العقد الفريد

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
العقد الفريد (1942- 1952 )
عشر سنوات مع الإمام حسن البنا


كتاب للدكتور / حسان حتحوت

مفتاح

الدكتور حسان حتحوت

هذه الصفحات ليست تاريخا للإخوان المسلمين ، ولا هي تؤرخ لمصر ، لكنها أقرب لأن تكون سيرة ذاتية.... ذكرياتي الشخصية خلال رحلتي مع الإخوان طوال هذا العَقد.

عبأتنا أمنا رحمها الله (أخي الصغير ماهر وأنا) تعبئة وطنية بالغة المدى، وتزامن أفول نجم الأحزاب وشرخ الثقة فيها مع ظهور الإخوان دعوة إسلامية تدين بالإسلام في شموله، ومن بين ذلك أن تتخلص مصر من مستعمرها البريطاني الذي كان يحتلها عسكريا، وتتطهر من أدرانها الداخلية والأيديولوجيات التي غزتها تهدف إلى الإلحاد والتخلي عن القيم الإسلامية، وتنفي عنها مفاسد الحكم التي انغمس فيه ملك كان أحب الناس إلى شعبه فأمسى بأبغضهم إليه، وأحزاب لا غاية لها إلا الحكم والاستفادة منه, بينما هم تجاه المستعمر كالخدم المطيعين.

لم يعد من مجال أمام المؤمنين المخلصين الوطنيين إذًا إلا في صفوف الإخوان ، في محبة أر مثلها لمرشدهم الأستاذ حسن البنا رحمة الله عليه.

وأختار هذا العقْدَ الفريد (1942- 1952 ) للرحلة في ذكرياته، وهو بالتأكيد أهم عقود حياتي، واقفًا عند 1952 والثورة التي وافت في أثناء عملي خارج البلاد والصفحة الجديدة التي فتحتها في تاريخ مصر .

وقد أغضبت عن أسماء كثير حسبما توسمت من رغبة أصحابها.

أبنائي القراء وبناتي القارئات:

إن الإنسان إذا جاوز السبعين انكمشت الدنيا في عينيه وأصبح فكره في محطة الوصول لا في معالم الرحلة, ولم يعد يهتم بمجاملة أحد ولا بخشية من أحد إلا الله، فكيف وأنا على هذه الخصال طوال العمر موقنا بأن المستقبل بيد الله، وأنه لا يصيب الإنسان إلا ما كتب الله له.

وإنما هي آثار وذكريات أشفقت أن تموت بموتي. وتركة –وإن تكن قليلة- أحببت أن يرثها أحد قبل أن تختفي معي. وصور من الأمس رأيت كثيرًا من شباب اليوم ينتسبون لها، وليس بينهم وبينها في واقع الأمر نسب، ومنهم من يكادون يقدسون الإمام الشهيد، وأقوالهم وأفعالهم وأخلاقهم ونفسياتهم ومنهج تفكيرهم على النقيض مما كان عليه الرجل.

وبالمقابل فإن قوي إعلامية ضخمة بذلت كل طاقتها وما تزال، وفي شتى الأقطار، وبشتى اللغات، وفي تشويه صورة الرجل على مدى عقود متعاقبة، واستعملت وسائل الإيحاء وغسل المخ والافتئات على أجيال لم تدرك الحقيقة ولا تجد من مصدر لها إلا ما يقدم إليها ويعرض عليها.

ولقد رأيت في حياتي ما جعلني أتشكك في علم «التاريخ» كله، فما قرأت شيئا من التاريخ قديمه ووسيطه وحديثه إلا وسمعت صوتا في ضميري يهمس: «والله سبحانه وتعالى أعلم» إن أمانة التاريخ بمقدار أمانة من يكتبه.... وعادة يكتبه الأقوياء وعادة يكذبون.

وأود أؤكد لقرائي أنني لا أكتب هذا وبي أية شائبة من مرارة أو ضغينة... فليس التقدم في السن هو كل التقدم الذي أحرزته في حياتي... ولكن من نعمة الله على أن تقدمت في مجالات أخرى, من بينها الصفاء بالمحبة للذين لقوني في حياتي ظالمين أو منصفين....

ولعلي أرجو أن يدرجني الله في الآية الكريمة: «ونزعنا ما في صدروهم من غل» لقد سمعت أخي مرة ونحن نذكر أحد الطغاة الراحلين يقول: «اللهم عامله بعدلك»؛ فسألته من أين لك هذه القسوة؟ ولقد أصبح من عادتي طوال السنوات العشر الأخيرة بعد أن أقرأ سورة يس كل صباح أن أضمن دعائي طلب الرحمة من الله للأموات من أهي وأحبابي وإخواني، وأضم إليهم الدعاء بالرحمة لمن آذونا أو كنا وكان غيرنا من ضحاياهم، سواء قبل عام 52 أو بعد عام 52 (خاصة بعد عام 52)، فأقول «وارحم فلانا وجماعته واجعل رحمتك بهم زيادة أجر لضحاياهم يا رب» ولا يضير المظلوم أن يغفر الله لظالمه إن كان في ذلك مزيد من إكرام الله وحسن جزائه شخص واحد لم أجرؤ على النطق باسمه في هذا المقام، هو الذي قال يومًا للمعتقلين «لو جاء هذا «الله» بتاعكم فسأسجنه في هذه الزنزانة»! ولقد شاء الله أن يكون باقي حياته وأسلوب مماته عبرة لمن يعتبر.

أما آخرته فنكلها إلى الله سبحانه وتعالى، وفي القرآن قال عيسى عليه السلام لربه: «إن تعذبهم فإنهم عبادك، وإن تغفر لهم فإنك أنت العزيز الحكيم».

إنني من المؤمنين إيمانًا راسخا بأن للمغفرة دورًا حاسمًا ورئيسيًا سواء أكانت في العلاقة بين الأفراد أم بين الجماعات أو الشعوب وحكامها، أم بين الدول بعضها وبعض.... بطبيعة الحال بشرط أن ينزل كل الأطراف على حكم العدل ويفئ إلى أمر الله، وإلا فمن حق المظلوم وواجبه أن يدافع عن حقه, وكما يقول النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا جاء على أمتي يوم لا تقول فيه للظالم يا ظالم، فقد تُوُدَّع منهم، وبطن الأرض خير لهم من ظهرها».

نسأل الله موجبات رحمته، وعزائم مغفرته، ومقصد قوله «وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم». وبهذه المقدمة أمسك بيد قارئي وأصحبه معي في رحلتي.... وعلى الله قصد السبيل.

ذاكرة نحيلة

ذاكرة نحيلة تحاول أن تصل إلى عام 1942 وما تلاه. في رحلة شخصية تحاول أن تستعيد مناظر مرت أمام عيني وتجارب كنت فيها، فهي صور وليست تاريخًا.. ولم أحاول تنشيط هذه الذاكرة بالاطلاع على الكتب والمراجع التي وصفتها وحللتها... وأكتب هذه الذكريات ولا أدري ماذا سأفعل بها، ولكنها كأنها قصة عني أوريها لأبنائي وأحفادي أعلم أنها تحمل أكثر من التسلية ... طوال عَقد من الزمان كان بالغ الأهمية في حياتي وحياة الإخوان وحياة مصر . ينتهي عند مطالع الثور فلا يتعرض لمجريات الأمور في العهد الجديد بعد زوال حكم أسرة محمد علي (1805- 1952 ).

وتخلو المذكرات من التعرض للجهاز السري... الذي كان جناحا عسكريًا... فلم أكن عضوًا به. ولعل أكبر نشاطين عسكريين للإخوان، وهما فلسطين والقاعدة البريطانية بقناة السويس ، كانا نشاطًا علنيًا بالرحمة شخصية فريدة كان لها إسهام بالغ في كليهما هو المرحوم الشيخ محمد فرغلي، مزعج اليهود في فلسطين ، الذي وضعت الحكومة البريطانية جائزة عشرة آلاف جنيه على رأسه (مبلغ ضخم آنذاك)، والذي أعدم شنقا بعد ذلك عندما اصطدم عبد الناصر والإخوان والآن أغوص في عام 1942.

قسم الطلاب

فيما كان جيل عبد العزيز كامل ومحمد الغزالي وغيرهما (رحمهم الله) يودعون عهد الدراسة, كان قسم الطلبة يصاغ صياغة جديدة ليكون قسمًا مستقلا ومهمّا من أقسام الإخوان .... وقد تعاقب على رئاسته خلال هذا العقد إخوان ممتازون، وكلي أود أن أحي منهم بالأكثر عبر هذه السنوات الطويلة الأخ محمد فريد عبد الخالق أكرمه الله. فهو الذي توثقت الصلة به تماما وما زلت أحفظ له حبًا كبيرًا واحترامًا فائقا... اجتمعت فيه ثلاث خصال ياليتها اجتمعت في كل الإخوان : فقد كان مخلصا وكان مثقفًا وكان مفكرًا... وهو ثالوث نفيس ومفيد. وكان من فرط ما يختزن صدره ويجيش فكره سيال الحديث إلينا كالمعين الذي لا ينضب. وأذكر أننا كنا في جلسة مع الأستاذ المرشد ألقي عينا فيها حديثا مركزًا وبليغًا .. وقال الأستاذ فريد: «أظن أن هذا الحديث قد أوفى وأوعى وأغنى عن أي حديث فلا يجوز من بعد إلا الصمت». لكن كأن الأستاذ فريد لم يسترح إلى ذلك فاستدرك على نفسه قائلا: «ولكن الصمت نوعان: صمت صامت وصمت ناطق»... وتحت مظلة الصمت الناطق استمر الحديث من جديد... هو ممن صادفت من الرجال المؤمنين حقا، وهو ذو عقلية ممتازة اتسع دورها في الدعوة حتى خارج نطاق قسم الطلاب.

وكان قسم الطلاب جوهرة الإخوان فقد كانت فيه شخصيات غاية في النضج وأشتهر بالتزامه بالتنظيم والإتقان على النقيض من الأقسام الطلابية للأحزاب الأخرى. أروي نموذجًا في أوائل تلك الفترة من تخطيط طلبة الجامعة الإخوان للاحتفال في حرم الجامعة بعيد ذكرى الشهداء (شهداء ثورة 1935من الطلبة يوم 13نوفمبر وهو ما كان يسمى بعيد الجهاد الوطني، حين طلب وفد برئاسة سعد زغلول من الإنجليز الجلاء عن مصر وإعادة الدستور... وآلت هذه التسمية إلى حزب الوفد مستقبلا). وكان الأسلوب العادي في الجامعة أنه إذا قام طلاب حزب بأي نشاط هاجمه الطلاب المعاكسون، وأفسدوا النشاط وتكون معركة بالضرب واستعمال لبيسات الأحذية كأسلحة, وتسود الفوضى وتكثر الإصابات. ووضع طلاب الإخوان خطة دقيقة: فلما دقت ساعة الجامعة الدقة التاسعة من الساعة التاسعة وقف أحدهم عند النصب التذكاري للشهداء بحرم الجامعة ونادى:«الصلاة جامعة... صلاة الغائب على أرواح الشهداء» ثم تقاطر الإخوان سراعًا من أماكنهم غير الظاهرة داخل الكليات أو خلفها. وبغاية السرعة استقامت الصفوف وأم الطالب مصطفى مؤمن الصلاة. فلما سلم هُتف بشَعار الإخوان «الله أكبر ولله الحمد» ثلاثا واختفى التجمع فورا كأن لم يكن.

كان من الطلبة من استأجر تاكسيًا (وهي كلفة باهظة بالنسبة لطالب) حتى لا يتأخر لحظة واحدة. وكان على طرف كل صف من صفوف الصلاة أخ من ذوي العضلات القوية للردع أو للدفاع إن لزم. وخصص فريق تحال إليه المناقشات لمن جاء مناقشا. وكان كل طالب يعرف الصف الذي سيقف فيه. وحاز النشاط الإعجاب من المراقبين والتهنئة حتى من طلاب الأحزاب المعادية.

كذلك أشتهر طلاب الإخوان بعلو أخلاقهم ومعاملتهم لأساتذتهم بكل توقي واحترام. ولم يكن نشاطهم العام يحجبهم عن التفوق في دراستهم. وكانوا موضع الرضاء والمحبة من الأساتذة الذين كانوا يصرحون بذلك على صفحات الجرائد حتى في الظروف السياسية غير المواتية. واستم اجمعهم بالمحبة الفياضة، فكان الواحد منهم فعلا وفي صميم فؤاده يفضل إخوانه على نفسه. ولقد نبحث موضوعًا ويشتد النقاش وترتفع الأصوات حتى يسمع صوت الأخ محمود عبد الكريم (الآداب) قائلا: «المهم» فيجيب الجميع بصوت واحد: «الحب في الله» ورغم حبهم اللانهائي للأستاذ البنا رحمه الله, فقد كان الطلاب في جلساتهم معه جراء عليه في احترام ولا يحمجون عن الاستجواب والنقد حتى يحصلوا على إجابة مقنعة. وفي علاقتهم به كانت المثالية مقدمة على العواطف والمحبة الشخصية. وأورد هنا واقعتين لي مع الأستاذ البنا تنمان عن أخلاق الرجل لا عن أخلاقي أنا...

الواقعة الأولى.. كانت الليلة ليلة كتيبة بالمركز العام، وسيأتي الحديث بعد عن نظام الكتائب. وكنت أمير هذه الكتيبة فأعددت للعشاء ساندويتشات فول مدمس. ويبدو أن أحد الإخوة قدر أن الأستاذ سيحضر متأخرًا لارتباطه بمحاضرة الإسراء والمعراج في شعبة الوايلي بالعباسية (على مسافة كبيرة) فاشترى للأستاذ ساندوتشين كبدة من ميدان العتبة. وبينما نحن على العشاء لمتحت الخبز الفينو أما الأستاذ وهو يهم أن يأكل... وثبت إليه وثبا فأمسكت يده قبل أن تصل إلى فمه. سألته: «ما هذا الذي تأكله يا فضيلة الأستاذ؟ فأجاب «ما وجدت موضوعا أمامي». قلت «فليس هذا هو المقرر، فالعشاء فول مدمس». وناولته الفول وقلت «أما هذا الذي معك فلا أنا ولا أنت نأكله ولكن نقسمه هكذا ونفرقه على الإخوان ».

الواقعة الثانية... وقد ذكرني بها الأستاذ الهضيبي بعد سنوات حين اختير مرشدا وزرته للتعرف عليه... كانت حفل شاي لأساتذة الجامعة (كان معهم الأستاذ الهضيبي) على سطح المركز العام الجديد بميدان الحلمية. وتأخر الأستاذ البنا حوالي عشر دقائق، فلما قمت أقدمه قلت «أعتذر إليكم عن تأخر المرشد العام . وكل أولى به وهو المرشد العام للإخوان المسلمين أن يكون أحرص على الموعد. ولكن لعل عذرا عاقه فنستغفر الله لنا وله.... والآن اسمحوا لي أن أقدم الأخ حسن أحمد البنا ... المرشد العام

كنا نلطش فيه هذا التلطيش فيقبله برضى وابتسام لدرجة أن الإخوان بعدها بفترة أقاموا مؤتمرا ملأ الدارين والميدان والشوارع الجانبية على الحصير، وفي طريقه إلى المنصة داعبني مبتسمًا «ما تيجي تقدمني يا سي حسان».

ومرة طلب مني أن أؤدي عملا لم أكن أحبذ أن أؤديه... فسألته أهذا أمر أم رجاء... قال بل رجاء. فقلت إذن لن أعمله... ترُى منَ من الزعماء أو الرؤساء يمكن أن يعامله أتباعه هذه المعاملة؟ ولذلك أقطَع بأن لا يمكن أن يوجد أحد من الزعماء أو الرؤساء أو غيرهم أحبه أتباعه هذا الحب.

وفي الظروف التي كانت تمر بها مصر والعالمي الإسلامي كانت الرؤية واضحة, وسلم الأولويات مستقرا. وأذكر مرة جاءنا أخ جديد من الريف ليلتحق بالجامعة في القاهرة ، وفي أحد الاجتماعات سأل «أم كلثوم حلال أم حرام؟» وساد الاجتماع وجوم حتى بدده أحدنا بقوله «يا أخ.... لسنا هنا لنبحث هذه الأشياء»... ولم تتكرر ولم يتكرر أمثالها. وبالمناسبة فقد سمعت الأستاذ البنا يثني على أغنيتي «سلوا قلبي»و «ريم على القاع بين البان والعَلمَ» (نهج البردة) من تأليف أمير الشعراء أحمد شوقي وغناء أم كلثوم وتلحين رياض السنباطي، لما فيهما من معان وطنية وإسلامية طيبة. ودعوناه مرة إلى كلية الطب فكان من الأسئلة التي وجهت إليه بعد محاضرته: «يا أستاذ... السينما حلال ولا حرام؟» وفي بساطته وابتسامته أجاب «السينما الحرام حرام والسينما الحلال حلال»، وكان –رحمه الله – قادرًا على التعامل مع هذه المواقف والتعليقات التي يظنها أصحابها محرجة، فيشتتها بكلمة طريفة أو عبارة فكهة. أذكر مرة و قف فيها لإعطاء درس الثلاثاء، وفي العادة يستهله بأخبار شعب الإخوان ، فقال إن فريق كرة القدم لشعبة كذا قد انتصر في المباراة النهائية وبذلك حصل على الكأس... وهنا صاح من بين الحضور صوت جهير غاضب هو صوت أخينا الشيخ محمد الحموي –رحمه الله- وكان سوريا يدرس بالأزهر ومن أهل الورع والتمسك: «يا أستاذ: الكأس؟ آلة الخمر؟ أهذه كلمة تقال في محيط الإخوان ؟». وابتسم المرشد وقال في دعابة: «أتغضب يا شيخ محمد .. إذن حصل على القدح!».

وكانت له القدرة والفصاحة على أن يبدأ بالناس من حيث هم اعتقل مرة ذات شتاء ودخل الحبس في قسم الخليفة يومين. وكان معهم مهندس شيوعي، ما إن رآهم يستعدون لصلاة العشاء حتى قال: «سامحني يا أستاذ إن البرودة قارسة كما ترى, ولن يمكنني أن أتوضأ».

ثم أضاف ساخرًا: «إلا إذا قبلت أن أصلي معك من غير وضوء». وفاجأه الأستاذ بقوله: «نعم قبلت ما دمت أنت اقترحته واقترح عليه التيمم. وكانت هذه هي «الشبكة»... وخلال يومين تحول المهندس إلى رجل مسلم وأصبح بعد ذلك من الصالحين.

وفي إحدى المرات صحب إليه الأخ عبد البديع صقر –رحمه الله- واحدا من أساتذة الجامعة ليزوره. وعند انصراف الرجل تلطف الأخ عبد البديع بلفت نظر الزائر الذي كان يلبس خاتما من الذهب إلى هناك حديثا نبويا ينهي عن ذلك. لكن الأستاذ البنا وكز عبد البديع في كتفه فقطع الكلام. وبعد انصرافه قال له المرشد: «يا سي عبد البديع, انتظر حتى نتفق على لا إله إلا الله، ولما يأتي دور الخاتم فآنئذ نكلمه فيه».

ولم يكن الأستاذ البنا يضيق أو حتى يتجهم لسؤال أو انتقاد. في أوائل تشكيل جوالة الإخوان ، وكان من ضمن الزي بنطلون قصير، غضب لذلك زميل له من خريجي دار العلوم، وكان رجلا شديد الورع ولكن كان في تقديره أن التزين بلبس الجوالة مروق من الإسلام ، فاقتحم على المرشد باب غرفته وناداه بعنف: «يا حسن أفندي». فأجاب على الفور: «نعم سيدي» قال الرجل (الأستاذ سيد سعد رحمه الله): «إني أكرهك» فأجاب الأستاذ البنا : «وأنا والله أحبك». قال: «ولكني أكرهك في الله»... فأجاب في رقة: «هذا يزيدني حباّ فيك».

وكان الأستاذ البنا يرتدي زي الجوالة (جاكتة وبنطلون كاكي يستر الركبة) وقد شهدته به يمشي في طابور استعراضي لجوالة الإخوان في ملعب الكرة بمدرسة الصنايع التي أصبحت فيما بعد كلية الهندسة بجامعة عين شمس. وقد كان تشكيل الجوالة نتيجة للنظرة الثاقبة للأستاذ البنا ... فقد درجت الأحزاب على تشكيل مليشيات شبه عسكرية فكان للوفد القمصان الزرقاء, وكان لمصر الفتاة القمصان السوداء، وأراد الإخوان أن يكون لهم تشكيلهم وقمصانهم كذلك لكن الأستاذ لم يوافق، وإنما نصحهم بالانضمام لجمعية الكشافة الأهلية وتسجيل فرقة الإخوان بها، واستقرأ أن هذه التنظيمات ستحلها إحدى الحكومات حتمًا في يوم من الأيام، وهذا ما حدث بالضبط فحظرها القانون، لكن لم ينطبق ذلك على كشافة الإخوان فبقيت.

وقد زاد أهمية قسم الطلاب في ذلك الوقت أن الطلاب كانوا هم الصوت والوحيد الذي يتكلم عن الشعب ويعبر عنه في المجال السياسي كان الطلبة هم الذين يسقطون الوزارات حين يضيق بها صدر الأمة وينفذ صبرها. وتفرد طلبة الإخوان (وكانوا يطلقون عليهم شباب الإخوان ) بنضج سياسي لا تجد مثيله في الأحزاب والهيئات الأخرى. وكان من المعتاد أن يُدعى الإخوان إلى اجتماع مهم مع هيئات سياسية أخرى فيكون ممثل الإخوان أحد طلبة الجامعة, ويؤدي دورة أداء يبعث على الاحترام والتقدير الكامل. ذكر الأخ أحمد عادل كما قصة الاجتماع الذي تداعت إليه أحزاب المعارضة في عهد وزارة وفدية, وكان في الاجتماع رؤساء الأحزاب وعدد من المعارضة ورجالاتها.... واقترحوا تنظيم إضراب ومظاهرات ولا بأس بقنبلة أو قنبلتين, وجاء دور أخذ الأصوات وكانت النتيجة بالموافقة, إلا مندوب الإخوان (سعيد رمضان –رحمه الله- وكان طالبا بكلية الحقوق) فقد قال إن الإخوان لن يشتركوا في هذا العمل.

انهال عليه السنهوري باشا –رحمه الله- باللوم والتقريع، فسأله سعيد: «يا دولة الباشا انظر حولك إلى الحاضرين في هذه الغرفة: هل تعرفهم وتعرف أسمائهم جميعًا؟ ... فقال الرجل «لا» قال له سعيد: «فكيف تشرع يا باشا في تدبير ثورة بين ناس لا تعرفهم؟».. وكانت القاضية.

وكان قسم الطلبة مدرسة ناجحة جدا في إعداد الخطباء... كان من العادي جدا أن يدق جرس التليفون في بيت أحدنا فيقال له «خذ قطار الساعة كذا إلى بلدة كذا لتلقي خطبة أو محاضرة بمناسبة كذا». ويلي الواحد منا بغير مناقشة, ويذهب ويؤدي المهمة على أكمل وجه. أما ثمن التذكرة فيدفعها الأخ من جيبه طبعًا، وكانت حركة الإخوان فيما عدا القليل النادر قائمة تمامًا ... وعلى أكمل صورة.. على العمل التطوعي.

أذكر أنني في مرة من المرات وأنا طالب بالجامعة أوفدت إلى مدينة بنها لإلقاء محاضرة في مسجد... وذهبت فإذا قوة من البوليس تسد المسجد وتصادر الاجتماع. وذهبت إلى الضابط الشاب أتفاهم معه فقلت سأتكلم كلامًا لا يهاجم الحكومة. فقال لا قلت فلن أتكلم في السياسة فقال لا قلت فأعدك أن خطبتي ستتكون فقط من آيات من القرآن الكريم. فقال لا ثم قال يمكن أن أسمح لك إذا كانت خطبتك لا تزيد على «أطيعوا أولي الأمر منكم».

وفي مرة أوفدت إلى أسيوط لمحاضرة في شعبة الإخوان وأخرى في المسجد. وكان في محاضرة المسجد عدد من ضباط الجيش من معسكر منقباد... وبعد المحاضرة انتحى بي أحد الضباط جانبًا وأدار معي حوارًا سألني فيه:«أنتم يا إخوان هيئة قوية، فلماذا لا تقومون بانقلاب تخلصون به البلاد من الملك والأحزاب وهذا الفساد الشامل؟» قلت له إن «الخلل الحقيقي هو في وعي الشعب ونضجه الفكري والسياسي والأخلاقي، وهذا ما يعمل من أجله الإخوان . ولكنني أستغرب منك هذا السؤال وأنت تعلم أن الذي سيهب لسحق مثل هذا الانقلاب هو أنتم يا ضباط الجيش» ومضت سنوات طويلة جدا ... قبل أن تنبعث إلى ذاكرتي ملامح هذا الضابط الشاب... كان وجه جمال عبد الناصر وليسامحني الله إن كانت ذاكرتي قد أخطأت ولكنني لا أحسبها أخطأت.

وفيما أذكر من الخطباء بين طلبة الإخوان ، لابد أن أذكر اسمين مهمين... مصطفى مؤمن الذي كانت له قدرة ضخمة على تحميس الجماهير وتحريكها... وسعيد رمضان الذي أعده منذ كان طالبًا من ألمع خطباء هذا القرن... وكان كثير التنقل للخطابة في بلاد مصر وفي البلاد العربية.. لدرجة أنني عاتبت الأستاذ البنا بشأنه وقلت له: «ينبغي أن يتوقف اعتصار سعيد بهذه الدرجة. إن مفكرًا واحدًا خير للدعوة من ألف جندي. والرأي عندي أن يتفرغ سعيد تمامًا للدراسة ثم الدراسات العليا ثم الحصول على الدكتوراه، ومن بعد ذلك ينطلق في المجال العام. (توفي في سويسرا 1995يرحمه الله) ذهبت مرة في وفد ثلاثي لمقابلة أحمد باشا ماهر رئيس الوزراء بدعوة منه إثر إحدى الحركات الطلابية, وكان مطلبنا الإفراج عن الطلبة المعتقلين. وخلال المناقشة أفهمته بوضوح أن السنوات تجري سراعًا فلا يلبث أن يكون مستقبل مصر في أيدينا نحن الشباب، وأننا نتهيأ لذلك من الآن ومن الصالح أن يراعي ذلك في التعامل بين الجيلين. وأخذ الرجل، وصدر الأمر بالإفراج عن المعتقلين.

وزار وفد طلابي أحمد حسنين باشا رئيس الديوان الملكي (وكان رجلاً نبيلا دمث الأخلاق) على أثر توتر بين الطلبة والملك وكان هناك كريم باشا ثابت (صحفي سابق ومن حاشية الملك المقربين وبطانته السيئة) الذي أراد أن يتظرف، فقال إن الملك شاب مثلكم فليس بمستغرب كذلك أن يمشي مع بنت مثلا أو تكون له نزوات الشباب (كاميليا... ممثلة يهودية احترقت بها الطائرة فيما بعد... وغيرها من النساء) فكان نصيبه أن تلقى درسًا في توقعات شعب مسلم من ملكه المسلم.

وما زلت أذكر الأخ حسن دوح عند قدومه من أسيوط للالتحاق بكلية الحقوق بجامعة القاهرة (الجامعة الوحيدة في ذلك الوقت) وكان هذا أول عهده بالقاهرة , وهاله اتساعها فكان أول اقتراحاته أن يشتري قسم الطلاب دراجة لتسهيل الانتقال من أجل أعمال القسم وفيما بعد... وكنت قد تخرجت طبيبًا... تقدم حسن دوح للتطوع للقتال في فلسطين وأسقطته في الكشف الطبي، ولكنه تحايل حتى ذهب وأصبح من أبطالها الذين أبلوا أحسن البلاء. وبعد ذلك أيضًا.

كان الطالب حسن دوح قائد معسكر الطلاب بمقر جامعة القاهرة , وهو الذي كان يدرب الطلبة لمكافحة الإنجليز عسكريا في قاعدة قناة السويس .

وما كان أروع ذهاب الأستاذ الدكتور عبد الوهاب مورو باشا كبير جراحي مصر ومدير الجامعة آنذاك لزيارة هذا المعسكر وأداء التحية العسكرية وإعطاء الطلبة شيكًا موقعًا على بياض ليكتبوا المبلغ الذي يرونه مناسبًا للإسهام في هذا العمل. وكان مورو باشا قد خصص غرفة بمستشفاه في ميدان عبد المنعم بالدقي للعلاج المجاني لأي طالب مصاب في القتال دون إبلاغ البوليس عنه, وهو ما كانت المستشفيات الأخرى تصمم عليه.

وكان هذا الجهاد كبير الجدوى في إقلاق الإنجليز وترويعهم ونسف قطاراتهم ومنشآتهم. وقد سمحت به آخر وزارات الوفد وهي التي ألغت المعاهدة مع الإنجليز واستشهد فيه ثلاثة من الطلبة كلهم من الإخوان (عمر شاهين وأحمد المنيسي و عادل غانم ) على حين كان إسهام الأحزاب الأخرى رمزيّا فقط دون القيام بأي عمل في الصميم.

ومما نذكره لفؤاد سراج الدين باشا سكرتير الوفد ووزير الداخلية آنذاك، أن القوات الإنجليزية شرعت في احتلال منطقة القناة, وهاجمت قرية كفر أحمد عبده التي لم يكن بها إلا عساكر البوليس فأمرهم بالثبات والمقاومة المسلحة واستشهد معظمهم وسقطت القرية.

نظام الكتائب

ولم يكن هذا النظام عسكريّا كما توحي به التسمية ولا يمت إلى العسكرية بشيء.... لكنه نظامًا للتدريب الروحي والتوعية بالدعوة ومسارها. يبدأ مساء الخميس بعشاء متقشف ثم صلاة العشاء صلاة ممدودة خلف المرشد.

وبعد خواتيم الصلاة يبدأ الدرس الأول الذي يمتد حتى حوالي الثانية صباحًا ثم تكون فترة للتهجد وفترة للراحة ثم درس ما قبل الفجر وصلاة الفجر وقراءة المأثورات (أدعية)... وحلقة نقاش حتى يسطع الصباح قبل أن ننصرف إلى منازلنا.

كانت الرياضة الروحية عميقة وممتعة.... عندما كان المرشد يقول: «تذكروا أيها الإخوان أن الله ناظر إليكم ورقيب عليكم..» كنا نحس في ظلمة الليل بإحساس يكاد يكون ملموسا بالله سبحانه وتعالى إحساسًا يلهينا عن ذواتنا وكل ما حولنا.

وقد كان هذا العمق الروحي زاد المستقبل وعصمته من النزوات والشهوات والمغريات... وإني لأشفق على الذين لم يتح لهم في حياتهم مثل هذا الإعداد... على يد أستاذ لا كالأساتذة, فإنني حتى اليوم لم أعرف أحدا مثله ولم يكن الأمر على ما عهد في الطرق الصوفية من علاقة الشيخ بمريديه وأخذهم العهد بتمام الطاعة له... فقد كنا في حلقة النقاش نناقش وننتقد بكل حرية ونخالفه الرأي إن رأينا، والبيعة الوحيدة نناقش وننتقد بكل حرية ونخالفه الرأي إن رأينا، والبيعة الوحيدة التي أعطيتها في الإخوان كانت عهد الله على الاستقامة والمحبة والثبات على الدعوة.

وما زلت أعتقد اعتقادًا راسخًا بأن الحركات الإسلامية لن تحرز النجاح إلا إن بدأت من هذه البداية ... تكوين اللبنات الصالحة... أما البداية من النشاط السياسي أو العسكري أو المذهبي فهو بداية للرحلة من منتصف الطريق وشروع في البناء من غير حفر أساس.

كانت كتيبة طلبة الجامعة مجموعة مختارة قوامها بين ثلاثين وأربعين هم عصارة قسم الطلبة, كما أنهم أمل المستقبل. وفي إحدى هذه الكتائب استأذن الأستاذ المرشد للذهاب إلى بيته القريب وعاد بعد ساعة لدرس ما قبل الفجر وبقية البرنامج.

وفي طريقنا للبيت قلت لمن معي لقد لحظت على وجه المرشد ما حسبته مسحة من حزن خالفني الباقون. وفي الساعة العاشرة صباحا اتصلوا بنا للحضور لتشيع جنازة حسام ابن الأستاذ المرشد.

واتضح أن الرجل في الساعة التي استأذنها لبيته شهد وفاة ابنه (حسام) فغطاه وعاد إلى الدار ليكمل الدرس كالمعتاد. (كانت لوفاة حسام ملابسات في غاية الغرابة لم أعرفها إلا بعد سنين طوال.

رأت والدته في المنام رجلا يقول لها إن حساما سيموت يوم كذا. انزعجت، خاصة أن حساما أصيب بالباراتيفود. لكنه تماثل للشفاء وغادر المنزل يلعب مع الأطفال في صحة وعافية.

لكن ذات مساء توعك حسام مرة أخرى وفي اليوم الذي حدده الرجل انتقل إلى جوار الله!! لكن الأمر يزداد غرابة حين أذكر أن زمانا مضى ورأت السيدة في المنام مرة أخرى أن نفس الرجل جاءها ليخبرها أن طفلتها فلانة ستموت في موعد كذا!!في هذه المرة استدان الأستاذ البنا بعض المال وأرسل من يشتري له مدفنًا.

ولم تمرض الطفلة لكن جاء اليوم الموعود فنامت وفارقت الحياة!!).

في هذه الكتائب عرف عني اهتمامي بحسن العلاقة بيننا وبين الأقباط... اهتماما جعل بعض الإخوة مثل مصطفى مؤمن وسعيد رمضان يسمونني الأب حسان. صارحني الأستاذ البنا بأنه يحمل نفس الأفكار وأنه سعيد لأن أحد تلامذته حريص عليها هذا الحرص كذلك أذكر أننا برئنا من الصبيات المذهبية, وكان –رحمة الله عليه- عضوا في جماعة التقريب بين المذاهب الإسلامية التي تمثل الجميع بمن فيهم إخواننا الشيعة. ولو استمرت لكان من ورائها خير كثير ولكن تقلبات السياسة فيما بعض عصفت بها.

نحن والأقباط

كنت تلقائيا الأخ المرشد للذهاب إلى الجمعيات المسيحية لإلقاء المحاضرات، فَكنُا نخرج متحابين متعانقين وكان طلبة الإخوان بكلية الطب كل عام يدعون لمؤتمر احتفال بذكرى ميلاد المسيح عليه السلام يشترك فيه خطباء من زملائنا الأقباط في مودة صادقة، وخرجت من بينهم بصداقات خالصة لولا أن باعدت بيننا الأيام بعد ذلك. وقد نشرت مرة في مجلة مجلة الإخوان خطابًا بعنوان «أخي جرجس» رد عليه آنذاك القمص سرجيوس من أقباط الأقباط في مجلته بخطاب مماثل يبادل المودة بالمودة ويؤكد حسن الصلة. ولم يكن ذلك موقفًا فرديًا لي، بل كان سياسة الإخوان .... وعندما كان المرشد يلقي درس الثلاثاء كل أسبوع كان من الحضور المنتظمين الأستاذ لويس فانوس عضو مجلس الشيوخ ومن زعماء الأقباط. وعندما نقل (بنية النفي) الأستاذ المرشد إلى قنا بالصعيد (كان مدرسًا بمدرسة ابتدائية بوزارة المعارف) وبدأ هناك نشاطه, كان من الحضور قس الكنائس وعندما ألف الإخوان لجنة استشارية للاستئناس برأيها في ضبط سياستها كان من أعضائها الأستاذ وهيب دوس من كبار المحامين. وعندما رشح الأستاذ البنا وبعض الإخوان أنفسهم في الانتخابات البرلمانية كان بعض وكلائهم في اللجان الانتخابية من الأقباط. وهناك واقعة طريفة في هذا الموضوع، فقد نشرت الأهرام في أثناء إحدى المعارك الانتخابية بيانًا للدكتور أحمد ماهر باشا رئيس الوزراء يندد بالتعصب الديني ويحذر الناس من الذين يتخذون الدين ستارًا للأطماع السياسة غير مبالين بإثارة النعرة الطائفية بين عنصري الأمة ويدعو إلى تماسك المسلمين والأقباط ليكونوا يدًا واحدة ضد المفرقين والمتعصبين, وكان بطبيعة الحال يشير للإخوان. ولسبب لا أذكره استدعى الطالب سعيد رمضان في ذلك اليوم للقاء أحمد باشا ماهر في رئاسة الوزارة وفي الحزب السعدي... وخلال المناقشة قال النقراشي باشا لسعيد: «مش عيب عليكم تبقوا إخوان مسلمين وتختارون للوكالة عنكم ناس أقباط؟» وأجابه سعيد: «يظهر يا باشا إنك لم تقرأ بيان دولة ماهر باشا في الأهرام اليوم».

ولهذا ففي كل مرة كان الإنجليز يحاولون فركشة حركة وطنية بافتعال حادث أو إحراق كنيسة مثلا، لم تكن التهمة تتجه إلى الحركة الإسلامية (الإخوان في ذلك الوقت) وكان من السهل إيقاظ الوعي بأن هذا ترتيب استعماري خارجي.

من الأستاذ البنا تعلمنا الركائز الإسلامية لعلاقات المودة بين عنصري الأمة. وأن الإنسان غير مطالب بالتخلي عن إسلامه ثمنًا للعلاقات الطيبة, وبأن من صالح الأقباط أن يشاركوا في مصر مسلمين يعرفون ويحفظون تلك التعاليم، وبأن شريعة الإسلام لا تفرض على أهل الكتاب أي شيء يخالف دينهم وكتبهم، وإنما يستثون من ذلك إن وجد، وبأن الجميع سواء في الحقوق والواجبات يستثنون من ذلك إن وجد، وبأن الجميع سواء في الحقوق والواجبات (لهم ما لنا وعليهم ما علينا) وتساوون أما القانون وبأن الرسول صلى الله عليه وسلم –أوصى خيرًا بأقباط مصر بالذات.

وبأن أحكام الجزية غير واردة لأنها مثل ضريبة البدلية (التي عرفناها في مصر إلى عهد قريب للمسلمين والأقباط) هي رسم مقابل الإعفاء من الخدمة العسكرية, وما دام الأقباط والمسلمون الآن سواء في الجندية, فالحديث عنها غير ذي موضوع... وأن أبا عبيدة رد على أهل حمص جزيتهم عندما قرر الجيش المسلم الانسحاب فلم يعودوا مدينين بثمن الحماية العسكرية. هذا تعلمناه في الأربعينيات... وبقي معي إلى أن كنت أستاذًا بالجامعة في مناخ امتد أثر التعصب فيه إلى الامتحانات ومن الجانبين. كنت كالقاضي يحكم بالعدل وأقدر الدرجة حسب المعلومات والاجتهاد غير متردد في إعطاء الطالب القبطي الدرجة النهائية إن كان يستحقها.

ولما كنت في جامعة أسيوط جاءني من الطلبة المسلمين من يقول إن الأساتذة الأقباط يعطون درسًا خصوصية في الكنيسة للطلبة الأقباط فماذا لا أرتب درسًا خصوصية للطلبة المسلمين في الجمعية الإسلامية, وقلت إن بابي مفتوح في كل وقت لمن شاء من المسلمين أو الأقباط أن يستزيد من العلم, وأن الخريج عندما يصبح طبيبًا ستكون في يده أرواح المرضى من المسلمين والمسيحيين، سواء أكانت مسلماً أم مسيحيًا.

وذهبت يومًا لإلقاء محاضرتي فوجدت جلبة أمام المدرج، فبقيت في سيارتي حتى جاء الطلبة معتذرين... سألت فعلمت أنها كانت مشادة إسلامية قبطية فخصصت المحاضرة كلها للحديث عن هذا الموضوع مستشهدًا بما في القرآن وما في الإنجيل وأسعدني بعدها بأيام وأنا أسر في الحرم الجامعي أن أسمع ورائي وقع خطوات وأن يدركني أحد الطلبة فيقول: «أريد أن أعلمك أنني طالب قبطي وكنت شديد التعصب حتى سمعت محاضرتك، وأعدك أنني من بعد لن أكون متعصبًا أبدًا».

وعندما قتل الأستاذ البنا بتدبير الحكومة (إبراهيم عبد الهادي ) ومنعت الحكومة أن يشيع جنازته أحد غير أبيه وسيدات الأسرة اقتحم رجل واحد نطاق البوليس وجاء لتقديم العزاء، هو وليم مكرم عبيد من كبار الساسة وكبار الأقباط.

وإن الإنسان لينظر بالأسى والأسى والأسف إلى ما آلت إليه الأمور الآن في مصر ، ولا يعفي من اللوم الذي سدوا المنافذ على الهواء النقي أن ينفض أولا بأول غبار الانحرافات التعصبية وأطفئوا أنوار الحوار الحر، وفي ظلمة القمر والكبت راحت الخفافيش تعشش في الظلام.

14 فبراير 1942- الترشيح والانسحاب

كانت الحرب العالمية الثانية مستعرة الأوار.

وكانت في مصر قوة بريطانية كبيرة قوامها الجيش الثامن في مجابهة قوات محور ألمانيا وإيطاليا (هتلر وموسوليني) التي كانت تحتل دول الشمال الإفريقي التي كانت تحت حكم إيطالي (ليبيا ) وفرنسا (تونس والجزائر) ومراكش: وبهزيمة فرنسا دخلت تحت حكم المحور).

وتعاقب على قيادة الجيش الثامن قواد كثيرون منهم أوكينلك وريتشي (الذي انتحر) وويفل وويلسون، وذلك قبل أن يتولاه الجنزال موتنحمري الذي عقدوا عليه الآمال في التصدي للقائد الألماني العبقري رومل الملقب بثعلب الصحراء والذي كان على وشك احتلال مصر , ووصلت قواته إلى العلمين قرب الإسكندرية.

وانزعج الإنجليز لدرجة أنهم شرعوا في إحراق أوراقهم وكنا نرى منها أكوامًا مشتعلة في طرقات القاهرة لأن الإنجليز كانوا يستأجرون عمارات سكنية من مباني القاهرة العادية لإسكان جنودهم، محتمين بتورع طائرات المحور عن ضرب الأهداف المدنية.

وانتبه الإنجليز لخطورة وجود جبهة داخلية غير موالية, إذ كان الشعب بطبيعة الحال ساخطًا على الاحتلال الإنجليزي منذ عام 1882 ومن أجل تأمين هذه الجبهة رأوا أن يتولى الحكم حزب الوفد برئاسة مصطفى النحاس باشا الذي كان حزب الأغلبية الشعبية، بلا شك والمحافظ على حقوق الشعب تجاه الملك الذي استعان بسلسلة من حكومات أحاب الأقلية يأتي بها بعد إقالة وزارة الوفد عن طريق إجراء انتخابات مزورة.

ولم تكن هبات الشعب ضد الإنجليز إلا بقيادة الوفد دائمًا إذ لم يكن لأحزاب الأقليات التي باعت نفسها للسراي والإنجليز أي ثقل في الشارع السياسي.

وفي صبح 4فبراير 1942 توجه السفير البريطاني وقائد القوات البريطانية على رأس قوة مدرعة كبيرة إلى قصر عابدين حيث حاصرته تمامًا بالمدافع مصوبة على القصر, وقطعت الاتصالات التليفونية, وقابل السفير والقائد الملك فاروق وأعطياه إنذارًا بإقالة الوزارة وتكليف مصطفى النحاس باشا بتأليف الوزارة الجديدة, وإذا رفض فإنه يتحمل جميع النتائج المترتبة على ذلك الرفض. ولم يكن للملك خيار فتم ما أراد الإنجليز.

وفي ظروف الحكم العسكري والأحكام والعرفية والرقابة على الصحف، لم ينشر على الناس ما حدث ولم يعرف إلا بالتسرب البطيء.

أما في الوهلة الأولى فقد رحب الشعب بعودة الوفد للحكم فهو الحزب الحبيب.

وطالب زعماء المعارضة بأن يشركهم الوفد في حكومته, لكن النحاس رفض واتهموه بأنه جاء على حراب الإنجليز، وهي تهمة أضعفها أنهم هم أنفسهم ما تولوا الحكم أبدا إلا على مراكب تزوير الانتخابات وكان طبيعيّا أن يحل النحاس البرلمان ويدعو لانتخابات جديدة... ولم يكن الوفد في حاجة لتزوير الانتخابات لينجح فلما أعلن عن الانتخابات قرر الإخوان أن يخوضوا المعركة الانتخابية.

وتقدم الأستاذ البنا الإخوان أن يخوضوا المعركة الانتخابية.

وتقدم الأستاذ البنا للترشيح وبعد أيام استدعاه النحاس باشا وقال له ما معناه: «إنت مين يا بني. وكيف لا أعرفك والإنجليز يقولون لي حسن البنا لا يدخل البرلمان حتى لو اقتضى الأمر ألا يكون هناك برلمان».

وطلب إليه أن يسحب ترشيحه.

وحاول حسن البنا أن يجادل ويتمسك بحقوقه الدستورية وطلب مهلة.

في هذه المهلة أغلقت شعب الإخوان كلها وعطلت المجلة.

وتولينا إبلاغ الناس بما حدث بالاتصال الشخصي, فكنت أنا مثلا أقابل كل يوم عشرة من زملاء دفعتي أحكي لهم الخبر.

وتدبر الإخوان الأمر فرأوا أن إصرارهم لن يكون مجديًا في الظروف التي كانت تسود البلاد، وأن النحاس صرح بأن تنازل المرشد سيكون جميلا يحفظه.

ويحل المرشد ترشيحه بعد وعد من النحاس أن تعود المجلة وتفتح للشعب ويرفع البوليس وطأته عن نشاط الإخوان في القاهرة والأقاليم... وتبين فيما بعد أن كان فعلا القرار الصواب وأن الإخوان استفادوا بعده كثيرًا، كما حصلوا من الحكومة على مطالب منها إلغاء البغاء الرسمي، والاحتفال بالمناسبات الإسلامية.

كانت هذه فترة نشاط كبير... وكان للمرشد كل سنة رحلة إلى الصعيد ورحلة إلى الوجه البحري. وقد صاحبته في إحدى هاتين الرحلتين, فتبينت عن كثب مزيدًا من مواهب هذا الرجل كان يذهب إلى بلدة من البلدان فيلقي المحاضرة لمدة ساعات، والناس يسزيدون ويخشون أن يفرغ..كانت كلماته تنفذ إلى العقول والقلوب في سهولة ويسر، سواء أكان المستمع إليه عالمًا كبيرًا أم فلاحًا أميّا.

ولم يكن من الخطباء الذين ترتفع أصواتهم بالحماس أو تنتفخ أوداجهم بالانفعال، ولكنه كان معلما فتح الله عليه وألقى عليه محبة منه.. وبعد المحاضرة ولمعظم الليل تدخل عليه وفود النجوع والقرى والبلاد، فإذا هو يعرفهم فردا ويعرف ظروفهم ومشاغلهم ويسأل الواحد منهم هل أجرى الوالد العملية الجراحية, والآخر هل وجد الابن وظيفة والثالث عن قضية الأرض، وهكذا وأنا مستغرب لهذه الذاكرة الخارقة, ثم يناقش معهم ظروف العمل الإسلامي ويشير عليهم بما يرى.. وكنا نحن الطلبة نرزح تحت وطأة السفر والإعياء.

وأما هو فلا يبدو عليه أثر لأي تعب.

كنا نركب معه القطار في الدرجة الثالثة، وبما كان القطار بالغ الزحام، كما عهدناه في فترة الحرب فيجد طريقه خلال نافذة القطار في خفة وسهولة... وكانت فترة السفر من أحصب الفترات بالنسبة لنا، وقد جلسنا حول المرشد على المقاعد الخشبية نسمع منه ويسمع منا لمدة ساعتات.

وبعد انقضاء المهمة نعود إلى القاهرة ونستقل الترام، فإذا مر الترام على أقرب شارع إلى منزل المرشد إذا به يثب من الترام في رشاقة وبراعة لم أرها إلا في الباعة الذين كانوا يبيعون بضاعتهم للركاب من ترام إلى ترام.

إقالة الوفد - وزارة أحمد ماهر

من المتناقضات أن الناس كانت تفرح فرحًا كبيرًا بقدوم وزارة الوفد ثم تحس براحة كبيرة عند زوالها.

فقد عرف حكم الوفد بالمحسوبية الطاغية... ربما كانت الأحزاب الأخرى على نفس الدرجة من المحسوبية, ولكن لقلة الأعداد لم تكن شائعة شيوعها مع الوفد .

لذلك مر حوالي عامين, ثم أقال الملك حكومة الوفد وأسند الوزارة لأحمد باشا ماهر.. الأخ الفائق الاحترام والقطب الأعظم وهو لقبه في صفوف الحركة الماسونية التي كان عضوًا بها.

كما كان له إسطبل من خيول السباق. وكان قبل ذلك عضوًا في الوفد حتى حصل انشقاق على النحاس فكون أحمد ماهر والنقراشي وإبراهيم عبد الهادي الحزب السعدي، كما كون مكرم عبيد الكتلة الوفد ية المستقلة بعد أن نشر «الكتاب الأسود » عن مخازي حكم النحاس... ولكن ظل الحزبان مع ذلك من ضمن أحزاب الأقلية.

ومما يذكر أن أحمد ماهر وزميليه محمود فهمي النقراشي وإبراهيم عبد الهادي كانوا في شبابهم من ألمع شباب الوفد على عهد سعد باشا زغلول مؤسس حزب الوفد وزعيم الأمة بلا منازع.

وكان أحمد ماهر والنقراشي وعبد الهادي أعضاء في جمعية سرية اسمها جمعية اليد السوداء.. واتهموا في حادث مقتل السردار الإنجليزي في السودان ، وحكم عليهم بالإعدام لكن ذلك الحكم لم يُنَفَّذ.

ومرت الأيام وأصبح كل منهم رئيسًا للوزراء.

وأهم ما نذكره لأحمد ماهر (وهو شقيق علي ماهر) في وزارته تلك (موضوعان هما موضوع الانتخابات بعد حل البرلمان وموضوع مقتله).

الترشيح الثاني للإنتخابات

تقدم الإخوان للترشيح في ست دوائر، وكان منهم الأستاذ البنا عن دائرة الإسماعيلية .

وكان الشعور العام والواقع الملموس أن دائرة الإسماعيلية مضمونة بالنسبة لحسن البنا .

ففي الإسماعيلية بدأت الإخوان وآتت ثمارًا ملموسة وأقيمت الدار، وفيها مسجد ومدرسة ومشغل للنساء، واستقامت المومسات حتى تزوجن جميعًا والتف الناس حول الدعوة الجديدة بعد أن نفذ صبرهم من الزعامات الدينية القديمة التي كانت تثير المعارك حول أسئلة من مثل: «هل أبو النبي في الجنة أم في النار؟» وحكم «الصلاة والسلام» على النبي بعد الأذان، وانتبهوا لمعنى الإسلام الشامل وامتلأت نفوسهم بعزة المؤمنين لدرجة لفتت نظر شركة قناة السويس (وكانت مملوكة ومدارة بالأجانب) لما لمسته من تغير في شخصيات عمالها وسلوكهم ولقد بدأت الدعوة من الشارع إذ رأى حسن البنا –وكان خريجا حديثا من دار العلوم عين مدرسًا بمدرسة الإسماعيلية الابتدائية- ألا فرصة له في المساجد على وضعها الذي ذكرناه، فاختار مقهى صار يتردد عليه يوميّا ويدعو الناس للإنصات له ويحدثهم دقائق ثم ينصرف. والتفت الناس له وأحبوه وتوافدت الجماهير على المقهى ليستمعوا لهذا الأفندي المدهش الذي يتحدث عن الإسلام .

وذات مرة أمسك بالماشة والتقط قطعة جمر ملتهبة مما يوضع على الجوزة للتدخين، ورمى بها على الناس فتبددوا عنا خوفًا. .. وكانت محاضرة طويلة تلك الليلة بدأت بسؤالهم إذا كانوا يفرون هذا الفرار من قطعة فحم صغيرة فما العمل يوم القيامة حين تعرض الجنة والنار ويوضع الكتاب ويقام الحساب.

تركهم باكين وانصرف، فإذا عدد منهم يتبعونه ويحملونه مسئوليتهم لأنه أيقظ في أنفسهم مالا قبل لعلمهم المحدود به، وأطلقوا على أنفسهم اسم الإخوان المسلمين واستصلحوا زاوية مهجورة بدأ منها الشعاع الذي ملأ البلدة والمنطقة ثم مصر كلها في قابل الأيام. وكانت البداية عام 1928.

كان اهتمام الإخوان بهذه الانتخابات كبيرًا... وانتقل خمسة عشر ألفًا من الإخوان إلى الإسماعيلية لمراقبة الانتخابات كنت من بينهم وكان المرشح السعدي الدكتور سليمان عيد، ونقطة ارتكازه أنه من أبناء الإسماعيلية قسمنا أنفسنا إلى مجموعات من ثلاثة تجوب الشوارع، وكلما مرت بأحد أو مر بها أحد من الأفراد أو الجماعات قال أحد الإخوان بصوت مسموع، وكأنه مستغرق في الحديث مع زميليه: «قلت له صحيح سليمان عيد قريبي لكن سأنتخب حسن البنا  ».

وذلك لتشجيع المترددين بين المبدأ والعصبية. لم يكن هناك شك في النتيجة لولا أن الحكومة قررت تزوير الانتخابات وعلى نطاق واسع.

كانت قوات البوليس بقيادة رسل باشا الحكمدار الإنجليزي لمحافظة القنال تحاصر مقار اللجان الانتخابية وتمنع وصول الناخبين إليها بينما لواري السلطة تأتي بأفواج من العمال الصعايدة العاملين بشركة القنال لإعطائهم تذاكر انتخابية ينتخبون بها أول مرة في حياتي أشهد بصورة مباشرة تزوير الانتخابات.. كان من الممكن أن تحدث مذبحة هائلة لأن تجمعات الإخوان كانت كثيفة, وكان غضبهم بالغًا لولا وصول تعليمات من الأستاذ البنا تأمر بالسلبية الكاملة وسقط حسن البنا في الانتخاب. وجلسنا واجمين حتى قال سعيد رمضان : «والله لو شاء الله غير ذلك لكان». ورد عليه عمر أمين: «يا سعيد.. لا تخلط الروحانية بالعمل» رحمهما الله.

ثم كان مصرع أحمد ماهر. قررت الحكومة إعلان الحرب على ألمانيا وإيطاليا. كان من الحوافز أن تجد مصر لنفسها مكانًا في مؤتمر السلام بعد انتهاء الحرب وكان من الكوابح تعريض مصر للقصف الجوي الشامل من طائرات المحور التي كانت حتى آنذاك تتوخى الأهداف العسكرية البريطانية, وأن الاحتلال العسكري الذي كانت مصر ترزح تحت نيره منذ 1882 إنما هو الاحتلال البريطاني... وفيما ذهب أحمد ماهر إلى مجلس الشيوخ لإجراءات إعلان الحرب صرعه بالرصاص شاب اتضح أنه من الحزب الوطني ولم توجه التهمة للإخوان.. وكان ذلك في فبراير 1945 وأسندت الوزارة إلى الرجل الثاني بعده النقراشي باشا، وفي عهده وقعت حوادث مهمة.

الشهيد علي محمد علي

كان التوتر بين الشعب وبين جيش الاحتلال الإنجليزي دائما وحادًا..وذات يوم كان أحد لواري الجيش الإنجليزي يجري في شارع الجامعة ... وكان الشائق على درجة عير عادية من السرعة والنزق، وأمام الجامعة صدم أحد طلاب كلية التجارة –علي محمد علي- وكانت الصدمة قاتلة وهاجت مشاعر الطلبة أن يشيع الفقيد في جنازة وطنية, ولكن الحكومة لم تسمح بذلك.

وصعدت إلى مكتب الدكتور البرادعي مدير القسم الطبي بالجامعة لأطلب منه الإذن للطلاب بتسلم الجثة, ولكنه رفض بطبيعة الحال.

ورتبنا مع الطلبة أن أتجه إلى بوابة العيادة، بينما يخلون لي الطريق قائلين: «وسع لسعادة الدكتور يا جدع.. افتح لسعادة الدكتور يا جدع.. وفتح لي الحارس الباب ودخلت العيادة فإذا جثة الشهيد على طاولت الكشف مغطاة ببطانية. قلت لاثنين من الممرضين: «شيلوا» فقال أحدهم: «بس البانية عهدة يا بيه». قلت سنعيدها لك. وحملا الجثة إلى سيارة الطالب.. (الأستاذ الدكتور فلان فيما بعد) وانطلقنا بالجثة إلى كلية الطب.

وفي كلية الطب كان اللعب على أرضنا... وخبأنا الجثة في مكان كبيرة من البوليس بقيادة اللواء أحمد طلعت (شقيق اللواء محمود طلعت الذي أصبح مدير المباحث العامة فيما بعد).

وتولى «المفاوضة عنا عميد الكلية الدكتور إبراهيم شوقي باشا (أستاذ الأطفال) فاتصل برئيس الوزراء بمكالمة تليفونية انتهت بمشادة بين الجانبين. وخرج شوقي باشا يقول إن لم يسو الأمر فسيدفن الطالب في الكلية على مسئوليتي كان الموضوع منحصرا في جنازة أو لا جنازة، وكان الحل بسيطا خاصة أننا قد وعدنا بأن تكون الجنازة صامتة... ولكن القوة أحيانا تسبق الحكمة.

وسألني العميد إن كان في الإمكان أن يقابله قائد القوة للتفاهم وخرجت من الوبابة إلى اللواء أحمد طلعت فأبلغته رسالة العميد قال: «وهل من المعقول أن آمن على نفسي من تلك الجموع الثائرة؟» ... قلت له: «على كلمتي» ... واجتزت به فناء كلية الصيدلة إلى إدارة الكلية, بينما كان جموع الطلبة في فناء كلية الطب وبنيهما فضاء غير كبير وهنا تسرب النبأ إلى الطلبة فارتفعت هتافات من طلبة الكليات الأخرى (الحقوق والآداب وكنا نحن طلبة الطب نعتقد دائما أننا أهدأ تفكيرًا منهم) وإذا الهتافات تنادي «اقتلوا الضابط.. اقلتوا الضابط»

كان الوضع في غاية الإحراج لي ولطلبة الطب بين هذا القطيع الهائل الذي لا نعرفهم ولا يعرفوننا ولا سلطان لنا عليهم.

واتفقت مع زميلي إبراهيم الشربيني (رحمه الله) أن أوقف على سلم مبنى الباثولوجيا وأخطب في الطلبة فتكون ظهورهم على اتجاه فناء كلية الصيدلة والفضاء بين الفناءين... فإذا وجدني استوليت على مشاعرهم تمامًا و «تسلطنوا » معي... فليأخذ الضابط جريًا من الإدارة إلى البوابة ويخرجه وقد تم هذا فعلا على أكمل وجه والحمد لله وقد أخذت ضدي هذه الواقعة فيما بعد عندما اعتقلت سنة 49، وأخبرني من بعدها أستاذي الدكتور أحمد عمار أستاذ أمراض النساء (رحمه الله) عن أخيه عبد الرحمن عمار مدير الأمن العام آنذاك أنها قيدت في ملفي بلفظ «شديد التأثير في الجماهير».

وفي هذا اليوم أيضًا حطم الطلبة تمثالاً نصفيا للملك فاروق كان يتوسط فناء كلية الطب قام بصنعة الدكتور سامي فرج من أساتذة قسم التشريح، وكان فنانًا هاويًا وموهوبًا... وبأن أن البوليس على وشك اقتحام الكلية ففر الطلبة من شباك صغير كان يفصل بين نادي الكلية ومستشفى قصر العيني القديم ودخل البوليس وعبثا حاولوا العثور على الجثة حتى بعد استخدام الكلب البوليس إلى أن لأن أحد الطلبة (عزيز) وصعب عليه أفراد أسرة الفقيد فدل البوليس على مكان الجثة في مخزن على سطح مبنى قسم التشريح.

معركة كوبري عباس: فبراير 1946

بانتهاء الحرب العالمية الثانية أصبح الشغل الشاغل لمصر مطالبها القومية بالجلاء ووحدة وادي النيل... ولم تشأ السياسة المصرية أن تحرج الحليفة (بريطانيا) بمطالبها في أثناء الحرب... وها هي ذي الحرب قد انتهت وخرجت الحليفة منتصرة.

لكن الجانب المصري كان متهافتا جدًا. واستقر رأي الطلبة أن يطالبوا الأحزاب أن تتحالف وتجابه الإنجليز بجبهة متحدة تسمو فوق الاعتبارات الحزبية.

ورتبنا الحركة الطلابية ورسمناها في اتفاق ببيتي ليلتها, وكانت الخطة أن تكون الحركة داخل الجامعة تمامًا.

وتجمهر الطلبة في الحرم الجامعي وذهب لمقابلة الدكتور على باشا إبراهيم مدير الجامعة لإبلاغه بالهدف النبيل من ذلك الإضراب واستئذانه أن يصرح بفتح قاعدة الاحتفالات الكبرى بالجامعة ليكون فيها المؤتمر الطلابي، وبارك على باشا نبل المقصد واعتذر لعدم فتح القاعة، وعدت فأبلغت الطلاب ولكنني فوجئت بأن الأخ مصطفى مؤمن، وكان آنذاك زعيم الجامعة وخطيبها الفذ يأمر بأن تسير مظاهرة تتجه إلى قصر عابدين لرفع المطالب إلى الملك واستأت إذ لم يكن هذا ما اتفقنا عليه وركبت الترام إلى كلية الطب والذي حدث بعد ذلك أن المظاهرة سارت حتى إذا كانت فوق كوبري عباس تماما فتح الكوبري وأطبق البوليس على الطلبة من طرفي الكوبري في مجزرة كبيرة واضطر كثير من الطلبة إلى الوثوب في النيل، وجرح المئات وقبض على المئات وأدخل الجرحى مستشفى قصر العيني .

وارتدينا المرايل والمعاطف البيضاء وفي زي الأطباء استطعنا أن نصل إلى الجرحى ونطلع على حالاتهم وننصحهم ماذا يقولون في التحقيق.

لم أبت في بيتي في تلك الليلة لكن لدى بعض الأقارب. وكان من حصيلة تلك الليلة قصيدة من أربعة وستين بيتا افتتحها بخطاب لرئيس الوزراء جاء فيها:

هل أسكروك فما غدوت رشيدًا

أو هل حسبت لك العباد عبيدا

أم جاء من دار السفارة منبئ

يروي بأنك لم تزل مسنودا

أم حمستك الحرب فيمن حمست

فرأيت نفسك قائدا صنديدا

لم يرضك الأبطال من قوادها

فبدعت فنّا في القتال جديدا

في وقعة لو مونتجمري خاضها

لرأيته تعبابها مجهودا

وإذا عداك شباب مصر وشيبها

لاقيت خصمًا يا تعيس عنيدا

وإذا جريمتهم بأن نفوسهم

قد أسربت حبّا لمصر عتيدا

يا ليت شعري ويحهم هل عبئوا

جيشا يشذ عن الجيوش فريدا

هل أحضروا بدل المشاة مواشيا

أو اركبوا فوق الخيول قرودا

وعلمت من مصادرنا الخاصة أن في النية القبض علىَّ فهيأت نفسي لذلك, ولم أر الحل في الهرب. وفعلا ذهبت إلى الكلية وفي أثناء محاضرة الباثولوجي جاء موظف يطلبني إلى العنيد (سليمان باشا عزمي) فوجدت عنده ضابطًا وأثنى العميد علي وأوصى الضابط بي خيرًا، وذهبنا إلى النيابة في مبنى محافظة القاهرة . ووجدت جمعًا غفيرًا من الطلاب.

وكان المحقق هو الأستاذ محمد صدقي البشبيشي وقد كان في الثلاثينيات من زعماء مدرستي ( الخديوي إسماعيل الثانوية) ومن الخطباء المرموقين في الإضرابات والمظاهرات. جاء دوري فسألين أين كنت يوم كذا؟ قلت: «قصدت الجامعة لأني كنت أريد أن أستعير من الكتبة كتابًا عن الشيخ محمد عبده.

فوجدت الجامعة قد أضربت.. وذهبت للطلبة أتحرى عن السبب فقالوا هي دعوة لتتحد الأحزاب حتى تكون مصر أمام الإنجليز جبهة واحدة.

قلت في نفسي هدف نبيل وخشيت أن يشوهه المغرضون فذهبت إلى على باشا إبراهيم أخبره بالهدف من الإضراب وأسأله إن كان يسمح للطلبة باستعمال قاعة الاحتفالات حتى تظل الحركة منظمة ووقورة وأبلغت الطلبة أم مدير الدامعة يبارك الهدف لكي ينصح -قد أبدى الطلبة شعورهم- أن ينفضوا إذن ويخلدوا إلى الهدوء.

«وكنت قد شعرت بمغص كلوي اعتاد أن يجيئني فعدت مسرعًا إلى كلية الطب» وهنا أخرجت من جيبي زجاجة صغيرة فيها بول وأمبولة أتروبين وقلت: «إنني كنت أنوي تحليل البول اليوم لولا المفاجأة بإحضاري إلى هنا».

سألني: هل تعرف مصطفى مؤمن؟ قلت: «الأفندي أبو دقن؟ نعم أعرفه فهو مشهور في الجامعة كلها» ثم راح يسألني أسئلة متداخلة ليجد في أي تناقض فلم يجد. وفي انتهاء التحقيق أمر بحجز المقبوض عليهم جميعًا ما عدا حسان حتحوت.

ومما لا أنساه في هذه الفترة إشاعة بأن الأخ محمد شوقي الفنجري (المستشار محمد الفنجري ووكيل مجلس الدولة فيما بعد) قد توفي متأثرًا بإصابته الشديدة في الجمجمة.

وذهبنا لبيته لتقديم العزاء ودخلوالده ولحسن الحظ أنه قال قبل أن يتكلم أحد منا «بيقولوا إنه اليوم أحسن قليلا».. وطوينا عبارات العزاء ولو نطق بها أحد منا لسقط الرحل ميتًا.

وبعد أيام ذهب الملك إلى الجامعة ليفتح مشروع المدينة الجامعية لإسكان الطلاب، فلم يجد في استقباله أحدًا من الطلبة, بل بالعكس كان الطلبة قد حطموا صورته وهتفوا بسقوطه.

ولم يجد الملك مناصًا من إقالة النقراشي فأقيل.

وزارة صدقي

فبراير 46 – لجنة الطلبة العليا

أسندت الوزارة لإسماعيل صدقي ، وهو رجل في غاية الدهاء والكفاءة الشخصية.

لكن ماضية أيام كان رئيس وزارة في أوائل الثلاثينيات أكسبه كراهية الشعب لشدة وطأته على الشعب ومقاومته للحركة الوطنية بقيادة حزب الوفد ... ولم يكن الإخوان يشذون عن ذلك.

ولكن صدقي باشا اتصل بالإخوان واعترف بماضيه السيئ وطلب من الإخوان أن يهبوه فرصة جديدة ليثبت صلابته في مطالبة الإنجليز بحقوق البلاد، واشترط عليه الإخوان أن تكون فرصة محدودة, وحددوا لها المطالب التي يتمسك بها، فإما قبل بها الإنجليز وإما صارح الأمة بفشل المفاوضات وترك لها أن تأخذ حقها بيدها.

وكان من البديهي أن يغتاظ الوفد لذلك لما بينه وبين صدقي من عداء طويل، وتكون حلف من طلبة الوفد والطلبة الشيوعيين الذين كانوا قد اخترقوا صفوف الوفد لدرجة كبيرة، والواقع أن النشاط الشيوعي قد نشأ قبل ذلك بمدة واستأجروا شقة في شارع نوبار باشا أسموها «درا الأبحاث» تعقد فيها المحاضرات والندوات وتكون عاصمة النشاط الشيوعي بين الطلاب، وساعد على ذلك أن الاتحاد السوفيتي كان حليفًا لبريطانيا وأمريكا في الحرب، فوجد نوافذ كثيرة يغزو منها مصر ، وبعد أن كانت الشيوعية محظورة تمامًا ولا يوجد تمثيل دبلوماسي مع أي من البلاد العربية, تغير الحال وصحب ذلك طوفان من نتاج المطبعة السوفييتية يعرض في المكاتب، بل أصبحت هناك مكتبة متخصصة في شارع سليمان باشا.

ومع ذلك لم يكن حزب الوفد والشيوعيون ندا للإخوان في الجامعة ... كانت الجامعة مع الإخوان ... وما زلت أذكر تجمعهم الضخم أمام مبنى الإدارة, بينما الشيوعيون في طرف قصى يحاولون الغلوشة بدون جدوى، وجموع الطلاب تهتف بهم «يأيها النمل ادخلوا مساكنكم» «يا لطيفة كوني لطيفة» إشارة إلى لطيفة الزيات من أقطاب الحركة الشيوعية بين الطلبة آنذاك (رحمها الله).

لكن مصطفى مؤمن –وكان في عنفوان زعامته للجامعة- وقع في خطأ كبير حينما أعلن عن تكوين لجنة عليا للطلبة بطريق الانتخابات وبلغ به ونبا فرط الثقة فلم نبذل من الاهتمام قليلا ولا كثيرا بل إن مصطفى نفسه لم يرشح نفسه للانتخاب، وما حاجته إلى ذلك ما دامت الأمور في قبضته؟

وفي الخفاء بذل الشيوعيون مجهودًا مكثفًا ومنظمًا.. وفوجئنا بأن اللجنة, وكان عددها حوالي الأربعين لم يكن فيها من الإخوان إلا ثلاثة منهم أنا، وطالب من الحزب الوطني كان في جبهتنا وعقدت اللجنة اجتماعها الأول وحضر مصطفى مؤمن، وقال أحد الشيوعيين أنه يلاحظ أن بعض الموجودين ليسوا من أعضاء اللجنة, واضطر مصطفى مؤمن للانصراف.

كانت اللجنة تجتمع دوريّا في أحد مدرجات كلية الطب... وسرعان ما ظهر أن الموضوع ليس هو المطالب الوطنية والمفاوضات الوشيكة, ولكنه الصراع الطبقي وضرورة سيكرى الوشيكة, ولكنه الصراع الطبقي وضرورة سيطرة البروليتاريا وضرب الرأسمالية... إلخ ورغم أننا كنا أربعة فقد وقفنا لهم كالعقلة في الزورب. كنت رافعاً يدي لطلب الكلمة باستمرار، ولكنني لم أكن أقاطع أحدا قط.

وكان يسوؤهم كثيرًا رفع الجلسة لصلاة المغرب. ولاحظت خلال تلك الاستراحة أن الزميلات الشيوعيات يقبلن البشر والترحاب ورفع الكلفة على إخواني الذين لم يعتادوا الخطاب مع النبات بهذا القرب... وذهبت أشكو للأستاذ البنا هذا المسلك، خاصة وقد قرأت في وجه الإخوان شيئا من الأنس والطرب لهذا الحديث، فضرب فضيلته كتفي بيده وقال «خليهم يدردحوا»!

وفي أحد الأيام جاء السكرتير بقائمة أزهرية تحمل خمسة عشر اسما من طلاب الأزهر أعرفهم جميعًا وأعرف أنهم شيوعيون وتوجست من ذلك؛ لأنهم كانوا يريدون ضمهم للجنة, ويوم تصدر اللجنة بيانًا عليه توقيع فلان من كلية الشريعة وفلان من كلية أصول الدين فإن ثقله عند الجمهور سيكون أكثر كثيرا جزعت لهذا الهم الداهم لكنني علمت أن المعارضة لا تجدي لأن معهم أغلبية الأصوات وإذا لابد من حيلة فما الحيلة؟ احتفظت بعادتي في طلب الكلمة, ولكن كلما جاءني الدور طلبت إرجاء كلمتي لآخر الجلسة لتكون هي آخر الكلمات.

وجاء آخر الجلسة وقدمت القائمة الأزهرية للموافقة على ضمهم للجنة وهنا رفعت صوتي، لا يدي فقط، وقلت إن الرئيس وعدني بأن تكون لي آخر الكلمات وأعطاني الإذن بالكلام فقلت: «تعلمون جيدا أن الشعب المصري شعب مؤمن ومتمسك بدينه ولا يعترف بغير القيم الإسلامية (وهذا كلام يغيظ الشيوعيين جدًا) وتعلمون أن كلمتنا نحن وأمثالنا لا تساوي شيئا بجانب كلمة واحدة من هؤلاء الذين ينتسبون إلى الإسلام ويمثلونه.. وأن الأزهر كان دائما معقل الوطنية في مصر وعنوان الجهاد ضد الاستعمار (مزيد من الغيظ) وهذه قائمة بعدد من إخواننا الأزهر يين الفضلاء وأنا أرجوكم –لا بل آمركم- أن توافقوا على ضمهم للجنة»... وأخذت الأصوات فكانت الأغلبية ضدي اعتادوا أن يكونوا ضدي على الدوام وخيل إليهم أن القائمة مقدمة منا لا من قيادتهم.. فصوتوا ضد ما قلت ولم ينتبهوا أنهم صوتوا مع ما أريد... وهنأني زملائي فيما بعد.. وجاءني الزميل إبراهيم الشربيني رحمه الله (ولم يكن شيوعيّا، إنما كان وفديا لكن مع جبهة الشيوعيين ) قائلا: «آه يا أخ!» وفي المساء عندما رويت الواقعة للأستاذ البنا كان في غاية السعادة.

ولحسن الحظ لم يكن للجنة تأثير شعبي يذكر وإن كانوا حاولوا أن يمدوها لتكون «اللجنة الوطنية العليا للطلبة والعمال» فكانت نافذة لهم على العمال.

ولم يطل الأجل باللجنة فقد تغيرت الظروف فإن إسماعيل صدقي لم يستطع الوفاء بم اتفق عليه مع الإخوان في مفاوضاته مع الإنجليز... وكان قصارى جهده مشروع معاهدة صدقي/ بيفن (وزير الخارجية البريطاني) وأصر عليه, فعادت الإخوان إلى المعارضة من جديد وأقيلت وزارة إسماعيل صدقي أو استقالت.

وزارة النقراشي

وخلافا لكل التوقعات أسند الملك رئاسة الوزارة إلى النقراشي مرة أخرى. وكانت القضية الكبرى هي قضية لاحتلال الإنجليزي مصر .

فألف النقراشي وفدًا للمفاوضات ولكنها تعثرت, ورأى شكوى بريطانيا في مجلس الأمن.

ومن حسن الحظ أن الذي كان يرأس المجلس في ذلك الوقت هو فارس الخوري مندوب سوريا وكان خطابه في الواقع أقوى كثيرًا من خطاب النقراشي .

وفيما كان مجلس الأمن منعقدًا إذا مبصطفى مؤمن يتقدم من مكان الزوار ويشرع في إلقاء خطاب على الأعضاء داعيا لإنصاف مصر من الإنجليز, ولكن حرس المجلس أخرجوه بالقوة, وتقدم أحمد كامل قطب المحامي في محاولة أخرى كذلك لكنهم أخرجوه أيضًا وقد احتل ذلك حيزًا مهما على صفحات الجرائد المصرية والعالمية.

وعلمت أن النقراشي غضب لذلك عضبًا كبيراً. وسمعت فيما بعد من المرحوم عبد المجيد إبراهيم صالح باشا وزير الأشغال آنذاك وعضو وفد المفاوضات وكان قريبًا لي، أن النقراشي عندما علم أن مصطفى مؤمن مهندس في وزارة الأشغال طلب منه فصله من الوظيفة, فأجابه يا باشا إنه قام يعزف على نفس نعمتنا ولن يمكنني أن أفصله.

في هذه الأيام أيضا مارس قسم الطلبة وبتدبير مصطفى مؤمن نشاطًا كبيرًا بالتوعية الشاملة بقضايا البلاد وكانوا يزورون الفلاحين في الحقول، وابتكر مصطفى مؤمن اصطلاح «الشيخ جلاء العسكري».

فلسطين

بانتهاء الحرب العالمية صحت قضية فلسطين من جديد.

خاصة أنه قد عاد سيل الهجرة اليهودية إليها رغم أن الإنجليز وهم أصحاب الانتداب على فلسطين كانوا يظهرون المعارضة لذلك إلى أن يتقرر مصيرها دوليّا.

وكان المندوب السامي البريطاني في فلسطين يهوديّا فسن قانونًا بأن العربي الذي توجد عنده رصاصة يعاقب بالسجن خمس عشر سنة, على حين كان اليهود جزء من الجيش البريطاني يسمى الفيلق اليهودي وكان مشاركًا بالحرب، مما أعطى فرصة كبيرة للتدريب ولتهريب كميات كثيرة من الأسلحة، وهذا الفيلق اليهودي هو الذي كون العصابات العسكرية الثلاث، وهي الهاجاناة والإرجون زفاي ليومي والاسترن.

وقد استنكر اليهود هذا التباطؤ البريطاني فانقلبوا ضد القوات البريطانية في فلسطين ، ومما أذكره لهم شنق عدد من الجنود الإنجليز وتعليقهم في الشجر، وحادث نيف فندق الملك داود في القدس، وفيه مقر القيادة البريطانية وكانت الخسائر مروعة واعتبر الإنجليز بيجن إرهابيا خطيرًا مطلوبًا القبض عليه ورصدوا جائزة كبيرة لمن يدل عليه.

وكان الإخوان قد احتضنوا قضية فلسطين من زمن مبكر كان أول سماعي عن فلسطين من كتاب «النار والدمار في فلسطين » الذي وزع بوفرة وأنا طالب بالسنة الثانية الثانوية, كما كنت لا أسمع عن الإخوان في تلك الأيام كان كل الذي يعرفه الشعب المصر ي أن كل ما هو شرق مصر يسمى الشام ولا يميزون بين القدس ودمش وساعد الإخوان أدبيا ثورة الهضيبي بزعامة الحاج أمين الحسيني مفتي القدس، وكانت ثورة ناجحة لولا أن الحكومات العربية أقنعت الفلسطين يين بإنهاء الإضراب على وعد أن تتولى هي الدفاع عن حقهم, وهو أن تبقى لهم أرضهم ولا يقتطع منها وطن قومي لليهود كما سبق أن أعلن الوزير البريطاني بلفور أن الحكومة البريطانية تنظر بعين العطف إلى إنشاء وطن قومي لليهود بفلسطين مع عدم الإخلال بحقوق سكانها الآخرين، وكان ذلك في أثناء الحرب العالمية الأولى.

ودخلت القضية الفلسطينية مرحلة مفاوضات عقيمة بينما ازداد سيل اليهود إلى فلسطين , ونشطت الوكالة اليهودية والصندوق اليهودي العالمي في شراء الأراضي العربية بأسعار فائقة الإغراء، وللأسف كان معظم الذين باعوا من الأغنياء (آل سركيس وغيرهم) ونشط بناء المستعمرات اليهودية المسلحة.. وعاد من جديد الصراع المسلح بين العرب واليهود ومن الأسف أن الزملاء الشيوعيين من طلبة الجامعة آنذاك كانت عواطفهم مع اليهود، فقد كانوا معجبين بنظام الكيبوتز وأهمية الهستدروت (اتحاد نقابات العمال) وهو أشبه بالنظام الشيوعي. وكانوا يعيبون علينا اهتمامنا بفلسطين قائلين لنا إن الجهاد الحق هو في فايد (مركز القوة البريطانية بمنطقة قناة السويس ) وليس في فلسطين وفيما بعد عندما جاء فعلا دور الجهاد في فايد لم يكن للزملاء الشيوعيين أثر.

تكونت الهيئة العربية العليا لإنقاذ فلسطين بل، تكونت حكومة عموم فلسطين في المنفى برئاسة أحمد حلمي باشا... واحتضنتها جامعة الدول العربية التي تكونت بعد الحرب بإيحاء من مستر إيدان وزير خارجية بريطانيا ورأت بريطانيا أن ترتاح من هذا العبء فأعلنت أنها ستنهي انتدابها على فلسطين وتركت تقرير مصيرها لهيئة الأمم المتحدة التي تكونت كذلك بعد الحرب.

وفي سنة 1947 قررت الأمم المتحدة تقسيم فلسطين إلى دولتين، واحدة عربية والثانية يهودية, ورسمت لذلك خطّا اسمه خط التقسيم, وكان طبيعيا أن يفرح بذلك الجانب اليهودي ويقبله وأن يغضب الجانب العربي ويرفضه.

ونظم الإخوان مظاهرة كبيرة لتخرج من الأزهر وتذهب إلى قصر عابدين كانت المظاهرة سليمة وكنت من ضمن المنظمين فيها.

وعند اقتراب المظاهرة من محل عمر أفندي (أورزدي باك يهودي) انطلقت خراطيم المياه من المحل ربما خوفًا من أن تعتدي عليه المتظاهرون... وكان كل رد الفعل أن ابتعدت المظاهرة من أمام المحل لتبعد عن ندى الماء وتستمر الجموع في سيرها في نظام.

ووصلت المظاهرة إلى ميدان عابدين بينما نهايتها لم تزل حول جامعة الأزهر ولكن أفلتت أعصاب البوليس فهاجمت الفرسان المتظاهرين واستهدفت الأستاذ البنا بالذات حتى عزلته داخل حلقة من الخيل، لكنه انتبه فأخذ يضرب الخيل على أنوفها فتضطرب وتحجم ويقع بعض من فوقها، حتى اقتحمها الإخوان وأحاطوا بالمرشد من جديد، ونتيجة ضرب النار أصيب المرشد ببعض الرشات في يده وانتشر الخبر فلما كان المساء جاءت الوفود من الإخوان ومن السياسيين لزيارته وتهنئته بالسلامة.

وهنا أصبح واضحًا أن دخول الإخوان إلى الساحة الفلسطينية أصبح ضرورة.

ونشطت عمليات شراء الأسلحة من مخلفات الجيوش في الساحة الشمالية والصحراء الغربية.

وفتح باب التطوع فتهافتت عليه ألوف الإخوان ولم يكن التدريب العسكري سريا، خاصة أن اللجنة العربية العليا كانت تؤيد هذا العون التطوعي.

واقترب موعد امتحاني النهائي لبكالوريوس الطب (ديسمبر 47) فاستدعاني الأستاذ المرشد لجلسة خاصة ليسألني ماذا أنوي أن أفعل بحياتي بعد التخرج إن شاء الله.

أخبرته أنه ربما كان أبرع استهلال لحياتي الطبية أن أذهب لعلاج المصابين من المناضلين الفلسطين يين فوافقني على ذلك تمامًا.

كذلك أوصاني أن أقرأ كتابًا اسمه «الدكتور كاجوا- أو الزعامة في الشرق» وأخذت أجوب مكتبات القاهرة واحدة تلو الأخرى بحثًا عن هذا الكتاب دون جدوى.

حتى أذن الله أن أعثر عليه بالصدفة المحضة على سور الأزبكية، وكانت حديثة الأزبكية آنذاك متسعة وكأنها رئة تنفس بها القاهرة , وكان لها سور يستعمل سوقًا للكتب المستعملة وفرجت بالكتاب كثيرًا ولعله عندي حتى الآن، يحكي قصة طبيب ياباني اعتنق المسيحية وركز جهوده الرائعة في نشر المسيحية باليابان.

بدأت سنة الامتياز بمستشفى الدمرداش. وبعد أسبوعين جاء الأخبار بأن طلائع الإخوان اشتبكت باليهود، وهي تهاجم مستعمرة دير البلح (كفار ديروم) واستشهد منهم اثنا عشر أخا.

كان البنا مزعجًا فكلفني الأستاذ المرشد بالتوجه إلى هناك فورًا لتقصي الظروف وكتابة تقرير له.

وهرولت فأعددت جواز السفر وتودعت من أسرتي ومن مخطوبتي (زوجتي بعد ذلك) ولكن في آخر لحظة جاءت الأخبار بأن دولة النقراشي باشا رئيس الوزراء لم يوافق على منحي تأشيرة خروج(!!) فألغيت هذه السفرة.

وجدير بالذكر أنني لما أعلنت عزمي على التطوع إلى فلسطين عارضني أهلي وأصدقائي وأساتذتي بالكلية ما عدا والتي التي قالت «أهو ده الواجب اللي مقدرش أمنعك عنه».

وسرعان –بل بعد أيام قلائل – ما جدت ظروف أخرى فإن الهلال الأحمر المصري كان قد أقام في مدينة الرملة مستشفى بقيادة الدكتور أ.ن. باشا من لواءات الجيش المتقاعدين لكن المستشفى تعثر ودخل في مشكلات لا حصر لها وساءت السمعة وكثر الشكاوي، فطلب الهلال الأحمر من الأستاذ المرشد ثلاثة أطباء ليتسلموا المستشفى.

سافرت أنا وصديقي المرحوم الدكتور أحمد سعيد خطاب (لم يكن من الإخوان لكنه آثر صحبتي) وهبطنا في مطار اللد، وبعد أيام لحق بنا الدكتور أحمد الملط –رحمه الله- وغادر الباشا إلى مصر بناء على رسالة حملتها إليه, وستلمنا المستشفى والهيئة التي كانت بها, ولعلّي أورد هنا أبياتًا من قصيدة ألفها الوالد في أثناء غيابي هي:

أهبط على أرض السلام جعلت يا ولدي فداك

ضمد جارحات العروبة سدد المولى خطاك

وامسح دموع الثاكلات عساك تسعدها عساك

واذكر فلسطين الجريحة وانس أمك وأباك

إني وهبت؛ للجهاد وأين لي سيف سواك

صهيون لا أدركت ما ترجو وفض الله فاك

اليوم بؤت بحسرة وحنيت ما غرست يداك

فأقطع يمينك حسرة فهي التي صفعت قفاك

ولا أذكر باقيها، ولكن كان هذا هو الشعور وهو الأمل فلم نكن ندري ما تخبئه الأيام.

لم نكن نعلم أن يد صهيون ستصفع قفانا نحن.

وأن فلسطين سيغدر بها الصديق قبل العدو ويتاجر بها المتاجرون ويساوم عليها المساومون، وما أبعد البون بين قصيدة الوالد وبين قصيدة أخرى كتبتها أنا بعد سنوات وجاء فيها:

ولم تزل تشتكي قيدًا وقضبانًا

غدر «الغريب» بها لون وكم شهدت

قضية كسراب الماء مزمنة

كم استغل محامونا قضايانا

قميص عثمان كل يدعيه فيا

ويحي القميص المعَني.. ويح عثمانا

ليلي: تعددت الأقياس نائحة

وكل قيس على ليلاه غنانا

(من ديواني: جارح وأفراح)

ولقد رأيت –بعد تردد- من المناسب أيضًا أن أثبت هنا الخطاب الذي أرسلته قبل الرحيل لمخطوبتي (زوجتي) سلوناس وكذلك ردها عليه.

ولئن كان هذا من الخصوصيات بطبيعة الحال، فقد رأيت من المفيد لشبابنا في الأيام أن يعلموا كيف كان أسلوب المراسلة بين خاطب شاب وبين مخطوبته... ويقارنوه بأسلوب اليوم إن كان ثمة أسلوب:

بسم الله الرحمن الرحيم

إبريل 1948

سلوناس

سلام لك ورحمة الله وبركاته

أسعد الناس من إذا رحل رحل مطمئنا لا ينوشه القلق على شريكته... واثقا من أنها نبع من القوة يغذيه في غربته فيشحذ من عزمته.

وأشقى الناس من اغترب فلم يزل طيفها أمامه شاكية أو باكية... فهي ثغرة في نفسه وجمرة في كبده وشتات في فكره ووهن في كيانه. أعشق القوة وأعشقك..

فتلبسي بمعاني القوة في باطنك وظاهرك تكفيني عذاب التناقض بين ما أحب ومن أحب يسلم الكل بسلامة مكوناته بصحة اللبنة يصح البناء...وبصحة الوحدات الإنسانية تصح الإنسانية.

وأنا وأنت وحدة في الإنسانية ولبنة في البناء ما يشفع لها أن نصفها قوى ونصفها ضعيف كلا بل نحن نصفان قويات في لبنة الحياة الحركة, والسكون الفناء! أم تودين أن تكون حياتنا تافهة فاترة خامدة ليس فيه إلا الموت؟

وبعد أيتها الحبية فإنني أود أن أكتب إليك وجعلت لك جليستي بعد فكرتي وقد مضي من الليل هزيع, وكاد هزيع ويشاء العلم في المستشفى أن يقاطعنا فتمر ساعة كاملة بين السطر الأول والسطر الثاني من هذا الكلام، وتمر ساعة في خلاله فهي الآن الثانية بعد منتصف الليل، وأعود فاجلس إليك.

ولو أنني سافرت في المرة الأولى لكان وداعا أبتر. أما وقد كتبت إليك فيريحني أن أذهب بعد أن سكبت معاني على هذه السطور وأودعتها عندك فعسى ألا يكون سفري بعد ذلك أمرًا على غرة. سأسافر إن شاء الله سفرًا، مشرفًا لا يخجل صاحبه يوم القيامة.

وسأغيب مدة طويلة.

طويلة لا بعدتها من الليالي والأيام. ولكن لأنني لن ألقاك في خلالها.

وقد علمت أنني ما فرغت من وداعك مرة إلا وأنا شارع في انتظار اللقاء التالي وفي استعجال هذا اللقاء.

وتعلمين من أنت لدي ومن أنت عندي.

فلتعلمي أنني سعيد بالسفر يا أحب الناس إلى وأعزهم عليّ.

أنا سعيد بهده الفترة من الفراق تماما مثلما كنت سعيدا إذ تسيرين بجواري، ونحن نتقي اللمسة وغير اللمسة على ظمأ إلى المسة وغير اللمسة. والنفوس العميقة الصافية المؤمنة أقوى من سائر النفوس على ما تعتري به الحوادث والظروف.

والعشاق المؤمنون يدينون بالمعاني ويدينون لها الأحاسيس. ولقد يستعذبون الفراق ويطربون للبعاد ما دام ذلك الوجه الله أو لوجه معنى كريم، والحب الذي بيننا قبس من روح الله الأزلي. سيان لديه البعد والقرب والمغيب والمحضر.

ولن تفصلنا مسافة مكانية ولا مسافة زمانية. بل نحن على الوصال القائم والشهود الدائم. وذلك من فضل الله.

وتعلمين أننا نظلم نفسينا لو وكلناهما بما نفرضه على سائر الناس وما أطالب القنديل بضوء شمعة. ومن زاد فضل الله عليه زاد حق الله عليه.

وإنما بنيت بك على صحبة الدنيا والآخرة ففيم تخافين ومم؟ ولو أنه الموت لكان بابًا نلجه إلى ملتقى يضمنا لا إلى منشعب نفترق عليه.

وما دمنا صحبة من قبل ومن بعد فسيان عندك وعندي أن أمر قبلك أو تمري قبلي.

أختاه... الخلود أرسخ من أن يهزه أمر الدنيا.

والدنيا في ذاتها أرسخ من أن يهزها أمر وقتياتها ومؤقتاتها وعوارضها وأعرضها.

ولذلك فإن سفري إلى فلسطين لا يستطيع أن يحول عين الأمل والرجاء عن نجاحك في السنة الثالثة, ثم تخرجك ... ثم المعيشة معك في بيتنا الذي يبرح بنا الشوق إليه. أتفهمين يا سلوناس؟ هو بيتنا نحن الاثنين ... أنت وأنا لي عرض الجهاد إذ ... أما جوهره فموكول بك معقود عليك.

وأستحلفك بالله ألا تقصري فيه لا من أجلك ولكن من أجلنا وأنت تعلمين.

أنا ماض إذا لأجاهد. وأنت باقية لتجاهدي. فليبذل كل وسعه. أما أنا فسعيد على البعد سعادة المطمئن الراضي لا سعادة الذي يدرع بالقسوة ويتكلف الخشونة. فكوني كذلك أسعد بك في الصحو والحلم. قد كفتني نفسي أمر نفسي. فهل تكفينني أمر نفسك؟ حقا؟ شكرًا!

وما يغيب عني كما لم يغيب عنك أن هذه الفترة التي نفترق فيها قد تكون مليئة بالأحداث والأعاجيب... وقد يولد ناس ويذهب ناس.

وقد يشفي ناس ويمرض ناس. وقد تلين الحياة أو تجف. ولكن كوني دائما أجف من الحياة على حاليها.. وافعلي دائما ما كنت أفعله أنا لو كنت موجودا وأنت أعرف الخلق بنفسي... واستهلميني أمرك في السر والعلن.

وغيري أي شيء إلا أنك لي وأنني لك. ذلك كلام إذا جاوبتني به -وأنت كذلك- فليس في السفر عقبات وليس فيه هموم وليس فيه الشيطان.

وقفي مواقفك لا وحدك ولكن معي. أما هناك فسأكون معك...ولن أتركك طرفة عين ولا أقل من ذلك وأنت العون، وأنت المدد إن شاء الله كل أمر يهون مادمت تهونينه فكوني أكبر من كل شيء يصغر أمامك كل شيء واجعلي محور حياتك الصلة بالله. ادخلي رجابه وعيشي في كنفه.

واجعلي ما بينه وبينك ودا عامرا. وما أردت فخذي منه. واسأليه لنا الخير كل الخير.

وما دمت توصيني الخير بصحتي، فلأقم لأنام كسرة من الليل. ولئن تركتك مسطرا فيما أتركك مفكرا... أيتها الحبيبة.

هي رسالة لك أيتها الحبية كان من الجحود ألا تناليها وهو شعور في أيتها الحبيبة يكون من الجحود ألا أومئ إليه.

وما أنا ببالغ على الورقة ما أشتهي، فحديث نفسي ونفسك لا ينتهي ولكنها قصاصة ورمز وشعيرة. لك بعدها ما تعلمين وأكثر مما تعلمين.

بل هو وداع إلى حين. من النفس المطمئنة ... حتى ترجع إليك راضية مرضية. فاحفظي عني وصوني لي يا أيتها الأخت الوفية والزوجة المخلصة.

وإذا رحلت فزوديني من بطولتك وصلابتك ما تزوديني من حنوك وعطفك.

وفيضي على من إيمانك العميق وروحك الصافية ونورك الغامر.

ونحن من قبل ومن بعد على كف الله وبعينه ولك الحب وعليك السلام يا سالوناس.

حسان

بسم الله الرحمن الرحيم

حسان...

بسم الله أنت ذاهب إلى فلسطين وفي سبيل الله والإنسانية ما أنت مقدم عليه, ومن أجل الأوطان العربية المقدسة قد طاب لك الجهاد ، بل أنت تدرك أن كل جهاد في أي بلد عربي إنما هو جهاد في سبيل مصر ، وقد أصبحنا نؤمن أن السبيل الوحيد للتخلص من الاستعمار على اختلاف صوره، هو اتحاد العرب جميعا في أنحاء الأرض اتحادًا معنويًا وماديًا يكفل لهم عزتهم ويجدد لهم مجدهم وسيادتهم.

وأنت تدرك أيضا أن هذا العمل الباسل الجليل الذي تقدم عليه ليس إلا أول خطوة في سبيل تحقيق آمالنا القومية. وقد شاء الله أن تبدأ جهادك في فلسطين، فلعل مشيئته العالية ترعاك حتى تعود إلى مصر فنواصل الجهاد سويا في مختلف الميادين.

وكم كنت أتمنى أن أشاركك هذا الشرف وأن أصحبك في رجلتك هذه إلى فلسطين ولكن يبدون أن الأقدار تريد أن تميزك وأن تجعل لك على درجة حتى في الجهاد .

لا يعلم الغيب إلا الله، فلا تدري أنت ولا أدري أنا ماذا سيجل بنا في هذه الشهور الستة التي ستفرق بيننا، ولكن لك أن تعلم أن حياتك هي حياتي, فاحرص عليها ما استطعت وأن روحك متصلة بروحي إذا نالها خير فأنا معك فرحة طروبة, وإن آلمها أمر فأنا معك متألمة مواسية, وأن هذه الصلة سرمدية باقية ليسلها انقطاع على القرب أو البعد، ولا لها امتناع حتى لو امتنعت عن أحدنا أو كلينا تلك الحياة الدنيا.

ليس لدي كثير من القول أو جهة إليك فإن في قوة إيمانك ذخيرة أطمئن إليها، ولكن لدي كثيرا من الرجاء أو جهة إلى الله لعلي القدير أن يحصنك بعنايته وأن يكتب لك السلامة في كل حركاتك وسكناتك وأن يبارك في جهادك, وأن نلتقي على خير إنه سميع مجيب.

سلوناس

ونعود للمستشفى ولي أتصدى لتفصيلات العمل بالمستشفى، فقد أعدتُ بها نوتة يومية أصدرتها دار الهلال بعد عشرات من السنين ضمن سلسلة كتاب الهلال، وكانت شائقة ومسلية جدا..

بعنوان «النكبة الأولى 1948 مذكرات طبيب مصري في فلسطين » لكن أعرض لبعض الملامح بكثير من الإيجاز. كانت اللد والرملة من آمن الأماكن بفلسطين ... وكادتا تكونان مدينة واحدة لولا أربعة كليومترات من أراضي الوقف المزروعة تفصل بينهما ولكن ظلت القرى تسقط في يد اليهود من حولهما لقلة السلاح مع العرب.

لم يكن العرب تحت قيادة واحدة, لكن أفراد يجمع لك منهم حوله عددًا من الرجال، وربما على مستوى القرية, ويسمى نفسه «الزعيم» ربما كان التشكيل المعقول هو ما سمى جيش الإنقاذ بقيادة فوزي القاوقجي، وقد أحرز انتصارات في الجبهة الوسطى لكن قتلته قلة المدد.

وكان لكل من الملك عبد الله والحاج أمين الحسيني أنصار ربما تقاتلوا حتى في المسجد عندما يدعو الخطيب اللهم انصر الملك عبد الله أو الحاج أمين بحسب الحال.

وأعلن الإنجليز أنهم سينهون الانتداب في 15 مايو 1948 ويسحبون قواتهم. ومن قبل هذا التاريخ أخلى العرب يافا (وهي عربية حسب التقسيم) وذهبت إليها أحمل الجرحى من المستشفيات إلى قارعة الطريق بالرملة حتى لا يقعوا في يد اليهود، إذ أنهم بلا شك سيدخلون يافا في اللحظات الأولى من يوم 15 مايو 48 ذهبت إليها أربعة أيام متوالية... لم يكن فيها إلا عشرات من الناس وضحايا الحرب في المستشفيات. لا أنسى مشهد كلب في الشارع يعرق عظمة. ولكنها كانت عظمة ذراع آدمي ... الصمت والخراب ... كانت المآذن في يافا أشبه شيء بشواهد القبور، ومع ذلك انبعث منها الصوت الوحيد الذي سمعته في يافا.. كان ينادي «الله أكبر.... الله أكبر».

في إحدى مرات عودتنا إلى الرملة كانت أمامنا إحدى سيارات الجيش البريطاني، وفيما نحن نزمع أن نسبقها أشارت لنا بالتوقف. كان معهم جهاز لاكتشاف الألغام فاكتشف لغمًا في الطريق... انتظرنا حتى تصرفوا فيه وحمدنا الله, وكل شيء بقضاء الله وقدره. وذكرت يوم كنت أسير مرة بشارع المنيرة بالقاهرة حيث كانت سيارة تجري على الأرض وحدأة تحلق في الجو: وكأن الحداة أبصرت هدفا فانقضت عليه فمرت عليها عجلة السيارة فهشمتها: أفبعد أن تقتل السيارة العابرة الحدأة الطائرة يغفل الإنسان عن القضاء والقدر؟

وفي 15مايو أعلنت الدول العربية السبع أعضاء الجامعة العربية أنها قررت إرسال قواتها «لتأديب العصابات اليهودية في فلسطين ». ويا ليتها لم تفعل!

بخروج الإنجليز صارت المواجهة ثنائية بين العرب واليهود... فرق التسليح فرق كبير... الحفلات الساهرة تقام في القاهرة في مبرة محمد على والهلال الأحمر وغيرها وغيرها لنصرة فلسطين ، والمناضلون في فلسطين ليس لديهم مدفع, ورصاص البنادق عملة صعبة من الصعب تعويضها. وضاقت الحال في الرملة لشح مواد البناء عملة صعبة من الصعب تعويضها. وضاقت الحال في الرملة لشح موارد الماء والغذاء والدواء ... وصلنا إلى حد الاعتماد على حمام سباحة قديم مصدرًا للمياه...وتكررت الأيام علينا وطعامنا الجبنة والبصل ... وامتد العمل في غرفة العمليات مواصلين النهار بالليل.

وفي كل يوم يلتهم اليهود جزءًا من القرى والأراضي حول اللد والرملة حتى ضاق الخناق عليهما رويدًا رويدًا ... وأصبح اليهود حولهما كالسوار يحيط بالمعصم. وفي إحدى الليالي جاءت رسالة تقول: «إذا سلمتم فإننا نؤمنكم على حياتكم وإذا لم تسلموا فعلنا بكم كما فعلنا في دير ياسين»...وهي القرية التي خربها اليهود عن آخرها وقتلوا من فيها إلا ما يعد على أصابع اليد الواحدة إذا أتقنوا الاختباء كانوا يذبحون الطفل بين يدي أمه، وكانوا يتراهنون على الحوامل وهل في بطنها ذكر أو أنثى والسكين مصداق الرهان... كان من الناجين طفلان جيء بهما إلى فيما بعد في رام الله مصابين بالشلل، خبأهما أبواهما في زير ماء فلما خرجا وجداهما مذبوحين.

كان رد الرملة على الرسالة مختصرًا... «لن نسلم الرملة للكلاب والأوغاد. وإذا كان فيكم شجاع فهاجموا الرملة الليلة».

وصاح فلاح يعمل في حقله بعد العصر: «يا أهل الرملة ... اليهود قادمون»، وأصابته رصاصة أتت به المستشفى فكان أول المصابين في معركة الرملة. وأخذ اليهود يهجمون طول الليل في دفعات كأنها أمواج البحر ويقترب الضرب حتى أحسبه في شرفة غرفتي, ينقضي الليل ونحن نظن أن اليهود قد دخلوا البلد، ولكن نور النهار يبين أنهم لم يدخلوا تكرر ذلك ثلاث ليال. كان المدافعون عن الرملة في حدود ثمانين متطوعًا مسلحين بالبنادق. لكن عندما جاءت الليلة الرابعة وبدأ الهجوم لم يمض إلا قليل فإذا أصوات بنادقنا كالجواد التعب كانت كالمطر الذي يوشك أن يتوقف... نفدت الذخيرة... طلقة هنا وطلقة هناك، ثم توقف تمامًا بنفاد آخر رصاصة، ولم يكن على اليهود إلا أن يدخلوا آمنين. ترددوا فترة نصف ساعة كانت هي التي قلبت الميزان سمعنا صياحًا وصراخًا وإذا مجموعة من اللواري تحمل دفعة من بدو شرق الأردن كانوا في غاية الضراوة... لا يعرفون الانبطاح أرضًا ولا الحذر من الهجوم، وكانوا كالمعجزة في دقة إصابة الهدف، وكانوا يتوزعون اليهود فيقول الواحد لأخيه هذا لي وهذا لك... وانكسر الموج اليهودي على صخرة الرملة: وعادت الرملة آمنة من جديد.

وكانت اللد والرملة تقعان في القطاع الذي تشرف عليه الأردن ، ولكن لم تكن بهما حتى الآن قوات من الجيش الأردني (كان اسمه الجيش العربي) وكان إنجازه الكبير وربما الوحيد الاستيلاء على الدرس القديمة وإخراج جاليتها اليهودية.

وبضغط دولي قبلت الدول العربية هدنة لمدة شهر... ويا ليتها لم تفعل!

على الجانب اليهودي أعيد تسليح القوات اليهودية تسليحًا عصريًا قويا وفي الهدنة وصلت الرملة قوة أردنية بقيادة ضابط اسمه إدريس بك، وكان معها مصفحات ومدرعات فاطمأن الناس وعادة أعداد كبيرة من العائلات التي كانت قد هاجرت ثم انتهت الهدنة بعد شهر، واستؤنف القتال فإذا الجيش الأردني ينسحب بهدوء من ضلع المربع الذي كان عليه أن يدافع عنه، ودخل اليهود،وسمحوا للناس بالرحيل ومن يومها اختفى اسم التقسيم وحل محلة اسم قضية اللاجئين كنت في هذا اليوم في عمان عائدًا من مصر فلم يمكن لي أن أدخل الرملة التي بقي بها الزميلان أحمد سعيد خطاب وراسم الخيري، وانضممت أنا إلى المقر الجديد الذي كان قد انسحب إليه معظم المستشفى بمدرسة الفرندز بمدينة رام الله.

أخبرني قائد محلي من قواد المناضلين أنه عرض على القادة الأردنية استعداده لإعادة استيلاء على الرملة برجاله بشرط أن تدخلها القوات الأردنية بعد ذلك للاستحكام فيها، ورفضت القيادة الأردنية وهددته بضربه من الخلف إذا حاول ذلك.

وكنا في حداد وحزن على فقد الشهيد حسن سلامة (توفي بالرملة في مستشفانا بقذيفة في الصدر) والشهيد البطل أحمد عبد العزيز في القطاع الجنوبي، حتى جاء سقوط اللد والرملة فكانت الصدمة والكارثة ونقطة التحول.

أما القطاع الجنوبي فكانت قوات الإخوان بقيادة الأخ محمود عبده في صور باهرة متعاونة تمامًا مع الجيش المصر ي. وكثيرا ما كانت القيادة المصرية تسند إليها العمليات الصعبة.و كانت جهودهم موضع التقدير. من ذلك أن اليهود احتلوا تبة مرتفعة وحاولت قوات الجيش مرارا أن تستعيدها دون جدوى، فندبت لها مجموعة من الإخوان الذين استولوا عليها، ونشرت جريد الأهرام البلاغ اليومي للقيادة التي ذكرت هذه الواقع وقررت تسمية الموقع «تبة الإخوان المسلمين » .... وفيما بعد عندا استدعى الجيش/ اللواء أحمد فؤاد صادق للشهادة في قضية ضد الإخوان شهد بهذه الشهادة وبحسن بلاء الإخوان وعونهم للجيش المصري وحمايتهم لجناحه, وقال إنه كان قد تقدم بطلب نياشين وأوسمة عسكرية للإخوان، لكن حال دون ذلك قرار حل الإخوان والأمر بالقبض عليهم لإدخالهم المعتقلات.

أما الذي تلا ذلك فانتصار إسرائيل على الجيوش العربية, وانسحاب الجيش المصري الذي حوصرت بعض قواته في الفالوجا.

كان بينها جمال عبد الناصر وكمال الدين حسين ومعروف الحضري (من الإخوان ) الذي قام بدور رائع خلال الحصار حتى تم الانسحاب بقيادة السيد طه الذي سمي آنذاك ضبع الفالوجا.

وخرجت إسرائيل وقد استولت على أرض شاسعة خارج حدود التقسيم، منها يافا ومنها صحراء النقب (وإيلات) التي استولت عليها حتى بعد إعلان الهدنة ووقف إطلاق النار. ووضعت شروط الهدنة في مفاوضات بين إسرائيل وكل من الدول العربية منفردة في جزيرة رودس. ولم تفعل الأمم المتحدة شيئاً حيال هذا التجاوز، بل إن وسيطها الكونت برناردوت الذي كان يراقب الموقف بعين محايدة قتله اليهود بإسقاط طائرته.

وعاد جيش مصر مهزومًا, وفي فمه مرارة كان لها ما بعدها، خاصة عندما عرف أن الملك وبعض الكبار تعاملوا مع بعض شركات السلاح كوكلاء له، واتضح من بعد أن معظمها كان أسلحة فاسدة سببت كثيرًا من الضحايا بين الضباط والجنود.

من ذكرياتي الشخصية العزيزة في فلسطين أحداث حصار الرملة وما كان فيه.... وعدد من جرحى اليهود المأسورين أحضروهم للمستشفى، وجاء ناس ليقتلوهم فتصديت لهم وقلت على جثتي, وألقيت خطبة عن تعاليم الإسلام في شأن الأسرى من الأعداء... وعاملتهم أحسن معاملة نفسياّ وطبياّ وإنسانياّ... ثم ذهبوا في تبادل للأسرى بمعرفة الصليب الأحمر لكن بقي منهم واحد كانت إصابته خطيرة اسمه نفتالي زاينفلد....

نشأت بيننا ألفة وكان قلقا على طفله الذي يبلغ سنة من العمر، حتى جاء الوقت وتسلمه الصليب الأحمر وانصرف وهو يقول لي مودعًا: «أنا مدين لك بحياتي يا دكتور».

بعد ذهابي إلى رام الله في مستشفانا أرسلت عن طريق الصليب الأحمر رسالة أطلب فيها الإذن بالعودة على الرملة بين مرضاي «كما يغرق الربان مع سفينته»... وكان الحافز الأكبر هو صديقي الدكتور خطاب الذي بقي في الأسر بالرملة هو والدكتور راسم الخيري (زميل فلسطيني عزيز)... ولكن اليهود أجابوا بالرفض. فطلبت من الصليب الأحمر أن يرتب لي لقاء مباشرا مع المندوب اليهودي فكان اجتماع بدير اللطرون. وما رآني المندوب اليهودي (دكتور هوخمان) حتى نادى «الدكتور حسان... ذو العينين الزرقاوين والشارب البلاتيني».. قال إنه يعرفني من قبل أن يراني مما رواه عني اليهود الذين كانوا تحت رعايتي، وأن صحفهم نشرت عني، وأن قواتهم التي دخلت الرملة كانت تحمل أوامر بالمحافظة على سلامتي شخصيا وسلامة المستشفى الذي أعمل به.

وطلبت منه –وقد رفض طلبي بالعودة إلى الرملة- أن يعيد لي زميلي الدكتور خطاب. قال إن في أسر المصريين ثلاثة أطباء يهود، وإنه على استعداد لمبادلة خطاب بواحد منهم. كان الطلب معجزا لي فلا أنا ولا خطاب نعمل في القوات المصرية ولكن جئنا متطوعين من قبل دخول البلاد العربية الحرب. قلت له إنني في تعاملي مع أسراهم لم أكن أمثل دولة ولا قانون...فلم يكن هناك التزام يلزمني أن أرعاهم هذه الرعاية لدرجة إعطائهم أشياءهم الشخصية من ساعات ونقود عند رحيلهم فضلا عن تعريض نفسي للخطر دفاعا عن حياتهم.

وإن من المفيد أن يبقى هذا الاعتبار الإنساني حيا على جانبي خط القتال، وإنني طلبت الأسر فلم يقبل طلبي وجاء دوري الآن في الاحتياج إلى الاستعانة بالدكتور خطاب في تلبية الحاجة الملحة لعشرات الألوف من اللاجئين الذي يعيشون تحت الأشجار والذين يموت منهم عشرات من الأطفال كل يوم نتيجة البرد والمرض.

ولم يحسم الأمر في اللقاء الأول، ولكن في اللقاء الثالث، وعلى مائدة الغداء قام الدكتور هو خمان خطيبا؛ فقال «أيها السادة.

إننا نعيد الدكتور خطاب كهدية للدكتور حسان لنريه أننا معترفون بالجميل». وصفق الجميع فأضاف هوخمان «ونعيد له كذلك غرفة العمليات التي كان يعمل بها بمستشفى الرملة». وكتب رسالة بالعبرية حملتها سيارة إلى حاكم الرملة. وبعد حوالي ساعتين وصلت سيارة تحمل الدكتور خطاب ولوري يحمل غرفة العمليات.

وبعد أشهر عندما عدت للقاهرة فوجئت وأنا أعمل بمستشفى الدمرداش بحقيبة ملابسي التي كنت قد تركتها في مستشفى الرملة يعيدها إلى الصليب الأحمر. ودارت الأيام دورتها الطويلة... هزيمة 1967 وما بعدها... وجاءني خطاب من سويسرا يحمل اسما لا أعرفه وعنوانا لا أعرفه. «اليوم تنقضي أربعة وعشرون سنة منذ أنقذت حياتي بالرملة. حاولت طوال الوقت العثور عليك ولكن الصدفة تعمل عملها... أتذكر أنك في الصيف الماضي قدمت إلى فيينا ونزلت في فندق كذا؟ فقد وجدنا اسمك وعنوانك في دفتر سجل الفندق.

ويسعدني أن أكرر لك أني مدين لك بحياتي. وأود أن أدعوك لزيارتنا بإسرائيل لمدة أسبوعين فأسرتي متلهفة على التعرف عليك شخصيا مما رويته لهم عنك وسأقوم بتدبير الرحلة وعليك تحديد الوقت، وقد غيرت اسمي إلى كذا (ونسيت الاسم الآن) ولي مصنع جرارات زراعية وابني الذي حدثتك عنه من زمان يساعدني في العمل... وابعث بردك على نفس العنوان في سويسرا....إلخ».

سررت بالخطاب ولكن أحسست بالخوف فمعنى ذلك أني أتراسل مع الأعداء والجو حساس بعد حرب 1967 . وكنت أعمل آنذاك بالكويت ولكن ذلك لم يغير من حساسية الموقف.

ومع ذلك رددت قلت له إنني سعيد أنه في حالة طيبة, وإنني أذكر لقاءنا بالتفصيل من أول الجرح والعملية إلى تفاصيل حديثنا معا. ولكنني أخبرته أنني بطبيعة الحال لن أستطيع أن أزورهم في إسرائيل ، بل لن أستطيع أن أكتب إليه مرة أخرى.

ومضت أشهر. وجاء خطاب ثان يقول منذ كتبت لك حدثت أشياء أصابتني جلطة قلبية رغم أنني رياضي ولا أدخن وبقيت في المستشفى شهرية تولى إبني خلالها مهام العمل وبعد خروجي بقليل دخلت المستشفى مرة أخرى كان هناك أنيورزم في عضلة القلب فأجريت لي جراجة, ولكن خرجت بعد تسعة أيام وصحتي جيدة ثم ما هذا الذي اسمعه منك بأنك لا تستطيع زيارتنا بالتأكيد تستطيع أن تأخذ إجازة أسبوعين وتأتي إلى هنا... سأرتب كل شيء وأرتب لك أن تقابل كبار العلماء في تخصصك...

ثم انقطع الكتابة فجأة .... وبعد أسطر قرأت بخط مختلف «وبعد شهر أصابته نوبة قلبية أخرى وتوفي في الرابعة والخمسين من عمره وجدت زوجته الخطاب في أوراقة فهي حريصة جدا أن يصل إليك مع خالص التقدير على أنه حظي بخمسة وعشرين عامًا من الحياة السعيدة مع زوجته وأولاده»؟

حل الإخوان

في اعتقادي أن السبب الأول لحل الإخوان كان الطريقة التي حاربوا بها في فلسطين . الداخل والخارج خافا من هذه العقيدة التي تحل في المصر ي العادي المسالم بطبعه فتحيله إلى الفدائية والبسالة اللتين لم تكونا معروفتين في ذلك العهد. الملك والأحزاب في الداخل والصهيونية والاستعمار في الخارج كانوا في خندق واحد تجاه الإخوان وقد قام الإخوان بعدة عمليات لضرب المصالح اليهودية والإنجليزية والفرنسية في مصر وكان الجو مشحونا ضد الحكومة لفشلها في قضية الجلاء البريطاني وفي حرب فلسطين على السواء. وفي أحد إضرابات كلية الطب ألقي الطلبة عبوة مفرقعة أصابت اللواء سليم زكي باشا قائد البوليس فقتلته على الفور وجاءنا النبأ في مستشفى الدمرداش حيث كنت أعمل طبيبا بعد عودتي من فلسطين .... ثم أخذ الإخوان الذين كانوا مع الجيش في الجبهة الجنوبية ينقلون من الجبهة إلى المعتقل مباشرة, وما زالوا بالزي العسكر وأصبح من الوارد المتوقع أن يقوم الحكومة بحل الإخوان ... وكنت مرة مع الأستاذ البنا في دار مجلة الشهاب وتطرق الحديث إلى هذا الموضوع، فقال إذا حلونا فسنرفع يافطة الإخوان من فوق كل الشعب ونعلن مكانها يافطة «لجنة الوفد المركزية» ولم تكن في الحديث إشارة ولو باهتة إلى مقابلة قرار الحل بالعنف. وعلمنا من بعد أن سفراء أمريكا وبريطانيا وفرنسا قابلوا الملك وطلبوا منه حل الإخوان وحاول المرشد التفاهم مع الحكومة لكن لم تعط الفرصة، وأخيرًا صدر قرار الحل موقعا من عبد الحكومة لكن لم تعط له الفرصة, وأخيرًا صدر قرار الحل موقعا من عبد الرحمن عمار في مذكرة طويلة مسببة كتب المرشد عليها رداّ، ولكن لم يتح نشرة في الصحف.

مصرع النقراشي ومصرع حسن البنا

في أحد الأيام ذهب النقراشي باشا رئيس الوزراء ووزير الداخلية إلى وزارة الداخلية... حيث سبقه إليها أحد الإخوان في كي ضابط ملازم أول بوليس واثنان في زي الكونستبلات، وفي بهو الوزارة قتل النقراشي وهو يهم بركوب المصعد.

كان النبأ داهما وأسند الملك الوزارة إلى الرجل الثاني بعد النقراشي في الحزب السعدي، وهو إبراهيم عبد الهادي باشا الذي وعد باستخدام اليد ولا يعلمه.

وكتب بيانًا سمحت الحكومة بنشره في الصحف بعنوان «ليسوا إخوانًا وليسوا مسلمين».

وعبثا حاول الوسطاء أن يهيئوا له لقاء بأحد المسئولين وسحب منه المسدس المرخص الذي كان يحمله واستمر اعتقال الإخوان واعتقال أي أخ يتصل به. وطلب من الحكومة القبض عليه فرفضت.

وتم عزله عن الإخوان تماما. ولم يكن له مكان يذهب إليه إلا جمعية الشباب المسلمين بشارع الملكة نازلي (رمسيس حاليا) وذات مساء فرغ من إمامة الصلاة في الجمعية وطلب تاكسيًا وتعطلت الكهرباء فانطفأت الأنوار في شارع الملكة نازلي. وجاء التاكسي فركبة هو وصهره الأستاذ عبد الكريم منصور، هنا تقدم رجل يحمل مسدسًا إلى شباك التاكسي فأفرغ عددًا من الرصاصات في صدر الأستاذ البنا كما أصيب صهره وتجمع ناس من الجمعية فكان يوصيهم بالعناية بصهره، وتحامل ماشيا إلى دار جمعية الإسعاف القريبة، وخارت قواه وحملته سيارة الإسعاف إلى مستشفى قصر العيني الذي كان غاصًّا بضابط المباحث والشرطة.

ولم يتهيأ العلاج ولا نقل الدم بالسرعة المطلوبة فأسلم الروح بعد أن نطق بالشهادة مرات. وكان ذلك في مساء 12فبراير 1949 ، الذي تلا 11فبراير ، وهو عيد جلوس الملك فاروق ونشر الخبر في سطرين بجريدة الأهرام ومنعت الحكومة الجنازة والعزاء فحملته نساء الأسرة وشيعه أبوه وتمكن وليم مكرم عبيد باشا من اختراق نطاق البوليس لأداء واجب العزاء. ونامت القضية تمامًا فلم تبعث إلا بعد قيام ثورة 1952 وكانت بين التهم الموجهة لإبراهيم عبد الهادي باشا وحكم عليه وعلى آخرين من ضباط ومخبري القلم السياسي (البوليس) بأحكام مختلفة، ونشر الصحف في حينه بعض التفصيلات.

الاعتقال

بالنسبة لي سارت الحياة عادية تمامًا. أؤدي عملي كطبيب امتياز في مستشفى الدمرداش، وأسكن بيت الامتياز فيه. ولم أكن أتوقع أن أعتقل فلم آت ما يستدعي الاعتقال ولكن لما سمعت باعتقال «...». وكان زميلا وصديقًا مقربًا لي، استغربت أنه اعتقل، وأنا لم اعتقل فقد كنت أظهر منه في نشاط الإخوان ي وعلى الأقل كنت أخطب في الكلية وقلت إذا كان «...» قد اعتقل وأنا مازلت طليقًا فلابد إذن أنني رجل لا أهمية له على الإطلاق. وما كان أكبر صدمتي إذن عندما أعلنت الصحف أن صديقي من بين المتهمين بقتل النقراشي .

ولم أصدق فقلت لابد أن هناك التباسا ستجلوه المحاكمة، ولا شك أنه سينال البراءة وبعد فترة قابلتني أخته وفعلا طمأنتني كثيرا وقالت إن الموضوع بسيط وإن تقريبًا لهم اتصل بالقاضي فطمأنه... ثم طلبت مني خدمة بسيطة وهي شهادة طبية بأن كان في يوم كذا مريضًا وملازما للفراش وتحت علاجي من التهاب بالخصية واستمهلتها على مضض فأنا من ناحية المبدأ أمقت الشهادات الطبية المزورة.

ولي في ذلك مواقف طريفة منها مثلا أنه لما قتل الإمام يحي إمام اليمن اتصل بي تلفونيّا الأستاذ عبد الحكيم عابدين سكرتير الإخوان , وقال إنه موفد ليسافر إلى اليمن في اليوم التالي لمعاينة الموقف وإنه محتاج لكي يسافر إلى شهادة تطعيم ضد الجدري، فقلت له سأفتش عن رجاجة من لقاح الجدري فإن وجدت فسأجري لك التطعيم وأعطيك الشهادة وإلا فأنا أسف واتصل هو بعد قليل ليقول إنه وجد طبيبًا عنده اللقاح وأعطاه شهادة.. على كل حال عدت إلى بيتي فوجدتهم في انتظاري على أحر من الجمر ويبحثون عني في كل مكان، لأن فلانًا (صديق للأسرة موظف بالبوليس السياسي) اتصل بهم بصورة ملحة يقول قولوا لحسان أن يبتعد عن موضوع «...» تماما وألا يلمسه بأي شيء لأنهم هنا يدبرون خطة للإيقاع بحسان عن طريق «...» فاعتذرت لأخته عن المهمة وفيما بعد كان من المفاجئ ومن المؤسف أن «...» صدر عليه حكم بالسجن مدة طويلة وبقي به حتى أفرجت عنه ثورة 1952 .

لم تكن هذه هي القضية الوحيدة, ولكن قامت عدة محاكمات للإخوان في قضايا مختلفة لن أتطرق إليها هنا، فقد أفاض عنها الحديث عدد من الذين شملتهم لكن الجدير بالذكر أنها كانت أول عهد مصر بالتعذيب وانتزاع الاعترافات وتهديد المتهمين بالاعتداء الجنسي (العسكري الأسود الذي ذكره إبراهيم باشا عبد الهادي) شارك فيها طقم كامل يبدأ برئيس الوزراء وينتهي بالشرطة والمخبرين.

حتى جاء اليوم الموعود في إبريل 49... مكالمة تليفونية جاءتني في السكن بمستشفى الدمرداش، قصيرة لكن شاملة... قالت والدتي «ضيوف سألوا عنك» وانتهت المكالمة.

قدرت أن الوقت اللازم ليتصل قسم بوليس السيدة زينب بقسم الوايلي للتحرك للقبض علي بمستشفى الدمرداش سيكون حوالي ساعتين.

وكان نائب الجراحة المناوب الدكتور نادر سويلم –رحمه الله- ومدرس الجراحة الدكتور صلاح الملاح، ولكن لما كنت واحد من أطباء القسم فقد جاء أيضًا أستاذ القسم الدكتور محمد عانوس رحمه الله، وشخصوا مخلصين الالتهاب الحاد بالزائدة الدودية التي كانت توشك على الانفجار، واشترك الثلاثة في إجراء العملية ووصلت القوة التي جاءت لتقبض عي فوجدتني في غرفة العلميات، وصحوت من التخدير فوجدتني في إحدى الغرف الخاصة بالمستشفى كان على الغرف حراسة بطبيعة الحال، ولكن الاعتقال بالمستشفى أفضل ألف مرة من الحبس بالمعتقل على الأقل كانت تزورني أسرتي ومخطوبتي وكنت موضع الرعاية، بل التدليل، من زملائي الأطباء ومن الهيئة التمريضية ومن مدير المستشفى الدكتور فؤاد رشيد بك –رحمه الله- الذي دعاني إلى الغداء مرة مع أسرته في بيتهم بالمستشفى، وأنا ألبس الروب فوق البيجاما ويسير ورائي حارس المسلح بطبيعة الحال.

وكان الدكتور رشيد –رحمه الله- يحبني كثيرًا منذ وقعة معينة.

ففي أول تعيينا أطباء امتياز استدعى الدفعة كلها للتعرف على مطالبهم كانت المطالب تدور حول الطعام ونظام الخفارات وقسم الغسيل ونحو ذلك... وكان طلبي تغيير علم الهلال الأحمر المرفوع فوق المستشفى لأنه أصبح ممزقا لدرجة تتعارض مع احترام المستشفى وكان يحضر خطبي في الكلية ويقول سيأتي اليوم الذي ستؤدي فيه لمصر خدمات جليلة... وبقيت على مودتي له وزيارتي إياه حتى بعد أن افترق سبيلنا وانتقل إلى جوار الله، ورحمه الله.

استمر الاعتقال بالمستشفى شهرين انقطع بعدها هذا الحلم الجميل. جاء دور القبض على زميل آخر فحاول الإفلات عن طريق إجراء عملية الزائدة الدودية, ولكن المحاولة فشلت فاعتقلوه وصدر الأمر كذلك بألا يبقى بالمستشفيات معتقل واحد وأن ينقلوا جميعًا إلى المعتقل.

وخرجت من المستشفى والقيود الحديدية في يدي واصطف زملائي الأطباء وأفراد الهيئة التمريضية يودعونني باكين.... وكانت هناك بجوار سيارة البوليس البوكس أمي وأبي وخالي ومخطوبتي، وكانوا يبكون فيما عدا أمي التي قالت «اللي في إيدك ده وسام يا حسان»! وأخذوني إلى قسم شرطة السيدة زينب وفتحوا باب الحبس لأدخل وأغلقوه ورائي فإذا أنا واحد من بين زحمة بشرية عظيمة أقلهم من أمثالي المحجوزين سياسيا وأكثرهم من أهل التهم العادية والتحريات.

كانت تجربة طريفة وإن تكن مؤلمة وثقافة ليس من السهل تحصيلها إلا بالممارسة. وسرعان ما بدأت أحس بالبق يسرح على جسدي وسرعان من اكتشفت أن لا فائدة من ملاحقته واحدة واحدة للقضاء عليه، فقررت أن أهمله تماما هو في حاله وأنا في حالي واعتبرته في جسم آخر حتى ولو لفت نظري بلدغاته. ونمت مقرفصًا نظرا للزحام أغفو آنا، وأصحو آنا، وفي الصباح حملونا في سيارات البوكس البوليسية المغلقة إلى معسكر الهايكستب بجهة العباسية وكان من قبل معسكرًا للقوات البريطانية في أثناء الحرب العالمية.

معسكر الهايكستب عنابر واسعة من البناء سابق التجهيز كل منها محاط بالأسلاك الشائكة فلا منفذ منه ولا إليه. كان المبنى الذي ذهبت إليه يسمى عنبر الإدارة لأنه به مكتب قوامندان المعسكر والضباط وبعد إجراء التسجيل والتسليم دخلت دهليزًا طويلا فوجدت الأخ إبراهيم الشربيني (رحمه الله كان رجلا شهمًا ووطنيًا مخلصًا) يهش للقائي كان هناك غرفة وحيدة صغيرة يشغلها مع علي عبد المجيد (وكيل الجامعة في المستقبل) وفتحي البرعي (وكان طالبًا بكلية الزراعة ولا أدري أين هو الآن) كان كل منهم يشغل ركنًا فدعوني لأشغل الركن الرابع وكان سائر الإخوان في العنبر المجاور.

كان في جناح الإدارة كذلك المعتقلون من اليهود ومن الشيوعيين والوافدين، ولكن في طرف آخر غير منفصل إلا معنويًا.

وكان الفناء واسعًا من دون السلك الشائك فترك مجالا للتمشية والرياضة. وطالما تمشيت مع الزميل (عين جيم)، وكانت الأحاديث بيننا متعة فكرية رغم تناقض العقائد والمنطلقات وأحيانًا نتمشى مع الشباب التقي يوسف القرضاوي الطالب بالأزهر نذكر الله وندعوه ونأنس له، ولم يدر بخلدنا آنذاك أن هذا الشاب سيصبح واحدًا من أكبر فقهاء العصر.

وكنا نأخذ الجراية جافة من المتعهد إذ صنع المعتقلون مواقد كهربائية بحفر قالب طوب وإيداع سلك يوصل طرفاه بالكبس الكهربائي لم يكن الطعام بالغ الرداءة ولا بالغ الحسن، ولكنه كان مملا واشتهينا ذات يوم تورتة من محل جروبي لكنه كان اشتهاء من قبيل الخيال... حتى قال زميلنا (الدكتور فيما بعد) وجيه الباجوري إن الأمر ليس بهذا الإعجاز وأخذ على عاتقه تنفيذه ونحن غير مصدقين.

وكان وجيه طالبًا بالطب ليس له صلة بالسياسة , لكنه كان ابن خالة عبد المجيد حسن الذي قتل النقراشي فأتوا به.

والده الدكتور الباجوري –رحمه الله- كان أستاذ الفسيولوجي بكلية الطب ومن أحب الأساتذة إلينا.

المهم بعد أيام وصلت التورته فكيف وصلت جاءت في السيارة الوحيدة التي يسمح لها بدخول المعتقل بدون تفتيش. جاءت في شنطة سيارة قائد المعتقل بعد أن قام وجيه علاقة إيجابية مع سائق السيارة وبعض عساكر الشرطة بما يعود بالنفع على الطرفين .

وفتحنا العلبة وكان تدشين التورته ببصقة من كل واحد منا نحن الخمسة, لكي نستبعد من كان مرفهاً أو ضعيف النفس أولا يتحمل القرف. ولكن لم يتخلف أحد وكانت دعوة مستجابة ولذة غامرة. وكررنا التجربة فيما بعد، لما وصلتنا صينية كنافة ولكن بنفس النتيجة.

كانت هذه الفترة من أمرح فترات حياتي (ولا أقول أسعدها)... كان لدي إدرار غزير من النكت والقوافي والقفشات لدرجة أن الأخ (أ. ف) كان يتبعني باستمرار ومعه دفتر وقلم ليسجل عني ما أقول... وكان بعد طالبا في الطب معتقلا على ذمة الوفديين ولم يكن وفديّا ولا يحزنون. وكانت للأخ الفنجري اهتمامات بالتنويم المغناطيسي لم نأخذها مأخذ الجد الذي يفضي إلى الفض أو القبول لكنه في إحدى هذه المرات نوم واحد من المعتقلين (لا أذكر اسمه ولكنه كان فيما بعد إمام لمسجد السيدة زينب) وطلب منه أن يذهب إلى إبراهيم عبد الهادي (رئيس الوزراء) ليرى ماذا يفعل: فأجاب بأنه اكتشفت مؤامرة تمر في الأورطة التاسعة بالجيش وأن عبد الهادي بنفسه الآن يحقق مع عدد من الضباط!! أخذناها آنذاك بفتور... وكنا أواسط عام 1949  !!.

وسارت الأمور على وتيرة واحدة في المعتقل (وكنت دائما أسميه المعسكر)... وأعلنوا أنهم فتحوا باب التظلم للمعتقلين ... فمن أراد قدم طلبا وجاءه الرد خلال شهر، ولكن كل الردود لكن كل الردود كانت سلبية وتقضي برفض التظلم. في يوم من الأيام استدعى الضابط النوبتجي المعتقل محمد الشحات (دكتوراه فيما بعد) ليوقع على علمه بالرد على التظلم قال له «امض هنا» .قال «امضي على إيه» قال له «مش مهم تعرف» فأجابه لا أوقع على شيء لا أعرفه. قال الضابط «امض يا حيوان» فأجاب الشحات «إنت اللي حيوان» وقامت القيامة! وانهالت العصي من الجنود على الشحات والمسكين يصيح ويستغيث في علق لا يعلم لها آخر.

وهنا أمسك معتقل يهودي اسمه إلياهو (كان طالبا بالطب). بحجر ورماه باتجاه غرفة الضابط وساد هدوء بدأت معه الحلقة التالية إذ قام جنود الشرطة بإشراف الضابط بتكسير مكتب القومندان وتكسير زجاجات الكوكاكولا الفارغة في إخراج متقن لإقناع النيابة بأن المعتقلين قاموا بحركة تمرد كبيرة اعتدوا فيها على الضباط ومبنى الإدارة.

وفي خلال ساعة كانوا قد فصلوا المعتقلين الآخرين عن الإخوان وأخذوا التمام ووصلت «فرقة الباشا» والباشا هو اللواء سليم زكي حكمدار العاصمة آنذاك أما الفرقة فكانت مدربة على أعمال الضرب والقمع والعقاب. ومن آخر الممر رأينا الفرقة تتقدم ومنظر الخوذات والعصى كمنظر القباب والمآذن وقفز أربعتنا إلى غرفتنا الصغيرة.

حاول أحدنا أن يقفز من فوق الحائط إلى غرفة بها معتقلون سودانيون لكنهم طروده مهددين بالإبلاغ عنه، وفي المستقبل عندما جاء دور العتاب قالوا عيب أن يفر وواجبه أن يثبت مع إخوانه... وأغلقنا الباب مستحكمين وراح إبراهيم الشربيني يدق مسماركا كبيرًا فوق الباب بنية أن يثني المسمار على الباب فكأنه ترباس، لكنه كان يدقه بكنكة قهوة صغيرة لا تجدي، وفوق ذلك فقد كان الباب نفسه من ورق الكرتون السميك... فلما شرع الجنود في تحطيمه وجدنا البلطة تخترقه وتدخل بين رءوسنا ورغم أن سماع صوت العصى تنهمر كالمطر على الإخوان في العنبر بين صياحهم واستغاثتهم كان يدفعنا إلى الاستماتة في دفع الباب لإغلاقه، إلا أن خشيتنا من تحطيم أدمغتنا بالبلطة كانت أشد... ولم نجد إلا ترك بالباب وقفزنا إلى الركنين البعيدين من الغرفة وكل يحاول أن يكون خلف صاحبه، ووجدتني خلف الزميل علي عبد المجيد، وانفتح الباب: وبدأ العسكر يتقدمون، وبدأ الزميل على يصيح حتى قبل الخطبة الأولى. وأخذت تهوى العصي عشوائية على كل مكان أصابت واحدة عيني فافقدحت بمثل البرق، وأذني ورأسي وجسمي كله.

وأدركت أن تترسي خلف على لا يغني شيئا فقررت أن أقف منكشفا وأخرج من ورائه تحت الضرب الهاطل، ولكنني كنت أجابه الشرطي منهم وأمسك به قابضا على كتفيه واضعا وجهي في وجهه وأسأله بهدوء وابتسامه خفيفة «لماذا تضربني؟ هل بيننا عداء؟ ألم يخطر ببالك أن تسأل نفسك لماذا تضربني؟».. فيشيح بوجهه عني ويجيء الضرب من كل مكان فأمسك بشرطي آخر وأسأله نفس الأسئلة ورغم انكشافي وتعرضي للمزيد إلا أن هذه العملية –محاولة وضع الإنسان أمام إنسانيته- قد أفادتني نفسيا كما شغلتني عن مجرد الجلوس في انتظار سلبي لما يجيء من ضربات.

وانتهى الأمر فجأة. صاح بهم أحد ضباطهم: «بس يا بن الكلب أنت وهوه»... وكأنه حنفية كانت مفتوحة فأقفلتها يد قوية. ورثيت لحال هؤلاء العسكر الذين ضاعت منهم إنسانيتهم فدربوا على أن يكونوا كلابًا مسعورة تنهش بأمر وتسكت بأمر.

وانسحب العسكر وخيم صمت رهيب ... ودخلت على العنبر المجاور أزور فذكرني فوارا باللحمة المفرومة. أكوام من الأثاث المبعثرة والأجساد المبعثرة الملطخة بالدماء وبالكدمات قام إلى الأخر الأستاذ صالح أبو رقيق معانقًا.. وقلنا بصوت واحد «يتقبل الله». إن الأخ صالح لما دخل الجند وقف أمامهم ومد ذراعيه جانبًا يتلقى الضربان عمن وراءه من الإخوان ولم يخفف ذلك من ضراوة العسكر بل إن العسكري الذي كان ينهال عليه ضربا وقعت من يده العصا، فانحنى صالح والتقطها وردها إليه من جديد وعلى ثغرة ابتسامة, وأخذها الوحش وانهال عليه ضربا من جديد!

وبينما كنا جلوسا لا تسعفنا الكلمات إذا بالأخ عبد الودود شلبي الطالب بالأزهر (وكيل الأزهر فيما بعد) يدخل جريًا وهو يكرر في هلع كبير: «عثمان بن عفان... عثمان بن عفان» ولعل أحد العساكر لاحقه بالخارج... ولا ندري كيف، ولكنها كانت كافية ليضحك الجميع ويتبدد هذا الجو الكئيب.

لم أكن في «المعسكر» ألبس سوى بنطلون قصير تاركًا النصف الأعلى من جسمي عاريا تمامً؛ ولهذا فقد بدا اثر الضرب صارخًا وبدوت مخططًا مثل النمر وجروحي تنشع بالمصل والدم.

وأخذني أحدهم إلى الجناح الآخر (غير الإخوان ) فضمد اليهود جراحي ووضعوا عليها مرهمًا.

وجاءني هنري كورييل (يهودي –مؤسس الحزب الشيوعي المصري) وحدثني عن الشيوعية وعن انتصارها في الصين وأتوني بكتاب أقرؤه اسمه «النجمة الحمراء فوق الصين» ودخل القومندان إليهم فألقوا على ملاءة لإخفائي عنه جاء يسأل إن كانت الكوكاكولا لا قد وصلت إليهم مؤكدًا أنه لن يسمح بعد اليوم بها لأولاد الكلب الآخرين.

وعلمت أنهم كانوا يلعبون البوكر مع القومندان (واسمه عبد الحفيظ) ويخسرون له قصدًا فكانوا ينالون تسهيلات كبيرة بل كان بعضهم يخرج لقضاء الليل في بيته ويعود في الصباح.

وعدت للإخوان وقد عز علينا النوم في تلك الليلة لأن إشاعة سرت بأنهم سيحضرون فرقة الباشا مرة ثانية لتفاجئنا مرة أخرى في أثناء نومنا بعلقة جديدة لكن لم يحدث وفي الصباح أخرجونا فأوقفونا طابورًا وبدءوا في عد التمام.

كنا في غاية الرهبة فإذا سمع أحدنا اسمه أجاب صائحا «أفندم»... لكن حدث أن الضابط الذي ينادي على الأسماء وصل إلى اسم الشيخ عبد الودود فقرأه هكذا: «عبد الوْدودْ» ولم يحتمل الأمر إلا أن ننفجر بالضحك المتواصل، والضابط عاجز في خزيه فانصرف.

وعلمت فيما بعد أن يوم العلقة كان يوم زيارة للأسر ...فأعدت لي أمي كيكة فاخرة من صنع يديها، ولما ذهبوا إلى قسم الشرطة الذي تقوم منه قافلة الزوار عاملوهم بغلظة, وفاجئوهم بأن الزيارة قد ألغيت.

وعادت أمي وأبي إلى البيت كسيرين إلى البيت ووضعت الكيكة لم تمتد إليها يد وكأنها ميت مسجى حتى رموها في القمامة. وبعد فترة جاءت أمي وأبي زائرين وحييتهما من خلال القضبان, وكنت ألبس قميصا لكن سألتني أمي عن جرح في جبهتي فأخبرتم أنها خبطة في الشباك.

وغداة العلقة أقاموا علقة خاصة لكبار الشخصيات الإخوانية ولحسن الحظ لم أكن منهم. وقد تفاوتت ردود الأفعال ففلان (ع ح ع) كان يصيح صياحًا جهيرًا لما آلمه الضرب قائلا: «في عرض جلالة الملك»؟ ومن بعدها في عرض رئيس الوزراء ... وأخذت تنزل حتى أصبحت: في عرض حضرة القومندان! ولم يغن عنه شيئا ... بينما الشيخ عبد المعز عبد الستار كان يستقبل الضربات صائحا بهم اضربوا يا كلاب يا أنذال! وحبسوهم في غرفة صغيرة رأيناهم يمددون لها أسلاكا فعلمنا أنهم يودعون جهاز تنصت للتجسس عليهم, وأردنا أن نحذرهم فتظاهر أحدنا بترتيل القرآن فمن حيث النغمة, أما الرسالة فكانت: «أيها الأبطال.. إنهم يتجسسون عليكم بجهاز تنصت فاحذروا وخذوا حذركم» ونجحت المحاولة تحت أنف العسكر.

ومرت الأيام بعد ذلك ثقيلة تحت وطأة حر الصيف في الصحراء الذي أوحى بأغنية كثر تردادها مطلعها «معتقل الأحرار بين لهيب النار-هايكستب.... هايكستب» كذلك تحت وطأة شوقنا إلى من بالخارج والظاهر أن عدة حالات مرضية ظهرت بين المعتقلين، سواء في الهايكستب أو في معتقل جبل الطور, ووجدت الحكومة نفسها تحت ضغط شديد من أقرباء المعتقلين، ومنهم كثير من نواب البرلمان حتى من حزب الحكومة، فرجعت عن قرار المنع الكامل للعلاج بالمستشفيات، ونظمت فرقا من الأطباء تزور المعتقلات مع التنبيه بعد التحويل للمستشفيات إلا في حالة الضرورة القصوى... وأبلغنا بموعد قدوم الفريق الطبي لتسجيل أسماء الراغبين في الفحص!

كانت فرصة ثمينة ولكن لمن يحسن انتهازها صديقي إبراهيم الشربيني (رحمه الله) استحصل على حقنة وإبرة وعبأ 2سنتيمتر من الحليب المركز المحلي (الذي له قوام العسل) وحقن نفسه بها في العضل.

ومعروف أن حقنة الحليب ترفع الحرارة فكانت حقنة اللبن علاجًا معروفًا لحالات الرمد الصديدي في العينين قبل حقنة المضادات الكيماوية والحيوية، على اعتبار أن الحرارة العالية تقتل المكروبات. وارتفعت حرارة إبراهيم إلى 42درجة مئوية وعاينه الأطباء ولكن لم يصرحوا بتحويله للمستشفى.

كانت لي أنا خطة مختلفة، والحرب خدعة. طليت إصبعي بطبقة من هذا الحليب وتركته حتى يجف وشبكت في ملابس الداخلية دبوس مشبك وذهبت للأطباء في حالة أليمة من المرض أشكو لهم من ألم الكلية وتقيح البول... كان مظهري يستدر الشفقة, وكان طبيعيًا أن يعطوني كأس طالبين عينة من البول ونظرًا لأن الغرفة كان بها ناس وأن الحياء والإيمان فقد ذهبت بالكأس إلى الحائط واستردت مواليًا ظهري ... وشككت إصبعي بالدبوس وغسلته بسيال البول فكان اللبن والدم والبول عينة ممتازة للبول ذي الصديد الدم فانزعجوا وقالوا: إلى المستشفى فورًا ويا للنعيم!.

إلى مستشفاي مرة أخرى... مستشفى الدمرداش الجامع نفس الغرفة الخاصة التي خرجت منها مكبلا بالحديد وفرحت وفرح المستشفى شرطي الحراسة على باب الغرفة, ولكن بكل ذوق ومجاملة طابور الممرضات يأتي من بيت الممرضات مرورًا بغرفتي للتحية والسلام كل يوم قبل بدء العمل.

زملائي الأطباء والتفافهم حولي جزاهم الله خيرًا الدكتور فؤاد بك رشيد مدير المستشفى يزورني وهو شخصية أكن لها الحب في السابق واللاحق حتى اختاره الله, رحمة الله عليه.

كانت له ميول وفدية وإن لم يكن يعمل بالسياسة ؛ ولهذا لم يكن محبوبًا من السراي، رغم أن أخاه على باشا رشيد كان كبير الأمناء في القصر الملكي وكانت له استقراءات سياسية ثاقبة، قال لي مرة ونحن نعرض للأوضاع: إن التغير يمكن أن يأتي إما عن طريق الشعب وإما عن طريق الجيش وشعبنا غير مؤهل بعد للقيام بثورة مثل الثورة الفرنسية بتغير بعدما النظام، فليس لمصر من أمل إذن إلا الجيش...


وكان هذا القول وقتها من شطحات الخيال، ولكنه تحقق في أقل من ثلاث سنوات. وفي معتقلي بالمستشفى كان الفتح المبين بطبيعة الحال تجدد زيارات أمي وأبي وزيارات مخطوبتي سلوناس وقصتي مع سلوناس تستحق كتابًا وحدها تمنيت أن أكتبه لكنها تضن بذلك، ورغم أنها من الخصوصيات إلا أنني موقن من أن نفعها العام يكون نفعًا جليلا، ولكن ما باليد حيلة.

كانت لي تأملاتي الكثيرة في غرفتي التي وثق الحارس بي فسمح أن أغلق الباب وهو بالخارج رغم أن للغرفة شباكًا. وما كنت لأخون ثقته، وما كان عندي سبب ولا رغبة في الهرب وإن كنا علمنا أن الأخ نجيب جويفل الذي كان تحت الحراسة قد غافل حراسه وهرب ولم يغير ذلك شيئًا بالنسبة لي.

وكانت تأتينا أخبار قضايا الإخوان في المحاكم ولأول مرة نعلم أن مصر قد دخلت عصر التعذيب في التحقيقات، وأن رئيس الوزراء كان يشرف على التعذيب بنفسه أحيانًا، وأنه هدد أحد المتهمين بأن يأمر العسكري الأسود بأن يرتكب فيه الفاحشة, وكانت بدايات التفنن في التعذيب، وهي بدايات نمت وأزهرت وأنبتت من كل زوج قبيح.

وزارني الدكتور حسين حتحوت، عضو مجلس النواب عن دائرة شبين الكوم وعضو الحزب الحاكم، الحزب السعدي الذي يرأسه رئيس الوزراء إبراهيم باشا عبد الهادي طلب مني أن أعطيه كلمة الشرف بأنني غير متورط في أي عمل إجرامي، حتى يبذل مساعيه الخاصة وهو مطمئن. وطمأنته على ذلك وهو إنسان نبيل –رحمه الله- وإن كانت الظروف في ذاك الآن لا تنفع فيه الوساطة.

وكانت أمي رحمها الله- وكانت أمه- قد طرقت كل الأبواب وسلكت كل المسالك بلا هوادة, ولنا أقارب كبار في كل الأحزاب سواء الوفد أو أحزاب الأقليات (الحاكمة)، وأمي طاقة كبيرة لا تهمد ولا تخمد، بالقياس إلى أبي كان ذا شخصية هادئة فلسفية تتقن الصبر وتتوكل على الله.

كانت مصر متوترة.. وسرت أخبار التعذيب بين شعب لم يعهدها من قبل... وبرأت المحاكم المتهمين في بعض قضايا الإخوان الكبرى مشيدة بوطنيتهم وحسن بلائهم في فلسطين ، وأهملت قضية جلاء الإنجليز عن مصر تمامًا، وكانت المرارة في فم الجيش بعد فلسطين وفي فم الشعب من كثرة المعتقلين... وكان واضحًا أن الأمور لا تستقيم على هذه الحال.

وزارني ذات صباح –مبكرًا- الدكتور فؤاد رشيد يقول إنه سمع من مصادر في السراي أن الملك أرسل يستدعي حسين باشا سري من مصيفه بالخارج .... وأن أكتم الأمر، وزارتني أمي بعدها بقليل وأخبرتني أنها على موعد للذهب لبعض أقاربنا من ذوي السلطان في سلسلة مساعيها للإفراج عني، أو صيتها أن تؤجل الأمر أيامًا متوقعًا أن تسقط الوزارة، وظنت أمي أنني عبقري سياسي عندما بعث الملك بعد أيام خطاب الإقالة لإبراهيم عبد الهادي بسبب ما يعانيه الشعب من القلق والتوتر من حكمه، وتكليف حسين باشا سري بتشكيل وزارة محايدة تحل مجلس النواب وتحضر لإجراء انتخابات حرة بإشرافها.

و حسين باشا سري من السياسيين المستقلين أي ليس عضوًا في حزب سياسي، وهو مهندس كفء، ومن طاقم السياسيين الذين يحتاج إليهم لتولي وزارة محايدة لفترة مؤقتة تجري فيها الانتخابات ليتولى الحكم بعد ذلك حزب الأغلبية... ولم يكن ذلك صحيحا دائما فإذا كان الوفد في الحكم وأراد الملك التخلص منه فلن تكون الانتخابات نزيهة, وإذا كانت أحزاب الأقلية في الحكم وأراد الملك التخلص منها فيكفي أن تعقد انتخابات نزيهة ليعود الوفد للحكم وكان هذا النظام يتيح للملك أن يقلب كفة الميزان كلها ضاقت الحال بالناس من حكم أحد الفريقين، دكتاتورية الأقليات أو محسوبيات الوفد ، وذلك لامتصاص نقمة الأمة فلا تنفجر فيه، وإن كانت الحقيقة دائما أنه لا يحب الوفد ولا يرحب به نظرًا لقاعدته الشعبية العريضة وتمسكه بالدستور في مواجهة الملك.

وبدأت وزارة حسين سري تفرج عن المعتقلين وجاء ضابط ليبلغني ويؤدي إجراءات الإفراج وسحب الحراسة وقال أنت الآن مفرج عنه فلا داعي للمرض، وظللت مستلقيًا في الفراش ليس على وجهي حتى شبح ابتسامة, حتى انصرف الشرطي الحارس وهنا فقط تحسنت صحتي وتماثلت للشفاء.

في الحرية

استقبلني الأهل والأصدقاء كعائد من سفر طويل... وارتاحت الخواطر خاصة أمي وخاطر سلوناس التي كنت أحفزها على الدراسة، وقد بلغت المراحل النهائية في كلية الطب، وزرت للشكر عددًا ممن قصدناهم للسعي في الإفراج عني، وفي أيام تسملت عملي مرة أخرى طبيب امتياز بمستشفى الدمرداش.

ورغم أن سنة الامتياز كانت قد انقضت زمنيا، إلا أنهم قرروا أن يمدوها لتعويض المدة التي قضاها أفراد دفعتي في فلسطين (أنا متطوعًا وهم من بعد مع الجيش المصري).. كان هذا الامتداد من حسن الطاعة وترتيب الله سبحانه وتعالى، فخلاله حصلت على دورة الامتياز في أمراض النساء والولادة، وبغيره لم أكن لأستطيع في المستقبل الحصول على وظيفة النيابة ثم التخصص في هذا الفرع تخصصا نلت خلاله أعلى الدرجات العلمية الموجودة، ووصلت به إلى منصب الأستاذية والمستقبل فعلا بيد الله.

كانت تخلو وظائف للنيابة على فترات... وفي يوم عين أحمد المازني زميلي في الامتياز في قسم الأستاذ الدكتور محمد عانوس (جراحة) نائبا، وفي اليوم التالي تأخرت لدي باب الجناح ليدخل قبلي –باعتبار أقدميته- فإذا به يشتمني لذلك ولم أكن نسيت زمالتنا ولكنه إعطاء كل ذي حق حقه.

وانتقضت مدة امتياز دون وجود شواغر صدر الأمر بنقلي من مصلحة المستشفيات الجامعية إلى مصلحة الصحة القروية لأتولى المجموعات الصحية الثلاث في قرى بهوت ودرين ونشا من أعمال مركز نبروه بمديرية الغربية, وإن كانت مواقعها في شمال الدلتا شديدة القرب من المنصورة عاصمة مديرية الدقهلية.

كانت إقامتي في درين في فيلا ظريفة مبنية مع المجموعة الصحية وأخذت معي علي الهاروني الذي كان يعمل في بيتنا في مصر والحد الأدنى من الأثاث والقرى الثلاث تمتلكها أسرة البداوي: السيد باشا في درين وأولاده الباشوات كل في قرية.

ورغم أنها قمة الإقطاع لكنهم ناس طيبون مؤدبون وفي غاية الجد في عملهم الزراعي.

رأيت السيد باشا يزجر أحد أولاده (باشا أيضا) لتأخره في الذهاب إلى الحقل قائلا: عاملين أولاد باشوات وناقص تشربوا المية بالشوكة والسكينة كانت لي مهمة طبية في قصر السيد باشا تشمل السادة والسيدات والخدم والأتباع والأطفال والباشا الكبير، كشوف وعلاج وقياسات ضغط وإعطاء إبر.... ومن غير تفكير مني في أي مقابل كانوا يعطونني كل شهر ثلاثين جنيهاً، وكنت فرحًا بها كل الفرح والظاهر أنني حزت محبتهم وثقتهم لأن الباشا في درين أفضى إلي أنه تلقى تعليمات سرية بوضعي تحت المراقبة ...جزاه الله خيرًا.

زارني مرة عبد العزيز بك أبو سعدة (زوج خالة أمي وحمو خالي) بصحبة السيد محمد حلمي زوج خالة أخرى لأمي (رحمهما الله) استغربت ماذا جاء بهما إلى بهوت بجانب صلة القربى كان موسم الانتخابات قد حل، وعبد العزيز بك رشح نفسه عن دائرة المنصورة.

كان عضوًا في حزب الإتحاد (من تحالف أحزاب الأقلية) وكان يطلب وساطتي لدى الإخوان لينتخبوه!! كشفت لهم ظهري وفه آثار الضرب وقلت لهما: ماذا أقول لناس نالهم أضعاف ما حل بي؟ أصرا على كل حال أن يأخذاني بالسيارة إلى المنصورة، وزرت الدكتور خميس حميدة وكيل الإخوان في صيدليته، وأخبرته بالموضوع وقلت له أنا أؤدي ما طلبه مني ولكنني واثق بطبيعة الحال أن أحدًا من الإخوان لن يعطي صوته لهذا الطاقم.

وقضيت معهما يوما انتخابيا طالعت فيه الذل الذي يعتبرهم رقيقًا وعبيدًا في غير موسم الانتخابات. وخسر عبد العزيز بك الانتخابات بطبيعة الحال، وخسر كذلك قريبي النبيل الدكتور حسين حتحوت في دائرة شبين الكوم أمام خليل الجار مرشح الوفد ، وخسر كذلك التأمين المدفوع (150جنيهًا) لعدم حصوله على عشرة بالمائة من الأصوات.

كانت حكومة الوفد الجديد متعاطفة جدّا مع الإخوان ، ومقدرة لدورهم في النصر الكاسح الذي أحرزه الوفد في الانتخابات، وقامت من جانبها بتضميد كثير من الجراح وألغي قرار حل الإخوان وتسلم الإخوان دار المركز العام ومئات الشعب والعيادات والمصانع والشركات.

وارتفعت أسهم الإخوان فتقدم عدد كبير من أعيان البلاد والقرى ليكونوا رؤساء شعب أو ليفتتحوا برئاستهم شعبًا جديدة، وكثيرون منهم لم تكن لهم صلة سابقة بالعمل العام أو العمل الإسلامي، وانتعشت العضوية ونمت ما أثلج صدور الكثير من الإخوان فرحًا بالعدد، وسرى شعور عام بأن الإخوان «لها مستقبل».

كان اختيار الأستاذ المستشار حسن إسماعيل الهضيبي لمنصب المرشد العام بعد الأستاذ حسن البنا مفاجأة تكاد تكون مذهلة لم يكن من «صفوف» الإخوان ... بل لم يكن معروفًا للغالبية العظمة من الإخوان كان رجلا شديد الهدوء... استماعه أكثر من كلامه بكثير فمهنته من قاض إلى مستشار بمحكمة النقض والإبرام كانت مهنة إنصات وتفكير ... وبينما اعتاد الإخوان إلى حد الإدمان الطاقة الخطابية الخارقة والحديث الذي يملك الأسماع والقلوب والعقول من مرشدهم حسن البنا ، وجدوا رجلا يعتلي المنصة ليقول «اعكفوا على تلاوة كتاب الله وتفهموا واعملوا به» وتكون هذه تقريبًا هي الخطبة, ويقولها في صوت خفيض متئد كان حسن البنا يعرف كل فرد من الإخوان باسمه وعائلته وظروفه المعاشية ومشكلاته الأسرية, ثم جاء رجل لا يعرف عمليّا أحدًا من الإخوان .

لكن اختيار الرجل مع ذلك كان اختيارًا موفقًا إلى أبعد الحدود. فقد كان من المعروف أنه كان موضع الثقة الكاملة للأستاذ البنا ، ومن أهل شوراه المقربين كذلك أشفق الإخوان من جو تنافس بين الأستاذ صالح عشماوي وأحمد حسن الباقوري رحمهما الله، ثم الأستاذ عبد الرحمن الساعاتي شقيق الأستاذ البنا وأقرب الناس شبهًا به في الوجه والصوت... وقد حضرت مرة اجتماعًا لهيئة التأسيسية (ولم أكن عضوا بها) أغلظت فيه القول –بأدب- للكبار حتى تركتهم مطرقين واجمين كذلك زاد الاحترام للإخوان لما أصبح على رأسهم رجل من كبار رجال القضاء. وكان رجال القضاء على رأس من احترامها.

وحتى السراي رأت أن تتقرب للإخوان فأحدثت سابقة خطيرة, هي دعوة الأستاذ الهضيبي لمقابلة الملك.

وكان بينهما حوار لطيف كانت وجهة نظر الملك فيه أن الترتيب الطبيعي للأمور يسير على قاعدة: «الله والملك والوطن» بينما يراها الأستاذ الهضيبي «الله والوطن والملك» وكان واضحًا أن الملك يحاول أن يحتوي الإخوان ، كما كان واضحًا أن ذلك غير ممكن إذا كان على غير مبادئ الإخوان ، وإن كان كثير من عامة الإخوان قد استغربوا، ولعلهم أنكروا أن يذهب المرشد للمقابلة لابسًا الرد نجوت.

ورغم أن الوفد هذه المرة قد بذل كل الجهد في تملق الملك والتقرب إليه، فقد قابل النحاس باشا الملك في إحدى التشريفات فقال له لي أمنية واحدة هي أن أقبل يدك، وانحني على يد الملك ولثمها، كذلك قال في إحدى خطبه إن الكعبة التي يتجه إليها الشعب في هذه الأيام هي جزيرة كابري في إيطاليا حيث كان الملك يصطاف، رغم ذلك لم يطل شهر العسل، وسقط الوفد من عيون الكثيرين، وزادت محسوبياته زيادة خانقة.

خلال عملي في المجموعات الصحية لم أكن أخفي على أحد أن خدمتي مؤقتة في انتظار فرصة لمواصلة الدراسات العليا. وكنت محترمًا نفسي جدًا، ففي إحدى الأمسيات جاء رسول من محي الدين باشا البدراوي وسراية على مقربة من فيلتي، يقول إن المأمور ومهندس الري والمفتش الزراعي مع الباشا في انتظاري للعشاء ، وقلت للرسول سلم على الباشا جدا واشكره جدا، وقل له إن الدكتور يأسف لأنه مشغول للعض الاطلاعات؛ ولهذا لن يتمكن من الحضور الليلة, وبقيت في محبسي، لكنني كنت حساسا ربما أكثر من اللازم في موضوع حفظ الكرامة... ويخيل لي بالنظرة الخلفية أنه لم يكن على غبار أن أذهب وأتعرف الناس.

كنت أنزل إلى القاهرة كل بضعة أسابيع في نهاية الأسبوع في إحدى المرات زرت المرحوم الدكتور سليم صبري، في بيته بعين شمس، في أثناء صلاة المغرب جاء وقبل وجنتي في أثناء قراءة التحيات... أحسست أنه جاوز تقاليد أهل الأرض، وفي المرة التالية كنت أشيعه إلى مثواه الأخير.

وما دامت هذه المذكرات سيرة ذاتية لي فليس من بد من أن تتحدث ولو باختصار عن الدكتور سليم صبري، فقد كانت صلتي به ركنا من حياتي ومعلما من معالمها وإذا كان حسن البنا قد صاع شخصيتي الإسلامية، فإن سليم صبري أسهم إسهامًا كبيرًا في تشكيل شخصيتي الطبية لم يكن من الإخوان ولم يكن يتعاطى السياسة كان طبيبًا مخضرمًا عالج ثلاثة أجيال من أسرتي، فكانت هذه معرفتي به على البعد، حتى كان التعارف الشخصي وأنا في الدراسة بكلية الطب، فلم يمض إلا قليل حتى توثقت الصلة بيننا لدرجة أن أناديه يا أبي ويناديني يا بني كانت عيادته في شارع محمد علي بباب الخلق بالقاهرة بجوار دار الكتب القديمة, وأظن المبنى قد أزيل من زمن كان مثال القلب العامر بالإيمان ونموذج الطبيب الإنسان كان مفتاح شخصيته المحبة، سواء منه لمرضاه (وكل أهل الحي مرضاه) أو منهم له، فقد كانوا يعتبرونه والدا وراعيا لهم في الصحة والمرض، وكلما ألم بهم عارض طبي أو غير طبي هذا النوع من الأطباء الذي يدرك بفطرته من المريض الفقير فلا يأخذ منه أجرًا، أو يمنحه من المال ما ييسر له تدبير الدواء وتدبير الغذاء وتدبير المعاش بنات تزوجن فكان جهازهن من إيراد تلك العيادة المباركة.

شهادات ليسانس وبكالوريوس ما كان يمكن الحصول عليها لولا أن سليم صبري يدفع المصر وفات الجامعية (كانت الدراسة آنذاك بمصر وفات لكنها أرخص ألف مرة منها في عهد مجانية التعليم) ... قضايا ومشكلات كان يلمسها بابتسامته السحرية وحكمته الموهوبة فتذوب ذوبانًا كان في العيد يذبح خروفين ويولم ولائم متعاقبة ويوزع ما شاء الله, ولا يزيد غداءه على الخيار والزبادي شهدته مرة وقد استدعى نجارا من أهل الحي الفقراء، له ورشة متواضعة (كان بين النجارين آنذاك فقراء) وقد أحضروا له لوحًا من الخشب مرسومًا عليه خطوط بالقلم الرصاص، ويطلب منه أن يقطعها بالمنشار فوق هذه الخطوط وأستغرب أنا فأسأله فيما بعد عما ينوي أن يصنع بتلك الخشبيات، فيقول يا بني إن السوق كاسدة وأعلم أنه محتاج لكن نفسه أبية لا يقبل الصدقة، فأحببت أن أشعره أنه يقبض أجره على عمل أداه... وشهدته مرة وقد استبد به صداع عنيف ألزمه الفراش في غرفة منعزلة بعيادته (يسكنا أيام العمل الأسبوعي)، وجربنا معه الأدوية المعروفة في ذاك العهد فلم تُجْد شيئا... وامتد الليل وأنا أرثي لحاله، لكن كان لدى ظرف قاهر يجبرني أن أستأذن الصباح.

وعدت في الصباح فوجدت الرجل هاشّا باشّا كأحسن ما يكون، يتهيأ لمعاينة مرضى الصباح ماذا حدث خلال الليل؟ استدعى التومرجي الذي كان يقوم على خدمته.

وعدد له قائمة من سكان الحي رجالا ونساء وأرسله يستدعيهم ثم قال: ناولني هذه الزهرية التي على الرف، وكان من هواة جمع التحف والآثار وأفرغ ما فيها وكان فيها مائتا جنيه (كان أيامها يشتري بها فدانًا من أجود الأراضي الزراعية).

واستدعى الناس واحدًا واحدًا وفرق عليهم ذلك المبلغ يقول: كنت قد أفردت هذا المبلغ لنفقات جنازتي وقلت لعل الأحياء أحوج إليه من الأموات. ولا ننسى أن الرسول قال داووا مرضاكم بالصدقة...وما إن خرج آخر جنيه حتى اختفى الصداع كأن لم يكن! وكنت أحيانًا أصحبه بالقطار في نهاية الأسبوع إلى عين شمس، حيث الفيلا التي يسكنها (وبها زوجة عجوز مقعدة لديها من يقوم عليها من الخدم)، كما كان يملك هناك «البيت الأثري».. وكل مكوناته من أبواب وشبابيك وحيطان وأثاث من الآثار الثمينة إذا كانت هذه هوايته اختفيت مرة عن القاهرة أياما، فسكنت هذا البيت وكنت أنام على عرش آل عثمان، وكانت له مجموعة قيمة قرأت ذكرها في أحد كتب هواة الآثار. المهم كنا ننزل من القطار وفي مسيرنا إلى البيت وعلى طول الطريق تهرع إليه أعداد غفيرة من الأطفال الذين كانوا يعلمون موعده، فيعطي كلا منهم قرشًا (وكان للقرش قيمة آنذاك)، ويقول: يا بني في الجنة باب اسمه باب مفرح الأطفال ومات سليم صبري فرأيته في المنام يعطيني مجلدًا كبيرًا صفحاته حرير أخضر، ومفتوحًا على بيتي الشعر المنسوبين لرابعة العدوية:

فليت الذي بيني وبينك عامر

وبيني وبين العالمين خراب
إذا صح منك الود فالكل هين

وكل الذي فوق التراب تراب

والآن أعود مرة أخرى –لأصل- ما انقطع من الحديث –إلى قرية بهوت وفيلتي الجميلة المتواضعة بها.

كانت الفيلا في بهوت مصدر إشعاع، يؤمها كل مساء شيخ الجامع وناظر الزراعة وأبناء بهوت الموظفون العائدون بالإجازة وكل من يعرف القراءة والكتابة وكل من يريد، وكانت الأحاديث إسلامية أو سياسية أو اجتماعية.

وكنت أسعى للنقل في ثلاثة اتجاهات. الأول النقل للمجموعة الصحية بالمنصورية بالجيزة نظرًا لقربها من القاهرة , والثاني بعثة للحصول على دبلوم المسالك البولية, وكان يسعى لي فيهما الدكتور فؤاد رشيد الذي أصبح مديرا للطب العلاجي والثالث نيابة أمراض النساء، والغريب أنها جاءت كلها بالإيجاب خلال أسبوع واحد، وأخليت طرفي لبدء نيابة أمراض النساء بمستشفى الدمرداش الجامعي في مارس 1950 وبدأت فورًا المذاكرة للحصول على الدبلوم.

انشغلت جدا في بدء العمل لدرجة أن سلوناس أرسلت ي خطابًا تقول إنها كانت تراني وأنا في شمال الدلتا أكثر مما تراني وقد عدت للقاهرة.

ولأذكر أنني في مستهل العمل ظللت يقظان خمسة عشر يومًا لم أنم إلا ساعات يوم خميس ثم يوم الخميس التالي.. لأن زميلي في النيابة الدكتور إكرام شكري والدكتور مصطفى علي كامل كانا على وشك امتحان الدبلوم، فممنوع أن يدخلا المستشفى قبله بأسبوعين حتى لا يطلعا على الحالات وتشخيصها ولم أكن أطمئن لتشخيصات أطباء الامتياز خاصة في حالات الإجهاض، وأيها يفرغ فيها الرحم بعملية وأيها يخلد إلى الراحة والتسكين على أمل أن يستمر الحمل.

لكن تحسن الحال بعد ذلك لما عدا الزميلان وجاء رمضان فإذا ليالي خفارتي تكاد تمتنع فيها طوارئ الليل، بينما زميلي إكرام في ليليه لا يغمض له جفن، فكان يداعبني قائلا: «طبعا أنت عامل ترتيب فوق عشان تعرف تنام الليل». مدة النيابة سنتان وللسنوات طول وعرض...

وكانت هاتان السنتان حاسمتين في تاريخ مصر .

على الصعيد العام فاحت رائحة فضائح الأسلحة الفاسدة التي زود بها الجيش في فلسطين , وأشارت الأصابع إلى وكلاء الشركات الذين تهاونوا في المواصفات لمزيد من الربح ولو على حساب حياة الجنود والضباط، وأشارت الأصابع إلى الملك نفسه، وكتب إحسان عبد القدوس مقالة التاريخي «إني أتهم» متحديا الدولة أن تقدمه للمحاكمة.

وفي هاتين السنتين كان الاتصال على أشده بين الإخوان وبين الضباط الأحرار الذين كانوا يعدون للثورة ...و هي اتصالات سرية لم يكن يعلمها أمثالي، ولكنني أوردها هنا لذكر قصة سمعتها مباشرة فيما بعد من أحد أطرافها وهو المرحوم حسن العشماوي اتصل به جمال عبد الناصر يومًا يبلغه بقلقه وشكه في أن أمرهم قد اكتشف.

وقال لدينا كمية من الأسلحة والقنابل والمتفجرات نريد التخلص منها وإخفاءها فورًا في مكان أمين.

وأخذه حسن العشماوي مع زوجته وأولاده في سيارته، وفي شنطتها القنابل والمتفجرات، وذهبوا إلى عزبة والده محمد العشماوي باشا حيث احتفرا لها مكانا لا يعلمه سواهما، فصارت في مكان أمين! لكن المهم أن هذه الأسلحة ظلت في مكانها حتى تولى الضابط الأحرار السلطة ثم حتى ساءت العلاقات بين الثورة والإخوان ، وبقدرة قادر ذهبت الشرطة «لتكتشفها» فتكون هي محور فضية اتهام حسن العشماوي بحيازة أسلحة ومتفجرات والتآمر لقلب نظام الحكم، وحكم عليه غيابيّا بالسجن خمسًا وعشرين سنة، لولا أنه استطاع الهرب من مصر في قصة مثيرة التفاصيل أودها كتابًا منفردًا.

وبالمناسبة فقد كان جمال عبد الناصر من المعجبين جدا بشخصية حسن العشماوي كان يعتقد أن عقليته أذكى وأنضج وأكثر تفتحًا من عقلية الإخوان ...ولما نجحت الثورة تغيرت الأمور فجأة إذ شعرت الثورة أنها لم تعد بحاجة لتأييد الإخوان ، فإن المتآمرين المختبئين بالأمس أصبحوا هم الحكام، وظل الإخوان على موقفهم من تنظيف الأحزاب، لكن بشرط عدم إلغاء النظام الحزبي، والتحذير من نظام حزب واحد هو حزب الحكومة، وضرورة وضع دستور والعودة إلى الأمة لتنتخب الحكومة التي تراها، فإن النجاح في انقلاب عسكري لا يعني بالضرورة إسناد الحكم إلى القائمين به...و كان عبد الناصر نفسه يقول: إذا نجح انقلاب فلا أريد أن أحكم، بل أعود إلى قريتي.

وألبس جلبابي وأعيش بهدوء ... طبعًا جدت اعتبارات جديد وبذل عبد الناصر جهدًا كبيرًا من أجل أن ينضم إليه حسن العشماوي رئيسًا لهيئة التحرير فيكون عبد الحكيم عامر ساعده العسكري على الجيش وحسن العشماوي ساعده المدني على الحزب... ولكن حسن العشماوي رفض وآثر الالتزام بالجماعة موقفها (المعلومات عن حسن العشماوي –رحمه الله –شخصيا).

شهدت هذه الفترة أيضا مصر ع الملك عبد الله بالرصاص على درجات سلم المسجد الأقصى حيث كان يقف بجواره حفيده حسين بن طلال (الملك حسين)، وصدرت مجلة مصر الفتاة بعنوان ضخم: «صرع الاستعمار».

وشهدت المعسكر الحربي للطلبة على أرض جامعة القاهرة , احتضانه من قبل مدير الجامعة (الدكتور عبد الوهاب مورو باشا) وهيئة التدريس والمسئولين، ونشاطه الملموس في قض مضجع القوات البريطانية في قاعدة قناة السويس ، ووقوع شهداء من طلبة الإخوان .

وشهدت إلغاء حكومة الوفد المعاهدة مع بريطانيا العظمى، واستيلاء القوات البريطانية على قرية «أحمد عبدو» (مأوى الفدائيين) وإصدار فؤاد باشا سراج الدين وزير الداخلية أمره لقوات الشرطة بها الدفاع عنها بأسلحتهم البسيطة حتى كان استشهادهم.

وشهدت عنفوان شباب الوفد من أعضاء مجلس النواب في مهاجمة الملك والاعتراض على مطالبه ومطامعه وسياسته المالية، خاصة مع فلاحين في سنة انخفض فيها الفيضان وانتابت الضائقة فلاحي التفاتيش الزراعية الملكية.

وشهدت استعمال فؤاد سراج الدين كلمة «الإشتراكية» في مجلس النواب، مع أن هذه الكلمة كان حتى ذاك الوقت كفرًا أو قريبًا من الكفر.

وشهدت محاضرات المرحوم القاضي عبد القادر عودة وكيل الإخوان على الميكروفون في المركز العام يقول (إن النظام الملكي الوراثي نظام غير إسلامي).

لكي تجريح الملك في الجامعة بلغ المدى فقد حطم تمثاله وانتهكت صورته وهتف بسقوطه.

ولكنه كان يعيش في جو بطانة من المنافقين والأراذل يبرون له مفاسدة وانتهاكه لأعراض (سيدة كان حموها من كبار أعضاء الحزب السعدي عاد زوجها لبيته فوجد عمر باشا فتحي كبير الياوران، ولما أصر على دخول غرفة النوم قتله عمر فتحي بالرصاص)... وألف الملك لنفسه ما يعرف بالحرس الحديدي، وهو جهاز سري مسلح للتخلص من الخطرين، ومن وجهة نظره، وقد مارس ذلك فعلا.

كان الملك معزولا تمام العزلة عما يدور في عالم الحقيقة وكانت سعادته غامرة عندما أنجبت له الملكة الجديدة ناريمان (بعد طلاق فريدة) ابنا ذكرًا بعد بنات فريدة الثلاث، سماه أحمد فؤاد وجاء يوم قرر فاروق أن يهدي ابنه للجيش، فأقام وليمة ضخمة دعا إليها قيادات الجيش وضباط الكبار؛ وبينما كان الجيش يتغدى عند الملك بدأت الحرائق تشتعل في القاهرة على نطاق واسع (حريق القاهرة ) وتستهدف بالأكثر المصالح الأجنبية من بنوك وشركات ومتاجر... كنت في بيت النواب بمستشفى الولادة (الدمرداش) عندما جاءني لاهثا ضابطا الحراس الجامعي لكلية طب العباسية (رحمه الله) وكان رجلا وطنيًا يشد على يدي مهنئًا، وهو يقول في حماس ظاهر: «إنها الثورة ... أخيرًا يا دكتور».

بذل البوليس وسعه، أما الجيش فلم يكن حاضرًا لأن قيادته كانت في السراي للغداء. ولم يعرف حتى الآن من أشعل حريق القاهرة , وإن كانت حاسة الشم عندي تستغرب أن يتزامن الحريق مع غياب الجيش وعزله عمليا عن التدخل.

فاقت الخسائر كل التوقعات ولهذا كان من المنطقي أن يطلب الملك من حكومة الوفد إعلان الأحكام العرفية، ولم تمض إلا ساعات على إعلانها حتى أقال الملك وزارة الوفد ، وكأنما أراد الملك أن يتحمل الوفد وزر إعلانها ولكن لتكون في خدمة وزارة أخرى.

ودخلت مصر عصر حكم الأقليات مرة أخرى! بعد فترة وجيزة تولى الوزارة فيها علي ماهر، وهو سياسي محايد وقوي وذكي ووطني، ولكن وزارته لم تعمر، وكأنما أريد بها فقط التدرج من الوفد إلى أحزاب الأقلية... وتعاقبت الحكومات على مصر في تسلسل سريع لدرجة أن إحدى الحكومات لم تعمر إلا ثلاثة أيام.

في هذه الأثناء كنت قد تزوجت وسكنا شقة صغيرة سعيدة قرب مستشفى الدمرداش، وكانت سلوناس تقض الامتياز في مستشفى كتشنر لم يكن لدينا خادم لكن كنا نتعاون في ترتيب البيت والطبخ, وكانت الحياة جميلة وإن كان مرتبي18 جنيهًا ومرتب سلوناس 9جنيهات وحصلت على دبلوم النساء والولادة وطلبت الحكومة السعودية بعثة أطباء مصريين فكتبت اسمي.

وفيما اقترب موعد انتهاء نيابتي دعاني بعض طلابي إلا جلسة تكريمية بالهرم.

وبينما نحن جلوس إذا أطبق عليها المخبرون من كل جانب وساقونا إلى نقطة بوليس الهرم، وعبثًا حاولت أن أشرح أنهم طلابي يكرمونني ,لا أدري كيف بلغ الخبر الأستاذ عبد القادر عودة فاتصل بالأمن العام الذي اتصل بقسم البوليس فأبلغه الضابط أنهم عدد من طلبة الطب. وجاءوا من الكلية رأسا لأن دفاترهم المدرسية ما ذالت معهم وأمر الضابط الكبير أن يقرأ له الضابط الأسماء في التليفون...و حملت الهم لأن الأسماء جميعًا وأولها أسمي لم تكن خالية من الغبار.. ولكن جاء ستر الله من حيث لا نحتسب كان معنا طالب من الإخوان اسمه زكريا عريان... ويشاء السميع العليم أن يقرأه الضابط «زكريا عريان» .. فهو إذن مسيحي، وصدر أمر الضابط الكبير أن يخلي سبيلنا فورًا وتنفست الصعداء... لكن بقي الهم الآخر وهو أن أصل من الهرم إلى بيتي بالعباسية حيث تنتظرني سلوناس في أقل من ساعة وهو موعد حظر التجول المفروض على القاهرة , لكن يسر الله فكان.

وانتهت النيابة وفي انتظار إجراءات السعودية عينت مساعد إخصائي بمستشفى سيد جلال بالقاهرة ، ونلت ثقة مديرها المرحوم الدكتور حامد موسى الذي دعاني وسلوناس للعشاء قبل السفر للسعودية.. وحططنا الرحال في مكة المكرم.

ولا أنسى المهابة والجلال الذين تغشياني عند رؤية الكعبة المشرفة لأول مرة, الدموع الغزار التي سالت خلال مناسك العمرة وسرعان ما أثبت نفسي في مجال الشعر كما أثبته في مجال الطب... وصادقنا الكثير وأحببناهم، صداقات لم تزل عزيزة حتى اليوم.

الثورة

حين جاء اليوم المشهود 23 يوليو 1952 كنا جلوسًا في حديقة فندق مصر ، وإذا صوت أنور السادات في الإذاعة يعلن قيام الثورة ونجاحها... بقيادة اللواء محمد نجيب، ومعه مجلس الثورة من الضباط الأحرار... وراح بعضنا يهنئ بعضًا ونحن نسمع أهداف الثورة....

ثم طرد الملك في 26 يوليو فلم يعد إلى مصر إلا جثة ليدفن في السر بإذن خاص من مدافن الأسرة المالكية بمسجد الرفاعي بالقاهرة .

وعلمت فيما بعد عن التقارب والثقة بين الإخوان والضباط الأحرار في أثناء الإعداد للثورة. كان هناك تفاهم بين فريق الضباط الأحرار الذي يجتمع مع فريق الإخوان .

وكانت الشخصية الرئيسية في الفريق الأول جمال عبد الناصر ... وقد كان عبد الناصر نفسه في السابق من الإخوان وأعطى البيعة لحسن البنا ، ثم اقتنع –وأقتنع- أن من الأفضل أن يستقل النشاط في الجيش لأن هناك عناصر أخرى أيضًا ثائرة على الوضع وترحب بالانضمام لتنظيم ترتيب الثورة, ولكن لا يربطهم شيء بالإخوان لا عقائديا ولا سلوكيّا.

وكان الرعب الأكبر للضباط الأحرار هو أن يكتشفوا من قبل الملك والحكومة... وبالفعل أخذت أسماؤهم تتسرب شيئًا فشيئًا، لكن الملك أمر بالانتظار حتى عرف أسماء القائمة كلها، وهي من أربعة وعشرين ضابطًا، وكان الضباط الأحرار بطريقتهم يتابعون ذلك.

وتمت القائمة وبقي اسم واحد مجهول هو اسم عبد الناصر . وفي أحد الأيام علموا أن اسمه كذلك قد اكتشف فلم يبق إلا أن يقوم الحركة بغير إبطاء وكان الضباط الأحرار حريصين متلهفين على موافقة حسن الهضيبي المرشد العام .

وكان رده «إذا كان الأمر قد أبرم فنحن لا نخونهم ونحن نقف معهم أما إذا لم يكن الأمر قد أبرم بعد فإنه لا يحب الانقلابات العسكرية ولا يثق بها».

وكان واضحًا أن الأمر قد أبرم... استمرت الاجتماعات قبل يوم الثورة ويوم الثورة نفسه وأيام ما بعد الثورة... وكان الإخوان على استعدا للتصدي للإنجليز إن تحركوا من القاعدة العسكرية في فايد، وكان الإخوان ليلة الثورة يحرسون السفارات والكباري والمنشآت العامة.

ونجح الانقلاب رغم ثغرات كثيرة كان يمكن أن ينفذ منها الفشل فلو قبضت الحكومة في الحال على كل من عرف من الضباط أولا بأول لما قامت الحركة. ولما قامت كان الملك في الإسكندرية في قصر المنتزه فلما علم أخذ زوجته وابنه إلى قصر رأس التين... ولو أنه في طرقه دخل معسكر مصطفى باشا لينال ولاء حاميته، ولتولت الدفاع عنه ضد القوات التي جاءت بعد يومين لأخذ توقيعه بالتنازل عن العرش، ثم طرده بدون مقامة. لكن نجحت الثورة.

وسرت في أوصال مصر كهرباء. واستحابت في حماس تلقائي للزعيم الجديد محمد نجيب وضباطه الأحرار، وعندما أطلق شعار الاتحاد والنظام والعمل، تم تنفيذ ذلك تلقائيًا في جميع مرافق الحياة المصرية وبدا أن محمد نجيب وأبناءهم أمل مصر الذي طال انتظاره... وامتدت آمال مصر أمامها طويلة عريضة.

كانت مصر مثلا رائعًا لالتحام القيادة والشعب ...فلأول مرة آلاف السنين تكون القياد من الشعب أصبحت مصر لأول مرة منذ قرون طويلة يتولى حكمها مصر يون.

حكام يركبون سيارات الجيب ويتعشون بسندوتشات الفلافل. وكان في السودان فرح آخر.

فمحمد مجيب مولود في الخرطوم... والجهاد الشعبي في مصر والسودان ينادي بوحدة وادي النيل وجلاء القوات البريطانية المحتلة.

وأصبحت مصر بحق مصر ا جديدة... وتنفس أبو الهول الصعداء.

وبعد

فلأقف كما وعدت عند 1952 ... فإن مصر من بعدها فتحت صفحة جديدة من تاريخها يكتب لها كتاب جديد... بل كتبت عنها مئات الكتب. وأذكر ذلك العقد الفريد فأذكر حسن البنا يستشهد بيت من الشعر:

مُنيً إن تكن حقا تكن أسعد المنى

وإلا فقد عشنا بها زمنا رغدا

ولم أكتب هذه الصفحات بنية النشر، لكن لأجل يدنو وأرى ذكريات تلك الحقبة تبهت رويدًا رويدًا، بل يتصدى لها اليوم عدد من يسمون أنفسهم مؤرخين فيقتحمون عليها بالكذب والبهتان، ويفتئتون عليها في سوء نية صارخ، عند جيل نشأ بعدما فما يميز كذبها من صحيحها ولا تبرها من صفيحها فكان رد الفعل عندي أن أكتب عن هذه الحقبة من العمر ،حتى ولو لم أعرف لماذا. وأذكر معها وجوها أفضت إلى ربها أو استشهدت في سبيل دينها ... وعصبة ربط بينها الحب في الله برباط لم أر مثله قبله ولا بعده... وشخصيات انحرفت عن المدار وأخرى باقية عليه.

أما أنا الآن فاخترت لأسباب أقنعتني أن أعمل للإسلام في أمريكا. فلست إذن مندرجًا ولا أنا في الصف فإن أي عمل إسلامي في أمريكا محكوم عليه بالفشل إذا انتسب في السر أو في العلن إلى أية حكومة أو هيئة أو جماعة خارج أمريكا وهو ما أراه رأي اليقين وإن لم ينتبه له –للأسف- الكثيرون.

السؤال الأخير

ويبقى السؤال الأخير. فلو استقبلنا من الأمر ما استدبرنا هل هناك ما وددت لو تغير؟ وهل تجدي «لو» الندم.

لعلي الآن (رغم حماسي وقتها) كنت أرى ألا يستعجل الإخوان اقتحام الميدان السياسي، خاصة فيما يختص بالحكم لنترك العظمة اللكلاب ونتفرغ لتحويل شعب مصر كله إلى شعب يؤمن بربه ويطيعه لا في العبادات فقط، بل في المعاملات جميعًا، خاصة الأخلاق والعمق الروحي ... فإذا تم ذلك فالباقي سهل فلا يتحرك الإخوان والرأي العام يتعاطف معهم، إنما وهم الرأي العام.

وفي اعتقادي الشخصي أيضًا أنه ف حساب الأرباح والخسائر فإن الجهاز السري كانت الخسارة منه أكثر من المكسب إن آفة هذه التنظيمات السرية أنها عرضة عادة –من جراء الشعور بقوة السلاح- لأن تعتبر نفسها هي العنصر المهم من الحركة، ويغشاها شعور بأن رجال الحركة «المدنيين!» رجال أقوال أما هم فرجال أفعال، فيكون مثلهما كما قال الشاعر:

السيف أصدق إنباء من الكتب

في حده الحد بين الجد واللعب

وتشير الدلائل إلى أنهم فعلا في مرحلة من المراحل نظرا إلى حسن النبا على أنه مجرد رجل يحسن الخطابة، وأن الهيكل العام للحركة ما هو إلا واجه وفي هذا الظروف كانوا يبيحون لأنفسهم التصرف دون الرجوع إلى القيادة، وأعلم علم اليقين أن حسن البنا قد صدم واستشاط غضبًا لما قتل القاضي الخازندار وتبرأ إلى الله من دمه (قتله اثنان من النظام لأنه كان شديد القسوة في أحكامه على الوطنيين الذين يهاجمون الإنجليز، بينما كان رفيقًا بمجرمين ارتكبوا حوادث إجرامية أو أخلاقية كبرى) وأعلم علم اليقين كذلك أن حسن وباقي الجماعة لم يكن حين يحال بين القيادة الشرعية وبين هذا الجهاز السري، فإذا بالعضلة تتقمص دور المخ فترتكب حماقات يدرك كل ذي بصيرة أن وراءها الشر كله وليس ورائها من الخير شيء.

وبطبيعة الحال كان النظام الخاص يحاول دائمًا تبرير نفسه بحجة الإنجليز آنا واليهود آنا، لكن النظام لم يستطيع أن يلتزم بهذه الحدود.

ولهذا فإن الأستاذ الهضيبي –لما وافق على مضض وبإلحاح شديد من الإخوان - أن يصبح المرشد العام بعد حسن البنا ، كانت له شروط من ضمنها ألا يكون للجمعية جهاز سري واقتنع الإخوان وأغلب أعضاء الجهاز السري، فالدعوة دعوة علنية وفريضة الجهاد لا تستدعي أن يكون هناك جهاز سري، لكن بقي جناح كان له ما بعده ولا أريد أن أتجاز حدود عام 1952 .

وثمة أمر آخر، والشيء بالشيء يذكر، وهو دور القوة في تنفيذ حتى عن طريق قوت الحكم إذ يظن الكثيرون –إخوانا وغير إخوان – أن الاستيلاء على الحكم كفيل بالوصول إلى الغاية المنشودة, فما هي إلا أن تصدر الأوامر وتصاغ القوانين فإذا كل شيء على أحسن ما يكون وهذا الظن خطأ محض فإن الحكومة لا تستطيع أن تصدر قانونًا بالمحبة أو بالغفلة بالأمانة في أداء العمل ولقد تعلن الدولة أن الحكم إسلامي والناس في وادي والإسلام في واد آخر، وحسبهم أن يبدوا القشور والظواهر ويستخفوا من القانون، وهم يمارسون كل أنواع الفساد والضلال، ثم يستغرب الناس لأن الحكم الإسلامي لم يأت بالنجاح المطلوب أو السعادة المنشودة.

أذكر عبارة من خطاب أرسلته إلى الأستاذ الهضيبي رحمه الله ربما في أواخر 1952 قلت له: «تسبق الدعوة قانونها».

أي إن الناس ينبغي أن يكونوا في حالة إسلام لكي نتوقع أن تنجح فيهم قوانين الإسلام وقلت إن الإسلام سيقي الناس من الجريمة بثلاثة خطوط دفاع: الأول تكوين الوجدان المسلم وهو مسئولية التربية والتعليم والإعلام، والثاني منع الأسباب والأعذار التي تؤدي إلى الجريمة وهو بالدرجة الكبرى مسئولية الإصلاح الاقتصادي الشامل، والثالث هو قانون العقوبات وينبغي إذن تطبيق الشريعة من أولها لآخرها لأن محاولة تطبيقها من آخرها لأولها يقضي عليها بالفشل، ويظن الناس أن الإسلام قد فشل وليس الذين حاولوا تطبيقه دون فهم ولا فقه والغاية هي الحق والعدالة وهو ما لا يدركه الكثيرون من الأحكام والكثيرون من الإخوان .

واعجبني أن الأستاذ الهضيبي اعترض في حينه على محاكمة إبراهيم عبد الهادي أمام محكمة عسكرية مع أن الكثيرين تهللوا لذلك لأن إبراهيم عبد الهادي كان آنذاك العدو الأكبر للإخوان.

ومن همومي حتى يومنا هذا أنني أنظر إلى المسلمين وإلى العاملين للإسلام فكأني أبصر في قلب كل منهم دكتاتورًا صغيرًا يمارس الدكتاتورية في مجاله الصغير، وسيصبح بلا شك إذا وصل إلى السلطة دكتارتورا كبيرا.. وأسوأ أنواع الدكتاتورية هو ما تدثر بعباءة الدين ... وقد جاء في رد الهضيبي على خطابي: «كأن سمعك خبئ في قلبي».

ولقد كان في العقد الذي نحن بصدده ننظر نظرة سيئة إلى الأحزاب وكان من بين هتافاتنا في المظاهرات «لا حزبية بعد اليوم» أحسب أن ذلك كان بدافع ما كنا نراه من الأحزاب من حرص على الصالح الخاص لا العام، ومن استغلال للحكم في محاباة الأنصار والمحاسيب، ومن تهافت أما المستعمر البريطاني حتى كأت روح الجهاد قد فقدت منها تمامًا.

وكان الفهم أنه إذا جاء نظام إسلامي فلا مجال إذن لأحزاب وما يدب بين الأحزاب من خلاف لكن كان يجب أن نفهم أن الخطأ في نظام الأحزاب كان خطأ الرجال، وليس خطأ النظام واعتقد أن حسن البنا –رحمه الله- لو امتد به الزمن واستقبل من أمره ما استدبر لاستبدل بهذا الرأي غيره، وراى ما رآه الهضيبي وأعلنه صريحًا غير غامض، وإن تكن الظروف غير الظروف.

مسألة الديمقراطية

تعقبت ختامي أحب أن أورده حتى ولو لم يندرج تحت عنوان الكتاب بالضبط، وهو جلاء موقف المسلمين في السابق وللاحق من مسألة الديمقراطية، وكذلك موقف الإسلام فبينما يدعو فريق من الإسلاميين إليها إذا فريق يصاب بالذعر والتشنج حتى لمجرد سماع الكلمة.

ولا شك أن الإسلام هو دين الحق ودين الكمال، وأنه جاء من عند الله في زمان سابق على نشأة الديمقراطيات المعاصرة, فلا ينبغي وصف الإسلام بأن دين ديمقراطي أو اشتراكي أو شيوعي، كما جرى على بعض الألسنة: ألسنة الحكام أو ألسنة الذين تابعوهم رغبًا أو رهبًا غير من اعتقوا هذه الإيدلوجيات عن عقيدة وإخلاص.

ولا نستطيع الفكاك –ولا ينبغي- من حقيقة أن الدول التي خططت لزوال الخلافة الإسلامية، ومزقت العالم العربي إلى دول ذات حدود وقيود، ثم جعلت من هذه الدول مستعمرات لها تأتمر بأمرهم فإذا همت بالمطالبة باستقلالها أعلمت فيها جيوش الاحتلال التنكيل والتقتيل، كانت بالمقام الأول إنجليزا وفرنسا اللتين ترفعان لواء الديمقارطية وتقفان على قيمتها، فضلا عن إيطاليا في عهديها الديمقراطي والفاشي، وديمقراطيات أخرى أنشبت مخالبها وأنيابها في أجزاء أخرى من العالم الإسلامي خارج الوطن العربي، ومن بعدها أسفرت أمريكا عن وجهها الاستعماري الجديد.

ولا ننسى الصلى الوثيقة بين غزو الديمقراطيات لبلادنا في القرن الأخير، وبين الغزو الصليبي في القرون الوسيطة –قادمًا- من نفس البلاد الديمقارطية لعالمنا العربي، حتى قال أحد قوادهم حينما دخل الشام في الحرب العالمية الأولى: «اليوم انتهت الحروب الصليبية»، وزار آخر قبر صلاح الدين الأيوبي وقال في شماتة: «ها نحن قد عدنا يا صلاح الدين»!

وننظر فوق ذلك إلى الحضارة الغربية المعاصرة –حضارة الديمقارطيات –فإذا هي مركوزة على الاتجاه المادي مع الإفلاس الروحي، قائمة على الطمع والجشع والأنانية، سواء في سلوك الأفراد أو الدول، مسرفة في اللذائذ الحسية والانحرفات الأخلاقية، حتى بات واضحًا –حتى لهم هم- أنها حضارة تحمل في جسمها جراثيم فنائها ما لم تغير اتجاهها، ولم يبد لي الآن ما يشير إلى ذلك.

ولا تزال الديمقراطيات هي التي تمتص دماء العالم الثالث وكل المسلمين منه، وتسعى لفرض مناخها الأخلاقي علينا، وتضرب بعضنا ببعض لتبتز عائد البترول العربي، وتنحاز لإسرائيل ضدنا في غير عدل ولا حتى حياء وتساند المستبدين والطغاة من حكامنا ضد المطالب والطموحات الديمقراطية التي تتحرق إليها الشعوب المغلوبة كل ذلك أدى بطبيعة الحال وبحكم المنطق إلى تشكيل الشعور الذي نحسه نحوها، والموقف الذي نتخذه منها، والمفاصلة فيما بيننا وبينها، ورغم إغراقنا في شراء تقنياتها فإننا أيديولوجيا لا نريد أن يكون بيننا وبينها سبب ولا نسب ولا انتماء، يدخل في ذلك لفظ الديمقراطية ذاته.

هذه نظرة العاطفة, لكن ليس بمقدورنا (شرعًا) أن نتخلى عن نظرة العقل فالعقل واحد من المقاصد الكلية الخمسة للشريعة, به عرفنا الله، وهو مناط التكليف، وبه فهمنا الشريعة، وبه ننفذ الأمر القرآني بدراسة أنفسنا ودراسة الكون الذي حولنا بل هو بعد القرآن الكريم والحديث الشريف مصادر الشريعة فيما لا نص فيه، وعماد القياس والاجتهاد ولهذا فنحن شرعًا أيضًا –مدينون لعقولنا بأمرين: الأول أن نصونها باجتناب ما يضر بها من خمر أو مخدرات أو مصادر للتفكير والتعبير، والثاني أن نستعملها ونستهدي بها وإلا دخلنا في نطاق الآية الكريمة «ولقد ذرأنا لجهنم كثيرًا من الجن والإنس لهم قلوب لا يسمعون بها، أولئك كالأنعام بل هم أضل. أولئك هم الغافلون»، وأدرجنا في زمرة الذين لا يعقلون ولا يفقهون ولا يتفكرون ولا يتدبرون، وغير ذلك من الأوصاف التي كررها القرآن الكريم في هذا الباب.

ماذا يقول العقل إذن؟

يقول إن الديمقراطية بمعناها المفهوم لم تكن أبدًا مرضًا من الأمراض التي أصابت أمة الإسلام ، وابتليت بها دولته منذ بواكير الإسلام حتى اليوم بل كان الداء والبلاء هو الاستبداد والدكتاتورية على مدى ذلك التاريخ.

يقو العقل أنه لو كان هناك درس واحد ينبغي أن تتعلمه الأمة من تاريخها الطويل لكان عدم تركيز السلطة في يد واحدة، وإيجاد نظام يكفل العواصم والكوابح للسلطة إن خرجت عن نطاق المصلحة وأنه لا سلطة بغير بيعة (وأقصد بيعة حرة صادقة لا المهازل والتمثيليات التي لا تخدع لبيبًا أو غير لبيب) وأن الأمة التي تعطى البيعة تملك أن تسحبها، وأنها بيعة مشروطة لا مطلقة كما قال أبو بكر «أطيعوني ما أطعت الله فيكم فإن عصيته فلا طاعة لي عليكم».

وأن الحاكم موظف لدى الأمة تستخدمه وتدفعه أجره، مثلما حرمت الأمة أبا بكر من التجارة في السوق ليكسب عيشه، وأرادته موظفًا متفرغًا لقاء أجر وسط بين الغني والفقير من المسلمين.. وأن ذات الحاكم ليس مصونة لا تمس، بل خاضعة للرقابة قابلة للنقد، فهذا رجل يرى عمر يرتدي قميصًا من القماش الذي وزعته الدولة على المسلمين وعمر حجمه كبير فلابد أنه أخذ أكثر من حصته، فيقاطعه قائلا: «لا سمع ولا طاعة» حتى يقدم عمر التفسير بأنه أخذ حصة ابنه عبد الله بن عمر ويستشهده على ذلك حتى النبي عليه الصلاة والسلام ذاته يبين أن ما يلقيه على الناس من أمور الدين فهو دين ملزم، ولكنه خارج هذا النطاق بشر كالبشر، وإن كان خير البشر وها هو ذا الحباب بن المنذر يسأله عن خطته لمعركة بدر، فإذا اطمأن إلى أنها ليست وحيًا من الله لم يتردد في اقتراح التغير، ولم يتردد النبي عليه الصلاة والسلام في قبوله.

وقد كانت خطة النبي لمعركة أحد أن يتحصن المسلمون في المدينة ويصدوا عنها الهجوم من الكفار، لكن الأغلبية ترى غير ذلك فينزل على رأيها المهاجمين من الكفار، لكن الأغلبية ترى غير ذلك فينزل على رأيها ويذهب إلى أحد، وبعد الانتصار الأول تأتي الهزيمة من قبل الرماة الذين خالفوا أمره وتخلوا عن موقعهم، وينزل القرآن إليه من بعد ذلك بكلمات ربه: «فاعف عنهم واستغفر لهم وشاورهم في الأمر».

ولقد كانت البيعة الحرة (أقول الحرة) ركنا في تعيين أبي بكر وعمر وعثمان وعلي ولو أمهلت مسيرة الأمة بعض الوقت لأدرك المسلمون أنه باتساع رقعة الدولة يستحيل أن تكون البيعة فردية فلا بد من الإنابة والتوكيل، فيقويها ممثلو الأمة وإني لأحس إحساسًا عميقًا بأنه لو لم تعرض الفتنة الكبرى بين علي ومعاوية لا ستنبط المسلمون نظامًا يجمع عناصر وسمات النظم الديمقراطية الحديثة ولكن يسبقها بقرون طويلة، ومن ثم فلن يكون اسمه الديمقراطية بل النظام الشوري الإسلامي ويظل الدرس الأكيد من تلك الفتنة هو حاجة الأمة في غير حاجة إلى القتل والعنف وسفك الدماء، أو الحرب الأهلية بين المسلمين، أو حبس الأمة في قفص القهر والظلم والاستبداد.

فماذا يقول العقل أيضًا؟

يقول إن هذه الأوصاف والسمات الإسلامية معمول بها في الدول الحديثة الديمقراطية وغير معمول بها أبدًا –ووأخجلاه- في البلاد العربية الإسلامية! ويقول إن الدول التي أخذت بالنظم الديمقراطية (ولو على أراضيها وبين شعوبها) هي الدول الناجحة في هذا العالم، بينما الدول التي لم تأخذ بها هي الدول الفاشلة والفقيرة والتعيسة والمغلوبة.

ويقول إننا مسرفون أكبر السرف في استيراد تقنياتهم وبضائعهم الاستهلاكية، محجمون كل الإحجام عن اقتباس أسباب نجاحهم وخلفيا قوتهم.. بدعوى أن الديمقراطية كفر، وأن من اقتبس من الكفار فهو منهم، وأن منهاجهم لا يتفق مع عادتنا وتقاليدنا وما ألفينا عليه آبائنا.

إن من حسن الحظ أن الإسلام لم يجعل تاريخ المسلمين مصدرًا من مصادر التشريع... ففي تاريخ المسلمين الجيد والردئ ولم يفرض علينا بالتالي قوالب مصبوبة بنبغي أن نتحجر فيها، ولو لم تصلح لنا الآن... إنما هو الأخذ بما فيه صالح الأمة مما لا يناقض القرآن الكريم ولا السنة المطهرة، وما دمنا داخل حدودها فلنا أن نتحرك وأن نبتكر وأن نفي بحاجات يومنا وغدنا، وأن نصنع الجديد المتجدد لا يحدنا إلا القرآن والسنة ومصلحة الأمة. ولا علينا من فقهاء السلطة الذين بروا الظلم على مدى القرون، ولا من ضعفاء العقول وعباد الماضي بغثة وسمينه، ولا من الذين تضيق آفاقهم عن استيعاب مطلب الشريعة الأسمى وهو «رعاية مصالح العباد في معاشهم ومعادهم».

إن المفكر العدل المنصف لو قارن بين ما عند الديمقراطيات وما عندنا لتبين له بوضوح أن نظامهم قريب كل القرب من النظام الإسلامي، ونظامنا بعيد كل البعد عن النظام الإسلامي وقبل أن تنبري يا أخي ويا بني المسلم في تعداد ما عندهم من مفاسد ومخاز وانحرفات، دعني أقل لك بأن الفرق_ ربما الوحيد- بين النظام الديمقراطي المعاصر وبين النظام الإسلام ي، هو أنك في ديمقراطيات الغرب تستطيع أن تتغلب على رأي الله (تعالى عن ذلك علوًا كبيرًا) لو استطعت أن تستقطب أغلبية الأصوات بينما لو أخذ المسلمون بالنظام الديمقراطي فسيكون الدستور قائمًا على الكتاب والسنة, فأي تشريع يخالف الشريعة سيسقط تلقائيًا لأنه غير دستوري أما آله الحكم نفسها فهي بعينها الديمقراطية بصرف النظر عن المسميات، ولنطلق عليها أي اسم نختار شرط الاحتفاظ بالمعنى والجوهر.

ليعذرني القارئ إن «فاركلامي» خارج حدود «العقد الفريد» ولكن واضح أنها معان تراكمت في صدري فأحدثت ضغطًا شديدًا، وأنا امرؤ لا يؤلف كل يوم كتابًا، فأراها فرصة للتعبير عن بعض الآراء التي أراها في صميم الاهتمام بالإسلام في السابق وللاحق.

لقد بات من سمات المسلمين أن العمل الإسلامي أصبح يعتمد الشعارات أكثر من اللازم، ويهتم لفروع الفروع من الشكليات لا بالأمهات والكليات ووت لو أدرك المسلمون إخوانًا وغير إخوان أن الحكم الإسلامي هو حيث يقوم العدل ويستقر الأمن وتحفظ الكرامات وتستغل الثروات لصالح الشعب، ويكون القانون فوق الحاكم وليس العكس ويأمن المسيحيون على عقيدتهم وكنائسهم وصلبانهم (كما قال عمر بن الخطاب في عهده لأهل القدس) وتصاغ القوانين حسبما رآه العقل البشري وافيا بمصلحة الناس في زمانهم ومكانهم بحيث لا تخالف أحكام الشريعة، مع طبع أخلاق الناس على النقاء والطهر ومراقبة الله عن طريق الوعظ والإرشاد والتعليم والإعلام وخلال ذلك للأبد من الإحاطة بالمعلومة الدينية والفقه بالإسلام .

وإن حكومات تعاقب الناس على حلق لحاهم أو حتى تهذيبها يفوتها أنها تحول السنة إلى فرض وهذا تغيير للدين، وحكومات تعاقب الضعيف إن سرق وتتجاوز عن الكبير إذا التهم لا يحق لها أن تنسب إلى الإسلام ، ودولا تعامل المرآة على أنها مواطن من الدرجة الثانية أو الثالثة. إنما تغلب العرف والتقاليد على الإسلام نفسه، ولن أتعرض لحكومات في بلاد المسلمين ترفض الإسلام أصلا وتحاربه وتحاول عزله عن سياسة الدولة وهداية المجتمع.

لقد فاضت العواطف وضمرت الأفهام. وإن كان لي أن أختار شعارًا أوصي به الأمانة فإنه: «يا مسلمي العالم... فكروا»

والحمد لله رب العالمين.