الأستاذ محمد مهدي عاكف رمز عزة الإخوان .. وإباء رجل العقيدة

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
الأستاذ محمد مهدي عاكف رمز عزة الإخوان ... وإباء رجل العقيدة


مقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم

كشف أسامة مرسي، نجل الرئيس المصري محمد مرسي، تفاصيل عرض قُدم للمرشد السابق لجماعة الإخوان المسلمين أ. محمد مهدي عاكف جرت خلاله مساومته على "تأييد الانقلاب" مقابل خروجه من السجن.

وكتب أسامة عبر حسابه على الفيسبوك يقول:

"طلب أحد النافذين من الأستاذ محمد مهدي عاكف تأييد الانقلاب أو حتى الإساءة للرئيس مرسي فقط مقابل خروجه من معتقله وعودته إلى بيته".

وتابع:

"فأبى الرجل وقال: لم أفعلها لأخرج من السجن في ريعان شبابي أفأخذل وطني وقضيتي في شيبتي … والله لا يكون ولا أفتن شبابا أفنيت عمري في تعليمهم الصلابة والصمود".

هيثم ابو زيد يكتب:

مهدي عاكف ... المرشد السابق

رسائل.gif

الأربعاء، 27 يناير 2010

يقتضينا الإنصاف أن نوجه تحية إكبار للأستاذ محمد مهدي عاكف المرشد العام للإخوان (سابقا) بعد أن ضرب مثلا غير مسبوق فى حياتنا السياسية العربية والمصرية والحزبية، بإصراره على عدم التجديد له فترة ثانية، رغم حقه فى ذلك لائحيا، ورغم ضغوط إخوانه عليه من داخل مصر وخارجها للبقاء فى موقعه.

وكاتب هذه السطور يحمل فى عقله وقلبه أطنانا من النقد الجوهرى الشديد للإخوان المسلمين، وهو نقد يشمل فى الإخوان جانبهم النظرى الفكرى، والعملى السياسى، والتنظيمى الإدارى.

لكنى أرى أن الأستاذ عاكف يستحق منا الآن التحية والإشادة، حيث وفى الرجل بتعهده الذى قطعه على نفسه فى الأيام الأولى من توليه قيادة الجماعة بأن لا يقبل التجديد لفترة ثانية، فى موقف عز نظيره، وفى بلد اعتاد التأبيد فى المناصب حكومية كانت أوشعبية، ليكون أول من يحظى بلقب المرشد العام السابق للإخوان المسلمين، وهو لقب لم يعرفه الإخوان فى تاريخهم الممتد عبر ثمانية عقود.

لقد عمل الأستاذ عاكف لما يعتقد أنه الصواب، ومرت عليه أحداث جسام، وأوقات عصيبة، وفى أسطر حياته حكم بالإعدام، وربع قرن من السجون، وتولى مسئولية الإخوان فى ظروف صعبة، سواء على مستوى الدولة المصرية أو على مستوى الداخل الإخوانى،، فأصاب الرجل وأخطأ، وأحسن وأساء، وإذا كانت الأعمال بالخواتيم، فقد كان الختام الحركى للأستاذ عاكف مشرفا وباهرا، ومثلا قائما للإخوان ولغير الإخوان، فله منى أرق التحايا، وأصدق الدعوات بالصحة والعافية.

(كاتب السطور السابقة صحفي يعمل في جريدة "اليوم السابع" المصرية ذات اللسان المتطاول على الجماعة وشئونها بصورة غير موضوعية ولا منصفة، ولكن الموقف كان أكبر من أن تتجاهله وسائل الإعلام في حينها . ومن هنا آثرنا أن نأتي بهدة السطور، من باب "وشهد شاهد من أهلها ") ولله الحمد والمنة

المرشد السابع للجماعة .. الأستاذ محمد مهدي عاكف

محمد مهدي عاكف 12 يوليو 1928 المرشد العام السابق لجامعة الإخوان المسلمين وهو المرشد العام السابع للجماعة وقد تولي هذا المنصب بعد وفاة سلفه مأمون المرحوم مأمون الهضيبي في يناير عام 2004. وقد خلفه في موقع الإرشاد، المرشد الصابر المحتسب د. محمد بديع القابع مع الأستاذ عاكف وإخوانهما ظلما وعدوانا خلف أسوار سجون سلطة الإنقلاب ..

يعد أ. محمد مهدي عاكف صاحب لقب أول مرشد عام سابق للجماعة حيث تم انتخاب د. محمد بديع بعد انتهاء فترة ولايتة وعدم رغبته في الاستمرار في موقع المرشد العام ليسجل بذلك سابقة في تاريخ الجماعة والمنطقة.

حياة أ. عاكف في سطور

من مواليد كفر عوض السنيطة -مركز أجا دقهلية، مدرسة (المنصورة) الابتدائية، ثم التوجيهية من مدرسة (فؤاد الأول) الثانوية بالقاهرة، ثم التحق بالمعهد العالي للتربية الرياضية، وتخرج في مايو 1950م.

  • عمل بعد تخرجه مدرساً للرياضة البدنية بمدرسة (فؤاد الأول) الثانوية.
  • عرف الإخوان في وقت مبكر في عام 1940م، وتربى على شيوخ الإخوان وعلمائهم، وعلى رأسهم الإمام حسن البنا، وكان من أحبِّ المشايخ إلى نفسه محيّ الدين الخطيب.
  • التحق بكلية الحقوق 1951م، ورأس معسكرات جامعة إبراهيم (عين شمس حاليًا) في الحرب ضد الإنجليز في القناة حتى قامت ثورة 1952، وسلَّم معسكرات الجامعة لـكمال الدين حسين المسئول عن الحرس الوطني آنذاك.
  • كان آخر موقع شغله عاكف في الإخوان قبل صدور قرار بحل الجماعة عام 1954م هو رئاسة قسم الطلاب
  • قُبض عليه في أول أغسطس 1954م، وحُوكم بتهمة تهريب اللواء عبد المنعم عبد الرؤوف- أحد قيادات الجيش واحد اعلام الإخوان - والذي أشرف على طرد الملك "فاروق" - وحُكم عليه بالإعدام، ثم خُفف الحكم إلى الأشغال الشاقة المؤبدة.
  • خرج من السجن سنة 1974م في عهد الرئيس المصري الراحل أنور السادات ليزاول عمله كمدير عام للشباب بوزارة التعمير.
  • اشترك في تنظيم أكبر المخيمات للشباب الإسلامي على الساحة العالمية بدءً من السعوديةالأردنماليزيا – بنجلاديش – تركيا – أستراليا – مالي – كينيا – قبرص – المانيا – بريطانيا – أمريكا..
  • عمل مديرًا للمركز الإسلامي بميونخ.
  • قُدِّم للمحاكمة العسكرية سنة 1996م؛ فيما يعرف بقضية سلسبيل والتي ضمت وقتها عدد كبير من قيادات الإخوان المسلمين، وقد اتهمه الادعاء بانه المسئول عن التنظيم العالمي للإخوان المسلمين، وحُكم عليه بثلاث سنوات، ليخرج من السجن في عام 1999م.
  • متزوج وله أربعة أولاد.
  • تزوجت صغرى بناته عام 2006.
  • رفض إعادة انتخابه مرشداً للإخوان وترك المنصب بعد انتخاب د.محمد بديع مرشدا خلافاً له في 16 يناير 2010
  • اختير في المرتبة ال12 ضمن 50 شخصية مسلمة مؤثرة في عام 2009 في كتاب أصدره المركز الملكي للدراسات الإستراتيجية الإسلامية وهو مركز أبحاث رسمى في الأردن حول أكثر 500 شخصية مسلمة مؤثرة في عام 2009

ومضة من حياة مرشد الجماعة الأستاد محمد مهدي عاكف

قصة زواجه

ومضة من حياة مرشد الإخوان الأستاذ محمد مهدي عاكف (قصة زواجه).

الأستاذ محمد مهدي عاكف - يحكى أنه كان يعرف أخت ملتزمة وكانت جارته وكان يقول لها أثناء شبابه أنه سيتزوجها وكان أهلها - من الإخوان المسلمين ــ يعرفون هذاولكن هذه الأخت كانت ذا بصيرة نافذة، فرفضت الزواج منه وقالت له يامحمد ..

أنت لن تتزوجنى، وإنى لأشعر أنك ستتزوج إبنتى لغريب أنهما كانا فى عمر متقارب ومثل محمد مهدي عاكف لايرد ــ فما يعرف عنه إلا الإلتزام - ثم كيف تقول له أنها تشعر أنه سيتزوج إبنتها التى لم تأتى بعد لأنها لم تتزوج أصلا ...

ومرت الأيام وجاءت إعتقالات عبد الناصر - عليه من الله مايستحقه - وتم إعتقال الإخوان حتى أنه كان يحمل الإخوان وكل من كان ملتحيا - لأن الإخوان بلا إستثناء كانوا ملتحين وكانوا يهتمون بالهدى الظاهر - وكان عبد الناصر يجمع كل من كان ملتحيا فى قطارات لا فى سيارات لكثرتهم

وكان يفتنهم عن فكرهم الشمولى للإسلام وحكم على كثير من الإخوان بالإعدام شنقاً وكان من هؤلاء رحمهم الله الشهيد بإّذن الله وعبد القادر عودة وسيد قطب وغيرهم من مفكرى وقيادى الإخوان، وكان بطل القصة أستاذنا المرشد محمد مهدي عاكف من ضمن القائمة غير أن الله أبى إلا وأن يعتقل فقط ولايشنق

وإعتقل المرشد أكثر من عشرين عاما أذكر أنه أعتقل ثلاثة وعشرين عاما وعندما خرج من سجنه وجد الفتاة الملتزمة التى قد أعجب وبها وتقدم لخطبتها ورفضت قد تزوجت وأنجبت عروسا جميلا عمرها 22 سنة فتقدم إليها وتزوجها وصدقت نبؤة أمها ـ لما رأته من عمله وجهده من أجل الإصلاح والتغيير ـ أنه لن يتزوجها لأنه سيعتقل وسيخرج بعد مدة لتكون قد جهزت له إبنته ليتزوجها

فسبحان مقدر الأرزاق

سجين كل عصور الطغاة في سبيل كلمة الحق والدعوة إلى الله

الحاج مصطفى الكومى والأستاذ أحمد المصري وأ. مهدي عاكف ممسكا بالمصحف

تقرأ على صفحة وجهه تاريخ مصر على امتداد سبعة وثمانين عاما هي عمر جماعة الإخوان المسلمين (1928م2015م).. تاريخ من نوع خاص حافل بالكفاح والمعاناة والصمود الأسطوري.. تاريخ لطالما سعى الاستعمار القديم والحديث عبر أذنابه محوه وتشويهه ووصمه بكل نقيصة وجريمة لأنه يمثل ملحمة كفاح ضد احتلالهم لبلادنا وغرس مشروعهم البغيض في كل شبر منها.

تقرأ في نظرات عينيه ثقة عميقة بالله عز وجل وتلمح في ثغره ابتسامة الرضا مع مواصلة النضال بعزم لا يلين حتى يقضي الله أمرا كان مفعولا.. ذلك المعدن الفريد من الرجال الذي تربى في مدرسة الإخوان المسلمين قرر منذ صباه تقديم حياته فداء لتحرير بلاده من الاستعمار وأذنابه، ولم يتوقف عن الكفاح حتى بلغ من الكبر عتيا خلف قضبان الطغاة.

شاهد رئيس على أحداث كبرى ومحورية داخل الجماعة بصفته أحد الذين عايشوها. هو الأستاذ محمد مهدي عثمان عاكف المولود في21 يوليو 1928م في قرية كفر عوض السنيطة مركز أجا ـ دقهلية بدأ تعليمه بالمنصورة وعندما التحق بالجامعة انتقل إلى القاهرة مع والديه وإخوته (عشرة من الإخوة والأخوات)، وكان ذلك عام 1940م وهي السنة التي عرف فيها جماعة الإخوان المسلمين..

أربعة وسبعون عاما قضاها مع تلك الجماعة المباركة ظل خلالها في مقدمة الصفوف قريبا من مؤسسها الإمام البنا ثم المرشدين الخمسة الذين سبقوه.. ثم المرشد السابع الذي تلاه الدكتور محمد بديع، شارك خلالها في مواقف وأحداث مهمة ومحورية وعاش عهودا مختلفة من عهد الملكية حتى اليوم.

شارك في الإعداد لعمليات الجهاد في فلسطين وأشرف على معسكرات الجهاد ضد الاحتلال الإنجليزي لمصر واحتك بقادة ثورة يوليو وكان له معهم تجربة ثرية. الرجل يصارع المرض خلف قضبان الطغاة دون أن يذكره إعلام العار بكلمة، وإن ذكر فللتضليل والكذب والبهتان، ولم تتذكره منظمات حقوق الإنسان المحلية أو الدولية ولم يلتفت إليه بالطبع الإعلام العالمي ولا بيانات البيت الأبيض التي تخرج أسرع من الصاروخ من أجل الصهاينة وعبدة الشيطان.

من أبسط حقوق الرجل على أي قلم حر الكتابة عنه والتذكير بقضيته التي تمثل عنوانا لأبشع جريمة في حق الإنسان ضحيتها أكثر من أربعين الف معتقل من خيرة أبناء مصر يتقدمهم قادة الإخوان وبينهم رجال كبار وأطفال صغار ونساء وشباب ولا حول ولا قوة إلا بالله. نتوقف فقط عند فصل واحد من حياته - وهو كفاحه ضد الاحتلال الإنجليزي، فقد كان من قادة الاحتجاج ضد الاحتلال الإنجليزي منذ كان طالبا في المرحلة الثانوي.

يقول عن تلك المرحلة:

" في سن الثانية عشرة من عمري تعرفت على دعوة الإخوان وكان للإخوان يومها نشاطا ضخما في المدارس.. وبمجيء وزارة صدقي باشا سنة 1947م سعى لعقد معاهدة مع الإنجليز، فتفجرت المظاهرات الضخمة في أنحاء (مصر) بقيادة الإخوان، وكانوا يقبضون علينا ويضعوننا في الأقسام
وقد وضعوني في قسم "الوايلي" بالقاهرة، وصدر قرار بفصلي من جميع المدارس الأميرية في أنحاء القطر المصري، وأصر صدقي باشا - علي الرغم من صداقته لوالدي - على ألا أبقى بالقاهرة، مقابل الإفراج عني، فأخذني والدي ـ يرحمه الله ـ وعدنا إلى البلد، ومكثت هناك حتى سقطت حكومة صدقي باشا في مارس 1947 م.

وعن كفاحه ضد الاحتلال الإنجليزي يتساءل:

"هل يتصور أحد أنه في عام 1951م كنا نقيم معسكرات في قلب الجامعة وندرب الطلاب بالذخيرة الحية على مقاومة الاحتلال؟! وقد كان كل أساتذة الجامعة يرحبون بما نقوم به أملا في تحرير مصر من الإنجليز.. الذين تركوا القاهرة نهائياً تحت ضغط المظاهرات الحاشدة وتمركزوا في منطقة قناة السويس.
يومها تحملت الجامعة المسؤولية لأن الإدارة كانت وطنية والسلطات تغاضت تماما. وقد أقمنا تلك المعسكرات لأننا أردنا أن نكون عمليين أكثر في مقاومة الاحتلال، وكنت يومها قائدا لمعسكر جامعة إبراهيم (عين شمس حالياً).
وسأسرد لك قصة تبين مدى رجولة رجال الجامعة آنذاك مع الطلبة.. فقد وضعنا بعض الأهداف للمعسكرات، وكان منها:
محو الأمية العسكرية لدى الشعب المصري المحتلة أرضه.. وكان لا يقوى على الصمود ومواصلة التدريب إلا القليل، وهم الذين كانوا يذهبون للقتال في القناة ضد الاحتلال الإنجليزي، ولكن التدريب كان مفتوحاً ومتاحاً للكل، وظهر من شباب الجامعة، رجال من غير الإخوان أعتز بهم حتى الآن، بل ومن النصارى، فقد كان معنا أحد النصارى الميسورين، وكانت لديه سيارة فخمة، وكان يصر على أن يقود لي هذه السيارة بنفسه..
كما أن سيدة ميسورة (اسمها قوت الدمرداشية) - صاحبة مستشفى الدمرداش الذي تحول بعد ذلك إلى كلية للطب - أرسلت لي سيارة، وكنت معروفاً جداً آنذاك.. ولما جاء ابنها - وكان طالباً بكلية الطب - وقال لي: هذه السيارة هدية لك ... قلت: أما لي فلا، وأما للمعسكر فنعم، فردت علي والدته قائلة: لاستعمالك الشخصي في المعسكر... فقلت: وهو كذلك، وبعد نهاية المعسكر أعدتها اليهم مع خطاب شكر.
وكان يرأس جامعة إبراهيم (عين شمس حالياً) أستاذ جليل، هو د. محمد كامل حسين، كبير جراحي العظام في الوطن العربي، وكان يشاركنا جهادنا، وقد أرسل لي عميد كلية الحقوق د. عثمان خليل وكنت طالباً بها - بعد أن أنهيت الدراسة في كلية التربية الرياضية
وقال لي: يا عاكف.. مدير (رئيس) الجامعة يريد تنظيم حفل افتتاح للمعسكر حتى يحضر، فقلت له: أنت رجل قانوني، ونحن في هذا المعسكر داخل حرم الجامعة نعد ناسا خارجين على القانون (وكان أحد لا يستطيع دخول المعسكر .. لا احتلال ولا أمن ولا غيره، كما يحدث الآن) فإن كنتم تريدون أن تشاركونا في المسؤولية فمرحباً..
ثم أرسل لي رئيس الجامعة مرة أخرى عميد كلية الهندسة ثم قائد حرس الجامعة بنفس الرسالة، ثم أرسل لي رسالة بالحضور فذهبت إليه، وكان رجلاً محترماً فقال لي: إنه لشرف عظيم ـ يا بني ـ أن أشارككم جهادكم. فهل تجد مثل ذلك الآن؟
وعن موقف الشيوعيين يضيف الأستاذ عاكف قائلا:الشيوعيون على امتداد تاريخهم مستغلون ومنتهزون للفرص..ففي ذلك الوقت كانت هناك انتخابات لاتحاد طلاب الجامعة، فجاءني بعض الإخوة وقالوا: الشيوعيون وزعوا منشورا علي نطاق واسع داخل الجامعةً.. بعنوان: أين السلاح يا عاكف؟ فقلت لهم: أعلنوا عن عقد مؤتمر وأنا قادم، وانتظرت الجامعة كلها محمد عاكف..
وكانت الجامعة قبل الثورة قد حددت 6 من الأساتذة للإشراف على إنفاق المعسكر.. وقد وجه لي هؤلاء الأساتذة في نهاية المعسكر خطاب شكر، وكان رئيس الجامعة محمد كامل حسين يقول لي: " لم أجد آمن منكم" ، ولم يكن أحد غيره عنده ملف المعسكر بالكامل، وكان يعرف ماذا اشترينا وماذا فعلنا.
المهم.. ذهبت إلى المؤتمر ومعي خطاب الشكر من الأساتذة وقلت في كلمتي: يؤسفني أن يكون هذا المعسكر الضخم الذي تم تنظيمه لمقاومة المحتل مثار تهكم، ومجالاً للتكسب الحقير والدعاية الرخيصة من بعض الأحزاب التي لم تشترك فيه، ليشوهوا هذه الحركة المباركة الضخمة.. ويكفي أن الأستاذ فلان والأستاذ فلان- أساتذة كباراً - قدموا لي خطاب شكر، ثم أخرجت الخطاب وقرأته، فظلت الصالة تصفق حوالي 10 دقائق، وحصل الإخوان وقتها على 100% في الانتخابات وسقط الشيوعيون سقوطاً مدوياً.
ذلك جانب وطني مهم من حياة الأستاذ المرشد المليئة بالتضحيات الكبيرة .. لكن المكافأة من نظام مصر العسكري للأستاذ عاكف وأمثاله من الوطنيين الشرفاء كان التنكيل والسجن والتعليق علي أعواد المشانق وذلك عين ما يسعد به الكيان الصهيوني ..ويكفي انه سجين كل العصور في سبيل كلمة الحق والدعوة إلى الله ...
فقد سجنه عبد الناصر وحكم عليه بالإعدام ثم خفف الحكم للمؤبد يومها أشيع عنه أنه مات من شدة التعذيب ولكن الله كتب له الحياة علي يد "روبير" اليهودي الذي جمعه به السجن وكان يصب قطرات من الماء في فم الأستاذ عاكف حيث كان يصارع الموت.. وتلك مشيئة الله وسبحان الذي يخرج الحي من الميت بقدرته ..
واليوم يضنون عليه بالحرية ويضعونه في سجن شديد الحراسة يا لها من قلوب أشد سوادا من الليل الحالك! في عهد مبارك تم سجن الأستاذ المرشد عاكف لمدة ثلاث سنوات إثر محاكمة عسكرية ضمن سلسلة محاكمات الإخوان العسكرية .
واليوم يسجنه السيسي بتهم ظالمة ضمن عشرات الآلاف من خيرة أبناء مصر .. وبينما ينعم مبارك في أفخم المستشفيات بعد أن خرب مصر وأذل شعبها ثم نال البراءة في النهاية يقبع محمد مهدي عاكف الرجل التسعيني في زنزانة شديدة الحراسة في سجون مصر بين عشرات الآلاف من قادة الإخوان وشبابها والوطنيين الشرفاء الذين رفضوا الانقلاب ومازالوا وسيظلوا حتى الرمق الأخير دفاعا عن حرية بلادهم وطهارتها من الفساد والمفسدين.
إن كل معاني الشرف والإباء تقف احتراما لهذا الرجل ولكل من معه وسيعلم المغيبون يوما أن هؤلاء قدموا ويقدمون وسيقدموا أغلى ما يملكون (حياتهم) لتحيا تلك الأمة عزيزة كريمة بإذن الله سبحانه وتعالى. وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون . إنها الوحشية في الانتقام والفجور في الخصومة.. ولا حول ولا قوة إلا بالله.

سليم عزوز يكتب:محمد مهدي عاكف

ا. سليم عزوز

فلتت مني ضحكة تفتقد لسبق الإصرار والترصد، وأنا أقرأ للإعلامي "عبد الله الماحي" ، وهو يذكر سلطة الانقلاب بدور المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين السابق "مهدي عاكف" ، في مواجهة قوات الاحتلال الإنجليزي لمصر!.

ليس عندي علم بدور الرجل في مواجهة المستعمر البريطاني، لكن ما أضحكني أن "الماحي" لم يجد ما يستدر به عطف جلادي العصر في مصر، إلا هذا الدور الوطني، وبينما كنت أقرأ ما كتب، قفزت الحكاية الشعبية الشهيرة عن "الناس التانيين" إلى سطح الذاكرة!

إذ يروي أن شخصاً وقع في قبضة "عصابة" لتسأله إن كان معهم أم مع "الناس التانيين" ؟، فلما أكد بانتهازية أنه معهم، كانت المفاجأة التي وقعت على رأسه كالصاعقة، عندما أخبروه أنهم "الناس التانيين" !.

فقد ظن الزميل "الماحي" لفرط سماحته، أن الحكم في مصر حكم وطني على نحو سيدفعه بمجرد التذكير بهذا الدور العظيم لمهدي عاكف، لإعلان اعتذاره على الملأ، وقد يستدعيه عبد الفتاح السيسي إلى بيته ليتناول معه الغداء، كما كان يفعل السادات مع السياسيين والصحفيين الذين يستدعيهم لزيارته في منزله.

وبالمرة كنا سنعلم أين يقيم السيسي، فهو "الرئيس الوحيد" في تاريخ مصر الذي ينطبق عليه قول العندليب الأسمر: "وحبيبة قلبك يا ولدي ليس لها عنوان" ، مع الوضع في الحسبان استخدام صيغة "التذكير" مع هذا المقطع!.

ومن حسن الحظ، أن الانقلابيين لم ينتبهوا إلى ما كتبه "عبد الله الماحي" ، فلو انتبهوا فربما اعتبروا في "عاكف" صيداً ثميناً، يمكن أن يتقربوا باعتقاله للإنجليز، والسيسي يستعد لزيارة بريطانيا، بدعوة من رئيس وزرائها.

وما يكشف أن القوم هم "الناس التانيين" ، أنهم عندما أرادوا تحريض البريطانيين على إصدار قرار بوضع الإخوان على قائمة الإرهاب، جعلوا من دور الإخوان في مقاومة الاحتلال الانجليزي على مصر دليلاً على كونهم جماعة إرهابية في تصرف ينحدر إلى "الخيانةالوطنية" !.

مهدي عاكف، عمره من عمر جماعة الإخوان المسلمين، فهو من مواليد سنة 1928، وكان يمكن للدهشة أن تستولي على كاتب هذه السطور لاعتقال رجل يبلغ من العمر الآن 87 عاماً، لولا أني تذكرت الأطفال والنساء الذين اعتقلهم الانقلاب العسكري بتهمة العمل على قلب نظام الحكم، وكثير منهم جرى اعتقاله لحمله "شارة رابعة" ، التي يتم النظر إليها على أنها صاروخ أرض جو، تمثل دليل اتهام على العمل المسلح!.

الشيخ "مهدي عاكف" مريض، ومن في سنه وظروفه الصحية يستحق عفواً، وإن صدر حكم قضائي بإدانته وسجنه، وليس محبوساً في قضية "فشنك" ، وهي الخاصة بالتحريض على قتل المتظاهرين في أحداث مكتب الإرشاد، فهذا الحادث أتذكر تفاصيله جيداً، إذ كان الإخوان مجنياً عليهم فيه، وكان هدف المظاهرات الاعتداء على مقر الجماعة، وقد نقلت الفضائيات التي استعدت لهذا الحدث التاريخي

وهذه الغزوة العظيمة، ما جرى على الهواء مباشرة، وسط احتفال كبير بدماء عناصر الإخوان وهي تنزف، والذين لم يكونوا قد ذهبوا إلى أحد ولكن المعتدين هم الذين قاموا بالهجوم على مقر الجماعة، مع غياب كامل لأجهزة الأمن، وهو غياب كان يستهدف تمكين المعتدين من إيقاع هزيمة بالإخوان!.

لقد شاهدنا عبر الشاشات دماء عناصر الجماعة، وكان المعتدون هم من القوى المدنية، ونُقلت صورة لحازم عبد العظيم عضو الحملة الانتخابية لعبد الفتاح السيسي بعد ذلك، وهو يحمل حجراً في يده، وظهر بعد ذلك في غاية السعادة بدوره النضالي على الجبهة كما لو كان من "أطفال المقاومة" !.

تذكري لهذا اليوم، أنه شهد وضعي للدكتور البرادعي وكنت من مؤيديه في إطاره الصحيح، بعد أن ذهبت السكرة وحلت الفكرة، وتبين أنه يكيل بمكيالين عندما يبدو في مواقف أخرى حزيناً على الدم المصري، ويتجاهل هذه الدماء الآن لأنها دماء خصومه السياسيين، المراق بأيدي أنصاره، وطالبته أكثر من مرة عبر مواقع التواصل الاجتماعي بإدانة ما يجري ولما لم يفعل، فقد نفضت يدي منه!.

ما علينا، فما أردت قوله، أننا أما قضية ليست حقيقية، استهدفت التنكيل بالمتهمين فيها، ومن بينهم "مهدي عاكف" المتهم بالتحريض على قتل المتظاهرين "السلميين" ، على نحو كاشف بأن نية التنكيل متوفرة ضد رجل يبلغ من العمر 87 عاماً، ومريض بالكثير من الأمراض، التي تجعل من سجنه لا مبرر له!... فماذا فعل الشيخ "عاكف" ليكون عرضة لدوافع الانتقام لدى قائد الانقلاب؟!

لقد علمنا أن الرجل كان ضد ترشيح الدكتور محمد مرسي داخل الجماعة، وربما كان من الأصوات التي رأت عدم منافسة الجماعة على موقع الرئيس، وهو رجل شجاع لا يناور، ولا يعرف اللف والدوران. ووصف الشجاعة ليس أمراً عارضاً بسبب ظروف سجنه، فقد كتبت أكثر من مرة قبل ثورة يناير وإبان توليه منصبه وقلت إنه أشجع من تولى منصب المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين، فالذي في قلبه على لسانه، ولم نر له خطابين أحدهما داخل التنظيم والثاني لوسائل الإعلام!.

وقد قاد "عاكف" عملية التقارب مع الأحزاب والقوى الأخرى، فترأس وفداً من مكتب الإرشاد لزيارة مقار الأحزاب السياسية وفتح حوارا معها، عندما تولى موقع المرشد العام للجماعة. وضرب مثلاً مهماً في تركه منصبه بعد انتهاء دورته، ليكون في تاريخ الجماعة لأول مرة مرشداً عاماً سابقاً، لا راحلاً!.

وصفة الشجاعة تحلى بها منذ شبابه، وقد حُكم عليه بالإعدام وخفف الحكم في وقت لاحق، لأنه قام بتهريب اللواء عبد المنعم عبد الرؤوف عندما انقلب عليه ضباط يوليو، مع أنه منهم، وكان هو صاحب اقتراح طرد الملك بعد قيام ثورة 1952 وصاحب خطة حصار قصر رأس التين، وحمله على مغادرة مصر، ولم يكن هذا مطروحاً على جدول أعمال الثوار. وكان عبد المنعم عبد الرؤوف من الإخوان المسلمين.

فماذا فعل "عاكف" ليوغر صدر عبد الفتاح السيسي ويجعل من موته البطيء في السجن هدفاً، لأن معنى وضعه في السجن مع تقدمه في العمر، ومنع الزيارة عنه، ومنع الأدوية، أن قراراً بقتله قد صدر، ولن نفاجأ لو استيقظنا ذات صباح على خبر موته داخل محبسه، لاسيما وأنه ليس صاحب قرار مؤثر إذا خرج من السجن، ولم يعد في سن أو في حالة صحية تسمح له بالمواجهة.

إنها شهوة الانتقام، والرغبة في التنكيل، وربما كانت سوابق الرجل في ساحات الشجاعة، جعلت هناك رغبة في كسره، ممن كان يبالغ في الانكسار في مواجهة الرئيس محمد مرسي. فهل يدفع "عاكف" ثمن تاريخ غيره الحافل بمشاهد الانكسار والخنوع؟!

المرشد السابق مهدي عاكف يفتح دفتر ذكريات 80 عامًا

الحاج مصطفى الكومى (عمدة كفر حكيم) والأساتذة علي نويتو ومحمد مهدي عاكف

الأربعاء 03 أغسطس 2011

  • مكالمة والدتي أنقذتني من حبل المشنقة وأنا في غرفة الإعدام
  • يهودي شاهد الإخوان في الهايكستيب بالعمم فقال لن تهزموا
  • حولنا سجن الواحات إلى جنة وتغلبنا على المحاريق بالنظام
  • ذبنا علي الجربان في قنا وقضيت 3 سنوات كاملةً "انفرادي"
  • تزوجتُ وأديتُ الحجَّ فور خروجي من السجن دون أموال
  • من شدة التعذيب قالوا إنني مت ونسبوا لي تهمًا كثيرة
  • الصحف المصرية صنعت منا أبطالاً دون أن تدري
  • المساجين في ليمان طره استقبلوني ببدلة وعمامة العمدة

أجرى الحوار: أحمد سبيع ... المعتقل ظلما وعدوانا في سجون نظام الأنقلاب العسكري.

رمضان هذا العام له مذاق خاص عند الشعب المصري؛ حيث وصفوه بأنه رمضان الثورة باعتباره الأول بعد ثورة الخامس والعشرين من يناير، إلا أنه عند الأستاذ محمد مهدي عاكف المرشد العام السابق لجماعة الإخوان المسلمين له مذاقٌ آخر، فهو يراه عودةًلرمضان الحرية التي كانت تعيشها مصر قبل ثورة يوليو 1952م

وعادت لها مرةًأخرى بعد يوم 25 يناير 2011م، وخلال ما يقرب من 59 عامًا هي الفترة بين الثورتين يفتح لنا الأستاذ عاكف دفتر ذكرياته مع رمضان، ثم يعود بنا للوراء قبل ثورة يوليو ليتذكر كيف كان يستقبل الإخوان شهر رمضان ثم يدفع بنا للأمام لما بعد ثورة يناير، ليؤكد أن رمضان مع الحرية له طعم مختلف.

  • سألنا الأستاذ عاكف في البداية عن رمضان 2011م وما الذي يمثله له بعد تاريخ من النضال تجاوز الثمانين عامًا؟
رمضان 2011م هو رمضان الحرية ورمضان الشرف ورمضان العدل ورمضان الرحمة ورمضان المسئولية ورمضان الخلق ورمضان الذي دعا إلى مكارم الأخلاق ورمضان الذي ثوابه عند الله في ظلِّ الحرية له طعم وفي ظل الاستبداد له صورة أخرى؛
لأنه في ظلِّ الاستبداد كنا نتحدى الاستبداد ونذهب إلى صلاة القيام وكنا نتحدى الاستبدادونعد شنط رمضان للفقراء والمساكين ونتحدى الاستبداد ونصرُّ على التواصل معالإخوان والأحباب، أما اليوم فإننا أصبحنا في نعمةٍ من الله لا بد ولذلك أن نزيد فيه من الصلاة والعبادة والخير والبر والرحمة.
  • لو أراد الأستاذ عاكف أن يعود بذاكراته الرمضانية.. ما المحطات التي لا ينساها؟
هناك العديد من المحطات
الأولى في الأربعينيات حينما كان الأستاذ البنا- رضي الله عنه وأرضاه- يقيم صلاة القيام بالقرآن كله داخل المركز العام، وفي اليوم الذي كان يتغيب فيه لأي سبب كان يقوم الشيخ سيد سابق مكانه.

أما المحطة الثانية

فكانت في شعبة العباسية؛ حيث كان منزلي في شارع سليمان، وكان أمامه حدائق لا أول لها ولا آخر، وكنا في شعبة العباسية ومن حولها نصلي صلاة القيام في الحديقة وبعد الصلاة نمارس الرياضة بمختلف أشكالها.
أما المحطة الثالثة فكانت سجن جبل الطور، وكنا حوالي 400 طالب، وكان معنا الشيخ القرضاوي والشيخ الغزالي والشيخ سيد السابق والأستاذ سيد عبد الحميد والأخ طاهر المنير، وكان رمضان في سجن الطور مختلفًا وجميلاً؛ حيث التفرغ للقرآن والقيام، وخلال هذه الفترة كانت هناك منحة ربانية في آخر رمضان بإقالة وزارة إبراهيم عبد الهادي
ثم بعد ذلك ذهبنا إلى سجن قنا، وأتذكر أننا كنا حريصين خلال هذا الشهر على أن نعد أفضل الطعام لكل المساجين من الإخوان وغيرهم، كما كنا نقيم احتفالات ضخمة للمساجين في الأعياد، بل إننا كنا نعطيلهم الكعك والبسكويت خلال عيد الفطر.
  • لو عدنا لرمضان مع الإمام حسن البنا.. ما الذي كان يميزه عن غيره؟
في الحقيقة شخصية الإمام البنا كانت طاغيةً عليه في كل الأيام والشهور، وكان رحمه الله دائم الحركة، وكان حريصًا على تنظيم إفطارات للإخوان في المركز العام، وبالطبع كانت الإفطارات وقتها متواضعة وليست مثل إفطارات هذه الأيام.
كنتُ مصاحبًا للأستاذ الهضيبي خلال رمضان في عامي 52 أو 53، وكنا كل يوم نفطر في شعبة أومنطقة مختلفة، وكان الإفطار طوال هذه الأيام فول وبطاطس فقط.
  • فول وبطاطس طول شهر رمضان؟
نعم.. طول رمضان أو تحديدًا 28 يومًا كنت في صحبة الأستاذ الهضيبي كنا نفطر فول وطماطم وبطاطس، وكأنَّ الشعب والمناطق كانت بتبلغ بعضها، لدرجة أني قلت له يا فضيلة الأستاذ اتركني أروح آكل في بيتنا يوم واحد عشان أغير الفول والطعمية.
  • لو عدنا للأستاذ البنا أكيد كانت له بصمة في حياة الأستاذ عاكف.. كيف كانت هذه البصمة، خاصةً أنك وقتها كنت شابًّا صغيرًا!.
البداية كانت عند الالتحاق بالجماعة، فوالدي- عليه رحمة الله- كان يريدني أن أدخل الكلية الحربية لكي يبعدني عن الإخوان، وبالفعل تقدمتُ بأوراقي إليها ونجحتُ في الكشف الطبي، وكان قائد الكلية الحربية يعرف والدي ويعرف أقاربي، ولكني لم أدخل الكلية الحربية في النهاية، فقد حدث أنني كنت جالسًا عند ذلك القائد وأحد أقاربي يكلمه ويقول له فلان سيأتي لك
فقال له مداعبًا: هو حلو أم لا،وعندما سمعتُ هذه الكلمة أخذت أوراقي وتقدمتُ بها إلى كلية الهندسة،

وعندما علم بذلك والدي لم يمانع من التحاقي بها، ولكنني لم ألتحق بكلية الهندسة أيضًا؛ لأنني كنت في ذلك الوقت في النظام الخاص للإخوان، وكان قد مرَّ عليَّ سنتان لم ألتقِ فيهما بالأستاذ البنا ولم أجلس معه حتى في محاضرة الخميس كما كنت أفعل من قبل، فقلت للأخ الحارثي المسئول عني: هل نحن تابعون لك أم للأستاذ البنا ؟ وفوجئت في اليوم التالي بالإمام البنا يرسل إليَّ وإلى مجموعتي ليلتقي بنا.

وعندما ذهبنا لمقابلة الأستاذ البنا ظلَّ يستعرض معنا نشاط الإخوان والشعب عامةً، وقال لي: ليس لنا أخ في معهد التربية الرياضية العالي، فأخذتُ هذه الكلمة وذهبت لكلية الهندسة فوجدت الشهيد صلاح حسن - الذي استشهد في معركة الكرامة الشهيرة في الستينيات في الأردن - وكان من إخوان السيدة زينب، فعرضتُ عليه أن نذهب لمعهد التربية الرياضية فوافقني، وسبحان الله كأنَّ الأمور مرتبة؛
حيث استقبلوني استقبالاً طيبًا، وأُجريت لي اختبارات قاسية رياضية ونفسية وصحية، وكانت اللجنة التي أجرت لي الاختبار الشخصي تضم الدكتور القوصي والدكتور زكريا عميد المعهد، والدكتور فؤاد جلال أستاذ التربية وقتها، وظلوا يكلمونني عن الممثلين والممثلات فوجدوني جاهلاً تمامًا في هذا الأمر،ثم سألوني عن وزراء مصر والسياسة فوجدوني أحفظ وزراء مصر من أول وزارة حتىالوزارة الحالية، فقلت لهم إنني من الإخوان المسلمين وأعرف في السياسة ولاأعرف في التمثيل ولا الرقص، فضحك د. القوصي وقبلوني.

تغيير بأمر الإخوان

  • كيف استقبل والداك هذا التغيير؟
لا شك أن التحاقي بمعهد التربية الرياضية أحدث أزمة شديدة بيني وبين أهلي وإخوتي الذين كانوا يريدونني مهندسًا مثلهم، وخاصة والدي الذي غضب لذلك غضبًا شديدًا، ولم تنته تلك الأزمة إلا بعد شهور عندما أخذت والدي لزيارة المعهد فوجد به أشخاصًا راقين.
  • هل التحاقك بالمعهد كانت تلبية لرغبة الإمام البنا فقط أم أن هناك أسبابًا أخرى؟
الحقيقة أنني دخلت المعهد لسببين،أولهما لخدمة الإخوان حيث كنا نرغب في الانتشار وتوصيل دعوتنا في كل مكان، أما السبب الثاني فقد كان والدي نفسه رحمه الله، لأنه كان شديدًا جدًّا في حرصه علينا، فكان بعد الساعة الثامنة لا يدخل أحدًا البيت، حتى إخوتي الذين تخرجوا وأصبحوا مهندسين لم يكن أحد منهم يتأخر عن هذا الموعد، ولأنني كنت في النظام الخاص، وكنا كثيرًا ما نتأخر وأحيانًا أرغب في المبيت خارج المنزل، فقد كان التحاقي بالمعهد فرصة لأتعلل عندما أتأخر خارج البيت.
  • هل رأيت حياة مختلفة في الجامعة خاصة وأنها كانت ساحة قوية للرأي والتعبير؟
عندما التحقت بالجامعة كان أكبر تيار موجود في ذلك الوقت هو التيار الممثل لحزب الوفد وعلى رأسه مصطفى موسى، وكان خطيبًا مفوهًا، ويليهم الشيوعيون، الذين تقدموابعد ذلك على الوفد واستطاعوا تحويل الشباب الوفدي إلى شيوعيين، وذلك كله في منتصف الأربعينيات، وكان الوفد في تلك الفترة لا يحمل فكرًا محددًا ولا منهجًا واضحًا إلا أنه كان مجرد تاريخ وأسماء ضخمة، وبعد ذلك خرجت الأحزاب من الوفد فخرج منه الأحرار والسعديون والكتلة الوفدية.
أما الشيوعيون فقد كانوا أشخاصًا منظمين، صحيح أنهم فرق كثيرة ولكنهم منظمون ولهم مبادئ مكتوبة ومنشورات وكتب، وكل ذلك كنا قد درسناه دراسة وافية بناءً على توصية الأستاذ البنا أن الرأي لا يقاوم إلا بالرأي، ومن هنا أنشأنا جماعة الشباب المسلم.

بداية المحن

  • لو قفزنا بالذاكرة إلى المحن التي تعرض لها الأستاذ عاكف وهي بالطبع مرتبطة بالإخوان.. فما أبرز هذه المحن؟
البداية بالتأكيد عندما قامت حرب فلسطين في مايو 1948 وكان نشاط الإخوانضخمًا جدًّا وذهبت جيوشهم فلسطين التي زحفت إليها مجموعات الإخوان المقاتلة من القطر كله، وانتشر تدريب الإخوان في الهايكستب وفي بورسعيد وفي سوريا وفي الأردن، ولم تكن تسمع غير فلسطين وحرب فلسطين والإخوان
وكل ذلك النشاط كانت تدعمه الحكومات، فكان الحاج أمين الحسيني وعبد الرحمن عزام باشا أمين عام الجامعة العربية معنا ليل نهار، وكان كل شيء نفعله باسم الجامعة العربية وأمين الحسني، فكانت فترة عظيمة للإخوان.

و:لم يكن جهادنا ضد اليهود في فلسطين فقط، بل كان داخل مصر أيضًا ممثلاً في مؤسساتهم الاقتصادية، فقد كان اليهود مسيطرين على الاقتصاد المصري، فكانت هناك شركة (الإعلانات الشرقية)، (إركو)، (شاملا)، و(شيكوريل) وكل هؤلاء يهود، وتم نسفشيكوريل وإركو وشركة الإعلانات الشرقية.

ولما اشتد الضغط على اليهود في فلسطين وكذلك اشتد الضغط على اليهود في داخل مصر تمت المؤامرة الكبرى بين سفراء فرنسا وأمريكا وبريطانيا في اجتماعهم في فايد، وأصدر النقراشي قرارًا بحل جماعة الإخوان المسلمين في 8 ديسمبر 1948 وسيق الإخوانأفواجًا أفواجًا إلى المعتقلات، ودماؤهم لم تجف بعد في فلسطين، فما كان منالأخ عبد المجيد أحمد حسن وزملائه إلا أن دبروا قتل النقراشي في 28 ديسمبر
وكان الأخ عبد المجيد طالبًا بكلية الطب البيطري يتميز بالنشاط وقلة الكلام، والالتزام الدقيق سواء في الوقت أو التدريب، وبعد مقتل النقراشي حورب الإخوان وقبض عليَّ في 29 ديسمبر 1948 وظننت أني سأتهم في هذه القضية لأنني كنت أعرف عبد المجيد وأحمد فؤاد والأخير كان ضابطًا وقدقتلوه وهم يطاردونه في بنها؛ لأنهم اعتبروه مشاركًا لعبد المجيد في مقتل النقراشي، ولكني فوجئت أنهم لم يحققوا معي في هذه القضية، وأرسلوني إلى معتقل الهايكستب ثم بعدها معسكر الطور.

الهايكتسيب واليهودي ريمون

  • معنى ذلك أن البداية كانت في معتقل الهايكستيب؟
نعم وقد كان معتقل الهايكستب (معتقلاً شبه خاص) لا يعتقل فيه إلا أبناء الباشاوات وأبناء أصحاب النفوذ، وكان اليهود المعتقلون يسكنون العنبر المجاور لنا، وكان معي هناك على ما أذكر الأخ كمال فريد ابن فريد حلمي باشاومحمد الطوخي ابن إبراهيم دسوقي باشا، ثم قام عبد المجيد أحمد حسن المسئولعن المعتقل بفصل ذلك كله، نصارى ومسلمين! وبدءوا يحضرون إخواننا المعتقلين من الأقاليم، أما باقي الإخوان فكانوا معتقلين في معتقل الطور.
  • وهل كنتم تتعاملون مع اليهود والأجانب أم أنه كان يتم فصلكم عنهم؟
أحيانًا كانوا يسمحون لنا بالاختلاط، وأحيانًا أخرى كانوا يمنعون ذلك وأتذكر أنني كنت أجلس مع شخص يدعى (ريمون دويك) وكان يهوديًّا شيوعيًّا مات قريبًا في فرنسا، وابنه كان سفيرًا للكيان الصهيوني في مصر بعد اتفاقية كامب ديفيد بفترة، ودخل إخواننا من الشرقية يرتدون (اللبد والبلغ) فقال لي هذا اليهودي: مسيو عاكف هل هؤلاء إخوان؟ ... فقلت نعم: ... فقال لي: لن تهزموا أبدًا؛ لأنه رأى أننا متوغلون في الريف المصري.
ومما أذكره من الحوادث الطريفة أنه عندما حدثت الهدنة الأولى أحب اليهود أن يعملوا حفلاً يحضرون فيه الخمر ويشربون ويرقصون بمناسبة الهدنة ونحن دماؤنا لم تجف بعد، فاتفقنافيما بيننا أننا لا بد أن نكدر عليهم هذا الحفل، وبالفعل أحضرنا زجاجات المياه الغازية وملأناها بالرمال، وشربوا هم الخمر وبدءوا يرقصون على الموسيقى
فأطفأنا الكهرباء وضربناهم بالزجاجات من خارج الباب، وصنع لنا الأخ كمال فريد شاي بلبن وجلس كل منا على سريره وظلوا هم يضربون في بعضهم، ثم أضأنا النور وجلسنا نشرب الشاي واللبن، وكان المأمور صعيديًّا فقال لي: عملتها يا عاكف، وبعد أسبوع تم ترحيلنا إلى الطور، وكانت فترة طيبة تعلمنا فيها كثيرًا.

3 آلاف بالطور

  • معنى ذلك أن المحطة الثانية لك مع الاعتقال كانت في سجن الطور؟
نعم ومعتقل الطوركان مدرسة، وكان عدد الإخوان هناك حوالي ثلاثة آلاف، كانوا يقيمون في (الحزاءات) التي كانوا يستقبلون فيها الحجاج، كما أنها كانت مخصصة أيضًا للحجر الصحي، وكنت أنا في (حزاء 2) الذي كان به حوالي خمسمائة طالب، وعندما
أتذكرهم وقد صاروا فيما بعد من كبار علماء مصر وعظماء العالم في كل المجالات سواء في الهندسة أو الاقتصاد أو التجارة، وكان معنا مجموعة طيبة من إخواننا الذين يكبروننا سنًّا، كان معنا الأخ المهندس مصطفي مؤمن، وضابط يسمى محمد علي، وكان حكمدارًا طريفًا لطيفًا من المحلة
وكان معنا الشيخ سيد سابق، والشيخ الغزالي، والأستاذ محمد عبد الحميد، والرجل الطيب طاهر منير وكان مسئولاً عن إخوان السويس، والأخ عبد الرحمن حسب الله أحد الستة الأوائل الذين بايعوا الإمام البنا، والشيخ الشعشاعي رضي الله عنه وأرضاه، وكان يوقظنا للفجر بعصاه؛ لأنه كان ضريرًا، والحاج إبراهيم كروم فتوة بولاق، ومجموعات أخرى من الذين اعتقلوهم مثل عائلة الشيخ جبر التميمي، وعائلات أخرى، حيث كانوا أحيانًا يعتقلون العائلة بأكملها!.
ومن الشباب الذين كانوا معنا مصطفي مؤمن، وجمال السنهوري، والدكتور رشاد رفيق، ومحمود نفيس حمدي، وشوقي السنانيري،وأحمد يوسف ابن يوسف باشا ناظر الخاصة، وكمال فريد ومحمد الطوخي، وعلي زعبل، وكلهم رجال عظماء.
  • هل اختلف الوضع في معتقل الطور عن الهايكستيب؟
بالتأكيد، ففي بداية وجودنا بمعتقل الطور أرسل البوليس السياسي كثيرًا من عيونه، فكانوا موجودين وسط الإخوان وكنا نسميهم (البسابس) وكانوا يحاولون بلبلة أذهاننا بألاعيب مكشوفة تثير الضحك، لدرجة أن مجموعة منهم كانوا إذا جاء المغرب يخرجون على الباب ويهتفون يعيش جلالة الملك، وعندما ضقنا بهم قررنا أن تسكنكل شعبة منفردة في حجرة فانكشف أفراد البوليس السياسي فردًا فردًا وسكنوا في حجرة بمفردهم، ثم قام إبراهيم كروم ومجموعة معه بضربهم ضربًا مبرحًا وحكم عليه بسبب ضربهم بالسجن ستة أشهر، وانتهى أمرهم على ذلك.
وفي الطور كان لدى الواحد منا وقت طيب ليرتقي بروحانيته وأخلاقياته، ويزيد من ثقافته وأخوته مع من حوله، وما منا إلا واستفاد من هذه النواحي، وكنت قريبًا من الأخ طاهر منير مسئول الإخوان في السويس رحمه الله حيث كان له من اسمه نصيب، وكان معنا أيضًا أستاذنا محمد عبد الحميد وهو أول طالب في الجامعة من الإخوان المسلمين، ولا أنسى الشيخ سيد سابق.

3 حزاءات

  • وكيف كنتم تجتمعون في المعتقل؟
لم يكن لدينا أي اجتماعات خاصة في الفترة التي قضيناها في معتقل الطور، بل كانت كل اجتماعاتنا عامة، وكل (حزاء) كان يضع برنامجًا لنفسه، ولكن كان الحزاء الذينقيم فيه له برنامج ممتاز، ابتداءً من رياضة الصباح والمحاضرات والصلوات، وكنت مسئولاً في الحزاء عن الرياضة والشئون الطبية؛ لأنه لم يكن معنا أطباء، وكانت حياة طيبة لا يعكرها إلا تلك العقول المنحرفة من الضباط وعلى

رأسهم قائد المعسكر ويدعى عباس عسكر؛ حيث كان رجلاً سيئًا.

ولم نمكث طويلاً في جبل الطور، وأذكر جيدًا بعد صيام رمضان وفي ليلة العيد جاءنا خبر إقالة الملك لوزارة إبراهيم عبد الهادي وتعيين حسين سري رئيسًا للوزارة، وكانت هذه هدية الملك للشعب، وبدأ الإفراج عن المعتقلين ونقلونا مرة أخرى للهايكستب، وفترة الهايكستب كانت تقريبًا في نهاية العام أي في نوفمبر أو ديسمبر 1949 فقررت الحكومة عمل اختبارات للطلبة الذين كانوا في المعتقل، وأحضروا لجانًا من المدارس والجامعات لتعقد الامتحانات داخل المعتقل
فحضر الشيخ المهندس - والد الممثل فؤاد المهندس - ليمتحن طلاب دار العلوم، وحضر الدكتور إبراهيم فرج ليمتحن طلاب كلية العلوم وكان يسكن بجواري في العباسية فوق عبد الحكيم عامر، أما أنا فلأنني كنت طالبًا في التربية الرياضية فقد رفض عميد المعهد وقال: إن المعهد عملي ولا يجوز أن نقوم بامتحانه نظريًا، وقد قضينا في الهايكستب فترة طيبة جدًا حتى بدأت الإفراجات عنا، وكنت أنا من آخر الناس الذين خرجوا، خرجت في يناير عام 1950 ورجعت للمعهد وقد ضاعت
علي هذه السنة، وكنت رئيسًا لاتحاد الطلبة كما كنت قبل دخول المعتقل، وكان لي أحد الزملاء يدعى حلمي إبراهيم - كان أصغر طالب في الدفعة وهو الآن دكتورفي كاليفورنيا - وله قريب كان مدير مكتب طه حسين وزير التربية والتعليم آنذاك، وفوجئت بوصول خطاب من الوزير للمعهد بعقد اختبار خاص لي لأنني لم أمتحن، فأرسل لي العميد وطلب رأيي في ذلك وقال: تحب أن تدخل الامتحان أم ترغب في تأجيله، لأننا نتوقع لك أن تكون من المتفوقين ونريدك معنا في المعهد، وكان ذلك في شهر مارس، ولكني وافقت على أداء الامتحان.
ومن الطريف أنني كنت أمتحن في مادة علم النفس والتربية في مكتب العميد، فأحضر لي أحد الأساتذة كتبًا وقال لي: انقل منها ما شئت، فرفضت وقلت له: لا يا دكتور إما أن أنجح بمجهودي وبعلمي وإلا فلا داعي لنجاحي، ورفضت الغش وظهرت النتيجة في 5 أبريل 1950 ونجحت
ثم دخلت الامتحانات التالية في 5 مايو من نفس العام، ومن الأمور التي لا تنسى أن قابلني ذلك الدكتور- واسمه الدكتور كمال صالح- في الرياض بعد مرور 25 عامًا من هذا الموقف، وكنا في وسط جمع من الأساتذة والمسئولين هناك وذكر لهم هذه الحادثة.
وقد تخرجت وكان ترتيبيالسادس على الدفعة ومن حقي أن أعين في القاهرة، ولكن البوليس السياسي رفض تعييني في القاهرة،وكان مدير التربية الرياضية في ذلك الوقت ويدعى (علي حافظ) صديقًا عزيزًا لي فأخبرني بأن البوليس السياسي رفض تعييني في القاهرة وقال لي: اختر أي محافظة أخرى، فاخترت طنطا على أساس أنني سأستطيع السفر كل يوم.

اليونيسكو

في ذلك الوقت لم تكن جماعة الإخوان قد عادت بشكل رسمي مرة أخرى، وكانت الأنشطة محدودة.
  • إذن كيف واجه الأستاذ عاكف ذلك خاصة وأنت تتميز بالنشاط والحركة؟
بالفعل كان لدي وقتفراغ مع أنني كنت أعمل في النظام الخاص، ففكرت في دخول كلية الحقوق، التي كانت تشترط أن تكون معي شهادة توجيهي أدبي وأنا شهادتي توجيهي علمي، وبعد حصولي على توجيهي أدبي كان شرط دخولي كلية الحقوق موافقة الرئيس المباشر، وإذا بناظر المدرسة في طنطا الثانوية يرفض رفضًا كاملاً ويقول لي: أنا لا أستطيع أن أستغني عنك دقيقة واحدة، ولكن جاءني الفرج على يد الدكتور فؤاد جلال أستاذ التربية، وهو من الأساتذة الذين يكنون لي احترامًا كبيرًا، حيث أرسل لي يخبرني بأن منظمة اليونسكو أنشأت مدرسة داخلية في (سرس الليان) مخصصة للفقراء؛
لتكون نموذجًا لتخريج مدرس التعليم الأساسي، وقال: نريدك معنا في اليونسكو، لأنني أرى أنك أفضل واحد يستطيع أن يشرف على المدرسة؛ فوافقت وطلبت منه في المقابل أن يوافق لي على دخول الجامعة فرحب بذلك ووافقعليه، وبالفعل التحقت بكلية الحقوق بجانب عملي في سرس الليان، وفي ذلك الوقت كنت قد أمضيت في طنطا الثانوية عامًا واحدًا ولكن ربيت فيها رجالا
وكانت من أحسن فترات حياتي وأمتعها على الرغم من وجود مشاكل لا تنتهي مع ناظر ووكيل المدرسة، لكن كانت لي شخصية وشعبية ضخمة بين الطلبة وكانت علاقتي طيبة جدًا بالطلبة وآبائهم، حتى إنني عندما تركت طنطا وذهبت إلى مدرسة اليونسكو بسرس الليان كانوا يحضرون لزيارتي هناك.

الإخوان في القنال

  • هذه الفترة كانت تُعرف بمقاومة الاحتلال.. فما الدور الذي لعبه الإخوان في هذه الفترة؟
إذا ذكر حرب الإنجليز في القنال فلا بد أن تذكر الإخوان المسلمين، والبداية دائمًا من الجامعة؛ حيث كان ينظم الإخوان المظاهرات والمؤتمرات، واستطاع الشعب وفي مقدمته طلاب الجامعات والمدارس أن يخرج الإنجليز من القاهرة والإسكندرية والمدن الكبرى إلى منطقة القناة، وظللنا في ذلك الوقت في عزيمة وإصرار على إخراجهم من مصر؛ فبدأنا نُفكِّر في عمل معسكرات تدريب في الجامعات ونكون رجال حرب عصابات نقاتل بهم الإنجليز في القناة.
كما سبق أن ذكرت فقد كنت وقتها وبعد أن أنهيت دراستي بمعهد التربية الرياضية قد التحقت كطالب منتسب بكلية الحقوق بجامعة إبراهيم (عين شمس حاليًّا)، وكان حلمي مراد رئيساتحاد الطلبة في جامعة إبراهيم لا يزال شابًا صغيرًا جاء لتوه من فرنسا
فوجئت به يرسل إليَّ هو وبعض الطلبة بأنهم يريدون أن نعمل معسكرات في الجامعة ونتدرب على السلاح لكي نحارب الإنجليز، واختارني الاتحاد لأكون رئيس معسكرات جامعة إبراهيم، فأخذتُ الإذن والتوجيه من الإخوان ثم وضعت خطةوبرنامج المعسكر بنفسي.
وقام برنامج التدريب على هدفين أساسيين؛
الأول: محو الأمية العسكرية لدى الشعب المصري وطلبة الجامعات،
والثاني: أن يسير التدريب في برنامج جاد، بحيث لا يمسك سلاحًا إلا الشخص الجاد الذي ينجح في كل الاختبارات الرياضية العنيفة والمصارعة معالصبر والالتزام الكامل بشروط الجندية من حيث الأخلاق والتزام القيم، وقد نصبت خيمة في قلب الجامعة ووضعنا فيها بعض الأسلحة وبدأنا التدريب وفق البرنامج الموضوع.
وكانت تقام معسكرات تربوية للطلاب بالتنسيق بين قسم التربية الرياضية وقسم الطلاب في الإخوان، ويتم إعداده للطلاب بما يتناسب معهم، وظللنا نعمل حتى خرجنا أفواجًا كثيرة دون أن يشعر بنا أحد غير بعض الأساتذة ومنهم دكتور مصطفى كمال حلمي، وكان مدرس كيمياء في كلية الهندسة، ودكتور حسن مرعي، وكان نعم الرجل، ودكتور عثمان خليل عميد كلية الحقوق، وكثير من الأساتذة كانوا يشجعوننا، وعلى رأس هؤلاء جميعًا الدكتور سعيد النجار، وكان مدرسًا بكلية الطب ويكاد يكون معي خطوة بخطوة.
في أحد الأيام فوجئتُ بالدكتور عثمان خليل، عميد كلية الحقوق، يأتيني ويقول لي إن مدير الجامعة الدكتور محمد كامل حسين يريد أن يقوم بافتتاح المعسكر على شاكلة معسكر جامعة فؤاد الأول (جامعة القاهرة)، فقلت له: يا عثمان بك نحن خارجون عن القانون ونعمل في حمى حرم الجامعة، ولا نستطيع أن نقوم بذلك خارج الحرم الجامعي، وأنتم لكم صفة رسمية، فهل تشاركوننا هذه المسئولية؟
فصمت ولم يرد عليَّ بكلمة، وجاءني الدكتور حسن مرعي، وقال لي نفس الكلام فرددت عليه بنفسالرد، وجاءني قائد الحرس أيضًا، وكان برتبة عقيد فقلت له نفس الكلام السابق ولم يستطع أن يرد عليَّ، إلى أن أرسل لي الدكتور محمد كامل حسين مدير الجامعة - وكان رجلاً عالمًا ومهذبًا
فذهبت إليه في مكتبه واستقبلني منذ دخلت من الباب حتى أجلسني بجانبه، وكان الدكتور نظيف وكيل الجامعة موجودًا بنفس المكتب فكرر عليَّ نفس الطلب السابق بأن يقوم بافتتاح المعسكر بنفسه ورددت عليه بنفس ردي على السابقين: فلست أنسى هذه الكلمة أبدًا، قاللي: شرف عظيم يا بني أن أشارككم جهادكم.
عندما سمعت منه هذه الكلمة خرجت من عنده وأعددت حفلاً لافتتاح المعسكر بالذخيرة الحية لم تشهد الجامعة مثله من قبل، كنا شبابًا متحمسين وليس لنا ثقة في أهل الحكم والإدارة فأحببت أن أؤمن نفسي، فأحضرت مدفعًا
وقبل أن أقدم لكلمة الدكتور محمد كامل حسين قلت: قبل أن نستمع إلى كلمة الدكتور محمد كامل حسين فلنستمعإليه وهو يفتتح المعسكر بطلقات الرصاص، وكنت قد دعوت صحفيين فالتقطوا له الصور وهو يمسك بالمدفع ونشرت الصور في الصفحات الأولى في الصحف في اليوم التالي.
استمر العمل بجدية وكان للإخوان معسكرات أخرى في (السنيطة) بالشرقية، والتل الكبير، والقنطرة،وبورسعيد، فكانت الجامعة ترسل العناصر التي تستطيع أن تفعل شيئًا إلى هذه المعسكرات، وقد خرجت أعداد كبيرة من الإخوان في الجامعة
ثم ذهبوا للمعسكراتالمتخصصة في المناطق الأخرى كالسنيطة في الشرقية، والتل الكبير، وتل بسطة وكانت هذه المعسكرات مكانًا للتدريب على العمليات الفدائية من نسف المخازن ونسف القطارات وحرب العصابات وأعمال بطولية أخرى، وكان هناك إخوان آخرون مهمتهم أن يمدونا بالسلاح والمتفجرات من بقايا الحرب العالمية الثانية.

تفجير القطار

  • ما أبرز العمليات التي قمتم بها في ذلك الوقت؟
لقد قمنا وقتها بعمليات كثيرة زلزلت المحتلين، وكانت تأتي علينا أوقات لا ننام فيها من زحمة العمل، وأذكر من العمليات الكبيرة التي قمنا بها مثلاً نسف قطار القنطرة وبورسعيد ونسف مخازن أبو سلطان، وكذلك المعركة الشديدة التي استشهدفيها عمر شاهين وأحمد المنيسي في التل الكبير، وقد أحدث استشهادهم دويًا واستجابت الحكومة لإرادة الشعب وألغت معاهدة 1936م
ولا أنسى حين وقف مصطفي النحاس في مجلس النواب قوله: باسم مصر وقعتُ معاهدة 1936م وباسم مصر أطالبكم اليوم بإلغائها، فهو موقف وطني لم أر مثله، وكان فؤاد سراج الدين وزير الداخلية كذلك فيه وطنية في كثير من المواقف.
بل إن الأثر المحسوس لكفاحنا حرَّك مجلس الشيوخ فقرر أن يشكل لجنة (شكلية) لمساعدتنا، وكانت تتكون من صالح حرب باشا وفتوح باشا وشريف باشا، وكانوا لواءات سابقين في الجيش، فبدأت أجتمع معهم، وكنت أسير ومعي حرس وهو الأخ كامل طايع، وهو منقنا وكان طالبًا في كلية الحقوق، والمرحوم محمد عجوة، وكان طالبًا في كلية الهندسة، وكانا يسيران معي في كل مكان مثل "البودي جارد"؛
لأنه كان مطلوبًا قتلي، فعندما كنت أحضر الاجتماعات مع هؤلاء الباشوات كانوا يقفون على الباب، فمرةً يكون الاجتماع في "جروبي" ومرة يكون في غيرها من الأماكن الفخمة، وأنا غير معتاد على دخول هذه الأماكن، وقد تكررت اجتماعاتي معهم، وكنا نذهب ونأكل الحلوى ونعود كما ذهبنا دون أن نفعل شيئًا، ولما ضقتُ ذرعًا بهذا قلت لهم: إنني آسف لن أستطيع الاستمرار في حضور مثل هذه الاجتماعات
فإذا كنتم تريدون إعانتنا فنحن نحتاج لمال وسلاح ولا نحتاج إلى رجال، ولا إلى أحد يقوم بتدريبنا، فلدينا الكثير من الرجال ولدينا مدربون على أعلى مستوى يمكن أن يصل إليه مدرب، فإذا كنتم تستطيعون أن تمدونا بمال أو سلاح فلا مانع من أن أحضر، فقالوا لي: لا يا بني نحن ليس لدينا مال ولا سلاح وأقصى شيء يمكن أن نمدكم به هو مدربون، فشكرتهم وتركتهم
وفوجئتُ بالدكتور محمد كامل حسين مدير الجامعة يرسل إليَّ ويقول لي: يا عاكف ماذا فعلت في اللجنة التي شكَّلها مجلس الشيوخ، فأخبرته أنني أذهب فيضيع وقتي ونأكل الحلوى ونرجع دون أن ننجز شيئًا، وأنا وقتي ثمين، فقال لي في حكمةٍ لا أنساها أبدًا "خليك ورا الخنزير يمكن تاخد منه شعرة" فأصبح هذا مثلاً لم أنسه طوالي حياتي، وهو لم يرد تشبيههم بذلك ولكن أراد أن يقول لي: لا تمل فربما تجد من ورائهم فائدة، وعدت لأجتمع بهم ولكن لم أصل معهم لشيء في النهاية.
وقد اشتعل الموقف تمامًا حينما هاجم الجيش البريطاني محافظة الإسماعيلية وتصدت لهم قوات الشرطة بسلاحها المحدود في شجاعة نادرة، وتدخل شعب الإسماعيلية وأوقف هذا الغزو البريطاني وقتل عدد كبير من العساكر المصريين، وقامت المظاهرات في جامعة القاهرة
وحضرت مؤتمرًا ضخمًا بها لمساندة قوات البوليس في الإسماعيلية، وفي نفس اليوم كنت مدعوًّا لافتتاح معسكر جامعة الإسكندرية (فاروق الأول في ذلك الوقت) وبعد انتهائي من المؤتمر توجهت إلى الطريق الصحراوي إلى الإسكندرية وقمنا بافتتاح المعسكر، وحدث ما لم يمكن نسيانه؟
  • ماذا حدث؟
في طريق عودتي من الإسكندرية وتحديدًا في (الرست هاوس) قالوا لي إن القاهرة احترقت، ولم أكن أعلم فلقد قمت بحضور مؤتمر جامعة القاهرة في الصباح وذهبت من الجيزة إلى الإسكندرية وافتتحنا المعسكر وعدت في الليل أو في نصف الليل، فاسرعت إلى القاهرة ودخلت من ناحية كرداسة فوجدت كل شيء بشارع الهرم محترقًا - وكان مشهورا بكثرة الملاهي الليلية
ودخلت على ميدان الإسماعيلية (التحرير حاليًا) وكان به أفخم أماكن لبيع السيارات الأمريكية وكان كله محترقًا، فذهبت بسرعة للمعسكر كي أطمئن عليه، فوجدت كمال الدين حسين يقول لي: الحقنييا عاكف، فقد كان ما يزال ضابطًا وبيته كان مملوءًا بالسلاح، فقمت بتحويل السلاح من عنده وأمَّنت المعسكر.
وفي اليوم التالي 27 يناير 1952 أعلنت حالة الطوارئ وحظر التجول بالقاهرة بعد السادسة مساءً وفيهذا اليوم كان من المقررنقل كمية ضخمة من الديناميت إلى منطقة القنال لبعض العمليات وخصوصًا لنسف قطار بورسعيد القنطرة فلم أجد أمامي إلا الاستعانة بأحد ضباط الجيش وكان (بكباشي) اسمه (الكاشف) وآخر مستشار يدعى فتحي عوض، وأخذتهما معي في سيارة الديناميت هذه، لأنه كان هناك حظر تجول، فإذا اعترضني أحد يقوم الضابط والمستشار بتسيير الأمر.
وظللنا نجول مصر الجديدة بحثًا عن محطة بنزين لنملأ السيارة فلم نجد محطة واحدة حتى أتى علينا موعد حظر التجول، فقال لنا المستشار فتحي عوض: أحد أقاربي يسكن قريبًا من هنا، فذهبنا وتركنا سيارة نوعها (فوكس هول) سيارة إنجليزي عريقة ملك البكباشي- وكانت مملوءة بالديناميت- وصعدنا إلى المنزل وقضينا الليلة عند قريب الأخ فتحي عوض.
وفي هذه الليلة أقيلت وزارة مصطفي النحاس وأعلنت حالة الطوارئ، وكان الأمر خطيرًا بالنسبة لنا أننتحرك بسيارة مملوءة بالديناميت ولكنا قمنا في الصباح وأدينا مهمتنا بالتمام، وتم إرسال الديناميت للقنال تمهيدًا لتنفيذ العملية.
عندما جاء علي ماهر رئيسًا للوزارة طلب منا أن نوقف العمليات في القناة، وكان في هذا الوقت ما زال أمامنا عملية قطار بورسعيد والقنطرة، فقلت له: أنا لن أوقف العمليات فقال لي: نأخذ حكمًا بيننا، فوافقت، فقال لي: الأستاذ الهضيبي؟ فوافقت على ذلك، وظللت أعطِّل الأمر حتى تمت العملية ونسف القطار وقتل 400 جندي إنجليزي.
وبعدها صدر الأمر لنا من الأستاذ الهضيبي أن نتوقف فتوقفنا عن العمليات، باستثناء معسكر الإسكندرية رفض قائده الدكتور محب الدين محجري أن يمتثل لهذا الأمر فقاطعناه، فتوقف رغمًا عنه لأننا لم نعد نساعده، بعدها بستة أشهر تقريبًا قامت الثورة فقمت بتسليم المعسكر إلى الصاغ كمال الدين حسين، وكان مشرفًا على الحرس الوطني في ذلك الوقت.

محنة 1954

  • إذا ذكر الإخوان والثورة لا بد أن نتذكر محنة 1954 التي كنت شاهدًا عليها.
في يوم 11 يناير 1954 جاء لزيارتنا نواب صفوي زعيم (فدائيان إسلام) الإيراني، وألقى خطبة في جامعة القاهرة، ثم توجه إلى المركز العام؛ حيث ألقى محاضرة لقاء الثلاثاء كذلك، وعرفنا أنه بعد أن خطب في جامعة القاهرة أحرقت سيارات الاتحاد الاشتراكي وأغلقت الجامعة ثم كانت محاضرته في المركز العام يوم الثلاثاء وبعد انتهاء المحاضرة عدت إلى منزلي فوجدت المستشار فتحي عوض بانتظاري وكان مدير مكتب الرئيس محمد نجيب وأخبرني أن مجلس الثورةحل جماعة الإخوان المسلمين في اجتماعه اليوم
ومطلوب القبض على اثني عشر أخًا قبل الساعة الثالثة صباحًا وأنا واحد منهم ثم صحبني معه إلى منزله وكان مجاورًا لمنزلنا، وفي الثالثة صباحًا هاجمت منزلي قوة من البوليس الحربي والبوليس السياسي وقاموا بتفتيش المنزل تفتيشًا دقيقًا وكنت أنظر إليهم من منزل المستشار فتحي عوض ومن ستر الله عليَّ أن الحجرة التي كنت أضع فيها السلاح الذي تسلمته من عبد الرحمن السندي لم يدخلوها ولم يفتشوها.. لقد أعماهم الله عنها.
وفي صباح يوم الأربعاء ذهبت إلى جريدة "البلاغ" بعد أن اشتراها الإخوان، وكان بها سيد قطب، وكان مكتبي بجانبه حيث كنت محررًا في تلك الجريدة، وذهبت إلى عبد القادر عودة وإبراهيم الطيب ويوسف طلعت وأخبرتهم بما حدث، حيث لم يذيعوا شيئًا على الإطلاق في الإذاعة أو ينشروه في الجرائد إلا يوم الجمعة التالي، على الرغم من أنهم كانوا قد قبضوا بالفعل على الأستاذ حسن الهضيبي، والعشرة الباقين
ووضعوا بعض الإخوان في السجن الحربي، وقاموا بفتح معتقل العامرية، وكنت أنا رقم (12)الهارب الوحيد، وطلب مني الأستاذ عبد القادر عودة والأخ يوسف طلعت أن أقوم بزيارة وجه بحري وأبلغ الإخوان ليأخذوا حذرهم، وفعلاً قمت بزيارة جميع المكاتب الإدارية في وجه بحري والإسكندرية والغربية ودمنهور والمنصورة
وكانت آخر محطة لي في شبين الكوم وكان يوم الجمعة الذي نشرت فيه الصحافة قرار حل الإخوان، وفي هذه الفترة التي هربت فيها منذ صدور قرار الحل حتى سلمت نفسي بناءً على طلب الأستاذ عمر التلمساني والدكتور كمال خليفة؛ تلبيةً لطلب الملك سعود، مرت بي أحداث طريفة ولكنها تدل على أصالة الرجال من مصر وغير مصر.
  • مواقف طريفة وأنت هارب؟
نعم.. ولك أن تعلم أن الهروب في ذلك الوقت كان مشكلة كبيرة، لا يقوى عليها إلا القليل وفي يوممن الأيام وأنا أقود سيارتي (التي كنت أغيرها من الحين إلى الحين) فوجئت بسيارة ضخمة تطاردني ثم وقفت أمامي وإذا بالذي يقودها ابن المهندس محمد حسن صاحب مدينة محمد حسن بالهرم وكان تلميذًا عندي بمدرسة فؤاد الأول
ودعاني لمنزله لتناول الغداء وقال إني أعرف ما يراد بك، وسرت بسيارتي خلفه حتى أدخل سيارتي الجراج ودخلت عنده وقمت بتغيير ملابسي والاستحمام ثم تناولنا الغداء ثم استرحت بعض الوقت وقبل الانصراف وجدت جميع ملابسي قد غسلت وقاموابكيها فحمدت الله وانصرفت.
ومن أطرف الأحداث أني كنت أغير سيارتي بين الحين والحين كما قلت وكانت سيارتي ماركة فولكس فاجن وفي يوم من الأيام قابلت الأخ محمود حسن شقيق الشهيد صلاح حسن وطلب مني أن أكلفه بأي عمل فقلت له تعال معي واركب السيارةالفولكس لأني كنت أحضرت سيارة أخرى من الإسماعيلية وسر خلفي حتى نضعها في جراج بالفجالة
وفي هذا اليوم أخبرني يوسف طلعت بأن كل أجهزة الحكومة تبحث عني وعن سيارتي وفوجئت وهو يسير خلفي أن أوقفه (كونستبل يركب موتوسيكل) وهوكأمين الشرطة اليوم وطلب من الأخ محمود حسن أن يتبعه إلى قسم الأزبكية فماكان مني أن أوقفت سيارتي بعيدًا عنه وذهبت إليه وقلت له أذهب معه حتى أحضرلك الرخصة الخاصة بك من القسم
وحينما ذهب إلى القسم ولم يجدوه محمد عاكف قالوا له أين محمد عاكف ... قال هو الذي قال لي أمام الكونستبل أذهب معه إلى القسم حتى أحضر لك الرخصة، وطبعًا ذهبت إلى السجن الحربي فيما بعد وجدته هناك ومحمود حسن هذا من المجاهدين القلائل الذين أعتز بأخوتهم حتى اليوم.
وفي مرة أخرى وأنا أيضًا مطارد لا أستطيع دخول أي منزل، ولا الذهاب لأي مكان، قابلت ابن السفير السوري- وكان من عائلة الأتاسي وكان معي في معهد التربية ويعرفني جيدًا- فقال لي: إني أعرف ما حدث ونحن سنسافر لأسوان، ثم أعطاني مفتاح الفيلا ومفتاح السيارة وظللت لمدة عشرة أيام وأنا أقيم في فيلا السفير وأتنقل بسيارة السفير.
في تلك الأثناء كان بيني وبين الأستاذ عمر التلمساني والدكتور كمال خليفة مراسلة حيث لم يكونا معتقلين، وكان الصلة بيننا شابًّا ظريفًا جدًا من عائلة الهضيبي، فوجئت به في يوم من أيام يحضر ويقول لي: الأستاذ عمر والدكتور كمال خليفة يريدونك لأمر ضروري، وحددت الموعد والمكان وقابلتهم وأنا أقود السيارة
فقالا لي: إن الملك سعود سيحضر ويريد حل الموضوع بصورة ودية، ولكن عبد الناصر مصر على أن تقوم بتسليم نفسك أنت ويوسف طلعت، إضافةً إلى هؤلاء المعتقلين، فقلت لهم: ما تريدونه سأفعله بدون مناقشة، فقالا لي: لا بد أن تقوم بتسليم نفسك.
كان مقر البوليس الحربي وقتها في محطة مصر- رمسيس حاليًا- وكان به سجن، وفي اليوم الذي قمت فيه بتسليم نفسي لهم لا تتصور كيف قامت الدنيا لذلك الأمر، وحدثت ضوضاء كبيرة، ووجدت هناك كل الضباط من الإخوان في ذلك الوقت معتقلين
ومنهم عبد المنعم عبد الرؤوف وأبو المكارم عبد الحي وعبد الكريم عطية، ثم أخذوني لوزارة الداخلية، وكانوا معي في غاية الأدب والاحترام، ثم ذهبوا بي إلى السجن الحربي، وكانوا أيضًا في غاية الأدب والاحترام، وهناك وجدت الأستاذ الهضيبي والإخوة الكرام.

خوف الهضيبي

  • وكيف وجدت الأستاذ الهضيبي في السجن الحربي؟
كان الأستاذ الهضيبي خائفًا جدًا من أن يقوم بعض الإخوان من أعضاء المكتب خارج السجن بتصرفات غير مسئولة أو أن يقدموا تنازلات للحكومة، فقلت له: يا فضيلة المرشد أنا أحب أن أطمئنك أن الجميع في غاية الرجولة والالتزام، ولم يقبل أي واحد منهم- وعلى رأسهم عبد القادر عودة- أن يتفاوض مع الحكومة في غيبتك
فارتاح واطمئن ولم يطل الوقت بنا في السجن الحربي، حوالي عشرين أو خمسة وعشرين يومًا وخرجنا جميعًا في شهر مارس عدا ضباط الإخوان، وبعدها فوجئنا بهروب اللواء عبد المنعم عبد الرؤوف من المحاكمة العسكرية وكان قائدًا لجيش فلسطين في ذلك الوقت، وكان إنسانًا فاضلاً وعانى كثيرًا؛
إلا أنه استطاع أن يهرب منهم وهو ذاهب إلى المحكمة، فأخذته وظل يعيش معي، وأجرت له فيلا في الهرم، وبيتًا آخر في شبرا، وبيتًا في إمبابة، بالإضافة إلى بيتنا في العزبة، وظل يتنقل بين تلك الأماكن، وكان معنا المرحوم أحمد عيد من خيرة المعاونين لي في خدمة عبد المنعم عبد الرؤوف عند الهرب، وظل يعيش معي حتى قبض علي في أواخر شهر يوليو 1954 وعلمت بعد حادث المنشية في أكتوبر 1954 بأنه تمكن من الهرب هو وأبو المكارم عبد الحي إلى خارج مصر.
البداية لهذا السبب ثم تطور لغيره؛ حيث تم القبض عليَّ في 1 أغسطس 1954 الذي حدث فيه حادث المنشية؛ وكنت الوحيد في السجن الحربي من الإخوان، وخلال تلك الفترة وما بعدها جربوا معي كل طرق التعذيب، حتى تورَّم جسدي من شدة التعذيب وتحرك فيه الدود، وكانوا أثناء التعذيب يقولون لي سواء اعترفت أو لم تعترف إعدام إعدام فكان هذا يزيدني إصرارًا على احتقارهم من شدة التعذيب وأقول في نفسي سوف أقول لهم أي شيء حتى أنقذ نفسي من التعذيب
ومن ستر الله علي أنه حينما كانت تأتيني فترة الضعف هذه لا يطرق بابي أحد، فأظل حتى تنتهي، سواء بقيت عشر دقائق أو ربع الساعة فلا يطرق بابي أحد، وحينما أمتلئ بالإصرار والقوة يأخذونني للتعذيب، فأقول لهم: اضربوا أيها الكلاب، وهذه حادثة لا أنساها.
وحادثة أخرى، أنني وأنا نائم في أحد الأيام استيقظت على صوت غريب يوقظني ويقول لي: المعركة الكبرى يوم الخميس، وفي يوم الخميس كنت صائمًا وكانت صحتي قد ساءت جدًا من التعذيب من أغسطس حتى يوم 5 نوفمبر 1954 ولا أنساه أبدًا حين طلبوني في مأمورية خارج السجن، فارتديت ملابسي وارتديت البالطو لأن الجو كان باردًا جدًا وقد أصابني النحول والهزال
فوجدت سيارة فخمة تنتظرني وسيارة بوليس حربي من أمامي وسيارة بوليس حربي من خلفي، ولم يأت في ذهني أنني ذاهب للتعذيب بل ظننت أني سأذهب لأحد ممن أعرفهم مثل جمال عبد الناصر مثلاً أو عبد الحكيم عامر أو كمال حسين يريدني أي منهم في شيء.
دخلت على مجلس قيادة الثورة كما كنت أذهب من قبل وفي الصالون الذي كنت أجلس فيه جلست، وكنت وأنا جالس أرى أشباحًا وأسمع أصواتًا مزعجة، وكنت يومها صائمًا كما ذكرت، وفجأة دخل علي علي صبري وهو يرتدي فانلة بدون أكمام وشعره أشعث، وصلاح الشيشتاوي ضابط البوليس الذي صار محافظ القاهرة فيما بعد وأنا أعرفهم جيدًا وقالوا لي لا أحد يملأ عينك يا سي عاكف، ولا أكتمك أني من شدة التعذيب كنت أحتقرهم تمامًا، وكنت أحتقرهم جميعًا علي صبري، وصلاح الشيشتاوي، وصلاح نصر، وغيرهم
وقلت لهم والله بالفعل لا أحد يملأ عيني، وكان يومًأ عصيبًا، أخذوني في السلخانة - حجرة المداولة - وخلعوا عني ملابسي وأرادوا حتى أن يخلعوا عن القطعة الداخلية السفلى لتظهر عورتي فدفعتهم بيدي بقوة رغم أنني كنت ضعيفًا، ولم أشعر بشيء بعد ذلك إلا وأنا في السجن الحربي، وكل ما أذكره عن سلخانة التعذيب أنني رأيت أحمد عيد وهو ملقى تحت الدش وعلي الفيومي منفوخًا!
ورأيت أحمد صالح داود- وكان من رجال أمن الدولة - يأخذني على نقالة ذاهبًا بي للسجن الحربي.ثم أذاعت الإذاعات العالمية أني قد قتلت ولذلك كان الإخوان كلما أراد أحد منهم أن يخفي شيئًا ولا يستطيع الإجابة فيقول كل شيء عند عاكف.

تعذيب حتى الموت

  • هل وصل التعذيب إلى هذا الحد؟
بل لأبشع منه؛ حيث كانت ذراعاي وساقاي مشلولتين لا أحركها، وكان الذي يطعمني يهودي يدعى روبير - وكان بعض اليهود مسجونين معنا - وكان روبير يحضر لينظف الزنزانة ويطعمني بسرعة ويسقيني بعض الماء ويخرج مسرعًا، وروبير هذا هو الذي أخذه اليهود مقابل خمسة آلاف مصري في عام 1967 وكان محكومًا عليه بتأبيدة أشغال شاقة.
ومرت الأيام ثم حملوني على النقالة وذهبوا بي مرة أخرى، وتجمع علي الزبانية حتى أشهد أن الأستاذ الهضيبي هو الذي يأمر بالقتل، فقلت لهم: قولوا عني كل ما تريدون ولكن لن أقول شيئًا على غيري، فهذا مستحيل ولن تصلوا إليه، وقلت لهم وأنا نائم ويداي متدليتان: لو أحدكم رجل حقًا يخرج المسدس ويطلق علي الرصاص، فأخرج صلاح الشيشتاوي مسدسه ثم قال لي: لا، هذه الرصاصة خسارة فيك، ولكنا سنقضي عليك ببطء ونلقي بك في النيل، عند ذلك نادى عليهم شخص ما فتركوني وخرجوا مسرعين، وأنا لا أستطيع التحرك.
جاء عسكري يرتدي زي البحرية فنظر لي وقال: سيدي محمد! وأنا لا أعرفه، وكنت أريد أن أشرب فذهب وأحضر لي ماءً وطعامًا من طعامهم، وكان طعامًا فاخرًا إلا أنني لا أستطيع أن أمسك بشيء، فأخذني ذلك الجندي على صدره وأطعمني، بعدها ظللت ملقى على النقالة حتى الساعة الحادية عشرة ليلاً فحملوني ونقلوني إلى السجن الحربي، ويبدو أنهم وجدوا أشخاصًا آخرين ليشهدوا على الأستاذ الهضيبي.
ذهبت للسجن الحربي وظللت به حتى ذهبنا للمحكمة، وكانت بالطبع محكمة هزلية، فلا يوجد في القاعة غير شابة صحفية ظلت تبكي، والمحامي الذي أرسله لي والدي- وكان محاميًا مشهورًا جدًا- وظل يقول: يا قضاة الشعب، إن موكلي لا تهمة عليه إلا تهريب اللواء عبد المنعم عبد الرؤوف، وهذه جنحة عقوبتها السجن ستة أشهر، فقال له رئيس المحكمة: ألم تقرأ القانون الجديد يا أستاذ؟ من يقوم بتهريب أحد من المطلوبين للعدالة يحكم عليه بالإعدام مادة 2 يطبق بأثر رجعي!!
فجلس المحامي ولم يتكلم، وصدر الحكم بإعدامي شنقًا، كما حكم على أحد عشر آخرين من الإخوان بالإعدام، منهم سعد حجاج وعلي نويتو وآخرون، وحصل عديد من الإخوان على حكم بالبراءة وكان منهم الأستاذ صلاح البنا، وكان معي وظل يبكي كثيرًا.

في غرفة الإعدام

  • وهل ذهبت لحجرة الإعدام فعلاً؟
نعم ذهبوا بنا إلى حجرة الإعدام، ولم يكن بها شيء، حتى الجوارب أخذوها وأخذوا كل ملابسي حتى المناديل، ولم يكن مسموحًا لنا بشيء إلا بشيكولاتة، إذا أردت يحضرون لك علبة شيكولاتة، وسرعان ما أعدموا الستة الأوائل رضي الله عنهم وأرضاهم
والإخوة الكرام الستة الذين تم إعدامهم في 8 ديسمبر سنة 1954م هم: الأستاذ عبد القادر عودة، والشيخ محمد فرغلي، والأستاذ يوسف طلعت، والأستاذ إبراهيم الطيب، والأستاذ هنداوي دوير، والأخ الفاضل محمود عبد اللطيف
وكنت أنا السابع، إلا أنني فوجئت وأنا داخل غرفة الإعدام بحمزة البسيوني يقول لي: تعال هناك مكالمة هاتفية لك، فخرجت فوجدت علي صبري وصلاح الشيشتاوي جالسَيْن، وأعطاني الهاتف على المكتب فوجدت محدثي هو مدير البوليس الحربي وكان اسمه أحمد أنور، وحدثته بشدة وعدم اكتراث؛ لأنه فعل بي الكثير وأنا سأُعدم فماذا سيفعلون بي بعد ذلك
فقال لي: كلم والدتك ستقول لك أخبارًا سارةً، ولأول مرة تنزل الدموع من عيني، ووجدت بالفعل والدتي معي على الخط، فقالت لي: ليس هناك إعدام يا محمد، وفلان وفلان قد حضروا وألغي الإعدام، وعلمت أنه بعد إعدام الستة الأوائل قلبت الدنيا رأسًا على عقب، وحضر رئيس وزراء سوريا ورئيس وزراء باكستان وولي عهد السعودية، حضروا جميعًا
وألغى مجلس الثورة الإعدامات وحوَّلها إلى تأبيدة، وأنا لم أصدق، وقلت لنفسي: ربما هذه هي زيارة الإعدام؛ لأن كل واحد له زيارة قبل إعدامه، ولكني كنت أريد أن أستفز الاثنين اللذين كانا يقولان لي: سواء قلت أو لم تقل فهو إعدام، فبعد أن أنهيت المكالمة قالا لي: ما الأمر؟
فقلت لهما: ليس هناك إعدام، فوقفا مذهولين، وخرجت وكان العنبر كله إعدامات، ومنهم صلاح شادي والشناوي وعلي نويتو وسعد حجاج وصلاح عبد المعطي، ومجموعة كبيرة، فوقفت في العنبر وقلت لهم: يا إخواننا ليس هناك إعدام، وهذه هي الشيكولاتة، كنت أتحدث وقتها وأنا غير مطمئن، فكل ما هنالك أنه خبر أتى لي من والدتي!!.
وبالفعل في اليوم التالي أحضر حمزة البسيوني الجريدة وفيها في الصفحة الأولى إلغاء الإعدام ونقلونا من عنبر الإعدام وضمونا لبقية الإخوان، وفرح الإخوان فرحًا شديدًا خفَّف من صدمة إعدام ستة من خيرة الإخوان، وبعدها بحوالي عشرة أو خمسة عشر يومًا ذهبوا بنا إلى ليمان طرة.
  • هل اختلفت المحطة الثالثة للأستاذ عاكف في السجون المصرية عن السجن الحربي؟
بالطبع ذهبنا إلى الليمان لنترك ذلك الجحيم الذي كنا نعيش فيه في السجن الحربي، ولقد تم ترحيلنا إلى ليمان طرة يوم 16 ديسمبر 1954م ولم يكن عددنا كبيرًا في البداية، حوالي 50 أو 60 أخًا ثم بعد ذلك أصبحنا مائتين، وفي البداية كان يجول في أذهاننا أننا سنذهب لشيء ليس فيه شيء مريح؛
لأن إخواننا كانوا من قبل في السجون مثل ليمان طرة وليمان أبو زعبل وسمعنا منهم الهول عن الحياة القاسية هناك، ولكننا كنا نعتبرها على أية حال أهون من السجن الحربي الذي لا يوجد به قانون ولا نظام ولا أخلاق، فعلى الأقل السجن له لوائح وقوانين.
في الليمان فوجئنا بأنهم يحضرون لنا ملابس مهلهلة ووضعوا في خصرنا وأرجلنا سلاسل من الحديد الثقيل وأحكموا إغلاقها علينا، ثم صعدوا بنا إلى العنابر والزنازين، وكنا قد أعددنا أنفسنا لهذه الحياة القاسية.

بدلة وسلاسل حديد

  • كيف استقبلك المساجين في الليمان؟
كان الناس يسمعون الكثير عن الإخوان والمحاكمات من الجرائد، وكانت الجرائد تشيع عني كثيرًا جدًا، وفوجئت بأن أهل بلدي من الدقهلية من نزلاء الليمان يقومون بعمل حفل كبير لي ويدعونني إليه، ونحن بالطبع لا نعلم شيئًا، وكما يقولون عنا (كاركيه) وذهبنا لهذا الحفل، وقبل أن أدخله أحضر لي بعض الأشخاص من بلدي بدلة فخمة جدًا، وعلمت بعد ذلك أنها بثلاثين قرشًا
وكسروا لي الحديد الثقيل الذي قيدت به، ووضعوا لي حديدًا أستطيع أن أحله وأرتديه بمفردي، وأصبحت عمدة بثلاثين قرشًا وعمة كبيرة، وعندما ذهبت وجدت كل ما يخطر على البال من الطعام في وقت لم نكن نأكل سوى الفول المسوس والعدس المليء بالحصى الذي لا يؤكل، وبعد أن تناولت الغداء قاموا بعمل الجوزة، ورأيت الحشيش لأول مرة في حياتي وكدت أصاب بالدوار من رائحته فخرجت.
وفي ليمان طرة بدأنا ننظم أنفسنا تنظيمًا دقيقًا، وحضر لنا المرشد بعد عدة أيام هو والأستاذ عبد العزيز عطية والدكتور كمال خليفة والأستاذ صالح أبو رقيق، وناداني الأستاذ الهضيبي وعينني مسئولاً عن الإخوان في الليمان، وقال لي جملة كان لها قدرها فيما بعد
قال لي: الأستاذ صالح صلة بينك وبين الإخوان في المكتب ثم بعد شهر تقريبًا نلقوا الأستاذ الهضيبي والأستاذ عبد العزيز عطية إلى السجن نظرًا لكبر سنهما الذي تجاوز الستين سنة، فكان من المقرر ألا يبقى أحد تجاوز الستين سنة في الليمان.
نظمنا أنفسنا بصورة جيدة وبدأنا نتعامل مع الحياة داخل الليمان على أن كل شيء ممنوع، السكر ممنوع والشاي ممنوع، ودورات المياه مفتوحة على بعضها، وفي منتهى القذارة، فبدأنا نتعامل مع الواقع ونحافظ على أنفسنا، ونتعامل مع التجار الذين يحضرون لنا الشاي والسكر، وكان الطعام رديئًا وسيئًا للغاية
فكان الفول مثلاً نقول عليه سوس بالفول وليس فول بالسوس، والعدس رائحته كريهة والخضار نسميه زقفيلن، وكنا نقوم بإعداد أهم الأصناف حتى تكون صالحة نوعًا ما لتناولها، كان شيئًا فوق التصور، ولكننا تعاملنا معه وعشنا بجانب بعضنا حياة طيبة ومنظمة، والإخوان كانوا على درجة مفرحة من الرجولة والصبر.
في الليمان خرجوا بنا للجبل، وكنا نسير حوالي 2 كيلو من الليمان حتى الجبل، وطبعًا نسير بالحديد في أرجلنا كنا مقسمين إلى فرق وكل فرقة بها حوالي 10 أو 15 أخًا وعدد الفرق بين الأربعين والخمسين وكان على كل فرقة أن تقوم بتحميل عربة قطار من الحجارة، وبالطبع نحن لم نكن نستطيع تكسير حجر ولا حمله، ولكن لأننا كنا منتشرين بين الفرق فلم تكن هناك مشكلة؛
حيث كانت كل مجموعة متفاهمة مع فرقتها، وكان المساجين القدامى ماهرين في وضع الحجارة بحيث تبدو عربة القطار ممتلئة بسرعة وعلى الرغم من كل شيء فقد كانت فترة الجبل فترة طيبة نقوم فيها بلعب الرياضة ونطهو الطعام ونأكل ونسير في الشمس، وفي نهاية النهار نعود، ولا يشعر بنا أحد ولا يقوم أحد بعمل مشاكل.
وكنت مسئول الجبل للإخوان وليس لكل الجبل، فرئيس الجبل من المساجين الذي كانت كلمته ماضية عند المأمور لا بد أن يكون رجلاً مر عليه خمسة عشر عامًا في الليمان، ولكن كنت أنا رئيس جبل للمائتين الموجودين من الإخوان، وكان لي عمة كبيرة ومكانة بين المساجين، وذات مرة أحب رئيس الجبل الكبير أن يسيطر على الإخوان فقال: ممنوع النظارات، ممنوع الصلاة
وذلك لأن الإخوان كانوا يرتدون النظارات الشمسية لأن تراب الجبل شديد السوء على العيون، وفي وقت الظهر نقيم الصلاة في مسجدنا ونصلي، فعندما قال ذلك أمسكت به ودفعته للحائط بقوة- وكان هو أطول مني ولكني أقوى منه- وقلت له: اسمع، إن سمعت صوتك تذكر الإخوان بعد ذلك فسأدفنك هنا، وحضر الناس ليخلصونا، وبعد ذلك خافوا لأنني كنت قويًّا وصوتي جهوري، وحضروا مساءً في الليمان ليعتذروا لنا وحضر هذا الرجل واعتذر لي، وسارت الأمور كما هي على ما يرام.

الحياة في السجون

  • لو انتقلنا لمحطة سجن الواحات التي كانت في رمضان.. فكيف تتذكر هذه المحطة؟
في يوم 5 رمضان - مايو 1955م فوجئنا بترحيل مائة أخ إلى الواحات، وكان كلهم من الأسماء الكبيرة، وكنت واحدًا منهم، وكانت رحلة قاسية جدًا، فقد ظللنا 24 ساعة في القطار ثم عند بلد تسمى "المواصلة" عند قنا انتقلنا لقطار آخر في غاية السوء ليصل بنا إلى الواحات، ولكي نسرِّي عن أنفسنا كنا نقضي الوقت في هتافات مدوية، ومن الطريف أن المأمور الذي كان مكلفًا بتوصيلنا، واسمه الحلواني أحضر العساكر، فكنا نهتف من جانب وهم يهتفون من الجانب الآخر!.
وفي الواحات وضعونا في مكان واسع جدًا في صحراء لا ماء فيها ولا شجر، ليس هناك إلا بعض الخيام الملقاة على الأرض، وكنا في رمضان ولكن الإخوان كانوا بواسل بالفعل، ولا أنسى الدكتور حسين كمال الدين هو والأخ عبد السميع عفيفي والحاج شناوي ومحمود بكري، حيث بذلوا جهدًا ضخمًا جدًا حتى نصبنا الخيام لمائة من الإخوان
وكانت أكبر المشاكل هناك مشكلة المياه، فلكي نحضر الماء لنشرب كنا نسير لمسافة اثنين كيلو، ونملأ من عين تخرج من الأرض، وعشنا حياة قاسية جدًا لمدة ستة أشهر، كدنا فيها أن نهلك وتشققت شفاهنا فما رأينا خضرة، لكن صبرنا، حتى قام أخ يسمى أحمد خضر وكان سمكريًا أو سباكًا من العباسية وكان فتوة، قام بالتعامل مع الأرض وزرعها
فأنتجت إنتاجًا ما كنا نتصوره، وفي مدة وجيزة تحول المعسكر إلى جنة، ومجموعة الأشغال العسكرية كان معظمهم أصدقاء لنا فمدوا لنا مواسير للمياه من العين إلى داخل المعسكر، ووضعوا لنا خزانًا كبيرًا فنظل طوال اليوم نسحب من المياه ونضع في الخزان، وكل خيمة لها ربع الساعة تملأ المياه.
ومن عظمة تنظيم المعسكر وانتظام الإخوان والتزامهم أنتجت الأرض إنتاجًا إذا حدثتك عنه تتعجب من قدرة الله، وأصبح عندنا ما لا يخطر على بالك من أنواع الخضراوات والديوك الرومي كانت بأعداد وفيرة، لدرجة أنه من كثرتها كنا نضع كلابًا لحراستها، أما الأرانب والحمام فكانت بلا عدد، وكان عندي برج حمام كنت أذبح حوالي 15 زوجًا من الحمام وأقوم بعمل فتة وكل واحد يحضر ليأخذ نصيبه من الحمام.
ثم أنشأنا بالتدريج مكتبة ضخمة، عندما تركناها كانت تقدر آنذاك بأكثر من خمسين ألف جنيه أي أكثر من مليون جنيه في الوقت الحالي، وكانت الحياة الثقافية والتربوية والعلمية على أعلى مستوى؛ مدارس ومحاضرات ولقاءات في كل المستويات
ولم نكن ننسى الإخوان الذين لم ينالوا حظًا من التعليم، فكان الشيخ عبد الحميد البرديني- رحمه الله رحمة واسعة- بعد الفجر يدرس للجماعة الأميين الذين يريدون الحصول على الابتدائية، وكانت خيمتي بجانب الجامع وأذكر دائمًا هذه الجملة وهو يرددها: الحال دائمًا منصوبة، الحال دائمًا منصوبة!.
عملنا أيضًا ملاعب رياضية، كرة قدم وتنس وجمبارز وسلة وطائرة، وحولنا المعسكر بالفعل إلى جنة، وقسمنا الإخوان على ثلاثة أندية وهي: نادي النصر ونادي الفتح ونادي الجهاد، وعملنا اتحادًا عامًا، ولأول مرة كنت أشاهد انتخابات الأندية حتى نختار مجلس إدارة ونختار ممثلي النادي ورئيسهم، وتم انتخابي رئيس الاتحاد، وكان الأخ صلاح العطار- وهو مهندس كبير ولم أره منذ أن رحل من السجن - رئيس أحد الأندية، وكذلك صلاح شادي ومصطفى مشهور، وكان شيئًا غاية في الجمال.
  • معنى ذلك أن هذا السجن كان خاصًّا بالإخوان فقط؟
لا لم نكن وحدنا في سجن الواحات الخارجة، فبعد أن ذهبنا إلى هناك بشهر أو شهرين، أتى نحو 50 فردًا من الشيوعيين، وكانوا زعماء الشيوعيين من الأحزاب وكنت أعرفهم جميعًا، وكنت أنا مسولاً عن الإخوان وقتها فكانوا إذا أرادوا شيئًا يذهبون للأستاذ صالح أبو رقيق فيقول لهم اذهبوا لعاكف، فيقولون لا لا إنه يكرهنا.
كما كان سجناء الإخوان مسئولين عن طهو الطعام وخبز الخبز، وكنت مسئولاً عن فرقة العجين التي تحتاج شبابًا أقوياء، فكنا نستيقظ في الثالثة صباحًا لنعجن، وكان التموين في السجن 3 أجولة من الدقيق، فكنا نعجن جوالين تقريبًا ونترك لهم جوالاً، فكانوا دائمًا في نوبة العمل يخرجون شريف حتاتة، فكنت إذا رأيته أخرج أقف حتى يراني
وإذا رآني لا يتكلم بكلمة واحدة، فلو تركناه يتكلم لظل يتكلم عن نظرياتهم الفارغة وما سكت، وبعد أن ننتهي العجين نستحم حفاظًا على نظافتنا مهما كانت الظروف، فكنا نستحم أحيانًا بمياه مثلجة ودرجة الحرارة صفر ونجد البراميل التي استخدمناها متجمدة في الصباح.
وأتذكر أنه عندما حدث العدوان الثلاثي عام 56 وكنا في الواحات، قال الإخوان: نحن مستعدون أن نخرج للجهاد في سبيل الله، وأرسلوا للحكومة بذلك، وكانت هناك فكرة وقتها بالإفراج عن الإخوان كلهم ووصلتنا أخبار بذلك، ولكن خمد هذا الأمر نتيجة سوء نية الحكومة ومحاولتها انتهاز أي فرصة لتفريق صف الإخوان.

سجن المحاريق

  • هل استمر وجودكم كثيرًا في سجن الواحات؟
لا.. عدة سنوات؛ حيث فوجئنا في أحد الأيام ونحن في سجن الواحات - بعد حادث طره الذي قتل فيه الإخوان- بأنهم ينقلوننا إلى سجن المحاريق، وهو في الواحات أيضًا، وهو سجن مغلق وكانت مأساة كبيرة جدًا لأنهم حرمونا من كل هذا الخير، فقد كنا نعيش (ملكي) أما في سجن المحاريق فكان سجنًا مغلقًا ومجرد زنازين ليست مفتوحة على بعضها، والزنزانة يضعون فيها 25 أو 30 أخًا، على الرغم من أنها لا تحتمل أكثر من عشرة، وجعلونا نرتدي زي السجن على اللحم، ومنعوا عنا كل شيء.
  • لماذا نقلوكم إلى سجن المحاريق؟
هم كانوا يريدون تكرار مذبحة طره ضدنا، وأتذكر أنه أول ما ذهبنا إلى هناك حضر لواء يدعى إسماعيل همت، وكان يريد تكرار حادث طره في المحاريق، وكان رجلاً فظًا ووقحًا وقليل الأدب، وأذكر أنه أخرجنا مرة حوالي ستة أفراد، منهم الأستاذ عمر التلمساني والأستاذ صلاح شادي وأنا والعدوي وأجلسنا أمامه على الأرض جلسة القرفصاء كما هي عادة السجون، وجاء بالعساكر حولنا مدججين بالسلاح وقال لنا: لا بد أن تكتبوا تأييدًا لعبد الناصر، وإن لم تكتبوا هذا التأييد سأفرغ فيكم الرصاص!
فنهض الأستاذ عمر التلمساني واقفًا، وقال: تقطع يدي ولا أكتب لعبد الناصر، وبهت الرجل وهوت المدافع من أيدي أصحابها وخرجوا، وتركنا ورحل بعد أن ظننا أنه سيقتلنا.وأتذكر أيضًا أنني فوجئت في يوم من الأيام بعبد العال سلومة وهو من ضباط السجن ورجل من المخابرات يرسلون إليَّ، وظل الإخوان ينظرون من النافذة ماذا سيحدث، وذهبت للمكتب وقلت في نفسي إنني مضروب مضروب فآخذ حقي، ووقف أمامي أحد الإخوان الكرام رحمه الله كان قد انهار وأيد عبد الناصر
ثم قال سلومة: إن فلانًا هذا يقول إن عندك سلاحًا،
فقلت له: وهل أنكر أن عندي سلاحًا؟ وهل كنت أحارب اليهود والإنجليزي ببيض وطماطم أم كنت أحاربهم بسلاح؟! والذي يقف أمامك هذا كم حمل على كتفه السلاح فعندما رآني أتحدث بهذه القوة قال لي: أليس للإخوان أخطاء؟
فقلت له: كل حي يخطئ ولكن أليس للإخوان أمجاد يا عبد العال بك؟
فقال لي: ومن ينكر أمجاد الإخوان المسلمين
فقلت له: أنا صاحب هذه الأمجاد والذي يتخلى عن الإخوان المسلمين اليوم هو صاحب أخطائها
فقال لي: هيا اخرج هيا، فلا أنسى أبدًا كيف أنطقني الله بهذه الأجوبة المسكتة، وكيف أعطاني الفرصة مع هذا الملعون، حتى يعترف هو أن الإخوان المسلمين لهم أمجاد، وأنه أصلاً كان من الإخوان وتركهم، وبعد ذلك فتحوا لنا الزنازين، وأصبحنا نخرج، وجعلنا المحاريق مثلما كانت الواحات، فكنا نخرج للمزرعة لنزرعها، وعندما وجدوا نشاطنا برزت لديهم فكرة أن يأخذونا لنعمل في الإصلاح الزراعي
وفعلاً كانت السيارة تأتي لتحملنا ونذهب نحن والشيوعيون لنعمل هناك، وكانت فترة طيبة جدًا، فقد حفظت نصف القرآن بالتلقي في تلك الفترة، فكنت أمسك بيد المقطف والأخ سعيد البواب كان يمسك باليد الأخرى، وحفظني نصف القرآن بهذه الطريقة، وكان خيرًا كبيرًا لنا، وأنجزنا في الإصلاح الزراعي إنجازًا طيبًا، إلا أنه في النهاية كان مهزلة بكل المقاييس، فالمشرفون علينا لم يكونوا إلا أشخاصًا منتفعين.

سجن قنا

  • وماذا عن سجن قنا ؟
في مايو 1964م نقلونا إلى سجن قنا وقسمونا: التأبيدة بمفردهم، وأصحاب الخمسة عشر عامًا بمفردهم، وكنا هناك حوالي 36 أخًا إلى أن انضم إلينا عام 1968م ما يقرب من 70 أو 80 أخًا من قضية 1965 الذين نشأت فيهم بذور فكر التكفير، وبذلنا جهدًا كبيرًا معهم لمدة ثلاث سنوات حتى استطعنا أن نعيدهم إلى حظيرة الإخوان ومفاهيم الإسلام الصحيحة.
وكالعادة في بداية ذهابنا لأي سجن نعاني الأمرين ونمر بأيام صعبة جدًا، وكانت الزنازين مغلقة ولكننا تمكنا من التعامل مع المساجين حتى أصبح لنا مكانتنا وأصبحنا بالتدريج نخرج لنمارس الرياضة، ومن الحوادث الطريفة التي أذكرها من سجن قنا أنه كان هناك شخص من بورسعيد حضر في قضية مخدرات، وكان السجانة يضايقونه كثيرًا ويضيقون عليه
وإذا حضر له طعام يأكلونه منه، وإذا هم بأكل طعام السجن يأكلونه منه أيضًا، فأحضر بعض الشباشب وقام بتقطيعها أجزاء صغيرة، ثم طبخها بالطماطم، حتى صار وكأنه طبق من اللحم الظريف، فقام السجانة بأكله وهم يتساءلون: لماذا هذا اللحم جامد كدا؟
أيضًا أحضروا لنا في قنا شخصًا يدعى بسيوني جمعة، كان يبيع جريدة "الوقائع المصرية" نهارًا، وفي المساء كان يمسك البطارية في سينما سان جيمس، وكانت ملكًا لشخص يهودي، وفي إحدى المرات ذهب أمين عثمان باشا للسينما ومعه كلبه، فأمسك بسيوني جمعة بالكلب ليداعبه فقام أمين عثمان باشا بترقيته من الدرجة الثامنة للدرجة السابعة
وعندما جاء عبد الناصر عام 1956 وطرد اليهود، أراد ذلك اليهودي مالك السينما أن يفوت على عبد الناصر فرصة الاستيلاء عليها فكتب عليها المكتب والسينما لبسيوني جمعة، وكان بسيوني هذا قد نبغ في أعمال السينما والاستيراد والتصدير بخبرته مع ذلك اليهودي، فاستطاع في وقت وجيز من عام 1956 حتى 1961 أن يكسب 3 ملايين جنيه، فقام عبد الناصر بتأميمه ووضعه في السجن، ثم أفرج عنه بعد الاستيلاء على أمواله
فأحضر بسيوني جمعة سائقه وطاهيه وقام بعمل شركة لكل منهما، وفي عام 1965 أصبح عنده 5 ملايين جنيه فأممه عبد الناصر مرة أخرى ووضعه في السجن، ولكنه قام بتوزيع رشى كثيرة، فيقال إنه رشاهم جميعًا حتى رشى كلب السجن الحربي، وكان يخصص راتبًا شهريًا لحمزة البسيوني، ويبدو أن المسألة فاحت رائحتها فأحيل للمحاكمة في قضية عرفت بقضية الرشوة الكبرى، ومن خوفهم منه وضعوه في سجن قنا وعينوا له ضابطًا ينام معه، وبالطبع في المحاكمة صدر الحكم ببراءته لأنه دفع لهم جميعًا.
وفي إحدى المرات جاء أحمد صالح داود- وكان وقتها مديرًا لأمن الدولة، وهو الذي نقلني من مجلس الثورة وأنا لا أتحرك وعلى وشك الموت- جاء لزيارة بسيوني جمعة هذا، وكنت أستعد لطابور الرياضة مرتديًا زي الرياضة، وكنت أضع صافرة في رقبتي عند خروجي لألعب رياضة مع الإخوان، فقابلني أحمد صالح داود عند باب العنبر أثناء دخوله لزيارة بسيوني جمعة، فذهل عندما رآني على تلك الحال من الصمود والقوة وقال لي: ما شاء الله صحة ونشاط!
فقلت له: امسك الخشب يا أحمد بك، ثم قلت له: ومالك قد سمنت وامتلأت،
فقال لي: يا عاكف ألا تحب أن تصبح وزيرًا مثل أصحابك- وهو يقصد عبد العزيز كامل وكمال أبو المجد،
فقلت له: إنني لا أخاف من كرباجكم حتى أصبح وزيرًا،
فقال لي: طيب طيب.. ومضى وتركني.
ظل الحال كذلك فترة قصيرة، ولم نكد نشم أنفاسنا حتى فوجئنا بهم يحضرون إلينا مأمورًا سيئ السمعة والخلق، وكان معروفًا بشدته وقسوته مع المسجونين الجنائيين، لقد كان ذلك الرجل يضرب بالنار في العنبر.
عادت فترة المعاناة سريعًا في سجن قنا وطالت، فقد وضعوا اثني عشر فردًا في السجن الانفرادي- وكنت أحدهم وكان صلاح شادي بجانبي- لمدة ثلاث سنوات من سنة 1965- 1967م لا نرى الشمس ولا نقرأ خطابًا ولا نرسل خطابًا ولا تأتينا أمانات، وليس بالزنزانة إلا البرش والبطانية والقروانة، ثلاث سنوات كاملة
ولكن كان يكفينا القرآن الذي كان خير صحبة لنا، وكنت على الرغم من هذه القسوة ألعب رياضة في الزنزانة، وكان المساجين لديهم رجولة نادرة فكان يأتيني خبز وطعام من نوافذ الدور الأرضي من المساجين، فأنا لا أنسى قنا ولا رجولة أهل قنا التي خففت عنا قسوة مأمور السجن.
أيضًا كان وكيل السجن - واسمه السيد البدوي- رجلاً صالحًا على عكس المأمور، وقد قلت له مرة يا سيد بك إخوانك ليس لديهم ملابس! فما كان منه إلا أن حضر بالليل حوالي الثانية عشرة أو الواحدة ودخل عندي الزنزانة وهو يرتدي 6 فانلات فوق بعضها ويخلعها كلها عندي في الزنزانة، أليست هذه منتهى الرجولة؟
ولم ينقطع عني ذلك الحبس الانفرادي خلال السنوات الثلاث إلا في أثناء محاكمة 1965 حيث أخذوا حوالي 7 أو 8 من قنا وقاموا بترحيلنا إلى ليمان طره أنا والأستاذ عمر التلمساني والأستاذ محمد سليم والأستاذ عبد المنعم سليم والأستاذ محمد العدوي والشيخ شريت حسبما أذكر
وكانوا يأخذون الإخوان ويهينونهم ويعذبونهم في أمن الدولة ثم يعودون، ما عدا أنا ظللت ثلاثة أشهر لم يأخذوني ولا أدري لماذا، ثم فوجئت بهم يطلبوني، فقال لي الإخوان: هدئ نفسك، فقلت لهم: أنا عارف أنها علقة وثلاث سنوات، وأنا باقي لي تسع سنين أو عشرة.
ذهبنا إلى مكتب مدير السجن فوجدت فؤاد علام ورئيس له يدعى زكريا، واللواء عبد الله عمارة، وكان مدير ليمان طره يدعي سمير حسنين وكان تلميذي في فؤاد الأول الثانوية، وكان وجيهًا وألدغ، وقد عرفته وقلت له: هل تعمل في النيابة؟
فقال لي: لا بل في أمن الدولة،
فقلت له: مرحبًا!
وظلوا يتحدثون معي حوالي 3 ساعات، وفي الحقيقة أخذت حقي وكل ما كنت أريده قلته، وتحديتهم في كل شيء؛ لدرجة أن فؤاد علام كان يقول لي: يا عاكف.. عبد الناصر يريد منك ورقة فقط ليس من الضروري أن تكون تأييدًا ولكن على الأقل اعتذار،
فقلت له: فؤاد بك، ظننت أنك أحضرت لي اعتذارًا من عبد الناصر لا لتأخذ مني اعتذارًا لعبد الناصر!.وعندما سمع عمارة هذا الكلام خرج مسرعًا ولم يستطع سماعه،
فقال لي فؤاد علام: والله أفتح لك البوابة العمومية - يعني يفرج عني وأخرج من السجن
فقلت له: لا أنت ولا عبد الناصر يستطيع أن يفتح لي البوابة العمومية، والذي يستطيع أن يفتح البوابة العمومية هي السياسة العالمية وليس أنتم، وبعد ثلاث ساعات قمت دون أن يعتدي عليَّ أحد أو يقول لي كلمة واحدة، وبعدها رحَّلوني إلى قنا ؛ حيث عدت للحبس الانفرادي حتى نكسة 1967.
وبعد النكسة رفعوا عني الحبس الانفرادي وفوجئنا بأن سياسة مأمور السجن قد تغيرت وخفت القيود نوعًا ما، وأصبحنا نمارس أنشطة عديدة في الذكر وحفظ القرآن والرياضة، وكانت تأتي فرق من الخارج من المدارس والاتحادات لتلاعبنا في كرة القدم أو اليد أو السلة، وكنا نأخذ المركز الأول فيها، وكنا نعقد لقاءات مكثفة في الثقافة العامة.
كل هذا بالإضافة إلى خدماتنا للمسجونين، وأذكر أننا كنا في كل يوم جمعة نقوم بعمل طعمية لكل المسجونين، وكانوا حوالي ألف مسجون، وكنت أنا الذي أشرف على هذه العملية، وكنا نقوم بطهي أرز رائحته كانت تجذب الناس من الخارج من الضباط وغيرهم ليأخذوا منه
كذلك كنا في الأعياد نقوم بعمل حفلات كبيرة جدًا ويقوم الإخوان بعمل الكعك لهم، وفي عيد الأضحى خصوصًا نقوم بعمل صواني الرقاق باللحم المفروم، حيث إن مكونات الرقاق موجودة في السجن وإذا اشترينا نشتري أشياء يسيرة جدًا، وكان الإخوان محبوبين جدًا ولهم مكانتهم في السجن وصار لهم تأثير في جوانب عديدة.
المواقف التي كان للإخوان فيها في السجن كثيرة، وسأضرب مثلاً على ذلك بشاب كان يقوم بخدمتنا يدعى علي الجربان، وكان علي الجربان هذا خارج السجن من المجرمين الذين يخافهم الناس، وكان خطيرًا لدرجة أنه كان إذا سار في محافظة قنا وعلم الحكمدار بسيره يرجع خوفًا من علي الجربان هذا، فحضر للسجن وأحب الإخوان من معاملتهم
وبدأ يصلي ثم أصبح يصر على أن يقوم بخدمتنا، وكان الضباط الذين يأتون من الخارج لرؤية علي الجربان لا يصدقون أنه هو الذي كانوا يعرفونه وعلي الجربان مجرد نموذج، فكثيرون غيره من المساجين تعلموا الصلاة الصحيحة وأصبحوا في غاية الأدب، وكنا نقابلهم بعد خروجنا فنجدهم على العهد أناسًا صالحين، فليس كل من في السجن شريرين، بل هناك الكثير من الأشخاص الطيبين، فطرتهم نقية ويحتاجون لمن يأخذ بيدهم.
وأذكر أن أحد العمد الكبار من المساجين أخطأ خطأ ما، فنادى عليه وكيل السجن وكان نصرانيًا- وهو يريد أن يعاقبه- فوقفت بينهما ومنعت الوكيل وصرفت المسجون، وبعدها قابلني الوكيل وشكرني وقال: لقد كنت على وشك أن أعتدي عليه، ولو فعلت لقتلني أهله بالخارج، فقمت أنت بمنعنا، فشكرًا لك على ذلك.
ولعلك تستغرب إن قلت إن تأثير الإخوان في السجن والجو الإيماني الذي أشاعوه داخل السجن بلغ درجة التأثير في ذلك المأمور الذي كان يضرب به المثل في القذارة، فقد فوجئت بذلك المأمور يبعث إلي - وما تعودت قبل ذلك على الجلوس في حجرته، فكان يتكلم وأنا واقف - فقال لي: اتفضل اجلس، فتعجبت وجلست
فقال لي: هل يقبل الله التوبة؟
فقلت له: إلا أن تشرك به (إن الله لا يغفر أن يشرك به ويغفر ما دون ذلك لمن يشاء)،
فقال لي: لقد فعلت كذا وكذا،
فقلت له: لا تقل لي ماذا فعلت فلا أريد سماعه، فما دمت تؤمن بالله وحده ولا تشرك به فالله يغفر الذنوب جميعًا، وتركته، فلم يصدق، وأرسل إلى صلاح شادي وعلمت أنه رد عليه بمثل ردي بالضبط، وبعد ذلك تغيرت معاملته، وبعد أن كان فاسقًا وفاجرًا أسلم وآمن وصلى وصام وقرأ القرآن وبنى مسجدًا في السجن، ولمست زوجته هذا التغيير الكبير في حياته
فكانت كلما تطهو ديكًا روميًا أو محشي أو أي طعام آخر ترسل لي بنصفه، وبعد فترة أصبح ذلك المأمور مديرًا للأمن في بورسعيد، وكان يرسل لي ويقول: أنا على العهد وهذا ببركة الإخوان، وعشنا في سجن قنا حياة مستقرة حتى انتقلنا إلى سجن طره بعد ذلك.
ومن الأحداث المهمة التي مرت بي في سجن قنا خبر وفاة والدي- عليه رحمة الله- حيث توفي في شهر يناير عام 1972 وصلى عليه الإخوان في جميع السجون، وأتى لي أشخاص بأعداد كبيرة من خارج قنا لتعزيتي، وقد كان رحمه الله رجلاً صالحًا والإخوان يحبونه كثيرًا.

المحطة الأخيرة

  • هل كان سجن طره هو المحطة الأخيرة؟
في مارس 1972 رحلنا لمزرعة طره فوجدنا بقية إخوان 1965 وعشنا معهم حياة طيبة وبدأنا أيضًا بتنظيم النشاط، وأحبت قيادات الإخوان الموجودة هناك أن تترك لنا القيادة ولكنا رفضنا ذلك وقلنا لهم: كما أنتم.
وكان سني في ذلك الوقت حوالي 45 أو 46 عامًا وكان معظمهم شبابًا عمرهم حوالي 20 عامًا، فكنت ألاعبهم تنس، وكرة قدم، ويد، وأفوز عليهم، وكانت الرياضة تشغل جزءً كبيرًا من وقتي فكنت أجري حوالي خمسة كيلو مترات تقريبًا في الصباح، وبعد الجري أستحمّ وأتناول إفطاري ثم أراجع القرآن، وكان الأخ عبد المنعم سليم هو الذي يسمّع لي القرآن، ثم أرتاح قليلاً وبعد العصر نخرج لنلعب
وكنا هناك في عنابر وكنت أنا مسئولاً عن الطهي في عنبرنا ومعي الأخ إمام غيث رحمه الله، وكان طباخًا فوق الممتاز، فكنا نضع الطعام، ونذهب للعب، ثم نذهب لتناول العشاء وهم عليهم غسل الأواني، وبعد العشاء أستريح قليلاً ثم أنام.وكان الشباب يجتمعون حولي فكنت أمزح وأقول إني سألت الله عز وجل أن يفرج عني وأن يحججني وأن يجوزني، وقد حقق الله لي هذه الأمنيات من غير حول مني ولا قوة.

حج وعروسة

  • كيف حدث ذلك؟
شاء الله أن يستجيب لي وأفرج عني بعد مضي عشرين عامًا على سجني، ففي يوم 25 يوليو 1974 جاء وفد من المخابرات والبوليس السياسي أو أمن الدولة، وكانوا حوالي خمسة أفراد، ودخلنا على مدير الليمان واسمه اللواء علي موسى ثم طلبوني أنا وعلي نويتو، وقالوا لي: يا عاكف لن نفرج عنك إلا إذا كتبت لأنور السادات
فقمت دون أن أشعر وقلت لهم: اسمعوا: أبلغوا أنور السادات أن محمد عاكف يقول لك: إن الله سبحانه وتعالى خلقه حرًا ولن يساوم على حريته، وإن الله خلق له عقلاً والعقل أمانة، والحاكم الشريف لا يساوم مواطنيه على حريتهم ولا على آرائهم، وانصرفت.
وفوجئت في اليوم التالي بعلي موسى يحضر مسرعًا ويقول لي: يا عاكف، مبروك إفراج، وكنا خمسة باقين في السجن من الإخوان، أنا وصلاح شادي، ومحمد سليم، وعلي نويتو، ومحمد العدوي.وعندما كنت في السجن كنت أمازح الأستاذ عمر التلمساني وأقول له: من ستوافق على الزواج مني؟
قال لي: اسكت يا ولد أنت عروستك ما زالت في بطن أمها!
وعندما خرجت من السجن قلت له إنك وعدتني بأن تزوجني،
فقال لي: سأذهب لأخطب لك ابنة أخي، وأعطى لي موعدًا يوم الأربعاء،
ولكن في يوم الأحد السابق لذلك الموعد حضر لي اللواء كمال عبد الرازق، وكنت ذاهبًا لحضور مباراة في نادي الجزيرة، فوجدته يقف ويقول لي: إني أريد أن أذهب للحج، فقلت له: وما يمنعك؟ إنك مدير أمن عثمان أحمد عثمان بك، وأنا خارج لتوي من السجن فليس معي أي شيء،
فقال لي: لقد رأيت رؤيا أن أحضر لك لكي نذهب معًا للحج، وكانت ابنة خالي الحاجة شرف صاحبة شركة سياحية شهيرة جدًا وقتها اسمها جولدن تورز، وكانت تعلم أنني خرجت بعد عشرين عامًا من السجن وأحبت أن تأخذني معها في الفوج الخارج للحج فرفضت، وقلت لها: لا أحب أن أحج عالة على أحد، ولم أذهب، ولكن عندما حضر لي كمال عبد الرازق يريد أن يحج وأصر أن يأخذني معه، أخذته وذهبت إليها، وقلت لها: اللواء كمال عبد الرازق يريد أن يحج وأرجو أن يكون له مكان عندك،
فقالت لي: محمد عاكف يخرج للحجاز يكون هناك تذكرتان، أما إذا لم يطلع محمد عاكف للحجاز فليس هناك تذاكر،
فقلت لها: إنك تعلمين أنني خارج لتوي من السجن وليس معي شيء،
فقالت: إنني لا أريد منك شيئًا، وطلبت فقط أشياء تافهة أهمها جواب من الوزارة، ومع ذلك أصررت على المشاركة في النفقات، كان ثمن التذكرة يومها 105 جنيهًا وكان في جيبي 95 جنيهًا فأعطيتهم لها على أن أحضر لها الباقي.
كان لقائي بكمال عبد الرازق يوم الأحد، وأخذته لشركة السياحة يوم الإثنين، وفي يوم الأربعاء كنت أركب الطائرة مع كمال عبد الرازق ونزلنا فوجدنا السيارات الفخمة منتظرة هناك، والمعروف عن شركة جولدن تورز أنها فخمة جدًا لدرجة أن الوزير حسب الله الكفراوي كان يحج ورآني هناك فقال لي: هل دعاك الملك فيصل؟!!
وكانت حجة طيبة، وهي أول مرة أحج في حياتي وأول مرة أركب الطائرة أيضًا.وبمجرد عودتي من الحج اتصلت هاتفيًّا بالأستاذ عمر وقلت له: أخبرتك أني خارج للحج، وأن أول مكالمة بعد الحج سأسألك أين العروسة، وكنت أدور حول الكعبة وأقول ربي إني لما أنزلت إليَّ من خير فقير،
فقال لي: لقد ذهبت لأخطبها لك فوجدتها اتخطبت لغيرك، وكان يجلس المهندس إمام غيث فقال لي: اخطب أخت الدكتور محمود عزت،
فقلت له إنني أعلم أن آخر أخت له قد خطبها الدكتور عامر،
فقال لي لا بل لديه أخت صغيرة فذهبت لخطبتها،
وكانت فعلاً كما قال الأستاذ عمر، فقد دخلت السجن وهي ما تزال في بطن أمها!
وحقق الله لي الأمنيات الثلاث، الخروج من السجن، والحج، والزواج

من كتابات المرشد عاكف

الإخوان دعوة شاملة وجماعة عاملة

المرشد العام السابق أ. مهدي عاكف

ليس الإخوان مجرد جماعة من الوعاظ تلهب مشاعر الجماهير بالخطب البليغة، وإن كان الوعظ والإرشاد من وسائلها، ولا محض جمعية خيرية تعمل لخدمة المجتمع، وإشاعة البر، ومساعدة الفقراء والضعفاء، وإن كان فعل الخير جزءًا من أعمالها، ولا حزبًا سياسيًّا فحسب يدعو إلى الحرية وإن كانت الحرية فريضة من فرائض الإسلام والحكومة جزء منه، ولكنها كما قال الإمام البنا: نحن فكرة وعقيدة، ونظام ومنهاج، لا يحده موضع ولا يقيده جيش، ولا يقف دونه حاجز جغرافي، ولا ينتهي بأمرٍ حتى يرث الله الأرض ومَن عليها؛ ذلك لأنه نظام رب العالمين ومنهاج رسوله الأمين.

ونحن أيها الناس- ولا فخر- أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وحملة رايته من بعده، ورافعوا لوائه كما رفعوه، وناشرو لوائه كما نشروه، وحافظو قرآنه كما حفظوه، والمبشرون بدعوته كما بشروا ورحمة الله للعالمين ﴿وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)) (ص).

أيها الإخوان: يد الله مع الجماعة

إن العمل الجماعي وصية الرسول صلى الله عليه وسلم للمسلمين: "يد الله مع الجماعة، ومن شذَّ شذَّ في النار"، "فعليكم بالجماعة فإنما يأكل الذئب من الغنم القاصية"، "مَن أراد بحبوحة الجنة فليلزم الجماعة".

يقول عبد الله بن مسعود - رضي الله عنه - عن الجماعة: "إنها حبل الله المتين الذي أمر به، وإن ما تكرهون في الجماعة والطاعة خيرٌ مما تحبون في الفرقة" ، ويقول علي رضي الله عنه: "كدر الجماعة خيرٌ من صفو الفرد" .

هذه الجماعة ترسم للفرد طريقًا يُعينه على الصلاح، يقوم على التعاون على البر والتقوى ليحول الكلام إلى الأفعال، والنظريات إلى التطبيق، ولا يتحقق ذلك إلا بجماعة مترابطة متراصة، يشد مَن أزرها ويقوي عضدها ويحقق أهدافها من داخلها وليس من خارجها أصحاب الكفاءات والهمم العالية والتخصصات النادرة والمفكرون الملهمون والمواهب الربانية، والمهرة بل والرواحل، الذين لها يعملون، ولمنهاجها يطبقون، وبقادتها يثقون وبأُخوتهم يتحابون، وبثوابتها يلتزمون، وعندئذٍ يكونون جديرين بنصر الله.

أيها الإخوان : الأعمال الكبيرة لا تتم إلا بجهود متضافرة

المؤثر في حركة التاريخ أو في نمو الحضارة وازدهارها ليس وجود الأفراد المخلصين الذين يتصفون بالأخلاق الحميدة مهما بلغ صلاحهم وتقواهم وإدراكهم لحقائق الأمور والواقع المرئي يؤكد ذلك، وإنما المؤثر الأهم أن تكون هناك حركة جماعية، وتيار قوي يُؤثِّر في غيره بالتعريف والمجاهدة ومخالطة الناس والصبر على أذاهم، لا يتأثرون بغيرهم، يقولون الحق بعزة المؤمن الذي يستمد قوته من الله الكافي عبده.

وليس هذا تقليلاً من عمل الفرد ولا ما يتحلى به من صفات كريمة سواء من أفراد وعلماء مخلصين يلتزمون في خاصة أنفسهم ويدعون غيرهم إلى الالتزام ثم لا يهتمون بالتكوين والتنفيذ، وهي المرحلة الأهم؛ لأنها هي التي تُنزِّل ما تبيَّن لهم على أرض الواقع.

إن الواقع يشهد أن العمل الجماعي هو المثمر، فاليد الواحدة لا تُصفِّق، والمرء قليلٌ بنفسه كثيرٌ بإخوانه، ضعيفٌ بمفرده، قويٌّ بجماعته، والأعمال الكبيرة لا تتم إلا بجهودٍ متضافرة، والمعارك الحاسمة لا يتحقق النصر فيها إلا بتضام الأيدي وتعاضد القوى، كما قال القرآن: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ (4)) (الصف).

أيها الإخوان المسلمون.. أيها الناس أجمعون

إن القوى المعادية لرسالة الإسلام وأمته، لا تعمل بطريقةٍ فردية، ولا فيصورة فئات مبعثرة، بل تعمل في صورة تكتلات وتجمعات منظمة غاية في التنظيم، لها هياكلها ولها أنظمتها، ولها قيادتها المحلية والإقليمية والعالمية، ومن الواجب علينا أن نحارب أعداءنا بمثل ما يحاربوننا به، ولذلك كانت الجماعة فريضة شرعية، فالباطل المنظم لا يغلبه إلا حق منظم.

والقرآن الكريم يحذرنا من ذلك حين يقول : ﴿وَالَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَفَسَادٌ كَبِيرٌ (73)) (الأنفال). وأي فتنةٍ وأي فسادٍ أكبر من أن تتجمع قوى الكفر وتتفرق قوى الإسلام، وأن يتلاحم أهل الباطل، ويتمزق أهل الحق، فهذا هو الخطر الكبير والشر المستطير. ولذا فإن الإخوان يدرءون الفتنة بصفٍّ واعٍ متراصٍ متحابٍّ يتميز بتعاونه مع كل الأفراد والهيئات العاملة للإسلام على الساحة العالمية.

أيها الإخوان المسلمون.. أيها الناس أجمعون

لا يتم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر إلا بالجماعة التي تمتثل أمر الله ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104)) (آل عمران).

إن الفرد الصالح - في فهمنا للإسلام - يعتبر شريكًا بسكوته على المنكر، فما الذي يستفيد منه المجتمع بصلاحه الذي يتحلى به، وهو لا يتعاون مع إخوانه ليحققوا مجتمع الفضيلة، إن الساكت على الحق شيطانٌ أخرس ﴿وَاتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ (25)) (الأنفال) ولذلك تسأل السيدة عائشة - رضي الله عنها - رسول الله صلى الله عليه وسلم : أنهلك وفينا الصالحون؟ قال: "نعم؛ إذا كَثُر الخبث" .. تأمل سؤالها فلم تقل (وفينا المصلحون) لأن المصلحين هم الذين يعملون على إزالة الخبث.

وفي الحديث أيضًا: "إذا أُخفيت الخطيئة لا تضرُّ إلا صاحبها، وإذا ظهرت فلم تُغيَّر ضرَّت العامة" ، وهي لا تُغيَّر إلا بالذين يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر.

أيها الإخوان المسلمون.. أيها الناس أجمعون

الجماعة من ثوابت الإسلام

لذلك كانت الجماعة من ثوابت الإسلام نفسه الذي يدعو إلى تحقيق النظام في أقل عددٍ يتصوره المسلم حتى ولو كان مسافرًا، فإن كان بمفرده في سفره فالشيطان معه، وإن كانوا أكثر من ذلك ولو ثلاثة كان لا بد من أن يُؤمَّر عليهم أمير.. "إن كنتم ثلاثة فأمروا أحدكم" ، فما بالك بمَن يريد أن يُحيي أمةً ويُقيم دولةً ويصنع حضارةً، ألا يحتاج هذا إلى تنظيمٍ دقيقٍ وأمير لجماعة مطاع يشعر كل فردٍ فيها أنه في كيانٍ مطالب أن يُقيم دين الله على الأرض.

وإذا كانت إقامة الإسلام واجب المسلمين جميعًا، فإن الوسيلةَ إليه وهي الجماعة من الواجب أيضًا، فما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، خصوصًا ونحن في زمانٍ لا يعرف إلا التكتلات والتجمعات لتحقيق المصالح، فما بالك بالإسلام الذي يعتبر الجماعة إيمانًا والتفرق كفرًا.

وإنَّ معنى الجماعة في نفس الفرد لا يكتمل إلا إذا شعر:

أولاً: بالاعتزاز بانتمائه إليها.
ثانيًا: الطمأنينة في وجوده فيها.
ثالثًا: أنها حققت أو تحقق أمانيه.
رابعًا: أنه عضوٌ فيها ولبنةٌ من لبناتها يمدها وتمده ويشدها وتشده.
خامسًا: أنه بها وليس بغيرها، وهي إن لم تكن به فبغيره ﴿وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ﴾ (محمد: من الآية 38).

وهذا هو الفرق بين التجمع الذي لا رابطَ له ولا رأس ولا منهج، وبين الجماعة التي هي وجدان ووشائج ومشاعر، وترابط وحب، ونظام وأهداف ووسائل، وجند وقيادة غايتها الله؛ ولذلك كان من مهامها إصلاح النفس لتكون تقيةً، وتكوين الأسرة لتكون مسلمةً، وإرشاد المجتمع لتسود القيم والمبادئ والأخلاق وشعائر الإسلام ومظاهره في كل أرجائه

والدعوة بالحكمة والموعظة الحسنة لتطبيق شرع الله، بالوسائل السلمية والشرعية عن طريقها بعد أن تحقق قوة الحب وقوة الإيمان فهما السبيل لإقامة شرع الله، وهذا هو فهمنا الذي ندين به.. في هذه الجماعة المباركة التي هي جماعة مسلمة وليست الجماعة المسلمة الوحيدة كما يتقول علينا البعض بما لم نقل، فنحن نمد أيدينا إلى كل مَن يريد أن يُعيد لهذا الدين سلطانه ولهذه الأمة والدولة ومكانتها.

﴿قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي﴾ (يوسف: من الآية 108)، وصدق رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قال: "نضَّر الله وجَّه امرءٍ سمع مقالتي فوعاها، ثم أدَّاها إلى مَن لم يسمعها فربَّ حامل فقه ليس بفقيه، ورب حامل فقهٍ إلى مَن هو أفقه منه".

والحمد لله رب العالمين
نشرت هذه المقالة لفضيلة الأستاذ عاكف بتاريخ 8 – 11 – 2009

الدعوة ماضية في طريقها حتى النصر بإدن الله تعالى

بقلم فضيلة الأستاذ: محمد مهدي عاكف – حفظه الله

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومَن والاه، وبعد..

فقد جاء الإسلام بأكمل تصور للوجود، وبأرقى وأشمل نظامٍ لتطوير الحياة وإسعاد الخلق، وعمل على هداية البشرية كلها إلى هذا الخير، وتبليغه إلى أسماعها وإلى قلوبها، ومضى النبي صلى الله عليه وسلم يعرض حقائقه على الناس، فقبلته العقول السليمة، وانجذبت إليه الفِطَر المستقيمة، فقامت قيامة الجاهلية وأجلبت بخيلها ورجلها، ولم تدَع نقيصةً إلا حاولت إلصاقها بالدعوة والداعية صلى الله عليه وسلم؛ في خصومة فاجرة، وحرب قذرة مناقضة للأخلاق النبيلة

ولكنَّ جلالَ الحق الذي جاء به محمد صلى الله عليه وسلم، وجمالَ المبادئ التي نادى بها، وحاجةَ البشرية إلى المنهاج والأخلاق التي قدمها ؛ دفعت العقلاء إلى الإيمان به، فاندفعت الجاهلية في نصرة باطلها إلى حرب وجودية ﴿وَانْطَلَقَ الْمَلأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آَلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ﴾ (ص: 6)

ولم تزَل حربُهم على الإسلام قائمةً حتى ﴿جَاءَ الْحَقُّ وَزَهَقَ الْبَاطِلُ إِنَّ الْبَاطِلَ كَانَ زَهُوقًا﴾ (الإسراء: من الآية 81)، وجاء نصر الله والفتح، ودخل الناس في دين الله أفواجًا، ولم ينتقل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى الرفيق الأعلى إلا وقد دانت الجزيرة العربية كلها بدين الحق، واستظلَّت بظلال التوحيد والعدل.

فلمَّا تُوفي رسول الله صلى الله عليه وسلم اجتمعت على الإسلام محنٌ وخطوبٌ لم تجتمع من قبل، فقد ارتدَّت العرب، ونَجَمَ النفاق، وحزن المسلمون حزنًا شديدًا لفقد نبيِّهم صلى الله عليه وسلم وقلتهم وكثرة عدوِّهم، فتماسك المسلمون وعلى رأسهم خليفة رسول الله صلى الله عليه وسلم أبو بكر الصديق رضي الله عنه، وصبروا وقاموا بأعباء الدعوة إلى الله خيرَ قيام، وقال أبو بكر الصديق رضي الله عنه: "أينقصُ الدينُ وأنا حي؟!" ، وأبى المسلمون أن يستسلموا لهذه الحوادث ويخذلوا الدعوة، فلم يحافظوا على وضع الإسلام فقط، بل فتحوا فارس والروم.

وتبعهم على ذلك أجيال المسلمين من بعدهم، فحملوا الإسلامَ إلى كل مكان، وصحَّحوا المفاهيم، ونشروا في الدنيا الخير والنور، وأُوذوا أشدَّ الإيذاء، فتحمَّلوا ذلك كلَّه في سبيل الله، حتى كَتَبَ الله لهم النصر والتمكين.

الدعاة يدركون طبيعة الطريق

يُدرك الدعاة إلى الل ه- وفي القلب منهم الإخوان المسلمون – أن الطريق إلى هداية الناس وشيوع الخير ونشر الفضيلة في الدنيا؛ سيواجِه من الصعوبات والعوائق ما واجَه الأنبياء والصالحين من قبل، فالرسالة هي الرسالة، والضلالات والأهواء هي هي، والعقبات هي العقبات، والقوى الطاغية لا تزال تقوم دون الناس ودون الدعوة، وتفتنهم كذلك عن دينهم بالتضليل وبالقوة.

والقرآن يُذكِّر المسلم الصادق بأن الفتنةَ والابتلاء قَدَرٌ لازم ﴿وَكَذَلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ﴾ (الأنعام: من الآية 53)، وله هدفٌ واضحٌ، وهو تمييزُ الخبيث من الطيب ﴿وَلَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجَاهِدِينَ مِنْكُمْ وَالصَّابِرِينَ وَنَبْلُوَ أَخْبَارَكُمْ (31)) (محمد)، ولا سكنَ في الجنة إلا لمن صبرَ على هذا الابتلاء ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنْكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142)) (آل عمران)

ومن ثَمَّ فلا مناصَ أمام حَمَلَةِ رسالة الخير ومشاعل النور من الحلمِ والصبرِ والاحتسابِ، فللباطل جولةٌ ثم يذهب هباءً، والحق له صولةٌ وهو أنفع، وله الثبات والبقاء، فإذا اشتدَّ الأذى وكثُر التهديد لجأ المؤمنون إلى حصن التوكل على الله والصبر على الأذى، وشعارهم: ﴿وَمَا لَنَا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَقَدْ هَدَانَا سُبُلَنَا وَلَنَصْبِرَنَّ عَلَى مَا آَذَيْتُمُونَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)) (إبراهيم).

العقبات في طريق الدعوة:

كثُرت وتنوَّعت العقبات التي واجهت - ولا تزال تواجه - دعوة الحق والخير والهدى والنور، منذ أن بعث الله بها أنبياءَه ورسلَه حتى اليوم وإلى أن تقوم الساعة، ومنها:

النظم الطاغية في الأرض: التي تصدُّ الناس عن الاستماع إلى الهدى، وتسعى إلى فتنةِ المهتدين وردِّهم عن الحق ﴿وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا﴾ (إبراهيم: من الآية 13)، ﴿قَالَ الْمَلأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يَا شُعَيْبُ وَالَّذِينَ آَمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنَا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنَا﴾ (الأعراف: من الآية 88)،

وهؤلاء المستكبرون لا يألون جهدًا في الصدِّ عن الإسلام وتشويه الدعاة إليه وممالأة الظالمين الذين يكيدون له ﴿إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَالَّذِينَ كَفَرُوا إِلَى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36)) (الأنفال).

ومما يؤسف له أن ترفع تلك الدول شعارات الحرية وحقوق الإنسان، وتثور ثائرتهم لما يَعُدُّونه انتهاكًا هنا أو هناك، ثم يدوسون هذه الحقوق ويصمتون صمت القبور إذا كان ضحيتها هم حملة المشروع الإسلامي، بل تتخذ تلك الدول من الإسلام وحَمَلَة دعوته عدوًّا دون أن تتعرَّف إليه وتدرك الخير الذي جاء به، ولو أمعنوا النظر وأنصفوا لرأوا في هذا الدين الكريم خلاصًا للعالم المعاصر من أزماته وحلاًّ لمشكلاته، ولسارعوا إلى قبوله والدخول فيه أفواجًا، ولكن التعصبَ يُعمِي ويُصِمُّ، ولا حول ولا قوة إلا بالله.

الأنظمة المستبدة: التي لا ترى أبعدَ من قوائم الكرسي الذي تجلس عليه، ولا تفكِّر بغير العصا الأمنية التي تجتهد في تضخيمها وتقويتها، ولا تؤمن بغير البطش سبيلاً للبقاء فوق العروش المغتصبة وتكديس الثروات المنهوبة؛ فالمستبدُّ لا يرى إلا نفسه، ولا يبصر إلا مصلحته، ولا يُقَرِّب منه إلا من يتملَّقه ويترضَّاه، ولهذا فإنه في الوقت الذي يتصاغر ويتراجع فيه أمام أعداء الوطن؛

يستأسد على الصالحين المصلحين من بني جلدته، يقدمهم قرابينَ لقوى البغي والاستكبار العالمية، وثمنًا لتسلُّطه على الشعب المغلوب، ويملأ القلوبَ المؤمنةَ الأسى وهي ترى بني جلدتها ودينها يتولَّون أعداءهم ويعادون إخوانهم، ويستسلمون لمن يمكُر بهم، ويكرِّمون من ينافقهم رغبًا أو رهبًا، ويتغوَّلون على مَن ينصحهم ويسعى لخيرهم وخير أوطانهم.

ولو راجع هؤلاء أمرَهم، وتدبَّروا العواقبَ، ونظروا بعين الصدق والإنصاف؛ لرأوا أن مصلحتهم وقوتهم في نصرة دينهم، والوقوف في خندق شعوبهم، وأنه لا ملجأَ لهم بعد الله إلا شعوبهم التي ارتضت الإسلامَ دينًا والقرآنَ دستورًا ومنهاجًا؛ فهل يرجعون ويبصرون وإن تعجب فعجبٌ سكوتُ النخب المثقَّفة ودعاة حرية الرأي والفكر والتعبير؛ عن تسلُّط المستبدِّين على الإصلاحيين من الإسلاميين عمومًا والإخوان المسلمين خصوصًا!

وهم الذين يملؤون الدنيا صياحًا وبكاءً على الحرية المفقودة إذا صودرت روايةٌ فاجرةٌ، أو حُذفت لقطةٌ مقززةٌ، أو تصدَّى العلماء لتفنيد رأيٍ مشوه زائف، يصادم ثوابت الأمة وقيمها، ويطعن في دينها وحضارتها! وحسبنا الله ونعم الوكيل.

التاريخ يؤكد أن النصر للحق وأهله

الذي يستعرض حقائق التاريخ يمتلئ يقينًا بزوال الباطل وبقاء الحق ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ﴾ (الرعد: من الآية 17).. يُدرك ذلك مَن يستعرض قصص الأمم المختلفة مع رسالات السماء، وما وضعوه من العقبات والفتن في طريق الدعوة إلى الإيمان وفي وجه الحق والهدى، ثم ما انتهى إليه الصراع بينهم وبين الحق من نصرة الحق وأخذ خصومه جميعًا، ﴿فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)) (العنكبوت).

ويضرب الله تعالى لهذه القوى الباغية كلها مثلاً مصوَّرًا يجسِّم وهنَها وتفاهتَها فيقول: ﴿مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِيَاءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتًا وَإِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (41)) (العنكبوت).

وقد أدرك كثيرون ممن واجهوا الحق أنهم مغلوبون، وتذكُر لنا كتب السيرة أنه لَما جِيءَ بِحُيَيّ بْنِ أَخْطَبَ إلَى النبي صلى الله عليه وسلم، ووقف بَيْنِ يَدَيْهِ، وَوَقَعَ بَصَرُهُ عَلَيْهِ؛ قَالَ: "أَمَا وَاَللهِ مَا لُمْت نَفْسِي فِي مُعَادَاتِك، وَلَكِنْ مَنْ يُغَالِبْ اللّهَ يُغْلَبْ، ثُمَّ قَالَ: يَا أَيُّهَا النّاسُ، لا بَأْسَ قَدَرُ اللّهِ، وَمَلْحَمَةٌ كُتِبَتْ عَلَى بَنِي إسْرَائِيل" (زاد المعاد).

فهذا الرجل كان يعلم أنه يقف في الصف المغلوب، وأنه لا سبيلَ لمغالبة الحق، لكنَّ الحقدَ غير المبرَّر هو الذي قاده وقومه إلى الهلاك؛ فهل يعي قادة الغرب دروس التاريخ، ويتخلَّون عن حلم فرض ثقافتهم وسلطانهم على المسلمين، ويتركون سياسة التصادم والاستعمار التي ثبت فشلها، ويتخلَّون عن سياسة إقصاء الحركات الإسلامية أو محاولة تطويعها وتدجينها، بعد أن ثبت لهم استعصاؤها على التطويع أو التطبيع.. لئن وعى قادة الغرب دروس التاريخ فلجؤوا إلى الحوار والتعاون، بدلاً من الإقصاء والتصادم؛ ليكونَنَّ للعالم شأنٌ آخر من بسط الأمن والرخاء.

لماذا اليقين بانتصار دعوة الحق؟

يعجب البعض من استمساك المجاهدين في سبيل الله والداعين إلى الخير برسالتهم، رغم عنف الضربات الظالمة التي تُوجَّه إليهم، وقسوة الحرب المجرمة التي تُشَنُّ عليهم، ورمي العاملين في ميدان الدعوة بالسذاجة، ولكننا نؤمن إيمانًا لا شك فيه أن الخير سينتصر، وأن الحق ستعلو رايته، وتنتشر في الدنيا دعوته، ويقيننا نابع مما يلي:

(1) أنها دعوة منسجمة مع الفطرة التي فطر الله الناس عليها: ﴿فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَةَ اللَّهِ الَتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لاَ تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ القَيِّمُ﴾ (الروم: من الآية 30)، وفي الحديث القدسي الجليل: "وإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ…" (مسلم).
وقد جاءت عقيدة الإسلام وشريعته في القرآن بأسلوبٍ سهلٍ واضح، وهو على قدر ما فيه من بلاغةٍ معجزةٍ؛ فإنه مُيَسَّر للذكر يفهمه العالِم والعامِّيِّ، وإن اختلفت طريقة الإقناع ودرجة الاقتناع باختلاف طاقات الناس ومداركهم، لكن لا يملك العقل الحر والنظر السليم والفطرة الصافية إلا أن تذعن له وتؤمن به.
(2) الإيمان العظيم الذي يملأ قلوب الدعاة: إن العقيدة الصحيحة متى استقرت في القلب فإنها تُثمر تحرير النفس من قبول الخضوع للاستبداد، أو الإقامة على الضَّيْم.
فالمؤمن يعلم أن الخلق جميعًا لا يملكون لأنفسهم شيئًا، بل ولا يملكون أن يدفعوا عنه شيئًا ﴿إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللَّهِ لَن يَخْلُقُوا ذُبَاباً وَلَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَإِن يَسْلُبْهُمُ الذُّبَابُ شَيْئاً لاَّ يَسْتَنقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَالْمَطْلُوبُ (73)) (الحج).
ويعلم أن العمر بيد الله، لا ينقص بالإقدام، ولا يزيد بالإحجام، وأنه لا ينجي من الموت فرارُ الفارِّين، ولا يقدِّمه على أوانه ثباتُ المؤمنين ﴿قُل لَّن يَنفَعَكُمُ الفِرَارُ إِن فَرَرْتُم مِّنَ المَوْتِ أَوِ القَتْلِ﴾ (الأحزاب: من الآية 16) ﴿إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذَا جَاءَ لاَ يُؤَخَّرُ﴾ (نوح: من الآية 4).
ولذلك فإن الداعية الصادق يقابل الأهوال بشجاعة، ويثبت أمام الخطوب ببسالة؛ لأنه يعلم أن يد الله ممدودة إليه، وهو يقرأ قوله تعالى: ﴿اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُم مِّنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ﴾ (البقرة: من الآية 257).
وهو قبل ذلك وبعده مرتبط باليوم الآخر، متعلِّق الهمة بتحصيل الثواب فيه؛ ولذلك ينطلق في دعوته على هدًى من ربه، محتسبًا ما يَلقَى من أذى في سبيل الله، موقنًا بقرب طلوع فجر العدل، ومجيء ساعة الحساب.. يقول للمتربصين: ﴿قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلاَّ إِحْدَى الحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَن يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِّنْ عِندِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُم مُّتَرَبِّصُونَ (52)) (التوبة)، ويقول للمخوِّفين: ﴿حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الوَكِيلُ﴾ (آل عمران: من الآية 173)
ويقول للمترددين:
مَن لم يمتْ بالسيفِ ماتَ بغيرِهِ
تعددت الأسبابُ والموت واحد

ويتلو على المتأثرين بالشائعات والحروب النفسية التي يجتهد فيها أعداء الله ﴿وَلاَ يَحْزُنكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ العِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعًا هُوَ السَّمِيعُ العَلِيمُ (65)) (يونس)؛ فهل يُتصوَّر أن ينهزم مثل هذا الداعية صاحب العقيدة الصحيحة؟!.
(3) الثقة التامة بوعد الله بالنصر والتمكين:إن العقيدة الصحيحة تربِّي في نفوس دعاة الحق والخير الشعورَ بالأمل في الله، والثقةَ في نصره، ومهما توالت النكبات والكوارث على المجتمعات وتسلَّط المستبدُّون على الأمة؛ فإن الثقة في الله تطرد اليأس من قلوبهم، وتدفعهم إلى اقتحام المصاعب مهما اشتدَّت، ومقارعة الحوادث مهما عظمت، وكيف يصيب اليأسُ صاحبَ العقيدة وهو يقرأ: ﴿وَنُرِيدُ أَن نَّمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الأَرْضِ وَنَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَنَجْعَلَهُمُ الوَارِثِينَ (5) وَنُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الأَرْضِ…﴾ (القصص)؟!
وكيف يصيبه الضعف أمام نازلةٍ من النوازل، وهو يقرأ ﴿وَلاَ تَهِنُوا وَلاَ تَحْزَنُوا وَأَنتُمُ الأَعْلَوْنَ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ (139) إِن يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ القَوْمَ قَرْحٌ مِّثْلُهُ وَتِلْكَ الأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ﴾ (آل عمران)؟!
وكيف يتراجع أمام أية قوةٍ وهو يقرأ قوله تعالى ﴿هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الكِتَابِ مِن دِيَارِهِمْ لأَوَّلِ الحَشْرِ مَا ظَنَنتُمْ أَن يَخْرُجُوا وَظَنُّوا أَنَّهُم مَّانِعَتُهُمْ حُصُونُهُم مِّنَ اللَّهِ فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُم بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي المُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُوْلِي الأَبْصَارِ (2)) (الحشر)؟!
وكيف يتردد عن المضيِّ في الطريق أو يستطيل المسافة وهو يقرأ قوله تعالى: ﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم مَّسَّتْهُمُ البَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلاَ إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)) (البقرة)؟! ولذلك فهو على تمام الثقة بتحقيق وعد الله ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا﴾ (النور: من الآية 55).
(4) معرفتهم بحاجة الدنيا إلى الرسالة التي يحملونها:إن الدعاة الصادقين يدركون أن قارورة الدواء التي تحتاجها البشرية لتتعافى من الداء الذي ألمَّ بها؛ هي في الرسالة التي كلَّفهم الله بحملها ونَدَبَهم إلى نشرها، فالأزمات العالمية المتلاحقة، والفوضى الأخلاقية الضاربة بأطنابها، والحروب الطاحنة بين الشعوب، والنظام العالمي الأعور المختلّ، والتفكك الأسري المفجع، والتفاوت الطبقي المذهل، والعنصرية المقيتة، والطائفية الفاشية في أنحاء العالم.. كل ذلك وغيره لا سبيل للتخلص منه إلا بمنهج الإسلام.
والسعادة المفقودة، والأمن العالمي والمحلي المنشود، والعدالة المأمولة، والمساواة بين الناس، وتكريم الإنسان وحفظ إنسانيته؛ لا يمكن أن تتم بشكلٍ سليمٍ ومتوازنٍ إلا في ظلال المنهج الإسلامي الكريم، ولهذا كان من واجب الدعاة الذين انتدبهم الله لهداية الناس وإخراج البشرية من الظلمات إلى النور؛ أن يستمروا في تقديم هذا الخير للبشرية، وإن غلبها الطيش وانحرف بها الغيُّ عن سلوك سبيل الرشاد.
وقد أكد القرآن الكريم هذا الواجب الثقيل الذي كرَّم الله به الأمة الإسلامية ورفع قدرها، فقال تعالى ﴿كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ المُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ﴾ (آل عمران: من الآية 110)...

يقول الإمام المجدد حسن البنا رضي الله عنه تحت عنوان (عوامل النجاح):

"ومن الحق - أيها الإخوان – أن نذكر أمام هذه العقبات جميعًا ؛ أننا ندعو بدعوة الله وهي أسمى الدعوات، وننادي بفكرة الإسلام وهي أقوي الفِكَر، ونقدم للناس شريعة القرآن وهي أعدل الشرائع ﴿صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً﴾ (البقرة: من الآية 138)

وأن العالم كله في حاجة إلى هذه الدعوة، وكل ما فيه يمهِّد لها ويهيِّئ سبيلها، وأننا بحمد الله براءٌ من المطامع الشخصية، بعيدون عن المنافع الذاتية، ولا نقصد إلا وجه الله وخير الناس، ولا نعمل إلا ابتغاء مرضاته، وإننا نترقَّب تأييد الله ونصره؛ فلا غالب له ﴿ذَلِكَ بِأَنَّ اللهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ﴾ (محمد: 11).
فقوة دعوتنا، وحاجة الناس إليها، ونبالة مقصدنا، وتأييد الله إيانا؛ هي عوامل النجاح التي لا تثبت أمامها عقبة، ولا يقف في طريقها عائق ﴿وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ﴾" (يوسف: من الآية 21).

أثر المحن والابتلاءات على الصف الإسلامي

يُخيَّل إلى كثيرٍ من خصوم الدعوة أن الضغط والقهر ومصادرة حريات الدعاة وأرزاقهم؛ ستصرفهم عن دعوتهم، وستصرف الناس عنهم، وهذا وهمٌ فاسدٌ، فإن الدعاة يقابلون هذه المحن باستعلاء إيماني عظيم، لا يبالون بغير نصرة دينهم، ورفع كلمة الله في الأرض، وينشد شاديهم في داخل السجون ومن وراء القضبان " أخي أنت حر وراء السدود، أخي أنت حر بتلك القيود، إذا كنت بالله مستعصمًا، فماذا يضيرك كيد العبيد؟!"

كلمة إلى الإخوان المسلمين

إن دعوتنا ماضية في طريقها المرسومة، وخطتها الموفقة، غير عابئة بالتحديات والعقبات، ولا متراجعة أمام العوائق والمثبطات، ولعل من المناسب أن أذكِّركم بكلام إمامنا الشهيد حسن البنا رحمه الله:

"… وسيحقد عليكم الرؤساء والزعماء وذوو الجاه والسلطان، وستقف في وجهكم كل الحكومات على السواء، وستحاول كل حكومة أن تحدَّ من نشاطكم، وأن تضع العراقيل في طريقكم، وسيتذرَّع الغاصبون بكل طريق لمناهضتكم وإطفاء نور دعوتكم
وسيستعينون في ذلك بالحكومات الضعيفة والأيدي الممتدة إليهم بالسؤال وإليكم بالإساءة والعدوان، وسيثير الجميع حول دعوتكم غبار الشبهات وظلم الاتهامات، وسيحاولون أن يُلصقوا بها كل نقيصة، وأن يُظهروها للناس في أبشع صورة، معتمدين على قوتهم وسلطانهم، ومعتدِين بأموالهم ونفوذهم: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ (التوبة: 32)، وستدخلون بذلك ولا شك في دور التجربة والامتحان، فتُسجنون وتُعتقلون، وتُنقلون وتشرَّدون، وتُصادَر مصالحُكم، وتُعطَّل أعمالُكم وتُفتَّش بيوتكم
وقد يطول بكم مدى هذا الامتحان.. ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ﴾ (العنكبوت: 2)، ولكن الله وعدكم من بعد ذلك كله نصرة المجاهدين ومثوبة العاملين المحسنين ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ……. فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ﴾ (الصف:10- 14)، فهل أنتم مصرون على أن تكونوا أنصار الله؟!".

فلا تهنوا أيها الإخوان، ولا تتراجعوا، واصبروا على الحق الذي أنتم به مؤمنون، وثقوا بالنصر القريب، واسألوا الله تعالى أن يفتح بيننا وبين قومنا بالحق وهو خير الفاتحين، وثقوا بأن الدعوة بالغة غاياتها ومراميها ما دام الله معنا، فهو هادينا وناصرنا ﴿وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا﴾ (الفرقان: من الآية 31).

ويقولون متى هو؟! قل عسى أن يكون قريبًا، والله أكبر ولله الحمد..
وصلى الله على سيدنا محمد النبي الأمي وعلى آله وصحبه وسلم،
والحمد لله رب العالمين.
الاستاذ المرشد مهدي عاكف يخاطب الأمة

راية الحق مسئولية كل الأمة

بقلم محمد مهدي عاكف

المرشد العام للإخوان المسلمين

الحمد لله رب العالمين، والصَّلاةُ والسَّلامُ على أشرفِ المرسلين، سيدنا محمدٍ النَّبيِّ الهادي الأمين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد ... في وقت تعالت فيه صيحات الانهزام، وتتابعت دعوات التفريط، وتسارعت فيه مواكب التبعية تقدم فروض الولاء والطاعة للاستبداد الأمريكي والطغيان الصهيوني، واستحالت كل دعوة للحق ردة، وكل تمسك بهوية الإسلام رجعية، وكل دعم لمقاومة المحتل تخريب وإرهاب.

يعود الإخوان المسلمون بالقضية إلى أصولها ليضعوا الجميع أمام مسئوليتهم من الأمانة التي سيسألون عنها بين يدي ربهم (إِنَّا عَرَضْنَا الأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً) (72 الأحزاب)، وهذه المسئولية تقع على الجميع بغير استثناء .. حكاماً ومحكومين .. شيوخاً وشبابًا .. علماء وأميين .. رجالاً ونساءً . فالكل – حسب موقعه وتبعًا لقدراته وإمكاناته - أمام التبعة سواء وفي ساحة الأمانة مُطالب .

وقد يتوهم البعض أمام ثقافة الوهن التي يبثها إعلام الغرب في عقول أبناء الأمة الإسلامية أن قدرة أمتنا على المواجهة والبقاء وامتلاك أسباب الممانعة في مواجهة الاستكبار والبغي والغي قد انعدمت أو أن شوكة المسلمين قد انكسرت، وذاك هو غاية ما يسعى المتربصون بأمتنا إليه وساعتها يستتب لهم الأمر وتنقاد لهم أمتنا ذليلة خانعة خاضعة يفعلون بها ما يشاءون .

غير أن الإخوان المسلمون يدعون كل الأمة وعلى رأسها ولاة أمرها إلى الإصغاء لصوت العزة الإلهية يدوي في أجواء الآفاق، ويملأ الأرض والسبع الطباق، ويوحى في نفس كل مؤمن أسمى معاني العزة والفخار (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ) (المنافقون: من الآية8)

إنه النداء الذي إذا استجابت له قلوب القادة والشعوب لأفاقت أمتنا من تأثير المخدر الغربي على حقيقة ولاية الله لها لينصر من عَمِل ويُدافع عمن ظُلم ويُحرر من أُسر ويُقوي من حُورب واُخرج من داره وأرضه ويُعز من إليه لجأ وبه احتمى (... وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (الحج: من الآية40)

فيا قومنا:

لقد جربتم عبر عقود عديدة مناهج وسياسات و قوانين وضعية، وأنتم اليوم مطالبون بوقفة جادة مع أنفسكم لإعادة الحسابات وتحديد المواقف في ضوء منهج الله الذي سعى المستعمر بشتى الطرق لاقصائكم عنه حتى يتسرب الوهن إلى النفوس وتصير روح الانهزام مسيطرة على القلوب، وشبح الفرقة يطارد كل أمل في الوحدة، وتمتد يد الفرقة تأكل الأقطار ثم الأفراد

فعود على معين الله لاستلهام القوة و اكتشاف سر العزة الكامن في أمة الإسلام باتباع منهج الله وموالاة أهل الإيمان (اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ) (البقرة: من الآية257) (بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَهُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ) (آل عمران:150) (إِنَّمَا وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ) (المائدة:55)

(إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ) (لأعراف:196) (قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ) (التوبة:51) (أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ، الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ) (يونس:62-63)، (ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ) (محمد:11)

فأي قوة تلك التي تستعبد قوماً نسبهم الله إلى نفسه ؟ وأي فضل لجماعة يعلو على فضلِ من مَنَحَهُ اللهُ فضلَ ولايته واتباع منهجه ؟ وأي عز لإمبراطورية مهما بلغ يضاهي عز أمة أفاض الله عليها من فيض عزته ؟ (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلَكِنَّ الْمُنَافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ) (المنافقون: من الآية8)

فجددوا يا شعوب العالم الإسلامي استشعار الولاء لله، وارفعوا راية الإسلام، وأقيموا دولة الإسلام فى نفوسكم تقم على أرضكم، واعلموا أن الإسلام إن لم يكن بكم فسيكون بغيركم ولكنكم لولم تكونوا به لن تكونوا بغيره (وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ) (محمد 38) .

ولا يغرنكم هذا التقدم العلمى والتقنى وتلك المدنية التى شيدتها أياد الظلم والجور، ولا يستخف بكم أو يخدعنكم هذا الإعلام المزيف ولا تشغلنكم أو تلهكم الألفاظ البراقة عن إدراك الحقائق، ولا المظاهر عن الجواهر، فإن لإسلامكم منهجاً فيه سعادة الدنيا وفلاح الآخرة .. وتلك هي سياستنا لا نبغي بها بديلا فسوسوا بها أنفسكم، وادعو إليها غيركم تظفروا بالعزة في الدنيا والآخرة . وقد يقول القائل (وما يفعل فرد واحد في أمة مستضعفة ؟)

ولكن الإجابة في قول المصطفى صلوات الله عليه وسلم "لا تحقرن من المعروف شيئاً" ولنا فيمن سبق الأسوة الحسنة فقد رفعوا جميعا شعار الفعل لا القول مؤكدين أن فعل رجل في ألف رجل خير من قول الف رجل في رجل، فليكن المسلم سباقاً للخير مغلاقاً للشر، رافضاً للظلم مهما بلغ حجمه، مؤيداً للحق مهما ضاقت دائرته، متمسكاً بالحق غير مفرط، ناصراً للمظلوم ولو بكلمة مواساة، وداعماً للمجاهد المقاوم ضد الاحتلال، المدافع عن الحرمات والمقدسات ولو بدعوات السجود فى ساعات السحر، وليعمل المسلم على تلقين الحقائق لمن حوله وبث الأمل في النفوس وتربية النشأ على حقوق الأمة .

أما ولاة الأمر

فإنا نذكرهم بأن كتب التاريخ حفلت بصفحات من الاستبداد استجلبت سخط الناس وغضب الله، لكنها فى الوقت ذاته خلدت قادة وزعماء صدعوا بالحق وارتضوا أن تكون شهادتهم لله خالصة ولوجه الحقيقة مبيضة وللأوطان حافظة وصائنة، واليوم لا تنتظر منكم شعوبكم إلا وقفة الحق، فلا تنساقوا وراء دعوات التفريط ولا أوهام السلام ولا دعوات التركيع

إن مؤتمر أنابوليس الذى هرول إليه العرب وغيرهم بلا رؤية ولا منهج ويريدون أن يقفزوا على الواقع الذى يعرفه القاصى والدانى وهو أن الصهاينة احتلوا أرض فلسطين، وطردوا أهلها وهدموا بيوتهم وحرقوا أرضهم وقتلوا رجالهم ونساءهم وأطفالهم، هذه الحقيقة يجب ألا تغيب عن أذهاننا لحظة، وما يتطلبه ذلك من تحرك جاد وفعال لتحرير الأرض واستنقاذ المقدسات، وإن كان حكام الأمة العربية والإسلامية اغفلوا هذه الحقيقة وسعوا لاسترضاء الإدارة الأمريكية

فأملنا كبير فى شعوب الأمة أن تكون دائما على مستوى رفيع فى فهم الواقع والتمسك بالحق والدفاع عنه بكل الوسائل المتاحة .. إن المتربصين بالأمة الإسلامية لن يقنعوا إلا بالسيطرة على الأوطان ومحاولة إخضاع أهلها ونهب ثرواتها وسلب خيراتها، وانظروا ماذا يفعلون بالعراق وأفغانستان والصومال، وها هو خنجر التقسيم يحاول تمزيق السودان وأصابع المؤامرة تعبث بأمن واستقرار لبنان وهكذا يستمر المسلسل الاستعماري رافعاً شعار فرق تسد .

ويا شباب الأمة

الآمال معقودة عليكم، وفي الوقت ذاته تستهدفكم كل أسلحة المتربصين بأمة الإسلام ، بالجهل تحاصركم وبالغواية تصرفكم عن طريق الهداية، وبالتيئيس والإحباط تسعى لتطوقكم، وكل يوم تستحدث أسلحة فاجعلوا المعرفة في شتى المجالات النور الذي به تسيرون وبهديه تُبْدعون وفي ضوئه تتقدمون حتى لا تحرثوا البحر أو تقوضوا ما شيدته أيادي غيركم بغير قصد .

واسعوا لبعث الأمل في نفوس من وراءكم ومن يأتي بعدكم لأن التبعة عليكم ثقيلة والأحداث والخطوب متلاحقة وتحتاج إلى همة الشباب لمواجهتها فجددوا إيمانكم، وحددوا غاياتكم وأهدافكم، وأول القوة قوة العقيدة والإيمان، وثانيها قوة الوحدة والارتباط، فآمنوا وتآخوا واعملوا بجد وترقبوا بعد ذلك ساعة النصر، وإنه لقريب بإذن الله .. وبشر المؤمنين .

إن الإخوان المسلمون يوقنون أن سنن الله غلابة ونواميسه ثابتة فلا يقعدنكم عن السير طول الطريق فأول الغيث قطرة ورحلة الألف ميل تبدأ بخطوة، فتحركوا حركة الواثق العارف المتحصن بالعلم والمعرفة والمستقوى بإيمانه والمستعلى بانتمائه والمتجرد بيقينه في النصر، والله معكم ولن يتركم أعمالكم، و(لِلَّهِ الأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ يَنصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ) (الروم) .

وصلَّى اللهُ وسلِّم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين، والحمد لله رب العالمين.

كلمة حق جماعة يسبقُ قادتـُها أعضاءَها في التضحية

لم يكن ليغيب عن الإمام حسن البنا حين وضع لجماعة الإخوان المسلمين هدفَيْ تحرير الوطن الإسلامي من كل سلطان أجنبي، وتحكيم شريعة الله عزَّ وجلَّ في هذا الوطن الحر، أن هذين الهدفين سيستفزَّان على الصعيد الخارجي أعداء الإسلام من كل صوب وحدب، وفي مقدمتهم اليهود وحلفاؤهم من الغربيين

فالهدف الأول (تحرير المحتل من بلاد العرب والمسلمين) يتهدَّد مصالحهم ومخططاتهم، والهدف الثاني (إقامة حكم إسلامي في الوطن الإسلامي بعد تحرير بلدانه من المُحتل) يُشكـِّـل كابوسًا يقضُّ مضاجعهم ويُطير النوم من عيونهم، ويُفسد عليهم فرحتهم وسعادتهم بنجاح مُخطـَّـطهم في هدم دولة الخلافة الإسلامية العُثمانية التي أقضـَّـت مضاجعهم ستة قرون (1301 ـ 1923م) .

كان الإمام البنا يُدرك أنه باختيار هذين الهدفين يُحمِّـل إخوانه في الجماعة حملًا ثقيلًا سيُكلـِّـفهم الكثير من مالهم ووقتهم وأرواحهم، ولأن الرائد لا يكذب أهله، كما تقول العربوجد الإمام البنا أن من واجبه مصارحة إخوانه وأخواته بتبعات ارتضائهم الانتماء للجماعة حتى يعرفوا أن الطريق الذي اختاروه ليس مفروشًا بالورود وإنما بالأشواك والصخور

فخاطبهم قائلًا :

  • أحب أن أصارحكم أن دعوتكم لا زالت مجهولة عند كثير من الناس، ويوم يعرفونها ويدركون مراميها وأهدافها ستلقى منهم خصومة شديدة وعداوة قاسية، وستجدون أمامكم الكثير من المشقــَّـات وسيعترضكم كثير من العقبات.
  • وستجدون من بعض أهل التديُّن ومن العلماء الرسميين مَن يستغرب فهمكم للإسلام ويُنكر عليكم جهادكم في سبيله .
  • وسيحقد عليكم الرؤساء والزعماء وذوو الجاه والسلطان .
  • وستقف في وجهكم كل الحكومات على السواء، وستحاول كل حكومة أن تحدَّ من نشاطكم وأن تضع العراقيل في طريقكم .
  • وسيتذرَّع الغاصبون بكل طريق لمناهضتكم وإطفاء نور دعوتكم، وسيستعينون من أجل ذلك بالحكومات الضعيفة، والأخلاق الضعيفة، والأيدي الممتدة إليهم بالسؤال، وإليكم بالإساءة والعدوان .
  • وسيثير الجميع حول دعوتكم غبار الشبهات وظلم الاتهامات، وسيحاولون أن يلصقوا بها كل نقيصة وأن يظهروها للناس في أبشع صورة معتمدين على قوتهم وسلطانهم، ومعتدين بأموالهم ونفوذهم .
  • وستدخلون بذلك ولا شك في دور التجربة والامتحان فتـُسجنون، وتـُعتقلون، وتـُقتلون، وتـُشرَّدون، وتـُصادر مصالحكم وتـُعطــَّـل أعمالكم وتـُفتش بيوتكم، وقد يطول بكم مدى هذا الامتحان : (أحسِـبَ الناس أن يُتركوا أن يقولوا آمنا وهم لا يُفتنون) (العنكبوت:20).
  • ولكن الله وعدكم من بعد ذلك كله نصرة المجاهدين ومثوبة العاملين المحسنين (فأيَّدنا الذين آمنوا على عدوهم فأصبحوا ظاهرين) (الصف:14)، فهل أنتم مصرون على أن تكونوا أنصار الله ؟ (انتهى كلام البنا) .

وحين نستعرض مسيرة جماعة الإخوان المسلمين على مدار الثمانين عامًا ونيفًا من تاريخ تأسيسها في عام 1928 م وحتى الآن (2014 م) نكتشف أن تلاميذ الإمام حسن البنا سواء الذين عاصروه أو الذين التحقوا بالجماعة وما فتئوا يلتحقون بها بعد موته قد استوعبوا جيدًا ما شدَّ انتباههم إليه إمامهم، وكان من حسن طالع الجماعة أن يكون إمامها المؤسِّـس أول من قدَّم روحه على طريق الدعوة حين ارتقى بإذن الله ومشيئته شهيدًا برصاص نظام الملك المخلوع فاروق وحكومته بتواطؤ من السفارة البريطانية في القاهرة

وعلى خطى الإمام المؤسِّـس توالت مسيرة الصبر والتضحية والبذل من آلاف الإخوان والأخوات يتقدَّمهم مرشدو الجماعة وقادتها جيلًا بعد جيل :

  • المرشد الثاني المستشار (القاضي) الأستاذ حسن إسماعيل الهضيبي سجنه البكباشي جمال عبد الناصر لمدة ثلاثة أشهر في بداية عام 1953 م، ثمَّ عاد فسجنه في سياق حملته الشرسة ضدَّ الجماعة بعد غدره بالإخوان وحُكم عليه بالإعدام مع عدد من قادة الإخوان وخـُفف الحكم عليه إلى المؤبد وتمَّ إعدام إخوانه، ووضع الأستاذ الهضيبي تحت الإقامة الجبرية في بيته حتى عام 1961 م، وفي عام 1965 م أعاد عبد الناصر سجنه وحوكم بتهمة إعادة إحياء تنظيم الجماعة، وحُكم عليه بثلاث سنوات، ولكن عبد الناصر أبقاه في السجن بعد انقضاء الثلاث سنوات، وتمَّ الإفراج عنه في عام 1971 م .

.

  • المرشد السابع الأستاذ محمد مهدي عاكف سجنه عبد الناصر في عام 1954 م وبقي في السجن حتى عام 1974 م، ثمَّ أمضى ثلاث سنوات في سجون المخلوع حسني مبارك (1996 ـ 1999م)، ثمَّ أُعيد سجنه في أعقاب الانقلاب العسكري (3 / تموز / 2013 م) الذي قاده عبد الفتاح السيسي ضدَّ الرئيس المُنتخب الأستاذ الدكتور محمد مرسي العيَّـاط .
  • المرشد الثامن الأستاذ الدكتور محمد بديع عبد المجيد سامي عرف طريقه إلى السجن في حقبة البكباشي جمال عبد الناصر وحُكم عليه خمسة عشر عامًا أمضى منها تسع سنوات، ثمَّ أعيد إلى السجن في عام 1998 لشهرين ونصف في حقبة المخلوع حسني مبارك، ثمَّ أُعيد إلى السجن في أعقاب الانقلاب العسكري (3 / تموز / 2013 م) الذي قاده عبد الفتاح السيسي ضدَّ الرئيس المنتخب الأستاذ الدكتور محمد مرسي العيَّـاط، وحُكم عليه بثلاثة أحكام بالإعدام وقد تزيد، وإلى جانب كل هذا الابتلاء قدَّم فلذة كبده المهندس عمَّـار شهيدًا بإذن الله برصاص الانقلابيين في17 / آب / 2013 م .

وعلى هذا الطريق، طريق الصبر والتضحية وبذل الأرواح والأموال والأوقات، سارت، وما تزال تسير برعاية الله عزَّ وجلَّ، قوافل إثر قوافل من آلاف الإخوان والأخوات، لتنصهر في بوتقة الصبر والابتلاء والتمحيص على طريق النصر والتمكين بإذن الله. (أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ) (البقرة: 214) .

رزقنا الله الصبر والثبات على طريق دعوة الحق والقوة والحرية
غير مضيعين ولا مبدلين وغير متكلين على أنفسنا طرفة عين ولا أقل من ذلك ولا أكبر
بل متوكلين على الكبير المتعال سبحانه وتعالى والله أكبر ولله الحمد

وفاته

انتهت فترة أ. عاكف بمكتب الإرشاد، وانطلق رغم كبر سنه يعمل من أجل دينه الذي ضحى من أجله طيلة حياته، وقدم روحه فداء له، وكادت تزهق على أعواد المشانق، ومع ذلك لم يتردد أو يهرب من السعي بقية حياته عاملاً مجاهدًا من أجل هذا الدين، ولم ينتظر لحظة جزاء ولا شكر من أحد.

كان عاكف رغم تقدمه في السن يملك عقل الشباب الذي يجاري مقتضيات العصر، والتحولات على الساحة، والرؤية الثاقبة للأمور، والتلطف في القرار بما يتوافق عليه الجميع، وجنديته في تنفيذ القرار حتى لو كان ضد رأيه طالما توافق عليه الجميع.

ومع ذلك ظل البعض يتربصون به وبشيخوخته حتى انقضوا عليه، وزجوا به في السجون رغم اقترابه من التسعين في محاولة لهز عقيدته أو لاستخدام ورقة منه يقر بها واقعهم الباطل لكن مع ذلك أبى أن ينحني إلا لله.

كنت أراه في السجن يخرج للتريض الساعة التي يمنحونها له أمام غرفته الملحقة بغرفة العمليات الخارجية بسجن الليمان، وقد بدل بدلته البيضاء ببدلته الزرقاء التي يرتديها بعد مرور ما يزيد عن الستين عامًا من ارتداء البدلة الحمراء أول مرة والتي دفعت الملوك والرؤساء للتدخل لوقف تنفيذ أحكام الإعدام فبدل الحكم لمؤبد غير أنه في هذه المرة التي قبض فيها نقض الحكم، ورفض القاضي العفو عنه، فجاء حكم الله بصعود روحه إلى بارئها تشكو هذا الظلم.

كان الجميع يلمسون فيه الثبات والعزة حتى أجبر من في السجن أن يحترمه ويقدره سواء المساجين الجنائيين أو العساكر والمخبرين والضباط. لم تتحمله مستشفى السجن فأودعوه مستشفى القصر العيني بعد تدهور حالته الصحية، ومع ذلك ظل قيد الاعتقال، وكأن الله أراد أن يقبضه وهو مرابط على المنهج الذي بايع وجاهد من أجله، وظل أسير المرض حتى فاضت روحه لله بعد الظهر يوم الجمعة ٢محرم ١٤٣٩ هـ الموافق 22/9/2017م، وقد أعلنت ابنته علياء عاكف خبر الوفاة.

ويصف الأستاذ: فيصل السيد محمد - المحامى مشهد وفاة الأستاذ عاكف بقوله عبر ما كتبه على صفحته وما تناقلها المواقع والصحف:

تحول العنبر الموجود فيه الجثمان الطاهر إلى ثكنة عسكرية لا يتم التحرك فيه أو في المستشفى (القصر العيني الفرنساوى) إلا بأمر الأمن حتى إن زميلنا المحامي محمد سالم كان مقيد الحركة إلا بإذن الأمن، وكان يقوم بإنهاء تصاريح الدفن.
ذهبت لفتح المقبرة بالتنسيق مع ابنة الأستاذ عاكف (كان قد أوصى أن يدفن بجوار الأستاذ المرشد التلمساني وأ/مصطفى مشهور) والحمد لله نفذت وصيته، لكنى فوجئت بأن المقبرة والمقابر كلها محاصرة، وعبارة عن ثكنة أمنية حتى إن قيادات الأمن الموجودة اصطحبتني حتى داخل المقبرة مع التنبيه عليّ بعدم التصوير حتى عندما أعطيت التليفون للتربي لتشغيل الإضاءة، ورغم أنني بمفردي، ولا يوجد أي شيء للتصوير لكنى فوجئت بقوات الأمن تريد أن تتأكد من أنني لا أصور، فقلت لهم خذو التليفون لتتأكدوا.
ورغم أنني في الثاني من محرم إلا أنني أشهد الله أن المقبرة كانت مضاءة، وكأن مصدر النور من السماء، وأحسست أن هناك احتفال في السماء (هذه رؤيتي ومشاهدتي)، وقلت لرجال الأمن ذلك، فسكتوا.
قام بتغسيل الجثمان الطاهر زوج ابنة أخت فقيدنا الغالي ولم يسمح الأمن إلا له بحضور الغسل. وقام بالصلاة (داخل مصلى المستشفى) على فقيدنا خمسة رجال (زوج بنت أخته، والمحامي وثلاث رجال من الداخلية)، وأربع سيدات هن (زوجته وابنته وأخرتان).
تقدمت زوجته الأستاذة وفاء عزت (شقيقة الدكتور محمود عزت) إلى الأستاذ عاكف، وخاطبته بعد الصلاة قائلة له: مت يا حبيبي كما كانت وفاة أستاذك البنا، وتشيع كما شيع معلمك البنا - رحمة الله عليك - كانت قوات الأمن تسيطر على الجثمان الطاهر، وتحتجزه ولا تسمح لأحد بالاقتراب منه ولا حتى حمله ولا مصاحبته للمقابر، وهم من قاموا بذلك، ولم يسمحوا لأحد بمصاحبته من المستشفى حتى زوجته وابنته.
وأثناء انتظارنا وصول الجثمان للمقابر فوجئنا بها وقد تحولت إلى منطقة محاصرة بقوات الأمن المركزي والمدرعات فضلاً عن وجود كافة رجال الأمن (قوات خاصة، وأمن وطني، والمباحث العامة لشرق القاهرة كلها) وعند اقتراب وصول الجثمان الطاهر قامت قوات الأمن بإخراجي من المقابر، وعدم السماح بالاقتراب من المقبرة، وتم فرض كردون أمن مركزي على مدخل المقبرة، وأدخلوا السيارة التي تحمل الجثمان من مكان آخر حتى لا نحضر الدفن ولا نراه.
وتنبهنا لذلك فقمنا بمحادثة القيادات الأمنية الموجودة فلم تسمح إلا لزوجته وابنته، والأستاذ عبد المنعم عبد المقصود المحامي. كنا حوالي عشرون رجلاً ومثل عددهم نساء، وكان من بين الحضور الرجال الأستاذ خالد بدوي المحامي، والأستاذ عبد المنعم عبد المقصود، والوزير خالد الأزهري، وأبناء وزوجة الرئيس محمد مرسي، ولم يحضر أى شخصية عامة الدفن أو الحضور للمقابر.
تم الانتهاء من الدفن الساعة الثانية عشر مساء اليوم الجمعة، وتركنا قوات الأمن تحاصر المكان على حالها. أثناء الدفن ومواراة الجثمان الطاهر قام الأستاذ خالد بدوى بالدعاء ونحن نؤمن خلفه ففوجئت بعسكري أمن مركزي يسقط بجواري مغشيًا علية فقامت إحدى النساء بإعطائي زجاجة مياه لإفاقته إلا أنهم تركوه (قيادات الأمن) حتى جاء زملاؤه وحملوه.
عدنا وتركنا الفقيد يزف إلي السماء بعدما ضاق به أهل الأرض من الظالمين .. تركنا لأنفسنا وضمائرنا ولسان حاله يقول: تركتكم وما نال منى الظالمين كلمة أو موقف يدلسون به التاريخ.. تركتكم وما بدلت، وما حدت عن الطريق.
فأما حياة تسر الصديق
وإما ممات يغيظ العدا

وعلى الجانب الآخر حينما توفي عاكف أخطرت إدارة المستشفى القصر العيني الفرنساوي مصلحة السجون بوفاة المرشد السابق للجماعة الإخوان الإرهابية المودع لديها بعد صراع طويل مع المرض، والتي بدورها أكدت خبر وفاة "عاكف".

بعدها أمر النائب العام المستشار نبيل أحمد صادق، باستخراج تصريح دفن "محمد مهدي عاكف" المرشد العام لجماعة الإخوان السابق بعد أن توفي داخل مستشفي قصر العيني الفرنساوي، بعد صراع مع المرض.

كما كلف النائب العام المسئولين بمستشفى قصر العيني بسرعة إرسال التقارير الخاصة بالحالة الصحية لعاكف، والأسباب التي أدت للوفاة. ومن المقرر أن تدرس الأجهزة الأمنية تدابير إقامة جنازة "عاكف"، مع الأخذ في الاعتبار احتمالية تحرك الجماعة، أو ربما تلجأ الأجهزة المعنية لمنع الجنازة لأي حالة طارئة من قبل الجماعة.

رحل عاكف فلم تشهد جنازته ما شهده المرشدون السابقون غير أنها تشابهت مع وفاة وجنازة مربيه الأول الإمام حسن البنا، وقد أقيمت في كل مكان، وفي كل بيت صلاة غائب على روحه الطاهرة التي صعدت وهي صابرة محتسبه.

تعرف على المزيد

تم تجميع روابط داخلية وخارجية لمزيد التعرف على الشخصية وهي 31 رابط داخلي , و694 رابط خارجي.

روابط داخلية

::كتب متعلقة::

::أبحاث ومقالات متعلقة::

::متعلقات::

روابط خارجية

::أبحاث ومقالات متعلقة::

::فلسطين::

::مواساة::

::أخبار عربية وعالمية::

::تابع أخبار عربية وعالمية::

::مقالات متعلقة::

::تابع مقالات متعلقة::

::تصريحات وحوارات صحفية::

::روابط فيديو::

→ سبقه
محمد المأمون الهضيبي
مرشدو جماعة الإخوان المسلمين
خلفه ←
محمد بديع