويقيم ما يقابله من أفكار ومناهج وأهداف ، وصدق الله العظيم " ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ولكن جعلناه نورًَا نهدي به من نشاء من عبادنا ، وإنك لتهدي إلي صراط مستقيم " . في فترة الثلاثينيات وأوائل الأربعينات كان المتخرجون – كما أسلفنا – في مختلف الكليات لا يكادون يجدون – مع الوساطات – وظائف – حتى باليومية ، وكان الواحد منهم يظل السنوات ذات العدد لا يجد عملا .. وكان الأخ طاهر عبد المحسن قد تخرج في كلية التجارة قبلي بسنة أو سنتين وظل هو وزملائه يبحثون عن عمل ... وتصادف أن أعلنت وزارة المالية عن وظائف عندها لحاملي بكالوريوس التجارة ستجري مسابقة للمتقدمين منهم لهذه الوظائف ؛ فتقدم الجميع آملين أن يكون لهم من هذه الوظائف نصيب .
ثم أعلنت الوزارة عن المسابقة وحددت لها تاريخًا وساعة في ذلك التاريخ . كما حددت مكانًا معينًا هو ديوان وزارة المالية ؛ فاستعد طاهر لهذه المسابقة . فلما جاء اليوم المحدد فوجئ طاهر بأن هذا اليوم المحدد بالتاريخ يوافق يوم الجمعة وأن الساعة المحددة هي الساعة الثانية عشر ظهرًا ... ومعني هذا أن الذين سيحضرون هذه المسابقة سيتركون صلاة الجمعة ، فاغتنم طاهر لذلك وعزم علي أن يذهب قبل الميعاد بساعة إلي ديوان الوزارة ليتقدم بشكوى إلي الوزير ضد هذا الموظف المستهتر الذي حدد هذا الميعاد ، ويطلب منه تأجيل هذا الميعاد حرصًا علي أداء صلاة الجمعة ... وذهب طاهر إلي ديوان الوزارة ، واستفسر عن اسم الموظف الذي حدد الميعاد ففوجئ بأن الذي حدد الميعاد هو الوزير نفسه ، وأنه هو الذي سيمتحن المتقدمين للمسابقة بنفسه .. فطلب مقابلته فلما دخل عليه شكا له طاهر أن هذا الموعد سيضيع علي من يحضرون المستبقة صلاة الجمعة وطلب تأجيله إلي ما بعد صلاة الجمعة .. فرد عليه الوزير ردًا وقحًا فيه كل الاستهتار والاستهزاء بالدين وبصلاة الجمعة وبالصلاة علي اختلافها . فثار طاهر عليه ولعنه وألقي بخطاب الوزارة في وجهه وخرج تاركا هذه المسابقة لهذا الوزير الوقح البذيء المستهتر ... وجاء في المساء إلي المركز العام وقص علينا القصة .
أتعرف أيها القارئ من هو هذا الوزير ؟ أنه الدكتور أحمد ماهر ....
وبأي مقياس قاسه طاهر عبد المحسن ... وبأي ميزان وزنه ؟ إنه بمقياس الفكرة الإسلامية وميزانها الذي لا يأتيه الباطل من بيد يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد . وقد شاء الله أن يكشف لنا حقيقة هذا الرجل مبكرًا ... فكثير الناس لا يصلون .. ولكن أحدهم حين يواجه بهذا يقر بخطئه وتشعر بأنه في خجل من هذا الخطأ .. أما هذا الرجل الذي هو في منصب وزير وليس فوقه سلطة تلزمه بتحديد ميعاد في وقت معين فيقوم متطوعًا مختارًا بتحديد اليوم بيوم الجمعة وتحديد الساعة بالثانية عشرة ظهرًا ... ثم يواجه بهذا الخطأ فيكشف عن أنه اختاره متحديًا شعور المسلمين الذين ينتسب إليهم زورًا وبهتانًا . مثل هذا الرجل هو ممن أشارت إليهم الآية الكريمة " وإذا ناديتم إلي الصلاة اتخذوها هزوا ولعبًا ذلك بأنهم قوم لا يعقلون " وقوله تعالي " أرأيت من اتخذ إلهه هواه وأضله الله علي علم وختم علي سمعه وقلبه وجعل علي بصره غشاوة فمن يهديه من بعد الله " .
الماسـونية
يلزمنا سياق الحديث ونحن نكشف اللثام عن شخصية أحمد ماهر أن نلقي بعض الضوء علي الماسونية حتى يكون هذا الاسم أو هذا الاصطلاح ذا مدلول عند القارئ .
ولفظ الماسون كما يفهم من لفظه الفرنسي فيه معني البناء وقد نشأت الماسونية في أوربا وأطلقت علي نفسها هذا الاسم مدعية أن الماسونيين هم البناة الأحرار وكان ذلك منذ أكثر من قرن من الزمان وهي فكرة يهودية من الأفكار التي وضع اليهود أساسها بعد أن حددوا أهدافها الحقيقية التي احتفظوا بها لأنفسهم ولكنهم أعلنوا لها أهدافاً أخري لا تمت إلي هدفها الحقيقي بسبب . فأهدافها المعلنة هي :
- " أنهم يريدون إيجاد أخوة عالمية تذوب في غمارها فوارق العقيدة والقومية والوطنية " وهذا الهدف يبدو للرجل الخالي الذهن القليل التجارب هدفاً إنسانيًا رائعًا تهفو إليه النفوس وتتهافت عليه القلوب ... إنها إخوة إنسانية رفيعة . ولكن هاك حقيقة هذا الهدف :
إن خطورة هذا الهدف إنما تكن في نصفه الأخير الذي يقول : تذوب في غمارها فوارق العقيدة والقومية والوطنية
فالإسلام إنما جاء وهدفه هو إيجاد أخوة عالمية " يأيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثي وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا " ولكن إذابة العقيدة والقومية هي بمثابة الديناميت لهذا الهدف كمن يبني صرحًا شامخًا ويضع في أساسه ديناميتًا يكفي لنسفه ونسف ما حوله من صروح ... وتوضيحًا لذلك أضرب المثل التالي :
- إذا كنت ماسونيًا مسلمًا فأخونك العالمية هذه تقتضيك أن تفضل أخاك في الماسونية ولو كان غير مسلم أو كان ملحدًا علي إخوتك في الإسلام ..
- إذا كنت ماسونيًا مصريا فأخوتك العالمية هذه تقتضيك أن تفضل أخاك في الماسونية ولو كان غير مصري علي إخوانك في الوطنية .
- إذا كنت ماسونيًا عربيًا فأخوتك العالمية هذه تقتضيك أن تفضل أخاك في الماسونية ولو كان غير عربي علي إخوتك في القومية العربية .
ومعني هذا بأسلوب أوضح إذا كنت عربيًا مصريا مسلمًا وكنت ماسونيًا وطلب إلي المصريين مقاتلة الإنجليز المستعمرين لإخراجهم من مصر فإذا رأيت هؤلاء الإنجليز المستعمرين لبلادك إخوانًا لك في الماسونية فعليك في هذه الحالة أن تفضل هؤلاء الإنجليز عملي بني وطنك وأن لا تقاتلهم بل عليك أن تعمل علي ما فيه مصلحتهم وإن كان في ذلك قضاء علي مصالح بلادك وعلي تحريرها . وإذا قيل لك إن اليهود في فلسطين قد قتلوا المسلمين والنصارى وانتزعوا أرضهم وعليك أن تقاتلهم ثم وجدت أن هؤلاء اليهود إخوان لك في الماسونية فهم عندك أفضل من المسلمين والنصارى أصحاب البلاد وأصحاب الأرض وأصحاب الحق وكنت في جانب اليهود وضد أهل دينك وقوميتك وأهل الحق . ومعني هذا المستوي الواقعي شعبًا تنتشر فيه الماسونية سيكون شعبًا متخاذلاً متفككًا لا يدافع عن نفسه ولا يطالب بحقوق وطنه ولا يستجيب لنداء دينه .
فإذا كان أفراد من الماسونيين في هذا الشعب المهيض الجناح ذوي مناصب مرموقة وذوي نفوذ وسلطة فإنهم سيكونون أشد بلاء علي بلادهم وعلي قومهم وعلي دينهم لأن ماسونيتهم تهيئ لهم فرص التواطؤ مع الأعداء علي بلادهم وقومهم ودينهم ، إذا ما كان هؤلاء الأعداء من الماسونيين وواضعوا أسس الماسونية تواطئوا في وضعها مع الطبقات الحاكمة في دول أوربا علي أن تكون الماسونية في خدمة أغراضهم وعلي أن يكون الشرق الإسلامي بما فيه من كنوز وخيرات هدية تقدم إليهم بين يدي أطماعهم واستغلالهم ، ففي عصر الاستعمار الذي كانت انجلترا فيه رائدة ركبه كان رؤساء وزارتها خارجيتها من الماسونيين ، فهم يخدمون أغراض اليهودية العالمية من ناحية باعتبارها صاحبة الفضل عليهم وعلي بلادهم ولأنها من ناحية أخري هيأت لهم عن طريق الماسونية بلاد الشرق ليلتهموها لقمة سائغة علي أساس نشرهم الماسونية في ربوع هذا الشرق الغافل .
الطريقة العملية للماسونية : وليست للماسونية نظريات تدرس ويتجادل حولها ولا أفكار صاغها مفكرون لمجرد أن تكون غذاء فكريًا كدأب النظريات والأفكار التي تمخضت عنها عقول الفلاسفة ، بل إنها نظام عملي وضع للتنفيذ من أول يوم وضع فيه والذين وضعوه حاكوا بوضعه مؤامرة خطيرة ضد نظام هذا العالم المتماسك لتقويضه من أساسه وتحويله إلي ألعوبة فاقدة الإرادة في يد اليهودية العالمية التي هانت علي نفسها وعلي العالم ، فلا هي بعددها المحدود تستطيع أن تخضع العالم لإرادتها ، ولا هي مستطيعة أن تقنع بنصيبها في الحياة باعتبارها أقلية من الأقليات . وإذن فلا سبيل أمامها لتحقيق أطماعها إلا بحبك مؤامرة لتفكيك أواصر هذا العالم حتى تتمكن من تحقيق أطماعها وترضي دفين أحقادها . ويقوم النظام الماسوني علي السرية المطلقة وعلي أساليب الإيحاء والإحاطة بهالات من الأوهام وعلي الرموز والألقاب التي اشتق أكثرها من المعابد اليهودية .
وقد لا يكون هذا مقام تفصيل لهذا النظام ، وحسبنا مجرد الإشارة إلي أسسه التي يقوم عليها حتى تتاح فرصة للإفاضة في شرحها ، ولنعد إلي الحديث عن الشخصية التي تطرق الحديث عنها وإلي إلقاء بعض الضوء علي الماسونية وآثارها في بلادنا فنقول :
إن الماسونية قد غزت مصر والبلاد العربية منذ أواخر القرن الماضي وأوائل هذا القرن وساعد علي غزوها هذه البلاد وجود الاستعمار ووجود جاليات من اليهود بعضهم من أهل البلاد وبعضهم الآخر قدم من أوربا ... وكان هؤلاء اليهود لاسيما الأجانب منهم هم نواة المحافل الماسونية في مصر والبلاد العربية (المحفل الماسوني هو النادي أو المقر الذي يجتمع فيه الماسونيون في بلد من البلاد أو في حي من أحياء عاصمة كبيرة ، وغير مسموح لغير أعضائه بدخوله وإذا دخلته صورة طبق الأصل من المعبد اليهودي حيث تري المذبح والقنابل والتراتيل والملابس الرسمية السوداء) . وقد رأي الغازون أن يكون اليهود الأجانب نواة هذه المحافل لأن هذا الصنف من اليهود كانوا يمثلون أرفع المراكز الأدبية والمادية في البلاد ففي الوقت الذي كانوا يسيطرون فيه علي اقتصاد البلاد ومرافقها كانوا يتمتعون بقسط لا بأس به من العلم والثقافة ، وكانوا باعتبارهم أجانب في بلد مستعمر طبقة متميزة يتمني الكثيرون من أهل البلاد أن يجدوا لهم مكانًا بالقرب منها .
وتهافت الكثيرون من سكان الريف علي التمسح بهذه الطبقة . فوجدت هذه الطبقة الفرصة المواتية لتختار من بين هؤلاء المتهافتين المجموعة التي جاءت الماسونية لاصطيادها . هما طائفتان :
- طائفة المثقفين ذوي الأطماع الذين لا يتقيدون بدين ولا يتمسكون بمبدأ ولا يعترفون بمثل ....
- طائفة خلاة الأذهان ، طيبو القلوب ، سريعو الاستجابة ، طبعوا الانقياد من أعيان الريف وتجار المدن .
وتكونت المحافل في أنحاء البلاد لاسيما في العواصم التي تؤثر في الحياة الاجتماعية والحياة السياسية في سائر البلاد .. والأسلوب المنبع هو أن يشعر كل هؤلاء المنتسبين إلي الماسونية من الطائفتين بمزايا ملموسة لهذا الانتساب ، فهناك في جميع المحافل إشارات سرية يتعلمونها ، فإذا دخل عضو ماسوني متجرًا أو مصنعًا أو محكمة أو إدارة حكومية وكان له حاجة يرجو قضاءها ، فما عليه إلا أن يؤدي هذه الإشارة فإذا رأي من يبادله مثلها علم أنه أخوه في الماسونية وتقضي حاجته فورًا ويقدم علي غيره مهما كان غيره أحق منه . وكثيرون من التجار والزراع والصناع والموظفين ، حسنت أحوالهم وأخذ بأيديهم إلي أعظم الأوضاع وارقي المناصب عن هذا الطريق .. وضمن قادة الماسونية بذلك وجود قاعدة عريضة لهم في أحشاء الشعب تدين لهم بالولاء وتسبح لهم بالحمد .
ولما كانت الناحية السياسية في ذلك الوقت وفي تلك البقعة من العالم هي بيت القصيد ، فقد عكف القادة الموجهون علي العناية بعدد من أفراد الطائفة الثانية لهم صلة بالأحداث السياسية ، فمهدوا لهم أسباب البروز – وكذلك إذ ذاك في أيديهم – وفتحوا أمامهم طريق المناصب العليا في الدولة حتى وصلوا بهم إلي حيث ينتهي إليهم التوجيه السياسة في البلاد ، فوجد الشعب هؤلاء يتصدرون إدارة الحكم في البلاد دون أن يعرف كيف كان وصولهم لاسيما أو الأصابع الخفية للماسونية تحرق البخور أمامهم وتنفخ في أبواق المجد من خلفهم والشعب الذي لا يدري من أمر نفسه شيئًا مأخوذ بهذه الهالات التي أحيط بها هؤلاء الصنائع المدسوسون عليه والمزورون في الانتساب إليه .
القطب الأعظم : ومن هذه الشخصيات " أحمد ماهر " فقد تولوه يافعًا وعكفوا علي العناية به شابًا وكهلا حتى وصلوا به في مراتب الماسونية إلي أعلاها فقد صار " القطب الأعظم " ، كما وصلوا به في مناصب السياسة حتى صار " رئيس الوزراء " .
وإنه لما يثير الأسف والإشفاق معًا علي شعبنا المصري وشعوبنا العربية أنها لم تكن حتى ذلك الوقت تنظر إلي الماسونية نظرة تشوبها أية شكوك أوريب بل إن بعض المنتسبين إلي الماسونية – كانوا يخرجوا علي ما تعهدوا به من الكتمان – ويذكرون لذويهم والمحيطين بهم علي سبيل الفخر أنهم ماسونيون ويجدون فيمن حولهم من يغبطونهم علي هذا المقام العظيم . والله وحده يعلم كم من المزايا حققتها الماسونية العالمية لحلفائها المستعمرين علي حساب مصالح بلادنا عن طريق هؤلاء الذين توفرت علي تغذيتهم والعناية بهم وفتح الطريق أمامهم حتى بوأتهم أعلي مناصب الدولة دون أن يحس الشعب التائه المسكين . ولم يكن أحمد ماهر وحده هو الذي تبنته الماسونية العالمية بل إن هناك كثيرين غيره قد وصلوا إلي مناصب الوزراء عن هذا الطريق ومما يؤسى له أن بعض هؤلاء كانوا من أسر ذات سمعة دينية وكانوا من علماء الأزهر الشريف ...
وننقل للقارئ هنا ما نشرته جريدة الأهرام في 20-3-1945 بعد اغتيال أحمد ماهر تحت عنوان : " وفد الماسونية السورية واللبنانية " :
" قدم إلي القاهرة وفد يمثل الماسونية في سوريا ولبنان لحضور حفل التأبين التي ستقام للمغفور له الدكتور أحمد ماهر باشا بوصفه " القطب الأعظم " للمجلس الماسوني السامي في مصر وملحقاتها وهي سوريا ولبنان والبلاد العربية – وهذا الوفد مؤلف من الأساتذة حسين اللاز وإلياس فازان وخليل النصولي وميشيل حداد ومتري الصدى – وقد نزل حضرتهم ضيوفًا علي المحفل الأكبر الوطني المصري " .
ولا أنكر أن الأيام تطورت بعد ذلك وعمل التاريخ عمله وجاء قوم ممن تعلموا في مدرسة الإخوان المسلمين ففهموا الحقائق التي يجهلها الشعب عن الماسونية وغيرها ، وتصدروا منصة الحكم في مصر أمر أو قرار بذلك دون أن يستأصلوا جذورها أو يلغوا ما خلفت من آثار جعلت الشعب يشعر حتى اليوم أنه يعيش في حياة متناقضة فالماسونية تلغي ولكن تمجيد قادتها مازال أمرًا واقعًا فالمؤسسات لازالت تحمل أسماءهم والشوارع والميادين تسمي بأسمائهم .
- علي هامش قضية اغتيال أحمد ماهر :
تولي رياسة الوزارة بعد مقتل أحمد ماهر زميله وصديقه وظله محمود فهمي النقراشي فأمر بإحالة القضية إلي المحكمة العسكرية العليا برياسة محمود منصور بك وعضوية حسن حمدي بك واثنين من العسكريين ... وقد ترافع عن المتهم علي بك بدوي فدافع دفاعًا رائعًا ،ودفع بعدم اختصاص القضاء العسكري . وتبين أن المتهم كان منتسبًا إلي شباب الحزب الوطني . وفاجأ المتهم المحكمة بأنه يطلب النقراشي شاهد نفي فسألته المحكمة عن أسباب ذلك فقال :
- أولاً : إن دولته يعلم أن الحرب كانت ستعلن هجومية وترسل قوات إلي الشرق الأقصى وأوربا ، وأن هذا الوضع تغير بعد ارتكاب الحادث .
- ثانيًا : أن إعلان الحرب كان بناء علي تدخل الإنجليز وكان أحمد ماهر والنقراشي عند السفير البريطاني في يوم الحادث مما يدل علي أن هناك تدخلا من الإنجليز في شئون مصر الداخلية .
- ثالثاً : أن النقراشي قال لي شخصيًا إن الحكم في هذه القضية سيكون رادعًا . وقام علي بك بدوي وأيد هذا الطلب
من دفع علي بك ضد القضاء العسكري : جاء في دفع علي بك بدوي بعدم اختصاص القضاء العسكري نظر هذه القضية ما يلي :
" إنه لا يجوز نزع المتهم من قضائه العاديين الطبيعيين وهم قضاة محكمة الجنايات ، وليس معني هذا أنني أشك في القضاء العسكري أو أفاضل بينه وبين القضاء العادي ، وإنما في القضاء العادي وسائل تجعل المتهم أكثر اطمئنانًا ، وفيه ضمانات لحرية دفاعه والتأني في محاكمته . وفي القضاء العادي أربع درجات هي الإحالة ومحكمة الجنايات ومحكمة النقض ومرتين في بعض الحالات . والإحالة مرحلة مهمة ؛ فقاضي الإحالة ليس قنطرة كما يراه البعض ، بل هو يملك بنص القانون تعديل وصف التهمة ، وقد يكون هذا التعديل في صالح المتهم .
ثم إن المحكمة العسكرية تستطيع أن تحكم بالإعدام مثلا غيابيًا ، وينفذ الحكم عند اعتقال المتهم دون سماع دفاعه . أما القضاء العادي فيظل الحكم مطلقاً حتى يقبض علي المتهم فيسقط الحكم وتعاد محاكمته من جديد . فالمتهم قد حرم من كل هذه الدرجات . ثم إن نظر القضية أمام المحكمة العسكرية يؤدي في النهاية بعد الفصل فيها إلي شيء من الحرج ، فقد يكون هناك وجه بنقض الحكم الصادر بالإعدام مثلا وبه أخطاء تستدعي نقضًا ، فتري النيابة حرجًا من الإشارة إلي هذا الخطأ ، كما يري دولة الحاكم العسكري حرجًا في إلغاء الحكم إذا تبين له خطوة نظرًا لصلة الصداقة الوثيقة بدولة القتيل ، فالمتهم لا يطمئن إليه كسلطة نقض نظرًا لما يربط بينه وبين الفقيد من الصلة القوية ، ولحرصه علي أن تكون العقوبة رادعة شديدة ، فهو لا يرضي لنفسه هذا الموقف ففي قبول الدفع رفع الحرج الشديد عنه " .
وكان تكوين هذه الدائرة وإسناد إلي محمود منصور بك ذا دلالة خاصة ربما وضحت هذه المذكرات ذلك في مواضع قادمة إن شاء الله حتى إن المتهم ألح في طلب إحالة القضية إلي دائرة أخري وقال إن هذه الهيئة أصدرت حكمًا في قضية مشابهة استبعدت فيه الصلة السياسية للجريمة بل اعتبرت هذه الصفة ظرفاً مشددًا ... وقد رفضت المحكمة هذا الالتماس مهما اضطره إلي التقدم بطلب رد المحكمة وقد رفضته المحكمة أيضًا .. وطلب المتهم شهادة النقراشي والنحاس وعلي ماهر ومكرم عبيد وحافظ رمضان والدكتور محمد هاشم وعبد العزيز الشوربجي وفتحي رضوان والأستاذ حسن البنا . ورفضت المحكمة هذا الطلب في أول الأمر فلما هدد علي بك بدوي بالانسحاب وافقت علي دعوتهم فلما حضروا قررت سماعهم في جلسة سرية وقد احتج علي بك علي ذلك ولكن المحكمة أصرت .
وعلي العموم فإن هذه القضية والأساليب التي اتبعت في إجراءاتها كانت وصمة عار في جبين القضاء المصري فحسبك أن تعلم أن قضية حول المتهم فيها اتجاه الحكومة الذي كان مبينًا مع السفير البريطاني من إعلان حرب العمومية علي المحور إلي حرب دفاعية وأدلي بالشهادة فيها جميع زعماء البلاد ، هذه القضية لم يستغرق نظرها أمام هذه الدائرة إلا نحو أسبوعين ،، فكأنما كانت هذه الدائرة مجرد بوق لتنطق بالحكم الذي هدد به رئيس الحكومة النقراشي المتهم عندما قابله في أثناء تحقيق النيابة معه ... وخير ما نلخص به هذه القضية وهذه الدائرة أن نثبت هنا ما ختم به الأستاذ الكبير علي بك بدوي مرافعته التي استغرقت ثلاثة أيام حيث قال :
- " وهناك كلمة أخري أريد أن أقولها وهي أنه متى تجتمع روح الفقيد وروح هذا الشاب أمام الله فإنه سيحكم بينهما بعدله المطلق دون فارق بين هذا وذاك ... وقد تقدمت لحضراتكم بدفع شكل وبدفاع موضوعي . ودفاعي في الموضوع كله ظروف تبرر إنقاذ المتهم من الإعدام ؛ فإن قضيتم علي دفعي الشكلي وحكمتم برفضه فإني سأبكي المبادئ القانونية أحر البكاء ، وإن نبذتم دفاعي وقضيتم بإعدام هذا المتهم فإن سأبكي من بعده أخلاقه النبيلة وحال هذه الأمة التعسة " .
الباب الرابع في ميدان الحلمية الجديدة
الفصل الأول : وصول الدعوة إلي قمة النفوذ الشعبي
مقدمة :
بحلول عام 1944 كانت الدعوة قد وصلت إلي أوج الذيوع والانتشار ؛ فلم يعد مكان في مصر يخلو من شعبية ، كما أصبحت الجامعة والأزهر قلعتين من قلاع الدعوة ، وصار للدعوة وجود في كل بلد عربي ، كما صارت البلاد الإسلامية الأخرى تعتبر الإخوان في مصر قيادة لها .. صار الإخوان في مصر أعلي صوت شعبي ، وصار لهم أقوي نفوذ علي مستوي الأمة بأسرها :؛ وذلك كما أشرت من قبل بفضل التكتيك البعيد المدى الذي حصن الأستاذ المرشد به خطوات الدعوة حيال الجبهات المختلفة الحاكمة . اتجه الجميع يخطبون ود الدعوة ، وينثرون الزهور في طريقها ، وحاول الكثيرون من الشخصيات البارزة أن يجدوا لهم أماكن فيها ،ولم تعد تري المركز العام في ليلة من الليالي خاليًا من وفد يمثل بلدًا عربية أو إسلامية ... حتى أبناء الأسر الأرستقراطية بدأوا يتطلعون إلي أماكن لهم فيها ، وما كان للدعوة أن ترفض أي إنسان يتقدم إليها " ولا تقولوا لمن ألقي إليكم السلام لست مؤمنًا " .
ومن النماذج الفردية التي خطبت ود الدعوة في ذلك الوقت ، وكانت ملفتة للنظر ومثيرة للاستغراب الأستاذ عباس محمود العقاد ؛ فقد كان معروفاً عنه أنه رجل يختط لنفسه في الحياة خطاً لا يلتقي مع الدعوة في يوم من الأيام .. وجدنا هذا الرجل يتقرب إلي الدعوة ويمد يده لها ، ويدعو سعيد رمضان إلي بيته ويطلب إليه أن يبلغ الأستاذ المرشد إجلاله واحترامه ،و أنه يري فيه أعظم شخصية لمصلح ، وأن هذه الدعوة هي الأمل الوحيد يجب أن تكرس له كل الجهود حتى تنقذ البلاد من الاستعمار الداخلي والخارجي . ويأتي سعيد فيبلغنا ذلك فنتعجب ، ونزداد تعجبًا حين يذكر لنا أن العقاد منفعل بالدعوة كل الانفعالات وأنه اتصل به عن طريق " مكوجي " كان يكوي الملابس للعقاد فسأله العقاد : ألا تعرف سعيد رمضان ؟.. فقال إنه يكوي ملابسه عندي وأعرفه ، فطلب إليه العقاد أن يعرفه بسعيد ... ويقول سعيد إن العقاد استخلفه أن يكثر من زيارته وأن لا يتقطع عنه لأنه يريد أن يسمع منه الكثير عن الإخوان المسلمين .
حديث الثلاثاء

ظل الأستاذ المرشد مواظبًا علي إلقاء حديث الثلاثاء من أول يوم عرفت فيه دار الإخوان سنة 1936 ، ولعله كان مواظبًا عليه من قبل ذلك ... ولقد كنت أحضر هذا الحديث في المركز العام في شارع الناصرية ولا يكاد يتـعدي عـدد الحاضرين فيه أصابع اليدين ، وقد أشرت إلي الوسائل التي كان الأستاذ يلجأ إليها محاولا جذب انتباه سكان هذه المنطقة من حي السيدة زينب إلي دار المركز العام لعل عدد من يحضرون هذا الحديث يتضاعف ،ومع ذلك كله لـم يتضاعـف . وبانتقال المركز العام إلي ميدان العتبة ازداد عدد من يحضرون هذا الحديث أو المحاضرة فكان في بعض الأحـيان يزيد علي المائة ، ولما انتقل المركز العام إلي ميدان الحلمية الجديدة في الدار الأولي تضاعف العدد فكان يصل إلي المائتين والثلاثمائة فلما اشتري الإخوان قصر آل " أبو حسين " وهو المبني المقابل لهذه الدار – ضاقـت الـداران بفـناءيهـما وحجراتهما ممن يحضرون هذا الحديث فاحتشد أكثر الحاضرين في الميدان والشوارع المحيطة بالدارين وصـار حديث الثلاثاء شيئًا آخر ؛ تحول إلي مؤتمر كالمؤتمرات التي كان يعقدها الإخوان كل عام أو كل عامين ولكنه يعقد كل أسـبوع ، ويحضره أكثر ممن كانوا يحضرون المؤتمر السنوي . وتمثل فيه شعب القاهرة – علي كثرتها – كما يفد إليه الكثيرون من الأقاليم ،وأصبحت تناقش فيه قضايا الساعة .. ولذا فإن صدي هذا المؤتمر الأسبوعي كان يتردد في جنبات جامعة القاهرة ، فيصل صداه إلي جامعة الإسكندرية ، و تجد الجامعتان تجاوبًا من الأزهر العتيد ؛ كلها تـنشد نغـمة واحـدة ، وتضرب علي وتر واحد ،وهو نفسه الذي تطرب له جنبات الوادي من أقصاه إلي أقصاه ، ثم ترتد النغمة المرسلة – بعد سياحتها الطويلة – إلي مصدرها في المركز العام للإخوان الذي صار بالنسبة لمصر مركز التنقل الذي تنتهي إليه الآمال أو مركز الدائرة ينبعث منه الإشعاع .
لقد كان ما آل إليه حديث الثلاثاء في أواسط الأربعينيات مفاجأة خلعت قلوب الإنجليز والقصر والأحزاب ... ما كانوا يعتقدون أن هذا الرجل ذا اللحية السوداء ، المدرس الابتدائي ، الذي رضي لنفسه أن يخرج مهزومًا مـن معركـته مـع الأحزاب الملكية حين قررت نقله إلي قنا ، ومن معركته مع الوفد حين قرر ترشيح نفسه في دائرة الإسماعيلية لمجلس النواب ... ما كانوا يعتقدون أنه قادر علي انتهاز فرصة انشغالهم ، بالكيد بعضهم لبعض ، فيفعل بهذا الشعب ما يشـبـه السحر حتى استطاع أن يصيره بمختلف أحزابه وطوائفه في بوتقة أفكاره وسيادته وأخرج منه صفًا كالبنيان المرصوص . لم يعد في مصر من يستطيع أن يجمع حوله كتل هذا الشعب شبابه وشيبه ، رجاله ونسائه أن يحظي في مؤتمـر مهـما حضر له شهورًا بعدد من الناس يعادل عدد من يحضرون حديث الثلاثاء كل أسبوع بغير تحضير وبغير دعوة ... حتـى الحفلات التي يقيمها الملك في ليالي شهر رمضان ويدعو إليها الشعب ليسمعوا مشاهير القراء وليجلسوا علـي الأرائـك الوثيرة وتقدم لهم أطيب المرطبات ... حتى هذه الحفلات لا تحظي بمثل العدد الذي يحضر حديث الثلاثاء بغيـر دعـوة وبدون مقاعد .
إن حديث الثلاثاء كان وحده كافيًا أن يكون مقياسًا صادقًا أقر بصدقه الجميع حكومة وقصرًا وهيئات وأحزابًا يدل علي قوة الإخوان وعلي أنهم أصبحوا من القوة بحيث لا يستطاع مواجهتهم ولا حتى منافستهم . من أراد أن يري الشعب كلـه بجميع طوائفه وطبقاته ومثقفيه وتجاره ، وصناعه وفلاحيه وعماله ورجاله ونساءه فليس أمامه إلا منصة واحدة إذا وقف عليها وتطلع من فوقها رأي هذا الشعب هي منصة حديث الثلاثاء .
الجوالة
وكما تطورت محاضرة الثلاثاء أو حديث الثلاثاء حتى صارت مؤتمرًا حاشدًا ضاقت به الأمكنة علي اتـساعـهـا ، فازدحمت بمن يحضرونه الشوارع وقوفًا علي أقدامهم الساعة والساعتين بلا ضجر ولا تأفف ، فكذلك تطورت جوالة الإخوان المسلمين حتى صارت جندًا كثيفًا يفرح لرؤيته قلب كل مؤمن ، ويحترق غيظًا وكمدًا قلب كل متكبر حقود . منذ دخل نظام الكشافة مصر ، كانت الفرق التي تنشأ لا تضم الفرقة الواحدة منها إلا صنفًا واحدًا وطبقة واحدة ففي المدارس فرق كلها طلبة وفي المصانع فرق كلها عمال . وفي النوادي فرق للطلبة وفرق أخري للعمال ؛ ذلك أن الطلبة يرون أنفسهم صنفًا أرقي من العمال فهم يستنكفون أن تجمعهم والعمال فرقة واحدة .
أما فرق جوالة الإخوان المسلمين فتري في الفرقة الوحدة الطالب بجانبه العامل ، والفلاح بجانبه المدرس ، والتاجـر بجانبه إمام المسجد ، والصانع بجانب المدرس ، والمرءوس بجانبه الرئيس والشاب بجانبه الشيخ ؛ ذلك أن هؤلاء جميعًا علي اختلاف أسنانهم ومؤهلاتهم ومهنهم وطبقاتهم الاجتماعية والاقتصادية . والثقافية لم ينخرطوا في سلك الجوالة إلا بعد أن صبروا في بوتقة الدعوة الإسلامية ثم صيغوا من جديد صياغه نزعت من نفوسهم الأنانية والأثرة والكبر والتـعالـي وأحلت محلها روح الأخوة والإيثار والتواضع والحب . وإذا كانت فرق الكشافة والجوالة في مختلف الأنحاء لا تتعدي أهدافها إسعاف غريق ومساعدة شيخ ضعيف وتجير كسر ، فإن جوالة الإخوان المسلمين كانت أهدافها أبعد من ذلك مرمي ، وأشق طريقًا ؛ فكل جوال منهم نذر نفسه أن يكون فداء للمجتمع ، ويعتبر انخراطه في سلك الجوالة طريق الإعداد ليوم الجهاد .. ولعل هذا هو الذي جعل الناس ينظرون إلي جوالة الإخوان المسلمين نظرة أخري غير ذلك التي ينظرون بـها إلي الجوالة الآخرين .
ولو أنك شاهدت عرضًا لجحافل جوالة الإخوان المسلمين وهي تخترق شوارع القاهرة في شجاعة ونظام وعلي رأسها الأخ الكريم سعد الدين الوليلي ، لأحسست بالفخر والاعتزاز أن أصبح للحق والفضيلة حمادة أشداء وجنود أوفياء . ولـم تكن هذه الجحافل قاصرة علي القاهرة وإنما كانت كل حاضرة في القطر تعتز بجحافلها وتنساب مـنها روح الفـخــر والاعتزاز بالحق إلي أهلها ، ولم تخل شعبة مهما صغر حجمها وبعد مكانها من فرقة خاصة بها تجمع شبابها وشيوخـها . ولم يكن هؤلاء الجنود يحطمون الخمارات أو يقتحمون أماكن الفجور أو يتعقبون الأشرار والمفسدين ومع ذلك فإن الفساد والفجور والشر كان يتواري خوفًا من هذه القوة التي علموا أنها من وراء الحق والفضيلة ، ولم يـعد أحـد مـمن كانـوا يجاهرون بالرذيلة يستطيع أن يرفع رأسه ، بل إن كثير من هؤلاء أقلعوا عن الشر وتابوا ، واتخذوا أماكنهم فـي صفوف هذه الجحافل ... وصدق الله العظيم إذ يقول " لأنتم أشد رهبة في صدورهم من الله ذلك بأنهم قوم لا يفقهون " وإذ يقـول " عسي الله أن يجعل بينكم وبين الذين عاديتم منهم مودة والله قدير والله غفور رحيم " وكان الأستاذ كثيرًا ما يقول " لا قيـام للباطل إلا في غفلة الحق " .
أثر الجوالة في نفوس الشعب : انقسم الشعب من ناحية تأثير الجوالة إلي الفئات الآتية هذه القوة سارعت إليها وانضوت تحت لوائها مقدمة نفسها ودمها ومالها في سبيل تحقيق هذه الأهداف السامية ، وهذه الفئة كان منها الشاب والكهل والشيخ والفقير والغني والأمي والمثقف وبعض هؤلاء كانوا من أنشط المنتسبين إلي الهيئات الأخرى والأحزاب .
وفئة أخري كانت تائهة في بيداء الحياة ، تتقاذفها الرياح وتلقي بها في كل اتجاه ، وهي لا تعرف لنفسها اتجاهًا ولا مستقرًا ، لم تجد في توهانها من يمد لها يدًا ولا من يضئ بين يديها مصباحًا ؛ حتى استفاقت علي صوت هؤلاء الجـنود برج الأرض رجًا وإلي هتافاتهم تهز القلوب هزًا فأحسوا أن بابًا كان مغلقًا قد فتح أمامهم إلي طريق أنت وأمان .. ولكثرة ما تقطعت بهم السبل من قبل خامرهم شيء من الشك فراودوا أنفسهم حتى اطمأنت فتقدموا إلي الصف واتخذوا أماكنـهم فيه وأكثر هؤلاء من الكهول . وفئة ثالثة من الشعب رضيت لنفسها من أول يوم أن تكون دائمًا في موقف المتفرج الـذي يبدي رأيه في كل ما يراه ولكنه – مهما أعجبه ما يراه واقتنع به – لا يساهم فيه ، ومهما ساءه ما يراه لا يقاومه ، فهي فئة سلبية في كل حال ... وهؤلاء حين رأوا جنود الجوالة من الإخوان ولمسوا فيهم القوة القادرة ومع ذلك لم يفعلوا ما فعـلته فرق القمصان الزرقاء من التسلط علي الناس وفرض الإتاوات عليهم ؛ أعجبوا بهم ، وكان مظهر إعجابهم التصفيق لهـم في أثناء عرضهم ، والإشادة بهم كلما ذكرهم .. وتضم هذه الفئة ناسًا من جميع الطبقات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية وهي الفئة الغالبة في الشعوب المستضعفة التي قتل الاستعمار حيويتها .
وفئة رابعة من الشعب نشأت في الرذيلة واستمرأتها حيث صارت الرذيلة مرتزقتها وتضم هذه الفئة قطاع الطـرق " والفتوات " والعاملين في دور اللهو وروادها وأبناء الأثرياء والطلاب الفاشلين الذين ألقي بهم فشلهم آخر الأمر وسط عصابات اللصوص والقتلة ... وهذه الفئة هي التي دوخت رجال الأمن وغصت بهم السجون ومع ذلك فشرهم في ازدياد ،والشعب منهم في رعب وخزف . هذه الفئة كانت نظرتها إلي جنود الإخوان نظرة واقعية ؛ أراد بأعينهم لأول مرة " فتية آمنوا بربهم وزدناهم هدي " انتظموا في هذه الصفوف تاركين أعمالهم هاجرين بيوتهم وراحتهم واضعين حياتـهم عـلي أكفهم في سبيل دعوة الإصلاح والإنقاذ فقالت هذه الفئة لنفسها : إذا كان لا يفل الحديد إلا الحديد إذن فقد آن لنا أن نـخلي الطريق لهذه القوة الجديدة وأن تدخل جحورنا حتى لا تجتاحنا جحافلها العاتية . وهذا هو الذي حدث فعلا ؛ فكان في قلب كل شرير ومجرم رهبة لا تفارقه من أنه إذا لم يكف عن شره فإن بطش هذه القوة سيصل إليه في يوم من الأيام ... ومع ذلك فإن بعض هذه الفئة من كبار عناتها كان منطويًا علي قلب سليم غشي عليه ظلام الجهل والإهمال ، فكان في ظـهور هذه القوة الجديدة جلاء قلبه وشفاء بصره فاستجاب وانخرط في سلك المؤمنين .
والفئة الخامسة والأخيرة هي فئة الحكام ومحترفي السياسة ، وهؤلاء – في بلد لا يصعد فيها المستعمر إلي سدة الحكم إلا من تواطأ معه علي صفقة خاسرة ضحيتها مصالح البلاد – هم أعداء كل إصلاح لاسيما إذا كان في هـذا الإصـلاح مظهر من مظاهر روح الجد والفتوة والشجاعة في نفوس الشباب ... ولذا فقد كانت جوالة الإخوان غصة في حلول هـذه الفئة سواء منهم من كان في سدة الحكم ومن كان خارجه . ولقد حاول من كان في الحكم منهم أن يوقف تيار هذه الـروح الدافقة بتسليط رجال القسم المخصوص بوزارة الداخلية فاستعملوا معهم كل ما في جعبتهم من أساليب حتى إنه من طريف ما حدث في هذا الصدد أن قيادة الجوالة أعلنت في إحدى المناسبات عن استعراض يقومون به فاتخذ البوليس – وكان ذلك في القاهرة والإسكندرية – جميع وسائل المنع حيث حاصروا المركز العام وجميع الشعب لكنهم فوجئوا بالاستعراض يدك شوارع القاهرة والإسكندرية في نفس الموعد المحدد ، وكان ذلك بأن القيادة أعطت أسرًا سريًا بأن يتجه كل فرد من أفراد الجوالة إلي ميدان محدد في لحظة محددة وهو بملابسه الملكية وفي حقيبته ملابس الجوالة . وفي اللحظة المحـددة كـان جميع الأفراد موجودين في هذا الميدان وأطلق القائد صفارته فخلع كل فرد ملابسه – وارتدي ملابس الجوالة وانتظـمت الصفوف وبدأ الاستعراض .
وهكذا وجد عتاولة وزارة الداخلية أنفسهم أعجز من أن يقفوا في وجه هذا التيار الإسلامي الجارف ، فأبلغوا سادتـهم الحكام ؛ فبيت هؤلاء مع أولياء أمورهم الإنجليز خططًا بعيدة المدى سنعرض لها إن شاء الله في صفحات تالية .
- مقياس في الزعامة الدينية :
بعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها ، أخذت كل دولة في إعادة النظر في شأن مرافقها وسياستها الداخـلية والخارجية . ورأت الحكومة المصرية أن تعيد النظر في سياستها التعليمية – وقررت وزارة المعارف أن تستعين بكـبار العلماء المتخصصين فتسند إلي كل متخصص الفرع الذي تخصص فيه ليدرسه ويمحصه ثم يدلي بما عنده في مؤتـمـر يضم كبار رجال الفكر يعقد في قاعة الجمعية الجغرافية بالقاهرة علي أن يخصص يوم لكل متخصص في فرعه . علمـنا نحن الإخوان بنبأ هذا المؤتمر حين أخبرنا الأستاذ المرشد بأن وزارة المعارف أرسلت إليه خطابًا تنبئه فيه بأنه قد وقـع عليه الاختيار ليدلي بآرائه ومقترحاته في التعليم الديني وحدد له اليوم لإلقاء بيانه .. كانت نفوسنا تتوق إلي حضور جميع أيام هذا المؤتمر لنستمع إلي ما يليق فيه مما لا يخلو من فائدة ولكن تكاليف الدعوة وأعباءها لم تدع لنا فرصة لذلك ، ولكن كان نزاعًا علينا أن نرافق الأستاذ المرشد في يومه المخصص ذله في هذه الجمعية .
ودخلنا القاعة التي لم نكن قد دخلناها من قبل ، فوجدناها خاصة بكبار رجال الفكر فعمداء الكليات وكبار رجال وزارة المعارف وزراء المعارف السابقون وكبار الأدباء والكتاب .. وقد لفت نظرنا عند دخولنا الردهة المؤدية إلي القاعة أن وجدنا موظفي الجمعية والمسئولين عن تنظيم المؤتمر يستقبلوننا باهتمام ظاهر وشوق عظيم ويسألون عن شخصية حسن البنا .. وفد سألتهم لم هذا الاحتفاء المثير ؟ فقالوا :
إن هذه المؤتمرات تعقد كل يوم خلال الأسبوع ولم يكن يحضر في كل يوم إلا عدد قليل من أصدقاء المحاضر أما اليوم فقد أدهشنا أن وجدنا كل رجال الفكر الذين لم يجتمعوا معًا من قبل قد بكروا بالحضور ، وكانوا حريصين علي أن لا تفوتهم محاضرة الأستاذ حسن البنا فزادنا هذا شوقاً إلي رؤية هذا الرجل الذي أجمع كل رجال الفكر علي تقديره .
ودخلنا القاعة وأخذنا مجالسنا وقام المسئول فقام الأستاذ حسن البنا المرشد العام للإخوان المسلمين ليلقي بـيانه عـن التعليم الديني .. ووقف الأستاذ المرشد علي المنصة وبدأ بحمد الله وبتحية السادة الحاضرين ثم استهل محاضرته بكـلمة هزت مشاعر الجميع حيث قال : " انتدبتني الوزارة للحديث عن التعليم الديني وليس من رأيي أن تهتم بالتعليم وإنما عليها أن تهتم بالتربية الدينية ثم أخذ في شرح الفرق بين التعليم الديني وبين التربية الدينية وقال إننا في مصر لا يعوزنا التعليم الديني فالأزهر يقوم بأداء هذه الرسالة منذ مئات السنين أما الذي يعوزنا حقاً فهو التربية الدينية . وقال : إن ملء الـرأس بالمعلومات الدينية ليس هو الذي يهذب الخلق ويوجد الوازع الذي يحث علي الخير ويبعد عن الشر وإنما الذي يؤدي إلي ذلك هو التربية الدينية التي تعتمد أول ما تعتمد علي القدوة الصالحة . وتحدث بعد ذلك عن التربية الدينية وأفـاض فـي الحديث عنها وضرب أمثلة لها من التاريخ الإسلامي .
ثم تحدث عما نسميه نحن " التعليم الديني في انجلترا " وبين أنه ليس تعليما دينيًا بل هو تربية دينية ، وشرح برامج هذه التربية الدينية في مدارس انجلترا إلي ما قبل الحرب وما أدخلوه علي هذه البرامج بعد الحرب من تعديل وبين دور الكنيسة في مدارس الأطفال ، وما أضافته وزارة التربية والتعليم في تلك البلاد من أعباء جديدة علي كاهل رجال الكنيسة إزاء هذه المدارس .. واستشهد بتقرير وضعته اللجنة الموكول إليها إصلاح التعليم في مدارس انجلترا ؛ وكان أبرز ما فـيه هـو إلحاح اللجنة علي مضاعفة الوقت المخصص للتربية الدينية في المدارس علي اختلاف درجاتها لأنه السبيل لوقاية الأجيال القادمة من الانحراف ولتأهيلها لتحمل أشق الأعباء . ثم وازن بين إمكانيات التراث الإسلامي في التربية وإمكانيات غيره من التراث والأفكار وأثبت تفوق التراث الإسلامي في ذلك وثراءه الذي لا يجاري .
وكأن الأستاذ المرشد مقدرًا أن الذين سيحضرون هذه المحاضرة هم الذين حضروا فعلا ، فقد أعدها إعدادًا يناسب هذه المستويات ، فلقد كان في محاضرته هذه أستاذ الأساتيذ حقاً ، فقد كنت أنظر في وجوه هؤلاء الجـهابذة في أثـناء إلـقاء المحاضرة فأراها مأخوذة ذاهلة ، وكأن الجميع وهم علية القوم قد نسوا مكانتهم العلمية في المجتمع وتحولوا إلي تلاميذ بين يدي أستاذهم .... وبعد انتهاء المحاضرة أقبل الجميع علي الأستاذ المرشد يصافحونه بحرارة وعـبارات الإعـجاب تترمى علي ألسنتهم .. وكان أشد الحاضرين إعجابًا الدكتور منصور فهمي عميد كلية الآداب ورائه الفلسفة في مصر .
ومع كل التوفيق وهذه الروعة وهذا الإعجاب الذي أبداه الجميع سواء بالقلب مرتسمًا علي قسـمات وجوهـهـم ، أو باللسان في عبارات ترجمات عن القلوب ، فإن القاعة لم تخل من حركات متمردة علي هذا الإجماع ، وهي وليدة حقد قديم لم تزده روعة المحاضرة إلا نفاقًا ؛ ولعل الذي دفع صاحبه إلي الحضور اعتقاده أنه سيسمع كلامًا معادًا وأفكارًا وحديـثا عتيقًا باليًا كالذي دأب الناس علي سماعه من علماء الدين ، فيشفي ذلك صدره ، ولكنه فوجئ بما بم يكن يحتسب ، فكانت منه هذه الحركة التي لم تزد في هذا الجو الروحي الرائع عن أن تكون حركة سلبية ، حيث انسحب صاحبها عـقـب المحاضرة مباشرة وخرج من القاعة ، ولم يكن السيد هيكل وزير المعارف الأسبق يستطيع أن يفعل أكثر من ذلك .. وإن كان ما بيته في نفسه أكبر : " وما تخفي صدورهم أكبر " .
- الأستاذ أحمد حسين :
بعد قيام الحرب الكبرى سنة 1939 وبعد إعلان الأحكام العرفية في مصر ، تعثرت خطوات حزب مصر الفتاة ... فلقد كان الحزب يعتمد علي الجو المفتوح ، كما قام من أول يوم علي أسلوب المجابهة المكشوفة .. وبهذا الأسلوب استطاع أن يحظي بإعجاب الشباب فجمع حوله منهم أعدادًا كبيرة .. وكان الحزب يعيب علي الإخوان الأسلوب الهادئ الذي يعتمد علي الإقناع بالغاية وأتباع أسلوب التكوين والتربية ويرميهم بالضعف والجبن حين يتركون مواجهة العواصف ويعتكفون علي التربية والتكوين . فلما فقد الحزب الجو المفتوح وجد نفسه مكتوف اليدين ، وتوقف إنتاجه ، وبدأ الذين تجمعوا حوله ينفضون عنه ، فلما أراد الأستاذ أحمد حسين أن يتدارك الموقف بدأ يتحرك كما كان يتحرك في الجو المفتوح فاعتقل ، وباعتقاله بدأ الحزب يتفكك ، فلما أطلق سراحه حاول الذين أطلقوا سراحه (الوزير فؤاد سراج الدين) أن يثيـروا حـول نزاهته الشكوك فأشاعوا أن سراج الدين منحه منزلاً ومبلغاً من المال .. ولما كانت نفوس الناس في الجو المغلق تتلقف أي كلام فقد أثرت هذه الإشاعة تأثيرًا سيئًا في الحزب فانقض أكثر الباقين حتى أقرب الأعضاء إلي أحمد حسين مثل فتحي رضوان وحمادة الناحل ، وذهب فتحي رضوان إلي الحزب الوطني وأسس مع الدكتور نور الدين طراف وبـعض مـن شباب الحزب الوطني " اللجنة العليا للحزب الوطني " وأخرج مجلة اللواء الجديد .
ورأي أحمد حسين أن يتجه بحزبه اتجاهًا جديدًا لعله يصادف من النجاح ما صادف الإخوان فأنشأ الحزب الاشتراكي الإسلامي وحاول بذلك استعادة ما فقده من أنصار لكن حزبه الجديد لم يكن أحسن حظًا منه حزبه السابق فحوله بـعد ذلك إلي الحزب الوطني الاشتراكي . وحينئذ لم ير أمامه من سبيل إلا أن يلجأ إلي الأستاذ المرشد الذي كـان يـبادله الـحب والإجلال فحضر إلي المركز العام أكثر من مرة ، وأخبرنا الأستاذ المرشد بأن الأستاذ أحمد حسين جاء لـيعرض عـلي الإخوان أن يتحد حزبه مع الإخوان ويعملاً معًا وفي اتجاه واحد كما عرض عروضًا أخري مشابهة لذلك ، ولكن الإخوان مع ثقتهم الكاملة في شخصية الأستاذ أحمد حسين وفي نزاهته واستعداده الفطري للالتزام بالفكرة الإسلامية فإنهم يـرون في شخصيات أتباعه نوعيات مهما قيل في حماسها وفي وطنيتها لا تلتقي مع الفكرة الإسلامية في كثـير من نواحيـها ، ولهذا رأي الإخوان أن يظل الأستاذ أحمد حسين في حزبه ويعمل بوحي من مبادئه علي أن يكون الإخوان من ورائه يدعمونه ويؤيدونه في كل خطوة يرونها في اتجاه دعوتهم ، وقد بر الإخوان بوعدهم ما استطاعوا إلي ذلك سبيلا .
- إحساس الوفد بخطورة الإخوان عليه :
لم يكن الوفد حتى إقالة وزارته التي وليت الحكم في 4 فبراير سنة 1942 يقيم للإخوان وزنا أكثر من أنـهم جـماعة دينية كسائر الجماعات الدينية غير أنها جماعة نشطة علي رأسها شاب طموح يريد أن يظهر ، وحسبه تحقيقًا لطموحه أن يصل إلي مجلس النواب .. وكان الوفد يثق في نفسه أنه ممثل الشعب وارثًا هذه الثقة عن مؤسسه سعد زغلـول ثـقة لا يهزها أخطر الأحداث ولا أفدح الكوارث ... ألم ينسحب من مجلس إدارته ثمانية أعضاء من مؤسسيه ولم يؤثر ذلك فيه ، بل ظل كما هو .. وكل ما حدث بعد انسحابهم أن انقلب الشعب عليهم ، وحين أسسوا حزبًا سموه حزب السعديين وأطلق الشعب علي حزبهم " حزب السبعة ونص " احتقارًا لهم وتهوينًا من شأنهم ؟ ... وحين خرج مكرم عبيد السكرتير العام للوفد علي رئيسه مصطفي النحاس وألف " الكتاب الأسود " في إظهار مثالب النحاس مؤيدًا بالوثائق والأسـانيد ثم ألـف حزبًا سماه " حزب الكتلة الوفدية " لم يؤثر ذلك فيه أيضًا بل ظل صرحه كما كان شامخًا عاليًا لا يطاول ولا ينال ، وكل ما حدث هو تضاؤل صورة مكرم عبيد وحزبه وكتابه تضاؤلا مستمرًا حتى صار نسيًا منسيًا ؟ .
وقد سقت هذه الأحداث لأبين للقارئ مدي ثقة الوفد في نفسه وأنه البنيان الشعبي الأوحد الذي لا ينال ... وأنه لا يعنيه ولا يشغل باله إذا ما رأي أو سمع عن أحزاب تنشأ أو جماعات تتكون أو مؤتمرات تعقد أو حفلات تقام .. فهؤلاء جمـيعا في نظره إن هم إلا أطفال يلعبون بجانب صرحه العظيم ، فإما أن يظلوا يلعبون حتى يشبوا عن الطوق فيشرفوا بدخـول الصرح الشامخ وإما أن يتلاشوا .. وهكذا كان ينظر الوفد إلي الإخوان المسلمين وينتظر لهم إحدى النهايتين . وقد ظـن الوفد أنه تغلب علي هذا الشاب الطموح حسن البنا حين نصحه بالعدول عن ترشيح نفسه لمجلس النواب فانتصح ، واعتقد الوفد أنه قد استطاع أن يطوي هذا الشاب وجماعته تحت جناحه ، وأنه مهما تحرك فإن مجاله منحصر تحت هذا الجناح ... ثم أقيل الوفد الإقالة المهينة التي ظل بعدها نحو عامين يجمع ما تشتت من أمره ، ويلم ما تشعث من شئونه .. فلما استفاق من غشيته واسترد رشده ويقظته استيقظ علي أحلام مزعجة .
استيقظ فوجد هذه الجماعة قد استفحل أمرها ، وتفاقم خطرها حتى غزته في عقر داره ... إن رأس ماله الذي يعتز به ويفخر ويتيه هو هذا الشعب الذي لا يعترف إلا به – ومع كل ما تضافر عليه الملك والإنجليز وأعوانهم من حيل وعنـت ومؤامرات وإغراءات لم يستطيعوا أن يمسوا نفوذه الشعبي في قليل ولا كثير – لكن هذه الجماعة قد استطاعت أن تشاركه في رأس ماله وأن تقاسمه هذا النفوذ الشعبي العتيد . والحكم علي أن زعيما أو حاكمًا أو حزبًا أو هيئة لها نفوذ شعـبي لا يكون بادعاء ذلك ، ولا بالخطب الرنانة ولا بمقالات ضافية في الصحف ولا بالمقدرة علي شراء الأصوات في الانتخابات بأموال القصر ثم الوصول إلي الحكم عن هذا الطريق ، وإنما يعترف بالنفوذ الشعبي للحزب أو للهيئة التي تستطيع وهي في صفوف الشعب أن تؤيد حكومة فتقوم فإذا سحبت تأييدها لها سقطت . وقد دخل الوفد تجربتين أيقن بعدهما أنه لم يعد هو وحده الذي يحتكر النفوذ الشعبي وأنه صاحب الكلمة الأولي والأخيرة في التوجيه الشعبي :
أما التجربة الأولي فهي حين تقدم إسماعيل صدقي طالبًا تأييد الإخوان لوزارة يؤلفها لمفاوضة الإنجليز لاسترداد حقوق البلاد ، وقطع علي نفسه عهودًا بالتزام خطة رسمها له الإخوان ، وألف الوزارة في ظل تأييد الإخوان ، وحمل الوفد عليه حملة شعواء ، واستعدي عليه الشعب بجميع أساليب الاستعداء ، لكن ذلك كله لم يهز الوزارة ولم يؤثر فيها ... فلما رأي الإخوان أن إسماعيل صدق بدأ يجيد عن الخطة التي رسموها له أعلنوا سحب تأييدهم له فقامت المظاهرات في كل مكان ،واحتل الأمن في البلاد واضطرت الوزارة إلي الاستقالة .
وأما التجربة الثانية فهي حين أعلن النقراشي عزمه علي عرض قضية البلاد علي مجلس الأمن وتصدي له الوفد لمنعه من القيام بهذه الخطوة وألقي بثقله في سبيل ذلك .. وشعر النقراشي بحرج موقفه فلجأ إلي الإخوان طالبًا التأييد فأيدوه .. وبفضل هذا التأييد استطاع أن يواجه تحديات الوفد وأن يمضي في خطوته إلي نهايتها .
تجربتان قاسيتان أقضتا مضجع الوفد ،وأحس بعدهما لأول مرة في تاريخه أنه مهدد في كيانه نفسه ، وأن سكوته علي ذلك ضياع وهلاك .. إذن فليدع الوفد كل ما كان يشغله من أمر أعدائه التقليديين من أحزاب وقصر الإنجليز وليـتفرغ للإخوان المسلمين . ولما كانت هاتان التجربتان هما صلب الجهود الوطنية التي استؤنفت عقب انتهاء الحرب العالمية الثانية حقوق البلاد في الحرية والاستقلال وإجلاء قوات الاحتلال ، فسوف نبين للقارئ في الصفحات التالية إن شاء الله دور الإخوان في هاتين التجربتين .
- خطوات عملية لاستخلاص حقوق البلاد :
أشرنا من قبل إلي أن إيذان الحرب العالمية الثانية بانتهاء كان حافزا لكل ذي حق دولي أن يستأنف المطالبة بحـقه ، وكان علي المصريين أن يهبوا مطالبين بحقوق بلادهم في الحرية والاستقلال وإجلاء الجيوش المحتلة التي جثمت علـي صدرها زهاء السبعين عامًا فوقفت حائلا بينها وبين العلم والنور والحضارة والحرية والرخاء ومزقت وحدتها فجعلتها فرقاً وأحزابًا ووأدت مواهبها التي كانت كفيلة أن تبرزها في مكان مرموق بين دول العالم وشعوبه . ولما خرجت مصر من هذه الحرب ولازال في عنقها علي معاهدة سنة 1936 فكان عليها أولا أن تحرر عنقها من هذا الغل فتنطلق بذلك في عالم الحرية مع المنطلقين .. والفترة التي ساهم الإخوان خلالها في المطالبة بحقوق البلاد بعد أن وضعت الحرب أوزارها قد استغرقت نحو أربع سنوات تولي الحكم فيها ثلاث وزارات أولاها وزارة النقراشي الأولي من مارس سنة 1945 حتى فبراير سنة 1946 وثانيها وزارة إسماعيل صدقي من فبراير سنة 1946 حتى ديسمبر سنة 1946 ثم الثالثة وزارة النقراشي الثانية من ديسمبر سنة 1946 حتى آخر سنة 1948 .
وزارة النقراشي الأولي
تولي النقراشي رياسة الوزارة خلفاً لأحمد ماهر عقب اغتياله .. والنقراشي رجل لا يصلح لكثير من المناصب لكنه لا يصلح للعمل السياسي المتشعب لاسيما في بلد مثل كثير المشاكل والمتاعب يحتاج مع الإرادة والحزم إلي المرونة وسعة الأفق وبعد النظر . ولكن هكذا كان . ورأي الإخوان أنفسهم أمام أمر واقع لا مفر منه ولا معدي عنه هو أن الأداة الرسمية التي لابد أن تطالب بحقوقها عن طريقها هي هذه الحكومة السعدية النقراشية ومما يرسي له وينبغي أن يعلمه القـارئ أن هذه الحكومة قد جاءت إلي الحكم وارثة حقد أسود علي الإخوان المسلمين عن رئيسها السابق كان ذلك الرئـيس يـطوي عليه دون مبرر .. وسأكتفي بإيراد مثال واحد ينبئ القارئ عن مدي هذا الحقد وأسبابه ودواعيه :
- حقد موروث دفين :
كانت الكفة الأخرى في ميزان السياسة المصرية في ذلك العهد التي تحاول أن تعادل الكفة الشعبية التي يمثلها ، هـي القصر متحالفاًَ مع حزب السعديين الذي يتزعمه أحمد ماهر والنقراشي وإبراهيم عبد الهادي والدكتور السنهوري ، وكان حزب الأحرار الدستوريين بزعامة الدكتور محمد حسين هيكل قد ارتضي لنفسه في ذلك الوقت أن يكون ذيلا للسعديين . ولما كانت وزارة الوفد التي تولت الحكم عقب حادثة 4 فبراير سنة 1942 قد استطاعت بأساليـبها الدعائيـة وصحافتها الواسعة الانتشار أن تنسي الشعب مرارة هذه الحادثة ، رأي القصر بعد نحو سنتين من هذه الحادثة أن يذكر الناس بها ، تأليبًا للشعب علي الوفد ، فأوحي إلي عملائه السعديين أن يدبروا خطة لذلك ....
ورأي السعديون أنهم لكي يحققوا ذلك لابد لهم من أن يتعاونوا مع الأحزاب الأخرى والهيئات المختلفة ، فاتصلوا في سرية نامة بالأحرار الدستوريين والحزب الوطني والحزب الاشتراكي ومجموعة أخري من الأحزاب والهيئات كانت موجودة في ذلك الوقت ، واستجاب الجميع إلي عقد اجتماع سري لهذا الغرض ماعدا الإخوان المسلمين الذين رفضوا في أول الأمر بدعوي أن في مجموعة الأحزاب والهيئات التي استجابت الكفاية ولا يضرهم تخلف هيئة واحدة ، لكن السعديين ألحوا إلحاحًا شديدًا فاستجاب الإخوان أخيرًا مكتفين بإيفاد أخ صغير كان إذ ذاك لا يزال طالبا بكلية الحقوق هو الأخ سعيد رمضان . وانعقد الاجتماع فعلا في ظل الكتمان برياسة الدكتور السنهوري ، وأخذ السنهوري يشرح المقصود من الاجتماع وهو أن تقوم الهيئات الحاضرة متضامنة بحركة عنيفة كظاهرة تذكر الناس بحادثة 4 فبراير سنة 1942 وبأن الوفد جاء إلي الحكم علي أسنة رماح الإنجليز ، ولا مانع من القيام ببعض التفجيرات لإيقاف حركة المواصلات لإثارة انتباه الجماهير ، ثم طلب السنهوري من ممثلي الأحزاب والهيئات الحاضرين أن يدلي كل برأيه ففعلوا وكـان إجـماعًا بالموافقة علي اقتراح السنهوري ، فتهلل وجهه فرحًا ... وكان سعيد قد طلب أن يكون آخر المتكلمين وكان فعلا أصـغر الموجودين سنًا ومركزًا اجتماعيًا ، فلما جاء دوره قال : إنني لا أوافق علي هذه الخطة ولن يشترك الإخوان في شيء منها . فكانت كلماته بمثابة ديناميت نسف الاجتماع كله لأنه كان هو مركز الثقل في الاجتماع كله .
والتفت إليه السنهوري باشا مغضبًا وسأله عن سبب رفضه . فقال سعيد :
- " يا سعادة الباشا أرجو بعد أن تحدثت في الاجتماع بكل ما في نفسك أن تعرفني بالموجودين فيد فردًا فردا ، كلا باسمه " فالفت السنهوري إلي الموجودين فوجد نفسه عاجزًا عن معرفة أكثرهم ... فقال سعيد : إن اجتماعًا علي هذه الـغاية من السرية وللاتفاق علي أعمال خطيرة لا يعرف رئيس الاجتماع أسماء الحاضرين ولا شخصياتهم ، لهو اجتماع فاشل لم يكن يستحق أن نحضره ، وما حضرنا إلا بعد إلحاحكم ، ولنثبت لكم يا سعادة الباشا – مع احترامي لشخصك – أنكم تتصرفون تصرف الأطفال . وما كان يخرج المجتمعون ، وما كادوا يصلون إلي مقر هيئاتهم وإلـي بيوتـهم إلا وأطبق البوليس السياسي عليهم واقتادوهم فرادى إلي وزارة الداخلية وواجهوا كلا منهم بما قاله في الاجتماع بالحرف الواحد ، دليلا – كما أشار سعيد – علي أنه كان من بين الحاضرين أشخاص مدسوسون من عملاء البوليس السياسي .
من آثار هذا الاجتماع : كان المفروض أن يكون فشل هذا الاجتماع دافعًا لحزب السعديين علي الإعجاب بهذا الشـاب وبالهيئة التي ربته هذه التربية ، وأن يتعلموا منه كيف يتعاملون مع الناس وكيف تعقد الاجتماعات التي يرجي لها النجاح ... ولكن هل هذا أثره في نفوس السعديين ؟ هل قالوا كما قال عمر بن الخطاب لمن أرشده إلي خطأ صدر منه " رحم الله امرأ هدي إلينا عيوبنا " وحين راجعته المرأة وهو علي المنبر فقال علي الملأ قولته المشهورة " أصابت المرأة وأخطأ عمر " ؟ هل تحلوا بصفات المؤمنين التي بينها رسول الله صلي الله عليه وسلم بقوله " الحكمة ضالة المؤمن ، يأخذها أني وجدها ولا يبالي من أي وعاء خرجت " ؟ .
لم يكن الأثر في نفوس السعديين هو هذا الأثر النبيل بل كان الأمر عكس ذلك تمامًا .... كان المر أن امتلأت نفوسهم حقدًا علي الإخوان المسلمين ،وأخذ يسيطر علي زعمائهم شعور بأن هذه الهيئة – بما رأوا من حصافة أصغر أعضائها – هي القادرة علي قيادة الشعب والوصول عن طريقه إلي قمة السلطة ، فلابد إذن من الكيد لها والعمل بكل الوسائل الشريفة وغير الشريفة علي القضاء عليها وإبادتها من الوجود ... وكان هذا الشعور من الغليان في نفوسهم حتى إنه كان يفيـض في بعض الأحيان علي ألسنتهم ، وقد فاه به رئيسهم أحمد ماهر أكثر من مرة متخطيًا حدود اللياقة والأدب أمام مجموعات من الشباب بعضهم من شباب الإخوان وهو لا يدري . وكانت أولي خطواتهم في سبيل تسميم الآبار أن ذهبوا إلـي الملك يعتذرون له عن فشل ما طلب إليهم إنجازه بأن الإخوان المسلمين هم الذين كانوا سبب الفشل ، وأنهم أعداء الملك ، وأنهم يتآمرون مع الوفد ضد الملك ... ثم عملوا علي قطع السبيل علي الأستاذ المرشد أن يقابل الملك لأن الأستاذ كان حريصًا علي مقابلته لإقناعه بدعوة الإخوان المسلمين وبأنه إذا تعاون معهم علي تحقيق أهداف هذه الدعوة فإنـه يستطيـعون أن يجمعوا الشعب حوله ، وفي ذلك تثبيت لعرشه ، وتثبيت العرش علي أسس من حب الشعب خير من محاولة تثبيته بالقوة والإرهاب . أو بالخداع والإغراء .
وقد قطع السعديون في هذا الاتجاه الحاقد الآثم أشواطاً بعيدة ، حتى إنهم تركوا الوفد – عدوهم التقليدي – جانبًا ، وجعلوا القضاء علي الإخوان المسلمين هدفهم الأوحد الذي يؤرقهم بالليل ، ويشعل النار في صدورهم بالنهار .. وكان أحمد ماهر يصرح بذلك في اجتماعاته السرية في نظره والمفضوحة أمام الإخوان في الحقيقة فيقول : لن أهدأ حتى أقضي علي هذا الرجل ... " أبو دقن " يقصد الأستاذ المرشد ، ويكيل له الشتائم القذرة . ويقول : أبو دقن ده المدرس الابتدائي .. نعجز نحن ومعنا جميع الأحزاب والهيئات عن إخراج مظاهرة مادام هو لا يريد إخراجها ؟ ما هذا الشباب المـغفل الذي وصلت به البلاهة أن يتركنا ولا يعيرنا اهتماما ويسير وراء هذا المدرس الابتدائي الحقير أبو دقن .. لابد من القضاء عليه . كان هذا السفه يبلغ الأستاذ المرشد ويبلغ الإخوان ، وكان الأستاذ مع ذلك يهون الأمر علي الإخوان ويقول : لازال عندنا أمل أن يهديهم الله وينزع من صدورهم الحقد والضغينة ويحل محلها الحب والإخاء . لكن تقرب الإخوان إليهم لم يكن يزيدهم إلا حقدًا ، وقد كنا وإياهم كما قال الله تعالي علي لسان نوح عليه السلام " إني كلما دعوتهم لتغفر لهم جعلوا أصابعهم في آذانهم واستغشوا ثيابهم وأصروا واستكبروا استكبارًا " .
- في سبيل تحرير البلاد :
مع كل ما كان يعلمه الإخوان من سوء نية السعديين ومما يضمرونه من حقد عليهم فإن الإخوان كانوا يتجـاوزن عن ذلك ويتغاضون عنه ويتناسونه حين يذكرون حق بلادهم عليهم وأن الفرصة السانحة للمطالبة بحقوقها إذا أفلتت فقد لا تعود ؛ ففي أعقاب الحروب العالمية تتغير عادة خريطة العالم فتنشأ دول وتطمس دول وترتفع دول وتنخفض دول حتـى إذا استقرت الأمور لم يعد ميسورًا إدخال أي تعديل أوضاع الدول والشعوب ... ولما كان الإخوان أصحاب دعوة تلزمهم بأن يبذلوا كل شيء في سبيل تحرير بلادهم ، ولا يمكنهم أن يحققوا ذلك إلا عن طريق الحكومة القائمة إذن فليتجـاوزوا عن كل شيء وليتعاونوا مع هذه الحكومة في سبيل تحقيق هذا الهدف الأسمى ، فكان الإخوان في ذلك كما قال أبو الطيب :
ومن نكد الدنيا علي الحر أن يري
- عدوًا له ما من صـداقته بـد
ولقد أخذ الإخوان يحثون الحكومة علي الجلد في المطالبة بحقوق البلاد في استقلال والوحدة لوادي النيـل .. ولـسنا ندعي أننا كنا وحدنا الذين يحثون الحكومة علي ذلك بل كانت جميع الهيئات والأحزاب تحث علي ذلك ولكن الـهدف كان مختلفًا فقد كان هدفنا من ذلك تبصير الحكومة وتقوية موقفها أمام المستعمر في حين كان حزب كالوفد يهدف من ذلك إلـي إحراج مركزها . ولكن الذي حدث فعلا هو أن الحكومة لم تأخذ هذا الأمر مأخذ الجد . وأخذت تسـوف وتتـهاون وتؤجل وأخيرًا تقدمت إلي الحكومة البريطانية علي استحياء وخجل بمذكرة هزيلة تشعر بأنها تطالب بما هي ليست مؤمنة به مما أطمع الإنجليز وجعلهم لا يؤدون حتى برفض هذه المطالبة الهزيلة . وقد آثار ذلك جميع الهيئات في مصر فأصدرت كل هيئة بيانًا أوضحت فيه احتجاجها علي هذا التهاون المخزي . ولما كان الإخوان يرون انتزاع البلاد المسلوبة في هذه الفرصة السانحة قضية المصير فقد عقدت الهيئة التأسيسية جلسة غير عادية استمرت يومين ناقشت فيها هذا الموضوع وأصدرت البيان التالي الذي نشر بالصحف يوم 5-2-1946 وكان البيان بيانًا مطولاً استعرض المذكرة المصرية والرد البريطاني ثم قال : الذي يلفت الأنظار في المذكرة المصرية أنها مسلك الضعف والاستجداء في أسلوبها مما يسر للانجليز التهرب من الاعتراف بحقوقنا التي أنعقد إجماع الأمة عليها :
- فأولاً : بنت الحكومة مطلبها علي تعديل المعاهدة التي أثبتت الظروف أنه لم تعد صالحة لأن تكون أساسًا للعلاقات بين الدولتين ، بل إن هذه الظروف نفسها قد فرضت بطلان هذه المعاهدة وإلغاءها إلغاء تامًا لأسباب أهمها : زوال عصبة الأمم من الوجود ، وقيام ميثاق الأمم المتحدة الذي اشتركت مصر في توقيعه ، وتغير الظروف الاستثنائية التي أبرمت فيها المعاهدة ، فضلا عما بذلته مصر من مجهود أثناء الحرب فاق ما قررته المعاهدة بمراحل كثيرة ، وفاق ما كان منتظرًا منها مما أدي إلي تغيير في مجري الحرب في جانب الخلفاء كما اعترف بذلك قادة الحرب وزعماء الدول الكبرى أنفسهم .
- ثانيًا : لم تحدد الحكومة في مذكرتها مطالب البلاد في قوة وصراحة ، وكان أولي بها وهي مصاحبة الحق أن توضح هذا الحق توضيحًا قويًا تؤكد أنه لن ترضي عن الجلاء ووحدة وادي النيل بديلا .
- ثالثًا : السودان ... شطر الوادي لقد فجع أبناء الوادي لهذا الأسلوب المتخاذل الذي صاغت فيه الحكومة مسألة السودان " مستوحية " مطالب السودانيين وأمانيهم ... وكان أحري بها أن لا تردد هذه النغمة الملتوية التي يذكرها الإنجليز علي الدوام ليفرقوا بين شطري الوادي ، ولقد أعلنا غير مرة أن مطالب السوداني وأمانيه هي بعينها مطالب المصري وأمانيه .
إن الإخوان المسلمين في أنحاء الوادي ليعلنون في قوة ووضوح أنهم لن يرضوا بعد اليوم ذلا ولا هوانًا ، ولن يقبلوا ترددًا في نيل حقوقهم ومطالبهم ، ويدعون الشعب كله أفرادًا وجماعات وهيئات أن يقفوا صفًَا واحدًا في المطالبة بهذه الحقوق والعمل علي تحقيقها أو الفناء في سبيلها .
أيها المواطنون ....
إن الإخوان المسلمين ليسجلون علي الحكومة هذا الموقف الضعيف ، ويسجلون علي الإنجليز هذه الجحود ولقد علمتنا التجارب أن الاستقلال والحرية ما كانت يومًا من الأيام صحًا يكتب أو اتفاقا يعقد لا يشفي غلة ولا يروي أوارًا ، ويهيبون بالأمة أن تستعد لجهاد متصل عنيف ، فليس للهوان بعد اليوم من سبيل . ولتعلموا أن المفاوضة وسـيلـة وليست غاية مقصورة لذاتها ، ولا يمكن أن نقدم علي الوسيلة إلا إذا أطمأننا علي أسس بينة لتحـقيق هـذه الـغاية ، فلنتعظ بالماضي ، وليحذر الساسة ألاعيب المستعمرين ، ولتتوحد الصفوف وتتحد الجهود بتوجيه وطني خالص لوجه الله والوطن .
أيها المواطنون ....
إن حقوقكم قد اجتمعت عليها كلماتكم ، وارتبطت علي المطالبة بها قلوبكم ، وهي الجلاء التام عن وادي النيل بلا مراوغة ولا تسويف ووحدة الوادي بلا تردد ولا إمهال ، وحل المشاكل الاقتصادية المعلقة بيننا وبين الإنجليز علي وجه السرعة حتى تتنسم البلاد ريح الحرية ويطمئن الناس علي حياتهم ومستقبلهم . والإخوان المسلمون حين يضعون هذه الحقوق والأهداف من رسالتهم موضع العقيدة والإيمان يرون أنها ليست مما يصح أن يكون محلا للمساومة علي الإطلاق ، وكل من حاول ذلك فهو خارج علي وطنه ، متحمل وحده تبعة عمله منبوذ من سائر مواطنيه .
ولم يكن بيان الإخوان هذا هو البيان الوحيد الذي ووجهت به الحكومة إزاء موقفها الضعيف المتخاذل بل إن كل الهيئات والأحزاب التي كانت خارج الحكم قد أصدرت بيانات بهذا المعني ولكن الحكومة كانت تتلقي بيان الإخوان بجدية واهتمام لأن الهيئة الوحيدة التي كانت قادرة علي إتباع بيانها بحركة شعبية عملية معبرة عن السخط هي هيئة الإخوان ، فكل بيان يصدر عن الإخوان يتردد صداه في جنبات الجامعة وفي أحياء القاهرة وفي مختلف بلاد القطر ، ولما كان هذا البيان قد أشعر الجميع باليأس من هذه الحكومة التي ظلت في الحكم قرابة العام دون أن تخطو خطوة جادة لاستخلاص حقوق البلاد ، فقد وقعت مصادمات عنيفة عقب صدور هذا البيان بين البوليس والشباب في القاهرة والإسكندرية في 9 فبراير سنة 1946 وكان هذا يومًا مشهودًا تكررت فيه مأساة كوبري عباس التي حدثت في 1936 والتي أشرنا إليها في مستهل هذه المذكرات ولكن الفرق بينهما كان في شيء واحد هو أن بضرب الطلبة بالرصاص فوق كوبري عباس سنة 1936 كان انجليزياً في حين أن الذي أمر بضربهم بالرصاص فوق نفس الكوبري وفي هذه المرة ويا للأسف مصريا تبرأ منه مصريته وهو عبد الرحمن عمار بك وكان المنفذ مصريا أيضًا هو اللواء سليم باشا ... وقد أصيب 160 طالبًا إصابات شديدة وفقد 28 طالبًا حيث كانوا يلقون بأنفسهم من فوق الكوبري في النيل من شدة الضرب الرصاص .
وفي نفس اليوم قامت مظاهرات في المنصورة وأسوان - وقامت قوات كبيرة من رجال البولي بمحاصرة المركز العام للإخوان ودور الإخوان بالقاهرة ومنعوا دخول الإخوان وقد أرسل وكيل الإخوان برقية احتجاج إلي جريدة المصري علي هذا الحصار محملا الحكومة نتيجة هذا التصرف الجائر فكان أن صادرت الحكومة جريدة المصري يوم 11-2-1946 . وأمام هذه المقاومة الشعبية العارمة اضطرت هذه الحكومة لتقديم استقالتها يوم 14-2-1946 فقبلت .
موقف شائن لهذه الحكومة إزاء اندونيسيا : كانت اندونيسيا وهي بلاد إسلامية تضم نحو سبعين مليونًا ترزخ تحت حكم هولندا ، فلما وضعت الحرب العالمية الثانية أوزارها فيها حركة مقاومة تزعمت هذه المطالبة وقد استطاعت هذه الحركة أن تصل إلي هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن مطالبة بإصدار قرار من هذا المجلس وإجلاء الجيوش البريطانية التي جاءت إلي اندونيسيا لتعزيز سيطرة الهولنديين الذين عجزوا عن صد مقاومة الوطنيين .. وقد تقدمت روسيا إلي المجلس باقتراح لجنة للتحقيق في شئون اندونيسيا . وكان يمثل مصر في هيئة الأمم المتحدة في ذلك الوقت الوزير السعدي ممدوح رياض ، فانظر أيها القارئ إلي ما قاله ممثل مصر في خطابه الذي افتتحت به جلسة مجلس الأمة بصدد هذا الموضوع قال " إن مثل هذه اللجنة لن تأتي بالثمرة المطلوبة .. وقال .. إن وجود القوات البريطانية هناك لا ينطوي علي أي تهديد بل إن وجودها ما هو إلا تنفيذ أوامر الخلفاء وقيادة الخلفاء العليا في الباسفيك ، وإنه لمن واجب السلطات العسكرية في الدول ذات الشأن معالجة الموقف الحالي . أما فيما يتعلق بالناحية السياسية ، فإنه ينبغي لنا أن نثق بروح التسامح والسخاء التي بيديها مندوبو هولندا ... وتكلم بعد ذلك عن الحركة الوطنية الاندونيسية فقال : أحب أن أشير إلي أن الحركات الشعبية يمازجها دائمًا الغلو وتجاوز حد الاعتدال . ويخيل إلي أنه يصعب إيجاد فارق واضح بين الحركة الشعبية وبين هذه العناصر التي تجنح للغلو . وقد تحدث المستر بيفين (وزير خارجية بريطانيا) عن الفاشية في اندونيسيا وأظن أنه لا تزال في تلك البلاد بقية من هذه العناصر . وختم بقوله " تري هل الحالة في اندونيسيا قاتمة حقًا كما تصور لنا ؟ ... " .
ولن أتعرض هنا لتعليق الإخوان علي هذا الخطاب المزري فقد ذكرت في فصل سابق جهود الإخوان العملية التي بذلوها في مؤازرة الشعب الاندونيسي التي كانت ثمرتها إعلان الجامعة العربية اعترافها الرسمي بدولة اندونيسيا مما دعا دول العالم إلا الاعتراف بها ؛ ولكنني سأعرض موقف القلة القليلة من الأعضاء الأحرار بمجلس النواب والشيوخ في ذلك الوقت الذين تصدوا لهذا التصريح الرسمي وطلبوا مناقشته . واجتري بشيء مما جاء في كلمة لفكري أباظة حيث قال : ومن عجب أن نسمع ممثل الحكومة المصرية يصرح بهذا التصريح الذي صرح به في اجتماع الجمعية العمومية لهيئة الأمم المتحدة ويقول إنه يعارض في قيام لجنة التحقيق التي اقترحتها روسيا وأن إجراءات الهولنديين إجراءات رسمية ... لقد جاء هذا التصريح ضربة قاسية علينا وعلي البلاد التي تنشدو تقدر الحرية حتى إن الصين عارضت في هذا وأيدت الطلب الرسمي وهو قيام لجنة لتحقيق ما يجري وما جري في هذه البلاد .
ونحن كزعماء للحركة العربية يجب أن نهتم جدًا بهذه المسائل وأشار إلي تصريح بدوي باشا وعلاقته بالدول العربية (كان بدوي باشا مندوبًا لمصر في الأمم المتحدة في هذه الحكومة نفسها قبل ممدوح رياض وصرح تصريحا أساء إلي العرب) ثم قال : نحن نطلب الجلاء ووحدة وادي النيل ولنا مطالب خاصة بشأن فلسطين وبشأن تدعيم استقلال البلاد العربية . فإذا كنا كذلك فيجب أن يكون ممثلو حكومتنا في تصريحاتهم مؤيدين لهذه السياسة " . وقد سقت هذه الواقعة ليعرف القارئ العقليات التي كانت تسوس هذه البلاد المنكودة ، والتي استباحت لنفسها أن تدافع عن الاحتلال البريطاني لبلد إسلامي شقيق في الوقت الذي أوهمتن الشعب المصري أنها تقوده إلي مقاومة هذا الاحتلال وطرده من بلادنا .
وزارة إسماعيل صدقي
كان إسماعيل صدقي أحد كبار الساسة المصريين القديرين وكان يري نفسه أكبر من أن يكون تابعًا لحزب ، فعاش ما عاش شخصية مستقلة إلا أنه كان يعد عدوًا لحزب الوفد ، وكان الوفد يخشي بأسه ، لأنه كان قديرًا في عمله ، جريئًا في إجراءاته .. وكان الوفد حريصًا علي تشويه كل إصلاح
يأتي عن طريقه معتمدًا علي شعبيته وعلي جهل أكثر المواطنين ، ولازالت أذكر وأنا صغير كيف شوهت مجلات الوفد مشروع خزان جبل الأولياء الذي أنشأ هذا الرجل علي النيل في السودان فتصور المجلة شخصًا مصريا يطلب كوب ماء عامل مقهى فيقدم له العامل الكوب ويقول له : بعد إتمام خزان جبل الأولياء سيكون ثمن هذا الكوب قرشًا صاغًا - وكان القرش صاغ في ذلك الوقت ثمنًا باهظًا . وتم هذا المشروع فعاد بأعظم الفوائد . وهكذا كانت الحياة الحزبية في مصر نوعًا من أنواع الدخل والاستغلال ، فهي أحزاب لا برامج لها ، وهدفها جميعًا الوصول إلي الحكم لا لشيء إلا لترشو أنصارها بالإغداق عليهم من خزانة الدولة حتى تضمن أن يكونوا بجانبها إذا أبعدوا عن الحكم أملا في الرجوع إليه مرة أخري يعوضون خلالها ما فاتهم من مغانم .
فالإصلاح مثلا في نظر حزب من هذه الأحزاب لا يكون إصلاحًا إلا إذا أتي عن طريقه ، وتم علي يديه وفي أيام حكمه فإذا تم إصلاح علي يد حزب آخر فلابد من تشويهه والتمويه عليه ، وقد أنشت وزارة للأحرار الدستوريين كان يرأسها محمد محمود باشا طريق سكة حديد وبعد مدن مديرية المنوفية وكان هذا في الحقيقة عملا جليلا ، ولكن الوفد تناول الحديث عن هذا المشروع بتهكم كاريكاتيري في إحدى مجلاته الفكاهية يظهر فيه رئيس الوزراء في شكل مثير للضحك وتحت هذا الرسم كتبت الآتي :
قربت منوفــًا من بنهـا
- وكـذا الباجـور وإسطنـها
سرس سيك قربت منهــا
- بطريق حــديد يا محـمد
ولذا فإن الإخوان كانوا حريصين دائمًا علي المطالبة بإلغاء هذا النوع من الحزبية المدمرة ، وما من مؤتمر من مؤتمرات الإخوان إلا وتعرض لهذا المعني .. ولهذا كان الإخوان أبعد الناس عن أن يقيدوا أنفسهم بالولاء لحزب من هذه الأحزاب أو بالارتباط معه أو بالانحياز إليه ، وكانت
العلاقة بينهم وبين هذه الأحزاب تتلخص في شيء واحد هو أن يؤيدوا الخطوة التي يتخذها حزب منها ويراها الإخوان في مصلحة البلاد . وبعد سقوط وزارة السعديين ورؤى إسناد الوزارة إلي إسماعيل صدقي ، وكان هذا الرجل واقعيًا ولمس في واقع الحياة المصرية أن الإخوان المسلمين صاروا العنصر الفعال والقوة الشعبية المسيطرة ورأي أنه مقبل علي مواجهة موقف خطير يتوقف عليه مستقبل البلاد الذي رشحه لهذه المهمة كان مسلمًا بهذا الواقع الجديد فترك له الفرصة الكافية للتباحث مع الإخوان في هذا الشأن .
- اتصال صدقي بالأستاذ المرشد :
اتصل صدقي بالأستاذ وكاشفه باتجاه النية إلي اختياره لرياسة وزارة غير حزبية لمفاوضة الإنجليز ، وبأنه أرجأ رده بالقبول أو الرفض حتى يعرض الأمر علي الإخوان المسلمين وينتهي معهم علي وضع معين . فصارحه الأستاذ المرشد بقوله : إن ما شاع بين الناس من تاريخك السياسي قد يبعث علي النفور منك . ولكننا نحن الإخوان المسلمين مقيدون بقول الله تعالي " ولا تقولوا لمن ألقي إليكم السلام لست مؤمنًا " فسنستمع إليك وتزن ما تقول بميزان دعوتنا .. فقال الرجل : إنني أعلم ما أشاعه أعدائي عني ، وإن كان كل إجراء اتخذته ضدهم كان له ما يبرره من وجهة النظر الحزبية المصرية التي لا تتقيد بآداب ولا يمثل ولا يخلق وإنما هي كيد شخصي بكيده فرد الفرد وحزب لحزب .. وهكذا كانت الحياة السياسية في مصر ... أما وقد تطورت هذه الحياة السياسية ونشأت فيها هذه الهيئة التي تقوم علي الدين والخلق فلا يسعني حين أتقدم إليها إلا أن أخلع الثوب الذي لبسته طول حياتي وأعلن لها توبتي وافتتاح صفحة جديدة .. والهيئة أن تأخذ علي ما تشاء من مواثيق وأن تجربتي هذه المرة .
- اجتماع الهيئة التأسيسية :
طلب الأستاذ المرشد من صدقي باشا أن يمهله حتى يجمع الهيئة التأسيسية للإخوان ويعرض عليهم الأمر ... والأمر في هذه الحالة يقتصر علي أخذ رأي الهيئة فيما إذا كانت تقبل التفاهم مع رجل مثل صدقي باشا له ماض مريب ، وقد جاء مقرًا بأخطائه ، معلنًا التوبة ، عازمًا علي افتتاح صفحة جديدة .. ودار نقاش طويل في هذا الاجتماع استمر طول الليل وانتهي بقرار من الهيئة بقبولها مبدأ التفاهم مع الرجل مادام قد جاء يريد فتح صفحة جديدة علي أسس يرتضيها الإخوان .
- الاتفاق مع صدقي علي أسس المفاوضات :
تم الاجتماع الثاني بين الأستاذ المرشد وصدقي باشا أبلغه الأستاذ المرشد قرار
الهيئة بقبول مبدأ التفاهم معه . وطلب من صدقي باشا شرح وجهة نظره فيما سيطالب به الإنجليز في المفاوضات : ثم أخذ الأستا1 يشرح له وجهة نظر الإخوان والحد الأدنى الذي لا يقبل
الإخوان بأقل منه من مطالب البلاد في الجلاء والاستقلال ووحدة وادي النيل ... ووافق صدقي باشا علي الحد الأدنى من المطالب الذي حدده الأستاذ المرشد وأعطي العهد والميثاق بذلك علي نفسه .
- اجتماع ثان للهيئة التأسيسية :
ونظرًا لخطورة الموضوع فقد دعا الأستاذ المرشد الهيئة للمرة الثانية في ظرف نحو أسبوع ليعرض عليها ما تم الاتفاق عليه من مطالب هي الحد الأدنى لما يرتضيه الإخوان ، وقد ناقشت الهيئة البنود وأقرتها ، وقررت أن يكون الإخوان وراء هذه الوزارة ما سارت في الطريق الذي حدده لها الإخوان ، فإذا ما حادت منه عنه فإن الإخوان يسحبون تأييدهم لها ويتخذون من المواقف ما تلزمهم به دعوتهم .
وأبلغ صدقي بالقرار ، وأعلن تشكيل الوزارة التي لم يشترك فيها السعديون ، وشاع في مختلف الأوساط أن هذه الوزارة مؤيدة من الإخوان ... وبالرغم مما أعده الوفد من حملات علي هذه الوزارة فإن الظروف قد استقرت لها في ظل تأييد الإخوان ،واستمرت كذلك حتى بدأت جلسات المفاوضات ، وهي المفاوضات المشهورة باسم " مفاوضات صدقي - بيفن " كان بيفن هذا وزير خارجية حكومة العمال في بريطانيا ، وكان من كبار الدهاة الماكرين .. وقد استغرق تشكيل الوزارة وإجراء المفاوضات نحو عام ، انتهي بإخفاق صدقي في تحقيق ما اتفق عليه من مطالب تعد الحد الأدنى لحفظ كرامة البلاد ... وحاول صدقي إقناع الشعب بأن التافه القليل الذي حققه هو نجاح للمفاوضات محاولا البقاء في الحكم .. وهنا أعلن الإخوان سحب تأييدهم له ، ولكنه أخذ في التشبث بأهداب الحكم إلا أنه اضطر أخيرًا إلي الاستقالة تحت وطأة موجات عارمة من المفاوضة الشعبية التي لم يسبق لها مثيل .
- بيان واضح عن موقف الإخوان من هذه الوزارة :
بعد أن لخصنا موقف الإخوان من وزارة صدقي باشا ، تعود فنتناول هذا الموقف بشيء من التفصيل نظرًا إلي أن هذا الموقف كان حدثًا تاريخيًا غير مسبوق ،ومفاجأة في عالم السياسة المصرية لم يسبق لها مثيل ، ولهذا وقف الشعب إزاء مشدوهاً وانقسم في نظرته إليه ثلاثة أقسام :
- قسم فهم الإسلام حق حيث يدور فلا تبالي أن تؤيد من رفع راية الحق وإن كان عدوًا ،ولا تبالي أن تضرب علي يد من يجادل بالباطل وإن كان صديقًا " ولا يجرمنكم شنآن قوم علي أن لا تعدلوا اعدلوا هو أقرب للتقوى " " انصر أخاك ظالمًا أو مظلومًا ، قالوا فكيف ننصره ظالمًا ؟ قال : بأن تضربوا علي يديه " .. وهذا القسم تابع خطوات الإخوان مع هذه الوزارة بكل الاقتناع منذ ظاهر الإخوان هذه الوزارة حتى عملوا علي إسقاطها .
- وقسم كانت له السيطرة الشعبية علي السياسة المصرية رأي في مساندة الإخوان لهذه الوزارة انتقاصًا من سيطرته فسخر وسائل إعلامه لتشويه هذه المساندة ،والخروج بها عن معانيها الإسلامية السامية إلي معان مادية حقيرة آملا من وراء ذلك في استعادة ما فقد من سيطرة شعبية .
- وقسم ثالث خدع بما أذاعته وسائل إعلام القسم الثاني إما لأنه كان ساذجًا لم يستطع متابعة الأحداث وتفهمها تفهما سليما ، وإما لأنه رأي في التجاوب مع ما أذاعته هذه الوسائل تفاديًا لخطر محدق به أو تقربًا من هدف يرمي إليه .
وكان القسم الثاني هو حزب الوفد الذي كان يملك من وسائل الدعاية ما لا يملك الإخوان عشر معشـاره ودوافـع الوفد إلي ذلك سنرجئ الحديث عنها حتى يجئ دورها .. وهذا القسم لا يعنينا أمره ، وليس هو المقصود بهذا التوضيح الذي نحن الآن بصدده ، وإنما المقصودون بهذا التوضيح هو القسم الثالث الذي خدعته وسائل القسم الثاني .. وإذا كان أصحاب النظرة السطحية للأمور من هذا القسم يلتمس لهم وجه العذر فهم محتاجون إلي من يأخذ بأيديهم ، فـقـد لا يلتمس وجه عذر لمن سايروا وسائل الدعاية لمجرد تفادي عقبة أمامهم أو الخروج من مأزق ، ولكننا مع ذلك سنلتمس العذر للجميع ونتصدى لإبانة واضحة لهذا الموقف تبدد ضباب اللبس وتمزق حجب الاقتران والتضليل .
ومما يدعونا إلي التوضيح والإبانة أن رجالا لهم في نفوسنا كل التقدير لم يسلموا من الوقوع في هذا الخطأ ومـن حقهم علينا أن نوضح لهم ما عساه كان خافيًا عليهم حتى يصححوا
نظرتهم ومن هؤلاء الرجال الرئيس أنور السادات فقد تعرض في كتابه " الثورة المصرية وأسبابها السيكولوجية " إلي هذا الموقف تعرضا يستحق التعليق .. فالرئيس السادات كان في خلال تلك الفترة من حكم إسماعيل صـدقي رهـين السجن علي ذمة قضية اغتيال أمين عثمان ، وما كان الرجل في مثل تلك الظروف لتتاح له فرص متابعة مواقف سياسية لم يكن أكثر مما يتصل بها يعلن علي صفحات الجرائد ... فإذا تعرض مثل هذا الرجل بعد ذلك للكتابة عن فترة كان بحق يعد غائبًا عنها ، فإنه سيستقي أنباءها من غيره ، وقد يكون هذا الغير مغرضًا .
كما لا ننسي أن نقول إن الفترة التي وضع فيها كتابه كانت فترة حالكة حرجة في سنوات 1954 وما قبلها وما تلاها كان علي الذي يريد أن يحتفظ لنفسه بالأمن من البطش والغدر أن يقدم برهانًا علي أنه ليس من الإخوان المسلمين ، فإذا كان إنسانًا مدموغًا بأنه كان علي صلة بهم والوشايات تلفه من كل جانب من هذه الناحية ، فإن عليه أن يسارع بتقديم برهان يدحض به حجج الواشين ، فإذا ما كرر قاله شاعت في وقت ما فقد يلتمس له العذر .
نظرة الإخوان إلي الأحزاب
سبق أن أومأنا إلي هذه النظرة من قبل ونعود إلي الحديث عنها بتفصيل فنقول إن هذه الأحزاب لم تكن إلا أسماء علي غير مسميات ، أنشأتها الأهواء والمطامع الشخصية ، وآلت كلها بعد قليل إلي أن أصبحت نعالا ينتعل منها المستعمر ما يشاء ليطأ بها كرامة المصريين وبرغم أنوفهم . أما نظرة الإخوان إلي الوفد ، فإنهم يرونه حزبًا قائمًا علي قاعدة شعبية بلا شك ، لكنهم لا يرون في تاريخه ما يؤهله لقيادة شعب يريد تحقيق آماله في الحرية ويصل حاضره بماضيه .... فثورة سنة 1919 كانت ثورة عارمة حقاً ، نابعة من صميم الشعب ، وقد عمت جميع مدنه وقراه وكان هدف الشعب فيها محددًا لا لبس فيه ولا غموض وهو الحصول علي الاستقلال التام الناجز وطرد المستعمر من الأراضي المصرية .. وسواء أكان سعد زغلول قد اعتلي موجه موجة الثورة أم كان هو باعثها فقد كان المطلوب منه أن يستغل هذه الثورة لمصلحة البلاد أحسن استغلال بإذكاء شعلتها إذكاء متواصلا لتظل علي اشتعالها حتى تتحقق الآمال التي قامت الثورة من أجلها ، علي أن الشعب في ذلك الوقت لم يكن بحاجة إلي من يذكي أوار ثورته ، بل كان من اليقظة بحيث لا يضمن بالتضحيات بالنفوس والأموال .
ولكن الذي حدث كان غير الذي كان متوقعا ، فقد رأينا سعدًا بدلا من أن يذكي أوار الثورة يعمل علي إخماد جذوتها ، ويستغل براعته الخطابية وثقة الشعب فيه استغلالا عكسيًا ، فيوهم الشعب أن الذي اتفق مع الإنجليز عليه من استقلال زائف مقيد بأثقل القيود هو كل المستطاع وليس في الإمكان أبدع مما كان ... ولازال الناس من الجيل الماضي السابق لجيلنا يتحدثون عن لجنة ملنر وهي تتلخص في استفتاء شعب أمي سياسيا ، مفتون بشخصية زعيم بارع أولاه ثقته ، واعتقد أنه هو وحده القادر علي تحقيق أمانيه .. فإذا كان هذا الزعيم هو الذي يخالف زملائه في الوفد الممثل لمصر .. والقابع في لندن للتعبير عن آمال الشعب ، فأكثر أعضاء الوفد مصممون علي مطالبة الشعب كاملة ، وسعد هو الذي يريد أن غير ذات الشوكة تكون له فلا عجب أن ينخدع الشعب - كدأب الشعوب البداية في الثقة بزعمائها - ويختار رأي سعد لمجرد ثقته المطلقة في شخصه . وهكذا استطاع سعد أن يميع الثورة المصرية التي قلما يتاح مثلها ، وأن يستقطبها لنفسه وأن يخمد جذوتها وأن يقف بتيارها الجارف الهدار عند حد ، وأن يحقن السياسة المصرية بميكروب خطير هو ما سمي بعد ذلك بأسلوب المهادنة والمفاوضات ، ولا يحق علي القارئ ، هذا الأسلوب إذا كان بين ضعيف وقوي ومسلح وأعزل فليس له معني إلا التخاذل والذل والاستجداء .
ولو أن البلاد في ذلك الوقت قد أتيح لها زعيم له مثل مواهب سعد ولكنه لم يؤثر السلامة وواصل الجهاد الذي أعلنه الشعب والتضحيات التي استعذبها الشعب ، لتغير تاريخ شعبنا المغبون الذي جني عليه وهو لا يدري . هكذا تكون حزب الوفد ، وحل هذا الأسلوب سار بالقضية المصرية أيام مؤسسه ، وعلي نفس الأسلوب سار خلفه النحاس حتى نسي الشعب معني كلمة الجهاد وظنها خرافة من الخرافات وكان الشعب في ذلك معذورًا لأنه رأي زعماءه يسمون المستعمر حليفًا ويتخذون الغاصب صديقاً ويطلقون القيود والأغلال ، والتي كان من أصدق ما وصفت به ما وصفها به أحد المنصفين في مقال كتبه في ذلك الوقت في جريدة الأهرام إذ شبه ما اتفقت انجلترا معنا عليه في هذه المعاهدة بما اتفق عليه أعرابي فتاك نزل عند أعرابي مسالم ضعيف وطلب منه أن يشتركا معًا في إعداد وجبة من العصيدة ، وقال له إنني لن أطلب منك شططًا فسأقسم مكوناتها بيني وبينك بالعدل علي هذا النحو :
منك الدقيق ومني النار أوقدهـا
- والماء مني ومنك السمـن والعسـل
فإذا كانت هذه هي نظرتنا إلي الأحزاب المصرية في ذلك الوقت ونظرتنا إلي حزب الوفد ، فهل نحن مقيدون بعد ذلك بأن نقيس الأمور بمقياسهم أو أن نزن الأشخاص بميزانهم أو أن نعالج الأحداث بطريقتهم ؟ هل إذا كرهوا شخصًا كان علينا أن نكرهه ، وإذا ناصبوه عداء فعلينا أن نناصبه أو قاطعوه فعلينا أن نقاطعه ؟ ولما كان " كل حـزب بـما لديهم فرحون " ظن حزب الوفد أن اختلاف معالجتنا للأحداث عن معالجته لها هو نوع من العقوق الذي يستحق العقاب ويستوجب التأديب ، لاسيما وهو لم يجرب من قبل خروجًا علي أسلوبه إلا ممن يناصبونه العداء الشخصـي ، ولما كان هو ومنافسوه التقليديون لا يعرفون للقين مكانا لا في أخلاقهم ولا في تعاملهم فقد استباح لنفسه في هجومه علينا الكذب والافتراء والزور والبهتان مستغلا في ذلك كل ما يسر له من وسائل الدعاية والإعلام .
وإذا تحددت للقارئ نظرة الإخوان إلي هذه الأحزاب فلنعرض ظروف موقف الإخوان إزاء الأحداث في خلال هذه الفترة الهامة من تاريخ مصر فنقول :
أولاً : بعد ما تعهد به صدقي باشا للإخوان من المطالبة الجادة القوية بحقوق البلاد أو التخلي عن الحكم إذا تعسرت الأمور ، كون وزارته من حزب الأحرار الدستوريين ومن المستقلين وكان صدقي باشا مضطرًا إلي إيجاد وزارة من هذا الحزب أو من حزب السعديين لأن الحزبين معًا - الأمر الواقع - يكونان أغلبية أعضاء مجلس النواب .. وعند عرض صدقي وزارته علي مجلس النواب طالبًا الثقة بها حصل بالأغلبية وامتنع السعديون عن التصويت .. وقد احتفظ صدقي باشا لنفسه بالرياسة والداخلية والمالية وكان وزير الخارجية أحمد لطفي السيد وكان تأليف هذه الوزارة في 18-2-1946 .
ثانيًا : تأييدًا لهذه الوزارة وتثبيتًا لمركزها أمام الإنجليز قامت في 21-2-1946 مظاهرات تتسم بالقوة والنظام ، وفي الوقت الذي لم تتعرض فيه قوات البوليس لهذه المظاهرات برزت فجأة قوات من الجيش البريطاني تصدت لهذه المظاهرات وهاجمت المتظاهرين المسالمين العزل بأسلحتها وفتكت بعدد كبير منهم ؛ مما أثار النفوس وزادها حقدًا علي الإنجليز ... ومن صفاقة الحكومة الإنجليزية وعدم حياتها أنها علي أثر هذه المظاهرات وما أزهقه هجومهم الغادر عليها من أرواح بريئة أرسلت الحكومة المصرية مذكرة تطلب منها الطلبات الثلاثة الآتية :
- 1 - معاقبة المسئولين .
- 2 - دفع تعويضات عن الخسائر .
- 3 - المحافظة علي الأمن .
ثالثًا : في 24-2-1946 قابل وكيل الإخوان رئيس الوزراء صدقي باشا بمكتبه بالرياسة وأطلعه علي رأي الإخوان في الموقف الحاضر وسلمه بيانًا عن الحوادث الأخيرة ورأي الإخوان فيما يجب أن يتبع حيالها ، ونورد فيما يلي نص هذا البيان :
فقد توليتم دولتكم الحكم والشعب يجتاز أدق مرحلة في تاريخه ، في الوقت الذي هبت فيه شعوب الأرض جميعًا تطالب بحريتها واستقلالها . ولقد دبت اليقظة في نفوس الأمة المصرية عن بكرة أبيها ، وقامت هي الأخرى تطالب بحقوقها المغصوبة ،وأجمعت بمختلف طبقاتها وهيئاتها علي ضرورة نيل هذه الحقوق مهما تكلفها ذلك من مرتخص وغال .
ولقد كان للوعي القومي في مصر واليقظة المشبوبة في قلوب المصريين أثر هائل تجاوبت به الأصداء في مختلف بلاد العالم ، وكان حريًا بالوزارة السابقة أن تستغل هذا الشعور القومي الرائع فتنتفع به في مواجهة المستعمرين وتستند إليه في مطالبتها بحقوق البلاد كاملة غير منقوصة ، ولكنها فشلت كل الفشل في ذلك ، وظهرت علي الأمة بمذكرتها الهزيلة الملتوية ورد البريطانيين المثير علي هذه المذكرة مما أزعج النفوس وأثار العواطف ، وكان ما كان نتيجة سوء تصرفها في سياستها الداخلية فضلا عن فشلها في السياسة الخارجية ،وإساءة ممثليها في هيئة الأمم المتحدة إلي القضية المصرية خاصة وقضية الأمم العربية والإسلامية بوجه عام .
ولقد ظلت الأمة علي يقظتها - وستظل كذلك حتى تتحقق لها أهدافها - وفي يوم الخميس الماضي قام الشعب بمختلف طبقاته من شباب وشيب وعمال يظهرون شعورهم في إجماع رائع لم تشبه شائبه ولم يدفعه غرض مستتر اللهم إلا إعلان مطالبهم المشروعة والاستمساك بحقوقهم المغتصبة
فلم يعكر صفوه معكر حتى كان هذا الحادث المؤلم إن دل فإنما يدل علي استهتار عجيب بعواطف المصريين وتحد ظاهر لمشاعرهم وإحساساتهم إذ اعتدي علي المتظاهرين من جانب الإنجليز اعتداء ظاهرًا للعيان شهده كل إنسان ، ولا شك أن التحقيق العادل المنصف سيثبت أن الإنجليز هم البادئون وأنهم هم المعتدون ، فهذه اللوريات الضخمة الأربعة التي هجمت علي صفوف المتظاهرين من الأبرياء في شارع القصر العيني فقتلت وجرحت من جرحت بلا رحمة ولا شفقة ولا هوادة كانت الشرارة الأولي التي أثارت النفوس وطيلات الألباب .
وليت الأمر وقف عند هذا الحد بل انطلقت المدافع الرشاشة من مكانها تفتك بالمصريين العزل الذين لم يجدوا ما يردعهم عنهم غوائل المعتدين ، ولولا حكمة القادة منهم وحسن توجيه أولي الأمر من رجالهم لتفاقم الخطب وعم الخطر وسادت الفوضى . لهذا يا صاحب الدولة ولما يحمه الشعب لهذه التصرفات الجائرة لا يسع الإخوان المسلمين أمام هذه الظروف إلا أن يتقدموا للحكومة المصرية بالمطالب الآتية :
- أولا : التقدم إلي الحكومة البريطانية علي وجه السرعة بمذكرة صريحة تطلب فيها الجلاء التام عن أرض وادي النيل ووحدة الوادي وحل المشاكل الاقتصادية التي تسبب عنها ما نراه اضطراب في الأسواق وكساد في التجارة وعسر مالي لا يعلم إلا الله مدي ما يجر إليه البلاد من تدهور وخطر .
- ثانيا : سحب ممثلي مصر في هيئة الأمم المتحدة وهم الذين أساءوا إلي قضية البلاد وقضايا الأمم العربية والإسلامية . وإيفاد من يمثل مصر تمثيلا صحيحًا مشرفًا .
- ثالثا : عرض القضية علي مجلس الأمن في أول انعقاد له إذا لم تستجيب انجلترا لطلب الحكومة المصرية في موعد عاجل محدد .
- رابعا : أن تطلب الحكومة المصرية من الإنجليز اعتذارًا رسميًا عن سوء تصرف الجنود البريطانيين في الحوادث الأخيرة مع دفع تعويضات مناسبة لأهالي القتلى والمصابين .
- خامسا : اعتبار المدن المصرية (القاهرة والإسكندرية وبورسعيد والسويس والإسماعيلية) مناطق حرام علي الحدود البريطانيين إلي أن يتم ترحيلهم إلي بلادهم .
- سادسا : أن تطلب الحكومة المصرية عقد مجلس الجامعة العربية بصفة استثنائية لعرض تطورات القضية المصرية عليه واتخاذ قرار حاسم إجماعي أسوة بما اتخذ في قضايا الدول الشقيقات سوريا ولبنا وفلسطين .
هذا فيما يختص بالسياسة الخارجية والحوادث التي سببها الإنجليز ، أما فيما يختص بالموقف الداخلي فيري الإخوان :
- أ - الإسراع في تحديد المسئولية في الحوادث الأخيرة التي أساءت فيها الحكومة السابقة إلي الشعب أيما إساءة حيث صادرت الحريات ونكلت بالطلبة الأطهار وأسالت الدماء الزكية ومحاكمة المسئولين والمتسببين في هذه الحوادث الخطيرة .
- ب - الاستغناء عن خدمات موظفي البوليس والجيش المصري من الإنجليز .
- ج - الإفراج عن جميع المعتقلين الذين زج بهم في السجون ولا ذنب لهم إلا النداء بمطالبهم والهتاف لوادي النيل .
- و - تعويض أهالي الشهداء الذين ذهبوا فداء حرية الوطن واستقلاله .
يا صاحب الدولة :
هذا ما أردنا أن نتقدم به إلي دولتكم .. وأنتم اليوم علي رأس الحكومة المصرية ، والبلاد تجتاز أدق مرحلة في تاريخها ، وسيسجل التاريخ في صفحاته الخالدات لكل امرئ ما قدمت يداه - وإن مصر العزيزة التي لها من ماضيها أروع آيات المجد والفخار لترقب من أبنائها جميعًا يقظة شاملة وجهدًا متصلا حتى يتحقق لها أملها ، وتصل إلي ما ترجو من مستوي رفيع بين سائر الأمم والشعوب .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ....
رابعا : كان " الوفد " - محاولة منه لزعزعة مركز الوزارة الصدقية - قد أوعز إلي زعماء الطلبة التابعين له أن يقرروا إضراب الطلبة ثلاثة أيام احتجاجا علي ضحايا الوزارة السابقة ، واجتمع الطلبة فعلا في حرم الجامعة وخطب فيهم هؤلاء الزعماء ... وحضر الأستاذ محمد حسن العشماوي باشا وزير المعارف وألقي كلمة ذكر فيها أن الوزارة الحاضرة جاءت لتنفيذ ما يريده الشعب من المطالبة بحقوقه فإذا لم تستطيع فل تظل في الحكم ساعة ... وقام الطالب مصطفي مؤمن ممثل الإخوان وطلب من الطلبة العدول عن الإضراب ثلاثة أيام والاكتفاء بيوم واحد في الأسبوع القادم وكتابة مذكرة بمطالبهم للملك فأطاع الطلبة ... وكانت هذه أول لطمة تلقاها الوفد ...
وقد أصدر الوفد بيانًا حث فيه الشعب علي مقاومة الحكومة الجديدة ، وأصدر الإخوان بيانًا يطلبون فيه إلي الأمة اعتبار يوم 4 مارس 1946 يوم حداد عام تكريمًا لأرواح الضحايا والشهداء الذين راحوا ضحية اعتداء الجيش البريطاني الغاشم وأعلنوا في البيان من تكوين لجنة تمثل فيها جميع الطوائف والأحزاب لتنظيم الإضراب العام في ذلك اليوم وقد مثلت في هذه اللجنة مختلف الطوائف ، ماعدا الوفد الذي رفض الاشتراك ، ومع ذلك فقد استجاب الشعب لهذه اللجنة وتم الإضراب الشامل في ذلك اليوم كما قررت نقابة الصحفيين احتجاب الصحف وأضرب المحامون والمؤلفون وعمال شركات الغزل وأصحاب المحال المختلفة . وقد شاركت السودان وسوريا ولبنان والبلاد العربية في الحداد علي الشهداء وأعلنوا الإضراب العام .
خامسا : في 2 مارس تقابلت اللجنة القومية مع رئيس الوزراء وعرضت عليه مطالبها ودارت بينها وبينه مناقشة حول هذه المطالب انتهت بموافقة رئيس الوزراء عليها ، وعلي أثر ذلك صدر بيان أذيع بالراديو وأبلغ الصحف ... وجاء في هذا البيان :
- " أعلن رئيس الحكومة أنه يشارك الأمة رغبتها في تكريم الشهداء وهو يقدر كل التقدير عواطف الشعب ، ولم تتردد الحكومة من جانبها في الاحتجاج بشدة علي الاعتداء علي هؤلاء الشهداء وستعمل فورًا علي تعويض عائلات الشهداء والجرحى تعويضًا سخيًا عما أصابهم من أضرار وهي علي استعداد لتلقي اقتراحات اللجنة القومية لتكريم الشهداء تكريمًا يبقي علي مر الزمن .. ورئيس الحكومة يعد البلاد أنه لن يتواني عن إطلاع الأمة إذا جد الجد واعترض سبيل تحقيق المطالب الوطنية عقبات لم تستطع تذليلها " .
وفي جلسة مجلس النواب في 27-2-1946 كان صدقي باشا قد ألقي بيانًا صرح فيه بأنه رفض المطالب الثلاثة التي كان قد طلبتها الحكومة البريطانية عقب مظاهرات يوم 21-2-1946 فأيده المجلس ، وممن أيدوه الأستاذ فكري أباظة (كان فكري أباظة في ذلك الوقت عضوًا بالحزب الوطني) مع أنه قد أعلن الثقة بالحكومة منذ أسبوع . وتكلم فكري أباظة فقال : أرجو أن أستميح دولة رئيس الوزراء أن أنحي مسألة المفاوضات جانبًا فليس موضوعها الليلة ثم قال : في هذه اللحظة الرائعة الممتازة أود أن أقول بل من واجبي أن أقول : إنني أؤيد رئيس الحكومة علي طول الخط في الموقف الحازم الذي وقفه . وفي اليوم التالي لمقابلة رئيس الوزراء للجنة القومية طلبت الحكومة المصرية من الحكومة البريطانية رسميًا إجلاء جنودها فورًا عن القاهرة والإسكندرية .
سادسا : يلاحظ القارئ أن الوفد قد تخلف عن مواكبة الحركة الجماعية التي دعا إليها الإخوان وكان هو وحده الهيئة التي تخلفت عن الاشتراك في اللجنة القومية ، إذا ما أسقطنا من حسابنا حزب السعديين الذي جاءت حكومته بالخزي وأسقطها الشعب منذ قليل ، وما كان ممثلوها ليشتركوا في لجنة تؤلف للاحتجاج علي جرائم ارتكبتها حكومتهم . وظن الوفد أن عدم اشتراكه في اللجنة القومية سوف يحبط عملها ويشل حركتها ولكن الذي حدث كان غير ذلك فقد نجحت النجاح التام الذي أشرنا إليه ، فبدأ الوفد في مشاغباته بأن نشر في " المصري " أن شباب الأزهر يستنكرون أن يمثله في اللجنة القومية الشيخ محمد شريت لأنه موظف في وزارة الأوقاف وليس طالبًا ولا مدرسًا في الأزهر (عامًا بأن أسرة شريت هذه من أعرق الأسر المصرية صلة بالأزهر فكبيرها كان من كبار علماء الأزهر ومدرسيه وجميع أفرادها تقريبًا من علماء الأزهر) . ولا شك في أن إحراز هذه اللجنة التي دعا إلي تكوينها الإخوان هذا النجاح كان عجبًا لعود الإخوان المسلمين ، وامتحانًا خطيرًا لمدي شعبيتهم وتأثر الشعب بدعوتهم .
وفي 2 مارس سنة 1946 كتبت مجلة " دي تابليت " البريطانية مقالا قالت فيه : إن مصر تتولي الزعامة بين الدول الإسلامية التي فقدتها تركها بعد الحرب الماضية وصحف القاهرة
تهدد الآن جامعة الأمم البريطانية بجهاد ديني وقد أكد صدقي باشا من جديد صداقته مع بريطانيا ولكنه مصر علي أن تسحب القوات البريطانية فورًا .
سابعًا : قررتن الحكومة في 19 مارس تأليف هيئة للمفاوضات ، وعرضت علي " الوفد " الاشتراك فيها علي أن يمثل كل حرب يفرد واحد ويمثل الوفد بفردين ، فرفض الوفد وطالب بأن تكون له الأغلبية والرياسة فتكونت الهيئة من صدقي رئيسًا وحسين سري وعلي ماهر وعبد الله الفتاح يحيي وشريف صبري وعلي الشمسي ولطفي السيد ومكرم عبيد وحافظ عفيفي والنقراشي وهيكل وإبراهيم عبد الهادي أعضاء . كما تشكل الوفد البريطاني في 3 أبريل برياسة أرنست بيفن وزير الخارجية وعضوية لورد ستانسجيت وزير الطيران والسفير البريطاني رونالد كامبيل وقواد البحر والجو البريطانيين في الشرق الأوسط - ومن جهة أخري حضر إلي مصر الوفد السوداني برياسة إسماعيل الأزهري .. ويلاحظ في تكوين الهيئة المصرية للمفاوضات أنها مكونة من اثني عشر عضوًا منهم أربعة فقط من الحزبين والثمانية الباقون من المستقلين ومنهم الرئيس ، وفي فريق المستقلين أشخاص يثق الإخوان في وطنيتهم وقوة شخصيتهم .
ثامنًا : تخللت هذه الفترة عملية التجديد النصفي لأعضاء مجلس الشيوخ ، وقد حرص الإخوان علي أن يكونوا في الوضع الذي لا يتطرق إليه شك ولا يثار حوله غبار ، فقررت قيادتهم المؤلف الرائع الذي نشرته الذي نشرته الصحف في 6-4-1946 وهو " تلقينا من جمعية الإخوان المسلمين أنها اتفقت مع رؤساء المناطق التجديد النصفي لمجلس الشيوخ علي أن لا تتدخل شعب الهيئة بصفتها الرسمية في هذه المعركة ، ولكل أخ مطلق الحرية في أن ينتخب من شاء آخر ، وأن لا تتخذ دور الإخوان مقرًا لدعاية انتخابية من أي لون كان . وأن لا تقبل الهيئات الإدارية للإخوان تبرعات ما من أحد المرشحين لأي غرض من الأغراض طول هذه الفترة .
تاسعًا : في 8 مايو صدر البيان البريطاني الذي أذاعته السفارة البريطانية بالقاهرة ونصفه " إن السياسة البريطانية المقررة لحكومة صاحب الجلالة في المملكة المتحدة هي توطيد تحالفها مع مصر علي أساس المساواة بين أمتين تجمع بينهما مصالح مشتركة . وتطبيقا لهذه السياسة بدأت المفاوضات في جو من الود وحسن النية . وقد عرضت حكومة المملكة المتحدة إجلاء جميع قواتها البرية والبحرية والجوية عن الأراضي المصرية والمفاوضة لتحديد مراحل الجلاء وموعد إتمامه والتدابير التي تتخذها الحكومة المصرية لتحقيق تبادل المعونة في زمن الحرب أو في حالة توقع التهديد الوشيك بها طبقاً للتحالف " .
وتبادل الطرفان المصري والبريطاني المذكرات والمشاريع وتعددت الاجتماعات بينهما حتى توقفا المفاوضات عند تقدم الطرف البريطاني بمشروع لا يكاد يختلف عن معاهدة 1936 فيطلب خمس سنوات لإتمام الجلاء ،ويطلب في حالة الحرب أو التهديد بها أن تسمح مصر للقوات البريطانية باستخدام أرضها بصفة كاملة كقاعدة حربية . وفي 25 سبتمبر تقدم الجانب المصري برد علي المشروع البريطاني ، ويتضمن هذا الرد أن يكون الجلاء في سنتين واستبعاد مادة خطر الحرب أو التهديد بها ونص علي وجوب وحدة وادي النيل .
عاشرًا : رأت الحكومة إدخال بعض تعديلات علي هذا الرد فرفضت هيئة المفاوضات ذلك بأغلبية أعضائها - وهم المستقلون - ولما وصل الرد إلي الجانب البريطاني قرر قطع المفاوضات وغادرت هيئة المفاوضين الإنجليز إلي لندن .. وعرض صدقي أن يسافر بنفسه إلي لندن لمتابعة المفاوضات فيها فرفضت الهيئة بنفس الأغلبية ذلك ، وصرح علي ماهر وعلي الشمسي : بأن علي مصر أن إسنادها إلي شريف صبري فرفض فاضطر الملك إلي رفض استقالة صدقي .
الحادي عشر : لما شعر الإخوان بأن الوزارة راغبة في التساهل مع الإنجليز في حقوق البلاد اعتبروا هذا إخلالا من صدقي في تعهده لهم ونكثًا منه في وعده الذي قطعه علي نفسه وأيدوه علي أساسه ؛ فأعلنوا تخلبهم عن تأييده ، ووضح هذا في عريضة وقعوها إلي الملك إلي الملك في 8 أكتوبر 1946 وفي خطابه أرسلوه إلي صدقي باشا في نفس التاريخ وقد نشر كلاهما في الصحف في نفس اليوم ،ونثبت فيما يلي نصهما :
فقد تتابعت الأيام والشهور ومضت الحوادث يتلو بعضها بعضًا وكلها تثبت أن المفاوضات بين مصر وبريطانيا لم تعد الوسيلة الصالحة لتحقيق مطالب البلاد ، وأنها ليست أكثر من إجراء يقصد من ورائه الإنجليز التعاقد لحماية مصالح بدعوتها لا تتفق قطعًا مع استقلال البلاد وحريتها مع تفويت الفرص السانحة وكسب الوقت والعمل علي تفريق كلمة الأمة . وقد أدرك شعب وادي النيل بفطرته السليمة هذه الحقيقة فحدد مطالبه تحديدًا واضحًا ثم انتظر وصبر طويلا حتى إذا لم يبق في قوس
الصبر منزع طلب إلي الحكومة ممثلا في كل هيئاته الوطنية وصحفه وجرائده ، بل علي لسان بعض أعضاء وفد المفاوضة نفسه أن تعلن فشل هذه المفاوضات وتتجه اتجاها سليما ، فترفع الأمر إلي هيئة الأمم المتحدة ، وتعلن سقوط معاهدة 1936 التي أصبحت بحكم الحوادث والظروف غير ذات موضوع كما صرح بذلك معالي وزير الخارجية المصرية في مجلس النواب ، وتطلب إلي الإنجليز وغيرهم سحب جميع القوات الأجنبية عن أرض الوادي وجوه وماله ، وتدعو الأمة وتنظم معها سبيل الجهاد للوصول إلي الاستقلال الكامل والحرية الصحيحة كما تفعل كل أمة مجاهدة نكبتها الحوادث بظلم واحتلال غير مشروع ولكن حكومة صدقي باشا الأولي والثانية لم تصغ إلي هذا الصوت القوي والوطني المخلص وأصرت علي المشي في طريقها ، حتى بعد أن سافر المفاوضون الإنجليز إلي بلادهم واعتزم صدقي باشا أن يلاحقهم إلي هذه البلاد وأن يسافر إلي لندن لاستئناف المفاوضات التي لا خير فيها ولا فائدة ترجي من ورائها .
وأمام هذا الموقف الضار بمصلحة الوطن في وقت نحن أحوج ما نكون فيه إلي الدقائق فضلا عن الأيام والشهور ننفقها في العمل المنتج - يفزع الإخوان المسلمون إلي جلالتكم راجين أن تتفضلوا بتوجيه الحكومة هذا التوجيه الشعبي السليم أو إعفائها من أعباء الحكم والجهاد في سبيل حقوق البلاد لتنهض بذلك حكومة قوية علي هذه القواعد السليمة والأسس الصالحة . ويعتقد الإخوان المسلمون من كل قلوبهم أنهم إنما يعيرون بذلك عن شعور أمة وادي النيل جميعًا من الشمال إلي الجنوب ،وإن جلالتكم وأنتم الوطني الأول خير من تتحقق علي يديه الآمال وتنصلح بسامي حكمته وجميل إرشاده وتوجيهه الأحوال .
وفقكم الله للخير وحقق للوادي في عهدكم الزاهر ما يرجوه من صلاح وحرية واستقلال والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ...
فقد أسندت إلي دولتكم مقاليد الحكم في فبراير سنة 1946 وكانت معروفًا أن المهمة الأولي للحكومة هي مفاوضة الإنجليز لاستخلاص حقوق الشعب الحقة التي أعلنتها الأمة وسلمت بها الحكومة ( الجلاء التام ووحدة وادي النيل ) . وكان المفروض أن لا تستغرق هذه المفاوضات أكثر من شهر أو شهرين أو ثلاثة في نظر أطول الصابرين صبرًا ، وخصوصًا وحقوق الوطن واضحة لا تحتاج إلي كثير من لف أو دوران .. وقد درست القضية درسًا وافيًا من الجانبين ، وضاع علي الأمة عام كامل أو يزيد بتفريط الحكومة الماضية وعدم مبادرتها إلي المطالبة بحقوق البلاد منذ وضعت الحرب أوزارها في وقت تتقرر فيه مصائر الأمم وتقف فيه الشعوب علي مفترق الطرق أحوج ما تكون إلي الدقائق الساعات بله الشهور والسنوات .
ولكن المفاوضة طالت حتى أسأمت وأملت فتوقفت واستؤنفت ثم انقطعت ووصلت ثم يتجني علينا المفاوضون الإنجليز فهزوا أكتافهم وجمعوا أوراقهم وانصرفوا عنا إلي بلادهم هازئين ساخرين . وكان المنتظر بعد هذه اللطمة القاسية وبعد أن عبث الغاصبون بحقوقها ووقتنا ورجالنا هذا العبث وأضاعوا علينا كل هذا الوقت الطويل ، وارتفعت الأصوات من كل جانب تهيب بالحكومة أن تعدل عن هذه الخطة التي لا خير فيها ولا فائدة ترجي من ورائها . وبلغت إليها قرارات الجمعية العمومية للإخوان رسميًا ، وهي إنما تعبر تعبيرًا صادقًا عما يحتلج في صدور الأمة بأجمعها من الشمال إلي الجنوب ، ووضح أن المشروع الإنجليزي والمشروع المصري لا يحققان مطالب البلاد ، ولا يريد كل منهما عن أنه تنظيم مهذب الحواشي للحماية والاحتلال ، وأن الإنجليز غير مستعدين إلي أي تغيير جوهري فيما عدا الصيغ والألفاظ .
كان المنتظر من الحكومة أمام هذا كله أن تصغي إلي هذه الأصوات الوطنية القوية المخلصة وتحترم إرادة الشعب الذي تدعي أنها تحكم باسمه وتبادر فتتخذ هذه الخطوات . إعلان فشل المفاوضات الحالية وأنها لن تقبل بعد الآن أن تدخل مع الإنجليز في مفاوضات أخري بعد أن أثبتت الحوادث كلها أن بريطانيا لا تريد من وراء أي مفاوضة إلا التعاقد والاعتراف بمصالح تدعيها تتعارض كل التعارض مع حريتنا واستقلالنا وحقوقنا الثابتة المقررة . وإعلان سقوط معاهدة 1936 التي ألغتها الحوادث العالمية وأقر وزير الخارجية المصرية في مجلس النواب أنها أصبحت غير ذات موضوع .
وأن تطلب إلي الإنجليز وغيرهم في عزم وإصرار سحب جميع البرية والبحرية والجوية من الوادي كله ، وإلا اعتبر وجود هذه القوات اعتداء مسلحًا علي سيادة البلاد تترتب عليه آثاره العملية من عدم التعاون مع بريطانيا ، والقانونية من قطع العلاقات الدبلوماسية بيننا وبينها . وتدعو الأمة إلي الجهاد في سبيل حقوقها ، وتنظم وسائله وأساليبه كما تفعل كل أمة ترجو الحياة العزيزة ، وتؤثر الموت الكريم في ظل الاستشهاد علي الاستكانة والذل والاستعباد . لكن حكومة دولتكم لم تفعل شيئًا من هذا بل أصرت إصرارًا عجيبًا علي موقفها الضعيف المتـخـاذل ، وأمعنت في الإصرار والتمسك بأهداف أمل خائب باعتزامكم السفر إلي لندن لاستئناف المفاوضات هناك ، وأخذت تكبت شعور الهيئات والجماعات والأفراد وتصادر الحريات ، وتمنع الاجتماعات، وتتهيأ لقمع الحركـات الشـعـبية المخلصة بالحديد والنار .
وأمام هذا الموقف الضار بقضية الوطن ومصالحه في الداخل ، وأمام قرار الجمعية العمومية للإخوان المسلمين الذي يقضي بأن الحكومة المصرية إذا أصرت علي المفاوضة ، ولم تنزل علي رأي الأمة ، ولم تظن الخـطـوات السابقة خلال شهر سبتمبر الماضي فإن الأمة تعتبرها متضامنة مع الغاصبين في الاعتداء علي استقلال الـوطـن وحريته وتجاهدها معهم سواء بسواء . يسجل المركز العام للإخوان المسلمين علي حكومة دولتكم أنكم بإصرار كم هذا تقولون علي هذه البلاد أثمن الفرص وتكونون بذلك قد تضامنتم بقصد مع الغاصبين في الاعتداء علي استقلال الوطن وحريته وأن هذه الحكومة لا تمثل رأي البلاد في شيء ، وكل إجراء تتخذه باطل أساسًا ، وعليكم أن تدعو أعباء الحكم لمن هو أقدر منكم علي سلوك النهج القويم ، وإعلان حقوق الوطن كاملة من غير حاجة إلي تصديق الغاصبين ، وتنظيم قوي الأمة لتكافح الظالمين المعتدين - وستجاهد الأمة كل معتد علي حقوقها من أبنائها أو من الأجانب عنها بكل وسيلة مشروعة حتى تصل إلي ما تريد - وهي واصلة بإذن الله والله غالب علي أمره ولكـن أكـثر الـناس لا يعلمون . والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته ...
الثاني عشر : فهم صدقي باشا عقب الخطابين أنه لم يعد من سند شعبي إليه وأن الشعب الذي ظل هادئًا طيلة مدة وزارته السابقة سيتحرك ، ومعروف للجميع أنه هو الحاكم الجبار الذكي القوي البارع في استقلال سلطاته الـحكومية في محاربة أعدائه السياسيين والذي طالما لجأت إلي السراي الملكية لتأديب المتمردين علي طاعتها مـن الزعـمـاء الوطنيين .. وإذن فلابد من رجوعه إلي طبيعته وحشد قواته وتعبئة جنوده لمواجهة هؤلاء الوطنيين الجـدد ... وقـد سبق له أن أذل من هم أعظم منهم شأنًا فأدخلهم جحورهم ... وكان أن فعل صدقي ما كان متوقعًا منه فاتخذ الإجراءات الآتية :
- قررت الحكومة تأجيل الدراسة في الجامعة وجميع المعاهد والمدارس إلي ما بعد عيد الأضحى 9 نوفمبر أي نحوًا من شهر .
- في 15 أكتوبر أصدر النقراشي وهيكل بيانًا يتحديان فيه رأي الإخوان ويقولان : لقد رأينا في سفر رئيس الوزراء ووزير الخارجية الضمان الكافي لبيان وجهة النظر المصرية - وكان وزير الخارجية في ذلك الوقت إبراهيم عبد الهادي .
- صودرت جريدة الإخوان المسلمين . وصدر قرار حظر من النيابة يحظر نشر أية أخبار عن حوادث المظاهرات وأجري تحقيق مع وكيل الإخوان ورئيس الإخوان في الإسكندرية .
- أصدرت وزارة الأوقاف أمرًا إلي أئمة المساجد بعدم السماح لغير وعاظ الحكومة بالخطابة في المساجد .
- في 24-11-1946 سافر صدقي ووزير خارجيته الجديد إبراهيم عبد الهادي إلي لندن وأتـي بـمشـروع معاهدة أدعي فيه في بيان أذاعه أن مشروعه حقق مطالب البلاد في الجلاء ووحدة وادي النيل .
- أذاع مستر إتلي رئيس وزراء بريطانيا ومستر بيفن كذبا فيه صدقي من ناحية السودان وأعلنا أن بريطانيا لن تجلو عن السودان حتى لو تخلت مصر عنه .
- حاول صدقي عرض مشروعه علي هيئة المفاوضات فرفضه سبعة أعضاء منها وهم المستقلون . فطلب من الهيئة إرجاء البت في المشروع حتى اجتماع آخر ثم رفض دعوة هذه الهيئة بعد ذلك .
- أصدر المعارضون السبعة بيانًا بأن المشروع لا يحقق أهداف مصر في الجلاء ووحدة وادي النيل ، فصـدر مرسوم ملكي بحل هيئة المفاوضات وذلك في 26-11-1946 .
- بعد أن تخلصت الحكومة من هيئة المفاوضات عرضت مشروعها علي مجلس النواب الذي يمثل السعديـون والأحرار الدستوريون أغلبية ساحقة فيه ، فانسحب 55 عضوًا هم أعضاء الحزب الوطني وحزب الكتلة والمستـقلون وطلبت الحكومة عقد جلسة سرية . ومنحها هذا المجلس الثقة بأغلبية 159 صوتًا . وشكر صدقي الأعضاء الـذيـن أيدوه ، وقد اقتنع ثلاثة من التصويت هم الرجال وشوكت التوني ومحمد بربري - وكان ذلك في 27-11-1946
الثالث عشر : وقعت حوادث شديدة في أنحاء القاهرة ، فقد قام الأهالي بالتجمهر في ميدان سليمان باشا وكذلك في ميدان الملكة فريدة وفي شبرا ، وقامت مظاهرات أشعلوا النيران في كومة من الكتب الإنجليزية وفي بعض عربات الترام كما حطموا واجهات بعض المحلات في شارع فؤاد وفي القصر العيني قلبوا بعض عربات الترام . وفي بـاب الشعرية هام الأهالي مكتبة تبيع الكتب الإنجليزية واستولوا عليها وأحرقوها ... وفي مساء ذلك اليوم أصدرت وزارة الداخلية ورياسة مجلس الوزراء بلاغين نسبا فيهما هذه الحوادث إلي الإخوان وتوعداهم بأشد العقوبات إذا تكـررت هذه الحوادث ... مع أن هذه الأحداث وما تلاها لم تكن إلا يقظة شعبية عامة ولم تكن دور الإخوان فيها أكثر من بعث الوعي الوطني.
الرابع عشر : بعد حصول صدقي علي الثقة التي أشرنا إليها من مجلس النواب اعتقد أنه قد أضحي في مـأمن ، وقد استخدم بكل ما عرف عنه من فجور كل وسائل القمع والإرهاب حتى يوقف التيار الزاحف نحوه فاعتقل الوكـيل العام للإخوان وعاث في البلاد فسادًا محتميًا في قرار حظر أنباء المظاهرات الذي أصدرته النيابة ولكن استجوابًا قدمه النائب موريس فخري عبد النور هتك الستار الذي حاكه حول إجرامه ونورد نص هذا الاستجواب الذي يقول :
" تواترت الأخبار بأن حوادث مؤلمة وقعت يوم 26 نوفمبر سنة 1946 علي طلبة أبرياء ، ومنها أن طلبة كلـية العلوم بالعباسية وفؤاد الأول وفاروق الأول ومصر الثانوية والأهرام الثانوية والهندسة التطبيقية هاجمهم البوليس وقد قتل منهم الكثيرون ، كما اقتحمت دبابة مبني إحدى المدارس وأطلقت نيرانها الحامية علي الطلبة العزل فأصابـت الكثيرين ، كما قبض علي مئات في مختلف أنحاء القطر " .
وفي 2-12-46 نشرت جريدة الديلي ويركر الإنجليزية مقالا وصفت فيه الاضطرابات التي وقعـت في مصر أخيرًا وقالت إن صدقي باشا كان محروسًا بأورطة كاملة من رجال البوليس المسلحين عندما وصل إلي البـرلـمـان لإحراز قرار الثقة الأخير .
الخامس عشر : بعد كل هذا أصر صدقي باشا علي إيفاد وزير خارجيته إبراهيم عبد الهادي إلي لندن لتوقيع المعاهدة .
السادس عشر : علي أثر ذلك وقعت في القاهرة أحداث خطيرة وصفتها الصحف فقالت : ليس لهذه الأحداث الغريبة والخطيرة بعبارة أصح وأوضح من سابقة بل لعلها الأحداث الأولي من نوعها :
1 - في أيام 3-12 وما تلاها بعد الساعة العاشرة مساء اليوم الأول سمع سكان القاهرة دويًا هائلا ملأ الأرجاء وأحدث هزات عنيفة في بعض المساكن فأخذوا في تبين مصدر هذا الدوى المفاجئ . ولجأ بعضهم إلي أحد الأقسام لينبئها بالخبر ولكنه تبين أن هذا القسم كان مبعث الدوى والانفجار ، ذلك أن قنبلة ألقيت فانفجرت فأحدثت هذا الدوى الهائل .
وقد حدث هذا في وقت واحد في أقسام بوليس الموسكي ، والجمالية والأزبكية وباب الشعرية ومصر القديمة وفي نقطة بوليس السلخانة . وقد سببت تحطيمًا لنوافذ هذه الأقسام ولم يصب أحد ولم يعرف الفاعل .
2 - أضرب المحامون .
3 - اعتكف صدقي في اليوم نفسه وعقد اجتماعًا في بيته برجال الأمن .
4 - ألقيت قنبلتان علي سيارة هيكل باشا انفجرت إحداهما فحطمت السيارة وأصابت جندي الحراسة إصابة بسيطة
5 - بالرغم من تشديد الحراسة علي مراكز البوليس بوقوف حراس مسلحين علي سطوحها توالي إلقاء القنابل علي أقسام عابدين والخليفة والجيزة ومركز إمبابة وعلي معسكر بريطاني بمصر الجديدة .
6 - قامت قوات كبيرة من البوليس بقيادة اللواء سليم زكي باشا حكمدار العاصمة بمحاصرة المركز العام للإخوان المسلمين بالحلمية الجديدة وبتفتيشه وتفتيش دار الجريدة والمطبعة لم يعثر علي شيء .
السابع عشر : أقنعت هذه الأحداث الأخيرة صدقي باشا بوجوب نزوله علي إرادة الأمة فقدم استقالته في 9 سبتمبر سنة 1946 ولم يكن هذه المرة أمام القصر بد من قبولها .
- تعقيب :
بعد فراغنا من سرد الأحداث التي توالت علي البلاد سنتين ابتداء من تولي وزارة النقراشي باشا عقب انتهاء الحرب في فبراير سنة 1945 حتى استقالة وزارة صدقي باشا الثانية في ديسمبر سنة 1946 ، تنري أن لا تدع هذا السرد التاريخي يمر دون نظرة فاحصة فيه ، وتحليل دقيق لأحداثه ، وتعليق واع علي نتائجه وثمراته ، لما كان لهذه الأحداث من آثار بعيدة المدى في مستقبل هذه الأمة .
أولاً : لم يكن الإخوان دخلاء حين زجوا بأنفسهم في خضم المطالبين بحقوق الشعب في الحرية والاستقلال ، فطبيعة الإسلام تأتي أن يعيش المسلمون تحت سلطان غيرهم ، يحتلون أرضهم بجيوشهم ، يستغلون خبراتهم لأنفسهم والله تعالي يقول : " ولله العزة ولرسوله وللمؤمنين " ومن الأحكام المقررة في الفقه الإسلامي أنه إذا دنست أرض الإسلام صار الجهاد فرضًا علي كل مسلم ومسلمة . والحديث الشريف يقول " من لم يهتم بأمر المسلمين فليس منهم "
فإذا كان الذين يتحركون في هذا الأمر إنما تحركهم الأهواء والمطامع ويهدفون إلي الجاه والمناصب ، فتحرك الإخوان في هذا الأمر إنما هو بدافع من صميم الدين والهدف منه إرضاء رب العالمين ، فهم يبذلون ولا يقبضون ويضحون ولا يغنمون .
ثانيا : أن مساندتهم لحاكم أو معارضتهم لحاكم لم يكن الدافع إليها تحقيق مأرب شخصي أو نفع مادي ، وإنما كان الدافع إليها الحرص علي تحقيق مطالب البلاد ، وانتزاع حقوقها في الحرية والاستقلال .. ولو كان هدفهم شخصيًا لما أيدوا صدقي باشا أول الأمر حين قطع علي نفسه عهدًا بالعمل علي تحقيق هذه المطالب كاملة ، ولما عارضوه حين بدا منه التفريط في بعض هذه الحقوق وحين أصر علي فرض اتفاقيته القاصرة علي الشعب .
فمساندة الحاكم لمغنم تظل علي حالها لا تتغير ما ظل الحاكم قابضا علي أزمة السلطة بتأييد الملك والبرلمان حتى آخر يوم من أيامها ، ولولا معارضة الإخوان لها لما تزعزع مركزها .. فإذا كان هدف الإخوان من مساندتها تحقيق المآرب وحتى المغانم لما عارضوها وزعزعوا مركزها لتظل لهم بقرة حلوبًا .
ونحب بهذه المناسبة أن نوجه سؤالا إلي الذين يلقون بظلال من الشك علي علاقة الإخوان بوزارة سواء أكانت هذه المغانم للدعوة عامة أو الأفراد من أعضائها .. فإن عجزوا عن ذلك - وهم عاجزون لأننا أعلم بأنفسنا منهم وسجل التاريخ بين أيدينا - كان كلامهم أو كتابتهم في هذا الصدد نوعًا مما أشار الله تعالي إليه في قوله " والذين يؤذون المؤمنين والمؤمنات بغير ما اكتسبوا فقد احتملوا بهتانًا وإثمًا مبينًا " ونقول نحن لهؤلاء ما قال الله تعالي من قبل " لولا إذ سمعتموه ظن المؤمنون والمؤمنات بأنفسهم خيرًا وقالوا هذا إفك مبين " .
أما تلقف أراجيف من أفواه الذين يملكون أبواق الإذاعة والإعلان ، والتقرب بها إلي حاكم طاغية فهو في ذاته إثم كبير وتزوير للتاريخ ، وعلي الذين ارتكبوا هذا الخطأ أن يصححوه ويرجعوا إلي الحق فيه قبل أن يسجله التاريخ عليهم فيبوئوا بإثمه ولا يجدوا من دون الله من ولي ولا نصير . وليست هذه أول فرية ولا آخر فرية تفتري علي الإخوان المسلمين ولكن الله تعالي كان للمفترين بالمرصاد ففضح افتراءهم وكشف سوءاتهم وخرج الإخوان وصفحتهم ناصعة البياض وذهب هؤلاء بما تكشف من زورهم وافترائهم وإجرامهم إلي الجحيم " فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض كذلك يضرب الله الأمثال " .
ثالثًا : أن إسقاط صدقي باشا لم يكن هزيمة شخصية له بل كان هزيمة له وللحزبين المؤيدين له السعديين والأحرار وبين للملك من ورائهم وللسياسة الإنجليزية التي كانت متلهفة علي عقد المعاهدة في أقرب وقت ممكن تثبيتًا لمركزهم في مصر في الوقت الذي يوهمون فيه المصريين بأنهم نزلوا عند إرادته وتنازلوا عن معاهدة 1936 التي أحسوا أنها فقدت فاعليتها وآذنت بانتهاء .
رابعًا : كشفت هذه الأحداث عن القوة الحقيقية للإخوان ، وليس معني ذلك أن الأطراف المختلفة لم تكن تعرف أن الإخوان قوة كبيرة لها وزنها - فلقد كان الكل يعرفون - ولكن هذه الأحداث أسلطت اللثام عن قدر هائل فاق ما كانوا يعتقدون وتخطي ما كانوا يتصورون ونورد فيما يلي مقالات نشرت ترجمته جريدة المصري في يوم 9 ديسمبر سنة 1946 تحت عنوان : رأي لندن في الأحزاب المصرية :
- لندن – لمراسل المصري الخاص :
كتبت جريدة " التيمس " مقالا هامًا في نسختها الأسبوعية عن " الروح الوطنية في مصر " جاء فيه " إن المعارضة الرئيسية في مصر للبريطانيين صادرة من أربع هيئات رئيسية في الوقت الحاضر هي : حزب الوفد القوي والحزب الوطني الصغير وحزب مصر الفتاة والإخوان المسلمون " أما الوفديون والوطنيون فهم حزبان سياسيان منظمان ، وموقفهما تجاه تعديل المعاهدة ومسألة العلاقات بين بريطانيا ومصر يخضعان لاعتبارات سياسية ولا نستطيع أن نقول أن أحدهما يعادي الأجانب . أما حزب مصر الفتاة فهو جماعة تغالي في الوطنية تسير علي برنامج يدل علي أن زعماءها قد درسوا نظم جمعيات الشباب الهتلري والفاشستي .
علي أن الإخوان المسلمون يزعمون أنهم من طراز آخر يختلف عن ذلك ، وقد وصفهم الشيخ حسن البنا مؤسس هذه الهيئة وزعيمها بقوله : إنهم ليسوا سياسيين أو حزبًا سياسيًا ، ولكنهم وطنيون يعملون لخير مصر واسترداد حقوقها المغتصبة .. ومع ذلك فإن هذا وصف شامل لجمعية تستحق نشأتها وتأثيرها في الحياة المصرية العامة دراسة وبحثاً ، فقد أنشأ الشيخ حسن البنا الإخوان المسلمين منذ 16 عامًا حينما كان مدرسًا في الإسماعيلية ، ولم تتقدم هذه الحركة تقدمًا حقيقيًا إلا بعد انتقاله إلي القاهرة في عام 1934 . ولما كان حسن البنا شديد الإيمان بالتعاليم الإسلامية ، وخطيبًا مفوها ، فإنه ما لبث أن كسب أتباعًا وأنصارًا كثيرين ونفوذاً كبيرًا ،وأظهر أنه سياسي بارع ، فقد أصبح للجمعية بفضل إدارته الحكيمة فروع في جميع أنحاء مصر ، وبدأت مبادئه تنتشر في البلدان العربية المجاورة ، ثم أصدر جريدته في أوائل عام 1946 .
وتتألف هذه الجمعية التي يقدر عدد أعضائها ما بين 300 ألف ، 600 ألف عضو من طبقة العمال ، ولكنها تضم عددًا من الطلبة وبعض المثقفين من الطبقة الوسطي ولاسيما المعلمين ، ولم تبد طبقة الأراضي حماسة كبيرة نحو الإخوان المسلمين خوفًا من احتمال ازدياد قوتهم مما يقضي إلي إضعاف سلطة الطبقة العليا علي الفلاحين . ويلوح أن لهذه الهيئة طابعًا عسكريًا فأعضاؤها يسيرون في طوابير ويتدربون ويظهرون في زى عسكري أمام الجمهور . والهدف الرئيسي للهيئة هو العمل علي إحياء الإسلام مما قد يفيد حياة الأمة المصرية بأسرها ، ولتحقيق هذا الهدف تقضي الضرورة لتنشئته جيل جديد يفهم معي الإسلام ويتبع التعاليم الإسلامية .
ويعتقد الإخوان المسلمون أن المدنية الغربية الحديثة تقوم علي الماديات وحدها ، وهي المسئولة إلي حد كبير عن تدهور السلوك والأخلاق ، ونشر الفقر والبؤس في مصر. ويرون كذلك وجوب إثارة الشعور المعادي للأجانب في مصر ، وقد قال الشيخ حسن البنا في العام الماضي إنه يتكلم باسم 500 ألف من الإخوان المسلمين الذين يمثلون مبادئ وآمال 70 مليون عربي و 300 مليون مسلم . وأضاف إلي ذلك أن مهمة الإخوان المسلمين ليست سياسية بما في هذه الكلمة من معني ولكنهم يتمسكون بالإصلاح الاجتماعي مما قد يجعلهم قريبين من الشئون السياسية . ومع أن بعض المصريين قد بلغوا شأوًا كبيرًا من المدينة والتقدم إلا أن معظم السبعة عشر مليونًا المواطنين في هذه البلاد يعيشون كالحيوانات (كذا) ولابد للمصريين أن يشغلوا جميع فروع الحياة المصرية ثم يرحبوا بالأجانب في الفروع الباقية الأخرى بعد ذلك . ولا ريب أن القوة والحرية وتعاون الدولة أمور ضرورية لتحقيق هذه الأهداف ، ولهذا يتعاون الإخوان المسلمون مع الوطنيين والسياسيين . ولقد اتهم الإخوان بالتعصب الديني ولكن الإسلام أوصي بالتسامح ولذلك فهم لا يشعرون بالتعصب الديني ضد الأجانب .
وقد تدخل الإخوان المسلمون للمرة الأولي في الشئون السياسية المحضة في عام 1936 وكانوا من مشجعي الأعمال المعادية للبريطانيين في مصر حينما نشبت الثورة العربية في فلسطين ، وهم ما فتئوا من أنصار مفتي فلسطين ، وضاعفوا من نشاطهم بعد ما وضعت الحرب أوزارها . وكان هناك ما يحمل علي الاعتقاد في عام 1941 علي أنهم يقومون بأعمال التخريب ، ويجمعون المعلومات عن قوات الخلفاء ويقومون بالدعاية المعادية لهم ومحاولة إحباط مجهودهم الحربي بصفة عامة في مصر . وفي أكتوبر عام 1941 اعتقل الشيخ حسن البنا غير أنهم أطلقوا سراحه بعد ذلك بشهر واحد ، وفي عام 1942 بعد ما تولت حكومة النحاس باشا الحكم أعلن تأييده الصريح للحكومة والمعاهدة المصرية الإنجليزية ، ولما أصدر الشيخ حسن البنا تعليماته إلي أتباعه بعدم معارضة الحكومة بدا أنه يريدها بعض الوقت تعرض لانتقاد شديد من أنصاره غير أنه تغلب علي هذه المعارضة ومضي في تعزيز مركزه .
وشرع في تنظيم حملة واسعة النطاق لاكتساب أعضاء جدد لمبادئه . ولم يمض وقت طويل حتى وصف الوفد الإخوان المسلمين بأنهم أصبحوا خطرًا علي البلاد واتهمهم بالتدخل في السياسة تحت ستار الدين ، وسارت العلاقات بين الإخوان المسلمين والوفد – وهي علاقات لم تكن طيبة في وقت من الأوقات – من سيء إلي أسوأ . ويتدخل الإخوان المسلمون في الوقت الحاضر في الشئون السياسية علانية ، ويعتقدون أن البريطانيين مازالوا معتدين واستعماريين أن علي مصر أن تقطع المفاوضات وتعلن إلغاء معاهدة 1936 وتطالب البريطانيين بسحب قواتهم بدون قيد أو شرط في وقت محدد بعينه الخبراء العسكريون المصريون . فإذا رفضوا ذلك اعتبروا معتدين مسلحين ولابد من طلب معرفة من هيئة الأمم المتحدة . ويري الإخوان المسلمون أن لا تقبل أي معاهدة أو تحالف مع البريطانيين مادام الاحتلال قائمًا ، ويجب أن يستعد سكان وادي النيل للكفاح من أجل حقوقهم وأن لا يكون هناك تعاون من الآن مع البريطانيين . ولم يظهر بعد تأثير هذه الدعاية المعادية للأجانب ، وطبيعي أن نسمع آراء الإخوان المسلمين عن الأماني المصرية إذ لا ريب أن دعواتهم الوطنية قد لاقت آذانًا مصغية من قبل كثير من المصريين الأوفياء المخلصين غير أنه لا يمكن التسامح أو التهاون تجاه محاولة خلق عداوة وشكوك بين شعبين نشأت بينهما صداقة كبيرة وعشرة طويلة عادت عليها بالمنفعة المتبادلة ، ولحسن الحظ لا يزال المصري العادي والبريطاني العادي بعيدين كل البعد عن كراهية كل منهما للآخر . " .
خامسًا : كما أن هذه القوة التي كشفت عنها هذه الأحداث قد وضعت هذه الهيئة في وضعها الصحيح في مكان الصدارة ، فإنها جرت عليها ويلات ومصائب من كل جانب ، فالوفد أحس أن مركزه الشعبي صار في خطر – وسنفرد لذلك فصلا إن شاء الله – وأحس الملك أنه أصبح لأول مره – وجها لوجه – أمام هيئة شعبية قادرة مسيطرة لا مطامع لها في حكم ولا مناصب ، وهذه المطامع هي التي كان يقود بها الزعماء الشعبيين وغير الشعبيين من مناخرهم ليركعوا تحت أقدامه . وأحس محترفو السياسة من الزعماء الوهميين من خدام القصر أنهم أصبحوا بذلك مهددين . وأحس الإنجليز والمستعمرين أنهم أصبحوا أمام وضع جديد يهدد سياستهم في مصر والبلاد العربية والبلاد الإسلامية .
وزارة النقراشي الثانية
بعد سقوط وزارة صدقي باشا كان الناس ينتظرون أن تستند الوزارة إلي شخصية قوية ذات تاريخ وطني مشرف ، وكان آخر ما يخطر بالبال أن يستدعي لتأليفها رجل تخاذل أمام الإنجليز بمذكرته الضعيفة المتهالكة التي سجلت عليه الخزي والتفريط في حقوق الوطن ... ولكن الذي حدث كان عجيبًا فقد استدعي فعلا محمود فهمي النقراشي باشا فألف وزارته الثانية كأن البلاد قد أقفرت من الرجال . ومع ما في هذا التصرف الملكي من تحد مشاعر الشعب عامة ومشاعر الإخوان خاصة ، فإن الإخوان – إنقاذًا لقضية البلاد وتلافيا لضياع الوقت الثمين – تناسوا تاريخ الرجل وسابق فشله وسوء تصرفه وتقدموا إليه بخطة كاملة ونصيحة مخلصة ، فقد بعثوا إليه في 5-1-1947 بالخطاب التالي :
دولة النقراشي باشا رئيس الوزراء .
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
وبعـد .
فقد وصل الموقف في الداخل والخارج إلي الخال التي تعلمونها دولتكم من الضيق والحرج ، وأصبح من الحتم اللازم علي كل غيور علي مصلحة هذا البلد أن ينسي وحزبه ويذكر شيئًا واحدًا هو خير هذا الوطن والعمل السريع الحازم لعلاج هذه الحال . كل تصرفات الإنجليز يا باشا في لندن وفي السودان وفي أي مكان تدل علي أنهم لا يريدون أن يسيروا مع المطالب المصرية خطوة واحدة إلي الحق ، فهذه التصريحات المتوالية من رئيس الحكومة البريطانية ومن حاكم السودان ، وهذه التصرفات العالمية من إقصاء الموظفين المصريين والاستئثار بكل شيء دون حكومة مصر في جنوب الوادي . وهذا التحدي كل يوم بقول جديد وعمل جديد ، كل هذه أدلة متوالية صريحة سافرة لا تقبل جدلا ولا تأويلا علي أن القوم قد نفضوا أيديهم من الصداقة المزعومة والمجاملة الموهومة وآثروا أن يفرضوا ما يريدون فرضًا بالقهر أو بالقدر ولن يستطيعوا بإذن الله .
وكل شيء في الداخل مظهر سافر واضح من مظاهر القلق والألم والأمن والأسف والحزن والضيق . هذه المعاهدة المعطلة وهذه الحريات الملكية وهذا الرعب تمتلئ به الصدور وهذا الحذر من الحاكم والمحكوم . وهذه القوات من البوليس السري والعلني ترابط في كل مكان ، وتبعث الرهبة والريبة في كل يوم ، ولا يمكن أن تعيش في هذا الجو أمة مهما كان صبرها طويلا ومهما كان صدرها واسعًا وحلمها عظيمًا – والضغط يولد الانفجار ، لابد إذن من عمل شيء ، والسبيل أمامنا والحمد لله مهيأة والوسائل لا ينقصنا إلا الحزم والإقدام فإلي الأمام . أعلن يا باشا فشل المفاوضات واقطعها في عزة وكرامة ، وصارح البريطانيين بأنهم أحوج إلي صداقتنا منا إلي صداقتهم ، وأننا نعرف الوسائل التي تنال بها حقوقنا كاملة غير منقوصة ، وأننا لم نؤثر سبيل المفاوضات إلا إقامة للحجة وإثباتًا للمسالمة وإعذارًا إلي الله والناس ، ثم اطلب إلي الإنجليز جلاء قوتهم عن أرض الوادي فلا يليق بدولة عضو في هيئة الأمم المتحدة أن تحتل قواتها أرض دولة أخري هي عضو في الهيئة كذلك كما هو نص القرار ؛ وإلا كان وجودهم عدوانًا مسلحًا علي سيادة الوطن وخروجا علي ميثاق هيئة الأمم تهديدًا للأمن والسلام في الشرق الأوسط .
فإن لم يفعلوا فتقدم بقضية الوطن إلي مجلس الأمن وإلي محكمة العدل وإلي كل مجمع دولي تأنس فيه ميلا إلي الإنصاف . ونفورًا من الظلم والعدوان بعد الدراسة الكاملة والتمحيص الواسع والتنظيم الدقيق ورعاية كل الظروف والملابسات . ثم أطلق الحريات كاملة ولا تخش شيئًا يا باشا ، ولا تخف علي الأمن والنظام ويدين بالطاعة كهذا الشعب المصري الذي لا يعرف أن يحيا إلي في ظل النظام والطاعة . ثم وجه الدعوة إلي مواطنيك في جنوب الوادي وشماله في برنامج شامل مفصل يوضح غايتك ووسيلتك لتحقيق المطالب التي أجمعت عليها البلاد (الجلاء التام عن الوادي كله والحرص التام علي وحدته) وادع الأمة جميعًا إلي أن تكون معك علي ذلك ، وإلي أن تتألف من هيئاتها وأحزابها وجماعاتها ومفكريها جبهة قومية سودانية مصرية واحدة تتعهد الشعور الوطني وتسدده إلي الخير وتقف به عن العدوان . وتنظم الدعاية الشعبية في الداخل والخارج ، فتعمل الحكومة بوسيلتها الرسمية وتعمل تلك الجبهة القومية إلي جانبها بوسائلها الشعبية .. والجميع يرمون عن قوس واحدة ، ويهدفون إلي غرض واحد معروف مقدس عزيز ... ولا تستبعد هذا يا باشا ولا تظنه من الخيال فقد رأيت وسمعت ولمست وأحسست استعداد الجميع العظيم لمثل هذا معارضين ومؤيدين ، علي أثر بيانك بمجلس النواب .. فإذا خطوت بعده هذه الخطوة العملية فسيكون الجميع معك لا بمجرد التصفيق والاستحسان ولكن بالقول والعمل واللسان والسنان ، ولن يتخلف عنك في ذلك إلا من في قلبه مرض فيخسر نفسه وجهاده وماضيه ويظل مع الخوالف .
وثق يا باشا أنه لن يكون معك شعب وادي النيل وحده ولكن سيكون معك سبعون مليونًا من العرب يؤازرهم ثلاثمائة مليون من المسلمين تحقق قلوبهم لمصر وتتحرك مشاعرهم وعواطفهم لمشاعرها وتسكن بسكونها وليس ذلك بقليل . دعني أصارحك يا باشا وأنت لا شك عليم بأن الأمة ليست كما كانت بالأمس ، فقد امتلأت أفئدتها بشعور جياش قوي ، وأصبح الوعي الوطني اليوم تام الاكتمال قوي الأثر ، والشعور الوعي قوة أية قوة وهما عدة الشعوب المجاهدة وسلاح الأمم المناضلة . كما أتاح الله لهذه الأمة من رجالها وهيئاتها من جمع كلمتها الشعبية في تشكيل منظم مرتب ، وفي وحدات مؤمنة باذلة – والتجميع والتنسيق والنظام الدقيق قوة أخري ولا شك – قوة تسرع إلي الخير وقوة تحول دون الشر فالزمام أبدًا معقود ولن يفلت بإذن الله . يا دولة الباشا – لقد تقدمت لدولتك بمثل هذه النصيحة منذ عام مضي وهاأنذا أتقدم بها اليوم وأعتقد أني بذلك قد أبرأت ذمتي وأديت أمانتي والوقت من ذهب فسر علي بركة الله والله معك وأقدم ولا تتردد فتفلت الفرصة السانحة وتعود من جديد إلي التجارب القاسية ، ونستبين النصح ضحي لقد حيث لا يفيد ولا ينفع ألا قد بلغت اللهم فاشهد والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته .
هذا هو نص الخطاب الذي تقدم به الإخوان للنقراشي باشا بعد تسلمه مقاليد الحكم بأقل من شهر ويلاحظ فيه القارئ عدا الخطة المفصلة المقترحة ؛ بث روح الاطمئنان في نفسه إلي أن الإخوان سيكونون بجانبه ومن ورائه وأن تنظيماتهم الشعبية قادرة علي النهوض بأعباء الجهاد ضد المستعمر إذا ما ارتضت الحكومة سلوك سبيل الجهاد ، وهذا لعمري هو نكران الذات حقًا أمام رجل لم يمض علي اعتدائه علي الشعب وعلي الإخوان بالذات إلا عام واحد .. بل يبدو أن بعض الطلبة أرادوا أن يبثوا الرعب في نفوس الإنجليز حتى يرغموهم علي التفاهم مع هذه الحكومة بأن انتهزوا أعياد الميلاد يوم 25 ديسمبر فانفجرت خمس قنابل في الاتحاد المصري الإنجليز وخلف باركاليفورنيا في شارع توفيق وفي شارع جلال وفي شارع الملكة فريدة وعلي سيارة تاكسي كان يركبها الجنود الإنجليز أمام مدرسة بغمرة وهذه هي الأماكن التي يأوي إليها الجنود والضباط الإنجليز – علي أن أحدًا لم يصب .
- مواقف متناقضة لهذا الحكومة :
1 – بعد توجيه الإخوان خطابهم إلي النقراشي وإصدارهم بيانًا إلي الشعب بنفس المعني أعلن النقراشي أنه قرر قطع المفاوضات مع الإنجليز وعرض القضية علي مجلس الأمن ، ومعني هذا أنه نابذ الإنجليز بالعداء .
2 – بعد سقوط وزارة صدقي عشية حصوله علي ثقة شبه إجماعية من مجلس النواب ثبت للنقراشي باشا ولغيره أن اعتماد الحاكم في مصر لتثبيت مركزه وتأمين خطواته علي تأييد هذا المجلس لم يعهد كافيًا وأنه لابد من الاستناد إلي قوة شعبية حقيقية ، ولما كان من المستحيل أن يحظي من الوفد بتأييد فلا مناص من اللجوء إلي الإخوان .
3 – أعلن الإخوان تأييدهم لهذه الحكومة بعد أن أعلنت استجابتها لمطالب البلاد – ومعني تأييد هيئة شعبية لحكومة كان يأمل المستعمر من وراء ضعفها الحصول علي مكاسب له أن يحاول الدس بين الحكومة وبين هذه الهيئة حتى ينفرد بالحكومة وحدها فيمل عليها ما يشاء .
وكان الإخوان حريصين علي أن لا يتيحوا الفرصة للمستعمر ، ولكن المستعمر لجأ إلي أساليب حقيرة – مستغلا الصيغة الدينية للإخوان – فسلط بعض صنائعه من المصريين فهاجموا بعض الكنائس والمعابد . وقد ظهر أثر ذلك في مقال نشرته جريدة فيلادلفيا تربيبون في 25-5-47 تعرضت فيه الإخوان المسلمين بقولها " إن عدم الاستقرار في مصر لا يرجع كله إلي الحمية الوطنية بين المصريين أنفسهم ، فهناك علي سبيل المثال ما يسمونه جمعية الإخوان المسلمين وهي التي غدت مسئولة عن عدد من الحوادث التي وقعت في مصر أخيرًا . إن نشاط هذه الجمعية في صالح الإسلام أكثر منه في صالح المصريين ، وصد المسيحية أكثر منه ضد البريطانيين ؛ وهذا يفسر الهجوم الذي وقع أخيرًا علي كنيسة قبطية والهجوم والذي وقع منذ عام مضي علي الكاتدرائية البريطانية في القاهرة وعلي معابد اليهود والكنائس اليونانية في الإسكندرية .. لقد بدأت هذه الحوادث تظاهرات سياسية وانتهت كمظاهرات العنف يقوم بها المتعصبون المسلمون والدولة التي تراقب هذه التطورات باهتمام . وتعتبر الدولة التي تستفيد من ذلك هي روسيا فإذا استطاعت أن تثير الدول العربية ضد الدول المؤمنة ذات المبادئ التي لا تشتري ضمائرها في سوق النفاق والشهوات . وقد ثبت أن الهجوم علي الكنائس من تدبير الإنجليز .
4 – علم الإخوان كما علم غيرهم أن هذه الحكومة بالذات هي أضعف من أن تقوم بأعباء مواجهة الإنجليز لأن رئيسها النقراشي يحمل إصر تأييده المفاوضات القديمة واشتراكه واشتراك حزبه وخطابه المشهور الذي تحدي فيه طوائف الشعب كله بتأييده بكل قوة . مشروع صدقي – بيفن في الجلسة السرية لمجلس النواب فعمل الإخوان علي تكوين جبهة من جميع الهيئات المصرية المحايدة ضمت الشبان المسلمين ومصر الفتاة والحزب الوطني والكتلة وحزب الفلاح وحزب العمال وانضم إليها السعديون الأحرار كما ضمت الشخصيات المستقلة . وكانت مهمة هذه الجبهة هي العمل علي وحدة الصفوف في مواجهة الإنجليز . وقد بذلت هذه الجبهة أقصي ما استطاعت من جهد ولكن نتيجتها قد أجملها صالح حرب باشا في بيان أذاعه يوم 24-3-1947 جاء فيه :
" إن شباب الأمة فوضني في محاولة توحيد الصفوف فقمت بمقابلة الجهات المختلفة وتبين أنها ثلاث جهات :
1 – معسكر الحكومة ويتكون من حزبي الأحرار والسعديين .
2 – معسكر الوفد .
3 – معسكر الأحزاب والهيئات الأخرى (وهي التي تتكون منها الجبهة التي فوضته) .
فالمعسكر الثالث رحب بالتوحيد ، ولكن المعسكر الأول رفض حل مجلس النواب الحالي في الوقت الذي اشترط فيه المعسكر الثاني حل مجلس النواب الحالي . فشلت هذه الجبهة في مساعيها وظل النقراشي علي تمسكه بأن يواجه الإنجليز وحده ، فدارت مناقشات واجهه بعض أعضاء مجلس الشيوخ في أثنائها بمواطن الضعف في مواقف السابقة مما يضعف حجته أمام خصوم البلاد ، فأصر علي رأيه ... حتى الموظفون الأخصائيون واجهوه بمثل ذلك فعندما أبلغ النقراشي باشا محمود حسن باشا سفير مصر في الولايات المتحدة باعتزامه تقديم القضية إلي التحكيم نصح السفير بأن تكون الهيئة التي تتولي ذلك ممثلة للرأي العام المصري بأجمعه . ولكن النقراشي أصر علي رأيه .. وحينئذ رأي الإخوان أنهم أمام أمرين أحدهما مر إما أن يعملوا علي إسقاط النقراشي وفي هذا إضاعة للوقت الثمين وللجهد الوطني المخلص وفي هذا مواجهة مباشرة للملك الذي أبدي إصرارًا علي التمسك بهذا البرلمان وما يتفرع عنه من حكومات هزيلة ... وستتحول المعركة من مواجهة المستعمر إلي مواجهات داخلية وهو ما يتمناه المستعمر .. وإما أن يؤيدوا النقراشي بعد أن قيد نفسه بتصريحات رسمية أنه سيفتح صفحة جديدة في مواجهة المستعمر .. واختار الإخوان أمرًا اعتبروه أخف الأضرار .
4 – كان أمل الإخوان كما كان أمل كل مصري أن ينجز النقراشي وعده فينبذ إلي الإنجليز علي سواء وفي أقرب فرصة ولكن الذي حدث أنه ظل يؤجل المواجهة يومًا بعد يوم بحجج مختلفة حتى قوت علي البلاد بهذا التأجيل المصطنع ثمانية أشهر ، استطاع الإنجليز في خلالها تكوين جبهة من السودانيين مناهضة لمصر برياسة المهدي وتطالب بالاستقلال عن مصر ، وطرد حاكم السودان في خلالها قاضي قضاة السودان المصري وأبدله بسوداني عينه هو كما طرد مدير التعليم المصري أيضًا ، فجعل ذلك مهمتنا في المطالبة بوحدة وادي النيل أمرًا صعبًا ؛ ولو أن النقراشي أخذ بنصيحة فأعلن إلغاء معاهدة سنة 1936 واتفاقية سنة 1899 الخاصة بالسودان لما استطاع الإنجليز ولما وجدوا الفرصة لفعل ما فعلوا في السودان ولكان موقفهم موقف الدافع عن نفسه لا موقف المهاجم .
5 – في الوقت الذي تدعي فيه الحكومة أنها تتأهب لمهاجمة الإنجليز ودمغهم بالاعتداء ويقوم الإخوان بتعبئة الشعور الشعبي لهذه الخطوة :
- (أ) فيطبعون كتابًا عنوانه " إلي الشهداء الأبرياء " تقوم هذه الحكومة بمهاجمة دار الإخوان ومصادرة النسخ التي طبعت من هذا الكتاب .
- (ب) القنابل التي ألقاها بعض الطلبة في ليلة عيد الميلاد علي الأماكن التي يتردد عليها الإنجليز والتي أشرنا إليها من قبل والتي ألقيت محكمة بحيث تخيف الإنجليز دون أن تقتل أحدًا ، تلقي الحكومة القبض علي الطالبين حسين عبد السميع ومحمود نفيس وتقدمهما إلي محكمة الجنايات كأنهما مجرمان .
- (ج) يقوم جوالة الإخوان باستعراض في القاهرة لبعث الروح في الشعب في 30-6-47 فيقوم بوليس الحكومة بمهاجمتهم ويحاول منعهم عن مواصلة الاستعراض حتى تقوم بينهم وبين البوليس معركة .
6 – عند عرض القضية علي مجلس الأمن وإصرار النقراشي علي أن يكون هو وحده وحزبه ممثل مصر فيها يقع ما كان محذورًا ؛ فقد كان الأساس الذي بني عليه عرض القضية علي هذا المجلس هو قطع المفاوضات لفشلها ، وكان لابد أن يذكر النقراشي ذلك في بيانه أمام المجلس . فكان السير الكسندر كادوجان مندوب بريطانيا في المجلس يقذف في وجه النقراشي بالحجة وهي أن النقراشي نفسه هو الذي أيد مواصلة المفاوضات ووافق علي مشروع صدقي – بيفن ... وبذلك انهار دفاع النقراشي كله حيث انهار أساسه وفشلت القضية أمام المجلس .
7 – لم تقصر الأمة من جانبها في مساندة هذه الحكومة بالأستاذ أحمد حسين رئيس مصر الفتاة سافر إلي الولايات المتحدة قبل عرض القضية بفترة طويلة وأخذ يشرح جوانبها للشعب الأمريكي – وفي أثناء عرض القضية علي مجلس الأمن قام الأخ الأستاذ مصطفي مؤمن مندوبًات عن شباب الإخوان بعمل جرئ لإثارة العالم بقضية مصر – ونثبت نص ما جاء بالصحف ووكالات الأنباء عن هذا العمل فيما يلي : " نيويورك في 22-8-1947 :
في جلسة مجلس الأمن بعد الظهر افتتحت الجلسة في موعدها ، ولكن حادثًا لم يسبق له مثيل في تاريخ المجلس وقع في مستهلها ؛ فإن الأستاذ مصطفي مؤمن ما كاد يري النقراشي باشا يحتل مكانه المعتاد ليلقي بيانه حتى خرج من مكان المتفرجين إلي مكان الأعضاء والسكرتيرين فحدثت ضجة بين الأعضاء ، فطلب الرئيس منه أن يلزم النظام ثم دعا الحراس لإخراجه من قاعة المجلس .. وكان الأستاذ مؤمن يلبس الطربوش كعادته . وقد علمت أن الأستاذ مؤمن كان يريد أن يخطب في أعضاء المجلس باسم الشعب المصري ، وجاء في الكلمة التي استطاع إلقاءها ما يلي :
سيدي الرئيس
أتقدم إليكم باسم جميع شعوب الشرق الأوسط وبالنيابة عن الإخوان المسلمين .. نحن نطلب أن تعامل قضيتنا بالعدالة التي أصبحت جديرة بها ، فإذا لم يحدث ذلك فإن ألوفاً من الناس سيبذلون حياتهم رخيصة في الكفاح من أجل حرية بلادهم .. ثم قال وهو يلوح بأوراق معه : " ونحن نطلب الحرية " – ولكن حارسين مع نائب رئيس ضباط الأمن أخرجوه . ولكنه ظل يخطب بصوت عال حتى خرج ... فساد الذهول أعضاء المجلس ليذكر أعضاءه بالحقوق المهضومة التي يسكتون علي هضمها .
وبعد أن خرج الأستاذ مؤمن من الجلسة تبعه بعض مندوبي الصحف إلي قاعة الصحافة الواقعة خلف قاعة مجلس الأمن مباشرة – وقد تأثر الأعضاء لقول مؤمن : إن ثورة ستجتاح وادي النيل بدون ريب إذا حدثت مفاوضات ، وإن النذير قد بدأ اليوم في حوادث القاهرة وأنه يريد أن يعلن ذلك علي العالم كله .. وقال ..
" أيها السادة أريد أن أكرر عليكم ما أبلغته لمجلس الأمن قبل مناقشة المسألة المصرية اليوم ، فإني أعلن أولا أن استئناف المفاوضات سيلقي مقاومة شعب وادي النيل بأسره ، وأعلن ثانيًا أن فسم عري وحدة وادي النيل ستضر السلام العالمي . وأعلن ثالثًا أن سياسة الدول الكبرى التي تسعي إلي مصالحها الاستعمارية دون النظر إلي الأمم المهضومة الحقوق ستدفع هذه الهيئة إلي الصبر نفسه الذي اندفعت إليه هيئة الأمم ؛ أي الموت والاندثار من عالم الوجود .. وقد تلقيت من القاهرة اليوم وثيقة كتبها شباب مصر بدمهم ، وهو يعربون فيها عن الرأي الذي أبديته لكم الآن تمامًا . وما يجمع شعب وادي النيل عليه هو تطهير جبين البلاد من وصمة الاحتلال البريطاني فورًا ، وإنهاء الحكم التعسفي الذي أقاموه لأغراضهم الخاصة في السودان " .
8 – في نفس يوم اجتماع مجلس الأمن لنظر قضية مصر – وكان يوم جمعة – دعا الإخوان الهيئات الوطنية والشعب لإعلان تضامنه مع الحكومة في مطالبتها بحقوق البلاد . فخرجت مظاهرة ضخمة من الجامع الأزهر وأمامها علم الإخوان المسلمين تهتف بمطالب البلاد .. فإذا ببوليس الحكومة يهاجمها مهاجمة وحشية فأصيب الأستاذ المرشد بعدة ضربات في وجهه وفي أحد أصابعه ... وقد أخبرني الأخ الأستاذ محمود صبري وكان حاضرًا في هذه المظاهرة أنه لما جرح إصبع الأستاذ المرشد وسال منه الدم نظر إليه وتمثل بقول رسول الله صلي الله عليه وسلم في مثل هذا الموقف وقال :
هــل أنت إلا إصبـع دميت
- وفي سبيـل الله مـا لقيـت
وكان يتمثل بهذه الكلمات الكريمة حين اجتمعوا بعد المظاهرة في بهو الاستقبال وقد أخذوا يضمدون له جراحه .
كما أخبرني الأستاذ محمود – وكان بجانب الأستاذ المرشد طيلة فترة هذه المظاهرة – أنه لاحظ – كما لاحظ الأستاذ المرشد نفسه – أن تصرف رجال البوليس في ذلك اليوم كان يشعر بأن هناك خطة مرسومة لاصطياد الأستاذ المرشد منفردًا للتخلص منه ... ذلك أن قوات البوليس حاصرت الأزهر وكانت تعمل علي تفريق من يخرجون منه وتشتيتهم أولا بأول حتى إذا خرج الأستاذ المرشد اصطادوه وحده ... وكان الأستاذ آخر من خرج من المسجد وكأنهم ظفروا بما أرادوا فحاصروه بالقوة كلها راكبة الخيل وهو منفرد .. وهنا تصرف الأستاذ المرشد تصرفاً مذهلا إذ اختطف عصًا من أحد أفراد القوة وأخذ يضرب بها كل حصان علي أنفه فيرفع الحصان رجليه الخلفيتين فيهوي الجندي الذي يمتطيه علي الأرض وبذلك تمكن من إسقاط أفراد القوة كلها ، وكان الإخوان قد لحقوا به في خلال هذه المنازلة البارعة والتفوا حوله وعادوا به إلي المركز العام وقد نجاه الله من الموت محقق كان مدبرًا له في ذلك اليوم والله غالب علي أمره .
وقد توفي في تلك المظاهرة ثلاثة رجال وكان أحدهم الأخ الشهيد محمد عبد الرحيم الأنصاري من عمال السكة الحديد .. وقد أخبرني الأخ الأستاذ محمود الجوهري أيضا قال : كنا نستعد للتجمع لهذه المظاهرة وكانت وقفتي بجانب الأخ محمد عبد الرحيم وهو مسند ظهره إلي سور مدرسة المحمدية بشارع أحمد عمر قريبًا من المركز العام وكان في زيه المعروف به وهو الجلباب الأبيض والعمامة البيضاء الكبيرة وسمعته يقول قولة لا أنساها " إنني أشم اليوم رائحة الجنة " وأذكر أن الأخ الأستاذ لبيب البوهي قد أخرج قصة باسمه في ذلك الوقت . وقد رأيت بإيراد هذه اللمحات أن يتبين القارئ في ضوئها صورة للمواقف ومدي البون الشاسع بين الأم الثكل والنائحة المستأجرة . ولم يفت الأستاذ المرشد في خلال هذا الإجراء الغاشم من البوليس أن يعتب علي اللواء سليم زكي حكمدار القاهرة ...
وفي نفس اليوم قامت مظاهرات في طنطا وبورسعيد والإسكندرية ... وكانت هذه المظاهرات من الضخامة بحيث هزت أبناؤها أرجاء العالم حتى إن مراسل جريدة المصري في نيويورك أرسل إلي جريدته يقول : تلقت نيويورك قبل ظهر اليوم أنباء المظاهرات ثم وقعت في القاهرة ، وانتشرت هذه الأنباء بسرعة عظيمة هنا في نيويورك ، وكان لها أثر قوي علي الجميع – ولم يشأ أعضاء الوفود المختلفة أن يعلقوا بشيء .. وقد أعرب كثيرون في ليك سكسس عن أسفهم لإصابة كثيرين في خلال المظاهرات ... وقد عاق السير والترسمارت علي هذه الأنباء بقوله : إنه يخشي أن تكون الحالة قد تطورت فأصبحت خطيرة للغاية . ومع هذا التناقض المزري في مواقف الحكومة إذ تهاجم مظاهرات قامت لتأييدها وتقوية مركزها في مجلس الأمن فإن الإخوان لم ينثنوا عن مواصلة تأييد الحكومة إذ تم اجتماع بين الإخوان والهيئات الوطنية وبين خشية باشا نائب رئيس الوزراء وسويت المسألة وقرروا الإضراب يوم 26-8 استنكارًا لمعاهدة سنة 1936 .
9 – يحار المرء أمام تصرفات النقراشي باشا التي تدل علي أنه كان جادًا يوم أعلن في مجلس النواب أنه سيهاجم الإنجليز ويصمهم بالاعتداء ، فلا شك علي سبيل المثال أن العمل الجريء الذي قام به مصطفي مؤمن في مجلس الأمن كان أعظم أثرًا وأجدي نفعًا للقضية المصرية من ألف خطية كالتي ألقاها النقراشي في هذا المجلس فلقد لفت أنظار العالم كله إلي مظالم الإنجليز واعتدائهم علي حرية الشعب المصري بطريقة عملية مثيرة لاسيما وقد شفعت بمظاهرات ضخمة في القاهرة هزت مشاعر العالم ... وكان أدني ما ينتظر من رئيس وزراء مصر أن يحتضن هذا الشباب في شخص مصطفي مؤمن ومن معه ويشيد بهم .. فانظر ماذا فعل هذا الرجل :
الذي جاء بالصحف في ذلك الوقت وقرأناه ولازال مسجلا فيها إلي اليوم هو أن الأستاذ أحمد كامل قطب شابًا وطنيًا وكان محاميًا ورئيسًا لحزب الفلاح .. وسافر هو الآخر إلي نيويورك ليشارك في الجهود الشعبية من أجل القضية ، فلما قام مصطفي مؤمن بحركته وألقي الكلمات التي أشرنا إليها قبلا وأخرجوه من قاعة المجلس ، قام الأستاذ أحمد كامل قطب بمثل الدور الذي قان به مصطفي مؤمن فأخرجوه أيضًا .. ويبدو أن مفاجأة مصطفي مؤمن لم تدع فرصة للنقراشي ليفكر ويكون رأيا فيما حدث فلما قام أحمد كامل قطب بنفس الدور كان النقراشي قد كون رأيًا فاتجه إلي أحمد قطب وقال له أمام الجميع : اخرج يا مجرم . وقد عز علي الأستاذ أحمد كامل قطب أن يرميه وزراء مصر بالإجرام واعتقد أنها مجرد زلة لسان فقابله في اليوم التالي أمام وفد مصر وعتب عليه فيما صدر منه إليه وقال له يا دولة الباشا إن العمل الذي قمت به هو جهاد شريف لتأييدك وتأييد قضية البلاد وما كان ينبغي أن ترميني من أجله بالإجرام فرد النقراشي باشا قائلا : إنك بالعمل الذي قمت به أمس فأنت مجرم فما كان من الشاب المجاهد إلا أن قال للنقراشي : إذا كان أحد مجرمًا إذن فالمجرم أنت . وتركه وانصرف .
أما تصرف النقراشي باشا إزاء مصطفي مؤمن فقد كنت علي علم به في تلك الأيام ولكني قد حملته يوم بلغني علي محمل المبالغة وكنت عازمًا علي إغفال ذكره في هذه المذكرات لهذا السبب ، ولكن شاءت الأقدار أن تحمي الظروف بزميل في العمل لا علاقة له بالإخوان المسلمين ولا بالسياسة ولكنه يرتبط برباط القرابة مع المرحوم الأستاذ عثمان عبيد الذي كان في ذلك الوقت قنصلا لمصر في نيويورك ، وفي معرض حديثه عن خلق قريبه وشجاعته قال لي إنه رحمه الله حدثه أنه بعد الانتهاء من عرض القضية علي مجلس الأمن جاءه الطالب مصطفي مؤمن الذي استطاع أن يجتذب انتباه العالم إلي مصر وإلي قضية مصر وشكا إليه أنه انفق كل ما كان معه من نقود وأنه يريد أن يرجع إلي مصر وطلب إليه أن تتكفل القنصلية بمصاريف سفره ، قال الأستاذ عثمان فوافقت لأن التعليمات تقضي بذلك .. قال الأستاذ عثمان فلما علم النقراشي باشا بذلك استدعاني وعنفني علي موافقتي علي ترحيل مصطفي مؤمن علي نفقة القنصلية ، فبهت لهذه المفاجأة لأنني كنت أعتقد أن مصطفي مؤمن بما أداه من خدمة للقضية سيكون موضع تكريم من الحكومة ورئيسها ... فسألته عما يريدني أن أفعله . فقال : ارفض ترحيله علي نفقة القنصلية . فقلت له : وكيف أرفض والتعليمات عندي تلزمني بالموافقة ؟ قال : أنا رئيس الحكومة وأنا آمرك . فقلت له : إذا كان الأمر كذلك فلابد من أمر كتابي .. فلما أحس بأنني أفحمته تقهقر .
10- أصدر مجلس الأمن قرارًا بتأجيل قضية مصر إلي أجل غير مسمي ، ورجع النقراشي إلي مصر وكان الجميع ينتظرون منه حين يرجع أحد موقفين إما أن يقود الشعب المهيأ تمام التهيئة للنضال ضد الإنجليز وإما أن يقدم استقالته .. ولكنه رجع واتخذ موقفًا آخر غير هذين هو موقف السكوت المطبق . وقد طال سكوته حتى أسأم أهل مصر جميعًا وأهل وادي النيل وكاد يبعث في نفوسهم اليأس وإليك نموذجًا من البيانات التي صدرت من الهيئات المختلفة معبرة عن هذا المعني وهذا البيان صادر من حزب مصر الفتاة يقول :
- " إن دولة النقراشي باشا خيب آمال البلاد منذ عودته من أمريكا فقد لاذ بالصمت المطلق ، ولم يحاول أن يوجه البلاد أو يقودها نحو تحقيق أهدافها . ثم توالت الحوادث في الخارج والداخل فراح حاكم السودان يفاجئ الحكومة بتصرف جديد كل يوم جاهدًا في العمل علي فصل السودان نهائيًا ولم تفعل الحكومة المصرية شيئًا بل ولم تقل شيئًا . وليس هناك ما يكشف عن عجز الحكومة كأزمة ضباط البوليس (قاموا بإضراب) واختتم البيان بأنه يجب علي الحكومة أن تفسح الطريق لحكومة أخري تكون أكثر قدرة منها علي التعاون مع الشعب وحل مشكلاته وأزماته بروح جديدة وعزم جديد " .
وإذا كان هذا نموذجاً يمثل رأي الهيئات الشعبية في موقف هذه الحكومة وقد صدر في 20 أكتوبر وهو حزب الأحرار الدستوريين قد استبد به الضجر فعقد اجتماعًا في 16 ديسمبر سنة 1947 ووقف رئيسه الدكتور هيكل يصف موقف الحكومة من القضية بأنه " سبات عميق " وقد نشر ذلك في الصحف في ذلك اليوم . ونورد نموذجًا آخر يمثل رأي المستقلين من ذوي الفكر فيما جاء في كلمة ألقاها في مجلس الشيوخ في 13-1-1948 وهيب دوس بك عضو المجلس حيث قال " إن الذي تشعر به البلاد ويشعر به الناس جميعًا هو أن رئيس الوزراء يلوذ بالصمت دائمًا في كل أمر يطلب إليه بيانه ، وهذا ما يجب أن يوضع له حد " ثم قال : أما وقد ذهب وفد مصر إلي مجلس الأمن وعاد فقد كان مفروضًا أن الحكومة قد أعدت عدتها لمواجهة حالتي النجاح والفشل ، وبقاء القضية معلقة في المجلس ليس هو النجاح الذي ذهب وفد مصر إلي ذلك المجلس من أجله ، فكل ما فيه أن المجلس لم يحكم برفض الدعوى ، فماذا أعدت الحكومة لذلك ؟ وقد ثبت أن الخطوات التي خطتها لم تفد البلد شيئًا علي الأقل ويجب أن لا يبقي الأمر علي طريقة عدم كشف الأوراق ، بل يجب أن تعرف البلاد حقيقة الموقف فإذا كانت الحكومة أعدت خطة معينة أزمعت تنفيذها فعليها أن تصارح البلاد بها .
واستطرد فقال : إن المندوب البريطاني في مجلس الأمن واجه وفد مصر هذا المجلس غير مختص إلا بنظر الحالات التي تهدد الأمن العالمي . وتساءل كيف فات الحكومة ذلك فظلت الحالة علي ما يرام وظل الإنجليز علي قناة السويس لا يعكر صفوهم معكر ، علي أن الأمن لا يهدد إلا إذا كانت مصر تنوي أن تعمل عملا . ورأي أن السكوت علي تصرفات حاكم السودان إنما هو تكملة للعبارة التي قالها المرحوم سعد زغلول باشا حين قال : " هل عندكم تجريدة ؟ " وتساءل علي الأساس السحري الذي تنتظره لإزاحة الإنجليز من بلادنا إذا كنا بلا تجريدة وبقي الإنجليز حيث هم في بلادنا لا يجلون عنها . وقال : إنني لو كنت صاحب الأمر يوم أمر حاكم السودان بإخراج الموظف المصري من السودان في 24 ساعة وإلا اعتقل لما ترددت في أن أستدعي الموظفين الإنجليز في مصر جميعًا وأعلنهم بأن عقود استخدامهم قد ألغيت . وهذا كان أبلغ رد علي إخراج موظف مصري من أرض هي جزء من بلده
11- في الوقت الذي طالبت فيه كل الهيئات والأحزاب الممثلة للشعب بتخلي هذه الحكومة عن مركزها بعد فشلها التام نري جريدة التيمس تعبر عن وجهة النظر الرسمية في لندن فتثني علي النقراشي وتقول إن الواجب يحتم عليه البقاء في الحكم وتقول : إن جماعة الإخوان المسلمين يضعون أمام النقراشي مشكلة أخري ،وإن هذه الجماعة قد برهنت علي منفعتها كجبهة معارضة لخصمها وهو الوفد ، ولكن زعامة الإخوان المسلمين لا تتحمل المسئولية ، وتشددها يجعل تأييدها ميزة ليست لها قيمة مؤكدة " .
وكان من المنتظر أن يقوم الإخوان بعمل قوي يصحح الوضع يلزم هذه الوزارة بالتخلي عن تبلدها وبأن تقود البلاد إلي مقاومة المستعمر حتى يخرج من البلاد وإما أن تترك مكانها لحكومة ترضي لنفسها أن تحمل هذا العبء " ... ولكن كارثة كبرى حلت بالعالم الإسلامي أذهلت كل مسلم في الأرض وجعلت كل دولة عربية وإسلامية تنسي مشاكلها الخاصة أمام هذه الكارثة تلك هي صدور قرار هيئة الأمم المتحدة بتقسيم فلسطين .. مما جعل الإخوان يضعون كل ثقتهم وراء العمل علي دفع هذه الكارثة وتجاوبت جميع الشعوب العربية بهذا الشعور حتى اضطرت حكوماتها المتهالكة إلي الظهور بمظهر المتجاوب هي الأخرى . ورأي الإخوان أن تكريس جهودهم لدفع هذه الكارثة المروعة أجدر أن يقدم علي كل ما سواه وقد أرجئوا مواجهة هذه الحكومة آملين في أن تحظي قضية فلسطين بتأييد من هذه الحكومة ، فتأييد هذه الحكومة ضروري لتأمين ظهر الإخوان في محاولتهم دفع الكارثة الحائقة بفلسطين وكان الإخوان قد رفعوا إلي الملك فاروق عريضة في شأن القضية المصرية وما آلت إليه وما ينبغي أن يتخذ في شأنها ، فلما وقعت كارثة قرار هيئة الأمم بتقسيم فلسطين بعثوا في 18-1-1948 برسالة إلي النقراشي باشا أشاروا في مستهلها إلي أن الوزارة عدت عريضة الجماعة المرفوعة أخيرًا إلي جلالة الملك معارضة لها ضاق صدرها بها ثم قالوا : " إن الإخوان المسلمين يجاهدون وحدهم تارة ومع المجاهدين تارة أخري في سبيل فلسطين الغربية ، وقد أعلنت الحكومة اهتمامها بهذه القضية وتشجيعها للعاملين في سبيلها . وإنهم حين يعملون لفلسطين يعملون لها مخلصين ولا يسمحون لأنفسهم بأن تعلق بهذا الجهاد شبهات السياسة المحلية . وهم علي استعداد لشكر الحكومة المصرية في هذا المعني إذا قامت بواجبها ، ولتنبيهها إذا قصرت ولنقدها أشد النقد إذا أصرت علي التقصير " .
ويلاحظ القارئ أن في هذه الرسالة نوعًا من اللين والملاطفة لحكومة يعلم الإخوان من بلادتها ما يعلمون ولكن الظروف المحيطة بالبلاد الإسلامية وبالتبعات الملقاة علي عاتق الإخوان حيالها اقتضت هذه الملاينة مع حكومة كانت هي الأمر الواقع وقد ضمنت تأييد الملك بجعلها إبراهيم عبد الهادي رئيسًا للديوان الملكي ولا ينبغي للعاقل أن يحارب في جبهتين , ولاسيما وقد نبتت بجانب قضية فلسطين وفي نفس الوقت قضية أخري ألقت علي كاهل الإخوان عبثًا آخر تلك هي قيام " ثورة اليمن " .
ثورة اليمن
في خلال الأربعينات أثر عن بعض كتاب الغرب الذين جابوا البلاد العربية قولهم : " إن مصر متخلفة عن أوروبا مائة عام ، والسعودية متخلفة ثلاثمائة عام ، أما اليمن فإنها لازالت تعيش في عصر ما قبل التوراة " .
وقد لا يكون في قولهم هذا مبالغة ؛ فإن اليمن كانت رازحة تحت لون من الحكم يدعي لنفسه أنه الحكم الإسلامي الوحيد في العالم حتى إن الحاكم كان يطلق علي نفسه لقب " الإمام " ويقصد بذلك أنه الحاكم الإسلامي الذي يجب أن يدين له بالطاعة كل مسلم علي وجه الأرض ... لكن هذا الحاكم كان أبعد الناس عن الإسلام بل إنه كان سبة وعارًا في جبين الأمة الإسلامية . نعم استطاع حكم هؤلاء الأئمة أن " يحفظ " هذه البلاد – كما يدعون – من أن تمتد إليها يد المستعمر ولكن هذا " الحفظ " كان أشبه بالاستجارة من الرمضاء بالنار ، فلقد استطاع هؤلاء الأئمة أن " يحفظوا " اليمن من أن ينفذ إليها بصيص من النور ، ومن أن تسري فيها قسمة من قسمات الحياة ... عزلوا اليمن عن العالم كله ، وكبلوا أهلها بأغلال الفقر والجهل والإذلال ؛ فجميع ما تقل الأرض هو للإمام ، فتراخي الناس عن فلاحة الأرض حتى جدبت .. والتعليم محرم إلا علي أسرة الإمام وفي حدود لا تنير العقل ولا تفتق الذهن .. والمواصلات منعدمة ولا أقول قليلة أو نادرة . فلم تكن هناك للمواصلات إلا الدواب فليس في البلاد خط حديدي وليس فيها طريق معبد يصلح للسيارات وليس في اليمن كلها إلا سيارة واحدة هي سيارة الإمام .. أما انعدام الطب والدواء والمستشفيات فأمر طبيعي مع فقد العمل والتعليم والمواصلات .. وهدف الأئمة من هذا " الحفظ " الذي يدعونه هو أن يأمنوا علي عرشهم من أن يقوم في اليمن من ينازعهم فيه أو حتى من يسألهم عما يفعلون .. وأني يقوم رجل من هذا القبيل في بلد كل أهله جهلاء وأكثرهم مرضي وفقراء ولا تستطيع قرية أن تتصل بجيرانها إلا بشق النفس ؟! ..
ولم يكتف الأئمة بكل هذه الوسائل من وسائل " الحفظ " بل إمعانًا في " الحفظ " تذرعوا بوسيلتين جهنميتين أخريين : أولاهما : أنهم نشروا زراعة نبات مخدر يسمي " القات " وأكثروا من زراعته وعملوا علي ترويج تعاطيه – وما أسهل نشر الفساد – فصار مضغ القات شغل أهل اليمن الشاغل .. وبذلك ضمن الأئمة أن قضي هذا " القات " علي البقية الباقية في هذا الشعب الذي لا يكاد يفيق من التخدير .
والوسيلة الأخرى : هي أن يأخذ الإمام من كل شيخ قبيلة أحد أبنائه ويبقيه عنده موثقًا رهينة لديه حتى لا يفكر أحد الشيوخ في الخروج عن طاعة الإمام فيقتل ولده .
وليس هذا الوصف الذي أوردته لليمن مستقي من مقال كتب أو من مؤلف وضع قد يشك في اتجاه كاتبه أو هدفه ، وإنما هو وصف وصفه لي أحد الإخوان الفضلاء كان هو أول بعثة تعليمية أوفدت إلي اليمن هو الأخ الأستاذ جمال عمار وذلك بعد أن أنشئت الجامعة العربية وكان ذلك أول اتصال لليمن بالحياة .. أخبرني حين رجع من اليمن بمشاهداته هناك وهي التي استخلصت منها ما قدمت من وصف موجز لحال اليمن .. ومما ذكره لي أيضًا عن رجال الشرطة في صنعاء أن الإمام لا يكاد يعطيهم مرتبات فهم عادة حفاة ومن المناظر المألوفة أن تري الواحد منهم يجري في الأزقة وقد خطف بعض الدواجن والمرأة صاحبة الدواجن تجري خلفه مستغيثة تتوسل إليه أن يرد لها ما خطفه من دواجنها ؛ فالشرطة الذي يفترض فيهم أنهم يحمون الشعب من المعتدين هم الذين يعتدون ويستبيحون أموال الناس تحت سمع الإمام وبصره . هذا قليل من كثير مما أنبأني به الأخ الأستاذ جمال عمار مما رآه بنفسه في اليمن .. وحين كنت بمكة سنة 1950 كنت أنظر إلي الرجل فأعرف أنه يمني فأسأله فيتبين صدق فراستي وكانت العلامة التي أميز بها اليمني هي تحول جسمه وشحوب لونه وضعف بنيته ، كلهم مرضي بفقر الدم فلا غذاء ولا دواء ولا عمل ولا أمل ، وأكثرهم جاءوا من اليمن إلي السعودية مشيًا علي الأقدام . وتاريخ اليمن ينبئنا بأنها كانت من أخصب البلاد تربة ومن أغناها تجارة ومن أذكاها عقولا وهي الأرض التي قال الله تعالي في وصفها " لقد كان لسبًا في مسكنهم آية جنتان عن يمين وشمال كلوا من رزق الله واشكروا له بلدة طيبة ورب غفور " والتي قال رسول الله صلي الله عليه وسلم فيها " الإيمان يمان والحكمة يمانية " ولكنها أجديت علي أيدي " الأئمة " الذين احتكروا الإسلام وأرادوا أن يحتكروا الحكم والسلطة .
كان أول اتصال للإخوان باليمن عند انعقاد المؤتمر البرلماني العالمي لقضية فلسطين سنة 1938 وقرر المؤتمر إيفاد وفد عربي لحضور مؤتمر المائدة المستديرة في لندن فأوفدت المملكة العربية السعودية الأمير فيصل بن عبد العزيز وأوفدت اليمن اثنين من أبناء الإمام يحيي حميد الدين هما علي ما أذكر سيف الإسلام أحمد وسيف الإسلام عبد الله .. وحضر الأمراء الثلاثة إلي القاهرة وأوفد المركز العام للإخوان مع السيوف الأخ محمود أبو السعود ليكون سكرتيرًا لهما أو مترجمًا لإجادته اللغة الإنجليزية ، ولما رجع من هذه الرحلة روي لنا العجب العجاب من أمر هذين السيفين وجهلهما بالحياة حتى إنه خجل من وجودهما في مثل هذا المؤتمر . وكان الاتصال الثاني في أثناء الجلسات التمهيدية لإنشاء جامعة الدول العربية ، وقد أشرت من قبل إلي إيفاد اليمن القاضي حسين الكبسي لحضور هذه الجلسات علي أن يكون مستمعًا دون أن يشترك في المناقشات .. وفي خلال هذه الاجتماعات تفتحت عينا هذا القاضي – وكان رجلاً ذكيًا – ومن معه من اليمنيين علي الحياة وتمنوا لو أن بلادهم أخذت بنصيب منها . كما أن أفرادًا من شباب اليمن الذين وفدوا إلي القاهرة لتلقي دراسة بالأزهر اتصلوا بالإخوان فنبه هذا الاتصال مشاعر فيهم كانت خامدة وفهموا من الإسلام مالم يكونوا يفهمون فاستقر في وعيهم أن بلادهم في أمس الحاجة إلي إصلاح يتناول جميع شئونها وكل مرافقها ... ولكن كيف يتم مثل هذا الإصلاح والأئمة مسيطرون ؟..
- دوافع القيام بالثورة :
لم يكن القيام بالثورة في اليمن ضد الحكم الإمامي الغاشم أمرًا غريبًا ، فإن المظالم التي كانت ترزخ تحتها اليمن كانت أضعاف المظالم التي قامت من أجلها الثورة الفرنسية .. أما أن الثورة بتدبير الإخوان المسلمين أو قامت بتدبير الفئة المثقفة من أهل اليمن أو قامت بتضامن الجهتين معًا ؛ فأمر لا يعني الذين يبحثون عن الأسباب الداعية للثورة وهل هي جديرة بالتقدير أم هي أسباب مفتعلة لا أساس لها من الواقع . وعلي كل حال فإن مبلغ علمي أن الإخوان منذ عرفتهم كانوا يتمنون أن يتخلص اليمن من حكم " الأئمة " حتى تدب في أوصاله الحياة .. ولست أدعي أنني كنت مشاركًا في تدبير هذه الثورة فلقد كنت في تلك الأثناء بعيدًا عن القاهرة ، ولكنني أستطيع أن أقرر أن فكرة إعداد الشعب اليمني للثورة قد نبتت في المركز العام ؛ أما تفاصيلها وخطوطها فلا أعتقد أن المركز العام قد تدخل في رسمها .
- الفضيل الورتلاني وعبد الحكيم عابدين :
عند تناول ثورة اليمن بالتسجيل نجد أنفسنا أمام شخصيتين من غير اليمنيين كانا قطبي روحي هذه الثورة هما " الفضيل الورتلاني وعبد الحكيم عابدين " . وأولهما كان إذ ذاك شابًا جزائريًا من زعماء المجاهدين الذين طاردهم الاستعمار الفرنسي فهرب إلي مصر واتصل بالإخوان وكان كثير التردد علي المركز العام حتى ليكاد يتردد عليه كل يوم باعتبار هذه الدار مركز الحركات التحررية ضد الاستعمار في كل بلد إسلامي .. وكان الفضيل لماع الذكاء ، سريع الحركة كثير المعارف ، لا يقتصر تحركه علي ما يخص موطنه الأصلي – الجزائر – بل كان يري العالم الإسلامي وحدة لا تتجزأ وأنه مطالب بتحرير كل جزء منه ... وأعتقد أن الفضيل كان أول من سافر إلي اليمن وأسس هناك شركة للتجارة . أما عبد الحكيم عابدين فإنه سافر إلي اليمن بعد ذلك وكان سفره تلبية لطلب حكومة الثورة التي ألفت برئاسة القاضي عبد الله بن أحمد الوزير .
- تطور الأمور في هذه الثورة :
1 – تلقت جريدة الأهرام في 15 يناير سنة 1948 برقية من عدن من سيف الإسلام الأمير إبراهيم نجل الإمام يحيي ينعي فيها والده ويعلن نبأ إنشاء حكومة دستورية في بلاد اليمن وعلي رأسها السيد عبد الله بن أحمد الوزير . وقد وقع البرقية بصفته " رئيس مجلس الشورى في الحكومة الجديدة " .
وسيف الإسلام إبراهيم هو النجل الثامن للإمام اليمني يحيي وهو شاب في الثلاثين إذ ذاك عرف بتمرده علي والده مما أدي إلي سجنه مرتين ، وقد لجأ إلي عدن حيث التف حوله لفيف من اليمنيين وألقوا " جمعية الأحرار اليمنية الكبرى " واتخذ لنفسه لقب " سيف الحق " بدلا من " سيف الإسلام " . كما تلقي عبد الرحمن عزام أمين الجامعة العربية من السيد حسين الكبسي برقية بعد ذلك بثلاثة أيام هذا نصها :
- " مات الإمام يحيي ونودي بالوزير إمامًا " وأرسل السيد الفضيل الورتلاني برقية من صنعاء إلي بعض الدوائر العربية في القاهرة مؤداها أن الإمام يحيي اغتيل هو وثلاثة من الأمراء ورئيس الحكومة اليمنية .
2 – أرسل السيد حسين الكبسي نائب رئيس الوزراء ووزير الخارجية في حكومة الثورة معربًا عن استعداده للاسترشاد بآراء دول الجامعة العربية في حدود ميثاقها ، ثم أرسل إلي عبد الرحمن عزام برقية فيها إلي زيارة اليمن حيث يشاهد " بناء جديدًا علي قواعد جديدة تصنعها حكومة ديمقراطية في ظل ملك ديمقراطي " وسأل مندوب جريدة الأهرام السيد عبد الرحمن عزام هل يسافر إجابة لهذه الدعوة ؟ فقال إنه لا يتأخر عن السفر إذا تطلبت المصلحة ذلك .. كما استطلع مندوب الأهرام رأي عربي كبير مسئول في موقف المملكة العربية السعودية إزاء اليمن بعد الحوادث الأخيرة فقال : " إن موقف جلالة الملك آل سعود هو موقف الجامعة العربية بل تأييد لها " .
3 – أذاعت وكالة الأنباء العربية من عدن : " لم يكد يذاع في صنعاء رسميًا أن السيد عبد الله بن أحمد الوزير نودي به ملكًا دستوريًا علي اليمن حتى احتشد نحو عشرة آلاف من الخلق لتحيته خارج قصر غمدان في صنعاء . وصرح السيد محمد نعمان الذي كان يتزعم في المنفي " جمعية اليمن الكبرى " قبل هرب الأمير إبراهيم ، والذي صار وزيرًا للزراعة في وزارة الثورة بأن ثلاثة من أبناء الإمام يحيي وهم الأمراء سيف الإسلام إسماعيل ويحيي ولا أذكر الثالث قد اعترفوا بالملك الجديد فعينوا في وظائف كبيرة من وظائف الدولة .
4 – سيف الإسلام أحمد أكبر أبناء الإمام يحيي والمطالب بعرض أبيه غادر مقره في " تعز " والتجأ إلي قبائل الشمال يؤلبهم علي الحكومة الجديدة .. وترسل الحكومة الجديدة إلي الملك عبد العزيز آل سعود تطلب إليه تزويدها بطائرات لمقاومة سيف الإسلام أحمد فيبلغ الملك عبد العزيز الجامعة العربية بأنه لن يجيب هذا الطلب حتى يتبين له رأي الجامعة .
5 – توالت برقيات من وزير الخارجية الحكومة الجديدة تستعجل وتستنجز حضور وفد الجامعة برياسة الأمين العام ولكن الأمين العام أخذ يتلكأ فلم يعلن عن تكوين الوفد إلا في 24 فبراير مكونًا من الأمير السعودي حاكم جدة وعبد الرحمن عزام وعبد الوهاب عزام سفير مصر في السعودية وحيدر مردم وزير سوريا في جدة وعبد الجليل الراوي وزير العراق في القاهرة وتقي الدين الصلح سفير لبنان في القاهرة وسعيد المفتي وزير داخلية شرق الأردن وتقرر سفرهم يوم 26 فبراير .
6 – في خلال هذه الفترة استطاع سيف الإسلام أحمد أن يضلل سكان حجة والحديدة وكون منهم جيشًا وبعث إلي الجامعة يطلب التحكيم وقد استجابت الجامعة لطلب أحمد وأرسلت برقية إلي الحكومة اليمنية وإلي أحمد تطلب منهما إيقاف القتال حتى نصل بعثة الجامعة . ثم اجتمعت اللجنة بالنقراشي ثم قصد عزام إلي منزله حيث وافاه في الساعة الرابعة إبراهيم عبد الهادي رئيس الديوان الملكي ودام اجتماعهما وقتًا طويلاً ؛ وتقرر أن يرافق الوفد الدكتور حسين حسني السكرتير الخاص للملك ممثلا الحكومة المصرية .
وقرر الوفد السفر إلي اليمن " بحرًا " من بورسعيد يوم 28 فبراير إلي جدة حيث ينضم إليه المندوب السعودي ثم يواصل السفر (بحرًا) إلي الحديدة حيث يستقل الوفد السيارات إلي صنعاء ويستغرق قطع المسافة بين الحديدة وصنعاء بالسيارة يومين وبعض اليوم .
7 – في الوقت الذي كانت تتوالي برقيات الحكومة الجديدة تستحث وفد الجامعة كان الإخوان علي اتصال مستمر بعبد الرحمن عزام يستحثونه من جانبهم ولكن دون جدوى وكان الإخوان يريدون قيام وفد منهم بالسفر إلي اليمن لتعزيز مركز الحكومة الجديدة ، ولكنهم رأوا أن يعملوا جاهدين علي قيام وفد الجامعة لأن وجوده في اليمن فيه كل التعزيز .. فلما وصلوا أخيرا إلي تحديد ميعاد لسفر هذا الوفد ، قام الإخوان باستئجار طائرة خاصة أقلتهم ومعهم مندوبو نقابة الصحفيين المصريين ومعهم أيضًا مكبرات للصوت لمخاطبة القبائل والجماهير ، ويلاحظ أن الضجر من هذا التلكؤ وصل بالحكومة إلي الحد الذي هددت فيه بالالتجاء إلي الأجانب لتقاعس الدول العربية .
8 – وصلت الطوافة فاروق مقلة وفد الجامعة إلي جدة وقد غادرتها إلي بورسودان للتزود بالمؤن اللازمة استعدادًا لرحلتها إلي صنعاء حيث قرر الوفد السفر إلي صنعاء عن طريق البحر أيضًا لردأة الجو ولما وصل الوفد إلي جدة سافر إلي الرياض لمقابلة الملك عبد العزيز الذي أعرب لهم عن استيائه الشديد لمصرع الإمام يحيي .. وتمت هذه المقابلة يوم 4 مارس سنة 1948 .
9 – وصلت إلي جدة بعثة الإمام الوزير إلي الملك عبد العزيز لمقابلته ومقابلة وفد الجامعة ، ويتألف الوفد السيد أحمد بن عبد الله الوزير نجل الإمام والفضيل الورتلاني مدير الشركة المصرية اليمنية والقاضي محمد محمود الزبيري وزير المعارف وقد أقلت هذا الوفد إلي جدة الطائرة المصرية التي حملت الإخوان المسلمين إلي اليمن وقد استأنف أعضاء هذا الوفد سفرهم بسرعة إلي الرياض وقد طلب ابن الوزير من الملك عبد العزيز طائرات ودبابات وجاء في البرقية :
" ويسعدنا أن تشرفوا جلالتكم بنفسكم لتحكموا علي الحقيقة عن مشاهدة أو ترسلوا من تثقون به " .
وقد سأل أحد الصحفيين الوفد اليمني : كيف تقولون إن حبل الأمن مضطرب في البلاد مع أن راديو صنعاء وحكومتها يقولون غير هذا ؟ فكان الجواب أن صنعاء ذاتها في أمن وطمأنينة ولكن الاضطراب والفوضى يتسع مداها علي الأيام ؛ لا اختلافًا علي الحكم ومن يتولاه ولكن لمجرد السلب والنهب وإطلاق العواطف والنوازع التي ظلت مكبوتة عشرات السنين .
ويبدو أن سيف الإسلام أحمد قد استغل هذا الشعور في الشعب وجاراه في عواطفه ونوازعه وحثه علي التمادي في السلب والنهب ووعدهم إذا نصروه علي ابن الوزير أن يفتح لهم خزانة الدولة علي مصراعيها فانطلقوا كالذئاب الجائعة ، وقد دخل أحمد صنعاء علي رأس جيش من المحرومين هذه هي دوافعه وحوافزه وآماله .
10- طال انتظار هذا الوفد لمقابلة الملك عبد العزيز حتى دخل سيف الإسلام أحمد صنعاء يوم 14 مارس فأرسل الملك عبد العزيز إلي هذا الوفد من يقول له : إن الملك يرفض مقابلتكم لأنه غير مستعد لاستقبال لصوص وقتلة .. وعاد عبد الرحمن عزام إلي القاهرة دون أن يدخل اليمن .
- تعليق علي هذه الأحداث :
بدأت الثورة باغتيال الإمام يحيي ثم أعلن قيام حكومة جديدة برياسة القاضي عبد الله بن أحمد الوزير وكان من أكبر شخصيات اليمن ومن القلائل المنفتحين .. وقد بايعه بالإمامة أهل الحل والعقد في اليمن كما ينص علي ذلك دستور البلاد فإن هذا الدستور الذي هو من وضع الإمام يحيي وأسلافه لا يقرأن أن تكون الإمامة وراثية بل تكون لمن يبايعه أهل الحل والعقد .. وبذلك لم يكن عبد الله بن أحمد الوزير دخيلا علي الإمامة ولا مغتصبًا إياها من أحد .. ومن وزراء هذه الحكومة القاضي حسين الكبسي الذي كان أول مندوب لليمن في الجامعة العربية . والقاضي محمد محمود الزبيري من أعظم أدباء اليمن وشعرائها . وقد سيطرت هذه الحكومة علي البلاد تمام السيطرة وألقت القبض علي " السيوف " وهم أبناء الإمام يحيي . ويحسن ظن أرسلت إلي الجامعة العربية تطلب إليها إرسال وفد برياسة أمينها العام ليري نفسه استقرار الأمور وليسهم بالمشورة في وسائل الإصلاح في مختلف المرافق وقام المركز العام للإخوان من ناحيته الجامعة العربية علي إجابة طلب الحكومة اليمنية .
وتلكأت الجامعة العربية في إيفاد وفدها تلكؤًا لفت أنظار العالم كله ، ولم يكن لهذا التلكؤ المقصود من معني سوي أنه محاولة لإحباط هذه الثورة ، وبعد كل هذا التلكؤ قام الوفد ولم يتوجه إلي اليمن مباشرة كما كان ينتظر بل اتجه إلي السعودية ومكث في السعودية أيامًا تلقي نصائح العاهل السعودي الذي قد لا يسعده أن يقوم حكم في جارته المتاخمة له يضرب بنظام الوراثة والأسر المالكة عرض الحائط ويختار الأصلح غير عابئ بالأسرة التي ينتمي إليها .. ثم أفل وفد الجامعة راجعًا إلي مصر دون أن يدخل اليمن .. فكأنما كان موكولا إليه تمثيل دور معين رسم له وقد أتقن تمثيله فلما تم الدور دلف إلي مكانه وراء الكواليس . وقد فهم الإخوان المغزى من الحركات المريبة التي كانت تجري علي المسرح ، فهذا التلكؤ الذي لفت الأنظار وافتضح أمره حين أرادوا أن يتظاهروا بالخروج من دائرته المفرغة واضطروا إلي تحديد موعد السفر ، سبق هذا السفر حركات تشبه المؤامرة ونذكر منها :
- أولاً : مقابلة الأمين العام للنقراشي صباحًا يعقبها في المساء وفي منزل الأمين العام مقابلة لإبراهيم عبد الهادي رئيس الديوان الملكي وتدوم المقابلة وقتًا طويلاً .
- ثانيًا : يضاف إلي الوفد السكرتير الخاص للملك فاروق علي أن يكون ممثلا للحكومة المصرية .
- ثالثًا : في 26 فبراير أي بعد نحو شهر ونصف من قيام الثورة ببرق السيد المؤيد مندوب اليمن في الجامعة العربية إلي سيف الإسلام أحمد بأن الملك فاروق يعزيه في والده .
- رابعًا : يقرر الوفد أن يكون السفر عن طريق البحر وهذا وحده كان أن يكون دليلا علي أن المقصود هو إضاعة الوقت وإلا فهل تعجز الجامعة العربية عن استئجار طائرة كالتي استأجرها الإخوان ؟.
- خامسًا : أن تخصص للوفد الطوافة فاروق حتى يشعر الوفد أنه كنف الملك .
- سادسًا : يعدل الوفد عن خطته التي أعلن عنها فلا يقوم من جدة مباشرة إلي اليمن بل يتجه إلي الرياض في ضيافة الملك عبد العزيز .
هذا ولقد عالجت موضوع ثورة اليمن بطريقة لم تمس بواطن الأمور في تفاصيلها وأسرارها تاركًا ذلك لمن عانوها واصطلوا بنارها وقد سمعت من الأخ الأستاذ عبد الحكيم عابدين بعد رجوعه من اليمن شيئًا من هذه التفاصيل والأسرار ، ولكنني أوثر أن يناقش هو بنفسه هذه التفاصيل وهذه الأسرار لأن البيئة والظروف التي وقعت فيها هذه الأحداث لا أحسها أنا كما يحسها إنسان عاش فيها وتلبث بها .
- آثار هذه الثورة :
كان لهذه الثورة آثار علي المستوي المصري وأخري علي المستوي العربي وثالثة علي المستوي العالمي ... أما علي المستوي المصري فإنها ألقت من روع القائمين علي الحكم في مصر أن هذه الثورة نذير لهم بين يدي عذاب شديد ؛ فليلقوا بثقلهم أولا لإحباطها ثم ليعدوا العدة للقضاء علي مديريها وهم الإخوان المسلمون الذين بلغوا أشدهم حتى إنهم يقيمون الدول ويسقطونها . فوجد فاروق في مصر تجاوبًا لأحاسيسه عند عبد العزيز آل سعود في السعودية وقد قربت ما بينهما وأنستهما الخلافات التي كانت بينهما ظنًا منهما أن الثورة كانت ضد الملكية مع أن ابن الوزير قد بايعه العلماء ملكًا . وأما علي المستوي العالمي فقد طمأن فشل الثورة قلوب الطاغوت الاستعماري المتمثل في أمريكا وانجلترا وفرنسا إلي أن العالم العربي لازال لقمة سائغة لهم ، كما أن الطاغوت وقد عرف العرق الوحيد الذي ينبض بالحياة في جسم العالم العربي هو الخوان المسلمون .. إذن فلابد من خطة لاستئصال هذا العرق حتى يظل الجسم فاقدًا رشده مستكينًا لهم . وأما أثرها علي الإخوان فقد كانوا يتمنون أن تنجح الثورة ليكون للإسلام في هذا العالم دولة ولكن شاءت إرادة الله أن يتأخر تحقيق هذه الأمنية ، فأحس الإخوان بقوي الشر تتألب عليهم وتجمع شتاتها لتفترسهم .
الفصل الثاني : في قضية فلسطين
وصلنا بهذه القضية في الباب السابق إلي تطور انتهي بعقد مؤتمر مائدة مستديرة بلندن حضره ممثلون من البلاد العربية ، وقد أصدرت الحكومة البريطانية في أعقاب هذا المؤتمر ما يسمي " الكتاب الأبيض " وأهم ما في هذا الكتاب أنه وضع حدًا لهجرة اليهود إلي فلسطين . ويبدو أن اليهود وجدوا في هذا الكتاب الأبيض ما يعرقل خطتهم المرسومة لاحتلال فلسطين فلجئوا إلي الحكومة الأمريكية التي سرعان ما استجابت لهم وطلبت تكوين ما يسمي " لجنة التحقيق البريطانية الأمريكية " وكانت هذه اللجنة وسيلة قانونية تسترت أمريكا وراءها لنسف الكتاب الأبيض وتحقيق مآرب اليهود . وطافت هذه اللجنة بالبلاد العربية متظاهرة بأنها لجنة تبحث عن العدالة بالاستماع إلي أطراف النزاع وقد حضرت إلي مصر وعقدت في القاهرة جلستين ، وكانت جلستها الأخيرة في 5-3-1946 وقد استمعت في هذه الجلسة إلي السيد مراد البكري وعبد المجيد صالح باشا وصالح حرب باشا والدكتور منصور فهمي باشا والأستاذ المرشد العام .. تقول جريدة المصري : وقد تكلم الجميع في حماس مخل ثم ساد الجلسة السكون عندما جاء دور الشيخ حسن البنا وقد ارتجل كلمة هادئة رزينة باللغة العربية جمعت بين قوة الحجة وسرعة البديهة وحضور النكتة . وتولي الترجمة الأستاذ أحمد السكري وكيل الإخوان المسلمين .
وقد استهل الشيخ حسن البنا كلمته بالاعتذار عن إلقائها باللغة الإنجليزية ثم قال إنه لا يريد أن يتحدث عن مشكلة فلسطين من النواحي السياسية والاقتصادية والاجتماعية فقد طال فيها البحث ولا حاجة إلي تكرار ما قيل . واستطرد قائلا : باسم الإخوان المسلمين أؤيد ما أعلنته العرب وزعماؤهم ومندوبوهم وكذلك الجامعة العربية . والناحية التي سأتحدث عنها نقطة بسيطة من الوجهة الدينية ، لأن هذه النقطة قد لا تكون مفهومة في العالم العربي ، ولهذا فإني أحب أن أوضحها باختصار ؛ فأقرر ن خصومتنا لليهود ليست دينية لأن القرآن الكريم حض علي مصافاتها ومصادقتهم ، والإسلام شريعة إنسانية قبل أن يكون شريعة قومية ، وقد أثني عليهم وجعل بيننا وبينهم اتفاقا " ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن " . وحينما أراد القرآن الكريم أن يتناول مسألة اليهود تناولها من الوجهة الاقتصادية والقانونية فقال تعالي وهو أصدق القائلين " فبظلم من الذين هادوا حرمنا عليهم طيبات أحلت لهم وبصدهم عن سبيل الله كثيرًا . وأخذهم الربا وقد نهوا عنه وأكلهم أموال الناس بالباطل " .
ونحن حين نعارض بكل قوة الهجرة اليهودية ، نعارضها ، لأنها تنطوي علي خطر سياسي اقتصادي ، وحقنا أن تكون فلسطين عربية . ولي كلمة أخيرة من الوجهة الدينية ؛ فإن اليهود يقولون عن فلسطين إنها أرض الميعاد .. ونحن لا مانع لدينا من أن يكونوا في يوم القيامة معنا . ( وقد أثارت هذه العبارة عاصفة من الضحك لم تلبث أن اتصلت بأخرى عندما استطرد الشيخ البنا قائلا : ( لاحظت أن هذه الهيئة الموقرة منعت التدخين في قاعة الاجتماع خشية أن يؤذي بعض الحضور . وإذا كنتم تحرصون علي أمزجة الناس من فعل الدخان ، فخليق بكم أن تحرصوا علي أهل فلسطين من النيران ...
الرئيس : ولكن بين الحضور من يدخن الآن (وكان يدخن في القاعة عبد المجيد إبراهيم صالح باشا وصحفي أمريكي ومندوب جريدة المصري) .
الشيخ البنا : خالفوا القوانين (ضحك) .
واختتم الأستاذ البنا كلمته بقوله : لقد استمعت اللجنة إلي رجاء اليهود ، وتركت الرجل الأول الجدير باستشهاد في قضية فلسطين وهو الحاج أمين الحسيني وكذلك المجاهدين المبعدين فأكون سعيدًا إذا عملت اللجنة علي الإفراج عنهم جميعًا . وبعد طواف اللجنة بالبلاد العربية واستماعها إلي من استمعت إليهم أصدرت تقريرها في آخر أبريل سنة 1946 وكان هذا التقرير مفاجأة أليمة للعرب الذين كانوا يحسنون الظن بها فقد تضمن تقريرها السماح بالهجرة إلي فلسطين لمائة ألف مهاجر يهودي واستمرار الانتداب البريطاني وتعديل قانون بيع الأراضي وإشراف الحكومة علي الأماكن المقدسة .. وضج العرب في كل مكان وأعلنوا احتجاجاتهم ، وقد عقب السيد جمال الدين الحسيني بقوله : إن هذا التقرير الذي وضع تحت ضغط الولايات المتحدة يحكم علي فلسطين بأن تصبح أرض الدماء والبؤس .. وانهالت برقيان الاحتجاج علي جامعة الدول العربية ومنها برقية من المرشد العام . ومما زاد العرب حنقًا علي هذه اللجنة وعلي الحكومة الأمريكية أن اصدر الرئيس ترومان عشية إصدار اللجنة قرارها تصريحًا قال فيه :
- " إني سعيد جدًا بأن أيدت لجنة التحقيق البريطانية الأمريكية طلبي بالسماح لمائة ألف يهودي بالهجرة إلي فلسطين في الحال . وهكذا يجب أن ينفذ نقل هؤلاء القوم التعساء بأسرع وقت مستطاع ولعل أهم ما جاء في تقرير اللجنة أنها تهدف إلي حماية العرب في فلسطين بضمان حقوقهم المدنية والدينية وبالعمل علي إنهاض مركزهم الثقافي والاقتصادي . وقد سررت بإلغاء اللجنة كتاب سنة 1939 الأبيض الذي يحد من هجرة اليهود ويمنعهم من شراء الأراضي ، ولا شك أن لهذه التوصية أثرًا كبيرًا في العمل علي النهوض بالوطن القومي اليهودي " .
وكان تنبؤ السيد جمال الحسيني صادقاً فلقد تحولت فلسطين بعد تقرير هذه اللجنة إلي شعلة من النيران ولكن بين كفتين غير متوازيتين فالعرب الفلسطينيون يجاهدون وحدهم في الميدان لا سند لهم إلا جهودهم الذاتية حيث الأمة العربية ممزقة الأوصال مغلوبة علي أمرها يحكمها حكام يدينون بالولاء للمستعمر أكثر مما يدينون به لعروبتهم ، أما اليهود فوراءهم ثروات اليهود في كل بقاع الأرض ووراءهم أمريكا تمدهم بالمال وتسندهم بالنفوذ ثم حكومة فلسطين البريطانية مهمتها سن التشريعات التي تسهل لليهود تحقيق أغراضهم وتضع العقبات أمام العرب وجنود الجيش يهاجمون العرب في الليل والنهار ويقتلون المجاهدين ويحمون اعتداء اليهود وإجرامهم . وأتي العرب مرة أخري من إفراطهم في حسن الظن فلقد أنشئت في سنة 1945 في أعقاب الحرب العالمية الثانية هيئة عالمية جديدة سميت " هيئة الأمم المتحدة " ووضع لها ميثاق يسمي " ميثاق حقوق الإنسان " من قرأ بنوده وجد فيها العدالة المطلقة ، فظن العرب أن هذه الهيئة هي خير ملجأ إليه لاستخلاص حقوق أهل فلسطين فاجتمع رؤساء الدول العربية في جامعة الدول العربية وقرروا عرض هذه القضية علي هذه الهيئة .
وتباري الخطباء من رؤساء الدول العربية ووزراء خارجيتها في إلقاء بيانات ضافية في ساحة هذه الهيئة مدعومة بأقوى الحجج التاريخية والقانونية عن حقوق العرب في فلسطين ولكن تبين أخيرًا أن هذه الهيئة لم تكن أخف جورًا ولا أهون ظلمًا مما سبقتها من لجان فقد أصدرت قرارها بأغلبية 25 صوتًا ضد 13 مع امتناع 17 عضوًا عن الاقتراع في 29 نوفمبر سنة 1947 بتقسيم فلسطين إلي دولتين إحداهما عربية والأخرى يهودية .
وقع قرار تقسيم فلسطين علي العرب جميعًا موقع الصاعقة وأعلنت الدول العربية رفضها له وعدم اعترافها به ، وأعد الإخوان لمظاهرة اهتزت لها جنبات القاهرة اشترك فيها الأزهر والجامعة وتجمعت في ميدان الأوبرا حيث خطب فيهم السيد رياض الصلح والأمير فيصل بن عبد العزيز والشيخ محمود أبو العيون وجميل مردم بك وصالح حرب باشا والقمص متياس الأنطوني والسيد إسماعيل الأزهري والأستاذ المرشد العام .. وكانت المظاهرة أشبه بمؤتمر علي أعلي المستويات الشعبية والرسمية عقد في فندق الكونتننتال ، وقد تهدم بعض مباني الفندق من شدة ضغط الجماهير وكان الهتاف كله من أجل فلسطين ، ومما يؤسى له أن بعض المندسين في المظاهرة ممن لم يفهموا مغزاها ولا معناها ولا أهدافها حاولوا الهتاف للنحاس باشا ولكن الناس أسكتوهم حتى لا يذهبوا بجلال الموقف .
وخطب الأستاذ المرشد فقال : " لبيك فلسطين .. دماؤنا فداء فلسطين وأرواحنا للعروبة يا زعماء العرب ... يا قادة الأمة العربية .. إنني أنادي المم المجاهدة ، الحجاز وسوريا والعراق وشرق الأردن ولبنان وأبناء وادي النيل وكل عربي يجري في عروقه دم العروبة الحر ؟ أيها الزعماء ... أنتم القادة ... وهؤلاء الجنود ... قد وقفوا دماؤهم لدفاعكم المقدس .. إن هذا الشباب ليس هازلا .. ولكنهم جادون .. عاهدوا الله وعاهدوا الوطن علي أن يموتوا من أجله . إنه وإنه كان ينقصنا اليوم السلاح فسنستخلصه من أعدائنا ونقذف بهم في عرض البحر .. لقد تألبت الدنيا تريد أن تسلبنا حقنا ، وقد عاهدنا الله أن نموت كرامًا أو نعيش كرامًا . إنني أعلن من فوق هذا المنبر أن الإخوان المسلمين قد تبرعوا بدماء عشرة آلاف متطوع للاستشهاد في سبيل فلسطين .. وهم علي أتم استعداد لتلبية ندائكم .
أثبتنا هنا كلمة الأستاذ المرشد لما كان لها من دلالة تتصل بلب المشكلة وواقعها فإن القضية قد أشبعت كلامًا ولم يعد يجدي فيها غير العمل .. والعمل الشاق المضني الذي تهون فيه النفوس وترخص الأرواح ... وهو ما أشار إليه الأستاذ المرشد في كلمته إشارة ظاهرة محددة . وفي مايو سنة 1948 كان زعماء الدول العربية مجتمعين في " عالية " بلبنان فأرسل إليهم الأستاذ المرشد العام برقية يعدهم فيها بما وعد من قبل في كلمته عشر آلاف مجاهد كدفعة أولي إلي فلسطين وكان من أثر إعلان الإخوان لهذه الخطوة العملية ما يلي :
- الأثر المباشر وهو أن أعد كل أخ نفسه ، وسارعوا إلي تقديم أنفسهم وأموالهم إلي المركز العام حتى ضاق هو وشعب القاهرة علي سعتها بأفواجهم المتلاحقة .
- أشعل هذا الإعلان الحماس في نفوس مجموعة كريمة من ضباط الجيش المصري فاستقالت من الجيش وأعلنت تطوعها .
- جعل اليهود يشعرون أن الطريق ليس ممهدًا أمامهم لتحقيق أمانيهم بعد أن ظنوا أنهم بمكرهم وأموالهم وبخداع الإنجليز قد قضوا علي كل مقاومة كانت تعترض سبيلهم لاسيما أن الذين يتحدونهم ليسوا جنودًا محترفين . بل هم شباب متطوع دفعته إلي التطوع عقيدته وإيمانه وهذا النوع من الجنود قوي الشكيمة شديد الرأس .
- جعل دول الغرب وهي التي تحتضن اليهود تشرئب بأعناقها إلي هذا الإعلان الجريء لنعرف كنهه وتتبين مدي جديته فقد عهدوا العرب قوالين غير فعالين ، فتقاطر المراسلون الصحفيون لهذه الدول علي المركز العام وأمطروه بالأسئلة ، ورأوا بأعينهم أفواج الإخوان المتطوعين .
- تشجيع الرؤساء العرب ، وبث روح الطمأنينة في نفوسهم حتى لا يتخاذلوا ويتهربوا من المسئولية .
- دور الإخوان في حرب فلسطين :
ليس المقصود من الكتابة عن دور الإخوان في حرب فلسطين سرد تاريخهم في هذه الحرب ، ولا الحديث عن خططهم ومعاركهم ، فهذه أمور جديرة أن توضع فيها مجلدات ، وأن تكون هذه المجلدات بين يدي كل عربي ومسلم ليستمدوا منها روحًا وقوة ، وليستلهموا منها معاني الاعتزاز والفخر بالانتماء إلي أمتهم العظيمة .. ومما يؤسى له أن لا يكون بين أيدينا ... نحن العرب – هذه المجلدات . وأن تكون هذه المجلدات عند أعدائنا الذين لا يدعون صغيرة ولا كبيرة إلا درسوها وتعلموا منها .. ولذا فإننا حين نكتب عن دور الإخوان في هذه الحرب فإنما نومئ إلي ذلك مجرد إيماء بلمع مما بقي في الخاطر بعد هذا العهد الطويل .
سارع الإخوان من أنحاء البلاد إلي التطوع من أول يوم فتح الأستاذ فيه باب التطوع ، وكان الأستاذ يشترط في المتطوعين من الشباب شروطًا أهمها أن يكون المتطوع قد تطوع برضا الوالدين وأذكر بهذه المناسبة أنني كنت في ذلك الوقت بالمركز العام ، فأقبل علي شاب عرفني بنفسه وقال لي : إنني حمدت الله أن قابلتك هنا لأنك تعرفني حيث كنت عندنا في دمنهور ، وأنا أعرف أن الأستاذ المرشد يثق فيك ، قلت له : وماذا تريدني أن أفعل ؟ قال : لقد أعلن الأستاذ المرشد فتح باب التطوع عزمت علي التطوع وبعت كل ما في دكاني من بضاعة واشتريت بثمنها سلاحًا وذخيرة ومئونة للجهاد وأغلقت دكاني وحضرت اليوم إلي المركز العام ليلحقني الأستاذ بالفوج المسافر إلي فلسطين .. ولكن الأستاذ سألني : هل أبواك راضيان ؟ فلم أستطع أن أكذب .. فقال : لا تسافر حتى يكونا راضيين . فخرجت من عنده وأنا في أشد الحزن .. وأرجوك أن تشفع لي عند الأستاذ المرشد ليقبلني في هذا الفوج قبل أن يسافر فإن الحصول علي موافقة والدي ليس متوقعًا .
فقلت له : إن الأستاذ لا يقبل الشفاعة في مثل هذا ، وعليك أن تحصل علي رضا والديك ، وإلا فرضاهما أولي . فتركني وهو يبكي . وقد أوردت هذه الواقعة ليتصور القارئ اليقظة الروحية التي بعثتها دعوة الإخوان المسلمين في نفوس هذه الأمة حتى ألحقتها بالرعيل الأول من صحابة رسول الله صلي الله عليه وسلم يوم كان رسول الله صلي الله عليه وسلم يستعرض جيش المسلمين استعدادًَا لغزوة بدر فرد من استصغر سنه فكان مما رده أسامه بن زيد ورافع بن خديج والبراء بن عازب وأسيد بن ظهير وزيد بن أرقم وزيد بن ثابت ورد عمير بن أبي وقاص فبكي فأجازه ، وكان منهم من وقف علي أطراف أصابعه ليبدوا أمام رسول الله صلي الله عليه وسلم طويلا فيجيزه .
- تدخل الجيوش العربية :
بدأ الإخوان يعدون العدة لتنظيم حركة عسكرية لإنقاذ فلسطين عندما أصدرت هيئة الأمم المتحدة قرارها المشار إليه وكانت منظمات اليهود العسكرية هي منظمة الهاجاناه أي حراس المستعمرات ومنظمة أرجون زفاي ليومي ومنظمة اشتيرن وفرقة البالماخ الفدائية التي أنشئت علي النمط الروسي . وكانت المنظمات العربية الفلسطينية اثنتين هما النجادة والفتوة فوجه الإخوان اهتمامهم إلي هاتين المنظمتين علي أمل أن تصبحا قادرتين علي الوقوف في وجه المنظمات اليهودية ، ولكن سرعان ما قام خلاف بين قواد هاتين المنظمتين .. وقد حاول الإخوان إصلاح ما بينهما ، ولم يكن بد لإتمام هذا الصلح من إنقاذ الصاغ محمود لبيب ، فتم علي يديه هذا الصلح ، وارتضته المنظمتان مدربًا لهما ولكن بعد فترة غير طويلة تنبهت حكومة الانتداب الإنجليزية إلي خطورة وجود الصاغ محمود لبيب في فلسطين علي خططتها ومؤامراتها ضد العرب ، فأصدرت هذه الحكومة أمرًا إليه بمغادرة البلاد كما طاردت جميع الإخوان الذين دخلوا فلسطين ، ولكن كثيرًا من الإخوان كانوا قد تمرسوا علي حرب مستمرة مع منظمات اليهود ولم تستطع أن تصل إليهم يد الحكومة لتخرجهم من البلاد .
فلما انسحب الإنجليز من فلسطين في مايو 1948 دخلت الجيوش العربية من الشرق والغرب والجنوب لتعيد الأمن إلي نصابه .. وبذلك أصبح في فلسطين نوعان من القوات العربية : النوع الأول : المتطوعون وهم متطوعو الإخوان المسلمين والمتطوعون من ضباط الجيش المصري الذين استقالوا من الجيش ، وقد انضم هؤلاء الضباط إلي متطوعي الإخوان ،واتخذهم الإخوان قادة لهم . وكان من أبرز هؤلاء الضباط القائمقام (العقيد) أحمد عبد العزيز الذي ارتضاه الإخوان قائدًا لهم لما كان يمتاز به منن الإيمان والشجاعة والتضحية والجرأة الخارقة .. والنوع الآخر هو الجيوش العربية .
- هل كان دخول الجيوش العربية صوابًا أو خطأ :
وأترك الإجابة علي هذا السؤال إلي الخ الذي عاصر هذه الحرب وخاض غمارها من أول يوم حتى نهايتها وهو الأخ كامل إسماعيل الشريف حيث يقول في كتابه صفحة 81 : الرد علي هذا السؤال هو أن العصابات لا يمكن أن تقاتل عصابات مثلها وتنتصر عليها . وأن العصابات لا يمكن أن تحسم الحرب بمفردها ، ولكنها كانت ولا تزال سلاحًا خطرًا لو سارت في ركاب جيش منظم وأحسن تدريب أفرادها وقيادتهم ؛ فيحتل الجيش المنظم المدن والمراكز ويتولي الدفاع عنها بينما تقوم العصابات المدربة بتحطيم قوي العدو ومهاجمة وحداته وطرق مواصلاته . وإذا فلم يكن هناك بد من دخول الجيوش العربية لتحقيق الهدف الذي حاربنا من أجله ؛ ولكن الخطأ أولا وأخرًا في عدم استعداد هذه الجيوش استعدادًا يكفل لها أداء مهمتها ، وجهلها المطبق بقوي العدو الذي تحاربه . والخطأ بعد ذلك خطأ الزعماء السياسيين الذين لم يدخلوا في حسابهم هذه الهيئات الدولية ومدي خضوعهم لها أما دخول الجيوش نفسها فلا غبار عليه ولا مفر منه ، ولا يمكن أن تحسم الحرب بدونه في الماضي ولا في المستقبل إذا أردنا حقاً أن نعاود الكرة لتحرير الأرض المقدسة . هذا هو رأي الأخ الأستاذ الشريف علي أن هناك في هذا الموضوع آراء أخري .
- الإخوان يتطوعون من جميع الأنحاء :
يقول الأستاذ الشريف كانت القوة الأولي من إخوان مصر قد دخلت فلسطين ورابطت في النقب وافتتحت أولي معارك الجنوب في " كفار ديروم " في 14 أبريل 1948 . وفي نفس هذا الوقت كانت القوة الثنائية بقيادة اليوزباشي محمد عبده (كان ناظرًا لمدرسة ثانوية) تنتقل إلي معسكر " قطنة " بسوريا ، لتستكمل تدريبها ثم ترابط فترة في النقب وتشترك مع زميلتها الأولي وأخيرًا تصحب الشهيد أحمد عبد العزيز في جولته الموفقة قبل أن يستقر في جنوب القدس ويكون من نصيب هذه القوة أن يوكل إليها الدفاع عن مرتفعات " صور باهر " الحصينة ، وهناك تلحق بها قوة كبيرة من الإخوان المسلمين في شرق الأردن بقيادة المجاهد عبد اللطيف أبو قورة رئيس الإخوان في عمان ، وتندمج القوتان في فرقة واحدة متحدة القيادة ، ليكون لها الفضل بعد ذلك في المحافظة علي تلك المرتفعات ، وعرقلة الخطط اليهودية التي كانت ترمي إلي احتلالها لتتحكم في القوات المصرية المتطوعة المرابطة في مناطق " الخليل وبيت لحم " ولم يكن الإخوان في سوريا بأقل نصيبًا من غيرهم إذ أدخلوا قوة من رجالهم يقودها الأستاذ مصطفي السباعي رئيس الإخوان في دمشق عملت بهمة ونشاط وفي مناطق " المثلث " و " القدس " وساهمت مساهمة فعالة في الدفاع عن هذه المناطق الحيوية .
وكانت العصابات غير النظامية التي شكلتها شعب الإخوان في فلسطين تعمل منذ بداية الحركة في المناطق الشمالية والوسطي تحت القيادات العربية المحلية وتقوم بغارات ناجحة علي مستعمرات اليهود وطرق مواصلاتهم رغم الضعف الشديد الذي كانت تعانيه سواء في التسليح أو التدريب . ولقد اضطر الإخوان إزاء القيود التي فرضتها الحكومة إلي تقديم شبابهم للعمل تحت قيادة الجامعة العربية ، فتشكلت منهم ثلاث كتائب أتمت تدريبها في معسكر لها كستيب ثم تسللت إلي فلسطين قام بنشاط ملحوظ في مهاجمة اليهود في النقب قبل أن تتخذ موقعًا دفاعيًا عن مناطق جنوبي القدس .. وكانت الكتيبة الثانية بقيادة البكباشي " عبد الجواد طبالة " ترافق الجيش المصري وتشترك معه في الدفاع عن منطقة غزة ، وتتولي حصار المستعمرات ، وتقوم بحراسة بعض النقط الهامة في خطوط المواصلات ثم تستقر بعد ذلك مع زميلتها في " بيت لحم " عقب استشهاد المرحوم أحمد عبد العزيز .
وتتجمع هذه القوات في تلك المنطقة وتنجح في المحافظة عليها وتسليمها للجيش الأردني بعد حصار شاق طويل ، وهجمات عنيفة من العدو أظهرت في صدها الكثير من البطولات . وهكذا وبالرغم من تلك القيود القاسية التي فرضها الاستعمار وحافظ عليها أذنابه من بعد فقد اشترك الإخوان في الحرب بأعداد كبيرة كانوا يتحملون الإنفاق علي معظمها ويتكبد مركزهم العام ألوف الجنيات في شراء الأسلحة والمعدات ... ولكي نضع بين يدي القارئ صورة توضح مدي فعالية القوة المتتالية للإخوان في فلسطين فسنقتبس بعض صفحات من كتاب الأستاذ كامل إسماعيل الشريف يشرح فيها بعض مواقع لهم مع اليهود .
أول معركة للإخوان بفلسطين
في صفحة 69 من كتاب الأستاذ الشريف يقول :
لم يكن الإخوان يعلمون عن المستعمرات اليهودية وتحصيناتها أكثر مما عرفته إدارة المخابرات في الجيوش العربية النظامية ، فلقد هونت هذه المخابرات من شأن التحصينات اليهودية وقلت من أهميتها ، حتى لقد قدرت إحداها 72 ساعة ليفرغ جيشها من احتلال فلسطين كلها ، وحتى سمعنا أحد المسئولين العسكريين في جيش عربي كبير يقول للوحدات العسكرية الزاحفة إنها ذاهبة في " نزهة عسكرية إلي تل أبيب لا أكثر ولا أقل " وحتى لا يقطع علي الضباط والجنود دهشتهم قال لهم إن الناس في قريتي حين يقيمون الأفراح والليالي الملاح يطلقون الرصاص في الهواء دليلا لفرحهم وعلامة علي ابتهاجهم ، وإن الأسلحة التي معكم تكفي جدًا لهذه المهمة الهينة اللينة .
كان الإخوان في الفترة الأولي من الحرب يجهلون المستعمرات اليهودية وطرق تحصينها ، فظنوا أن في مقدورهم مهاجمتها واحتلالها رغم ما كانوا يعانونه من نقص في الأسلحة والمعدات . ولقد تمت المحاولة الأولي في الساعة الثانية من صباح 14 أبريل 1948 وكان الغرض منها احتلال مستعمرة " كفار ديروم " المحصنة . وهذه المستعمرة وإن كانت صغيرة الحجم إلا أنها كانت مقامة في وضع بالغ الأهمية لقربها من الحدود المصرية ، ولوقوعها علي طريق المواصلات الرئيسي الذي يربط مصر بفلسطين ، وكان في استطاعة حراسها أن يرقبوا الداخل والخارج وأن يقطعوا هذا الطريق في أي وقت يشاءون وهم تختفون خلف أبراجهم المسلحة دون أن يتعرضوا لشيء من الأذى ... لذلك كلما اهتمت القيادة اليهودية بهذه المستعمرة وبالغت في تحصينها وإقامة الأبراج الشاهقة حولها ،وإحاطتها بحقوق كثيفة من الألغام والموانع السلكية الشائكة ثم زودتها بعدد كبير من نخبة رجال " الهاجانا " وفرقة " البالماخ " الفدائية .
هذا وصف موجز لهذا " الجيب " اليهودي الخطر الذي حاول الإخوان تطهيره واحتلاله ، ثم تلقوا علي يديه درسًا قاسيًا ، وكانت هذه المعركة هي نقطة التحول التي غيرت خطتهم وصرفتهم عن معاودة الهجوم علي المستعمرات دون أن يملكوا المعدات اللازمة لهذا النوع من القتال . هاجم الإخوان المستعمرة في وقت مبكر من صبيحة اليوم ، ونجحوا في المرور خلال حقول الألغام عبر ممرات أعدوها طوال الأسبوع الذي سبق المعركة ، واجتازوا عوائق الأسلاك الشائكة .. كل هذا تم بدقة وسرعة دون أن يتنبه حراس المستعمرة لما يجري حولهم ولم يفيقوا إلا علي صوت انفجار هائل أطاح بأحد مراكز الحراسة ، ثم بدأت المعركة داخل الخنادق وعلي أبواب الأبراج و " الدشم " وأبدي الخوان في هذه المرحلة من ضروب البطولة والفدائية مالا يمكن حصره ولا تصويره . واستطاع اليهود أن يسدوا الثغرات التي أحدثها المجاهدون في دفاعات المستعمرة ثم حاصروا القوة الصغيرة التي نجحت في التسلل إلي أوكارهم ومضوا يحصدونها ببنادقهم ورشاشتهم . وهكذا فشلت المحاولة الأولي ومضي الإخوان يحملون شهداءهم وجرحاهم وكان عددهم يربو علي العشرين وانتهت المعركة علي هذه الصورة المؤسفة ولكنها ظلت مثلا فريدًا للبطولة والتضحية .
- من بطولات هذه المعركة :
مما زاد في روعة هذه المعركة أنها كانت المعركة الليلية الوحيدة التي شهدتها معارك الجنوب ، وتمت في خفة وهدوء يدلان علي مستوي عال من التدريب والمقدرة ، وظل الإخوان طوال فترة الحرب يتذاكرون المثل العليا التي سجلتها المجاهدون فيها ، والتي أعادت إلي الأذهان صورًا حية من جهاد الصدر الأول ، فهذا أحدهم وهو المجاهد " ومحمد سلطان " من مجاهدي الشرقية يزحف علي بطنه حاملاً لغناً هائلا وهدفه أحد مراكز الحراسة في المستعمرة .. يتنبه إليه الحراس وهو قيد خطوات من هدفه فيطلقون عليه رصاصات تصيبه في ذراعه وتعجزه عن المضي في زحفه ، ولكنه يتحامل علي نفسه ويزحف بصعوبة والدماء تنزف من جراحه والرصاص يتناثر من حوله ويظل يجاهد بعناد حتى يقترب من هدفه فيشعل اللغم ويدمر مركز الحراسة ويقضي علي البطل الفذ ويمضي ليلاقي ربه شهيدًا .
وهذا المجاهد " عبد الرحمن عبد الخالق " يقود إحدى جماعات الاقتحام في المعركة ويستمر في قتاله الرائع رغم أوامر الانسحاب التي صدرت إليه فيقول : كيف ننسحب وإخواننا في داخل المستعمرة ؟ ثم يذكر من معه بقول الله تعالي " يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفاً فلا تولوهم الأدبار " ويظل يقاتل بشدة حتى تصيبه رصاصة قاتلة في رأسه لتضع اسمه في عداد الشهداء .
وهذا مجاهد آخر هو " عمر عبد الرءوف " تصيبه رصاصة في صدره فتبدو علي وجهه ابتسامة مشرقة ويهتف بمن حوله " أترون ما أري ؟ " ثم يأخذ نفسًا طويلاً ، ويقول : هذه هي الجنة .. إنني أراها .. وأشم رائحتها " ثم يلفظ أنفاسه الطاهرة .
- ما استفاده الإخوان من هذه المعركة :
خرج الإخوان من هذه المعركة بنتيجة واحدة ، فهموها وظلوا يعملون علي أساسها طوال الفترة التي قضوها في فلسطين ، فهموا أن مهاجمة المستعمرات اليهودية بهذا النقص الواضح من الأسلحة والمعدات هو انتحار محقق ، وفهموا كذلك أنهم لن ينجحوا إلا في حرب عصابات ينزلون فيها الضربات علي خصوصهم خارج هذه المستعمرات دونت التعرض لحصونهم واستحكاماتهم . ولقد فلت للإخوان عقب هذه المعركة مباشرة : " أن اليهود أقوياء في هذه الحصون والأبراج ، فلن نهاجمهم فيها بعد اليوم ولكننا سنغير علي قوافلهم ونضطرهم إلي قتالنا في الأرض المكشوفة " وعلي هذه الطريقة بدأ الإخوان ينظمون أنفسهم في عصابات صغيرة ترابط علي طرق المواصلات وتهاجم شبكات المياه ومراكز التموين ، حتى اضطر اليهود إلي إخراج كثير من قواتهم لحراسة المواصلات والقوافل ، فاستطاع الإخوان بذلك أن يوقعوا بهم ضربات حاسمة سريعة وأن يغنموا منهم كميات كبيرة من العتاد والسلاح . وإليك مثالا للأخذ بهذه السياسة :
- أسلوب جديد في مهاجمة اليهود :
حدث مرة أن قامت قوة من الإخوان بقيادة المجاهد حسن عبد الغني بتدمير شبكات المياه بين مستعمرتي (بيري) و (أتكوما) وأباحت أنابيب المياه لأعراب المنطقة ينتزعونها من الأرض تحت حراستهم ، حتى نزعت من الأنابيب مساحات شاسعة ؛ ثم رابطت في المنطقة لتمنع العدو من إصلاحها . وصبر اليهود يومين عساها تنصرف لشأنها ولكن القوة العنيدة ظلت تواصل تدمير الأنابيب ونزعها والتعرض للصفحات والقوافل التي تحاول إصلاحها ؛ فلم تجد القيادة الإسرائيلية بدأ من الدخول في معركة مباشرة . فجمعت عددًا من الصفحات من جميع المستعمرات وأحاطت القوة الصغيرة من جميع الجهات ، وأخذت تقترب منها علي أمل أن تظفر بها .. وصمد الإخوان صمودًا عجيبًا ، وأوقعوا من اليهود عددًا من القتل قبل أن يبعثوا في طلب النجدات من معسكراتهم وجاءت مصفحات للإخوان وأقامت نطاقاً حول صفحات العدو الذي أسقط في يده حين رأي نفسه محصورًا بين نارين ، فاضطر إلي طلب نجدات أخري من المستعمرات القريبة ، وامتلأ ميدان المعركة بقوات كبيرة من الجانبيين واشتد القتال بين الفريقين شدة لم يسبق لها مثيل حتى يئس العدو من زحزحة الإخوان من موقفهم فأخذ يطلق سحبًا من الدخان ليستر انسحابه .. وما كادت أطباق الدخان تنجاب عن ميدان المعركة حتى سارع الإخوان يجمعون غنائمهم من السلاح ويعودون لتدمير الأنابيب من جديد .
حقارة اليهود : وأيقن اليهود أنه لا قبل لهم بمواجهة هذه القوات المتفانية في حرب شريفة ، فلجئوا إلي أسلحة الغدر والخيانة ؛ وحاولوا تسميم آبار يستعملها الإخوان في منطقة " خزاعة " حيث كان المجاهد نجيب جويفل يرابط فيها بسريته .. ولكن عين الله المبصرة ويقظة الإخوان مكنتهم من اكتشاف الجريمة قبل وقوعها : وذلك أنهم لمحوا رجلين يرتديان الملابس العربية ويتظاهران باستجلاب الماء ، وكان منظرهما يدعو إلي الريبة ، فاقترب منهم الجندي الحارس وأمرهما بالوقوف فلاذا بالفرار فتعقبهما الحارس وعدد من إخوانه حتى أدركوهما ولم يبق بينهما إلا خطوات وأمرهما بالتسليم مهددين إياهما بإطلاق النار فرفعا أيديهما بالتسليم ، وحين اقترب الإخوان منهما انبطحا علي الأرض في سرعة وقافا علي المهاجمين عددًا من القنابل اليدوية ، فأسرع الإخوان بملاصقة الأرض ثم أطلقوا عليهما النار فأردوهما قتيلين .
وبلغت النقمة بالإخوان من هذا الغدر أن حملوا الجثتين إلي مستعمرة " نيريم " وهناك علي مقربة من العدو نضجوا الجثتين بالبترول وأشعلوا فيهما النار علي مرآي من المستعمرة .. وجن جنون اليهود وأخذوا يلوحون بأيديهم في غضب وانفعال .. وحين جن الليل هاجموا مواقع الإخوان في " خزاعة " انتقامًا لهذا الحادث ولم يتمكنوا من زحزحة الإخوان وإن كانوا قد نجحوا في قتل أحد المجاهدين الأبرار الشهيد عيسي إسماعيل عيسي من إخوان الشرقية الكرام . وهكذا نجحت الخطة الجديدة ، ولم يعد الإخوان في حاجة إلي معاودة الهجوم علي المستعمرات المحصنة والتعرض لنيرانها ؛ ذلك لأن اليهود قد اضطروا إزاء هجمات الإخوان الموفقة علي قوافلهم وطرق مواصلاتهم إلي تعيين دوريات ميكانيكية وقوات كبيرة من المشاة لحراسة تلك الطرق والمنشآت وحمايتها أمام تلك الهجمات .. ولم يكن الإخوان ليضيعوا الفرصة الثمينة فأخذوا يغيرون علي هذه القوات المبعثرة في الصحراء ويرغمونها علي القتال إرغامًا حتى تحولت تلك المنطقة إلي ساحة حرب قوية .. ولم يكن يمر يوم في تلك الفترة دون أن تنشب معركة عنيفة تنتهي حتما بقتل عدد من جنود العدو وتدمير عدد آخر من مركباتهم ومدرعاتهم .
ولقد حاولت القيادة اليهودية أكثر من مرة القضاء علي العصابات وتطهير المنطقة منها ، فكانت ترسل عددًا كبيرًا من قوتها ، وكان هذا أقصي ما يريده الإخوان فيستدرجونهم إلي المناطق الوعرة ويحاصرونهم في الشعاب والوديان . وإذا نظرنا إلي هذه الفترة نجد أن الإخوان قد وصلوا إلي نتيجتين لم يكونوا يستطيعون الوصول إليهما بدون هذه الأعمال العصابية ؛ فالنتيجة الأولي هي خروج اليهود من مستعمراتهم وحصونهم لمقاومة عصابات خفيفة محصنة في بطون الشعاب والوديان . والنتيجة الثانية أن الإخوان استطاعوا الحصول علي كثير من الغنائم والمعدات التي لم يكونوا يملكونها كالصفحات الضخمة والأسلحة الرشاشة البعيدة المرمي ، هذا عدا أنواع مختلفة وكميات كبيرة من الذخائر والقنابل .
- من البطولات الخارقة :
يقول كامل الشريف في صفحة 114 : " وكان هذا النجاح حافزًا علي القيام بحركة جديدة ذلك أن مستعمرة " تل بيوت " دأبت علي إطلاق النيران من برجها الضخم وتسبب عن ذلك كثير من الخسائر والأضرار مما اضطر أحمد عبد العزيز إلي إصدار أوامره إلي الأخ المجاهد " حسين حجازي " ليتولي تدمير هذا البرج الخطر .. وفي ليلة 4 يونيو انطلقت جماعة من الإخوان من بيت لحم وأحيط انطلاقهم بتكتم كبير حتى إن زملاءهم في القوة لم يعلموا حقيقة المهمة التي سيقومون بها ، حتى لمعت برقة خاطفة أضاءت صفحة السماء وأعقبها انفجار هائل ارتجت له أركان المدينة وشاهد الناس أحجار البرج الضخم تتناثر في الهواء ثم تتهاوي لتصنع من تراكمها قبرًا كبيرًا يضم تحته رجال الهاجاناه .
- الهدنة الأولي أو الكارثة العظمى :
وقد علقت جريدة " أخبار اليوم " في عددها الصادر في 5 يونيه سنة 1948 تصف هذه العملية الجريئة فقالت بعد كلام طويل : " وفي الليل تسلل (حسين) ومعه أربعة جنود .. وزحفوا علي الأشواك في " صور باهر " أربعة كيلومترات تحت تهديد الرصاص الطائر في الهواء والحيات الزاحفة بين الأحجار ... وقرب الفجر سمعت " بيت لحم " انفجارًا مدويًا ، وتهدمت ثلاثة حصون من " تل بيوت " . وفي الصباح عاد (حسين حجازي) ليتلقي تهنئة قائده منها لقب " بطل تل بيوت " . " وبينما المجاهدون يوجهون ضربات مركزة في كثير من المناطق ، ويعدون أنفسهم للوثوب علي القدس الجديدة إذا بالدول العربية تقبل الهدنة الأولي وتصدر أوامرها لجيوشها بوقف إطلاق النار لمدة أربعة أسابيع تبدأ من يوم 11 يونيه 1948 " .
- موقف الإخوان من الهدنة الأولي :
الذي اقترح الهدنة الأولي هي الأمم المتحدة يمثلها الكونت برنادوت ، والذي اعترض علي هذا الاقتراح هم الإخوان المسلمون لأن الإخوان كانوا هم أدري الناس بحقيقة الموقف في فلسطين ... كانت القوات العربية جيوشًا ومتطوعين في انتصار ساحق ، وكان اليهود في هزائم متلاحقة وارتباك شديد .. وفهم الإخوان أن اليهود لم يجدوا لهم مخرجًا من الورطة التي وقعوا فيها بحيلة ماكرة يستردون فيها أنفاسهم . ويعيدون خلالها تنظيم صفوفهم ، ويستغلون فيها غفلة خصومهم . فأوحوا إلي مؤيديهم في الأمم المتحدة – وما أكثرهم – أن يطلبوا تقرير هدنة بسحب الطرفان خلالها قتلاهم لمدة أسبوعين . فهم الإخوان ذلك ، وكل المتابعين لأنباء القتال في فلسطين في ذلك الوقت كانوا يفهمون ذلك ، والصحفيون الذين كانوا في الميدان وخارج الميدان كانوا يفهمون ذلك .. وكان علي حكومة مصر أن تكون أول من يفهم ذلك .. لكن هذه الحكومة وقفت موقف الأبله لا بل موقف المتباله .
كان علي الحكومة المصرية أن ترفض هذه الهدنة أو أن تتلكأ علي الأقل في قبولها عدة أسابيع وإذن لتغيرت نتيجة هذه الحرب ، ولما كانت هناك مشكلة تسمي مشكلة فلسطين ولا دولة تسمي دولة إسرائيل .
لم يدخر الإخوان وسعًا في تقديم النصيحة للحكومة أن لا تنخدع وتقبل الهدنة ، وقد افترض الإخوان – بحسن الظن أن الحكومة لم يتضح لها خطورة الموافقة علي هذه الهدنة فشرحوا لها مدي الأضرار التي ستحيق بالمجاهدين وبالجيوش العربية وبالأمة العربية وبالأمة الإسلامية إذا ما وافقت علي الهدنة وصارت هي وجيشها والمجاهدون ملتزمين بها في حين أن اليهود لن يلتزموا بها بل إنها ستكون فرصة لهم لإعادة تنظيم صفوفهم بعد أن مزقت كل ممزق . وقد كتب الأستاذ المرشد مقالاً افتتاحيًا في جريدة الإخوان اليومية الصادرة في 3 يونيه سنة 1948 تحت عنوان " حول اقتراح الهدنة ... ماذا وراء هذا الرد ؟ " ننقل للقارئ نص هذا المقال لبالغ أهميته التاريخية .. يقول المرشد العام ... وهنا حقائق ثلاث لا يجادل فيها أحد من الناس :
الحقيقة الأولي أن هذه العصابات الصهيونية الآثمة الغادرة في فلسطين قد اعتدت اعتداء منكرًا علي المدن الفلسطينية الكبرى وعلي القرى الصغرى ، وارتكبت من الفظائع ما تشيب له الرءوس ، وكان عن عدوانها هذا أن شردت عشرات الألوف من عرب فلسطين وهاجروا إلي الأوطان المجاورة ، وتركوا ديارهم وأموالهم وبيوتهم ومصالحهم نهبًا مقسما في أيدي هذه العصابات التي تحتل الآن حيفا ويافا وعكا وطبرية وهي أعظم مدن فلسطين . ولهذا لم تجد الدول العربية بدًا من امتشاق الحسام لتأديب هؤلاء الطغاة ولاستنقاذ هذه المقدسات ، وتأمين حياة المقيمين . ورد المهاجرين العرب إلي أوطانهم ، وطرد السفاكين من الصهيونيين إلي البلاد التي قذفت بهم .
والحقيقة الثانية أن الجيوش العربية منتصرة مظفرة بيدها زمام الموقف والحمد لله ، وأن كل يوم يمضي يزيدها ظهورًا وتمكينًا ، وأن الشعوب العربية قد انتفضت فتكشفت عن أروع وأجمل وأفضل خصال آبائها وأجدادها نجدة وعزة وبذلاً وتضحية وقوة وبسالة . وأنها تبذل الدم والمال والنفيس والرخيص ولا تبقي علي شيء في فرح وسرور وطمأنينة وارتياح ، وأن عنوان هذا كله قد قرأه الخاص والعام علي جبهات الأبطال من رجالنا وشبابنا في الميدان .
والحقيقة الثالثة أن جامعة الدول العربية قد طاولت حتى تعبت المطاولة نفسها ، وقد صبرت علي عبث الساسة الدوليين حتى مل الصبر ذاته ، وقد أضاعت فرصًا كثيرة وأوقاتًا غالية ثمينة في سبيل الظفر بتقدير الرأي العام العالمي وإثبات حسن النية والأخذ بالحكمة والعقل والتبصر ، وأصبح الأمر كما قال الأستاذ العقاد في إحدى مقالاته ، لن نجني بعد ذلك من الحكمة والتعقل إلا أن نعرف بعد فوات الأوان أننا كنا أشد تعقيلا من المجانين .
هذه هي الحقائق الثلاث التي كانت ولازالت تفرض علي الدول العربية أن ترفض كل اقتراح يشير إلي هدنة أو شبه هدنة إلا بعد أن تدخل جيوشها تل أبيب وتطرد هذه العصابات الآثمة من حيفا ومن يافا ومن عكا ومن طبرية وتطوق كل مستعمراتهم أو تستولي عليها وترد المهاجرين من عرب فلسطين إلي ديارهم .. ثم إذا قيل بعد ذلك " الهدنة " فيها وإلا فالقتال حتى يقذف بآخر يهودي صهيوني إلي البحر وتطهر فلسطين المباركة من هذا الرجس .
ومن هنا كان الرد المطاط المرن غريبًا علينا نحن الإخوان المسلمين ؛ فنحن في ساعات الجد الحازم الذي لا يحتمل العبث مع العابثين من رجال ليك سكسيس وأمثالها . ونحن في الحقيقة حائرون في السبب الذي جعل اللجنة السياسية لجامعة الدول العربية تؤثر هذا الوضع وترد بمثل هذا الرد ؟ .. وهل حقيقة ما يقال من أن بريطانيا هي التي دفعت بالدول العربية إلي القتال لتسوي خلافاتها معها في ظل انشغالها بهذا الميدان حتى إذا " لخمتها هذه اللخمة ؛ " أرادت الهدنة بعد ذلك لتصل في هذه الفترة إلي ما تريد ؟ وأنها تلعب علي الحبلين وتظن أنها قد أرضت العرب بتظاهرها بالوقوف إلي جانبهم حينًا من الزمن ثم تحاول إرضاء اليهود بتشجيع الهدنة التي يستطيعون في ظلها أن يتنفسوا مما هم فيه من ضيق ؟ .
أم أن ذلك غير صحيح والصحيح أن قادة العرب أنفسهم هم الذين يريدون هذه الهدنة لأمور جدت وحوادث حدثت بعهد الاستيلاء علي القدس القديمة .. ونحن لا نستطيع أن نصدق هذا ولا ذاك ولا أن نري له نصيبًا من الصحة فقادة العرب في تماسكهم وتضامنهم واتفاقهم علي كل شيء . ووطنيتهم أعظم غيرة وحرصًا علي مصلحة فلسطين ومصلحة أوطانهم من أن يكون هناك ظل لهذا التفكير . وإذا لم يكن هذا ولا ذاك فهل الصحيح أن حكام الشعوب العربية لازالوا مغرمين بالأساليب السياسية كارهين لكل ما يتصل بالحرب والجهاد بسبب ، يؤثرون دائمًا أن يصلون من غير هذه الطريق ولو لم يكن هناك طريق غيرها ،وأنهم وجدوا في الهدنة المقترحة ما يتفق مع هذا الهوى ويماشي هذا المنطق فقبلوها مرحبين ..؟.
ونحن لا نريد أن نصدق هذا أيضًا فالحكام بعد أن رأوا هذا الإجماع الرائع وهذه الحماسة البالغة من شعوبهم لا يمكن أبدًا إلا أن تتحول في أنفسهم طبيعة المسالمة بل عادة المسألة والملاينة التي ألقوها ويؤمنوا أقوي الإيمان بأن الجهاد هو أقرب طريق لتحقيق الآمال وما ترك قوم الجهاد إلا ذلوا . لم يبق إذن إلا فرض واحد هو أن اللجنة السياسية تريد أن تبرهن من جديد علي حسن نية الدول العربية وحبها الدائم للسلام لتكسب بذلك عطف الرأي العام العالمي ولتكسب الوقت أيضًا ولتحرج الصهيونية أمام مجلس الأمن .ومع جواز هذا عرف السياسة فنحن نعتقد أن العدول عن الحزم وعد أخذ الأمور بمنتهي الشدة والجد في المواقف الذي نحن فيه لا يكون ، وراءه إلا تعقد الأمور وزيادة المتاعب ، وكنا نؤثر أن يكون شعارنا اليوم وبعد أن يئسنا من أساليب الدبلوماسية هذا اليأس ما قاله من قبل عبد المؤمن بن علي :
وحـكم السيف لا تعبأ بعافيــة
- وخلها سيـرة تبقي علي الحقـب
فما تنـال بغيـر السيف منقبـة
- ولا نرد صـدور الخيـل بالكتب
لو كان يطاع لقصير رأي !! ...
إننا متشائمون من هذه الهدنة لا نرضي بها ولا نوافق عليها ، ونحمل الذين اختاروا هذه الطريق تبعة عملهم بين يدي الله والناس . ولله الأمر من قبل ومن بعد ولا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم ... "
ولم تكن الهدنة الأولي في حقيقتها إلا أسلوبًا جديدًا ابتكرته هيئة الأمم لمساعدة اليهود وتمكينهم من جلب الأسلحة الثقيلة والذخائر . ولقد كان قبولها من جانب العرب اعترافاً فعليًا بقيام إسرائيل ولم تقف فائدة الهدنة لليهود عند حد جلب السلاح والعتاد فحسب ، ولكنها أيضًا كانت وسيلة لاحتلال المواقع الهامة ، إذ أن أغلب المراكز الخطيرة لم يستطع احتلالها إلا بهجمات غادرة قاموا بها خلال الهدنة .. وكانت الحجة دائمًا عند هيئة الأمم وعند حكومة إسرائيل أن أصحاب هذه الحركات الغادرة ليسوا إلا عصابات فوضوية متطرفة ، وكانت الدول العربية تصدق هذا الزعم ونشفق علي هيبتها وكرامتها أن تجاري عصابات فوضوية وهي الدول ذات المراكز والسلطان . وعن هذا طريق احتل اليهود أغلب المناطق التي وقعت في أيديهم .
- الموقف بعد الهدنة الأولي :
يقول كامل الشريف في صفحة 148 : أود قبل أن استطرد في بيان ما خفي من نشاط الإخوان المسلمين وأثرهم في الميدان إلي بعض التغيرات الجوهرية التي طرأت علي جبهات القتال بعد فرض الهدنة الأولي ليكون القارئ علي حقيقة بيته من الموقف . لزم الجيش المصري مواقعه التي احتلها . وأخذت وحداته تنظم الدفاع عن نفسها وتستعد لاستئناف القتال ، وعند نهاية الهدنة أخذ الجيش يهاجم مراكز اليهود بعنف وشدة ، ويضيق الخناق علي المستعمرات الجنوبية حتى كادت تموت جوعًا وعطشًا ، وأدركت القيادة اليهودية حقيقة الخطر الذي يحيط بهذه المستعمرة فحاولت تموينها بالطائرات ولم تنجح في هذه الخطة أيضًا إذ كان السلاح الجوي المصري في ذلك الحين لا يزال يسيطر . وأذكر أنهم قاموا بمثل هذه المحاولات في المستعمرات التي يتولي جنود الإخوان حصارها غير أن الإخوان أرضوها أكثر من مرة علي إلقاء حمولتها بعيدًا عن المستعمرات تحت تأثير نيران المدافع الرشاشة التي كانت تسقط عليها من أبعاد قريبة والفرار راجعة إلي قواعدها . وكانت هذه الحركة مصدر غنائم جديدة للإخوان ومصدر مضايقات مثيرة لليهود .
- الهدنة الثانية أو ثالثة الأثافي :
وهنا فرضت الهدنة الثانية التي استطاع اليهود في خلالها أن يجلبوا أنواعًا جديدة من الأسلحة الثقيلة والطائرات الضخمة ... وحين آنسوا في أنفسهم شيئًا من القوة والإعداد ، ضربوا بالهدنة عرض الحائط وبدأوا عمليات جريئة واسعة النطاق ؛ فهاجموا (تقاطع الطرق) في 14 أكتوبر واحتلوها . وبذلك تحطم الحاجز الذي يفصل الشمال عن الجنوب ، وانطلقت القوات اليهودية المدرعة تحمل الأسلحة والجنود وانتفضت المستعمرات الهادئة الوادعة ، ودبت معالم الحياة والنشاط في أوصالها وقامت لتؤدي دورها المرسوم فقطعت طرق المواصلات حين كان الضغط يشتد علي خطوط الجيش الأمامية مما اضطر قيادة الجيش إلي تقصير خطوطه والتخلي عن مناطق المجدل وأسدود تاركة خلفها قوة قوامها خمسة آلاف جندي في منطقة (الفالوجا) لم تستطع الإفلات واللحاق بالجيش المنسحب إلي غزة .
بطولات خارقة لحماية انسحاب الجيش المصري
فرضت السياسة الخرقاء للحكومة المصرية علي الجيش المصري في فلسطين بقبولها الهدنتين الأولي والثانية الوضع الذي يكون فيه الانسحاب هو أقل الضررين ، ولم يتوان الجيش في إعداد خطة الانسحاب ، ولكن كان لابد لتأمين انسحابه من الاحتفاظ بمواقع معينة إذا فقدها فشلت خطة الانسحاب وصار الجيش معرضًا للفناء ، وننقل فيما يلي عن الأستاذ كامل الشريف لمحات من بطولات رائعة للإخوان في سبيل تأمين الجيش المصري .
- 1 – استرداد العسلوج :
كان احتلال العسلوج يعني قطع مواصلات الجيش المصري في الجبهة الشرقية ؛ مما دعا القيادة العامة إلي تنظيم خطة لاستردادها . وفي اليوم التالي تحركت قوة كبيرة من الجيش النظامي تعاونها المدفعية والسيارات المدرعة ، ولكنها فشلت في الاقتراب من القرية لاستماتة العدو في الدفاع عنها . فاستنجدت القيادة العامة بالبكباشي أحمد عبد العزيز الذي وكل الأمر لليوزباشي محمود عبده قائد الإخوان في " صور باهر " ليتولي إرسال قوة من رجاله تسترد هذه المواقع ، وأترك وصف النتيجة لسعادة اللواء أحمد محمد المواوي بك القائد العام وهي مقتبسة من شهادة أدلي بها بين يدي القضاء في إحدى قضايا الإخوان المسلمين التي عرفت باسم " قضية سيارة الجيب " وكانت جابته ردًا علي سؤال وجهه إليه الدفاع في القضية المذكورة .
- هل كلفتم المتطوعين بعمل عسكري خاص عند مهاجمتكم العسلوج ؟..
- نعم ... العسلوج بلد تقع علي الطريق الشرقي واستولي عليها اليهود في أول أيام الهدنة . ولهذا البلد أهمية كبرى بالنسبة لخطوط المواصلات ، وكانت رياسة الجيش تهتم كل الاهتمام باسترجاع هذا البلد ، حتى إن رئيس هيئة أركان الحرب أرسل لي إشارة هامة يقول فيها (لابد من كلا الطرفين من الجانبين ، فكلفت المرحوم أحمد عبد العزيز بك بإرسال قوة من الشرق من المتطوعين وكانت صغيرة بقيادة ملازم ، وأرسلت قوة كبيرة من الغرب تعاونها جميع الأسلحة ولكن القوة الصغيرة هي التي تمكنت من دخول القرية والاستيلاء عليها .
ولما سألوه المحامون عن السبب في تغلب القوة الصغيرة أجاب :
- القوة الغربية كانت من الرديف وضعفت روحهم المعنوية بالرغم من وجود مدير العمليات الحربية فيها إلا أن المسألة ليست مسألة ضباط .. المسألة مسألة روح ، إذا كانت الروح الطيبة يمكن للضابط أن يعمل ما يشاء ، ولكن إذا كانت الروح ميتة فلا يمكن للضابط أن يعمل شيئًا ... لابد من وجود الروح المعنوية .
يقول كامل الشريف : وهكذا تحررت العسلوج وكان تحريرها علي يد قوة من الإخوان بقيادة ضابط ملازم هو الأخ المجاهد " " يحيي عبد الحليم " من إخوان القاهرة ... ومع هذا النجاح الباهر الذي أحرزه الإخوان وعظم الخسائر التي مني بها العدو . كانت خسائرنا صغيرة جدًا لا تتجاوز عددًا من الجرحى من بينهم قائد القوة المهاجمة المجاهد " يحي عبد الحليم " .
- 2 – استرداد تبة اليمن :
نجح العدو في 19 أكتوبر في اقتحام مرتفع شاهق يعرف بتبة اليمن ... وهاأنذا أنقل نص إشارة رسمية بعثتها قيادة (بيت لحم) إلي الجهات العسكرية المسئولة بتاريخ 20 أكتوبر : " قام العدو بهجوم عنيف علي جميع مواقعنا الدفاعية تحت ستار غلاله شديدة من نيران الأسلحة الأوتوماتيكية والهاونات وقاذفات الألغام والمدفعية الثقيلة – صدت قواتنا الهجوم – تمكن العدو من الاستيلاء علي مواقعنا بجبل " اليمن " – قامت قوة من الإخوان المسلمين بقيادة الملازم أول خالد فوزي بهجوم مضاد فطردت العدو بعد أن كبدته خسائر فادحة – خسائرنا ضعيفة . وقد أبلغنا مراقبي الهدنة " . وقد علقت أغلب الجرائد العربية واليهودية علي هذه المعركة وذكرت جهود الإخوان فيها بالإكبار والإعجاب .. وكتبت جريدة " الناس " العراقية في عددها الصادر يوم 7-11 مقالا تحت عنوان " بسالة متطوعة الإخوان المسلمين " جاء فيه :
" وإن اليومين الماضيين امتازا ببسالة متقطعة النظير من متطوعة الإخوان المسلمين فقد استولي اليهود شمال غرب بيت لحم بعد محاولات عديدة علي جبل مرتفع يسمي " تبة اليمن " ويشرف علي قري الولجة وعين كارم والمالحة وما جاورها وأصبحوا يهددون كل المناطق المحيطة بها ، ورأت قيادة الجيش المصري ضرورة تطهيرها فندبت لذلك عددًا من متطوعة الإخوان المسلمين في " صور باهر " فتقدمت سرية منهم .. ولم تمر ساعة حتى كانت هذه الفرقة قد أجهزت علي القوة اليهودية وغنمت ذخيرتها ومتاعها وحررت قرية " الولجة " وأصبحت تسيطر علي منطقة واسعة .. وقد أصدرت قيادة الجيش المصري مرًا بتسمية الجبل " تبة الإخوان المسلمين " . وقد استشهد من الإخوان كل من مكاوي سليم علي من الزقازيق والسيد محمد قارون من المنصورة وإبراهيم عبد الجواد من الفيوم رحمهم الله رحمة واسعة " .
أقول : وقد نشرت الصحف المصرية نبأ هذه الموقعة وقد قرأتها في ذلك الوقت في جريدة الأهرام بنفسي هذه المعاني .
- 3 – حماية الجيش المصري في مرحلة الانسحاب :
في مرحلة انسحاب الجيش المصري بعد الهدنة الثانية حاول الجيش تثبيت أقدامه في منطقة " غزة " وجمع قواته المبعثرة بعد الانسحاب ... يقول كامل الشريف : يأبي إعطاء قوات جيشنا فرصة للتفكير في أمرها بما يقوم به من هجمات " وهمية " علي غزة ومن غارات جبارة علي مراكز الجيش بها ، ويزيد في إشغالها بالمناورات البحرية التي تقوم بها قطع أسطوله وتحاول قطع الطريق الساحلي الذي تسلكه القوات في انسحابها من المجدل . ولم تكن هناك خطة منظمة الدفاع عن هذه المناطق إذ كان الجيش – كما ذكرت – مشغولا في عمليات الانسحاب ، ولم يكن في هذه المنطقة كلها حتى ذلك الحين غير عدة سرايا من الإخوان المسلمين ، ووجد هؤلاء الإخوان أنفسهم أمام حقيقة واقعة هي عبء المحافظة علي جيش مصر وحمايته من أي عدوان يحركه اليهود من هذه المنطقة ، ولا يستطيع أحد أن يتكهن بفداحة الكارثة التي كانت وشيكة الوقوع لولا وجود هذه الفئة المؤمنة المجاهدة في ذلك الحين .
شعرنا بخطورة الموقف ، فقدمت مشروعًا إلي القيادة العامة بينت فيه الأخطار الكبيرة التي يمكن أن تقع لو فكر اليهود في مهاجمة هذه المناطق وقطع خط الراجعة علي الجيش ، وطالبت في ختام التقرير بإطلاق يد الإخوان وإعطائهم العتاد اللازم والترخيص لهم بإحضار قوات أخري من مصر حتى يمكنهم تنفيذ ذلك المشروع . وكان المشروع الجديد يقضي باحتلال مواقع (حاكمة) حول كل مستعمرة من المستعمرات الكبيرة ومحاصرتها وعدم إعطائها أية فرصة للتكتل حتى يفرغ الجيش من تنظيم خطوطه الدفاعية . ولقد استدعتني القيادة العامة في " غزة " وناقشتني في تفاصيل الخطة ، ثم أبدت موافقتها المطلقة علي تنفيذها . وأذكر أن اللواء المواوي قد وعدني بكتابة خطاب إلي الأمانة العامة للجامعة العربية وإلي رياسة أركان الحرب يطلب فيه تجنيد كتيبة من الإخوان عن طريق المركز العام والشعب وإرسالهم فورًا إلي الميدان ليتمكن من السيطرة علي الموقف . ولقد ذهبت من فوري إلي فضيلة الأستاذ الشيخ محمد فرغلي رئيس الإخوان في فلسطين وعضو مكتب الإرشاد العام وأطلعته علي تفاصيل الخطة ، فسافر من فوره إلي مصر ليعمل علي تجهيز هذا العدد الكبير وعمل التدريبات اللازمة نحو ترحيلهم إلي الميدان . وأذكر أن اللواء موسي باشا لطفي – وكان يشرف علي إدارة العمليات الحربية في الميدان – قابلني بعد ذلك وأبدي إعجابه الشديد بالمشروع ، وأفهمني أن هذه الخطة لو نفذت بدقة وإحكام فسوف يكون لها الفضل الأول في حماية الجيش في هذه المرحلة الخطيرة والاحتفاظ بهذه المنطقة الباقية من فلسطين ، فوعدته خيرًا ومضيت إلي المعسكر لأعد العدة وابدأ العمل .
جمعت الإخوان في ساحة التدريب بالمعسكر وقلت لهم إن الله قد فتح لهم بابًا جديدًا للجهاد وإن الظروف قد ألفت علي كواهلهم عبئ المحافظة علي الجيش وكرامته ، وإنه لولا ثقتي في قوة إيمانهم ورغبتهم في الكفاح ما قبلت أداء هذه المهمة الشاقة التي أعلم فداحتها وخطرها . ولن أستطيع أن أصور شعور الإخوان وهم يستمعون لهذه الأنباء ، وكانوا يقبلون علي في ابتهاج واضح وكأنهم يدعون إلي حفلة عرس أو نزهة خلوية لا لميدان قتال فيه من المشقة والخطر ما فيه . ولقد خرج الإخوان المسئولون في استكشاف حول المستعمرات ، وعاينوا المواقع التي رأوا احتلالها ثم عاد كل واحد منهم بعد " فصيلته " ليحتل بها مواقعه .. وكانت مشكلة المشاكل كل إقناع أفراد من الإخوان بالتخلف عن فصائلهم والبقاء في المعسكر ، ولست أنسي ما كان من أمر المجاهد الشاب " عبد الحميد بسيوني خطاب " نجل العالم الجليل بسيوني خطاب ، لقد كان هذا الشاب يبكي بكاء مرًا حين أمره قائد فصيلته بالبقاء في المعسكر ، ومازال يبكي ويبعث بالوساطات حتى أشفقت عليه فسمحت له الخروج .. وخرج من المعسكر وهو أشد ما يكون فرحًا وابتهاجًا . ولقد أخلص النية للجهاد فاجتباه ربه وأكرمه واتخذه شهيدًا في إحدى المعارك المشهورة التي جاءت بعد ذلك . وأقيمت المواقع الجديدة حول المستعمرات ، ولم تكن سيارة يهودية تجرؤ علي التنقل بين مستعمرة وأخري إذ أقام الإخوان " الكمائن " علي الطرق وملأوا الأرض بالألغام ، وأخذت دورياتهم المصفحة تجوب الصحراء الواسعة وتصل في طوافها حتى مدينة " بئر السبع " نفسها .
ولكن أصور أهمية هذه المعركة وأثرها يمكن أن أقول إن خمس عشرة سيارة مصفحة ودبابة قد دمرت خلال أسبوع واحد من بدء العمل ، عدا أنابيب المياه التي كانت تدمر كل يوم مما اضطر اليهود إلي ملاقاة الإخوان وجهًا لوجه ، فنثبت معارك رهيبة سقط فيها بعض الإخوان ولكنها جاءت بأحسن النتائج وأبرك الثمرات ولقد ضج اليهود بالشكوى وأبلغوا مراقبي الهدنة احتجاجاتهم أكثر من مرة ، وعلقت محطة إسرائيل علي هذه الحركات وهددت باستئناف القتال ضد الجيش إن لم تكف عصابات الإخوان عن نشاطها في هذه المنطقة . ولقد فكر بعض كبار الضباط في زيارة تلك المواقع البعيدة الواقعة حول (وادي الشلالة) و (تل حجه) و (الرايبة) و (الشعوث) وكان برفقتهم أحد الإخوان يدلهم علي الطريق ، فلما رأوا أنفسهم يتوغلون في الصحراء مبتعدين عن خطوط الجيش لأكثر من خمسة عشر كيلو مترًا إلي الشرق وهالهم أن رأوا المستعمرات اليهودية خلفهم داخلهم شيء من الشك والريبة ومال أحدهم علي الجندي المرافق لهم يسأله (أتراك ضللت الطريق ؟) فلما أخبره أنهم يسيرون في الطريق الصحيح قال له(إني أعتقد أنكم مثقفون مع اليهود وإلا لما جرؤتم علي التوغل في مناطقهم بهذه الصورة الجنونية) وضحك الأخ المرافق وضحك الضباط جميعًا .. وحين رجعوا إلي معسكراتهم أخذوا يشيدون بما رأوا من ببسالة الإخوان وشدة بأسهم ... وهكذا تمت عمليات للانسحاب وبدأ الجيش يستقر في المواقع الجديدة التي اختارها .
- 4 – معركة التبة 86 :
نتيجة ظروف سياسية سنعرض لها في الفصل التالي إن شاء الله أمر الإخوان بالانسحاب من مواقعهم الحاكمة فتمكن اليهود من الاستيلاء علي مرتفع هام جدًا جنوبي دير البلح يعرف باسم " التبة 86 " وكان نجاحهم في احتلال هذا الموقع يعني عزل حامية غزة وتمثيل مأساة " الفالوجا " مرة أخري . ويقول كمال الشريف : ولقد رأينا كيف اضطر الجيش إلي إخلاء مناطق برمتها عندما احتل اليهود موقعًا مشابهًا عند (بيت حانون) وكان هذا ما يري إليه اليهود من معارك (الطرق) التي اتسمت بها حربهم في فلسطين من قطع مواصلات الجيش وإرغامه علي التقهقر ، ثم طلب الهدنة لتمكنهم من المحافظة علي ما وقع في أيديهم ، وكان هذا ما أرادوه من احتلال مرتفع (دير البلح) الذي تتحدث عنه . ولقد تحدث إلي الأميرالاي (محمود بك رأفت) قائد قطاع (دير البلح) بالتليفون في ساعة متأخرة من ليلة 23 ديسمبر وأخبرني أن العدو قد نجح في اختراق خطوطنا الأمامية في دير البلح وانتزع المرتفع من أيدي جنودنا أذهلتهم (المفاجأة) ، وقواته تتجمع الآن وتحاول الوصول إلي طريق المواصلات الرئيسي ، ولكن قوات الجيش تحاول حصره فوق المرتفع حتى الصباح حيث يمكننا أن نقوم بهجمات مضادة لاسترداده وتطهيره ، ثم صارحني بأن الموقف جد خطير ، وأن هذه المعركة سوف يكون لها أثر بالغ في النتيجة العامة للحرب ، وختم حديثه طالبًا أن يستعد الإخوان ليكونوا آخر (ورقة) نقذف بها في وجه اليهود ...
فألقيت سماعة التليفون وخرجت من المكتب وكانت أصوات الانفجارات العنيفة تسمع عن بعد في جبهة القتال فأمرت بصفارة الإنذار فتجمعت قوات الإخوان ، وطلبت تجهيز سرية للاشتراك في هذه المعركة ، فتهافت الجميع ، فلما وقع الاختيار علي الفصائل الثلاث اللازمة ، هلل أفرادها وكبروا وأخذوا يهتفون من أعماق قلوبهم " هبي ريح الجنة هبي " ومضوا يعدون أسلحتهم ويستعدون لمنازلة العدو .. وبعد ساعة تحركت السيارات بمن فيها لترابط قريبًا من أرض المعركة كان الوقت الفجر ، وكان اليهود حتى ذلك الحين لا يزالون فوق المرتفع الذي احتلوه ولا تزال مدافعهم تسيطر علي مساحات واسعة من الأرض المنبسطة حوله . ولم تكد الشمس ترسل أول أشعتها حتى صدرت الأوامر لجنود الجيش بالتقدم فانسابوا في أفواج متلاحقة تريد أن تصل إلي القمة وتطرد العدو الرابض فيها ، ولكن ارتفاع الموقع وسيطرة أسلحة اليهود علي الأرض المحيطة به كانا يمنعان الجنود من الاقتراب ، و ظلت الحالة هكذا موجات إثر موجات وجرحي كثيرون وشهداء يسقطون دون الهدف ... وكيف للحوم آدمية أن تقاوم القنابل والرصاص .. والعدو الماكر يربض خلف خنادقه التي أعدها بعناية ويصوب نيرانه منها علي لحوم بشرية متراصة .. وبدا جليا للعيان أن لا أمل مطلقا في كسب المعركة إلا في حضور عدد من الدبابات فأرسلوا في طلبها علي عجل .. وجاءت الدبابات ودفعت إلي المعركة واحدة تلو الأخرى فتعطلت منها اثنتان علي سطح التل ولم يستطع أحد الاقتراب من مواقع العدو .
كانت الساعة قد تجاوزت الثانية بعد الظهر ، والريح لا تزال تقوي بشدة ، وتسوق أمامها قطعانا من السحب الكثيفة وعواصف المطر الباردة .. ووقف الضباط يتطلعون إلي السماء يلتمسون العون من الله العلي الكبير بعد أن جربت كل الأسلحة ووضح جليا أن هذه المعركة قد (ماعت) وضعف الأمل في حسمها قبل الليل . وكان لابد من إلقاء الورقة الأخيرة فطلب الأميرالاي محمود بك رأفت إحضار الإخوان علي عجل ، وما إن سمع الجنود والضباط اسم الإخوان حتى سرت في نفوسهم روح جديدة من الأمل والثقة . وطلبت من القائمقام علي مقلد قائد الفرسان أن يوفر دباباته ليدفع بها أمام جنود الإخوان . وبعد لحظات وصل جنودنا إلي ميدان المعركة ، وترجلوا عند مكان أمين لتنظيمهم وإعدادهم ... وكانت الخطة تقضي بتقسيم الإخوان إلي ثلاث مجموعات : تهاجم اثنتان منها الموقع من الإمام ومن جهة الشمال بينما القوة الثالثة تدور حول الموقع وتهاجم مؤخرته وتمنع تدفق الإمدادات عليه وتجذب اهتمام المدافعين إليها وتشغلهم عن القوتين الأخريين .. وكان المفروض أن تتقدم الدبابات متجمعة أمام قوة الإخوان تحت ستار من نيران المدفعية والأسلحة الرشاشة وتحت غلالة من قنابل الدخان التي كانت تطلقها مدافع الهاون التابعة للإخوان ، وبدأت المعركة علي هذا الأساس وانطلق الإخوان إلي أهدافهم وقد علت وجوههم إشراقه الإيمان القوي وكانوا ينشدون بحماس نشيدهم المعروف :
هو الحق يحشـد أجنــاده
- ويعتد للموقف الفـاصــل
فصفوا الكتائب آســــاده
- ودكوا بـه دولة البـاطــل
وأمسك الضباط والجنود أنفاسهم وهم ينظرون إلي هذا الشباب المؤمن يتواثب في ثبات وقوة ولا يثنيه الرصاص والقنابل عن التقدم ، لقد آمن الضباط والجنود أن هناك نتيجتين لا ثالث لهما : إما أن ينتصر هؤلاء الشباب أو يموتوا جميعًا لأن الانسحاب والتراجع لا يدخل في برنامجهم إطلاقا ، وخاصة في مثل هذا الموقف الحرج الخطير .. وظلت مدافع الإخوان تقذف الموقع بقنابل الدخان فترة طويلة حتى أحالت القمة إلي سحابة قائمة لا تري خلالها إلا ألسنة من اللهب الناتج عن انفجارات القنابل ... وسكتت المدافع وانساب المجاهدون إلي أهدافهم وبدأت معركة الخنادق . وروع اليهود حين رأوا الإخوان يلقون بأنفسهم فوقهم في الخنادق والدشم ويعاركونهم بالقنابل والحراب والأيدي ... ورغم كثرة الضحايا من الخوان فإن القوة قد تمكنت من احتلال أطراف خنادق العدو وأخذت تطهرها جزءًا جزءا ... ولم يجد اليهود بدًا من إخلاء الموقع فصمتت مدفعيتهم وأسلحتهم وشوهدت مصفحاتهم تتحرك للخلف حاملة الجرحى والهلكى . وكان هذا المنظر حافزًا للجنود الآخرين ملهبًا لحماسهم فأخذوا يتكاثرون علي الموقع ويتمون تطهيره حتى جاءت أخيرًا الحمالات (قاذفات اللهب) تطارد فلول العدو المنهزمة وانتهت المعركة بنصر حاسم . وكانت إحدى المعارك الكبرى التي تكبد فيها العدو خسائر فادحة دون أن يحصل علي نتيجة تذكر ... ووجد ضمن القتلى عدد من كبار الضباط الإسرائيليين وبينهم قائد المعركة وهو " كولونيل " روسي يحتل مركزًا هامًا في الجيش الإسرائيلي ووجدت في جيبه تفاصيل الخطة التي اتبعت في دير البلح والخطط المقبلة التي كان يراد منها إلقاء الجيش المصري في أعماق البحر .
كانت الشمس قد مالت للمغيب حين انتهت المعركة . وأخذ الجنود يحتلون الموقع بعد فرار اليهود منه . أما جنود الإخوان فقد انسحبوا في هدوء وسكون بعد أن أخذوا معهم كميات وفيرة من الأسلحة الألمانية والروسية وأكداسًا من القنابل والذخائر وكان كبار الضباط يعانقونهم عند خروجهم ويهنئونهم بهذا النصر الحاسم ويشيدون بجهودهم وفضلهم . ولقد زارني في الصباح مندوب من قبل القائد العام فؤاد صادق وأخبرني أن اللواء فؤاد صادق يرغب في مطالبة الحكومة بالإنعام بأوسمة عسكرية رفيعة علي الإخوان إشادة بفضلهم واعترافًا بجهادهم في هذه المعركة وغيرها وهو يريد مني كشفاً بأسماء " الإخوان " الذين اشتركوا في معركة الأمس . فمانعت أولا تقديم كشف لهذا السبب وقلت إن الإخوان لا يعملون بغية أوسمة وشارات وإنما هم طلاب ثواب ومغفرة وليس لهم مطمع من جهادهم غير الاحتفاظ بكرامة أمتهم وجيشهم والإبقاء علي عروبة فلسطين كجزء من وطنهم الإسلامي الكبير ... ولكنه ألح إلحاحًا شديدًا وحاول إقناعي بن الإنعام علي الإخوان لا يعج انتقاصًا لبلائهم وثوابهم بل هو اعتراف من الدولة بشجاعتهم وصدق جهادهم ثم هو فوق ذلك اعتراف بفضل الدعوة التي صنعتهم .. وأمام هذا الإلحاح أعطيته الكشف .
- مظاهر متناقضة :
كان من التناقض العجيب أن مصر كانت تحارب اليهود في فلسطين وهي تعلم أن جزءًا كبيرًا من تمويل المعركة ضد قواتنا إنما يصل إلي اليهود من مصر عن طريق اليهود الذين يعيشون فيها فأعظم متاجر القاهرة والإسكندرية كانت في يد اليهود كما أن دور اللهو الكبيرة المغرية كانت ملكًا لهم ...
الفصل الثالث : خطط التآمر العالمي للقضاء علي الدعوة
منذ انتقلت دعوة الإخوان المسلمين إلي القاهرة ، وأحس الإنجليز بوقوفها بجانب أهل فلسطين ضد اليهود وتبنيها هذه القضية ، وكان ذلك في أوائل سنة 1937 ، منذ ذلك التاريخ ومحاولات الإنجليز عن طريق صنائعهم من حكام مصر متوالية ومتصلة لا تنقطع ولا تهدأ لتعويق الدعوة وبث العقبات في طريقها وقد ألممنا بأمثلة لهذه المحاولات في الفصول السابقة من هذه المذكرات . ولكن الدعوة برعاية الله سبحانه ، وبما وفق الله مرشدها إليه من سعة في الأفق وبعد في النظر وإخلاص في العمل ، استطاعت أن تتخطي هذه العقبات ، وأن تثب فوقها وثبًا سبقت به أقرانها المتحررين من عقبات الطريق وكائن الأعداء .. وبهت الأعداء حين رأوها وقد شبت عن طوقها ، وبلغت رشدها ، وامتد رواقها حتى كسا أرض مصر وظلل الكثير من الأرض العربية والعالم الإسلامي .. ولم يعد في مصر – وهي المنار الذي يهتدي به كل عربي ومسلم – صوت أعلي من صوتها ولابد أقوي من يدها ولا كلمة أنقذ إلي القلوب من كلمتها .
وكانوا يعتقدون – أن رأوا نفوذها قد تعاظم .. أن هذا النفوذ مهما تعاظم فمجاله مصر لا يتعداها ، فإذا بهم يفاجأون بهذا النفوذ يصل إلي أبعد البقاع العربية ، فيديل دولة في اليمن ويقيم دولة أخري بها ، وتبسط الدولة الجديدة سلطاتها ويستتب لها الحكم ... ومعني هذا أن هذه هي الحلقة الأولي من سلسلة لا تلبث الدول العربية أن تقع واحدة تلو الأخرى ، وتتحقق بذلك نواة الدولة الإسلامية ... وهنا لا يكون للاستعمار إلا أن يحمل عصاه علي عاتقه ويرحل إلي غير رجعة ، فإن هذا الكتاب " القرآن الكريم " لا يقبل حيث حكم لا أن يكون سيدًا ، ولا يرضي أن يكون له في السيادة شريك .. وهذا أمر يفهمه كل المستعمرين فمنهم من يسره في نفسه ومنهم من يجهر به . فأيام كانت إيطاليا تجند الألوف من شبابها للإغارة علي ليبيا للاستيلاء عليها في العشرينيات من هذا القرن كانت الفقرة التي تتكرر بعد كل مقطع من النشيد الذي يردده هذا الشباب هي : " دعيني يا أمي أحطم هذا " الكتاب " الذي لا أمل لنا في أن نسود العالم مادام موجودًا " .
فالمستعمرون لم يقدموا علي استعمار البلاد الإسلامية إلا بعد أن درسوا مقومات استقلال هذه البلاد فعرفوا أن لب هذه المقومات هو الحكم بالقرآن ، فصوبوا سهامهم إليه ... فإذا قامت هذه الدول الإسلامية من جديد – علي يد الإخوان المسلمين – محتكمة إلي القرآن ، إذن فقد ضاعت الفرصة علي الاستعمار . وإذن فلابد من تخطيط ... لقد رسموا خطة قوضوا بها دعائم ثورة اليمن ... فهل يفرحون بهذا النصر مكثفين به ؟ إنهم ليسوا السذج ولا البسطاء ... إنهم أبعد نظرًا وأشد حذرًا لقد فهموا أن الذي أشعل هذه الثورة التي أحبطوها يستطيع أن يشعل ثورات في أماكن أخري ويستطيع أن يعيد الكرة في اليمن نفسها ... فهل يكون هدفهم تتبع الثورات والعمل علي إحباطها ؟! إن هذا أمر يطول أمده ولا يرجي أن تكون له نهاية .. فليكن هدفهم إذن محاولة القضاء علي الروح التي تنفخ الحياة في كل مكان ... فليكن هدفهم طمس مصدر النور ينفذ شعاعه إلي الظلام فيبدده حيث كان ... فليكن هدفهم التضامن مع أي مكان . والتحالف مع الشيطان للقضاء علي الإخوان المسلمين .
تهديد أمريكي مقنع
نشرت الصحف المصرية في ذلك الوقت ترجمة لما جاء بإحدى كبريات الصحف الأمريكية عن حسن النيا ما ملخصه " وصفته شكلا وثقافة وسنًا وذكاء ومقدرة علي حسن الأداء وعلي تملك قلوب سامعيه وعلي سيطرته علي المجتمع الإسلامي ثم عقبت علي ذلك بقولها : إن هذا الرجل هو أقوي رجل في العالم الإسلامي اليوم ولا يمكن أن يغلب إلا أن تصير الأحداث أكبر منه " . ولم نفهم نحن الإخوان في ذلك الوقت من تعقيب الصحيفة في قولها " إلا أن تصير الأحداث أكبر منه " أن هذا أسلوب خطير من أساليب التهديد وأن هذه الصحيفة بهذه العبارة تستحث قوي الشر في كل مكان أن تتجمع لوضع مخطط للقضاء علي هذا الرجل الذي ضاقوا به ذرعًا ... وإذا كانت السياسة الأمريكية سياسة أقرب إلي الصراحة فإن السياسات الأخرى في الدول الاستعمارية كانجلترا وروسيا هي سياسات التكتم والسرية المطلقة .
وهذه الدول لا تأخذ علي عاتقها إلا التخطيط ، أما التنفيذ فإنها تسخر له غيرها ممن هم ألصق بالمجال الذي يخططون له ويحيكون المؤامرات لتنفذ فيه .. وقد يصل إحكام المؤامرة إلي حد أن يقوم المسخر بتنفيذها وهو لا يشعر أنه مسخر بل يعتقد أنه يقوم بها لحسابه الخاص .. وقد وجدت هذه الدول في مصر من يتحرقون شوقا إلي القيام بأي دور للقضاء علي الإخوان المسلمين : وجدت ملكا غارقاً في شهواته يري الإخوان أكبر خطر علي شهواته التي لم يعد يعيش إلا بها فهو يري القضاء عليها قضاء عليه ، ووجدت حربًا موتورًا رضي رجاله أن يكونوا سدنة شهوات هذا الملك الفاجر ، فوجودهم مرتبط بوجود هذا الملك بشهواته ، وإذا ظهرت البلاد من رجس هذا العرش العفن كانوا هم أول من يركلون بالأقدام .. ووجدت حزبًا كبيرًا منافسًا يمكن استغلاله في تشويه صورة الإخوان في أعين الشعب .. ورأوا شبابًا كثيرًا متسكعًا يمكن إغراؤه بما يرضي نزعاته .. وبهذا صارت مهمتهم ميسرة .
وفي الصفحات التالية إن شاء الله بعضًا من هذه الخطط :
البوليس السياسي
وهذا أسلوب مكشوف وبدائي ، وقد لجأت إليه الحكومات المصرية علي اختلاف أحزابها ضد الإخوان . فهم يبثون رجال هذا البوليس في المجتمعات الإخوانية علي أمل أن ينقلوا إلي الحكومة أسرار هذه المجتمعات ... وكان الإخوان بفراستهم يكتشفون الشخصيات المتنكرة لهذا البوليس ، كما أن الإخوان كانوا إذا أرادوا أن يتداولوا في أمر ذي بال لم يتداولوا إلا في اجتماعات خاصة يعرف كل منهم فيها أخاه ولا يستطيع شخص آخر أن يتسرب إليها .. علي أن نظام الأسر المتسلسل والذي يربط كل الإخوان العاملين كان جدارًا متينًا يجعل التسرب أو التسمع أمرًا مستحيلاً . وإذن فإن الذي كانوا يتوخونه من بث رجال هذا البوليس في اجتماعات الإخوان من وصولهم إلي أسرارهم قد فشلوا فيه ...
علي أن كثيرين من هؤلاء وهم ذوو ضمائر ميتة – كانوا يستبيحون لأنفسهم أن يختلفوا كلامًا وينسبوه إلي الإخوان ليشعروا رؤساءهم أنهم يعملون عملا .. والعجيب أن هذا الغش كان يروج علي رجال هذه الحكومات . ومع أن تسليط هؤلاء الرجال علي مجتمعات الإخوان لم يحقق شيئًا مما كانت تأمله الحكومات ، فإن كثرة تطفلهم علي هذه المجتمعات خوف بعض من كان يغشي هذه المجتمعات من ذوي الإيمان الضعيف فجعلهم يحجمون عن غشيانها ؛ فقد كان من المألوف في أثناء إلقاء محاضرة أسبوعية في شعبة من الشعب أن يدخل ضابط من البوليس السياسي ويطلب فض الاجتماع وأن تقوم مشادة بينه وبين إخوان الشعبة وقد يؤدي ذلك إلي أن يأخذ المسئول عن الشعبة إلي أقرب قسم بوليس ويحرر له محضرًا . ويجب أن يكون معروفاً أن البوليس السياسي في تلك الأيام لم يكن يعمل لحساب الحكومة المصرية وحدها بل كان يعمل لحسابها ولحساب السفارة البريطانية بل إن بعض ضباطه كانت صفتهم بالسفارة البريطانية أقوي من صلتهم بالحكومة المصرية ، ولم يكن يغضب المسئولين بالحكومة . وقد كان مثار فخر يحسد المسئولين في الحكومة المصرية عليه القائمقام محمد إبراهيم إمام مدير البوليس السياسي أن تنشر الصحف المصرية صورة له والسفير البريطاني السير رونالد كامبل يسلمه نيشان الإمبراطورية البريطانية في 21 مايو سنة 1947 تقديرًا لخدماته .
ولقد كان منظرًا مألوفاً أن تري القائمقام محمد إبراهيم إمام أو أحد رجاله داخلا دار المركز العام ومعه أمر بمنع اجتماع أو بمصادرة عدد من المجلة أو استدعاء بعض الإخوان للتحقيق معهم .. وقد يتحداه الإخوان في بعض الأحيان ؛ وهكذا كانت العلاقة بين الإخوان وبين البوليس السياسي أو القسم المخصوص كما كان يسميه البعض كحرب سجال يقيدون الإخوان مرة ويتحداهم الإخوان مرة أخري . وهذا الأسلوب من أساليب مضايقة الدعوة والكيد لها قد اتبع منذ فجر قيامها لم يفتر يومًا واحدًا مع اختلاف درجات ضغطه . فكان يزداد الضغط في بعض الأحيان ويخف في أحيان أخري ، كما كان يشتد علي شعبة من الشعب ويفتر مع شعبة أخري .. وعلي كل فلم يكن ذا تأثير خطير علي الدعوة أمام تنظيماتها المحكمة البناء .. ولكن دورهم الخطير مع الإخوان سيأتي ذكره في مكان آخر إن شاء الله .
جمعية إخوان الحرية
من أساليب السياسة الإنجليزية الماكرة أنها حين تخطط لما بين يديها من ظروف لا يشغلها هذا عن أن تخطط في نفس الوقت للمدى البعيد ؛ فكان المفترض وقد اشتعل أوار الحرب العالمية وانجلترا نفسها هي الهدف الذي تصب فوق رأسه حممها ويراد تدميره وإزالته من خريطة العالم ، كان المفترض أن يكون تخطيط الإنجليز مقتصرًا علي محاولة بالتخطيط لهذا وحده بل كانوا يخططون في نفس الوقت لمقاومة التيار الجديد الذي أخذ يكتسح مصر والبلاد العربية والإسلامية لا يقف أمامه شيء ، ألا وهو تيار الإخوان المسلمين . لقد أخذ الشباب ينفض من حول الزعامات التي صنعوها وينضوي تحت لواء الإخوان المسلمين ، مع أن لعبة الزعامات كانت لعبة ناجحة تمام النجاح واستطاع الإنجليز بها أن يشغلوا الشباب عن الجد وعن اللب قانعًا بالشعارات وبالقشور ؛ فإذا استطاع الشباب أن يرفعوا زعيما إلي مدة الحكم استقر في خاطرهم أنهم قد حققوا كل آمال بلادهم ، ولا عليهم بعد ذلك ، فليطمئنوا وليفرحوا وليناموا ويستغرقوا في النوم فقد تحقق مالا أمل بعده .
فإذا كانت هذه اللعبة قد انكشفت زيفها وافتضح أمرها وتبين الشباب أنهم كانوا مخدوعين فانفضوا عنها إلي الإخوان المسلمين ، إذن فلابد من التفكير في لعبة أخري تكون أشد تأثيرًا وأقوي إغراء لجذب هذا الشباب جذبًا يصرفه عنهم . اتجه تفكيرهم إلي جذب الشباب من أحظ غرائزه – وهي أسهل ما يقاد منه الشباب – ولكنهم اتبعوا خطة الشيطان حين يخطط لإغواء الصالحين ؛ فهو لا يدخل عليهم ناهيًا إياهم عن صلاحهم بل يدخل عليهم مباركا ما هم عليه من صلاح ليأنسوا إليه فيسلموا له القيادة فيقودهم بعد ذلك إلي مهاوي الضلال . واقتداء بالشيطان في خططه الخادعة أنشأوا جمعية أطلقوا عليها " جمعية إخوان الحرية " فالإخاء الذي يفخر بالدعوة إليه وتمكينه بين النفوس رفعته هذه الجمعية شعارًا لها . وبلاد مثل مصر تشكو وطأة الاحتلال وتطالب بالحرية يكون لفظ الحرية أجمل صدي في أسماع شبابها ... ورؤساء هذه الجمعية انجليز مؤهلون تأهيلا خاصًا يسهل لهم سيل الاتصال بالمصريين وبالعرب فهم يتكلمون العربية وعلي درجة عالية من النظافة ، وعلي دراية واسعة بأحوال البلد الذين سيعملون فيه ، وفضلا عن ذلك فهم مزودون بسلاحين قاطعين هما المال والنساء .
من هم رؤساؤها ؟ .
لم تكن هذه هي المحاولة الأولي من الإنجليز لإرساء أساس لجمعية تناوئ الإخوان المسلمين فقد أنشأوا في سنة 1940 جمعية في القاهرة سموها " جمعية الإصلاح الوطني " . أسندت رياستها لجمال الدين هيورث دن وهو انجليزي سبق له أن أقام في مصر وتعلم العربية الدارجة وادعي الإسلام وتزوج من مصرية مسلمة كانت تقيم معه في لندن .. وقد أنشأ مطبعة أمام السفارة البريطانية لإصدار المنشورات المضللة ... وانتهت هذه المحاولة بالفشل فلجأ الإنجليز في أثناء الحرب العالمية الثانية إلي إنشاء جمعية إخوان الحرية . وقد اسندوا رياستها للمستر فاي وكان محاضرًا سابقاً بكلية التجارة بجامعة القاهرة ثم انتقل إلي قسم النشر بالسفارة البريطانية . ومن زعمائها الآنسة فريا استارك التي ألفت عدة كتب عن العرب ، والمستر سكيف رئيس القسم الإنجليزي بكلية الآداب بجامعة القاهرة سابقًا .
وقد بدأت باتخاذ مقر لها في بيت السناري بحارة منج شارع الكومي بالسيدة زينب ثم لم تلبث أن افتتحت لها فروعًا وشعبًَا في طول البلاد وعرضها حتى القرى مقتفية في ذلك طريق الإخوان المسلمين في الدخول بالدعوة إلي أعماق البلاد حتى إن بعض الصحف المصرية قد نشرت في مارس سنة 1947 عن رحلة قام بها في ذلك الوقت المستر فاي إلي الوجه القبلي يصحبه من يسمي بالشيخ الزواوي وذكرت الصحيفة أنهما اتصلوا بعرب الجهمة والأنصار وامتدت رحلتهما إلي قنا وأسوان .. ولما كان التقرب إلي الإنجليز في ذلك الوقت هو البضاعة الرائجة وكانت خزانة الحكومة البريطانية مفتوحة علي مصراعيها فسرعان ما تضخمت هذه الجمعية بما ضمت لعضويتها من ذوى المصالح والمنافقين ، وبعد أصدرت الجمعية في ذلك العام كتابًَا باللغة العربية في ثلاثمائة صفحة يتضمن أسماء أعضائها وكان بينهم أناس يحتلون مراكز خطيرة في المجتمع .. وكانت الجمعية تصدر نشرات لا تستحي أن تشيد فيها بدور بريطانيا في فلسطين وبتدخل أمريكا في الشئون الداخلية للدول الصغيرة كما تنشر فيها خطب السفير البريطاني .
- خطة الجمعية وأهدافها :
لم يكن الإخوان لينزعجوا للعدد الضخم من الأسماء الرنانة التي انضوت تحت لواء هذه الجمعية والتي حواها المجلد الضخم ذو الثلاثمائة صفحة التي أصدرته ، فإن هؤلاء هم غشاء السيل وممن قال الله في أمثالهم " لو كانوا فيكم ما زادوكم إلا خبالا ولأوضعوا خلالكم " وإنما أزعج الإخوان هو خطة جهنمية وضعتها هذه الجمعية للإيقاع بالشباب الغض الإهاب الخالي الذهن السهل القياد . فمقر الجمعية في القاهرة مؤثث بأفخر الأثاث ومزود بجميع وسائل الترفيه ثم توجه الجمعية الدعوة إلي الشباب في معاهده الدراسية وفي نواديه الرياضية وفي مختلف أماكن تجمعاته لحضور محاضرة لرئيس الجمعية أولا حد محاضريها في مقرها مساء يوم محدد ، وموضوع المحاضرة جذاب يتصل بالحرية التي هي من حق كل المجتمعات ، فيستجيب لهذه الدعوة في أول الأمر عدد قليل من الشباب .. وحين يستمع إلي المحاضرة ويتمتع بالجلوس علي الطفاقس والرياش وتقدم إليه المرطبات صيفًا والمشروبات الساخنة شتاء مع بعض الحلوى الفاخرة ؛ فيخرجون من هذه المحاضرة لا هجين علي ما رأوا وما سمعوا وما قدم لهم من طعام وشراب . فإذا ما دعت الجمعية إلي محاضرة أخري تضاعف عدد المستجيبين وهكذا حتى يصل الحال إلي التسابق للظفر بالجلسة الممتعة المشبعة والتي لا تكلفهم كثيرًا ولا قليلا .
حينئذ .. وبعد أن يطمئن القائمون علي الجمعية إلي أن مجموعة ضخمة من الرواد قد أصبحوا أسري هذه المتعة الحلال حتى الآن .. يبدأون تطعيم محاضراتهم التي تدور كلها حول التغني بالحرية وأنها أشرف ما يطلب – بلون من الحرية فيه الإغراء هو حرية الاختلاط بين الشباب والفتيات .. وتبدأ الفتيات التابعات لقيادة الجمعية في مجالسة هؤلاء الشباب ومجاذبتهم أطراف الحديث وما أسرع الشباب الذي استهوته من قبل المتعة الحلال إلي الاستجابة إلي المتعة الجديدة التي هي أشد إغراء من الطعام والشراب والتي تبدأ عادة بشيء في ظاهره في حدود الحياء والأدب ثم تتدرج حتى تصل إلي الحرام . وهكذا يأخذ القادة " المرشدون " في التوسع في معني الحرية بعد أن أوقعوا ضحاياهم في شرك الإثم وفقد كل منهم احترامه لنفسه ، فتتجه المحاضرات إلي العقيدة ، وتأخذ في توجيه سهام النقد نحوها ، وتبرز المتمسك بعقيدته في صورة المتعصب المتزمت ، وأن الحرية تقتضي أن يدع عقيدته جانبًا حتى لا تكون هناك عوائق سبل الأخوة بين الناس من مختلف الأديان . ويلاحظ أن إقناع صرعي شهواتهم بمثل هذا لا يحتاج إلي كثير جهد ولا علي عظيم عناء ، فتجريد الواحد منهم من عقيدته ما هو إلا إجهاز علي جريح مثخن بالجراح ؛ ولذا فإن المحاضرات التي كانت تنمق بأقوى الأساليب إقناعاً تتحول بعد صرع الشباب أمام شهواتهم إلي ما يشبه التعليمات والأوامر لا تستغرق وقتًا ولا تتخللها مجاملة ، ولذا تري خطوات الانحدار تتوالي في سرعة مذهلة لا تلبث أن تري الشباب في نهاية المنحدر أشبه بالجثة الهامدة لأنها فقدت إنسانيتها وفقدت حتى آدميتها .
في الخطوات الأخيرة التي تتخذ مع هذا الشباب للإجهاز علي ما بقي فيه من آدمية حتى يبدو أمام نفسه حيوانًا أو بهيمة بعقد حفل يضم الجنسين وتقدم الخمور وتعزف الموسيقي المثيرة للأعصاب حتى تلعب الخمر بالعقول ويفقد كل الحاضرين سيطرتهم علي أعصابهم ويغيبوا عن وعيهم ولا تستيقظ إلا حيوانيتهم وتطفأ الأنوار . وإذ يترك للحيوانية العنان فلا يفيق الجميع إلا وقد وجد كل نفسه في حضن فتاة . ومن الأساليب التي قد يعجز الشيطان عن ابتكار مثلها ، أنه إمعانًا في إذلال الشباب وتماديًا في الاستيلاء عليه وأسره وقطع صلته بالحياة وتحويله إلي آلة يسخرونها حيث شاءوا ... إنهم لا يكتفون باستعمال الفتيات التابعات للجمعية في الإيقاع بالشباب بل يكلفون هؤلاء الشبان – تمشيًا مع نداء الحرية – باصطحاب أخوانهم معهم ، فيحضرون ويمرون بالخطوات التي مر بها إخوتهم حتى يصلن إلي الحضيض الذي انحطوا إليه .
ولقد وصل الأمر إلي أن انتهت حفلة من الحفلات الصاخبة التي أشرت إلي طبيعتها الحيوانية فلما أصبح الصباح وجد أحد الشبان نفسه في حضن أخته .. ولقد سمعت بأذني قومًا أعرفهم من أهل حي السيدة زينب يتحدثون في حزن وأسي عن هذا الشاب وأخته وما آل إليه أمرهما في تلك الليلة وكان الشاب وأخته من أهل الحي نفسه ومن أسرة سميت أمامي . فطبيعة خطة هذه الجمعية طبيعة جهنمية ؛ فهم يجهدون أنفسهم في محاولة جذب الشباب إلي الجمعية مرة واحدة ، ثم يتركون هذه المهمة لهذا الشباب نفسه بعد أن جردوه من آدميته ليقوم عنهم بهذه المهمة ... وقد اعتمدوا في ذلك علي خطة نفسية تتلخص في أن الشاب بعد أن غرر به حتى فقد آدميته يتولد في نفسه حقد علي زملائه الشبان الذين لازالوا يحتفظون بآدميتهم وإنسانيتهم وعقيدتهم ، وهو إذ يري نفسه عاجزًا عن أن يسترد ما فقده فإنه يحاول أن يراهم وقد فقدوا ما فقده ليتساووا معه .. ولذا فإن شبان الدفعة الأولي أو ضحايا الدفعة الأولي يلحون بكل الوسائل علي جر زملائهم من الشبان للذهاب إلي دور الجمعية متكتمين عنهم ما حدث لهم ، غير ذاكرين لهم إلا ما يغريهم بالذهاب لسماع المحاضرات والاستمتاع بالمقاعد الوثيرة والمشروبات المرطبة والحلوى الشهية دون مقابل ، ولا يزالون يغرونهم حتى يستجيبوا فينا لهم ما نال سابقيهم وهكذا .
- مثال لمحاولات سابقة :
ويجدر بنا أن نذكر أن الإنجليز منذ أحسوا بظهور دعوات جادة في مصر أخذ الشباب يلتف حولها ويستجيب لندائها وذلك في منتصف الثلاثينيات ، حاولوا بث أفكار معاكسة هذه الدعوات تتمثل في دعوة الشباب إلي نوع من الميوعة مثيرين فيه نزوات الغرائز الوضيعة ، محاولين بذلك فض الشباب عن هذه الدعوات الجادة النابتة حديثًا .. وإذا كان بعض كتابنا الكبار الآن قد لبسوا رداء الجد والفضيلة فإن بعضهم كان في ذلك الوقت مطية ذلولا لترويج هذه الأفكار الدنيئة ، فقد كان أحد هؤلاء الكتاب يترجمون كتبًا الواحد منها بمثابة شحنة مستوردة من الديناميت تكفي لتدمير أخلاق الأمة ولم يكتف هذا الكاتب بذلك بل أنشأ جمعية أنسيت اسمها الآن ولكنني لم أنس آثارها في تخنيث الشباب وسلب روح الرجولة منه .. والذي جعلني غير ناس هذه العملية مع طول الأمد الذي انقضي علي أيامها أنه كان لنا معها حديث طويل .
وبدأ هذا الحديث – وأنا طالب في كلية الزراعة – بأن رأينا بعض زملائنا من الطلبة أخذوا يصففون شعورهم بطريقة مثيرة ، وأخذوا يلبسون بنطلونات ملفتة للنظر ، وأخذوا ينشرون بين الطلبة أفكارًا تدعو إلي التخنث وإلي مهاجمة المتدينين والداعين إلي الدين باعتبار ذلك رجعية .. وأخذت هذه الأفكار تنتشر كما انتشرت مظاهر التخنث في المظهر والملبس بين الطلبة وكان هؤلاء يحملون شارة خاصة لهذه الجمعية .. فكان أن تصدينا – نحن الإخوان – لهم ، وأخذنا نجادلهم أمام الطلبة في أفكارهم ، ولكن انتشار الفساد أسرع من تقبل الحق ، فنحن كنا حين ندعو إلي الجد كأنما نقد في صخر أمامهم إذ يدعون إلي الفساد والتخنث فكأنما كانوا قد خلي بينهم وبين ما يشتهون . ولقد كان هذا حافزًا للدعوتين الجادتين أن توحدا جهودهما في الوقوف أمام هذا التيار الجارف ؛ فوقف الإخوان ومصر الفتاة وقفة كريمة .. وكان لي صديق من شباب مصر الفتاة في كلية الزراعة اسمه محمد محمود نصار وكان شابًا قويًا لا يخشي في الحق لومة لائم .. فتداولنا معًا في أمر هذا الشباب الذي يزداد عدد يومًا بعد يوم ؛ تستهويه الكلمات التي تخاطب فيه شهوته ؛ واستقر رأينا علي خطة رجونا أن يكون فيها الحل لهذه المشكلة .
كان قد أظلنا إذ ذاك شهر رمضان وكان من مقتضيات ظهور هذه الجمعية بمظهر المحتقرين للدين أن يستعلن أعضاؤها بالإفطار .. وكان يشد من أزر أعضاء هذه الجمعية في تحديها للدين والمتدينين أستاذ قدم من أوروبا في نفس هذا العام ، ومما يؤسف له أنه أستاذ مسلم مصري .. وكنت وصديقي نصار قد استمددنا خطتنا من قوله تعالي " فإنا تثقفنهم في الحرب فشرد بهم من خلفهم لعلهم يذكرون " فاتفقنا علي أن نحطم رأس هؤلاء الداعرين المتمثلة في شخصيتين هما شخصية هذا الأستاذ وشخصية الطالب الذي يعتبر زعيم الفكرة الإجرامية .. ودخلنا قاعة المحاضرات فتعمد الأستاذ أن يشعل سيجارة وبدأ الطالب الزعيم يتناول قطعة من الشيكولاته .. وتنفيذًا للخطة تحرش نصار بالطالب يريد منعه من تناول الشيكولاته فرفع هذا صوته محتجًا علي نصار ومستنجدًا بالأستاذ الذي تدخل قائلا ً : ما هذا التدخل في حرية الغير .. كل إنسان حر يفعل ما يشاء . فيقوم أحد الطلبة الإخوان ويقول للأستاذ : إن للحرية حدودًا بحيث لا تؤدي إلي إيذاء الغير . فيرد الأستاذ بأن هذا تعصب . فيقول له نصار : وأنت كذلك يجب أن تراعي إحساسنا وتطفئ السيجارة . فيري الأستاذ في هذا إهانة لكرامته ويصيح بصوت مرتفع بأنه يحتقر هذا التعصب وهذا الجهل وهذه الرجعية . فيري نفسه وقد أحاط به مجموعة من الطلبة الإخوان يؤازرهم طلبة متدينون ويتقدم نحوه نصار ويقول له : أطفئ السيجارة وإلا فستضرب ضربًا تعرف فيه قيمة نفسك . فيلقي السيجارة راغمًا ويدوسها الإخوان بأحذيتهم ويخرج هاربًا إلي مكتب العميد ويطلب أن يحميه من فلان وفلان ويعين اسمي واسم نصار فيرسل العميد معه من يخرجه من باب خلفي للكلية ... وفي اللحظة التي هرب فيها الأستاذ لاذ بالفرار الزعيم والطلبة يلاحقونه بالتهديد .
ومن أروع ما يسجل بالفخر والإعجاب أن العميد الأستاذ محمود توفيق الحفناوي باشا حين سمع شكوى الأستاذ قال له قبل أن يستدعينا : أنت المخطئ لأنك بإعلانك الإفطار في رمضان خرجت عن حدود الأدب والخلق والذوق الذي كان جديرًا أن يتحلي به الأستاذ مثلك .. ولما استدعانا بعد ذلك العميد ذكرنا له ما دأب عليه هذا الأستاذ من تحد للدين والعرف والخلق فأثني علي ما فعلناه وعمل علي إبعاد هذا الأستاذ عن الكلية . وكانت هذه الخطة كفيلة بالقضاء علي هذه الجمعية وما أجبن الباطل إذا ما واجهه حق قوي .
حين ظهرت هذه الجمعية في القاهرة في أثناء الحرب العالمية فهم الإخوان أنهم هم المقصودون بها ، وأنها أنشئت خصيصًا لتكون في معول هدم لما بنيه الإخوان ، وأنها سلاح ضدهم أقوي من أسلحة الهجوم والمواجهة ، وأنها تحتاج منهم إلي تخطيط دقيق لمقاومتها وإحباط خطتها ، وقد كانت خطتهم لمقاومتها تقوم علي المحاور الآتية :
أولاً : أوفدوا إلي مقر هذه الجمعية مجموعة من كرام الشباب من الإخوان لاستطلاع أحوالها وجمع معلومات عن قادتها وعن مهمة كل فرد من أفراد هذه القيادة ، وتتبع خطوات هؤلاء الأفراد داخل مقر الجمعية وخارجه والإلمام باتصالاتهم والوصول من هذا التتبع إلي مصدر تمويلهم .
ثانيًا : أوفدوا مجموعة أخري من الإخوان للاشتراك في نشاطات الجمعية والتظاهر بالتجاوب مع القائمين بهذه الأنشطة – مع الاحتفاظ بأنفسهم من التلوث بحجج مختلفة – حتى يلموا بكل ما يحدث للشباب داخل هذه الاجتماعات إلمامًا عن معاينة تنفي كل شك وأن ينقلوا صور ما يحدث إلي قيادة الإخوان أول بأول .
ثالثًا : أوفدوا بعد ذلك – وبعد أن عرفوا عن هذه الجمعية كل شيء – مجموعة أخري من الإخوان الأقوياء الحجة والواسعي الثقافة إلي الاجتماعات العام للجمعية التي تلقي فيها المحاضرات باعتبار هذه المحاضرات هي المصيدة التي يقع بين فكيها الفرائس من الشباب الساذج الخالي الذهن – ومهمة هذه المجموعة هي التعرض بالنقد إلي الأفكار التي تضمنتها هذه المحاضرات ، علي أن يتبادل أفراد المجموعة – الذين يجلسون في أماكن متفرقة – هذا التعرض واحدًا بعد الآخر حتى يلقوا أولاً ظلالا من الشك علي هذه الأفكار أمام الحاضرين فتتزعزع ثقتهم بالحاضرين ، ثم يتدرج أفراد المجموعة في المناقشة حتى يبدأوا في كشف ألاعيب الجمعية وفضحها أمام الشبان فضحًا خفيفًا فتؤجل المحاضرة .
رابعًا : تكرر المجموعة حضور المحاضرة وفي الموعد الذي أجلت إليه وتكل مهمتها بالمهاجمة والنقد والمناقشة المنطقية ثم العنيفة ثم يفضح ألاعيب الجمعية وإفسادها البريء والقضاء علي مثله وعقيدته ونشر روح الانحلال الخلقي بعد وقوعه في الشرك ... وهنا يحتد المسئولون في الجمعية مكذبين هذه الإدعاءات فيقوم فرد – هو أحد أفراد المجموعة التي تضمنها البند ثانيًا – ويقف بين الحاضرين ويعرفهم باسمه وبتاريخ انضمامه للجمعية ويقص عليهم خطوات التي اتبعتها الجمعية معه ومع زملائه لإفساد أخلاقهم وتلويث شرفهم وبث روح الانحلال العقدي والخلقي فيهم وما رآه بنفسه مما اقترف مع زملائه في خلال حفلات ما جنة دبرت لهم ... وهنا تتعالي أصوات الاحتجاج علي الجمعية من كل مكان ويسود الهرج ويحدث بعض التحطيم في أمتعة الجمعية ويلوذ المحاضر ومن معه من المسئولين بالهرب .
وهذه الخطوات التي أثبتها آنفاً هي خطة وضعت في دار المركز العام علي أنها مجرد أفكار ، غير أنها حين وضعت موضع التنفيذ جاء الواقع مصداقاً لها كأنما كانت وحيًا فقد حدث كل ما تصوره واصفوها وكانت وسيلة ناجحة لإحباط نشاط الجمعية في المجال الشبابي الخطير .
خامسًا : كان ظهور هذه الجمعية من أقوي البواعث علي النشاط في تكوين الشعب في القاهرة فلم يمض عام إلا وكانت الشعب قد عمت جميع أحياء القاهرة . وكان الذي دعا الإخوان إلي ذلك أنهم أرادوا أن يجعلوا صوت الدعوة قريبًا من الشباب في كل مكان فيقيمون بذلك تحصينات لهذا الشباب تحميه من إغراءات الفساد بمختلف صورها ، فإن أخطر شيء علي الشباب أن تتركه خالي الذهن أمام الغارات الوافدة بما تحمله من مظاهر خادعة فلا تلبث أن تجد في ذهنه الخالي أرضًا خصبة تنغرس فيها وتنمو وتتزعزع ولا يسهل بعد ذلك نزعها بعد أن تثبت جذورها .
عرفت هواهـا قبل أن أعرف الهوى
- فصادف قلبـًا خاليـًا فتمكنـا
فمنذ ذلك الحين أخذ الإخوان في تقسيم القاهرة إلي مناطق يتحمل مسئولية الإشراف علي الدعوة في كل منطقة منها مجلس يكرس جهده علي نشر الدعوة في منطقته وتأسيس الشعب في أنحائها ومباشرة أنشطة الدعوة في كل شعبة منها ؛ فمحاضرة أسبوعية وفريق جوالة للشباب فيها ومدرسة جمعية للأطفال بها كتيبة للصفوة ممن نضجوا من العاملين في أنشطتها حيث دراسة القرآن وحفظه مع مسابقات في الحفظ والتفسير .. ثم يفد إلي محاضرة الثلاثاء بالمركز العام من تسعفه ظروفه فيستوعب شحنة قوية يفرغها في شعبته طيلة أيام الأسبوع .
سادسًا : قام الإخوان الطلبة في كليات الجامعة والمدارس علي اختلاف أنواعها بحملة نوعية لإخوانهم وزملائهم جعلت هذه المعاهد والكليات مغلقة في وجه دعاة هذه الجمعية بعد أن كانت أمالهم معقودة علي هذه المجتمعات الشبابية الزاخرة بالصيد السمين السهل الاصطياد – كما أن قسم العمال بالمركز العام ضاعف من نشاطه فصارت المصانع ومراكز التجمعات العمالية بالقاهرة والإسكندرية في مأمن من غارات هذه الجمعية وأفكارها الخطرة الهدامة .
- أثر خطة الإخوان :
إذا قلنا إن خطة الإخوان إزاء هذه الجمعية قد نجحت فليس معني هذا أن الجمعية قد أغلقت دورها وانسحبت من البلاد ،وإنما كان نجاح الخطة في إنقاذ عنصر الشباب من بين براثن هذه الجمعية وتحصينه ضد أفكارها ومغرياتها .. وهذا العنصر هو العنصر المرجى ففساده وضياع للبلاد وقضاء علي مستقبلها وصلاحه هو تأمين للبلاد ومستقبلها .. أما العناصر الأخرى الذين ظلت دور هذه الجمعية بعد ذلك تعج بهم فهم حثالة مهما علت مراكزهم لأنهم عبيد المادة وطلاب المنافع والمتلونون بكل لون وهذه أصناف لا يعيرهم الإخوان اهتمامًا لأنهم يكثرون عند الطمع ويقفون بل ينعدمون عند الفزع . وقد ظلت الجمعية موجودة ذات دور وذات أعضاء ولكنها تنفق علي أعضائها وتهيئ لهم الفرص الحرام حتى جاء من بصق عليها بصقة واحدة فذابت في التو واللحظة وصارت كأن لم تكن .
كأن لم يكن بين الحجون إلي الصفا
- أنيس ولم يسمر بمكة سامـر
إعلان الحرب علي الجريدة اليومية
لا أعتقد أن عناصر النجاح لمشروع لإنشاء جريدة يومية توفرت من قبل أو ستتوفر فيما بعد ، كما كانت متوفرة لإنشاء جريدة يومية للإخوان المسلمين ... فالمال متوفر حيث جيوب الإخوان أغنياء وفقراء مفتوحة للمشروع لا تغلق دونه ،والثقافات المختلفة التي يحتاج إليها التحرير والطبع والإعلان واستقاء الأخبار متوفرة ومتوثبة للعمل تطوعًا أو بأجر زهيد .. وجمهور المشترين الذي يعتبر شراء هذه الجريدة عبادة كالصلاة والصوم جمهور ضخم تزخر به أنحاء البلاد في كل مدينة وفي كل حي وفي كل شارع وفي كل قرية مهما نأت عن العمران . وإذا كان فرد من أسرة " تقلا " قد استطاع أن ينشئ جريدة يومية هي " الأهرام " وتمكن من إصدارها مائة عام . وإذا كان فردان هما مصطفي أمين وعلي أمين قد استطاعا أن ينشئا جريدة " الأخبار " وأن يستمرا في إصدارها أكثر من عشرين عامًا .. وتجد هذه الصحف مكانها في كل بيت تقريبًا ... أفلا تستطيع أقوي هيئة في مصر وأعظم هيئة أن تصدر جريدة يومية وأن تكون حتى في مستوي جرائد الأفراد ؟ .
لم يفكر الإخوان المسلمون في إصدار جريدة يومية إلا بعد أن اطمأنوا إلي توفر جميع إمكانيات نجاحها علي أعلي مستويات النجاح ... كان ينقصهم الأرض التي ينشئون عليها دار الجريدة فاشتروا قطعة أرض في قلب القاهرة تزيد مساحتها علي نصف فدان ، ووضع أكبر مهندس معماري في مصر الدكتور سيد كريم تصميم البناء المكون من اثني عشر طابقاً . وقدرت تكاليف إنشائه ، وأسست شركتان إحداهما لإنشاء المطبعة والأخرى لإصدار الجريدة وجمع المال ، وخاطب المسئولون في شركة الطباعة أكبر شركات أوروبا لعرض ما عندها من أحدث نماذج المطابع .. ولما كان إنشاء الدار وورود المطبعة يستغرق أكثر من عام فقد رؤى إصدار الجريدة مؤقتاً في مطبعة كبيرة اشتريت من داخل البلاد ريثما يتم البناء وتصل المطبعة الحديثة من الخارج . فما الذي حدث بعد ذلك .... وهل نجح المشروع ؟؟
إن الإجابة علي هذا السؤال مأساة تاريخية .. وإنها لجريمة ضد هذا الشعب أن تخفي حقيقة المأساة عن هذا الجيل المجني عليه والذي نشأ في ظل الظلام .. فإن تعريف هذا الجيل بهذه المأساة سيفتح عيونه علي حقائق مرعبة ، وسيكون في استطاعته بعد ذلك أن يقيم كثيرًا من عناصر التاريخ المخفاة عنه أو المزيفة عليه ... حتى نحن كنا نعيش وسط المعارك في ذلك الوقت ، وكنا نعتقد أننا أصبحنا – بعد أن عركتنا الأيام – أدري الناس بالناس المعايشين لنا ، وكنا نعتقد أننا قد أحطنا بكل الظروف المحيطة بنا ، وبالألاعيب والمؤامرات التي يمكن أن تحاك ... حتى نحن قد فوجئنا بما أذهلنا وسلب ألبابنا وكاد أن يقذف اليأس في نفوسنا .
لقد كان إصدار الجريدة اليومية تجربة لا أقول قاسية بل إنها أقسي تجربة مرت بنا .. إنها جرحت قلوبنا وقهرت نفوسنا وكشفت لنا أن أعداء الإسلام أقوي مما كنا نعتقد وأكثر مما كنا نظن ... واقتنعنا بأننا كنا مسرفين في حسن الظن . يبدو أن الإنجليز – وهم المخططون لكل مؤامرة وإن عهدوا بتنفيذها إلي صنائعهم – كانت نظرتهم إلي مشروع الجريدة اليومية علي الوجه التالي :
قالوا لأنفسهم ولصنائعهم : إذا كان الإخوان وهم يعدمون وسائل النشر والإعلام إلا الكسيح منها قد وصلوا إلي ما وصلوا إليه من القوة حتى اكتسحوا الميدان السياسي متخطين كل ما ألقي في طريقهم من عقبات ، فكيف إذا توفرت لهم أقوي وسائل النشر والإعلام وهي الجريدة اليومية ؟! .. إذن لقضوا علي كل معارض ولسحقوا منافسيهم سحقاً ولملكوا زمام الحكم لا في مصر وحدها بل في العالم العربي بل ولحققوا أمنيتهم في إحياء الخلافة الإسلامية ... إذن فلنحل بكل وسيلة مشروعة وغير مشروعة بينهم وبين الإفادة من هذه الجريدة اليومية .
- وسائلهم في محاربة الجريدة اليومية
لم يتورع الإنجليز وصنائعهم عن استخدام أقذر الأساليب في محاربة هذه الجريدة ... وقد استفرغوا جهدهم في سبيل تحقيق الفكرة التي استبدت بعقولهم ، وهي أن حرمان الإخوان من هذه الجريدة هو آخر سهم في جعبتهم لوقف المد الإخواني الجارف .. وقد أخذت وسائلهم في الحرب الصور الثلاث التالية :
أولا : حرب التحرير :
كان في أوساط الإخوان من الكفاءات النادرة ما يكفي لتحرير جميع أبواب الجريدة بأوفى ما تحرر به الصحف خبرًا ومقالة وأسلوبًا وتعليقاً .. إلا أننا نعلم أن الناس قد ألفوا أسماء معينة يسعدهم أن يقرأوا لها ، وإذا رأوا مقالا ممهورًَا بتوقيع واحد منهم اعتقدوا أن في هذا المقال من الافتتان ما يشبه الوحي في الوقت الذي قد لا يكون فيه ما يستحق أن يقرأ ,,, وقد عرضت هذه الفكرة علي الأستاذ المرشد فأيدها وسألني عمن اختار من الكتاب المرموقين ليكتب عندنا ، فاقترحت اسم الدكتور محمود عزمي ... وكان الدكتور محمود عزمي في ذلك الوقت صحفيًا مشهورًا ليس له لون حزبي وكان يعد أعظم المعلقين السياسيين في مصر وكان يكتب تعليقاته في أكثر من جريدة فوافق الأستاذ المرشد علي اقتراحي وانتدب أحد الإخوان الذين يعرفونه للاتفاق معه علي أن يكون المعلق علي الأنباء السياسية بجريدة الإخوان وله أن يقدر أتعابه كما يشاء ... وكنا واثقين أنه سيسارع مستجيبًا لاسيما والجريدة مضمون توزيعها من أول عدد علي أوسع نطاق كما أننا تركنا له تقدير أتعابه بنفسه ولكن المفاجأة المذهلة كانت حين جاء الرسول ليقول : إن الرجل يطلب مهملة قبل أن يعطي الكلمة ... وانقضت المهلة فكان جواب الرجل " الاعتذار " ... واقترح غيري من الإخوان أسماء أخري واتصلوا بهم بعروض سخية فكانت أجوبتهم " الاعتذار " .
وبدأنا حينئذ نحس كأن يدًا خفية تمتد في الظلام برسائل لهؤلاء الكتاب وحين يقرأها الكتاب يحجمون ويعتذرون . وقلبنا مع الأستاذ المرشد الأمر علي وجوهه فخرجنا بهذا التصور الذي أيأسنا من فئة الكتاب الصحفيين المحترفين . وجلسنا مع الأستاذ المرشد نستعرض عدة أسماء تنتقل من اسم لآخر من غير المحترفين ولا نجد في أنفسنا الجرأة لمفاتحة أي منهم لما نعلم من نواحي ضعف في كل منهم قد توقفهم معنا موقف الصحفيين المحترفين . وأخيرًا خطر لي خاطر شمت في انبلاجه في خاطري نور الأمل يشق اليأس التي أحاطت بنا ، فقلت : يا أستاذ حسبنا ما نالنا من خيبة أمل حين اتجهنا إلي الغرباء نلتمس عندهم العون ، فلندع الغرباء جانبًا ولنتجه إلي من تربطنا بهم وشائح المبادئ وروابط الوطنية . قال : ومن تقصد إذن ؟ قلت إن الحزب الوطني هو أقرب الوطنيين إلينا ونكاد نعتقد أنه جزء من دعوتنا ، كما يحس أعضاؤه بأنهم كذلك منا ، وحافظ رمضان باشا رئيس الحزب الوطني شخصية صارت في الأيام الأخيرة من الشخصيات ذات الشهرة في الأوساط المختلفة .. وإذا قرأ الناس له في جريدتنا فسيكون ذلك عاملا من عوامل الإقبال عليها .. وبينك وبين الرجل صلة قوية ، ولا أخاله إذا كلمته إلا مسارعًا إلي الكتابة لاسيما والحزب الوطني ليس له جريدة تنطق بلسانه .
فتهلل وجه الأستاذ المرشد ، وكأنه وقع علي طلبته التي كان يفتقدها ، وأمسك بالتليفون وطلب حافظ رمضان باشا فرد عليه وتبادل معه التحيات والأشواق والأستاذ يبتسم ثم أخذ يفاتحه في الموضوع الذي اتفقنا عليه .. وسرعان ما اختفت الابتسامة من وجه الأستاذ ولاحظنا أن حل محلها تقطيب يشعر بالألم وينم عن الغضب .. وأنهي الأستاذ المكالمة ووضع التليفون وتنهد طويلا وقال بصوت متهدج كأنما خرج مهزومًا من معركة :
وزهدني في الناس معرفتي بهـم
- وطول اختياري صاحبًا بعد صاحـب
فلـم ترني الأيـام خلا تـسرني
- مباديه إلا ساءنـي في العواقـــب
فهمنا ما حدث ، وأطرقنا جميعًا ذاهلين لا ندري ما نقول ولا ندري ما نفعل وطال صمتنا حتى قطع الصمت صوت الأستاذ المرشد يقول :
وظلم ذوى القربى أشد مضاضـة
- علي النفس من وقع الحسام المهنـد
حافظ رمضان الذي كنا ندخره لخطير الأمور ... يتخاذل حين نطلبه لكتابة مقال في جريدة الإخوان ؟ ! ما هذه المفاجآت ؟! وبمن نثق بعد ذلك ؟! ... هل جريدة الإخوان غول مخيف يبعث الرعب في قلوب الصحفيين ؟ ... كلهم خافوا منها ... حتى حافظ رمضان ؟! يا حسرة علي العباد . قلت : يا أستاذ ... إن حافظ رمضان بعد أن دخل الوزارة – خارجًا علي سنة أسلافه من رؤساء الحزب الوطني – قد صار في عداد عبيد القصر ... ولابد أن الملك – وهو في نظرهم واهب القوى والقدر – قد أوحي إلي عبيده جميعًا بمقاطعتنا . وإذ ذكرنا هذه المواقف المخزية حتى من رجال كنا نعدهم من الأبطال ، فينبغي أن نذكر بالفخر والإعجاب موقف الأستاذ محمد الشافعي الذي استجاب وحده لنداء الأستاذ المرشد وصار بكل شجاعة يوالي الكتابة في الجريدة مع أنه كان من كبار الموظفين الحكوميين .
ثانيًا : حرب الإعلان :
من المعروف أن أهم مورد تعتمد عليه الصحف لتعويض مصروفاتها هو أجور الإعلان ، ذلك أن التوزيع مهما اتسع نطاقه فإن إيراده لا يفي بما صرف ... ولهذا تبذل الصحف قصارى جهدها في الوصول بتوزيعها إلي أرقام مثيرة حتى يكون ذلك مغريًا للمعلنين أن يعلنوا عن منتجاتهم فيها ... وأكثر الصحف إعلانات هي أغناها وأكثرها موردًا ، وأقل الصحف إعلانات هي أفقر الصحف ويعتبر هذا نذير إفلاسها . وجريدة كجريدة الإخوان المسلمين اليومية ، سبق إصدارها دعاية واسعة واستقر في أذهان الناس جميعًا في مصر وفي خارج مصر أن توزيع هذه الجريدة علي أوسع نطاق مضمون بضمان الفروع والشعب المنتشرة في كل مكان .. كان مفروضًا أن تنهال عليها طلبات الإعلان لأن دوافع المعلنين إلي الإعلان فيها مكتملة ... ولهذا كان من أوائل ما اهتمت به إدارة الجريدة قبل إصدارها أنها أنشأت إدارة للإعلان علي أعلي المستويات . وقد تكونت هذه الإدارة من فئتين : فئة ذات خبرة سابقة وفئة لا خبرة لها ولكنها تأنس في نفسها ميلا واستعدادًا لهذا النوع من العمل أما الفئة ذات الخبرة السابقة فإنها عناصر كان لها مكان مرموق في صحف أخري ولكنها تركت مكانها ، وضحت بما يدره عليها من إيراد استجابة لنداء من ضميرها بوجوب وضع خبرتها في خدمة أول صحيفة يوميه إسلامية كان إصدارها أملاً عزيزًا طالما تاقت إليه نفوس المؤمنين ولكنه كان بعيد المنال .. أما وقد تحقق فلا أقل من تجنيد الخبرات له ... وإذا ذكرنا هذه الفئة فيجدر بنا أن نذكر بالثناء والتقدير الأستاذ عبد المجيد وافي الذي كان إذ ذاك الشاب الأزهري الموهوب الذي كان آية في فن الرسم ، والذي كان دعامة في جريدة الأهرام فترك مكانه فيها وقدم نفسه وموهبته وخبرته الجريدة الناشئة ضاربًا بما عرضته عليه جريدة الأهرام من إغراء مادي عرض الحائط لأنه اعتبر انتقاله هذا واجبًا يمليه عليه الضمير ويفرضه عليه الدين .
وأما الفئة الأخرى التي تكونت منها إدارة الإعلان وهي فئة لم يكن لهت سابق خبرة ولكنها تأنس في نفسها استعدادًا فكان نواتها أخ كريم كان إذ ذاك حديث التخرج من كلية التجارة وقد أعرض عن وظائف الحكومة وجاء مسارعًا إلي قسم الإعلان بالذات في الجريدة ذلك هو الأخ الكريم الأستاذ محمود عساف . وضمت إدارة الإعلان أيضا مجموعة من الإخوان الشباب منن ذوي الكفاءات المختلفة ، وكانت مجموعة المندوبين مثالا للنشاط واللباقة ، وهي المجموعة التي ينتشر أفرادها في مختلف أنحاء القاهرة للحصول للجريدة من أصحاب المتاجر والمصانع والشركات علي عقود للإعلان مددًا يتفق عليها ... وقد ابتكر الأستاذ محمود عساف عدة ابتكارات في عالم الإعلان كشفت فعلا عن مواهبه وقدراته كما أن الأستاذ عبد المجيد وافي أتي بالعجب العجاب في إبراز فكر الأستاذ محمود عساف بالرسم .
وقد فصلت بعض التفصيل في إدارة الإعلان وتكوينها وشخصياتها لأبين للقارئ إلي أي مدي كان الاهتمام بالإعلان وإلي مدي كانت لهذه الجريدة إمكانيات النجاح في عالم الإعلان بل إمكانيات الاكتساح في هذا الميدان ... وإذا كان تزويد إدارات الإعلان في مختلف الصحف اليومية بالكفاءات مرهونا بما تغدقه الصحف من أموال فإن جهاز الإعلان في جريدة الإخوان قد اجتمع له مالم يجتمع لصحيفة يومية من الكفاءات القادرة لم يجمعها إلا دافع من القلوب ونداء ملؤه الإخلاص والتفاني . تحرك جهاز الإعلان وهو يجمع في يديه كل مقومات النجاح وبذل أكرم الجهود وواصل الاتصال بالشركات والمصانع والمتاجر عارضًا عليهم تصميمات مبتكرة ذهل لروعتها كل من رآها ، متساهلا في الأجر حتى يتم الإغراء ... ولم يستطع مسئول واحد في كل هذه الجهات أن يظهر عيبًا في تصميم أو يلاحظ نقصًا في ابتكار أو حتى أن يكتمن إعجابه بما عرض عليه من تصميمات أو أجور ، ولكن المفاجأة كانت في الحصيلة الضئيلة لهذه الجهود ... كانت الحصيلة عقودًا من متاجر تربطها بالإخوان وشائج ، أما المتاجر الكبيرة والمصانع الضخمة والشركات ذات الثراء فقد وقفت موقف الإحجام دون سبب أو مبرر ، فقد أكثر " المندوبون " من التردد عليها يطلبون من المسئولين فيها مجرد إبداء الأسباب .. فلم يحظوا بجواب .
هبت أجهزة الإخوان بوسائلها المختلفة بحثاً وتنقيبًا وراء السر الدفين لهذه الظاهرة العجيبة وانتهي البحث بالوصول إلي السر ... وكان السر يكمن في دار السفارة البريطانية التي كانت تقبض بإحدى يديها علي دفة الاقتصاد المصري كما كانت تقبض بيدها الأخرى علي دفة السياسة المصرية ، فقد كانت أكثر الشركات الكبرى والمتاجر الرئيسية ملكًا للأجانب . كما كان القصر الملكي وما يتبعه مما كانوا يسمونه وزارات واجهة مصرية للسفارة البريطانية .
- شركة الإعلانات الشرقية :
ولما كان الإنجليز يقدرون مدي خطورة القلم الحر علي سياستهم الاستعمارية ، وكانت سياستهم تنبئ دائمًا علي عدم المواجهة ، فقد وضعوا خطة لإخضاع الصحف لسلطانهم بمهاجمتها من الخلف عن طريق التحكم في مصادر الإعلان ... ولم يكتفوا بأن أكثر الشركات والمتاجر ملك لهم بل وحدوا المصب الذي نصب فيه الإعلانات من أي مصدر من المصادر حتى ولو كانت المصدر مصريا في شركة للإعلان أنشأوها وجعلوها فرعا في مصر لوزارة المستعمرات البريطانية وأطلقوا عليها زورًا وبهتانًا وتضليلا اسما هو براء منها هو " شركة الإعلانات الشرقية " وهي الشركة التي كان كل العاملين فيها من رجال المخابرات البريطانية ومن مديري المؤامرات من دهاقين اليهود . والتي حيكت بين جدرانها وفي مكانها كل المؤامرات الإجرامية ضد الشعب المصري وإن كان الذين تطوعوا لتنفيذها – ويا للأسف – مصريين ممن أغرتهم مناصب الحكم وأعماهم الذهب البراق عن الحقيقة فباعوا أنفسهم لمن سخروهم لتدمير أهلهم وبلادهم وهم يحسبون أنهم يحسنون صنعًا .
ولكن ألقي بعض الضوء علي هذه الشركة حتى تتضح للقارئ حقيقتها سأكتفي بإيراد فقرات من مقالات نشرتها إحدى صحف الوفد في 22 حتى 24 مارس سنة 1947 أيام كان الوفد خارج الحكم تحت عنوان وصحف شركة الإعلان الشرقية وحقوقنا الوطنية " : " دأبت الصحف التي تصدر بلغات أجنبية من شركة الإعلانات الشرقية علي تحدى الشعور الوطني والسوداني ، فطالعتنا جريدة " لا بورص إجبشيان " أول أمس بمقال افتتاحي فتندنا مزاعمه في عدد أمس وعدنا إليه اليوم في سكان آخر . وخرجت علينا " الإجبشيان جازيت " مساء أمس بخطاب مفتوح إلي المصريين ممن زعم نفسه صديقاً لمصر وسنرد عليه غدًا . " " والمسئول عن صحيفة " " لا بورص إجبشيان " هو " جان ليجول " وقد اتفق أخيرًا مع الصهيونيين علي العمل معهم في فلسطين ، وسيشد رحاله بعد قليل إلي هناك ليقوم بدوره في محاربة قضية العرب العادلة بعد أن أدي دوره في مصر في محاولة النيل من قضية مصر ومعاضدة الاستعمار البريطاني في استغلالنا والوقوف حجر عثرة في طريق تقدمنا " .
" كشفنا الستار في عدد أمس عن الألعبان " جان ليجول " داعية الاستعمار والصهيونية . وهو الذي ظل طوال مدة الحرب ينفث سمومه من أبواق " شركة الإعلانات الشرقية " التي يتولي إدارتها العامة " هنري حاييم " الصهيوني تحت إشراف ضباط انتدبتهم القيادة العليا البريطانية بدعوى مراقبة تحرير صحيفتي " الإجبشيان جازيت " و " الاجبشيان ميل اللتين تصدران باللغة الإنجليزية " . ومن المؤلم حقاً أن تقوم : إن الصحف التي كانت تصدر في مصر في ذلك الوقت – مهما اختلفت أسماؤها وانتسبت في ملكيتها وتحريرها إلي أحزاب مصرية أو إلي أشخاص مصريين فإنها جميعًا في حقيقتها لم تكن إلا نشرات تصدر عن شركة الإعلانات الشرقية ، فللكتاب في كل صحيفة منها أن يكتبوا ما يشاءون ولكن في نطاق حددته لهم هذه الشركة ، وهم يلزمون بالطاعة والامتثال لأنها تستطيع عنهم أجورهم بحرمان جريدتهم من الإعلانات ... ويلاحظ أن الجريدة الوفدية التي نقلنا فقرات من مقالاتها في شأن هذه الشركة كانت تعاني أزمة إعلانات لأن سياسة الوفد في ذلك الوقت كانت تقضي بمهاجمة الإنجليز . ولو أن جريدة أخري غير جريدة الإخوان قد اتبعت معها هذه الطريقة الجهنمية لأغلقت أبوابها من أول يوم ، ولكن جريدة الإخوان استطاعت أن تواجد هذه الحرب الشعواء لأن الإخوان كانوا يعتبرونها جزءًا من حياتهم فرصدوا لها ما يقيم أودها ويسد ثغراتها .
وقد يخطر لسائل أن يسأل : ألم يكن الإخوان – وهم ذوو خبرة بالواقع الأليم لبلادهم – يتوقعون هذا الموقف الذي وواجهوا به قبل أن يواجهوا به ؟ والجواب علي هذا هو أن الإخوان كانوا يتوقعون الكثير من الإنجليز وأذنابهم ، لكنهم لم يكونوا يتوقعون أن تصل الخسة بهم إلي هذا الحد ، كما لو يكونوا يتصورون أن لشركة الإعلانات الشرقية عن السيطرة علي مصادر الإعلان هذا القدر الذي تستطيع به وقف الصحف من الصدور إذا شاءت وقفها .
ثالثًا : حرب التوزيع :
دأب الإخوان من أول عهدهم بإصدار مجلات تنشر أفكارهم علي توزيعها بأنفسهم عن طريق التسليم باليد في القاهرة ، وعن طريق البريد في الأقاليم حيث يرسلون إلي كل بلد بها شعبية كمية من كل عدد ، حتى إذا وصلت الكمية إلي الشعبية تولت توزيعها علي أعضائها ، وتجمع المتحصل من بيع المجلة وترسله إلي المركز العام عن طريق البريد أو عن طريق أحد أعضائها المسافرين ... وبهذه الطريقة كانت توزع كميات كبيرة من المجلة قد لا تحظي بمثلها مجلات مشهورة في مصر في ذلك الوقت .
لكن هذه الطريقة لا تصلح لتوزيع جريدة يومية أخص خصائصها أنها – بما تحوي من أنباء وتعليقات – هي بنت يومها ، فإذا فات يومها فقدت قيمتها وعادت قصاصة من ورق قد تصل نسختها إلي القارئ – مهما بعد مكانه – في نفس يوم صدورها بل في نفس ساعة صدورها إن كان ذلك ممكنًا ،ولا يتأتي هذا إلا بجهاز متخصص للتوزيع مزود بجميع الوسائل الحديثة ولم مراكز تابعة له في كل محافظة ومدينة وقرية .. وقد تمرست بهذا العمل شركات قليلة العدد .. وقد فهمنا أخيرًا أن هذه الشركات كانت تنتهي جميعًا إلي يد واحدة . وكان علي جريدة الإخوان أن تتعاقد مع إحدى هذه الشركات . و قد تعاقدت فعلا ، وكانت سيارات هذه الشركة تحمل قبل فجر كل يوم نسخ الجريدة وتأخذ مسارها مع الجرائد الأخرى كالأهرام والأخبار والمصري وتصل معها إلي مكان في القطر ، ومن مراكز للتوزيع تسلم إلي الموزعين أي باعة الصحف . ولم يكن قراء الصحف في تلك الأيام بالكثرة التي نراها الآن ، فكان علي الموزعين أن يبذلوا جهودًا لإغراء الناس بشراء الصحف حيث يرتبط دخل الموزع بالعدد الذي يوزعه .
والمفاجأة التي أذهلت الإخوان في هذا الميدان أنه في مساء كل يوم كانت تصل إلي إدارة جريدة الإخوان في القاهرة مرتجعات بالآلاف ويصل معها في نفس الوقت أضعاف عدد هذه المرتجعات شكاوى من الإخوان في كل مكان بأن الجريدة لم تصل إليهم .. فتتصل إدارة الجريدة بشركة التوزيع لافتة إلي هذه المفارقات فتقوم شركة التوزيع بإطلاع مندوب الجريدة علي كشوف التوزيع التي توضح أن الجريدة تصل إلي جميع الموزعين في كل مكان من القطر ... وصارت هذه الظاهرة تتكرر كل يوم . وكشف الإخوان السر العجيب .. فاتضح أن الشركة – شركة التوزيع – توصل الجريدة إلي الموزعين فعلا – حتى تكون أمام القانون منفذة بنود العقد – ولكنها في نفس الوقت ترسل عن طريق مندوبيها تهديدًا شفويًا إلي كل موزع بأنه إذا أظهر جريدة الإخوان ووزعها فسيكون عرضة للاستغناء عنه وإبداله بغيره ثم اتبعت الشركة التهديد بإغراء مؤداه أن تعطي للموزع مكافأة تتناسب مع عدد النسخ التي يحبسها عن التوزيع من هذه الجريدة .
وقد أنبئت وأنا بالقاهرة بهذا الكشف العجيب إلا أنني لم أكد أصدقه لتجاوزه حدود التصور – حتى ذهبت إلي بلدتي رشيد لقضاء فترة من الصيف فيها فرأيت الإخوان يشكون مر الشكوى من عدم وصول الجريدة إليهم إلا أعدادًا قليلة جدًا .. وكان لي علي موزع الجرائد في رشيد أباد تجعله دائمًا مسارعًا فيما يرضيني ، وكان يعلم أن من أوائل ما يرضيني أن يوافيني منزلنا بالجريدة في صبيحة كل يوم طيلة فترة إقامتي برشيد فلاحظت أنه يحضرها يومًا ويتخلف عن إحضارها أيامًا فشددت عليه الطلب حتى جراحته ثم أنذرته فبكي الرجل وأخذ يفضي إلي بما هو واقع تحت طائلته من أسلوبي التهديد والإغراء من شركة التوزيع ، واعترف لي بأنه يحاول أن يحبس النسخ كلها عن التوزيع لولا خوفه من بطش بعض الإخوان فيكتفي بتوزيع بعض النسخ ويرد إلي الشركة الباقي وهو معظم ما يرد إليه كل يوم ، وأنه يستفيد ماديًا من جريدة الإخوان بهذه الطريقة بأكثر مما يستفيده من توزيع الجرائد الأخرى مجتمعة . لم يقف الإخوان أمام هذه المؤامرة مكتوفي الأيدي ، وإنما حاولت كل شعبة بجميع الوسائل انتزاع نسبة لا بأس بها من نسخ الجريدة من الموزعين بحيث يحصل معظم الإخوان علي نسخ منها ، لكن هذا الأسلوب وإن كان قد أرضي شوق الإخوان إلي مطالعة جريدتهم إلا أنه لم يحقق قبل أن تصل إلي أيديهم ، لأنها عن هذا الطريق وحده كانت ستغزو بأفكارهم – غزوًا يوميًا – ميادين فسيحة شعبية ضخمة ليس من اليسير غزوها بطريقة أخري .
النتيجة :
بهذه الحرب الضروس الثلاثية الشعب استطاع التحالف الإجرامي أن يقضي علي جريدة الإخوان اليومية ... نعم إن الجريدة لم تحجب ولم تتوقف عن الصدور ، إلا أنها فقدت قيمتها التي أنشئت من أجلها ،وأصبحت أشبه بنشرة خاصة تصدرها مجموعة من الناس لنفسها .. و قد أدي هذا إلي التوقف عن المضي في مشروع بناء دار المطبعة والجريدة التي أشرنا إليه ... فقد برزت بظهور الجريدة في ثوبها المؤقت عوامل لم تكن في حسبان الإخوان وهي المؤامرات الثلاث التي أومأنا إلي طرف يسير منها .. وكان المعتقل والروية يقضيان بإعادة النظر في هذه المشاريع وإعادة صياغتها من جديد علي ضوء هذه العوامل . وكانت النية متجهة إلي التخطيط الذي أساسه عدم الاعتماد علي الغير في أية جزئية تتصل بالجريدة من قريب أو من بعيد ، فيبدأ أولا يغزو إخواني مكثف لميدان الإعلان بإنشاء شركة له . وعندما يتمكن الإخوان من هذين الميدانين يبدأون في مشروعي المطبعة والجريدة ... وقد بدأ الإخوان فعلا اقتحام ميدان الإعلان فأنشأوا مكتبًا للإعلان في الإسكندرية في ميدان المنشية ، وخطا هذا المكتب خطوات موفقة كانت مبشرة بنجاح كبير . ولم يكن الإخوان عاجزين عن دخول هذه الميادين بل والسيطرة عليها فلديهم كل مقومات النجاح ولقد بدأوا قبل ذلك بقليل مشروعًا لا يقل أهمية عن هذه المشاريع وهو إنشاء المدارس الخاصة وبدأوا في الإسكندرية أيضًا نجاحًا باهرًا ... ولكن هذا النجاح وما يعرفه المستعمرون من مقدرة الإخوان علي إحراز النجاح علي عتق البلاد ، كل ذلك جعلهم يحيكون خيوط مؤامرة جديدة حاكتها أيديهم الخفية ونفذتها العقول الغبية والأيدي الملوثة حتى يوقفوا المد الإخواني قبل أن يصل إلي هذه الميادين .
الفتنة الثالثة أو الاقتحام إلي البناء الداخلي للدعوة
عانيت الكتابة في هذه المذكرات حتى الآن عن فئتين ، وهاأنذا أبدأ المعاناة في الكتابة عن فتنة ثالثة . وقد عبرت عن الكتابة في هذه الفتن بالمعاناة لأن الكتابة فيها تمض النفس وتجرح القلب وتكاد تقطع نياط الفؤاد ، فكل ما ينال الدعوات من أذي خارجي لا ينفذ إلي داخلها هو أذي تتحمله نفوس المؤمنين لأنه سحابة صيف عن قريب تقشع ، والعزاء فيه للمؤمنين أن بناءهم الداخلي رصين متماسك ، أما إذا كانت المصيبة في البناء الداخلي نفسه فهي المصيبة التي لا عزاء فيها ، ولا أمل في اجتيازها أو الخروج منها إلا أن تمتد إلي البناء يد القدرة الإلهية فتحفظه من الانهيار . وإذا كانت عوامل الفتن تنشأ في الدعوات بنشوئها ، فإن هذه العوامل تكبر وتستفحل بنمو الدعوات واتساع نطاقها ، وإذا كانت محاصرة الفتن – والدعوات لا تزال محدودة الانتشار – أمرًا سهلا وميسورًا فإن محاضرتها والإحاطة بها إذا اتسع الدعوات ليس بالأمر السهل ولا الميسور لأن الفتن تكون في هذه الحالة متشعبة ضاربة بشعبها وشظاياها في كل اتجاه . وقد وصلت دعوة الإخوان المسلمين في الزمن الذي نحن بصدد الحديث عنه من سعة الانتشار واتساع النطاق إلي الحد الذي أشرنا إليه آنفاً ، والذي صارت بسببه هدفاً تراش السهام له من كل جانب وتوجه نحوه من كل اتجاه ، وصارت وقايتها هذه السهام أمرًا متعذرًا أشد التعذر . ومعالجة الحديث عن هذه الفتنة تتطلب الإلمام بطرف مما يتصل بالشخصيات التي كانت محور رحاها . وفيما يلي سنحاول بإذن الله إلقاء شعاع من الضوء علي هذه الشخصيات :
الدكتور إبراهيم حسن : طبيب نابه ، من أسرة تنتسب إلي الصوفية في الشرقية ، اتخذ له عيادة في حي السيدة زينب قبالة المدرسة السنية علي مقربة من دار المركز العام في شارع الناصرية ... اتصل بالدعوة في القاهرة في وقت مبكر ، وعقدت في عيادته اجتماعات هامة ، وقد عينه الأستاذ المرشد وكيلا للدعوة ، وهو رجل هادئ الطبع ، ولا أذكر الآن كيف تعرف علي الدعوة ولكن يخيل إلي أنه تعرف عليها عن طريق عبد الحكيم عابدين الذي كان إذ ذاك حديث التخرج في كلية الآداب – والذي رجح عندي أن يكون تعرفه عن طريق عبد الحكيم أن عبد الحكيم كان أكثر الإخوان اختلاطاً به حتى أكثر وقته كان يقضيه في عيادته .. ومجال نشاط الدكتور إبراهيم في الدعوة كان محدودًا حيث تغلب عليه النزعة الصوفية كما أن عمله الخاص كان يشغل أكثر وقته وقد ظل يشغل منصب الوكيل العام في الدعوة حتى نزح إلي القاهرة الأستاذ أحمد السكري فقلد هذا المنصب وصار الدكتور إبراهيم الوكيل الثاني .
الأستاذ أحمد السكري : شاءت الأقدار أن أتعرف علي الأستاذ أحمد السكري في منزلنا برشيد .. فبعد أن اتصلت بالدعوة في القاهرة في سنة 1936 ذهبت إلي رشيد لأقضي ردحًا من الإجازة الصيفية بها .. وفي خلال هذه الفترة زارنا بالمنزل زائر كريم – وكان منزلنا في ذلك الوقت مثابة الطارئين علي رشيد من كرام رجال العلم والدين من الموظفين – وكان هذا الزائر موضع تكريم وإعزاز منن والدي وعمي . وقد كان والدي حريصًا علي تعريفي به ... وكان هذا الزائر الكريم هو الأستاذ أحمد السكري .
وقد قص علي الأستاذ أحمد القصة التي بسببها وجد في رشيد ، وهي تتلخص في أنه – وهو من كرام أهل المحمودية – أنشأ جمعية دينية في المحمودية أحست الأسرة التي كانت تهيمن علي البلد بأن وجود هذه الجمعية ينتقص من هيمنتها ، فأخذت هذه الأسرة في العمل علي إحباط هذه الجمعية وفض الناس عنها فلما لم تجد لجهودها في هذا السبيل أثرًا عملت علي حرمان الجمعية من منشئها ومحور الحركة والنشاط فيها ببذل الجهد في نقله من المحمودية .. ولما كان الأستاذ أحمد في ذلك الوقت يعمل سكرتيرًا للمدرسة الابتدائية بالمحمودية فقد أسفرت جهود هذه الأسرة مع جهود مضادة من قبل الأستاذ أحمد عن نقله إلي رشيد سكرتيرًا لمدرستها الابتدائية ... وفهمت من الأستاذ أحمد أنه مع هذا النقل لم يلق السلاح فصلته بالمحمودية لم تنقطع وإشرافه علي الجمعية مستمر ولا ينقضي أسبوع حتى يكون بالمحمودية .
وحتى تلك اللحظة التي أتم فيها سرد قصته هذه علي لم أكن أعلم عن صلته بالأستاذ حسن البنا كما أنه أيضًا لم يكن يعلم عن صلتي به .. وباعتباري من دعاة الإخوان المسلمين رأيت من الواجب علي أن أقدم إلي الأستاذ أحمد دعوة الإخوان المسلمين لاسيما وقد لمحت فيه غيرة إسلامية جارفة وهمة عالية فأخذت أتحدث إليه عن الدعوة وأشرح له جهودنا الإسلامية في الجامعة .. وقد لاحظت في أسارير والدي وعمي في أثناء حديثي إعجابًا بهذه الدعوة – ولك يكونا قد سمعا عنها من قبل – وكنت أتوقع أن أري وأسمع من الأستاذ أحمد مثل هذا الإعجاب ولكنني سمعت منه غير ما كنت متوقع ... سمعت منه تهوينًا من شأن الدعوة وقائدها بأسلوب يشعر بالسخرية والاستعلاء ، فيقول وهو يبتسم " مش الشيخ حسن .؟ دا كان عندنا في المحمودية ولما عملت الجمعية عملته سكرتير لها وكنت أنا رئيسها " وأخذ يتحدث عن الشيخ حسن " وعن نفسه بهذا الأسلوب مما أثارني فبدرت مني – مع حرصي الشديد علي إحاطته بكل مظاهر الحفاوة والإكرام – عبارات عاتبني عليها والدي بعد انصراف الأستاذ أحمد .. ولكن هذه العبارات كشفت للأستاذ أحمد عن حقائق كان يجهلها هي أن " الشيخ حسن " هذا مهما قال فيه ومهما سخر منه ومهما استعلي عليه فإنه أسس في القاهرة دعوة برز بها علي مسرح الحياة المصرية وأنه استطاع أن يوجد لدعوته هذه مكاناً في الجامعة المصرية التي كانت تتقطع الأعناق دون اقتراب بدعوة للإسلام من أبوابها ،وأنه صار يعالج قضايا خارج حدود مصر لبلاد عربية هوت إليه وإلي دعوته أفئدة قادتها وزعمائها كقضية فلسطين وقضية المغرب وأنه يصدر مجلة أسبوعية أصبح لها قراء في الجامعة المصرية وفي الأزهر وفي أنحاء مصر وخارج حدود مصر .. كشفت عباراتي للأستاذ أحمد السكري عن ذلك كله وعن أكثر منه ... فأخذ يقارن هذا الانطلاق وهذا الأفق الفسيح بالنظرة الضيقة والأفق الموضعي المحدود الذي يعيش فيه والذي ظن أنه هو الحياة كلها .
وقد تحدثت بعد رجوعي إلي القاهرة إلي الأستاذ المرشد فيما كان من تعرفي علي الأستاذ أحمد وفيما قصه علي من أمر نضاله ضد هذه الأسرة – ولكني لم أذكر له ما كان من حديث فيما يتصل بشخصه – فوجدت أن الأستاذ المرشد كان علي علم بهذا النضال وأنه كثيرًا ما أخذ علي الأستاذ أحمد قصر جهوده علي هذا الأسلوب . ويبدو أن عباراتي قد عملت عملها في خاطر الأستاذ أحمد فقرر في نفسه قرارًا باتجاه جديد – ولن تطل إقامته برشيد فقد بذل جهودًا رجع بها إلي مكانه بالمحمودية – وكان قراره الجديد أن يعمل علي الخروج من حدود الدائرة التي يعيش فيها فأخذ يكثر من زيارته للأستاذ المرشد بالقاهرة ويصل حبله بحبال الدعوة بها وصار يحضر جلسات مكتب الإرشاد حتى تهيأت الظروف لانتقاله في وظيفة بوزارة المعارف إلي القاهرة فأسند إليه المرشد منصب الوكيل العام للدعوة وهو المنصب الذي كان يشغله – كما قدمنا – الدكتور إبراهيم حسن .
وهنا رأيت من حق الدعوة علي أن أفضي إلي الأستاذ المرشد بالذي دار بيني وبين الأستاذ أحمد فيما يتصل بشخصه والذي كتمته عنه حيث لم يكن هناك داع لإثارته مادام الأستاذ أحمد بعيدًا عن القاهرة . ولم يكن الاحتكاك بيني وبين الأستاذ أحمد قد اقتصر علي ما حدث بيني وبينه في منزلنا برشيد ، بل جدت أمور أخري تكرر معها الاحتكاك فقد كنت – كما قدمت – أقضي فترة من إجازة الصيف في المرور ببلاد محافظة البحيرة التي كنت أعتبرها من مسئوليتي كما كان الأستاذ المرشد يعتبرها كذلك ... ولما كانت المحمودية إحدى مراكز البحيرة فكنت أمر علي دار الإخوان بها ، ونشأ الاحتكاك من مروري بهذه الدار ... فهذه الدار كانت تعتبر نفسها بدعًا من دور الإخوان المسلمين ، فدور الإخوان في أنحاء الفطر كله إذا دخلت أيا منها تشعر بأنك في فرع من فروع الدعوة يدين بالولاء للمركز العام ولقائد الدعوة ولكن دار الإخوان في المحمودية إذا دخلتها لم تشعر فيها بهذه المعاني وإنما تحس منها معاني الاستقلال والولاء لقيادة أخري وقد آلمني ذلك وصارحت إخوان الدار بشعوري ولفت نظرهم إلي مظاهر في الدار كالصور المعلقة لا تشعر من أراها بأن هذه الدار شعبة من شعب الإخوان المسلمين كما أن من استمع إلي حديثهم لم يشعر بولاء لقيادة الدعوة . وطلبت إلي إخوان الدار أن يبلغوا الأستاذ أحمد بملاحظاتي ... وكررت الزيارة لهذه الدار فلم أجد تغيرًا قد طرأ عليها مما يتصل بملاحظاتي ، فأحسست في هذا الإصرار دلالات خطيرة لاسيما والمسئول عنه قد أضحي في أبرز مكان في الدعوة بعد المرشد العام . ولا أحد غيري يعرف عنه ما أعرف ولا يحس الذي أحس ، فاستقر رأي علي مفاتحه الأستاذ المرشد في هذا الموضوع الخطير الذي يوشك إذا لم يعالج ويوضع له حد أن تنهار به الدعوة .
وكان ذلك في عام 1938 علي ما أتذكر أو قبل ذلك وكنا في سفر بالقطار إلي الإسماعيلية وكنت أحد رفقاء الأستاذ المرشد في هذا السفر فانتهزت هذه الفرصة – وكان من عادة الأستاذ في السفر أن يحاول الانفراد بنفسه ليستعيد مع نفسه قراءة أكبر قدر من القرآن مغمضًا عينيه – فانتقلت إلي جانبه وطلبت إليه أن يستمع إلي في حديث خاص يحرج صدري فأقبل علي وأخذت أقص عليه موضوع الأستاذ أحمد السكري منذ التقيت به منزلنا برشيد حتى آخر مرة زرت فيها دار الإخوان بالمحمودية ... فحاول الأستاذ أن يهون الأمر ويشعرني بعدم أهميته في أول الأمر ، ولكنه رأي مني جدًا لم يكن يتوقعه حيث قلت له : إن هذه الدعوة لم تعد دعوتك وحدك ، ويخيل إلي أنك حملت حديثي إليك علي محمل أنني أحدثك في أمر شخصي يخصك وحدك تتهاون فيه إن شئت ... إن هذا الأمر هو من أخطر ما يتصل بكيان الدعوة ، ومن حق كل فرد انتسب إلي هذه الدعوة وبايع عليها أن يعرف هل لهذا الدعوة قيادة واحدة أم أكثر من قيادة ، وقد رأيت أن أفضي إليك بما يحتبس في صدري باعتبارك أحق الناس بالإلمام به وأقدرهم علي معالجته فإن أصررت علي الاستهانة به فسيكون من حقي أن أكاشف به جميع الإخوان ليتولوا هم علاجه .
فلما رأي الأستاذ مني هذا الأسلوب الجاد البالغ الجد ترقرقت عيناه بالدموع ووجه إلي عبارات كأنما يسرها في أذني وقال : " والله يا محمود إنني كنت أعرف كل الذي قلته من قبل أن تقوله وأعرف أكثر منه وقلبي يتقطع آلمًا لهذا الذي أعرفه ، ولكنني كنت حريصًا علي أن لا يعرف ذلك أحد غيري ... أما وقد عرفته فأستحلفك بالله أن لا تقضي لأحد به وتجعل ذلك سرًا بيني وبينك وأن تدع لي معالجته في الوقت المناسب فإن مصلحة الدعوة تقتضي إرجاء هذا الأمر الآن " . فقلت له : أعطيك العهد والموثق علي ذلك ، ولكن موضوع دار الإخوان في المحمودية لن أسكت عليها فلقد هددتهم في آخر زيارة لها إذا لم نزل مظاهر التمرد والنشوز التي بها أن أتقدم بمذكرة إلي مكتب الإرشاد أطلب فصلها من الإخوان المسلمين .. فقال الأستاذ سأبلغ الأستاذ أحمد ملاحظاتك عن المحمودية وسأحاول التقريب بينك وبينه . وأبلغ الأستاذ المرشد الأستاذ أحمد بملاحظاتي عن شعبة المحمودية وبعزمي علي التقدم إلي مكتب الإرشاد طالبًت فصلها .. ولما كان الأستاذ حريصًا علي أن لا يذيع أمر المحمودية وما فيه من دلالات علي الاستعلاء علي قيادة الدعوة فقد جلس إلي ووعد بإزالة ما طلبت إزالته من دار الشعبة وقد فعل .
وكان الأستاذ المرشد حريصًا في كل مناسبة علي التقريب ما بيني وبين الأستاذ أحمد كما كان الأستاذ أحمد حريصًا علي تذكيري بالعلاقة الشخصية التي بينه وبين والدي وكنت من جانبي حريصًا علي تأكيد احترامي الشخصي له ولكنني أري حقوق الدعوة فوق هذا المستوي الشخصي ، كما أن الأستاذ المرشد كان حريصًا ما استطاع علي الإشادة بالأستاذ أحمد وتقديمه في المواقف التي يعلم أنه يجب أن يقدم فيها ؛ لعل ذلك يمحو من نفسه الشعور الذي يعرف الأستاذ أنه قد يعتمل في نفسه . والأستاذ أحمد السكري كفاءة لا شك فيها ورجل نشأ في أحضان التصوف وتربي في البيئة التي تربي فيها الأستاذ المرشد في المحمودية علي يد الأستاذ الشيخ محمد زهران وترافق والأستاذ المرشد في كل عمل ديني واجتماعي قاما به في المحمودية ، ولما كان الأستاذ أحمد يكبر حسن البنا سنًا لا يزال طالبًا صغيرًا في الوقت الذي كان يعمل فيه الأستاذ أحمد بالتجارة فكان طبيعيًا أن يكون الأستاذ أحمد في التكوينات الإدارية لهذه الأعمال الدينية والاجتماعية رئيسًا في حين كان الطالب الصغير سكرتيرًا .. والأستاذ أحمد ذو مواهب يغبط عليها فهو خطيب مطبوع ذو حنجرة ذهبية يخرج الكلام منها كأنه موسيقي . وذو قوام فارع وسمت جميل وهندام جذاب – إذا رأيت سمته واستمعت إلي حديثه أحسست أنك أمام رجل من أبناء الطبقة الأرستقراطية في ذلك العهد . ومع أن دراسته الرسمية لم تتعد الثانوية فإن ثقافته واسعة ، وعقيدته ناضجة وأفقه فسيح ولسانه قويم ، وغيرته علي الإسلام نابعة من قلب عامر ، وكان جديرًا بالمنصب الذي أسنده الأستاذ المرشد إليه في الدعوة .
وقد قدمت أن الأستاذ المرشد كان يقدمه في المواطن التي يعلم أنه يتطلع إلي التقدم فيها فكان يختاره سفيرًا له في مقابلة العظماء من المسئولين من رجال الدولة ورؤساء الدول العربية ورجال القصر وساسة البلاد ، ولكنه كان كثيرًا ما يحذره من الانزلاق في هاوية الافتتان بمظاهر حياتهم وما ينقلبون فيه من بذخ ورفاهية ، ويذكره بأننا لسنا إلا دعاة إلي الله وحملة لشعلة الإيمان به والرجوع إليه والعمل بدينه . والواقع أن هذا التحذير وهذا التذكير كان لابد منهما لأن كثيرين منا لاسيما المحنكين منا بالبيئات الارستقراطية المتعالية الغارقة في الترف والمظاهر الأخاذة الخادعة ، كانوا ينسون حقيقة مهمتهم وجوهر دعوتهم في غمرة هذه المظاهر ؛ فلقد كان البون شاسعًا بين حياتنا التي نعيشها وحياة هذه البيئات ، ولولا هذا التذكير والتحذير لفقدنا أنفسنا في تيارهم . وقبل أن انهي تقديمي لشخصية الأستاذ أحمد السكري للقارئ أنقل من " مذكرات الدعوة والداعية " الذي كتبه الأستاذ المرشد بقلمه ولم أطلع عليه إلا هذا العام (1977) فقرتين تتصلان بما جاء في هذا التقديم ويلقيان بعض الضوء علي ما عالجناه من نقاط في هذا الموضوع .
جاء في صفحتي 135 ، 136 من " مذكرات الدعوة والداعية " التي سجل فيها الأستاذ بعض أحداث الدعوة حتى سنة 1939 ما يلي :
- خواطـر :
حضر إلي اليوم ... و ... من المحمودية . وتكلمنا كثيرًا عن جمعيات الإخوان المسلمين . أريد أن أكتب عنه فلا يتسع لي مجال الكتابة فأكل أمره إلي الله ، وأسأل الله أن يوضح لي الطريق الذي أسير فيه . علي أن ملخص خطراتي أن فرعي جمعية الإخوان بالمحمودية وشبراخيت سوف لا تنفع كثيرًا لأنها أنشئت بغير أسلوبي ، ولا ينفع في بناء الدعوة إلا ما بنيت بنفسي وبمجهود الإخوان الحقيقيين الذين يرون لي معهم شركة في التهذيب والتعليم وهم قليل . ونفس فرع الإسماعيلية ستحدث فيه تعديلات كثيرة ولكنه سيسير سيرًا نافعًا إن شاء الله .. إنه لله ...
إنه قائد موهوب ولكنه منصرف بهذه القيادة وهذه المواهب إلي السفاسف ، مسرف في وقته لا يقدر له قيمة ، قلبه مملوء بأوهام لا حقيقة لها ومنصرف إلي ناحية لا تثمر إلا العناء ، فالاعتماد عليه ضرب من المخاطر العقيمة . والأخ الشيخ ... له أساليبه الخاصة به ، وهو ينظر إلي كأخ زميل فلا يصغي لآرائي إلا قليلا ومن هذه الناحية يكون توحيد الفكرة ضربًا من التعسر ، فالاعتماد عليه مخاطرة كذلك .
نفسك يا هذا وإياك والخلق
- ربك ونفسك وحسبك الله ومن اتبعك من المؤمنين
من الطريف أن الأخ الزائر من المحمودية رأي هذه الكتابة في حينها فكتب بخطه في الصفحة المقابلة هذه العبارة : " سامحك الله أيها الأخ الكريم " لقد تغاليت في ظنك هذا ، وكل ما أرجوه أن تبدي لك الأيام غير ما ظننت . ولست أزكي نفسي فالله أعلم غير أنك لابد راجع إلي صوابك في ، عالم أن النفس التي أحملها بين جبيني هي نفس علم الله فيها بعلمه السابق الأزلي أنها تضطرم غيرة وتتفتت حسرة رأسي علي أما أصاب الإسلام وأهله .
وجاء في صفحتي 252 ، 253 ما يلي :
" الحفلة الكبرى للإخوان المسلمين "
" سراي آل لطف الله " :
" الإخوان المسلمون صرحاء في دعوتهم لا ينون عن بذل أوقاتهم ومهجهم في سبيلها ، ولا تفوتهم الفرص والمناسبات لتدعيم الحق وإزهاق الباطل ونشر لواء الإسلام ، فهم قد رأوا في مجلس النواب والشيوخ معركة كلامية طالما أذكرها ومهدوا لها ، وهم الآن يريدون تدعيمها ، وسيجمعون النواب والشيوخ المحترفين في صعيد واحد بغض النظر عن حزبيتهم وألوانهم السياسية . وسيكون منهم روح القوة والعمل علي نصر دين الله ، وسيكون ذلك فتحًا مبينًا له ما يعده إن شاء الله ، وسيكون هذا الحفل الجامع في سراي آل لطف الله بالزمالك ... لهذا سيكون حفلاً رائعًا تتجلي فيه دعوة الإخوان المسلمين بأجلي مظاهرها إن شاء الله . وسيكون من بين حضرات الخطباء الأفاضل : سمو الأمير شكيب أرسلان ، وسعادة علوبة باشا ، والأستاذ الكبير محمود بسيوني والنائب المحترم سعد اللبان وفضيلة الشيخ عبد اللطيف دراز والدكتور عبد الحميد ومدكور بك والدكتور عبد الوهاب عزام .. إلخ . وسيتولى فضيلة المرشد العام شرح وجهة نظر الإخوان المسلمين من روح الإسلام . وسيؤمها كبراء المملكة المصرية ورجال الأحزاب السياسية وقادة الرأي ليسمعوا كلمة الإخوان المسلمين والله يدعو إلي دار السلام ويهدي من يشاء إلي صراط مستقيم " .
" من آثار حفل تكريم النواب بسراي آل لطف الله " .
- " انتهي حفل النواب بسراي آل لطف الله وكان ملحوظاً فيه حضور ممثلين للأحزاب المصرية المختلفة وللطبقات المختلفة كذلك . وقد كان لهذا الحفل آثار بدت طفيفة ولكنها تحولت إلي عميقة عنيفة بعد فترة قصيرة من الزمن ، فقد اعتقد فريق من الإخوان أن الأستاذ أحمد السكري الذي كان يشرف علي نظام الحفل ويقوم بتقديم الخطباء كان يتملق بعضهم والملق يكرهه الإخوان ، وكان يحاول أن يظهر بمظهر المتصدر الآمر الناهي وليس ذلك من خلق الإخوان ، وكان يؤثر بعض الناس بالتقديم ويحول بين غيرهم وبين المنصة ، ويوجه الأمور توجيهًا يظهر فيه الغرض الخاص . والإخوان لا يفهمون إلا لغة الوضوح والاستقامة التامة ، وفي أول اجتماع بعد الحفل ظهرت هذه الملاحظات وأخذت أدافع عنها وأفسر مظاهرها لهؤلاء الإخوان تفسيرًا حسنًا وأحملها علي أفضل المحامل وهم غير مقتنعين . وكان هذا الشعور نواة لتفسيرات لاحقة لتصرفات كثيرة مشابهة ، ومازال يتضخم حتى صار أساس فتنة ذهبت بمجموعة من خيار الإخوان وحالت بينهم وبين العمل في هذا الميدان . وسيمر بنا تفصيل ذلك في حينه ولله في خلقه شئون " .
- الأستاذ عبد الحكيم عابدين مرة أخري :
تناولت شخصية عبد الحكيم عابدين من قبل أكثر من مرة كان عبد الحكيم في خلالها لا يزال الطالب اليافع أو المتخرج الناشئ الذي بم يتمرس بعد بمسئوليات الدعوة وتبعاتها الثقيلة ، ولكن السنوات التي مرت عليه بعد ذلك وأثقلت كاهله بتبعاتها وأحداثها قد جلت مواهبه وصقلت قريحته وكشفت عن قدراته مما جعله أهلا لأن يشركه الأستاذ المرشد معه في التصدي لأعقد المشاكل وأخطر الأمور . وهي المشاكل والأمور التي كانت من قبل وقفاً علي الأستاذ أحمد السكري ... ولا أقصد بهذه العبارة أن أقول إن الأستاذ المرشد قد أعطي الأستاذ أحمد مما كان يكله إليه من خطير الأمور وإنما قصدت أن أقول إن الأستاذ المرشد أراد أن يستفيد للدعوة من مواهب عبد الحكيم وقدراته فأشركه مع الأستاذ أحمد في النهوض بالأمور الجسام التي تضاعفت مشاكلها وثقلت تبعاتها يتشعب الدعوة وأتساع رقعتها واقتحامها ميادين جديدة بحيث أصبحت هذه الأمور الجسام ينوء بحملها رجل واحد .
ولم تكن هذه المواهب وهذه القدرات جديدة علي عبد الحكيم عابدين فقد أشرت إلي طرف منها منذ كان طالبًا ، وكل ما حدث أن مرور الأيام جلي هذه المواهب وأبرز هذه القدرات فمع أن عبد الحكيم لم يكن حسن الهندام ولا المتأنق في ملبسه بل كان في هذه الناحية أقرب إلي عكس ذلك فإنه كان بحدة ذكائه واتقاد قريحته وسرعة بديهته ورشاقة لفظه وسعة حفظه للقرآن وللشعر وسجيته الأدبية وغامر روحانيته وحسن بداوته (التي أشار إليها المتنبي في قوله : (وللبداوة حسن غير مجلوب) . فإنه كان مقبولا ومحببا إلي نفوس طبقة من الناس لم تكن لتعرف عن الدعوة شيئًا لولا تسلل عبد الحكيم إلي قلوبها وامتزاجه بنفوسها . فكل كبار أطباء القاهرة ، وكل أساتذة الجامعة وعلية القوم ومن أعرق الأسر وأكرم العناصر لم يعرفوا الدعوة إلا عن طريق عبد الحكيم . وليس معني معرفة هؤلاء بالدعوة واقتناعهم بأفكارها أنهم انتظموا جميعًا في تشكيلاتها أو احتلوا مناصبها وإنما قد صار للدعوة باقتناعهم بها صف له صداه في أوساطهم وفي الرأي العام بعد ذلك ، وهذا كسب له قيمته وله وزنه . وما كان لدعوة كدعوة الإخوان المسلمين تريد أن تؤخذ بفكرتها لتكون أساسًا لحكم البلاد أن تجد لفكرتها سبيلا إلي واقع الحياة دون أن تقتنع بها هذه الطبقة التي مهمتها التثقيف والتوجيه .
وقد نهض عبد الحكيم بما ألقي علي كاهله من جسام أمور الدعوة نهوضًا كريمًا وأظهر مقدرة جعلت اسمه يلمع بجانب اسم الأستاذ أحمد ، وسر الأستاذ المرشد لذلك كما سر الإخوان جميعًا أن وجدت الدعوة وقد تضاعفت مسئولياتها من أبنائها من يشارك في حمل العبء وهذا دليل علي خصوبة الدعوة وحسن استجابتها ونجاح أساليبها كما أنه يشير بتحقيق آمالها ووصولها إلي غايتها .
ولكن هل عم هذا السرور جميع الإخوان . ؟
- الأستاذ حسين عبد الرازق :
يقتضينا الحديث عن حسين عبد الرازق أن نتحدث عن أسر عبد الرازق التي ينتسب إليها والتي هو أحد أفرادها وإن لم يكن من الشخصيات البارزة فيها .. وربما كان انتسابه إلي دعوة الإخوان هو الذي أبرزه وجعل لاسمه ذكرًا بين أفراد هذه الأسرة ، وهذه الأسرة من الأسر الشهيرة المرموقة في الصعيد وموطنها قرية إبي جرج إحدى قرى مركز بني مزار بمحافظة المنيا .. وهي وإن كانت أسرة ميسورة الحال إلا أن شهرتها لا ترجع إلي يسر حالها فهناك أسر أخري أيسر حالا وأوسع ثروة ولكنها لا تحظي بمثل شهرة آل عبد الرازق الذين امتازوا علي غيرهم بكثرة المتعلمين وذوي المناصب الكبيرة من أبنائهم .
وكان أبرز أبناء هذه الأسرة في المجتمع المصري اثنان هما الشيخ مصطفي عبد الرازق الذي كان أستاذًا للفلسفة الإسلامية بكلية الآداب حين كنا طلبة بالجامعة والشيخ علي عبد الرازق الذي كان مدرسًا بأحد المعاهد الأزهرية والذي وضع كتابًا سماه " الإسلام وأصول الحكم " حاول فيه نفي أن يكون للإسلام صلة بالحكم من قريب أو من بعيد ، وقد أثار الأزهر في ذلك الوقت علي هذا التهجم علي الإسلام وعلي محاولة تجريده من أصل من أصوله المقررة وحاكم المؤلف محاكمة علمية بإصدار قرار بسحب شهادة العالمية منه ... وكان لوضع هذا الكتاب في ذلك الوقت دوافع سياسية كما كان لواضعه طموح سياسي فقد استطاع بوضعه هذا الكتاب أن يصيب عدة أهداف ، فقد آثار ضجة كبيرة وجدلاً حادًا في المجتمعات وفي الصحف لفت النظر إلي واضعه وأكسبه بروزًا في المجتمع كما أنه أرضي المستعمر – وقد أشرنا في فصول سابقة إلي محاولات الإنجليز تجريد الإسلام من هذه الناحية بالذات – وإن كان في نفس الوقت قد أغضب الملك الذي كان يريد الاستزادة من السلطة عن طريق الأزهر مما كان يراه الإنجليز خطرًا عليهم . وكان للماسونية في تحقيق أغراض الإنجليز بإصدار هذا الكتاب اليد الطولي فقد كانت هي اليد الخفية التي تتحسس في المجتمع المصري الأشخاص الطموحين الذين يصلحون لأداء أدوار معينة علي المسرح المصري .
- الأستاذ كمال عبد النبي :
عندما كان يذكر الأستاذ حسين عبد الرازق كان يذكر دائمًا الأستاذ كمال عبد النبي ولست أعرف السبب في ذلك فلعلهما كانا صديقين التحقا بالدعوة معًا وربما كان التحاقهما بالدعوة عن طريق الأستاذ عبد الحكيم عابدين وإن كان الذي أقطع به هو أن الأستاذ حسين عبد الرازق قد تعرف علي الدعوة عن طريق الأستاذ عبد الحكيم .
نشوء الفتنة وتطورها :
1 – قد يكون نشوء الفتنة قد بدأ بتسربات في أعماق نفس الدكتور إبراهيم حسن حين انتقل الأستاذ أحمد السكري إلي القاهرة وأسند إليه الأستاذ المرشد منصب الوكيل أمام الذي كان يشغله الدكتور إبراهيم ، فاعتبر الدكتور ذلك إهانة له موجهة من الأستاذ المرشد شخصيًا ، ولكنه أسر ذلك الشعور في نفسه لأن الظروف في ذلك الوقت لم تتح له أن يفعل أكثر من ذلك .
2 – يتبين للقارئ من تحليل الشخصيات الذي أثبتناه آنفًا أن الأستاذ أحمد السكري قد رضي بمنصب الوكيل العام وبإسناد المرشد كل خطير الأمور إليه رضي بذلك كحد أدني لأنه كان يري نفسه أكبر من هذا وأحق بما هو أعظم . أما وقد قضت الظروف بهذا القدر فقط فلا بأس بذلك مؤقتًا . واحتكار البروز في الأوساط الراقية والمجتمعات ذات الشأن كفيل بتوسيع نطاق هذا القدر شيئًا فشيئًا مما يقرب الأمل المنشود ، وإذا لم يتحقق الأمل فإن استمرار احتكار البروز في هذه الأوساط سيجعل منصب الوكيل العام هو المنصب الذي يدير دفة الدعوة والذي يرجع إليه في كل شئونها .
3 – لم يكن إصهار عبد الحكيم إلي الأستاذ المرشد موضع ارتياح من الأستاذ أحمد السكري خشية أن يكون في هذا الإصهار تقريب لعبد الحكيم من نفس الأستاذ المرشد لاسيما والأستاذ أحمد يعرف عن مواهب عبد الحكيم ... وإن كان الأستاذ أحمد يثق في قرارة نفسه أن الأستاذ المرشد لا يعدل بالصلة الروحية أيه صلات أخري من قرابة أو صداقة أو نسب ... وقد تم الإصهار بعد أن اقترن بمؤامرة حيكت له وخرج منها عبد الحكيم سليما معافى بعد تجربة قاسية .
4 – ما كانت مؤهلات عبد الحكيم الخلقية من هيئة وملبس ومنشأ في أسرة فقيرة ، لتؤهله أن يجد لنفسه طريقاًَ إلي الأوساط الراقية والمجتمعات ذات الشأن ، ولكن فوجئ الجميع وأولهم الأستاذ أحمد بأن مواهب عبد الحكيم بأن مواهب عبد الحكيم وميزاته التي أشرنا إليها أهلته للسبق إلي هذه الأوساط حتى أصبح اسمه ألمع من اسم الأستاذ أحمد فيها ، أضف إلي ذلك أن طبيعته غير الارستقراطية قربته إلي نفوس عامة الإخوان الذين لم يكونوا يأنسون إلي الطبيعة الارستقراطية .
5 – كان الأستاذ المرشد – كدأب أصحاب الدعوات – يلتمس التأييد لدعوته من جميع الأوساط البيئات ، وإذا كانت الدعوة قد قامت علي أكتاف عامة الناس وضعفائهم ، فإنه كان يتوق ويتمني لو أن الله تعالي هدي إلي دعوته الأغنياء وذوي الأبهة والسلطان . وهذه طبيعة لم يخل منها بشر حتى رسول الله صلي الله عليه وسلم " أما من استغني فأنت له تصدي وما عليك أن لا يزكي " .
واستجاب للدعوة بضعة أفراد من هذه البيئات المتعالية ... ومع أن الأستاذ المرشد كان يوسع لهم في مجلسه ويغدق عليهم من بشره ، فيرحب بمقدمهم ، ويخصهم بتكرمته إلا أن هؤلاء لم يستطيعوا أن يمتزجوا بالإخوان ولا أن يزيلوا حجاب الكلفة بينهم وبينهم ، فكان لابد لوجودهم في مجتمع إخواني من وجود الأستاذ المرشد فيه ، كأنما هو المادة الموصلة بين الفريقين ، فإذا لم توجد المادة الموصلة انقطع التيار .. وما أكثر ما عاني الأستاذ المرشد في سبيل مزج هذه الفئة بسائر الإخوان ، ولكنه لم يحقق الكثير مما كان يأمل في هذه الناحية . هناك أفراد من هذه الطبقة كان امتزاجها بسائر الإخوان امتزاجاً من أول يوم غشوا فيه مجتمعات الإخوان من أمثال حسن العشماوي ومنير الدلة وهرون المجددي ... لكن أفرادًا آخرين لم يمتزجوا مما يدل حقاً علي أن الأرواح جنود مجندة ، ما تعارف منها ائتلف وما تناكر منها اختلف . وصدق الله العظيم " لو أنفقت ما في الأرض جميعًا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم ".
وكان هؤلاء الأفراد هم الهدف السهل لمحاولي النيل من الدعوة ، وكان الأستاذ حسين عبد الرازق والأستاذ كمال عبد النبي بالتبعية من هؤلاء الأفراد .
6 – بعد التحاق الأستاذ حسين بالدعوة بفترة غير قصيرة أخذت السراي الملكية في انتهاج سياسة جديدة تستهدف احتواء أسرة عبد الرازق التي اعتبرت السراي انضمام فرد منها إلي الإخوان وانتظامه عضوًا في الهيئة التأسيسية تطورًا خطيرًا يخشي معه أن يستفحل أمرها باستيعابها العنصر الوحيد الذي ينقصها وهو عنصر الأسر الكبيرة ذات النفوذ والثراء ... وبدت خطوات هذه السياسة متتابعة فيما يلي : -
- أ) اختير الشيخ مصطفي عبد الرازق في أكتوبر سنة 1944 وزيرًا للأوقاف في وزارة أحمد ماهر .
- ب) وبعد ذلك بنحو عام عينه الملك شيخًا للأزهر وهو شرف ما كانت تحلم به الأسرة طوق الملك به جبدها .
- ج) وفي 14-2-1946 وأنعم الملك علي الشيخ مصطفي عبد الرازق شيخ الأزهر بوسام كبير .
- د) في 16-2-1947 توفي الشيخ مصطفي عبد الرازق وهو شيخ للأزهر ، وفي 22 من نفس الشهر تقدمت هيئة كبار العلماء بالأزهر الشريف بالتماس إلي الملك تطلب إصدار عفو عن الشيخ علي عبد الرازق بعد عشرين سنة من القرار الذي يحرمه من تولي أي منصب حكومي ... حتى يتولي فضيلته وزارة الأوقاف وقد كان وتولي هذه الوزارة .. وما كان لهيئة كبار العلماء أن تتقدم إلي السادة الملكية بطلب العفو عن الرجل الذي طرده الملك منذ عشرين سنة إلا أن يكون ذلك بإيعاز من الملك نفسه .. وبعد أن صدر العفو وتولي الشيخ عبد الرازق وزارة الأوقاف قامت الهيئة بمقابلة رئيس الديوان الملكي لإبلاغ جلالة الملك شكرها علي هذا التفضل .
- هـ) في 1-3-1947 كانت خطة التمرد التي أعلنها الأستاذ حسين عبد الرازق قد بلغت أوجها فصدر قرار بإيقافه وإيقاف الأستاذ أحمد السكري والدكتور إبراهيم حسن والأستاذ كمال عبد النبي باعتبارهم خارجين عن الجماعة .
وقد رأيت أن أضع بين يدي القارئ الوقائع بتسلسلها وبتواريخها حتى يلمح في هذا التسلسل كيف تطورت الأمور بمندوب هذه الأسرة في الإخوان المسلمين هذا التطور الفجائي المريب ؛ فلقد التحق حسين عبد الرازق بالدعوة عن طريق عبد الحكيم عابدين كما قدمت ، وكانا لا يكادان يتفرقان ، وكان عبد الحكيم جريًا علي طبيعته البدوية يقضي مع حسين في بيته الوقت الطويل ويعتبر بيت حسين بيته فيطلب الطعام بنفسه ويشيع السرور في البيت بأسلوبه الأدبي المحبب ، وبنفسه الصافية الشفافة ، فإذا حبست الشواغل عبد الحكيم عن زيارة حسين طلبه حسين في كل مكان حتى يعثر عليه ... وظلت هذه العلاقة علي هذا الحال دون فتور نحو عامين كانا خلالهما مثلا كريمًا للصديقين الحميمين .
7 – كانت أقرب شعب القاهرة إلي المركز العام شعبة حي عابدين وكانت تضم مجموعة أكثرها من الطلبة والشباب الصغير من صغار الموظفين ، وبقدر ما كان حسين عبد الرازق علي صلة وثيقة بعبد الحكيم فإنه كان هو وأترابه من كبار القوم لا يخططون بعامة الإخوان حتى إن هؤلاء الإخوان كانوا يعيبون عليهم هذا المسلك ويعدونه – كما قدمت – ترفعًا لا تقره دعوة الإخوان المسلمين .. ويبدو أن وحيًا من الأستاذ حسين أخذ يصل إلي إخوان شعبة عابدين كان من نتيجته أن رأينا هذا شباب فجأة يشيع قالة سوء عن عبد الحكيم عابدين ورأينا الأستاذ حسين عبد الرازق أول من يتلقفها ويسارع إليها ويتبناها ، ورأينا مجموعة من هذا الشباب تمشي في ركابه وصارت بطانة له .
وشباب شعبة عابدين بحكم قربهم من المركز العام كانوا فتلا أكثر إخوان الشعب اتصالا بالأستاذ عبد الحكيم عابدين ، وكانوا يلوذون به وحين يبحث الواحد منهم عن زوجة يطمئن إليها ، وهو يعتبر نفسه والد هؤلاء الشباب . وقد دخل بيوت أهليهم – كطبيعته البدوية – وألم بما في كل بيت من فتيان وفتيات الزواج علي يديه ؛ وباعتبار الزوج والزوجة من أبنائه يزورهما في بيتهما الجديد ، ويطلب الطعام ، ويمزح معهما المزح الذي يزيدهما امتزاجاً وألفة . وهذه بلا شك صورة في ذاتها وهدفها كريمة تستحق الثناء ولكن الذين في قلوبهم مرض قد يجدون فيها مرتعًا خصيصًا أغراضهم وإرضاء نفوسهم . لقد دخل عبد الحكيم بيت حسين عبد الرازق أكثر مما دخل أي بيت من بيوت إخوان شعبة عابدين فلماذا لم يأت حسين في يوم من الأيام شاكيًا عبد الحكيم دخول بيته ؟ ..
8 – تقدمت فجأة مجموعة من شباب شعبة حي عابدين إلي المركز العام بمذكرة تتهم فيها الأستاذ عبد الحكيم عابدين باقتحام بيت زميلهم الأخ عبد المعطي ونري وسط أسماء المشاركين اسم شقيق الزوجة . فتهب زوبعة يثيرها أفراد من الماشين في ركاب الأستاذ حسين عبد الرازق فيترك الأستاذ المرشد كل ما بين يديه من أمور جسام ويتفرغ مهمومًا لتحقيق هذه التهمة الخطيرة ويصدر قرارين حاسمين :
- الأول : بإيقاف عبد الحكيم وإبعاده عن المركز العام حتى يصدر قرار بإنهاء هذا الإيقاف أو يجعله دائمًا .
- الثاني : بتكوين لجنة تحقيق لا يحضرني الآن من أسماء أعضائها إلا الأستاذ حسين عبد الرازق والأستاذ كمال عبد النبي ، وقد بقي في خاطري هذا الاسمان لأننا يوم صدر قرار تكوين هذه اللجنة تعجبنا وذهب بنا العجب كل مذهب أن يكون هذان هما مثيري هذه الفتنة – والأستاذ المرشد يعرف ذلك – ومع ذلك يجعلها من أعضاء اللجنة ، وقد ثبت لنا أخيرًا أنه كان أبعد نظرًا .
وتقوم لجنة التحقيق بالتحقيق في التهمة فتحدث المفاجأة التي أحبطت تدبيرهم وفضحت مؤامراتهم حين سئل الزوج وهو الأخ علي عبد المعطي الذي نوهنا عنه آنفاً فكذب كل ما قيل واستنكر ما أثير وأثني علي الأستاذ عبد الحكيم عابدين أحسن ثناء وقال : إن الأستاذ عبد الحكيم عابدين ما قام بيني وبين زوجتي إلا بما يقوم به الوالد للتوفيق بين أبنائه – ولم يكتف الأخ علي عبد المعطي بما قرره أمام اللجنة بل ذهب إلي الأستاذ المرشد وأعاد أمامه ما قرره أمام اللجنة ، فلم يسع الأستاذ المرشد بعد ذلك إلا أن يصدر قرارًا بإنهاء فترة إيقاف عبد الحكيم عابدين وإعلان براءته .
ولا يفوتني أن أذكر أنني مع كل ما بيني وبين عبد الحكيم عابدين من صداقة وطيدة وثقة تامة متبادلة باعتباري بشرًا وجدت نفسي أمام الحملة المسعورة التي آثارها هؤلاء المرجعون وقد اهتزت هذه الثقة في نفسي ، ووجدتني ألقي عبد الحكيم في المركز العام وأعرض عنه ، وقد لاحظ عبد الحكيم ذلك أكثر من مرة فاقتحم علي والدموع تترقرق في عينيه ووجه إلي عتابًا باكيًا أن تؤثر المؤامرة حتى تهز محمود عبد الحليم في أخيه عبد الحكيم .. وقد أجبته وأنا أغالب الدموع في عيني بقولي : معذرة يا عبد الحكيم إنك عزيز علي نفسي وحبيب إلي قلبي ولكن الدعوة أعز علي وأحب إلي ، ويجب أن تلزم بيتك حتى يتم التحقيق . وقد قصدت ما ذكر ما كان من لقائي مع عبد الحكيم في غمار هذه الفتنة أن أبين إلي أي مدى وصل تأثير الدعاية الأثيمة التي أثارتها هذه الفئة والتي سهروا علي تفجيرها تفجير يهز القلوب ويقتلع الثقة من النفوس .
وقد فقدنا في غمار هذه الفتنة أخًا كان أثيرًا لدينا هو الأخ الدكتور إبراهيم حسن الوكيل الثاني للإخوان ولست أدري حتى اليوم هل كان اعتزاله لمجرد تأثره بهذه الدعاية التي ثبت زيفها أم كان لشعوره بأن منصبه في الدعوة لم يعد يحظي من اهتمام الإخوان يمثل ما كان يحظي به من قبل ، فرأي التعلل بالتأثر بهذه الدعاية فرصة يخفي وراءها السبب الأصيل . ولما ظهرت براءة الأستاذ عبد الحكيم عابدين وأعلنت هذه البراءة ، أعتقد الإخوان أن الأمر قد انتهي عند هذا الحد ، وأن كل أخ ممن رتعوا في الفتنة سيستغفر الله ويرجع إلي مكانه في الدعوة ولكن الغريب في الأمر أن حسين عبد الرازق وكمال عبد النبي وهما كانا من أعضاء لجنة التحقيق وكان أولي الناس بالرجوع إلي الحق قد ركبا رأسيهما وأصرا علي رأيهما دون مبرر وأعلنا اعترافهما محتويين الدكتور إبراهيم حسن والعدد الذي كان مفتونا بهما من أعضاء شعبة حي عابدين علي أن من هذا العدد من فاء إلي الحق ورجعوا بعد ذلك تائبين . وهكذا فعل التأثير العائلي في رجل آمن بفكرة وبايع عليها ثم رأي أنها صارت تتعارض مع مصالح أسرته فضحي بفكرته في سبيل هذه الأسرة . وصدق الله العظيم حيث يقول " قل إن كان آباؤكم وأبناؤكم وأزواجكم وعشيرتكم وأموال اقترفتموها وتجارة تخشون كسادها ومساكن ترضونها أحب إليكم من الله ورسوله في سبيله فتربصوا حتى يأتي الله بأمره والله لا يهدي القوم الفاسقين " .
9 – في ذلك الوقت نفسه وفي غمار هذه الأحداث الخطيرة ووسط تلك الضربات المذهلة المفاجئة وعلي أثر عدد من أوجه النشاط الاجتماعي والسياسي برز فيها دور عبد الحكيم عابدين ممثلا للدعوة في مصر وخارج مصر ، قاض الكيل بالأستاذ أحمد السكري الذي كان يعاني من قديم شعورًا خاصًا أشرنا إليه .. ويبدو أنه رأي هذه الظروف القاسية فرصة سانحة بإثارة أن الأستاذ المرشد قد هضم حقه وسلبه اختصاصه وتخطاه بما خص به عبد الحكيم عابدين من اتصالات وتمثيل للإخوان في مواقف هامة ، وبدت من الأستاذ أحمد بوادر فيها رائحة التمرد لأول مرة وحاول الأستاذ المرشد رده إلي الصواب فقابله بالإصرار فرأي الأستاذ المرشد أن يرجع في هذا الأمر إلي الهيئة التأسيسية فدعاها إلي الاجتماع وأذكر أن هذا الاجتماع ظل ثلاث ليال متتالية كل ليلة تبدأ من صلاة المغرب وتستمر حتى صلاة الفجر فطلوع الشمس .
وقد بدأ الأستاذ المرشد الحديث في الليلة الأولي فسرد المواقف التي دعت إلي تكليف الأستاذ عبد الحكيم عابدين بما عهد إليه وبه وأوضح الأستاذ أن ذلك لا يمس كرامة وكيل الإخوان ولا ينتقص من قدره في قليل ولا كثير إلا أن تكون هناك حساسية ، وأن هذه الحساسية لا ينبغي أن يكون لها وجود في مجتمع قائم علي الإيمان والأخوة ثم تطرق من ذلك إلي أن لقائد الدعوة أن يعهد بما يشاء لمن يشاء لأنه أدري بالأصلح للأداء وله علي الجميع حق الطاعة .. ثم طلب إلي الأستاذ أحمد أن يقول ما عنده فشرح وجهة نظره ثم دارت بينه وبين بعض الأعضاء مناقشات تدخل في بعضهما الأستاذ المرشد ، واستمرت المناقشات طيلة الليلتين الأولي والثانية . وفي الليلة الثالثة فاجأ الأستاذ المرشد الجلسة بإثارة الموضوع الذي كنت تكلمت معه فيه في أوائل أيام اتصالي بالدعوة في خلال عامي 1936 ، 1937 والذي أشرت إلي طرف منه في بدء الحديث عن هذه الفتنة . وقد طلب الأستاذ المرشد أن أشرح للهيئة الموضوع بالتفصيل ففعلت .. ودارت مناقشات طويلة حول الموضوع استغرقت الليل كله .. ويبدو أن حديثي إلي الهيئة كان له وقع عميق في نفوس الأعضاء بدا آثره في مناقشاتهم حتى أيقن الأستاذ أحمد أن الاتجاه الإجماعي للهيئة ينذر بفصله مع أنه كان يطمع أن يجد من الأعضاء من يسند ظهره ويؤازره موقفه علي أن الأستاذ المرشد لن يثير لا موضوعه مع الأستاذ عبد الحكيم عابدين .
وأذن للفجر وأقيمت الصلاة وصلينا خلف الأستاذ المرشد ، ثم استؤنفت الجلسة ، وكان مفروضًا أنها تستأنف لأخذ الأصوات علي قرار .. ولكن الذي حدث أن الأستاذ أحمد طلب الكلمة ، فوقف وتحدث حديثاً حلوًا كأنما غسلت الصلاة قلبه ، وكان حديثه اعترافاً بأخطائه وتوبة إلي الله منها ورجوعًا إلي الحق وقد طلب في آخر كلمته الصفح مني نحوه فقدمت فقمت من مكاني وتوجهت إليه وعانقته وتبادلنا القبلات وكلانا تنهمر دموعه سرورًا وفرحًا ... وكانت ساعة من أجمل ما مر علينا من ساعات الحياة فاضت فيها عيون الجميع وتعانقت قلوبهم وصفت نفوسهم ووقف الأستاذ المرشد فحمد الله تعالي وأثني عليه إذ وفق إلي هذه النهاية الطيبة وقابل اعتذار الأستاذ أحمد إليه بالإشادة بفضله . وانقضي الاجتماع وطلعت الشمس وانصرف أعضاء الهيئة كل إلي بلده مسرورًا ليحمل إلي إخوانه هذه البشري المأمولة والنتيجة الطيبة .
ارتداد : ما كاد أعضاء الهيئة التأسيسية يصلون إلي بلادهم حتى فوجئوا بموقف أذهلهم وخلع ألبابهم ، ذلك أن صحف حزب الوفد – التي كانت في ذلك الوقت تشن حملة علي الإخوان – صدرت بنبأ عجيب أن الأستاذ أحمد السكري الوكيل العام للإخوان المسلمين استقال من الإخوان المسلمين ثم إن صيغة استقالته لم تكن مجرد صيغة استقالة بل كانت تهجمًا علي الدعوة وعلي مرشدها كان اللغز هو أنه لو كان في نية الأستاذ أحمد الاستقالة فلم لم يستقل في جلسة الهيئة التأسيسية التي امتدت ثلاث ليال متتالية قبل أن يواجه بالنقد ؟! ولم أعلن اعترافه بأخطائه فبكي وأبكي وأحس لأول مرة أن قلوب ممثلي الدعوة في كل مكان قد انفتحت له وبعد أن عانقه عناق حب وصفاء من واجهوه بالنقد ؟! . لو كان في نيته الاستقالة لما انتظر حتى يرشق بالسهام من كل جانب .. بل لما حضر هذا الاجتماع الذي كان يعرف أنه سينعقد لمحاكمته ... ولا ستقال احتجاجًا علي مجرد الدعوة لاجتماع يعقد لمحاكمته .. ولكان بهذه الاستقالة قد تفادي موقف الاتهام . استعرضنا الموضوع من جميع نواحيه وعللناه من مختلف احتمالاته فلم نجد لهذه الاستقالة المفاجئة مع الظروف التي سبقتها معني ولا مبررًا ولا يمكن أن تنسق مع مقدماتها .. فلابد أن يكون عامل خارج عن الموضوع قد تدخل ، وأخذنا نستعرض ما خطر علي بالنا من عوامل حتى اهتدينا إلي العامل الأقرب احتمالا .
كانت قد توطدت صداقة بين الأستاذ أحمد وبين الأستاذ حسين عبد الرازق منذ انضوي الأخير تحت لواء الدعوة ، ولكنها صداقة من نوع آخر غير النوع الذي يربط بين حسين عبد الرازق وعبد الحكيم عابدين أنها صداقة ارستقراطية لم يتعودها الإخوان في مجتمعاتهم .. وكان الأستاذ حسين يعرف مآخذ الإخوان علي الأستاذ أحمد وأن الإخوان لا يتغاضون عنها ، كما كان يعلم أنه ليس من السهل قبول الأستاذ أحمد توجيه اللوم إليه من أجل هذه المآخذ .. وكان موقنًا بأن جلسة المحاكمة إذا لم تنته بانفصال الأستاذ أحمد فلا أقل من أن تنتهي بتوسيع شقة الخلاف بينه وبين الإخوان .. أما وقد انتهت الجلسة بما لم يكونوا يحتسبون .. بالمصافاة والوئام .. إذن فلابد من التدخل . لقد كان الأستاذ أحمد السكري صيدًا سمينًا لهواة الصيد في الماء العكر وما كان أكثرهم في ذلك الوقت .. إن الجميع في ذلك كانوا يتربصون بالإخوان شرًا ، القصر وأحزابه والوفد الذي خلع العذار في إعلان حرب دنيئة علي الإخوان .. ومن وراء هؤلاء المصريين ما يغنيه عن أن يضرب بيده ... ولا شك في أن حسين عبد الرزاق كانت تنطوي جوانحه علي عناصر من الخير ، لكن يبدو أن هذه العناصر لم تكن من القوة بحيث تثبت أمام عناصر أخري تكالبت عليه من أسرته فانهار بين يديها وصارت تحركه بعد ذلك حيث تشاء ... وكأن أسرته رأت أن تثبت رأت تثبت " لسيد البلاد " الذي بوأ عميدها منصب مشيخة الأزهر والذي احتضن ابنها بعد أن أصدر ضده قانون الحرمان لمدة عشرين عامًا وبوأه منصب وزارة الأوقاف أن تثبت له ولاءها وتفانيها في خدمته ، ولم يكن في يديها ورقة تلعب بها في هذا المضمار أربح من ابنها الذي كان من الإخوان المسلمين فسلطته علي أحمد السكري بحكم الصداقة بينهما .
ولم يكن حسين عبد الرزاق أبله حتى يوجه صديقه بعد أن يشحنه إلي الارتماء علي أعتاب القصر فإنه يعلم أن أحمد السكري مهما شحن ضد إخوانه فهو بريًا بنفسه أن يكون في هذا الموضع .. وإذن فليكن التوجيه إلي الوفد الذي كان فاتحًا ذراعيه لأصغر صغير من الإخوان فما بالك بالوكيل العام للإخوان . ونجح التدبير الأثيم ، وصارت " صوت الأمة " لسان حال الوفد تطالعنا كل صباح في صدرها بكلمات للأستاذ أحمد في الفخ ، وأن يتمكن الأعداد لا من الإيقاع به فحسب بل ومن إحراجه في كتابة يعلمون أنها تقطع عليه خط الرجعة . كان الأستاذ أحمد السكري أعز علي نفس الأستاذ المرشد من أن يراه مخطئًا فلا يقبل عثرته ،وأكرم عليه من أن يتركه مهما كثرت المآخذ عليه دون أن يأخذ بيده .. ولكن الشحنة التي شحنها الأستاذ أحمد أذهلته عن نفسه وغشت علي بصيرته حتى لم يعد يري أبعد من موطئ قدمه مع أنه ممن لا يغيب عن مثله أن هؤلاء الذين تلقوه في أحضانهم بضاعتهم الكذب وهدفهم الاستغلال ولا مكان في صفوفهم لرجل لم يعش منذ حداثته إلا في رحاب الدين والأخلاق .. فإذا استقبلوا مثله لا يلبثون بعد أن يستعملوه في أغراضهم أن ينبذوه نبذ النواة .
ولكن الأستاذ أحمد لم يدع للأستاذ المرشد فرصة يقبله فيها من عثرته بعد أن كتب ما كتب أو بالأحرى والأدق بعد استكتبوه ما أرادوا فأوغر بذلك صدور الإخوان نحوه في كل مكان وجدير أن أقرر أن الأستاذ المرشد كان شديد الحرص علي أن يحمي عرض الأستاذ أحمد فلم يكن حتى جلسة الهيئة التأسيسية التي أشرت إليها عقدت خصيصًا لمحاكمته يسمح بأن يعلم بالمآخذ التي أخذت عليه إلا أعضاء الهيئة ليس غير ، وكان الاتجاه المقرر أن لا يثير الأعضاء في بلادهم ما دار في الجلسة حول هذه المآخذ حتى تظل صدور الإخوان بعيدة عن الحرج نحو الأستاذ أحمد .. أما وفد أوغر الأستاذ أحمد بنفسه صدور الإخوان نحوه فلم يعد للأستاذ المرشد سبيل لإقامة من عثرة ولا لأخذ بيد .. ومن هنا كان حزن الأستاذ المرشد وأسفنا .. وكان ما توقعناه فقد استغل اسمه فترة ثم اختفي ، بدأوا بإبراز كلمته في صدر الجريدة ثم تقهقروا بها إلي داخلها ثم ألقوا بها في زاوية منها ثم لما رأوا أن لا أثرها ولا نتيجة قد تحققت منها عدلوا عنها .
مع الوفد وجها لوجه
ألممنا في صفحات سابقة بمناسبات قليلة ألقت بعض الضوء علي ما تصور كل من الهيئتين الوفد والإخوان كل منهما للأخرى ، ويتلخص هذا التصور في الصورتين الآتيتين :
الوفد يتصور الإخوان جماعة دينية بالمعني المبتور للدين الذي استقر في أذهان الناس من أنه " دروشة " وعلي رأس هذه الجماعة شاب طموح يريد أنم يستغل هذه الجماعة ليبرز حتى يصل إلي كرسي البرلمان ، وأن هذا الشاب من السهل علي الوفد احتواءه وإرضاء طموحه بصورة أو بأخرى . والإخوان يتصورون الوفد ثروة شعبية ضخمة اختلسها مؤسسه سعد زغلول وورثها من بعده مصطفي النحاس ، وكان ذلك كله قد تم في غفلة من صاحب هذه الثروة الأصيل وهو الدعوة الإسلامية .. وأنه مادام صاحب الثروة الأصيل قد استيقظ من غفلته وثاب إلي رشده فقد وجب أن يسترد ثروته .. والإخوان لا يرون اللجوء إلي القوة وسيلة هذا الاسترداد بل يرون انتهاج وسيلة سلمية ملخصها أن نعلن الدعوة الإسلامية عن نفسها ، وتثبت للشعب أصالتها ، وفي هذا الإعلان وحده ما يكفي لإثارة الحنين في قلوب الأبناء الذين اغتصبوا والذين طالت غربتهم للالتقاء بأبيهم والرجوع في حضن أمهم .
وعلي هذين التصورين سارت الهيئتان كل في سبيلها ، فالوفد لا يريد أن يري الإخوان أكبر من الصورة التي رسمنا إطارها ، والإخوان يعلمون الإطار الذي وضع الوفد صورتهم فيه ، وقد أسعدهم هذا التصور لأنه أباح لهم الفرصة العمل الدائب للاتصال بالجماهير وعرض دعوتهم عليها دون أن يتعرض لهم الوفد بالمعاكسة أو التعويق .. وظل ذلك سنوات اكتسبوا خلالها مكانة مكينة في قلوب كثرة غالية من الشعب . واستيقظ الوفد أخيرًا من غروره ، فرأي ثروته للدعاة والتي كان يتيه بها فخارًا قد تسرب أكثرها ، والتفت فوجد هذه الثروة المتسربة وقد اجتمعت عند الإخوان المسلمين ... فجن جنون الوفد لأنه قد أتي من مأمنه ، فهو لم يكن يحذر هذه الناحية التي كانت يراها أهون أن يعيرها اهتمامًا أو يوليها حذرًا .. فكيف استطاعت هذه الجماعة أن تسحب الأرض من تحت قدميه ؟! الوفد يعلن الحرب علي الإخوان :
لقد عاصرت الوفد منذ نشأتي وكنت علي مقربة من كبار رجاله ، ورأيت بنفسي كيف كان القصر وكيف كانت الأحزاب الأخرى تكيد الوفد وتفعل به وبأتباعه الأفاعيل فكانت تنكل بتابعيه كبارًا وصغارًا بل إنها حاولت اغتيال رئيسه .. ورأيت كيف كان الوفد يهاجم القصر ويهاجم الأحزاب في صحفه وفي خطب رئيسه وفي صفحاته ونواديه ... ولكني لم أر هجومًا كهجومه علي الإخوان المسلمين . لقد كان هجوم الوفد علي القصر وعلي الأحزاب ردًا لهجومهم عليه .. هم بأدنى إهانة أو اعتداء فلم إذن هجومه الضاري عليهم هجومًا لم يسبق له مثيل . لقد خلع العقار في هجومه علي الإخوان وتخل عن الأخلاق والآداب والمثل واندفع كالمجنون الذي فقد عقله .. ونسي أن له أعداء أذاقوه ألوان الهوان والإذلال ولازالوا يذيعونه .. ترك هؤلاء جانبا وتفرغ للإخوان يهاجمهم بكل ما يملك من وسائل ، فسخر لمهاجمتهم صحفه الجاد منها والهازل وألسنته سواء ألسنة الزعماء وألسنة الأتباع ، واستباح في ذلك الكذب والتمويه والزور والاختلاق ... ولم يقبل الإخوان هذا الهجوم الغادر بمثله بل تذرعوا بالصبر وواصلوا مسيرتهم في هدوء وكان الأستاذ المرشد يتمثل يقول الشاعر :
من كان يخلق ما يقول فحيلتي فيه الليلة
وقد سبق لي أن ذكرت أن بدء شعور الوفد بخطورة الإخوان عليه كان في تجربة حكومة إسماعيل صدقي حين قرر الوفد إسقاط هذه الحكومة إبان توليها الحكم وحشد كل قواته الشعبية ووسائله الإعلامية لذلك ولكنه عجز عن إسقاطها حين أعلن الإخوان تأييدهم لها .. وقد تولت هذه الوزارة الحكم في فبراير سنة 1946 .. ويعتبر هذا التاريخ هو الوقت الذي أخذ الوفد يراجع فيه خططه ويعدلها علي ضوء هذه المفاجأة التي أذهلته وطارت بصوابه وقد اتخذ تعديلها الأسلوب الآتي :
أقدمت زعامة الوفد أعضاءه بأن خطورة الإخوان المسلمين عليه تفوق خطورة كل أعدائه لأنها تنازعه الزعامة الشعبية نفسها التي هي رأس ماله .. وإذن فلابد من حشد كل الوسائل المتاحة للوفد ضد الإخوان المسلمين .. وهذه الوسائل نوعان : نوع تقوم به فروع الوفد في أنحاء البلاد ضد شعب الإخوان بها من التحرش بهذه الشعب وتوجيه السباب والألفاظ النابية إلي أعضائها وإثارتهم بمختلف وسائل الإثارة ومحاولة جرهم إلي معارك وقد قدمت فروع كثيرة من فروع الوفد بهذه المهمة في مختلف البلاد ولكن تعليمات الأستاذ المرشد كانت عاصمة لهذه الشعب من الاستجابة لهذه المحاولات حيث اعتصموا بالصبر – وهم قادرون علي المواجهة والتأديب – ففوتوا علي هذه الفروع تحقيق ما كانوا يأملون .. ولم تنجح هذه المحاولات إلا في جهة واحدة هي بورسعيد حيث دبر فرع الوفد بها هجومًا مباغتًا علي الإخوان في دارهم فكان لزامًا علي الإخوان أن يدفعوا عن أنفسهم فأدي إلي إصابات في الجانبين في دارهم فكان لزامًا علي الإخوان أن يدافعوا عن أنفسهم فأدي ذلك إلي إصابات في الجانبين تولت النيابة تحقيقها وقدمتها إلي القضاء .. ومع ذلك فقد ذهب الأستاذ المرشد بنفسه إلي بورسعيد واجتمع بأهل بورسعيد من الجانبين وشرح لهم موقف الإخوان وأن دعوتهم تجمع ولا تفرق وأنهم وقد اعتدي عليهم فهم في سبيل جمع القلوب وتصفية النفوس وتوحيد كلمة الأمة قد تسامحوا في حقهم .. أما في الجامعة فقد حاول الطلبة الوفديون التحرش بالطلبة الإخوان فقمعهم الإخوان بوسيلة أفحسبتم حين احتكم الطرفان إلي عامة الطلبة إذ دعا ممثلو الوفد إلي الإضراب ثلاثة أيام ودعا ممثلو الإخوان إلي الإضراب يومًا واحدًا فاستجاب الطلبة إلي رأي الإخوان ورفضوا الرأي الآخر ، كما قام الوفديون بمحاولات أخري في الجامعة باءت كلها بالفشل .
والنوع الآخر من الوسائل تقوم به الصحافة الوفدية التي كانت تمثلها في ذلك الوفد صحيفة " المصري " التي كان يصدرها الأستاذ محمود أبو الفتح وأخواه الأستاذان حسين أبو الفتح وأحمد أبو الفتح ومع أن هذه الجريدة كانت جريدة حزبية تمثل حزب الوفد وتطلع كل يوم علي الناس بآرائه المعارضة للحكومات المختلفة ومع أنها كانت تفيض أنهارها في كل عدد منها بالمقالات الضافية المؤيدة للوفد فإنها كانت تفيض أيضًا بروح الجد ونزاهة القلم وعفة اللسان .. ولذا فإنها كانت أوسع الضعف اليومية انتشارًا وأكثرها قراء وأقواها تحريرًا وأغزوها مادة وحيوية .. وأرادت زعامة الوفد صحيفتها هذه المعبرة عن آرائها أن تفسح من صفحاتها للحملة التي يعدها الوفد علي الإخوان المسلمين ولكن الأستاذ محمود أبو الفتح وأخواه عارضوا في ذلك وربئوا بجريدتهم أن تلطخ صفحاتها بالبذاءة والكذب والاختلاق .. فعدت زعامة الوفد ذلك تمردًا من آل أبي الفتح وقررت أن تصدر صحفاً أخري يكون أصحابها الممثلين الرسميين للوفد حتى لا تتمرد علي نشر ما يقرر الوفد نشره فأصدرت صحيفتين يوميتين هما " الوفد المصري " و " صوت الأمة " وقد تقدم بطلب الترخيص بإصدار الجريدة الأخيرة (صوت الأمة) إلي وزارة الداخلية الأستاذ محمد صبري أبو علم باشا السكرتير العام للوفد شخصيًا لما يعقده الوفد علي هذه الجريدة من آمال كبار وحشد لتحريرها مجموعة من أعظم الكتاب وأشهرهم منهم الدكتور طه حسين والدكتور محمود عزمي والدكتور عزيز فهمي والأستاذ محمد عبد القادر حمزة ، وصدر العدد الأول منها في أول أغسطس سنة 1946 . وقد يكون من الأحداث الهامة ذات الدلالة ، وصدر العدد الأول من جريدة الإخوان اليومية قد صدر في مايو سنة 1946 .
وقامت جريدة " صوت الأمة " بالمهمة الملقاة علي عاتقها نحو الإخوان في أول الأمر يجدر ودون إسفاف ، ولعل الوفد كان يتربص بالإخوان موقفًا حرجًا مما يعتري الدعوات فيكون هجومه المركز في هذه الحالة إجهازًا علي الإخوان كما يجهز العدو الضعيف الغادر علي جريح .. فلما اعتري " الإخوان " هذا الموقف الذي كان يترقبه وكان من صنع القصر وأحزابه رآها الوفد الفرصة السانحة لتوجيه هجومه إذ يكون الإخوان قد حصروا بين نارين . لما بدأ الوفد يشم رائحة الفتنة الثالثة بين صفوف الإخوان أخذ يعد العدة لإذكاء نار حملته علي الإخوان وإمدادها بوقود جديد من البذاءات والسفاهات وهجر القول . وراح ينحط بها في هذا الحضيض مستمدًا من خيوط الفتنة وقائع اختلقها اختلاقاً .. وأخذت " صوت الأمة " تخرج علينا كل صباح بسيل من الشتائم والسباب وألفاظ يعاف القلم أن يثير إليها تحت عنوان أوحي إليهم به ما يحتمل في صدورهم من حقد هو " هذه الجماعة تهوي " ويبدلونه في بعض الأيام بالعنوان " هذه الجماعة تسقط " .
وقد استخدمت " صوت الأمة " إخواننا الذين أشرنا إليهم قبلا والذين صنعوا الفتنة الثالثة ورتعوا فيها ، استخدمتهم بعض الوقت حتى إذا استنفدوا أغراضهم ألقوا بهم في سلة المهملات وبدأوا في أسلوب جديد من أساليب الافتراء بنشر قوائم طويلة بأسماء أعضاء من مختلف البلاد استقالوا من الإخوان وكان هذا برهانًا جديدًا علي كذب ما تنشر هذه الجريدة فكل بلد من هذه البلاد التي نشرت أسماء المستقبلين منه يعرف أن هذه الأسماء لم تكن في يوم من الأيام أعضاء في الإخوان وإنما هم من الوفديين . وقد يظن القارئ تعبيراتي عن بذاءة ما كانت تنشر " صوت الأمة " بعض المبالغة ، ولكن أعداد هذه الجريدة مازالت تحتفظ بها المكتبات العامة في القاهرة والإسكندرية وبعض العواصم فليرجع إليها من شاء .. وأنا ذا شخصيًا – وقد كنت ملامسًا للأحداث وأعرف الناس بكذب ما تنشره الجريدة – قرأت ما نشرته " صوت الأمة " في صبيحة أحد الأيام وكان بأسلوب تعف العاهرات عن النطق به فأثارني حتى إنني ذهبت إلي الأستاذ المرشد وسألته منفعلا : هل قرأت ما كتبته " صوت الأمة " اليوم ؟ فأجابني مبتسما : نعم قرأته إنها ليست " صوت الأمة " إنها " صوت آلامه " وكان الأستاذ المرشد يشير بذلك إلي ما يشتعل في صدور هؤلاء الناس من الحقد وما يتميز به جحيم حقدهم من الغيظ لفداحة ما ألحقه الإخوان بهم من خسائر شعبية تعويضها . علي أن سفه هذه الجريدة وإسقاطها لم تسلم منه جريدة " المصري " وهي لسان حال الوفد والتي لولاها لما وصلت آراء الوفد وتوجيهاته إلي الشعب فهي وحدها من جرائده التي تصل كل صباح إلي كل بيت وإلي كل يد أما جرائده الأخرى فهي محدودة الانتشار ، ومع ذلك فإن " صوت الأمة " في نفس الوقت الذي كانت تهاجم فيه الإخوان كانت تهاجم " جريدة المصري " فتقول في عددها الصادر في 12-5-1947 تحت عنوان " جريدة المصري وأخبار اليوم إخوان " : ليس عجيبًا أن تمضي جريدة " المصري مع سنن " أخبار اليوم " في محاولة إلصاق كل اتهام إلي الوفديين خدمة للحكومة وللعهد الحاضر ، لأن الجريدتين شركة واحدة وأغراض واحدة ... ولا يغرن القارئ محاولة هذه الجريدة الإبهام بأنها وفدية " معتدلة " فذلك زعم واضح الكذب ومنهار من تلقاء نفسه وإن كان أصحابه يتعلقون بأهدابه لأن لهم فيه مآرب أخري .
- نماذج من عفة الإخوان في الرد علي الحملة :
ما كان لنا حين نعرض نماذج من رد الإخوان علي هذه الحملة أن نسمح لأنفسنا بأن نورد نصوصًا من فحش القول الذي لطخوا به صحيفتهم .. علي أن ما كتبه الإخوان في هذا العدد لم يكن ردًا علي سفههم وإنما هي كتابة موضوعية بعيدة كل البعد عن أساليبهم .
(1) بعد عدة أشهر من بدء الحملة الوفدية الأثيمة وفي أوائل شهر مايو سنة 1947 كتب الأستاذ المرشد خطابًا إلي النحاس باشا حزب الوفد سلمه إليه الأستاذ عبده قاسم السكرتير العام للإخوان في ذلك الوقت جاءت فيه الفقرات الآتية :
- " إن الوفد يعلن خصومته للإخوان ويحاربهم بأسلحة وأساليب غريبة عجيبة لا تتفق مع خلق أو دين أو مصلحة ... وصحفه تفيض أنهارها بألفاظ جافية تشمئز لها كل نفس مهذبة " .
- " إن الوفديين لا يزالون يفكرون بعقلية سنة 1920 فيقولون : إن الأمة هي الوفد والوفد هو الأمة وإن الشعب قد منحه توكيلا لا نقض فيه ولا إبرام ، ويسقطون من حسابهم ربع قرن في حياة هذا الوطن ، تبدلت فيه الأرض غير الأرض وتغيرت النفوس .. وانتقل إلي الدار الآخرة أكثر الوكلاء والموكلين علي السواء .. وهذا التفكير تختلف عن ركب الحياة .. وعلي هذا الأساس يحارب الوفد الإخوان كما حارب الشبان وكثيرًا من الجماعات " .
- " إن الوفد في أيامه الأخيرة قد تحققت صفوفه طوائف وأفواج من ذوي والآراء الخطرة والمبادئ الهدامة الذين لا يدينون بغير الشيوعية .
- " وهل ترون أن الوفد قد أدي واجبه بهذا الموقف السلبي الذي يقفه في هذه الساعات العصيبة في تاريخ الوطن مع أنه كان ولا يزال في وسعه أن يعمل الكثير لو أراد . وأية فائدة تعود علي الشعب من مهاجمة صدقي باشا في سهوم جيا توتي وشغل الناس بهذا الهراء أو من مهاجمة حافظ رمضان باشا بغير الحق وهو الرجل العف اليد واللسان ... إنه في استطاعته أن يرسل الوفود إلي عواصم الدول الأجنبية وإلي مقر هيئة الأمم المتحدة تناضل عن حق مصر " .
(2) وعقب هذا الخطاب أخذت جريدة الإخوان اليومية تنشر سلسلة من المقالات تحت عنوان " بطلان التوكيل " تأتي فيها بحيثيات كثيرة تثبت أن التوكيل الذي منحته الأمة المصرية للوفد المصري سنة 1918 قد أصبح باطلا بطلانا أكيدًا .
(3) وفي أواخر شهر يونيه سنة 1947 نشرت جريدة الإخوان اليومية مقالا للأستاذ المرشد جاء فيه : " والخصومة بيننا وبين القوم أي الوفديين ليست خصومة شخصية أبدًا ، ولكنها خصومة فكرة ونظام . هم يريدون لهذه الأمة نظامًا اجتماعيًا ممسوخاً من تقليد الغرب في الحكم والسياسة ونحن نريد لها وضعًا ربانيًا سليما من تعاليم الإسلام " .
- من آثار هاتين الفتنتين :
لم تكن خسائر الإخوان في هاتين الفتنتين ذات بال ، فإن فقد الأستاذ حسين عبد الرازق واثنين أو ثلاثة من أمثاله وخروج الأستاذ أحمد السكري لم ينل منن بناء الإخوان أي منال ، بل أستطيع أن أقرر أن خروج هؤلاء وحملة الوفد بعد تآمر الأحزاب الأخرى قد أبرز الإخوان أمام الرأي العام الداخلي والخارجي لأول مرة بناء شامخًا له معني الاستقلال فلا هو شرقي ولا هو غربي .. وكل الذين يتهمون الإخوان بأنهم يعملون لحساب أحزاب القصر ، وكل الذين كانوا يتهمونهم بأنهم يعملون لحساب الوفد أسقط في أيديهم ورأوا أنهم قد ضلوا ، واعترف الأعداء قبل الأحباء بأن الإخوان المسلمين دعوة مستقلة . كما أن الجميع بعد أن رأوا ثبات الإخوان في مواقعهم دون أن تؤثر فيهم حرب الوفد المستمرة المسعورة ... مع أن في يد الوفد أسلحة ماضية يستطيع القضاء بها علي خصومه حين يوجه إليهم بعضها وأن يقضي عليهم بين عشية وضحاها .. ولكنه مع الإخوان لم يدخر سلاحًا إلا شهره أقر الجميع بعد ذلك أن الإخوان بناء منبع لا ينال بل إنهم القوة العظمى علي أرض مصر والبلاد العربية .
أما الإخوان أنفسهم فإنهم قد ازدادوا إيمانًا مع إيمانهم بأن الاعتصام بحبل الله هو السلاح الذي لا يفل ، فازدادوا استمساكا بدعوتهم ، وثقة في قيادتهم ومحبة فيما بينهم .. وأيقنوا أن لهذه الدعوة حقاً علي معتنقها أن يهبها كل نفسه ويحضر فيها كل آماله ويؤثرها علي أهله وماله وعشيرته وإلا كان ممن يعبد الله علي حرف فإن أصابه خير اطمأن به وإن أصابته فتنة انقلب علي وجهه ، فوهبوا دعوتهم كل نفوسهم وآثروها علي أهلهم وذويهم وقد اتضح صدق إيمانهم يوم دعاهم داعي الجهاد إلي فلسطين .
- مدي كراهية الملك للإخوان :
أثبتت هاتان الفتنتان بما لا يدع مجالا للشك أن جوانح الملك فاروق تنطوي علي كراهية عميقة وحقد دفين علي الإخوان المسلمين . وأن كراهيته لهم فاقت كل تصور ، فهو يكره الوفد كراهية ورثها عن أبيه ، وكان المعتقد أن كراهيته للوفد تفوق كل كراهية . فلما وقعت هذه الفتنة تبين أن كراهيته للإخوان تفوق كراهيته للوفد ، فلعله كان الموعز إلي آل عبد الرازق بسحب ابنهم من الإخوان ولعله كان الموعز إليهم بالوسامة إلي أحمد السكري لينقلب علي الإخوان .. ومع ذلك فقد رضي عن التجائه إلي الوفد مع أن التجاءه إلي الوفد فيه تعزيز للوفد .. وقد طابت نفسه أن يعزز الوفد مادام هذا التعزيز يرجي أن ينال من قوة الإخوان .
الشيوعية
لم أكن أجهل وجود تيار شيوعي في مصر . وباعتباري من دعاة الفكرة الإسلامية ، كنت أدرس الشيوعية باعتبارها فكرة اقتصادية واجتماعية وسياسية وأدرس أهدافها ووسائلها ومراميها . وكانت لي تجربة قديمة في أوائل الأربعينيات مع شابين جمعني بهما قطار الدلتا وسط مجاهل محافظة البحيرة ، وكانا فيما يبدو لي من مظهرهما أنهما موظفان صغيران في وزارة الزراعة أو في دائرة زراعية ، وكان باديًا في بريق أعينهما حينما جمعهما ديوان القطار بي أنهما سعيدان إذ أتاحت الظروف لهما فرصة الحصول علي صيد سمين .. وأخذا ينصبان شباكهما حولي وأنا أتغافل حتى ينكشف لي ما يهدفان إليه فلما تكشف لي أنهما شيوعيان – وكنت خبيرًا بأسلوب الشيوعيين في المناقشة – التفت إليهما وطلبت إليهما أن يشرحا لي كل ما يعرفان عن الشيوعية من مزايا وتعهدت لهما بأن لا أقاطعهما طالما كانا يعرضان علي ما عندهما .. علي أن لا يعترضاني بأي مقاطعة طالما جاء دوري في عرض ما عندي عليهما – وهذا الأسلوب الذي اشترطته لإجراء المناقشة هو الأسلوب الوحيد الذي لا يدع الشيوعي مجالا لتمييع المناقشة وتشعبها إذا ما وجد أن من يناقشه أقوي منه حجة – وبعد أن فرغا من عرض ما عندهما أخذت في شرح الفكرة الإسلامية لهما بطريقة التقسيم إلي بنود يتناول كل بند منها ناحية من نواحي الحياة وطريقة معالجة الشيوعية لها ثم طريقة معالجة الإسلام لها ثم أوازن بين العلاجين مثبتًا نواحي النقص في العلاج الشيوعي وكيف تلافي العلاج الإسلامي هذا النقص فإذا أنهيت البند أخذت إقرارًا منهما بتفوق العلاج الإسلامي .
حتى أنهيت البنود كلها وأخذت إقرارًا منهما بتفوق العلاج الإسلامي عليها جميعًا ، طلبت منهما إقرار بتفوق الفكرة الإسلامية علي الفكرة الشيوعية في إصلاح المجتمع فأقرا بذلك .... فلما طلبت إليهما بمقتضب هذا الإقرار أن يتركا الشيوعية إلي الإسلام رفضا ، فتعجبت لهذا الرفض الذي ينافي العقل والمنطق وسألتهما عن سبب الرفض مع أنهما سلما بتفوق الفكرة الإسلامية فردا علي ردًا كأنما أنفذا خنجرًا في صدري قالا :
إن الفكرة الإسلامية أكمل وأتم فكرة للإصلاح ولي لها دولة تحميها ، ولكن الفكرة الشيوعية علي نقصها لها دولة تحميها . كانت هذه إحدى تجاربي مع الشيوعيين رأيت إثباتها لما فيها من دلالات ، كما كان للإخوان تجارب كثيرة في هذا الميدان بل وضع الإخوان مؤلفات تناولوا فيها الشيوعية من مختلف وجوهها وقابلوها بالفكرة الإسلامية الرصينة . كنت أعرف كل هذا من الشيوعية وأعرف أكثر منه ، وكنت أري في معاناة الطبقات الفقيرة في بلادنا مرتعًا خصيبًا للشيوعية ، ولذا كانت دعوة الإخوان تحتضن كل تجمع عمالي صناعي أو زراعي ضد مستغليهم من أصحاب المصانع وملاك الأراضي ، وكانت شعب الإخوان في المناطق الصناعية كشبرا الخيمة والإسكندرية . وفي المناطق الزراعية ككفر الشيخ موئلا لنقابات العمال والعمال الزراعيين في الوسايا ، وكان محامو الإخوان سندًا دائمًا لهذه التجمعات العمالية ضد أصحاب العمل وملاك الأراضي وكان في المركز العام قسم خاص للعمال لرعاية مصالحهم وحل مشاكلهم ونشر الوعي الإسلامي في أوساطهم .
لم يكن الإخوان غافلين عن الشيوعية باعتبارها فكرة تريد أن تغزو بلادنا – والفكرة لا يقهرها إلا فكرة – فلم تكن وسيلة الإخوان إلي قهر الشيوعية أن يتعرضوا لها بالنيل منها وتسفيه أهدافها بل كانت وسيلتهم التي رسمها الأستاذ المرشد هي توضيح الفكرة الإسلامية ونشرها علي أوسع نطاق ، ففي نشر الفكرة الإسلامية في مجموعة من الناس في مكان ما تحصين لهذه المجموعة ولهذا المكان ذد أي غزو يراد سواء أكان الغزو المراد شيوعيا أو غير شيوعي . كان الأستاذ المرشد يري أن الوقت الذي نضيعه في مهاجمة فكرة كالشيوعية نحن أحوج إليه لنشر فكرتنا وتوضيح معالمها وأهدافها .. حتى الكتب التي ألفها بعض الإخوان من الشيوعية لم يكن المقصود منها أكثر من تفقيه الإخوان في الأفكار التي يضطرب بها العالم من حولهم .
ومع أن الإخوان لم يتعرضوا للشيوعية تعرضًا مباشرًا مما يعده الناس مقاومة إيجابية ، فإن الشيوعية العالمية كانت تعد الإخوان المسلمين أن أعدائها وأكبر عائق في طريقها ، في حين كان حكامنا البلهاء يعتقدون أنهم بقوانينهم التي اعتبرت الشيوعية جريمة يطالب مرتكبها بالسجن والنفي هم العائق الأكبر أمام الشيوعية ، ولكم استغلت الشيوعية بلاهة الحكام واتخذت من هذه القوانين التي سنوها والقضايا التي نشأت عنها أسلوبًا قويًا من أساليب ترويج فكرتها والدعاية لها ولفت النظر إليها واستجلاب العطف عليها باعتبارها فكرة مضطهدة ومجنيا عليها . وكم كسبت الشيوعية أنصارًا عن هذا الطريق ، وهؤلاء الذين عطفوا علي الشيوعية واستجابوا لها يلتمس لهم العذر لأنهم رأوا فكرة تضطهد دون يروا فكرة بديلة يعرضها عليهم هؤلاء الحكام .. وهكذا فقد الشعب نفسه بين دعاة يحملون فكرة – أيا كانت هذه الفكرة – وبين حكام يعيشون دون أن يكون لهم مبدأ محدد ولا فكرة في الحياة وكل بضاعتهم البطش والتنكيل . ولقد كنت من أشد الناس اقتناعًا بخطة الأستاذ المرشد في مقاومة الفكر الهدامة بإغفال ذكرها وعدم التعرض لها أو الهجوم عليها ، واستغلال كل الوقت والجهد في توضيح فكرتنا ونشرها علي أوسع نطاق ، كما كنت أعرف أن الشيوعية العالمية تتميز غيظًا من هذا السلاح الإخواني الرهيب ، وأعرف أننا بهذا السلاح – الذي يبدو البلهاء سلبيًا – قد أغلقنا أمامها مئات البلاد وآلاف المجتمعات في مصر وفي غيرها من البلاد العربية .
ومن المعروف أن الولايات المتحدة الأمريكية التي تولت زمام العالم الغربي بعد الحرب العالمية الثانية قد رصدت آلاف الملايين من الدولارات لمقاومة الشيوعية في أوروبا وفي أنحاء العالم ، واتضح بذلك أن الشيوعية قد صارت منذ وضعت الحرب أوزارها أعدي أعداء أمريكا وانجلترا والعالم الغربي كله ... وتمشيا مع هذه الحقيقة كان يجب أن تبارك هذه الدول جهود الإخوان المسلمين التي قضت علي آمال الشيوعيين في أن يجدوا لهم موطن قدم في مصر . ولكن يبدو أن هناك عدوًا تعتبره هذه الدول أحق بمعاداتها من الشيوعية ، وأن هذا العدو هو الإسلام والدعوة الإسلامية .. ولا أدري لم تقف هذه الدول من الإسلام هذا الموقف مع ادعائها أنها تعمل من أجل خير البشرية جميعًا ومن أجل المحافظة علي حقوق الإنسان .. وهذه هي نفسها الأهداف التي يعمل الإسلام لتحقيقها .. فلم إذن العداء إلا أن تكون هذه الدول تغرر بالشعوب حين تدعي أهدافاً تعمل في حقيقة الأمر علي عكسها .
والجديد الذي لم أكن أعرفه عن الشيوعية والذي كان مفاجأة لي هو أن الشيوعية تستبيح لنفسها أن تستغفل الناس ما استطاعت إلي ذلك سبيلا ، وأنها تستغفل جهلهم بمجريات الأحداث استغلالا قدرًا وأنها في سبيل ذلك تستعين بالكذب وتلجأ إلي الاختلاق .. إنني أفهم أن تلجأ الشيوعية إلي الكذب فتدعي وتعلن أنها ليست ضد أماني الشعوب في الحرية والاستقلال وإدارة شئونها بنفسها في الوقت الذي تسلب شعبها نفسه في روسيا حريته وتحرمه أدنى حقوق الإنسان في اختيار عقيدته ودينه ، فإنها أي الشيوعية تستطيع أن تموه علي هذا الاعتداء علي الحرية بألوان خادعة من المظاهر الدعائية التي قد تخدع بعض الناس .. ولكن الكذب علي الحقائق المسجلة في الأوراق الرسمية والأرقام المعلنة فإنه كذب قد تخطي حدود الكذب إلي ما يسمي بالفجور . تأسست شركتا الجريدة والطباعة للإخوان المسلمين وسجلنا في الإدارة المختصة بالحكومة المصرية باعتبارهما شركتين مساهمتين ، ولم يتعد مجموع رأس مالهما معا مائة ألف جنيه .. وقررت الهيئة التأسيسية – كما قدمنا – أن يستقيل الأستاذ المرشد من وظيفته في وزارة المعارف العمومية ليتفرغ لإدارة الشركتين وتحرير الجريدة اليومية ، لقاء مرتب شهري قدره مائة جنيه ، ومنحته الهيئة التأسيسية أسهمًا في حدود مائة سهم قيمتها أربعمائة جنيه ليكون ضمن هيئة المؤسسين كما يطلب القانون .
ولم يكن للأستاذ المرشد إيراد قط غير مرتبه من الوزارة من قبل ثم مرتبه من الشركتين من بعد وهذه الأسهم المائة الاسمية .. ورجل مثله له بيت وأسرة وأولاد وظل ينفق علي دعوته من مرتبه منذ أول يوم قام بالدعوة فهل يبق له مدخرات يدخرها ؟ لقد كان بيته حتى آخر لحظة في حياته شقة في الدور الأرضي من أربع حجرات في بيت قديم في شارع خلف المركز العام القديم في الحلمية الجديدة ، ولم يكن به من الأثاث إلا ما أبقت عليه يد البلى بعد عشرين عامًا من أثاث مدرس في مستوي زملائه .. فإذا علمت أنه كان من أبر الناس بأهله وأنه كان يبر أبويه الشيخين فأي مدخر من مال يدخره مثله ؟ .
في أواخر الأربعينيات – بعد أن أصدرت حكومة السعديين قرار حل الإخوان بأيام – كنت أؤدي عملي في أحد محالج القطن في دمنهور ، وكانت لي صلات طيبة بكل العاملين في المحلج ، وكان لأحد العاملين بالمحلج من أهل دمنهور ولد فيه كثير من السذاجة وكان يعمل بالمحلج أيضًا .. وكدأب كثير من العاملين فيما يعن لهم جاءني هذا الشاب الساذج وقال لي : يا فلان .. لقد انضممت إلي الشيوعيين فقلت له متى ؟ قال : منذ أسبوعين في خلية – سمي لي زملاءه فيها كما سمي لي رئيسها ولم أكن أعرفهم – وقال لي : لقد وزعوا علي كل منا في الاجتماع الأخير ورقة مكتوب فيها معلومات وأرقام وطلبوا منا حفظ – استظهار – هذه المعلومات والأرقام وأنا غير قادر علي حفظها وسيقومون بتسميعها لنا في الاجتماع القادم فما رأيك هل أتركهم لأنني لم أكن أتوقع أن يمتحنونا وقد تركت المدرسة كما تعلم لأنني أكره الامتحانات .. فطلبت منه الورقة فأعطينها فقرأت فيها ما أذهلني :
قرأت فيها أن حسن البنا هو أكبر رأسمالي في مصر وأنه يملك أسهما قيمتها ربع مليون جنيه (بالأرقام والحروف) في شركة الجريدة ، وربع مليون جنيه في شركة الطباعة ونصف مليون جنيه في شركة كتبوا اسمها ولكنني لم أسمع عنها من قبل .. وهكذا أنصاف ملايين وأرباع ملايين في شركات لا وجود لها حتى صار مجموع ما يملكه أكثر من مليونين ونصف مليون جنيه . وأذكر حينذاك أنني أطلعت صديقاً لي بالمحلج كان يحسن الظن بالشيوعية علي هذه الورقة فتعجب من جرأة هؤلاء الناس افترضوا الجهل والغباء في غيرهم فذهبوا في الاختلاق إلي هذا الحد ، وقال : إنني كنت أعتقد قبل قراءة هذه الأرقام وهذه الأسماء للشركات الوهمية أن الشيوعيين قوم جادون ولكنني الآن أصبحت أراهم قومًا هازلين . وقد أيقنت بعد قراءة هذه الورقة أن هناك تواطؤًا بين الغرب والشرق أي بين الرأسمالية والشيوعية علي إبادة هذه الدعوة الإسلامية من الوجود .. أما الغرب فأدواته هم حكامنا وأما الشيوعية فإنها تفترس الشباب الغافل خالي الذهن في غيبة الحقائق عنه وفي ظل حكم إرهابي كسم أفواه البرءاء ليطلق رعاع الشيوعيين عليهم ألسنة حدادًَا وألسنة كذابًا آمنين من أن يعترض طريقهم من يستطيعون أن يفضحوا كذبهم ويدحضوا افتراءاتهم .
المحاكمات والتعذيب
في الوقت الذي كانت قيادات المصريين المتمثلة في الأحزاب السياسية لاهية في لعبة التسلق إلي دست الحكم عن طريق التقرب إلي المستعمر كان شباب الإخوان المسلمين ساهرًا أرقًا تتمزق نفسه ألمًا وحسرة علي ما آلت إليه حال البلاد من فوضي خلقية وانحلال اجتماعي وذل سياسي . يتلمسون طريقاً لإنقاذ البلاد وتخليصها من هذا الدمار الحائق بها ، وكلما اهتدوا إلي طريق وجدوه بعد قليل مسدودًا ، والذي يسده هو تضامن من الملك ومحترفي السياسة مع المستعمر تضامن الخادم المطيع لسيده ، كل همه أن يري سيده راضيًا عنه ، فهو لا يبالي ما يفعل مادام ذلك يرضي السيد . وإذا سدت الطرق المعدة للوصول وأغلقت الأبواب فلا مناص من التماس منافذ أخري مهما أحاط بها الخطر .. لقد كان هذا الشباب الطاهر – الذي وهب نفسه لبلاده – يري بلاده بيتًا تشتعل النار داخله وقد أغلقت أبوابه ووقف علي كل باب حراس يذودون الناس عنها ، كلما حاولت مجموعة منهم دخول البيت من باب من أبوابه لإطفاء الحريق وإنقاذ سكان البيت حال هؤلاء الحراس بينهم وبين الدخول ... فهل أمام هذه المجموعات من ذوي المروءة والنجدة إلا اقتحام البيت بأية وسيلة يستطيعونها ؟ ...
كان هذا شعور شباب الإخوان وكان هذا حالهم ؛ وجدوا أنفسهم أمام أمرين أحدهما مر ؛ إما أن يسلموا بالأمر الواقع وقد يئسوا من دخول البيت من أبوابه فيسكنوا مع الساكنين وهم يرون النار تلتهم البيت من داخله مؤثرين السلامة غير عابثين بأهليهم الذين في داخل البيت ، وإما يخاطروا باقتحام البيت من منافذه الأخرى . كانت الفكرة المسيطرة علي هذا الشباب هي أنهم لابد من أن يقوموا بعمل ما مهما كانت خطورة عواقبه لفصم عري التضامن الأثيم بين حكام مصر وبين المستعمر ، لأن كل الشرور التي تحيق بالبلاد لا تأتي إلا من هذا التضامن ... فالمستعمر أجبن من أن يواجه البلاد سافرًا وجهًا لوجه ؛ أما يتضامن هؤلاء الحكام معه فإنه يستطيع أن يفعل بأيديهم ما يشاء .. وإذن فإن فصم هذه العري بينهم وبينه هو وسيلة التخلص منه .. ولكي يشعروا هذا التحالف الأثيم أن هذا الشهب لم يعد لقمة سائغة في حلوقهم ، لابد من أن يقضوا مضاجعهم ويبثوا الفزع في نفوسهم ويثيروا الجوي من حولهم .
أعد الشباب الإخواني العدة لهذه الخطة المجازفة وهو يعلم ما ينتظره من جرائها من مطاردة وتنكيل ولكن لابد من تنغيص الحياة علي هؤلاء المتواطئين ... وإذا كان الشعب المسكين لا يزال يغط في نومه فليتقدموا هم لإيقافه ... والشعوب المغلوبة علي أمرها لا تستيقظ ولا تنتفض إلا إذا تقدمت فئة من أبنائها لمواجهة الظالمين حتى ولو راحت هذه الفئة ضحية مواجهتهم . وإذا كنا قد تكلمنا في الفصول السابقة عن قضية فلسطين باعتبارها النكبة الثانية في التاريخ الإسلامي بعد نكبة الأندلس فإن العنصر الذي اعتمد عليه الاستعمار العالمي في تأجيج نار هذه النكبة حتى أرسيت علي ما أرسيت عليه من تدمير أهل هذه البلاد هذا العنصر هو نفسه الذي كان حليف الإنجليز في مصر وعقلهم المدبر للمؤامرات ضد أهلها ، ولذا ملكه الإنجليز مرافق البلاد وأعصاب اقتصادها ، كان هذا العنصر اليهودي اليد اليمني للمستعمر في مصر فما من مؤسسة تجارية ذات شأن إلا وهي ملك اليهود وما من مرفق من المرافق في أبرز موقع في القاهرة إلا وهو ملك لليهود . وكان أكثر هؤلاء اليهود من ذوي جنسية مصرية يحسبهم الجاهل مصريين بالتجنس ، وكانت هذه إحدى الحيل التي لجأ إليها اليهود لتسهيل مهمة المستعمرين في استغلال الشعب المصري ونهبه وإذلاله .
ورأي شباب الإخوان أن تقليم أظافر المستعمر الغاصب ، إنما يتم بتأديب أذنابه وبث الذعر في نفوسهم سواء في مصر وفي فلسطين . ومن هذا المنطلق الوطني النبيل كانت أعمال بطولية رائعة – فغر المستعمرون أفواههم لجرأتها وشجاعتها – قوضت صرح الأمن الذي أقامه حكام مصر للمستعمر ينعم فيه ويستمتع ؛ فبدأ لأول مرة يحس بحرج موقفه وبمخاطر تكتنفه من كل جانب ، وبأن هؤلاء الحكام لم يعودوا الجدار المتين الذي يستند إليه . ومهما قيل ومهما حدث بعد ذلك ، فإن أحدًا لا يستطيع أن ينكر أو يماري في أن العالم العربي قد استيقظ من سباته علي دوي هذه الضربات ، وأن كل ما تذرع به المستعمرون بعد ذلك من وسائل الضغط والتآمر والإرهاب لم تستطع أن تعيده إلي الزنزانة التي كانوا يسجنونه فيها .. وبدأ عهد جديد من المواجهة بين هذا العالم العربي المنهوب خيره المسلوبة حريته وبين غاصبيه حتى تخلص منهم سواء منهم الغرباء ومن كانوا من بني جلدته . أما ما يستحق التسجيل بالخزي والعار فهو موقف الحكومة المصرية ، حكومة الأحزاب المصطنعة من خدام القصر وسدنة نزواته ، فإنها من هذه الأحداث البطولية الرائعة وسيلة للتشهير بالإخوان .. ولا أقول إنها جندت الصحف ؛ فإن الصحف كانت مجندة نفسها لخدمة المستعمر الذي كانت تنعم في فيض من إغداقه .. وحسبك أن تعلم أن أكثر الصحف المصرية إن لم تكن كلها كانت واقعة في مجال النفوذ المسيطر لشركة الإعلانات الشرقية التي سبق أن كشفنا الستار المزيف الذي كانت تستتر خلفه من اسمها الخداع .
وقد قصدت الحكومة الصنيعة من وراء هذا التشهير أن تهيئ نفوس الرأي العام لتقبل ذلك كله ، ثم قدمت عددًا كبيرًا منهم آخر الأمر إلي القضاء ... فلم يجد هذا الشباب الإنصاف إلا في آخر المطاف حين قدم إلي القضاء الذي كان لا يزال بخير . وإحقاقًا للحق ، ووفاء بحق التاريخ ، واستجابة لقول الله عز وجل " يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو علي أنفسكم أو للوالدين والأقربين " تقرر أن هذا الشباب الذي أنجز هذه الأعمال البطولية الرائعة كانت منة سقطة انحرفت ببعض أفراده عن الطريق وخرجت بهم عن الجادة التي حددتها قيادة الدعوة فاتخذوا من تلقاء أنفسهم عملا ضد أحد رجال القضاء ، فأعلنت قيادة الدعوة تبرئها منهم ... وسنفرد إن شاء الله الصفحات القادمة للحديث بإفاضة عن هذا العمل وما أحاط به من ملابسات وظروف وما تمخض عنه من نتائج .. كما تتناول الأعمال البطولية التي أشرنا إليها هنا بالإفاضة مكتفين في هذا الفصل بهذه الإشارة العابرة .
وكل ما استطاعت الحكومة أن يتقرب به إلي المستعمر زلفى في صدد هذه الأحداث أنها سخرت جهاز إعلامها المتمثل في الإذاعة والصحف – التي كانت تحت طائلة الرقابة والأحكام العرفية – فقلبت الحقائق ووصمت الإخوان بالوحشية والاعتداء علي المسلمين الآمنين ، وادعت عليهم أنهم قد أعدوا العدة لقلب نظام الحكم ثم انتهزت فرصة القبض علي بعض الإخوان والتحقيق معهم فسلطت عليهم سفهاءها وجلاديها فأذاقوهم ألوانًا من التعذيب وصنوفاً من التنكيل .. محاولة بذلك الفت في عضد هذه الدعوة ، وتحطيم معنوياتها أملا في أحد أمرين : إما أن تزول من الوجود وتختفي من المسرح ليخلو الجو لهم مع سادتهم المستعمرين ،وإما أن تغير من خط سيرها علي الأقل وتنتهج نهجًا آخر تعفي نفسها فيه من أخطار مواجهة المستعمر ... لكن شيئًا من ذلك لم يتحقق لهم وظلت الدعوة ثابتة علي مبادئها أرسخ من الجبال الشم .. ولنا عودة إلي هذه المحاكمات في الجزء القادم إن شاء الله من هذه المذكرات .
استغلال حرب فلسطين للقضاء علي الدعوة
نعود في هذا الفصل أيضًا إلي حرب فلسطين التي كانت في فصل سابق أحد المظاهر التي تجلت فيها قوة الإخوان تجليًا أخفت كل صوت شعبي في مصر وفي العالم العربي كله .. وأعود إلي ذكرها في هذا الفصل لأنني اعتبر هذه الحرب كما أنها كانت مظهرًا لقوة الإخوان فإنها أيضًا كانت مصيدة أعدت لاصطيادهم وقد أستطيع إبراز هذا المعني في الصور الآتية التي أعرضها بين يدي القارئ :
- أولاً : إظهار قوة الإخوان :
لم يكن نهوض الإخوان بأعباء القتال في فلسطين وسيلة انتهزوها لإظهار قوتهم كما قد يتبادر إلي بعض خلاة الأذهان عن حقيقة الإخوان وطبيعة دعوتهم وطريقة تربيتهم فإن نكران الذات هو الصفة المميزة لشخصية الأخ المسلم ؛ وكيف لا وهو يفقه أمر الرجل الذي أتي النبي صلي الله عليه وسلم فقال يا رسول الله : الرجل يقاتل للمغنم والرجل يقاتل ليذكر والرجل يقاتل شجاعة ويقاتل حمية أيهم في سبيل الله " ؟ فقال رسول الله صلي الله عليه وسلم " من قاتل لتكون كلمة الله هي العليا فهو في سبيل الله " ، كما أنهم يعرفون أن هذا القتال ليس إلا نوعًا من العبادة ويقرأون قول الله تعالي " فمن كان يرجو لقاء ربه فليعمل عملاً صالحًا ولا يشرك بعبادة ربه أحدًا " .
ولقد حاولت في الفصل السابق إيراد نتف من وصف بعض المواقع في هذه الحرب ليتبين للقارئ أن هذا الشباب الذي ترك أهله وعمله وماله وتجارته وانخلع من كل متاع الحياة ، لم يذهب إلي فلسطين إلا لتحقيق أمل واحد هو أن يحظي بالشهادة في سبيل الله ، وإلا لو كان بطلب متاع الدنيا لما تحرك إلي قتال لا يجد فيه مؤازرة من حكومة ولا تشجيعًا من أحد يرجي عنده أجر أو تؤمل لديه منزلة ... فما بالك وهو يذهب إلي قتال يجد كل الجهات التي يتجه إليها طلاب الدنيا تعاديه وتتربص به وتضع العراقيل في سبيله . ومنذ أول يوم في هذه الحرب رأي متطوعو الإخوان بأعينهم أن إخوانهم الذين استشهدوا لم تقرر الحكومة لأهلهم معاشًا ولم ترصد لأبنائهم وزوجاتهم تعويضًا وحتى الصحف والإذاعة لم تعلن أسماءهم ولا حتى أشارت إليهم ... فكيف يبقي هؤلاء المتطوعون في صفوف القتال – وهم مخيرون وقد علموا هذه المواقف – إلا إذا كان هدفهم أسمي من ذلك وأكرم وهو ما وعدهم الله به في قوله تعالي " إن الله اشتري من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويقتلون وعدًا عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن ومن أوفي بعهده من الله فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم " .. كما أنهم يعلمون علم اليقين أن الهيئة التي ينتسبون إليها لا تملك أن تعطي وإنما هي تنفق علي الضروريات التي لا غني عنها من جيوب أعضائها الذين هم عادة من طبقة الفقراء وأشباه الفقراء .
وقد أوضحت من قبل أن اتصال الإخوان بقضية فلسطين اتصال قديم يوم كان الشعب المصري عامته وخاصته يجهلون كل شيء عن هذه القضية .. والذين يريدون أن يظهروا علي مسرح حياة الشعب لا يربطون أنفسهم بقضية مجهولة وإنما يربطون أنفسهم بما يشغل بال الناس ويستولي علي ألبابهم .. وقد واصل الإخوان العمل لهذه القضية التي كان هدفهم أن يشهروها بأنفسهم لا أن يشهروا أنفسهم بها . أما أن هذه الحرب قد أظهرت للعالم قوة الإخوان ، فهذه حقيقة لا مراء فيها ، ولكن هذه الحقيقة لم تكن هدف الإخوان ولا مما سعي الإخوان له .. وليس ذلك بغريب في تاريخ الدعوة الإسلامية فالرعيل الأول من المجاهدين سجل التاريخ لهم بمداد الفخر مواقف في حروبهم لازال العالم يتغني بها ومع ذلك فقد كانوا أئمة المخلصين . وما كان للإخوان أمام تطور الأحداث في قضية فلسطين من خيار في موقف يتخذونه ، فما كان لقوم نذروا أنفسهم لهذه القضية منذ أول أيامها أن يتخلوا عن إجابة ندائها في الدور الحاسم من أدوارها ، وهو اليوم الذي كانوا يترقبونه من قديم ، ولم يكن ليبطئ بهم عن الاستجابة لهذا النداء أن يعرفوا ما وراء هذه الاستجابة من إظهار العدو – الحكومة المصرية العميلة والمستعمر – علي مدي قوتهم ، فإن هذه الاستجابة كانت أشبه برد الفعل الذي لا يمكن التحكم فيه ولو كانت بمثابة الدفاع عن النفس وهو مالا مجال معه للاختيار .
لم يكن اليهود يجهلون حقيقة الإخوان المسلمين بل كانوا يعرفونهم من قديم منذ أوائل الثلاثينيات وكانوا أشد الناس حذرًا منهم وكراهية لهم وحقدًا عليهم .. وكانوا موقنين منذ قرار هيئة الأمم في نوفمبر سنة 1947 بتقسيم فلسطين من أن الإخوان لن يقفوا مكتوفي الأيدي أمام هذا القرار.. ولهذا أخذ اليهود في كل مكان في العالم يعدون لحملة استعداد لحلفائهم ضد الإخوان لأنهم يعلمون أن لا طاقة لهم بقوم يشتهون الموت ولا يهابون شيئًا .. ونسوق هنا جزءًا من مقال كتبته فتاة صهيونية تدعي " روث كاريف " ونشرته لها جريدة " الصنداي ميرور " في مطلع 1948 ونقلته جريدة " المصري " لقرائها في حينه ، قالت فيه الكاتبة :
" إن الإخوان المسلمين يحاولون إقناع العرب بأنهم اسمي الشعوب علي وجه البسيطة ، وأن الإسلام هو خير الأديان جميعًا وأفضل قانون تحيا عليه شعوب الأرض كلها . ثم استطردت تصف خطورة حركة الإخوان إلي أن قالت : والآن وقد أصبح الإخوان المسلمون ينادون بالمعركة الفاصلة التي توجه ضد التدخل المادي للولايات المتحدة في شئون الشرق الأوسط وأصبحوا يطلبون من كل مسلم أن لا يتعاون مع هيئة الأمم المتحدة ، فقد حان الشعب الأمريكي أن يعرف أي حركة هذه . وأي رجال يتسترون وراء هذا الاسم الرومانتيكي الجذاب اسم " الإخوان المسلمون " وقالت – وهذا هو بيت القصيد – إن اليهود في فلسطين الآن ، هم أعنف خصوم الإخوان المسلمين ، ولذلك كان اليهود هم الهدف الأساسي لعدوان الإخوان وقد قام أتباعهم بهدم أملاك اليهود ونهب أموالهم في كثير من مدن الشرق الأوسط ، وهم يعدون الآن العدة للاعتداء الدموي علي اليهود في عدن والبحرين وقد هاجموا دور المفوضيات والقنصليات الأمريكية وطالبوا علنا بانسحاب الدول العربية من هيئة الأمم المتحدة .
" وبعد هجوم عنيف علي سماحة المفتي الأكبر السيد أمين الحسيني وعلي المرشد العام للإخوان المسلمين الأستاذ حسن البنا ختمت مقالها قائلة : وإذا كان المدافعون عن فلسطين – أي اليهود – يطالبون الآن مجلس الأمن بإرسال قوة دولية لتنفيذ مشروع التقسيم الذي قرأته هيئة الأمم المتحدة ، فإنهم لا يطالبون بذلك لأن الدولة اليهودية في حاجة إلي الدفاع عن نفسها ، ولكنهم يريدون إرسال هذه القوة الدولية إلي فلسطين ، لتواجه رجال الإخوان المسلمين وجها لوجه ، وبذلك يدرك العالم كله الخطر الحقيقي الذي تمثله هذه الحركة . وإذا لم يدرك العالم هذه الحقيقة في وقت قريب ، فإن أوروبا ستشهد ما شهدته في العقد الماضي من القرن الحالي إذ واجهتها حركة قاسية نازية ، قد تواجهها في العقد الحالي إمبراطورية إسلامية فاشية تمتد من شمالي أفريقيا إلي الباكستان ومن تركيا إلي المحيط الهندي " . ولم يكن هذا المثال هو الأول من نوعه ولا الأخير فقد دأبت الصحف الأوروبية والأمريكية علي نشر مقالات طويلة من هذا النوع كلها استعداء لهذه الدول علي الإخوان المسلمين .
ومن العبارات ذات الدلالة الخطيرة ما نشرته إحدى الصحف الأمريكية في تلك الفترة وسبق أن أشرت إليه في فصل سابق حين وصفت الأستاذ البنا وصفاً دقيقًا استعرضت فيه سماته البدنية وسماته الفكرية والنفسية ثم قالت : إنه صار أقوي شخصية في الشرق العربي ، وإن هذه الشخصية لن تهزم إلا أن تصير الأحداث أقوي منها . والدلالة التي تطل من وراء هذه العبارات هي أن الجريدة – الواسعة الانتشار – تسوق هذا الوصف الدقيق لشخصية المرشد العام للإخوان المسلمين في أسلوب تحذيري فيه معني استعداء الشعب الأمريكي وحلفائه وحثهم علي تدبير مؤامرات لخلق أحداث جسام تقهر هذه الشخصية ، وتقضي علي عظمتها وتسلبها المقدرة علي بسط سلطانها علي الشرق العربي الذي تعتبره حكومات هذه الدول الكبرى مجال نفوذها . ومما تجدر الإشارة إليه أن العالم العربي في ذلك الوقت كان يعج بالأحزاب والهيئات السياسية والاجتماعية ، ففي مصر كانت الأحزاب والزعامات التي طالما أشرنا إليها كما كان في سورية ولبنان كان بسورية الحزب القومي السوري .. إلا أن المستعمرين حين جد الجد لم يواجهوا حملتهم إلي حزب من هذه الأحزاب ولا إلي هيئة من هذه الهيئات التي تنادي بأنها ضد الاستعمار والمستعمرين وإنما واجهوا حملاتهن إلي الإخوان المسلمين وألقوا بثقلهم كله عليهم وحدهم ، ذلك أنهم كانوا يعلمون أن جهود هذه الأحزاب والهيئات لن تتعدي خطبًا تلقي ومقالات تنمق وشعارات يهتف بها ومظاهرات إن قامت فهي مزايدات للتنافس علي الحكم في ظل سلطة الاستعمار .. أما الإخوان المسلمون فقد جرب المستعمر معهم وسائله فلم تفلح واحدة منها لأنهم أصحاب فكرة يؤمنون بها ولا يقبلون المساومة عليها .
- ثالثًا : استنفاد جهود الإخوان :
ومما لاشك فيه أنه كان لنداءات اليهود واستعداءاتهم صدي في نفوس حلفائهم في أنحاء العالم ، ولابد أن هؤلاء الحلفاء قد دبروا أمرًا ووضعوا خطة وشرعوا في تنفيذها لاسيما والوقوف في وجه الدعوة الإسلامية الزاحفة أمر طالما شغلهم من قبل أن يظهر اليهود علي مسرح الأحداث .. فإذا كان القدر قد و ضع اليهود في مواجهة الإخوان المسلمين .. إذن فلتكن الخطة هي الوقوف وراء اليهود يمدونهم بالمال والأسلحة الحديثة والتدريب ثم استغلال إخلاص الإخوان لدعوتهم وتهافتهم علي القتال ، فتلقي هذه الدعوة بفلذات كبدها في المعركة فتستنفذ قوتهم أولا حيث تطحنهم الحرب طحنًا ثم تبدأ المؤامرة العالمية للإجهاز عليهم .
- رابعًا : الحاقدون بين عاملين :
كان الإنجليز والمستعمرون عمومًا قد حددوا اليد التي سيضربون بها الإخوان المسلمين ، واطمأنوا إليها ، وعلموا أن هذه اليد تتحرق شوقاً إلي أن تستخدم في ضرب الإخوان أن قلوبها ممتلئة حقدًا عليهم ، ولولا أنها لا تري في نفسها القوة الكافية لضربتهم من زمن بعيد ، وهي لذلك تنتظر في شوق وتشوف إلي قوي خارجية تسندها وتشد من أزرها .. ولم تكن هذه اليد إلا الملك السادر في غيه وعصابته من المستوزرين من السعديين .. فلما صدر قرار تقسيم فلسطين وقابله العرب والمسلمون في كل بقاع الأرض بغضب جارف ، وكان اتجاه الجميع في العالم العربي أن لابد من عمل إيجابي ، وأعلن الإخوان عزمهم علي اقتحام ساحة القتال ، وجد الحاقدون أنفسهم أمام أمرين أحلاهما مر : هل يفسحون المجال للإخوان ليرسلوا متطوعيهم إلي فلسطين ؟ وإذا دخل هؤلاء المتطوعون المعركة – مع ما يتصفون به من فدائية وبسالة – فإنهم سيرفعون من ذكر الإخوان في مصر وفي العالم كله .. وهم – أي الحاقدون – يرون في ذلك القضاء المبرم علي نفوذهم بل علي وجودهم ... أم يحولون – بمالهم من سلطات حكومية – بين متطوعي الإخوان وبين الخروج إلي ميدان المعركة فيضمنوا بذلك الحد من ازدياد قدر الإخوان في نفوس الشعب ؟ .
وفي هذا الصدد ننقل من كتاب الأستاذ كامل الشريف " الإخوان المسلمون في حرب فلسطين " ما يلي :
- " جاء شهر مايو من عام 1948 وكان بداية تحول كبير في مجري الحوادث إذ أنهي فيه الإنجليز انتدابهم وختموا آخر صفحة لسياستهم في فلسطين .. وظن الإخوان أن عهد التضييق والإرهاب قد انتهي بانسحاب الإنجليز ، وأنهم يستطيعون الآن إدخال قواتهم دون خوف أو وجل وأن الوقت قد آن ليفي مرشدهم العظيم بوعده فيدخل إلي فلسطين عشرة آلاف مقاتل كدفعة أولي كما سبق له أن قرر في برقيته المشهورة التي بعث بها إلي زعماء الدول العربية في اجتماعهم " بعالية " .. ظن الإخوان ذلك ولكن جاءت الحوادث لتخلف ظنهم وتقنعهم أن سياسة الإنجليز باقية وإن انسحبت جنودهم من الميدان .. طلب الإخوان من حكومة النقراشي باشا بالسماح بإدخال فوج من مجاهديهم ليرابط في الجزء الشمالي من صحراء النقب فرفضت الحكومة هذا الطلب وأصرت علي عدم السماح لهم بذلك ، مما اضطر بعضهم إلي طلب السماح لهم بالقيام في رحلة علمية إلي " سيناء " فوافقت حكومة النقراشي بعد إلحاح شديد ، وحضرت تلك المجموعة إلي " سيناء " وتسللت منها إلي فلسطين سرًا حيث لحقت بها دفعات أخري تسللت بطرق مختلفة ، وكانت حيلة دخلوا بها إلي فلسطين .
وبدخول هذا الفوج بدأ القتال الفعلي في صحراء النقب ، فأخذ يهاجم المستعمرات اليهودية بصلابة وعناد رغم قلة عدده وضعف أسلحته ، وتجمع حوله المجاهدون من أهل فلسطين وبدأت حرب عصابات منظمة كانت تبشر بنجاح رائع . ومر شهران وعلمت الحكومة فطلبت إلي المركز العام سحب قواته من النقب ، وكان طبيعيًا أن يرفض الإخوان ، فلجأت الحكومة إلي قطع الإمدادات والتموين ومراقبة الحدود بشدة لتضمن عدم وصول شيء منها إلي المجاهدين حتى تضطرهم للعودة إلي مصر ، ورأي المجاهدون أنفسهم خلال قتالهم الرائع يعيشون أيامًا طوال علي التمر والماء وعلي الخبز اليسير الذي يشترونه من نقود قليلة يرسلها أهلوهم بين حين وآخر .........
بقي المجاهدون في ميدانهم يعملون ، ووجدوا من إخوانهم العرب كل معونة ورعاية حتى دخل الجيش المصري وأخذ يهاجم المستعمرات اليهودية في النقب ، واشترك الإخوان في معظم العمليات الحربية التي قام بها ، وكان طبيعيًا أن ينقص عددهم بفعل المعارك الطاحنة وما سقط منهم فيها من الجرحى والشهداء .. وحتى في تلك الأوقات الحرجة لم تحاول الحكومة أن تراجع موقفها وأن تسمح للإخوان بدخول الميدان ولا لتعويض هذه الخسائر الكبيرة في الأفراد بل شددت رقابتها أكثر من ذي قبل . وكان الإخوان يعلمون حقيقة الموقف في فلسطين ويتشوقون للحاق بإخوانهم ، ولكن قيود الحكومة كانت تقف حائلا دون التنفيذ مما اضطر كثيرين منهم إلي المجيء سيرًا علي الأقدام . ولازلت أذكر ذلك اليوم الذي حضرت فيه جماعة من الإخوان قوامها خمسة عشر شابًا لم تكن تزيد أعمارهم عن السادسة عشرة وكانوا كلهم طلابًا في المدارس الثانوية . وسألتهم عن سبب مجيئهم فقالوا إنهم يرغبون في تأدية فريضة الجهاد بعد أن نجحوا في امتحاناتهم لهذا العام . ثم أخذوا يقصون علي أنباء رحلتهم الشاقة وكيف غافلوا رجال البوليس وقفزوا إلي عربات البضائع في قطارات السكك الحديدية ، وكيف ساروا مسافات شاسعة في صحراء سيناء الموحشة بمعونة دليل من البدو . ثم لجأت الحكومة السعدية إلي حيلة أخري فأمرت بوليسها أن يمنع عودة المجاهدين الذين يغادرون الميدان لزيارة أهلهم في إجازات قصيرة ، حتى ينقص عددهم وينتهي أمرهم ، وقد فطنا إلي الحيلة بعد مدة فألغينا الإجازات وقررنا نسيان الأهل والولد حتى نضيع علي الحكومة فرصتها ونستمر في جهادنا " .
ويقول الأستاذ كامل الشريف :
- " طالب اللواء المواوي بك قائد الجيش المصري في فلسطين بإحضار عدد كبير من شباب الإخوان وإرسالهم فورًا إلي الميدان ، وسافر لهذه الغاية إلي القاهرة الأستاذ الشيخ محمد فرغلي رئيس الإخوان في فلسطين . ولقد حدثني الصاغ محمود لبيب وكيل الإخوان للشئون العسكرية أن عبد الرحمن عزام باسا أمين الجامعة العربية قد استدعاه في ذلك التاريخ ورجاه أن يعمل علي تجنيد هذا العدد لأن خطورة الموقف العسكري تتطلب إرسالهم علي وجه السرعة ، ومضي الصاغ لبيب فاتصل بشعب الإخوان في القطر وأمر كل شعبة بتجهيز فرد واحد من أعضائها وإبقائه مستعدًا في مدة معينة . ولكن ما إن تناهي النبأ إلي مسامع النقراشي باشا حتى هاج وماج ورفض قبول الفكرة من أساسها ولم يستطع الإخوان تعليل ذلك الرفض حتى جاءت الحوادث القريبة بعد ذلك لتعلن الحقيقة المرة ، وهي أن النقراشي كان مشغولا في ذلك الوقت بتنظيم خطة للقضاء علي الإخوان ومحوهم من الوجود " .
ولقد رأيت أن أنقل هذه الفقرات لأكشف أبناء هذا الجيل المضلل عن صفحة من صفحات الخزي والعار عمل الساسة المتواطئون مع العدو علي طمسها عنهم تزويرًا للتاريخ وسترًا علي جرائمهم التي تتضاءل أمامها الخيانات العظمى . ولكن هل استكان الإخوان ويئسوا ورضوا من الغنيمة بالإياب ؟ لا بل إنهم لجأوا إلي حيلة أخري هي أنهم قدموا شبابهم تحت قيادة الجامعة العربية . ويتضح من ذلك أن الحاقدين قد استقر رأيهم علي أن يحولوا بين الإخوان وبين الوصول إلي أرض المعركة ما استطاعوا إلي ذلك سبيلا .. ولكن لأن هذه الحرب لم يكونوا هم الطرف الوحيد فيها بل كانت الدول العربية فيها أيضًا فإنهم لم يستطيعوا الحيلولة الكاملة التي أرادوها بل كل ما استطاعوه هو الحد من عدد الإخوان ، وحرمانهم من الأسلحة الكافية والذخيرة اللازمة .
- خامسًا : الانقضاض من الخلف علي المجاهدين :
لما خرج الأمر من يد الحاقدين وأروا أنفسهم أمام أمر واقع من تدفق المتطوعين من الإخوان علي الميدان في فلسطين . لاسيما بعد أن ساءت حال القوات المصرية في الميدان نتيجة سوء تصرف الحكومة السعدية وخضوعها السياسي بل تواطئها مع المستعمر فقد حاصرت قوات اليهود الجيش المصري وطلب قائد الجيش المصري أن يدم بقوة من الإخوان المسلمين لإنقاذ الموقف وأنقذ الإخوان الموقف فعلا وفكوا الحصار عن الجيش المصري وأشادت قيادة الجيش بالإخوان المسلمين كما أشادت صحف العالم بهم ..
حينئذ أكل الحق قلوب السعديين كما أكل قلب معبودهم فاروق . وقد أعماهم الحقد الأسود فسلكوا طريقاً ظنوا أن فيه نجاتهم وتدمير الإخوان ، فكان فيه دمارهم ودمار البلاد ، وكان فيه التمكين لليهود .
أما الطريق الذي سلكوه والذي وجههم إليه الإخطبوط العالمي للتآمر الأمريكي الأوروبي في خدمة اليهودية العالمية والذي اكتملت بسلوكه سلسلة المؤامرات للقضاء علي الإخوان المسلمين ، فسنرجئ تناوله بالحديث إلي الجزء الثاني من هذه المذكرات إن شاء الله وهو يتضمن الحلقتين التاسعة والعاشرة الباقيتين من خطط التآمر التي عالجنا منها ثماني حلقات حتى الآن . وهاتان الحلقتان هما قرار الحل واغتيال المرشد العام .