الحرية

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
الحرية في ميزان الإسلام



بقلم / الدكتور عدنان علي رضا النحوي

تـمهيـد

الحرية-4.jpg

إن أخطر القضايا التي ثارت في تاريخ الإنسان قضية الحرّية . إنها قضيّة أثارت المفكرين والفلاسفة والأدباء والعلماء ، حتى ادعى كل فريق لها نماذج ومحتوى . وأثارت الشعوب حتى خاضوا من أجلها ثورات وحروباً ، وزعزعت نظماً حتى تهاوت أمام زحوف المظلومين . إنها قضية تملأ التاريخ بالأحداث والنظريات والصراع المستمر .


ولقد رأينا كيف تغنّى " فوكوياما " بالحرّية المزيفة من خلال أهواء الفلاسفة ومن يسمّون بالمفكرين ، ومن خلال المصالح المادية الهائجة ، من خلال المظالم والعدوان والجرائم ، من خلال الكفر الصريح والإلحاد .


ورأينا كذلك أوروبا كيف مارست " حرّيتها المعتدية الظالمة " في التخطيط لتقسيم الدولة العثمانية المسلمة خلال أكثر من ستمائة سنة وضعت فيها أكثر من مائة مشروع ، حتى ارتكبت أعظم جريمة في حق البشرية حين أسقطت خلافة الإسلام .


ورأينا نيكسونيتحدث عن الحرية في كتبه الثلاثة ، لا يفهمها إلا من خلال مصلحة أمريكا وحدها ، ومن خلال توفير الفرصة لزعامة أمريكا للعالم ، ومن خلال الديمقراطية التي أقامت ألف ميزان للعدل وللحرية، تتبدّل الموازين مع تبدل الهواء والمصالح .


ولقد رأينا كله واضحاً جليا فيما عرضناه ، لندرك حقيقة الواقع غير المسلم الذي يحتاج بعض المسلمين أن يتعاملوا معه .


لذلك أصبح من الضروري أن يعرف المسلم ميزان الحرية في دينه ، ويدرك عظمة الحرية الصادقة العادلة التي يدعو بها الإسلام ، والتي يجاهد من أجلها المسلمون جهاداً في سبيل الله . فلا ينخدع المسلم بالزخارف الكاذبة ، ولا ينزلق إلى الفتنة المهلكة ، وليعرف مسؤولياته وواجباته التي سيحاسَب عليها يوم القيامة ، يوم لا ينفع غرب ولا شـرق ، ولا زخرف ولا زينة ، ولا يُغني مولى عن مولى شيئاً .


إن قضية الحرية وأهميتها تبرز حين ندرك ارتباط قضايا كثيرة في حياة الإنسان بها ، أو ارتباطها بقضايا أخرى كثيرة . إنها ترتبط بمعنى العدالة وبممارستها ، وترتبط بمعنى المساواة وحدودها ، وترتبط بالأمن معنى وتطبيقا ، وترتبط بالإخاء وتصوره وقواعده .


كل هذه الكلمات لا تصلح في حياة الإنسان إذا كانت متفلتة من القيود . إن الحرية المتفلتة هي حرية الأهواء والشهوات ، وحرية الوحوش والذئاب . إنها الفتنة الواسعة في الأرض ، الفتنة التي لا يمكن أن يقوم بها عدالة ولا مساواة ولا إخاء ولا أمن . كل كلمة من هذه الكلمات لا تصدق في ميدان الممارسة إلا إذا عُرفت أسسها وقواعدها وحدودها . كيف تقوم المساواة إذا لم يكن لها حدود وضوابط من الحقوق والمسؤوليات ، والوسع والطاقـة ، والالتزام والحساب . وكيف تقوم هذه أو تلك إذا لم تكن كلها مترابطة في نهج واضح جلي متماسك .


هذه ناحية واحدة من نواحي عظمة الإسلام وتفرّده عن جميع المناهج البشرية . إنه منهاج رباني جاء من عند الله رب العالمين ، خالق الإنسان وخالق كل شئ ، يعلم ما يحتاج خلقه وما يصلح حياتهم في الدنيا وما ينجيهم في الآخرة .


ولا نستطيع هنا إلا نعطي لمحات عن الحرية في ميزان الإسلام وقبسات من منهاج الله ، مع أمثلة سريعة من فساد الحرية لدى المناهج البشرية الأُخرى .


الحرّية والثورات التي قامت من أجلها

لقد كانت دعوى الحرّية من أهم شعارات الثورة الفرنسية . وارتبطت دعواها بشعارين آخرين هما الإخاء والمساواة . ولكنّ الثورة الفرنسية لم تعرف الحرية ولا الإخاء ولا المساواة ، ولا قدّمت من ذلك شيئاً غير الشعار تهتف به الحناجر وتُحفَر به النُّصب والأَحجار ، ثمَّ تُرتكب أَبشع المظالم ، فتتناثر الجماجم تحت المقاصل ، وتتطاير الأَشلاء عَبَثَ الظالمين ، وتدور أَوسع جرائم الأَرض ، ويُطوَى ذلك تحت أَستار الدعاية الزّاهية والسلطة القاهرة . وتُطوى معه الشعارات التي نادى بها فولتير ( 1694ـ1778م ) وجان جاك روسو ( 1712ـ 1778م ) والتي مهّدت لقيام الثورة الفرنسية . وتُطوى بين أمواج الجريمة القيمُ التي بنتها النبوّة في تاريخ الإنسان الطويل .


وثورات أُخرى كثيرة قامت لتصارع من أجل صورة الحرّية التي توهمتها ، وتعاقبت الثورات في تاريخ الإنسان حتى يومنا هذا . ولكن الإنسان في الأرض اليوم ما زال يفقد الحرية الحقيقية وما زال يجاهد من أجلها .


لقد فشلت معظم هذه الجهود لأَنها لم تطلب الحرّية بصورتها المتكاملة ، وميزانها العادل ، فاضطربت المقاييس وامتد الصراع ، وربما استبدلت بها المظلم والظلام . أين الحرّية اليوم في الأرض ، إلا حرية الجنس المتفلت ؟!


لقد قامت الشيوعية تدعو إلى حقوق الطبقة العاملة وحرّيتهم وإنقاذهم من المجرمين الظالمين في الرأسمالية. فماذا كانت النتيجة ؟! لم ينل العمال حقوقهم ولا حرّيتهم ولم تحترم أدنى درجات الإنسانية ، ولكن الشيوعية وأحزابها في صراعها مع الرأسمالية استبدلت بمجرمي الرأسمالية مجرمين اشتراكيين وشيوعيين ، استبدلت بالظالمين ظالمين جدداً . فأفنت الملايين من البشر في ظلمات فوقها ظلمات .


قامت شعوب كثيرة تطالب بحريتها . فمن فشلت جهودهم من هذه الشعوب سُحِقوا تحت شعار الحرية والعدالة ، ومن نجحت جهودهم أقاموا لوناً آخر من الظلم والفساد في الأرض ، ولوناً آخر من العدوان والنهب .


أين الحرية اليوم ؟! إلا حرية الكلمة المخدّرة أو الكلمة المرتجفة ، أو الكلمة المترنحة ، أو حرية صاحب القوة والنفوذ ، أو الحرية في التقاط الفُتات مما يُلْقيه المجرمون المعتدون ، أو حرية الخمور والفاحشة في مواخير الليل ، أو حرية الزنا في الشوارع والحدائق والزوايا ، أو حرية اللواط يحميه القانون وترعاه العصابات ؟!!


ارتبط الحرية الحقيقية بالإيمان والتوحيد

إن النموذج المثل للحرّية والصورة الصادقة الأمينة ، النموذج المتكامل والصورة النقيّة ، لم تعرفها البشرية في تاريخها الطويل إلا بما دعا إليه الرسل والأنبياء ، ولم يحملها إلى الناس إلا رسالة الله إلى عباده وخلقه ، ولم يُطبقها في واقع الإنسان إلا الأنبياء والرسل وأصحابهم وحواريوهم الذين حملوا الرسالة من بعدهم وصدقوا الله في حملها ، دون تحريف أو تبديل . ولقد كانت رسالة الأنبياء والمرسلين رسالة واحدة هي الإسلام . فالله واحد ، والدين واحد ، وخُتمت الرسالة بمحمد صلى الله عليه وسلم وبكتاب الله ، القرآن الكريم ، بمنهاجه الربّاني – قرآناً وسنة ولغة عربيـة -، حيث جاء مصدّقاً لما بين يديه من الكتاب ومهيمناً عليه .


ذلك لأن الحرية الحقيقية الطاهرة الصادقة مرتبطة كل الارتباط بالإيمان والتوحيد وأسسهما ، مغروسة في فطرته السوية التي فطر الله الناس عليها ، إذا لم تنحرف أو تتشوه أو تفسد .


ولعل كلمة عمر بن الخطاب رضي الله عنه التي قالها لعمرو بن العاص رضي الله عنه ، حين اعتدى ابنه محمد على أحد الناس وضربه بالسواط ، ثم جعل عمرُ الرجل يأخذ حقَّه من ابن عمرو بن العاص فضربه بالدرة واستوفى واشتفى ، لعل كلمة عمر بن الخطاب رضي الله عنه يومَها مازالت تدوِّي ملءَ العصور والأَجيال ، تعلم الناس نموذجاً رائعاً من نماذج الحرِّية ، نموذجاً جامعاً لكثير مما ذكرناه أُعلاه . قال عمر رضي الله عنه : " أُيا عمرو ! متى تعبَّدتُم الناس وقد ولدتهم أُمهاتهم أَحراراً " ( [1] )


إنها الفطرة التي فطرها الله عليها ، فولدتهم أُمهاتُهم بهات مع أُودع فيها من أَسرار وقوى ورغبات . وكان أَهمَّ ما أَودع الله في فطرة الإنسانِ الإِيمانُ والتوحيدُ ، ليرويا ويغذّيا جميع الطاقات والرغبات ، فتظل تعمل متوازنة عادلة . فإذا اضطرب هذا الريُّ والغذاء ، أُو انقطعا أَو استُبْدِل بهما مصدر فاسد ، انحرفت واضطربت الموازنة وساء


العطاء . فتصبح الشهوةُ فجوراً وعدواناً ، والحبُّ والموالاة وثنيّةً وشركاً ، والحرّيةُ أَنانيّة واستبداداً ، والإِخاءُ عصبيةً واستغلالاً .


من هنا تأخذ الحرِّية معناها الإيماني حين ترتبط في فطرة الإنسان بالإيمان والتوحيد ، وتأخذ بُعدَها الإنسانيَّ حين أَودعها الله فطرة الإنسان ، لتأخذ حقيقة هذا البعد وجوهره . من هنا ترتبط الحرّية بكل المعاني التي يتغنّى بها الناس والشعارات التي يرفعونها لتظل صادقة بها أَمينة معها . ومن هما تأخذ الحرّية معناها الكامل ومحتواها المتكامل والمترابط ، وممارستها المتناسقة . فإذا انفصلت عن هذا المنبع الغني الذي يرويها انقلبت فتنةً في الأَرض وفساداً ، وانفصلت عن خصائصها ومقوّماتها ، وأَخذت خصائص جديدة من الشرِّ والانحراف والفتنة .


من هذا الارتباط بالفطرة التي فطر الله الناس عليها ، ومن هذا الارتباط بالإيمان والتوحيد ، تكتسب الحرّية العادلةُ ، الحرّية الحقيقية ، الحرّيةُ في الإسلام ، خصائص هامة مؤثرة في واقع الإنسان والشعوب مع العصور كلها ، ومؤثرة كذلك في واقعنا اليوم نحن المسلمين .


الحرّية نفسها ، وسائر الغرائز والميول المغروسة في فطرة الإنسان ، تظل تؤدي الوظيفة التي خلقها الله لها ، وتظل في ميزان الله " تقوى " " وعملاً صالحاً " ما دامت مرتبطة بالإيمان والتوحيد مرتوية من نبعه الفياض ، نبعاً غنياً يفتحه ويدفع تدفُّقه النيّة الخالصة لله ، النية الصادقة الواعية . فإذا انفصلت الحرية ، أو أي غريزة أو ميل مغروس في الفطرة عن الإيمان والتوحيد ، وعن ريّهما الغنيّ ، أو إذا استبدلت الحريةُ بالإيمان والتوحيد ريّا آخر فإنها تصبح " فجوراً " وفتنة وعملاً غير صالح .


(( ونفس وما سوّاها * فألهمها فجورها وتقواها * قد أفلح من زكاها * وقد خاب من دساّها ))[الشمس : 7 –10 ]


الحرية في الإسلام تقوم على أساس المسؤولية والحساب

الحرية3.jpg

ومن أول هذه الخصائص وأَهمها المسئولية والحساب . فهاتان الصفتان هما من خصائص الإيمان والتوحيد ، وخصائص كل سجيّة ترتبط بهما . ولا بد هنا أَن نشير بإيجاز إلى الإيمان والتوحيد يمثلان قضيّة مفاصلة وحسم لا مساومة معها ولا تراخ :


(( إنه لقول فصل * وما هو بالهزل )) [ الطارق : 13 ، 14]

إنهما يمثلان تكاليف ربانية في ميادين شتى من الحياة ، والتزاماً بها ، وجهاداً من أجلها في سبيل الله ، ويمثلان قضية مسؤولية وحساب .


فر حرّية في نظر الإسلام دون مسؤولية وحساب ، فحين يعطي الله سبحانه وتعالى حرّية الاختيار للإنسان ، ويوفّر له كلّ أَسباب ممارستها ، فإنه لا يتركه مع حرِّيته هذه متفلَّتا من مسؤولية اختياره . بل يجعل الله لكل اختيار يمضي إليه الإنسان نتيجة جليّة وجزاء عادلاً لا يستطيع أَن يفرّ منه أَبداً . ويمضي هذا الجزاء في الدنيا على سنن لله ثابتة ، علمنا الله بعضها في كتابه وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم ، وفي الآخرة إلى إِحدى نتيجتين – جنّةٍ أَو نار – لتمثل كل نتيجة منهما حصاد اختيار الإنسان في الحياة الدنيا . ونأخذ مثلاً على ذلك من كتاب الله :


(( وقل الحقُّ من ربكم فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر إنا اعتدنا للظالمين ناراً أَحاط بهم سرادقها وإن يستغيثوا يُغاثوا بماء كالمهل يشوى الوجوه بئس الشراب وساءت مرتفقاً * إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أَجر من أحسن عملاً * أولئك لهم جنات عدن تجري من تحتهم الأنهار يحلون فيها من أساور من ذهب ويلبسون ثياباً خضراً من سندس وإستبرق متكئين فيها على الأرائك نعم الثواب وحسُنت مُرتفقاً ))[ الكهف : 29 – 31 ]

(( وقل الحقّ من ربكم … )) ! هذا هو المنطلق ! إعلان الحق الذي لا باطل معه أبداً لأنه من عند الله . إعلانه والدعوة إليه !


(( .. فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر .. )) ! ثمَّ تأتي فرصة الإنسان ليختار على مسؤوليته الإيمان الحق من عند الله ، أو الكفر به ، إنها مسؤولية الإنسان ، فلا ينفع إيمان يدّعيه الإنسان رهبة من سلطة دنيوية أَو رغبةً في غرض من الدنيا ، أَو نفاقاً يزينه الشيطان له . لا بُدَّ أَن يكون الإيمان قناعةً تستقرّ في القلب حتى تطمئن النفس بها .

ولا يختار الإيمانَ بالحقِّ إلا الفطرة السليمة ، كما أشرن إليها قبل قليل ، يهديها الله إلى صـدق الاختيار برحمته وفضله ، وعفوه وعدله . وأَما من وقع في المعصية والهوى ، والآثام والمظالم ، حتى انحرفت فطرته أَو تشوَّهت بما كسبت يداه ، وحتى غلبته الفتنة وأَغواه الشيطان ، حتى لم يعد يستحق الهداية من الله بما ظلم به نفسه ، فإنه يختار عندئذ الكفر على سنن الله ماضية في خلقه ، وحكمة لله غالبة ، وعدالة ماضية ، لا يظلم معها الله أحداً .


(( كذلك حقَّت كلمتُ ربك على الذين فسقوا أَنهم لا يؤمنون )) [ يونس : 23 ]


ولا تمضي هذه الحرية في الاختيار كما عبَّرت عنها الآية الكريمة السابق ذكرها من سورة الكهف . دون مسؤولية وحساب . تمضي لتبيّن لنا الجزاء الحق والحساب العادل : ((.. إنا أعتدنا للظالمين ناراً أَحاط بهم سرادقها..)) فهذا جزاء الكافرين الذين يموتون على كفر علمه الله بهم . وأما من اختار الإيمان فجزاؤه جنات عدن : (( إن الذين آمنوا وعملوا الصالحات إنا لا نضيع أجر من أحسن عملاً * أولئك لهم جنات عدن .. )) .


ولا تكون المسؤولية والحساب في الآخرة فحسب ، ولكنها كذلك في الدنيا حيث تمضي سنن الله الثابتة العادلة على هؤلاء وهؤلاء على حكمة الله غالبة وعدالة ماضية :


(( أَم حسب الذين اجترحوا السيئات أَن نجعلهم كالذين آمنوا وعملوا الصالحات سواء محياهم ومماتهم ساء ما يحكمون )) [ الجاثية : 21 ]


وربما يلتبس الأمر على بعض الناس حين يرون بعض آيات الله في ابتلاء المؤمنين ، فتغيب عن بالهم سنة الله في الابتلاء ليمحص الله بها عباده ، وليميز بها الخبيث من الطيب ، ولتقوم الحجة على كل إنسان يوم القيامة .


من قواعد الحرية في الإسلام المساواة أمام التكاليف الربانية

لا تستقيم الحرّية في ميزان الإسلام حين تفسد الفطرة ، ويضطرب الإيمان والتوحيد ، وتتفلّت المسؤولية والحساب تبعاً لذلك . فمن أَهم خصائص الإيمان قضيّة " الأمانة " التي يحملها الإنسان في الحياة الدنيا ، وليكون الالتزام والوفاء بها أساس الحرّية ومنطلقها وميدان ممارستها .


فإذا كانت التكاليف الربّانيّة والالتزام بها ، وما ينشأ عن ذلك من مسؤولية وحساب ، يمثل هذا كله بعض القواعد الهامة التي تقوم عليها الحرّية في ميزان الإسلام ، والتي تنبثق من الإيمان والتوحيد ، فإن هنالك قواعد هامة أُخرى للحرية تنضمّ إلى القواعد السابق ذكرها .


ومن أهم القواعد مساواة الناس أَمام التكاليف والالتزام والمسؤولية والحساب ، لا يختلف في ذلك إنسان عن إنسان إلا بمقدار الوسع والطاقة والمسؤولية والأَمانة . فإن الله سبحانه وتعالى نفساً إلا وُسعها كما نصَّ القرآن على ذلك . و لا تقوم المسؤولية أَيضاً إلا على قدر الوُسع والطاقة . والوُسع الذي نتحدّث عنه هو " الوسع الصادق " الذي يضعه الله في عبده هذا أو ذاك فيحاسبه عليه ، لا " الوسع الكاذب " الذي ترسمه الهواء والأماني والأعذار .


(( ولا تكلف نفساً إلا وسعها ولدينا كتاب ينطق بالحق وهم لا يظلمون ))[ المؤمنون : 62 ]


وقاعدة أُخرى هي الشمول والامتداد

وقاعدة أُخرى هامة هي الشمول والامتداد . فليست الحرية الكلمة فقط ، ولكنها حرية ممتدة في واقع المؤمن تقوم على الأُسس السابقة في ميدان الفكر والسعي والكلمة وغيرها من الميادين ، وهي حرية الفرد والجماعة والأُمة ، حرية ممتدة شاملة تضبطها وتوجهها القواعد السابقة كلها وخصائص الإيمان والتوحيد . فالإسلام الذي حرّر الإنسان من داخله وحرّر روحه وعقله وكيانه كله من الأغلال الباطلة والقيود الظالمة ، أَطلق الحرية في ميادين الحياة نديّة بالإيمان غنيّة بالتوحيد لتهب الحياة الجمال الحق ، ولتهب الإنسان المتعة الطاهرة الدائمة الممتدة .


ومن قواعد الحرية في الإسلام الأمن والنفس المطمئنة إلى ربّها

ومن القواعد الهامة للحرِّية في ميزان الإسلام الأمن . والأمن الذي ينبع أولاً من داخل الإنسان ، من ذاته ، من إيمانه ويقينه ، حتى إذا استقر في نفس الإنسان انطلق إلى واقعه ومجتمعه ، إلى ميادين الحياة ، إلى الممارسة والتطبيق ، ليضيف الأَمنُ إلى الحرية جمالاً إلى جمال ، ومتعة ، وقوة إلى قوة .


فلا بد إذن أن تتوافر في واقع أَي أُمة خصائص الإيمان والتوحيد ، ووسائل رعاية الفطرة وحمايتها ، ليكون هذا كله أَولَ حقٍّ من حقوق الإنسان . إنه حقٌّ أَهملته الجمعيات والهيئات التي تنادي اليوم بحقوق الإنسان ، وأهملته القوى الديمقراطية التي أَطلقت الأَهواء والشهوات لتنسلَّ خدراً في العروق يشل قوى الإنسان ويسحق جوهره . ثم يقال له أنت حرّ بعد أن كبّلوه وقيّدوه وخدّروه ورموه في لهيب مضطرم . فمارسوا بذلك أسوأ أنواع الاستبداد والظلم في تاريخ الإنسان .


قد تُخنق الكلمة بتكميم الأَفواه ، أو في ظلمة السجون ، أو تحت سياط القهر والتعذيب . وهذه جريمة كبيرة حين تكون الكلمة حقاً وأمانة وبلاغاً وقوة ، وصدقاً وعبادة وتقوى . ولكن خنق الكلمة في داخل الإنسان وهو طليق جريمة أكبر في حق الإنسان ، لأنها تكون عندئذ جريمة تمتدّ في الأرض على غيبوبة وخدر ، أو هلع وحذر ، لا يكاد يحس بها الناس ، أو يعتادونها فيألفونها ، ويمضي المجرمون في طغيانهم وعُتوّهم واستكبارهم ، حتى يأخذهم الله أخذ عزيز مقتدر .


فالأمن الحقيقي الممتد من داخل الإنسان وذاته ،إلى واقعه ومجتمعه ، إلى نظامه وإدارته ، إلى سلطانه ونفوذه وقوته ، هذا الأَمن هو الذي تقوم عليه الحريّة لتكون عبادة لله وطاعة ، وجمالاً في الحياة ومتعة .


واستمع إلى إبراهيم عليه السلام يرُسِّخ هذه القاعدة العظيمة قاعدة إيمان وتوحيد ، وعبودية لله وطاعة، في الحياة البشرية كلها :


(( إني وجهت وجهي للذي فطر السموات والأرض حنيفاً وما أنا من المشركين * وحاجّة قومه قال أَتحاجونّي في الله وقد هدان ولا أَخاف ما تُشركون به إلا أن يشاء ربي شيئاً وسع ربي كلّ شيء علماً أفلا تتذكرون * وكيف أَخاف ما أشركتم ولا تخافون أَنكم أشركتم بالله ملم ينزل به عليكم سلطاناً فأي الفريقين أَحقُّ بالأَمن إن كنتم تعلمون * الذين آمنوا ولم يلبسوا إيمانهم بظلم أولئك لهم الأمن وهم مهتدون*وتلك حجتنا آتيناهم إبراهيم على قومه نرفع درجات من نشاء إن ربك حكيم عليم ))[ الأنعام : 79 – 83 ]


قاعدة العدل الذي يقوم على أساس الإيمان والتوحيد ومنهاج الله :

ولا يستقرُّ الأَمن في واقع الإنسان إلا ساد العدل الحق على أساس ميزان الإيمان أَيضاً :

(( إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القُربى وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون )) [ النحل : 90 ]


ولا يترك الإسلام العدل والإحسان ، والأَمن وغير ذلك شعارات غير محددة . ولكنه يفصلها حتى تكون حجّة على الناس يوم القيامة ، وحتى تكون ميزاناً دقيقاً أَميناً يستطيع الإنسان ممارسته في واقعه البشري .


هذه بعض قواعد الحرّية وركائزها في ميزان الإسلام . تنبع كلها من الإيمان والتوحيد المغروسين في فطرة الإنسان ليرويا الفطرة بجميع قدراتها وطاقاتها ، حتى تتوازن هذه القدرات فتؤدي مَهَمَّتها التي خلق الله هذه القدرات لأَدائها ، وليكون عمل الإنسان وعطاؤه حينئذٍ عملاً صالحاً .


اضطراب معنى الحرّية في واقع المسلمين اليوم

هذه الحرّية ، وكذلك ركائزها ، اضطراب في واقع المسلمين اليوم . اضطربت حين اضطربت الفطرة واضطرب توازنها ، وحين امتدّ الغزو والعدوان على حياتنا وديارنا ينفث سموم الحضارة الغربية تحت شعارات مزخرفة مضللة من " الحرّية " والإِنسانية ة والإخاء والمساواة . فإذا الحرّية هي إرادة القويّ الظالم المعتدي يفرضها بالإغراء أَو بالنار . وإِذا الإنسانية والإخاء شعار يساوي الفقير ويؤاخي المسحوق بالمسحوق ، حتى يستطيع المعتدي المستكبر أن ينهب ويترفّه في فجوره وظلمه . وإذا المساواة هي مساواة الرجل بالمرأة لتنزل المرأة رخيصة بين يدي الشهوة ، هيّنة راضية بالفجور ، خلعت الحياء واللباس والعفاف الذي زيّنها الله به .


وظن شبابنا المخدوعون أَن هذه الحضارة هي التي تقدّم للإنسان حرِّيته وأَمنه وحقوقه . وطغى ضجيج الدعاية طويلاً حتى انجرف في الفتنة شباب ونساء وكهول ، ومجتمعات ، وأقطار شتى . ومضت قرون على هذه الدعايات المظللة . فإذا هي حروب ممتّدة في الأرض لا تهدأ ، يذهب الملايين من بني البشر قرباناً لمصالح العصابات المجرمة في الأرض .


الديمقراطيه أطلقت الحرية الفردية من ضوابطها وجرّدت الإنسان من جوهر قوته وسلامة فطرته

إذا كانت هذه هي الخصائص الإيمانية الرئيسة للحرية في ميزان الإسلام ، فما هي الحرية في الديمقراطيه وفي سائر المذاهب البشرية ؟ المثالية كما دعا إليها هيجل وسواه لا تختلف كثيراً عن المادية التي دعا إليها إنجلز وماركس ولينين وغيرهم . لم يختلفا إلا فيما هو أسبق في الحياة : المادة أم الروح . والروح في مفهومهما واحـد . إنها الفكر وليست الروح التي يتحدث عنها الإسلام ، إنهم لا يؤمنون بها . الديمقراطية والرأسمالية والمثالية أطلقت للفرد حرّيته دون ضوابط وجرّدته من جوهر قوته وسلامة فطرته ، بعد أن خدرته بالشهوات والأهواء . والمادية الشيوعية ودكتاتوريتها خنقت الحرية لا بالتخدير ولكن بالبطش والاستبداد ، وخنقت في الإنسان حقيقة قوته وقتلت فطرته . فمن أين تأتي الحرية الصادقة بعد ذلك ؟


كلٌّ يدّعي الحرّية ، وكل يصوغها على نمط مصالحه المادية وشهواته المتفلتة فالديمقراطية حين أطلقت الحرية الفردية دون ضوابط ، فإنها أَغرقتها في أوحال الحرية الجنسية الملوّثة وأوحال الجريمة والمعصية ، لا توقفها مسؤولية في الدنيا ولا رهبة من عذاب الآخرة . وعندما يطلقون حرية الدين كما يزعمون فإنهم في حقيقة أَمرهم يقتلون الحرية ويدفنونها . ذلك لأنهم خدَّروا الناس بالشهوة والمصالح والجري اللاهث وراء الدنيا ، ليكون هذا هو ميزان الحياة ومقياس الحرية أو الظلم . فجرَّدوا الإنسان بذلك من جوهر قوته التي يفكر بها حرّاً طليقا . جرّدوه من سلامة الفطرة التي لوَّثتها المعصية وأَحاطت بها الجريمة وخنقتها الأهواء والشهوات الثائرة . فأَنى للإنسان أَن يفكر حرّاً . ثم صاغوا له القوانين التي تدفعه إلى الانحراف دفعاً ، وهيأوا له من وسائل الإعلام ما يجعل الشهوة ناراً يلتهب بها دمه ، ثمَّ حبسوا الدين في الكنائس هناك ، لا يخرج للناس منه إلا ظنون وأَوهـام ، وأَحقاد وعصبيات ، لا علم معها ولا بحث عن الحقّ ولا دراسة ولا تَقَصٍّ . حبسوا الدين في الكنائس لا يخرج منها إلا للدعاية التي تحتاجها المصالح الشخصية المتصارعة ، أو لإطلاق حركات التنصير خارج بلادهم لتكون مُمهِّدة للجيوش الزاحفة بظلمها وعدوانها ، أَو لإطلاق المستشرقين ليسوّغوا الضلال ، ويوفّروا التأويل الكاذب ، ويدخلوا التحريف الفاسد ، ويطلقوا الحجة المريضة . ثمَّ بعد ذلك كله يستغلون السلطة والمال والإعلام لينصروا ديناً على دين ، ومذهباً على مذهب ، ويطلقوا الحرّية المتفلّته لهذا ويحجروها على ذاك ، فيتناقضوا مع دعوى يزعمونها وزخرف كاذب يظهرونه حرّية كاذبة مريضة هذه التي يدّعونها ، وفتنة واسعة يلهبون بها الأرض وينشرون بها الفساد .


ولقد جاءت السنوات الأخيرة بخاصة تكشف زيف هذه الحضارة وعمق بؤسها وإجرامها في حق الإنسان ، وتكشف أَن الحرّية لم تكن أَكثر من حرّية الجشع والنهب والاستغلال وانتهاز الفرص ، حتى سمى نيكسون– رئيس جمهورية الولايات المتحدة سابقاً – كتابه الأَخير الذي نشرت بعضه جريدة الشرق الأوسط " انتهاز الفرصة " وكتابه الأسبق " نصر لبلا حرب " يعلن فيه خُطة الحرب الباردة للقضاء على أَعداء أمريكا وتأمين مصالحها الخاصة على حساب شعوب الأرض وبخاصة شعوب العالم الثالث ، كما ذكرنا في الفصول السابقة .


فإذا انهار الاتحاد السوفياتي وتفككت دولته ومؤسساته وبطل سحره ، فإن الغرب نفسه انكشفت أَوراقه وبان زيفه ، وأَخذت تنمو الخانقة شيئاً فشيئاً ، وبدأ الإنسان هناك يشعر أَنه لا يملك حرّية ولا يجد مساواة ولا يرى إخاء ، وإنما يرى نفسه إنساناً مسحوقاً .


فما يسمى " بالسوق الحرّة " كانت في الحقيقة سوق استغلال وفساد . والمؤسسات المالية أصبحت متورطة بأنواع شتى من الجرائم والغش والرشوة ، وصفقات الأسلحة والمخدرات ، وجرائم القتل والمؤمرات . وامتلأت الصحف في بريطانيا وأمريكا تتحدث عن الجرائم اليومية في المجتمع بما تقشعر منه الأبدان ، وكذلك في غيرها من أَقطار الغرب " المتحضر "


في أمريكا عجزٌ متزايد في الميزانية ، ركود اقتصادي ، زيادة العاطلين عن العمل حتى بلغوا (25) مليون أمريكي سنة 1991م ، تسريح عدد كبير من عمال المصانع ، إغلاق شركات كبرى وإفلاسها ، ازدياد عدد الذين يعانون من الفاقة والحاجة . ثم أَخذت الصحف في بريطانيا وأمريكا وغيرهما مثل واشنطن بوست ، نيوزويك ، الغارديان ، الإندبندنت وغيرها تعرض خلال السنتين الماضيتين إحصائيات ودراسات عن هذه المشكلات بصورة تثير الحيرة والقلق والفزع . ولا يختلف الحال في بريطانيا ، وربما كانت بعض المشكلات عندها أَشد إيلاماً . وكذلك أَزمات تتصاعد في ألمانيا وفرنسا ، وكذلك في اليابان .


وامتدّت الجريمة في العالم الغربيّ كله وفي الاتحاد السوفياتي سابقاً ، وفي روسيا وغيرها اليوم . وأوربا يعتبرون لندن مدينة الجريمة لهول ما يقع فيها من جرائم .


الجريمة هناك امتدت إلى الطفل والطفلة ، إلى المرأة والفتاة ، إلى العجائز ، إلى الكهول والشيوخ . وانتشرت حتى لم يعد الشارع آمناً ، ولا الحديقة ولا الفندق ولا المدرسة ولا البيت ولا مكان البيع والشراء . لم يعد الإنسان يجد الأمن ولا الحرّية ، ولم يعد القانون والسلطة ورجالها قادرين على توفير الحماية . الجريمة تكاد تكون يومية تعرضها الصحافة والإذاعة والتلفاز . لقد أصبحت الحرية هي حرّية المجرم في اختير ضحيته وفي اختيار وقت الجريمة ومكانها .


انفلتت ضوابط الحرّية انفلاتاً واسعاً حتى إن فتاة تدخل الانتخابات في إيطاليا ، فتكون حملة دعايتها أَن تعرض جسمها العاري على الجمهور . هي نالت حريتها لتفعل ذلك ، والجمهور نال حرّيته لينظر ويُسَرَّ ثم لينتخبها . هذه الفتاة هي " ليوناستالر " البلغارية الأصل والمسماة تشيتسولينا ( [2] )


تاريخ الحرية في أمريكا عجيب مرعب بالرغم من إقامة تمثال للحرية جامد من الصخر لا حياة فيه . حسبك أن تقرأ كتاب " الجذور Roots " للكاتب الأمريكي الزنجي الكس هالي " Alex Haley " لترى أَبشع جريمة يرتكبها الأمريكان ، حين يسرقون الزنوج المسلمين من أفريقيا ، ويسوقونهم عبيداً تنهبهم السياط ليعملوا في مزارع البيض هناك في أمريكا ، فتُسحق إنسانيتهم وتنتهك أعراضهم ويصحبون ملكاً مباحاً لظلم الأمريكي . ويمتد هذا الظلم قروناً في تاريخ أمريكا لينفجر الزنوج مرة بعد مرة ، كان آخرها حادثة لوس أنجلوس حين اعتدى أربعة رجال مرور على سائق زنجي ارتكب مخالفة السرعة ، فطرحوه أرضاً في الشارع وجلدوه أمام الناس . هاوٍ مرَّ مصادفة فصَوّر الحادث كله ، ورُفعت القضية إلى القضاء الأمريكي لتنكشف حقيقة القضاء المزيّف ويسقط القناع ، فيحكم القضاء ظلماً بتبرئة رجال المرور البيض . وتثور المدينة في أحداث مريعة . السائق الزنجي فقد حرّيته وفقد أمنه ، وفقد القضاء الأمريكي العدالة ، وضاعت المسؤولية واضطرب الحساب . كل ركائز الحرّية منهارة في المجتمع الأمريكي ، وفي مجتمع الحضارة الغربية كلها .


محاكمة " وليم كندي سميث " والفتاة التي اتهمته باغتصابها صورة مفزعة أُخرى لانهيار كل دعائم الحريّة والأمن وسائر ركائزها ، وانهيار العدالة والطهارة في القضاء الغربي . لم يبق من معاني الحرية إلا ممارسة الفاحشة على أوسع نطاق إجرامي .


في ميزان الله هذه جرائم وكبائر ، وفي ميزان الحضارة الغربية هذه حرّية ! أَصدر " مركز الضحايا الوطني "ومركز " الأبحاث ومعالجة ضحايا جريمة الاغتصاب " معلومات هائلة مريعة : (78 ) امرأة تُغتصب كل ساعة في أمريكا . 29% من حوادث الاغتصاب لفتيات دون الحادية عشرة ! ( [3] )


الإنسان في الحضارة الغربيّة مسحوق ومخدَّر . وكل العلوم الحديثة والصناعة تحوّلت إلى أَدوات تسحق الإنسان وتُخدِّر فيه إحساسه وقواه . وإذا نظرت إلى المناهج السياسية في الحضارة الغربية لراعك الحال وأفزعك ، حيث تتضاءل الجرائم السابق ذكرها أمام الجرائم السياسية التي تُفني البشر بالآلاف ، بل بعشرات الآلاف ومئات الآلاف ، ثم تمتدّ حتى تفنيَه بالملايين .


قرون طويلة امتدت والحضارة الغربية هي التي تقود الإنسان ، بعد أن انحسر الإسلام وزالت خلافته في الأرض . لقد كانت هذه القرون مجازر ومآسي ودموعاً وحسرات تكاد لا تتوقف . وفقد الإنسان خلالها جوهر حقوقه وحرّيته . وأَصبح الإسلام اليوم ، كما كان دائماً ، حاجة البشرية كلها ، حاجتهم الملحة . لن ينقذ الإنسان اليوم إلا الإسلام ليعيد له كرامته التي كرَّمه الله بها ، وحقوقه التي سلبتها عصابات المجرمين ، وحرّيته التي قتلها الطغاة الظالمون .


إنها اليوم مسؤولية المسلمين ، مسؤولية كل مسلم صادق ، أَن ينهض لبناء الأُمة المسلمة الواحدة في الأَرض ، لنقدّم للبشرية النموذج التطبيقي للحرّية والإخاء والعدالة ، لنقدم للناس النظام العالميّ الحق الذي يحتاجه ، وليسود الأَرض شرع الله بدلاً من " الشرعية الدولية المزّيفة " ! فشرع الله أَعلى وأصدق وأَوفى . فهل ينهض المسلمون لهذا الواجب والأَمانة ؟! إِنها الأَمانة التي وضعها الله في عنق الإنسان المؤمن ، في عنق الأُمة المسلمة . إنها رسالة الله ودعوته ودينه ، يحمله الصادقون إلى الناس كافة !


(( إنا عرضنا الأمانة على السموات والأرض والجبال فأبين أن يحملنها وأَشفقن منها وحملها الإنسان إنه كان ظلوماً جهولاً * ليعذب الله المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات ويتوب الله على المؤمنين والمؤمنات وكان الله غفوراً رحيماً )) [ الأحزاب : 72،73 ]


لقد كان الإنسان ظلوماً حين ظلم نفسه فقصَّر عن حمل الأَمانة التي أكرمه الله بها ، وكان جهولاً حين جهل عظمة الأَمانة وشرفها وخيرها ، وحين جهل أنها ابتلاء من الله يميز به المنافقين والمنافقات والمشركين والمشركات عن المؤمنين والمؤمنات الذين صدقوا .


إنالديمقراطيه والرأسمالية والشيوعية والعلمانية والحداثة لم تفقد جوهر الحرية وحقيقتها فحسب . إنها فقدت معها الأمن والعدل والكرامة الإنسانية وهبطت به أسفل سافلين . إنها أفقدت الناس حقيقة الإيمان والتوحيد اللذيْن هما أساس حياة الإنسان وأساس مستقبله في الدنيا والآخرة .

انظر في الأرض أنّى شئت لا تكاد ترى إلا أَمواج المظالم تتدافع في أجواء الديمقراطية والشيوعية . هذه البوسنة والهرسك حيث تُرْتَكب الجريمة الكبرى بعد جريمة فلسطين المروّعة . وهذا حال المسلمين في الهند وكشمير والشيشان وغيرها من بقاع الأرض وبخاصة في العالم الإسلامي ، حيث تُرتكب أفظع الجرائم في تاريخ الإنسان ، وحيث يُسحق الإنسان المبادئ والمثل والقيم ، وتسقط الشعارات في أوحال الجريمة والفساد . وحيث يهوي النظام العالمي الجديد ليدفن نفسه بين الجماجم والأشلاء والدماء التي تتدفق .


وهذه بلجيكا اليوم تطلع علينا بأبشع صور الجريمة في حق الأطفال . حيث يُسرَق الأطفال ويتُاجر بهم في أوحال الجنس الذي تقشعرّ منه الأبدان وستظل الديمقراطية الغربية تفرز كل يوم نموذجاً جديداً من الجرائم والفساد . وهذه موسكو طغت عليها الجريمة وغاب عنها الأمن واضطربت الحرية ودُفنت !


البشرية كلها بحاجة اليوم إلى الإسلام فهل ينهض الدعاة المسلمون إلى مسؤولياتهم قبل أن يُنزِل الله عقاباً أشد من عقاب ، وبلاء أشد من بلاء .


الهوامش

[1] علي الطنطاوي وناجي الطنطاوي : أخبار عمر _ دار الفكر بيروت _ (ط:2) (1379هـ _ 1980م ) _ (ص:156 .

[2] الوطن العربي : العدد 223 ـ 749 ـ الجمعة 28/6/1991م .

[3] الحياة : العدد 1067 ، الأحد 24/10/1412هـ (26/4/1992م ) .