التيارات السياسية في مصر

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
التيارات السياسية في مصر 1919- 1952


المقدمة

لقد اجتازت مصر تيارات سياسية عديدة في تاريخها الحديث في الفترة اللاحقة للحرب العالمية الثانية والسابقة لثورة يوليو المجيدة .

لذلك فإنه لا يمكن لأي باحث أن يتجاهل أهمية تلك الحقبة وليس ذلك لكونها البوتقة التي انصهر فيها تنظيم الضباط الأحرار فحسب بل لأنها دون جدال من أخصب فترات تاريخ وطننا العظيم مصر وأعظمها نضجا لأسباب

عديدة نوجز منها :

أولا : أن تلك الفترة لن تتعرض للدراسة قط .

ولذلك نقدم هذا الكتاب كدراسة أكاديمية للمرة الأولى متضمنا أهم التيارات الفكرية السياسية التى تميزت بها الفترة المدروسة .

ثانيا :أن تلك الفترة لم تتعرض للدراسة قط .

ولذلك نقدم هذا الكتاب كدراسة أكاديمية للمرة الأولى متضمنا أهم التيارات الفكرية السياسية التي تميزت بها الفترة المدروسة .

ثانيا : أن ذات الفترة قد تميزت بسمات بارزة لعل أهمها .

تبلور خصائص واتجاه كل تيار بحيث كان من السهولة إبراز أوجه الخلاف والتشابه بين كل منها سواء من جهة مواقفها تجاه الاحتلال .

أو من جهة إحساسها بقوة وتأثير القضية الاجتماعية .

كما تميزت بالنضج وتجسيد معالم الصراع الطبقي ووعي كل طبقة لمصالحها ومن أمثلة ذلك الائتلاف الذي تم بين الطلبة والعمال في سنة 1946 .

ثالثا : إن المعاناة التي أحست بها جماهير الشعب وطبقته الوسطى على وجه الخصوص التي انتمى لها الشباب الثائر بالجيش قد دفعت بالتنظيم الناشئ على الظهور ومحاولة فرض حل للمشاكل إلي استعصى حلها على يد التيارات السياسية المختلفة التي أجهدتها الصراعات والمنافسة الداخلية بينها بالرغم إدراكها التام لحجم المشاكل .

وأيضا إدراكها لوسائل العلاج لكنها كانت بحاجة على دماء جديدة .

ووجوه جديدة .

وأيضا وسائل جديدة .

رابعا : أن مراحل الكفاح ضد المستعمر تميزت باتباع وسائل سلمية سلبية في البداية ولفترة طويلة.

ألا أنه مع بداية الخمسينات ومع وضوح الرؤى أمام الحركة الوطنية المصرية أن أجبرت الأخيرة الحكومة الوفدية التي تعيير أيديولوجيتها السياسية واضطرتها 0إلى إتباع الايجابية .

واللجوء إلى الكفاح المسلح من أجل الحصول على الاستقلال وهي وإن أجهضت ولم تستمر حتى آخر الشوط إلا انه نجاح بكل المعايير السياسية والفكرية .

هذا بالنسبة لأهمية تلك الفترة ..أما عن أهمية دوافع هذا النضج فمرجعه بالدرجة الأولى لحجم التضحيات الكثيرة التي قدمها الشعب المصري للمستعمرين الانجليز وفاء للمعاهدة البريطانية المصرية طوال سنوات الحرب العالمية الثانية .

في الوقت الذي قوبل منه هذا الجهد الذي لولاه لتغير مجرى الحرب باعتراف قوادهم أنفسهم نقول قوبل هذا برفض الجلاء عن أرض مصر والاستمرار في الاحتلال مما دفع العناصر الوطنية إلى إتباع كل الوسائل الممكنة سواء من داخل تنظيماتها أو خلال ما قامت به الحركة الفدائية في القناة .

أدى تطرف الإنجليز المجنون فيما عرف بحوادث الإسماعيلية وأحداث حريق القاهرة ودفع ذلك إلى تفجر الموقف ليلة 23 يوليو سنة 1952 وقيام الضباط الأحرار بالثورة الوطنية التي قوبلت بترحيب وتأييد من المصريين .

لقد كان شرف البدء في دراسة تلك الحقبة الهامة وتقديمها أكاديميا بجامعة القاهرة بل وأنه لمجرد تحليل هذه الفترة بعمق يعتبر في حد ذاته إضافة متواضعة لتاريخ بلدي .

وكان لي شرف مقابلة الشخصيات البارزة في تلك الآونة والتي عاصرت هذه الأحداث وظلت تراقب عن كثب نتاجها منها لقاءاتي لعدة مرات بوزير الداخلية الوفدي وشاهد أحداث الإسماعيلية في آخر وزارة وفدية في عام الثورة وأعني به فؤاد باشا سراج الدين .

ثم أحد أبطال الثورة وصاحب الفكر المميز ضمن قيادتها وأقصد به خالد محي الدين مقرر التجمع الوطني التقدمي الوحدوي وأحد مكوني خلايا تنظيم الضباط الأحرار ورئيس مركز إسلام .

ثم مقابلتي لعدة مرات بوكيل أول وزارة الخارجية وأول من كتب أول منشور للتشكيل الناشئ بالجيش وأول من أطلق تسمية "الضباط الأحرار " على تجمع الضباط السياسي وهو الأستاذ جمال بك منصور ثم لقاءاتي مع أحد أقطاب ومؤرخي اليسار المصر وأحد أعضاء منظمة حديتو ,والسكرتير الحالي لمنظمة السلام وأحد كتاب مجلة الطليعة الدكتور رفعت السعيد .

ومقابلتي للوطني الكبير والمحامي القدير ,والذي سجن مع أنور السادات في الأربعينيات .وأحد رجال الحزب الوطني المرحوم عبد الوهاب بك حسنى .

كذلك المساعدات التي قدمها إلى سيف حسن البنا نجل مرشد الإخوان والحق يقال أن هؤلاء الرجال لم يألوا جهدا في تقديم كافة التسهيلات لى سواء من جهة أمدادهم بالمعلومات التي ألححت في الحصول عليها أو تكريمهم بتكرار زياراتى لهم ومنحهم الكثير من وقتهم الثمين من أجل المشاركة في توضيح ما خفي من تاريخ بلدنا الغالي .

بالإضافة إلى المراجع النادرة التي استطعت الحصول عليها ككتاب " الصراع الطبقي في مصر " لمحمود حسين وهو مكتوب باللغة الفرنسية .

وكتاب جماعة الإخوان " لريتشارد متشل " " ومصر مجتمع يحكمه العسكريون " لأنور عبد الملك " والمجلة السياسية الناقدة " هاربرت" ولقد حاولت العثور على الوثائق البريطانية ولم أتمكن إطلاقا نظرا لتعارض ذلك مع القانون البريطاني الذي يحدده مدة ثلاثين عاما كحد أدنى للاطلاع .. )

ولقد تضمن هذا البحث عن التيارات السياسية في مصر أربعة تيارات .

أولها: التيار الليبرالي ويمثله العديد من الأحزاب المصرية .. وإن حرصت على أخذ مثال واحد منها وهو الوفد لا لكونه أكبر الأحزاب السياسية جماهيريا فحسب بل لدوره البارز الذي أثر في خريطة السياسة المصرية إبان وجوده في الحكم أو في المعارضة .

كذلك أن معظم الأحزاب الليبرالية الأخرى لم تشارك في الحكم وعاشت في محيط حزبها . ثم قدمت تحليلا لمفهوم الليبرالية الاقتصادية .

ودور حركة الترجمة إلى العربية والبعثات إلى أوربا مع مطلع القرن العشرين التي استطاعت أن تلعب دورا بارزا في نشر الوعي السياسي وعودة أعلام بارزة من هذه البعثات بقدرة على إثراء للفكر اتضح في شكل تنظيمات سياسية ظهرت ملامحها وتحددت خصائصها مع مطلع الثلاثينات والأربعينات من القرن الحالي .

وكان على أن تقدم بتحليل للهيكل التنظيمي للوفد منذ نشأته مع الإشارة إلى الانسلاخات الأربع التي خرجت من التنظيم الأم مكونة أحزاب أربعة كان لها دورها وإن ظلت أحزاب أقليات .

ويحتم السرد التاريخي للوفد أن أشير إلى الغرض من إنشاء فرق القمصان الزرقاء مع توضيح أهم نقاط الخلاف بينها وبين القمصان الخضراء الفاشية خاصة والبون شاسع بين الغرضين .

كذلك دراسة وسائل كفاح الوفد التي اعتمدت على المفاوضات السلمية مع الإنجليز بغية الوصول التدريج إلى الاستقلال .باعتباره وكيلا للأمة منذ وكل الشعب سعد زغلول .

كذلك أوضحت مدى حرصه على المشاركة في حكم البلاد بالأسلوب الديمقراطي الممثل في البرلمان كمحاولة لكف بريطانيا عن التدخل في شئون البلاد الداخلية ولقد نجح إلى حد ما في ذلك .

ثم أفردت الفصل الثاني للتيار الدين وأخذت مثالا لذلك " هيئة الإخوان المسلمين " على اعتبار أنها كانت أكبر وأبرز الجماعات الدينية التي تواجدت بالساحة المصرية .

ولقد شاركت سياسيا ودينيا منذ الثلاثينات وحتى الخمسينات .ولقد ظهرت كرد فعل للتيار العلماني الذي تواجد على أثر النهضة الفكرية التي أوضحنا لاحقا أسبابها والتا أدت إلى ظهور أحزاب سياسية وشخصية مرشدها العام , ودوافعه لإنشائها وتجاربه السابقة على إنشائها كتكوينه " للجماعة الحفصية " التي حدد لها غرضان

أولهما : المحافظة على تعاليم الاسلامى .

وثانيهما : إبطال أعمال البعثات التبشيرية فا مصر في أواخر العشرينات .

كذلك أوضحت أسباب انتشارها السريع بعد أن استعملت الدين كوسيلة لجذب انتباه الشباب . ورفعها للواء الاصطلاح الاجتماع بناء على تعاليم الدين . خاصة وأن رجال الزاهر كانوا قد توانوا في أداء دورهم .

ثم أوضحت درجات الأعضاء المنضمين للجماعة والتي تبدأ بالعضو .فالأخ المساعد فالمنتسب فالعامل فالمجاهد فالداعية .ثم أوضحت وسائل الإخوان فى نشر دعوتهم مع مناقشة قضية شغلت الرأي العام لسنوات طويلة وهو هوية الجماعة .

هل هوى دينية أم سياسية ؟ ولقد حسمت بأنها دينية سياسية شاركت في معظم الأحداث السياسية في المدة المدروسة . انغمست الهيئة فئ الاغتيالات السياسية مما أدى إلى عدم استتباب الأمن وإلى دخولها فى قضايا كثيرة انتهت آخر الأمر بحلها .

ثم رفض الإخوان لهذا القرار واغتيالهم لرئيس الوزراء النقراشي باشا . وأعقب ذلك اغتيال حسن البنا ذاته . وما تلي ذلك من تنازع حول قضية المرشد العام بين أعضاء الجهاز السري والجهاز العلني .

وحسمت باختيار الهضيبى القاضي من خارج الجماعة لإرضاء عالم القضاء والقانون .

وبذلك يساعد في حل قضايا الإخوان وتهدئة القصر خصوصا وأن شقيق زوجة الهضيبى كان رئيسا لشئون القصر الملك مما ساعد في سرعة العودة الشرعية للهيئة لتمارس عملها مع هذا الوجه الجديد .كما أوضحت كذلك كيف اضطر رجال التنظيم السري قبول الموقف ومسايرة الظروف .

كذلك أبنت دوره في الاعتراض على أعمال العنف وعلى بقاء الجهاز السري بعد أن قال قوله الشهير " ليس هناك سر في الرسالة ولا إرهاب في الدين " وتنديده بذلك على أعضاء الجهاز السري وتشكيكه في نبل غرضهم وهى الصفة التي كان ينظر بها إلى هذه الأحداث من جانب مؤيديها .

كذلك تحديه الهادئ " لجانب الصفوة " أي أعضاء هذا التنظيم بعد أن قال عن الجهاز السري أنه قد خلق ازدواجا وقيادة متناقضة وهو يعد بذلك خطأ من الناحية الإدارية ومن وجوه أخرى عديدة .

كذلك أوضحت كيف فشل رجال الجهاز السري فى ابتلاع شخصية الهضيبى بعد أن تلاحقت الأحداث على المسرح المصري وبعد أن وصلت المؤثرات إلى الذروة .

وألقت الظروف الخارجية مشاكل اكبر على الجماعة نفسها وحيث ألقت بكل ثقلها على دورها في فتح مرحلة أخرى من مراحل النزاع الانجليزي المصري والتي عرفت باسم الكفاح المسلح في القناة بعد إلغاء المعاهدة وانتهت بموقفهم المساعد والمؤيد للضباط الأحرار في البداية .

ولقد خصصت الفصل الثالث للتيار الفاشي الذي عم مصر وتمثل في " حزب مصر الفتاة " في الثلاثينيات .

بعد أن ذكرت مسببات وجود هذا الاتجاه في الحركة الوطنية منها ظهور قوة موسولينى وانتصاراته . ثم مناصرته ظاهريا للحركات الثورية في المستعمرات . واتضح ذلك منذ تأييدهم لثورة سنة 1919 .

وانتشار المؤلفات الداعية لهذا الاتجاه .ثم وعودهم بمناصرة الوطنيين المصرية بالرغم من أنهم واقعيا كانوا يخططون للاستيلاء على مصر من جهة ليبيا ولم يحاولوا قط أن يفرقوا بين إعجاب المصريين بانتصاراتهم وترحيبهم بمساعداتهم للحصول على الاستقلال من المستعمر وبين رضاء المصريين باستبدال الاستعمار البريطاني بآخر إيطالي .

ولقد اتضح الأسلوب الفاشي في سلوك مصر الفتاة بعد أن أنشأت تشكيلات القمصان الخضراء على نمط الباليللا وأيضا حرصها على استجلاب الأسلحة وتدريب الشباب عليها كذلك استخدامها للشعارات الرنانة التي تحوى مضمونا أكبر من طاقاتها خاصة في صحافتها .

ثم أوضحت مصادرها المالية .التي بدأت باعتمادها على القصر في فترة الوفاق معه . وقبولها لهبات مالية من الشخصيات الكبيرة المؤيدة كعلي ماهر . وعلوبة وغيرهما .والضرائب التي فرضت على أعضائها .

كذلك أوضحت موقف الأحزاب السياسية في هذا التيار خاصة موقف الوفد الذي اتسم بالتعالي فى البداية ثم تخاصم الحزبان .

وآخرها محاولة لكلا التنظيمين الإخوان ومصر الفتاة . ثم أوضحت موقف العناصر الوطنية من انحسار الفاشية وانتصار الديمقراطية . كذلك موقف اليسار المعادى للفاشية ككل ولمصر الفتاة على وجه الخصوص .

ثم عكفت على دراسة التغيرات التي طرأت على الحزب في الأربعينيان ففي 18 مارس سنة 1940 تغير اسم الحزب إلى " الحزب الوطني الاسلامى " رغبة من مصر الفتاة في التقرب من الوفد كمحاولة مسايرة الجماهير بعد امتصاص أكبر قدر من الشباب تحت شعار الدين الرنان بالنسبة للفطرة المصرية .

وما صاحب هذا التغير فئ أسلوب الكفاح ثم التغير الثاني فئ سنة 1949 إلى " الحزب الاشتراك المصر " ليكون أكثر دلالة على أهداف الحزب ومراميه كما ذكرها أحمد حسين زعيمه معللا ذلك .. بأنه إذا ما أصبحت الإشتراكية نظام العالم الحديث فقد أصبح من الحق أن تسمى الأشياء بمسمياتها واتصفت مصر الفتاة بوصفها الصحيح وهو الإشتراكية ثم المناداة بالحياد تجاه الكتلتين الشرقية والغربية .. والدعوة غالى تأميم بعض المرافق في 3.مارس سنة 1950 .

ثم أفردت الفصل الرابع للتيار اليسار موضحة فيه أهم الأفكار التقدمية التى اجتاحت الفكر العالم في مطلع القرن الحالي – كالاشتراكية بأنواعها ثم التطرق إلى الشيوعية العالمية .

ولقد أفردت دراسة سريعة " عن كارل ماركس " وأهم انجازاته وهى :

أولا : استكمال وضع مذهبه الاقتصادي والسياسي .

ثانيا : الاشتراك العلمي في تنظيم الحركة العمالية .

ولقد أوضحت أثر هذا الفكر على الهيكل التنظيمي لليسار المصري منذ العشرينات وحتى قيام الثورة والتي تبلورت في التنظيمات الآتية :

أولا : تيار تزعمه " هنرى كوربيل " ولقد دعا إلى ضرورة العمل على تأسيس منظمة شيوعية تحاول كسب عناصر كبيرة منهم وتسمى ( ج . م ) .

ثانيا : مجموعة تزعمها " هليل شوارتز " والذي اشتهر باسمه الحركة " شندى " ولقد رأى أن الدعوة إلى التمصير دعوة " شيفونية " وأن الحركة الشيوعية يجب ألا تهتم بالأجناس لذلك لا داعي للتمصير وسمى " ايسكر "

ثالثا : تيار " مارسل إسرائيل " وكان يرى أن كان ولابد من التمصير فإنه يتعين على الأجانب عدم الدخول أبدا في الحلقة وأن يكتفوا فقط بالتنظيم من الخارج أي الاكتفاء بالقيادة والتوجيه .وسمى مجموعته تحرير الشعب .

رابعا : مجموعة برئاسة " بول جاكوا كومب " سميت أنصار السلام والتى تحولت بعد ذلك إلى " جماعة الدراسات "

خامسا : منظمة الفجر الجديد " من صدق سعد .يوسف درويش . ريمون دويك ورشدي صالح وكانوا يتبعون أسلوب الحذر الشديد .ولقد دخل أعضاؤها السجن حتى سنة 1946 وكون أعضاؤها حلقة سرية سميت " طليعة الشعب للتحرر "

سادسا : " الطليعة الوفدية " وكان تشكيلا للشباب التقدمي داخل الوفد وكانت خاضعة لسياسة الحزب ولكنها أفرغت في هذه السياسة مضمونا وطنيا واجتماعيا ثوريا بحكم ما تبنته من أفكار اجتماعية جديدة وكانت على اتصال بالتنظيمات الماركسية وخاصة " طبقة العمال والفلاحين " .

سابعا : "جماعة القلعة " التي تزعمها مصطفى الوكيل وكانت انقساما من ( ح. م )

ثامنا : اتحاد " ايسكرا " مع ( ح . م ) " والطليعة المتحدة " وكونوا الحركة الديمقراطية للتحرر الوطني الذي رمز لها اختصارا " حديتو" يونيو سنة 1947 وان لم تدم الوحدة ولقد أوضحت في ذات الفصل لماذا الأجانب فقط ؟ وأيضا أسبابا ظهور هذه التنظيمات منقسمة واختتمت الفصل بسرد سريع لأهم المنابر العلنية لليسار ودور صحافته .

ولقد أوضحت موقف كل تيار سياسي في مصر من هذه التيارات ووجهة نظر كل اتجاه للوحدة العربية عموما والجامعة العربية خصوصا .كذلك أفردت الفصل الخامس للخطين الأساسيين البارزين في معالجة القضية السياسية .فالخط الأول شمل تحليلا لأسباب فشل المفاوضات مع توضيح موقف كل تيار من هذا الأسلوب .

فالوفد اعتبرها الوسيلة الأساسية للتدرج السلمي نحو الاستقلال والإخوان لم يرفضوا أسلوب المفاوضات وإن نادوا بالمشاركة وعدم استمرار المفاوضات لأكثر من مرة .

ومصر الفتاة رفضت المفاوضات لاعتبار هام وهو عدم التكافؤ بين القوتين ورمزت لها بأنها مفاوضات " ذئب لحمل " أما اليسار فقد اعتبره أسلوبا فاشلا وأعلنوا أن مربط الفرس يكمن في الكفاح الجاد بالسلاح ضد المستعمر لإجباره على الجلاء .

ثم أبرزت اللجوء الايجابي في حل القضية الوطنية .بعد أن ألغى الوفد المعاهدة ووضع هذا الإلغاء موضع التنفيذ من تشجيع للعمال بترك أعمالهم فى القاعدة البريطانية إلى عدم تعاون بين الحكومة والقاعدة .ثم تشجيع الوفد للحركة الفدائية في القناة .

وكان غرض الوفد تحقيق أهداف أربعة :

أولا : تخريب المؤن المقدمة للجيش البريطاني .

ثانيا : قطع المواصلات للجيش البريطاني.

ثالثا : منع دخول الإمدادات .

رابعا : جعل الحياة مستحيلة في القاعدة البريطانية بالسويس والإسماعيلية .

ثم أوضحت كيف قوبل العمل الفدائي في القناة بالتأييد الكامل من كل القوى وما عقب ذلك من احتجاجات متبادلة بين السفارة البريطانية والحكومة الوفدية وأوضحت نتيجة هذه لحركة من أن الجرائد المعادية ذاتها نادت بضرورة الجلاء عن قاعدة مرغوب في وجودها سواء من الشعب أو الحكومة .

كذلك أعقب ذلك تحليل للوضع الاجتماعي أثناء وبعد قيام الحرب العالمية الثانية مع توضيح حجم المساعدات والخدمات التى قدمها الإقتصاد المصري للاحتلال وأثره فى مجرى الحرب .

أثره أيضا في وضع البلد الاجتماعي من غلاء فى الأسعار .وبطالة للعمال .وإغلاق للمصانع ثم ارتباط ذات الإقتصاد باحتياجات المحتل .وكيف أن الشعب عانى الأمرين وعلت الأصوات المطالبة بالإصلاح من كل الأحزاب على اختلاف هوايتها .

حتى أنه طرحت مشكلة الملكية الزراعية في مجلس النواب فى الوقت الذي كان يمثل ذات المجلس اكبر الأغنياء والارستقراطية المصرية .وأن في ذلك دلالة على مدى ما كانت تحس به الجماهير وكيف أنها فرضت مشاكلها على قياداتها وإن فشلوا فئ حلها .لكنها محاولة على أية حال .

كذلك أوضحت شكل الاصطلاح الذي يريده كل تيار وكيفية الوصول إليه والتي تتلخص في المناداة بإذابة الفوارق بين الطبقات أو على الأقل محاولة التقريب بينها .

ثم أفردت الفصلين السادس والسابع لحركة الضباط الأحرار وتحليلا كاملا لخصائصهم الاجتماعية وكيف أنه لم يكن من بينهم أحد أبناء الأثرياء أ, أحد أبناء الارستقراطية المصرية .

بل كانوا من أبناء الطبقة الوسطى والدنيا منها على وجه الخصوص . وأثر ذلك فئ إحساسهم بحجم المشاكل الاجتماعية والمساوئ التي تردى فيها الوضع السياسي والاجتماعي مما تطلب فرض حل من الخارج .

أي من خارج القيادات السياسية الموجودة وحللت دوافع ظهور هذا التنظيم من الوجهة السياسية هل حوادث 4 فبراير سنة 1942, وحرب فلسطين والأسلحة الفاسدة , وفساد المعاهدة كانت كلها الدوافع فقط ؟ أم أن المجتمع ككل كان الفساد فيه من كل جانب .

وكان لابد من التغيير.

وفى الفصل الأخير . ذكرت مراحل الإعداد للثورة وكيف تمت تلك المراحل بنجاح .ثم موقف هؤلاء الثوار من القوى الداخلية والخارجية على السواء .

الفصل الأول

التيار الليبرالي في مصر من 1919 حتى 1952

مفهوم الليبرالية وبداية ظهورها في مصر

تمثل الليبرالية السياسية والمرئية فلسفة تقوم على الإيمان بتقدم واستقلال الفرد بذاته وتنادى بحماية الحريات السياسية والمرئية .

وهى نفس مبادئ حزب الأحرار البريطاني .. بينما تمثل الليبرالية الاقتصادية نظرية اقتصادية تؤكد الحرية الفردية التي تقوم عادة على المنافسة الحرة وقاعدة الذهب .

نشأ المذهب الليبرالي أولا في أوربا الحديثة مع مطلع القرن التاسع عشر " الثورة الفرنسية " كفكر تقدمي ينادى بالخلاص من الإقطاع كنظام عاشت فيه أوربا قرونا وعانت منه الكثير وكان ظهوره كنتيجة لنمو نظام المدنية للدولة التي سيطرت فيها التقاليد العلمانية على سلطة الكنيسة بمفاهيمها الكهنوتية وحيث تبلورت فيها فكرة ظهرت لها أبحاث علمية تحدد نظام الحكم بها وحدود سلطة الحاكم ودستورا وبرلمانا للشعب وكانت أيضا كنتيجة حتمية لثورات الشعوب الأوربية عامة والفرنسية خاصة .

في عهد الدولة المصرية الحديثة التحى أسسها محمد على الذي فتح أبواب مصر أمام المؤثرات الغربية والذي كان يسعى لنقل وسائل تقدم أوربا في المجالات المادية والعسكرية فيها بوجه خاص .

والذي أرسل البعثات المصرية إلى هناك كان ليتصور – النتائج البعيدة التي ترتبت على ذلك .إذ عادت محملة بالأفكار الجديدة على يد رجال بارزين أمثال رفاعة الطهطاوي وعلى مبارك وآخرين على تطور الفكر السياسي .

جاء القرن العشرون .وفى مطلعه . اقتنع أثرياء مصر بضرورة إرسال أبنائهم فى بعثات إلى أوربا للتزود بالعلم .والتأثر بحضارتها .ذات الصيت الذائع وعلى يد هؤلاء العائدين كانت حركة واسعة للترجمة والاقتباس والتأثر الواسعة المدى .

إذ كان من بواعث الإعجاب بأوربا أسباب عديدة أدت إلى نشاط تلك الحركة ولعل من أهم أسبابها :

أولا : أن الحضارة الأوربية قد حققت نظاما ناجحا يقوم على الدستور ويحدد سلطة الحكم .ويقيم العدالة ويقر حرية الفرد والمجموع .

ثانيا : عزا المصريون حيوية أوربا إلى نظامها التعليمي الإجتماعي وروح البحث الحر المنتظم والدراسة التي تسندها الدولة دون أن تشرف عليها وما أسهمت به المنظمات والجمعيات الخاصة في تقدم أوربا إقتصاديا وإنسانيا .

ثالثا : أخذ المصريون بمرور الزمن يقدرون آداب الغرب بغض النظر عن قيمتها العلمية فقاموا بترجمة الآداب في حد ذاتها بحيث اكتسبت في النهاية أهمية لا تتناسب مع مستواها .

رابعا : بالإضافة إلى تلك الأسباب عوامل النمو الحضاري التي بدأت في مصر إذ أن زيادة حجم التصنيع وانتشار الهجرة من الريف إلى المدن والتغيرات المترتبة على القوى الإقتصادية التي واجهها أكثر المفكرين فمنهم من اتجه إلى طرح التقاليد القائمة والإجتماعية اليدوية قد اثرت هى الأخرى في عملية الإقتباس عن الغرب .

ولقد كانت مشكلة الحضارة الغربية وما صاحبها من غزو لمصر من أعقد المشكلات التي واجهها أكثر المفكرين فمنهم من اتجه إلى طرح التقاليد القائمة بزعم أنها مصدر النكوص فالجمود والضعف وأبدى حماسة للإقتباس عن الحضارة الغربية ونشر علوم ونظم حكمها وأساليب تعليمها وبثها في الشعب .

حتى يستيقظ ليحصل على الإستقلال .ومنهم من رفض الغرب وأبى المسالمة ودافع عن تراثه العربي على إعتبار أنه بؤرة الكيان الذاتي ومنهم من حاول التوفيق بين التراث الحضاري الإسلامى والحضارة الغربية .

عموما لقد مست هذه التيارات التفكير ذاته وتطرقت إلى عالم السياسة والإقتصاد والتشكيل الإجتماعي .ولقد تفوق هذا الرأي في النهاية لوجود الجماعة القومية التي تحكم نفسها بنفسها على ضوء مصالحها وإيمانها بفصل الدين عن السياسة كذلك إيمانها بنظام الحكم الديمقراطي .أي سيادة الإرادة العامة التي تجد التعبير الحر عنها في البرلمانات واحترام الفضائل السياسية كالإخلاص للمجموع والإستعداد لبذل التضحيات فئ سبيله .

ولقد عبر عن هذه الآراء في مطلع القرن العشرين كل من فتحي زغلول , وأحمد لطفي السيد , وفى العشرينات والثلاثينيات عدد من الكتاب الموهوبين أمثال عباس العقاد وتوفيق الحكيم , وإبراهيم المازني , وطه حسين , وكل هؤلاء استهوتهم الثقافة الغربية فأخذوا بالمنهج النقدي في الجامعات الأوربية وقد وضع هؤلاء الكتاب الأساس المنتقى الأيديولوجي المحدد للقومية المصرية وللنظم المحددة لحكم سيادة الشعب الذي أخذت به مصر قبل وبعد ثورة 1919 .

سمات الأحزاب الليبرالية تبعا لتطور الفكر السياسي في مصر الحديثة

حددت إذا إجابة تساؤل كثيرا ما دار بخلد الباحثين عن الوقت الذي عرفت فيه مصر المذاهب السياسية الحديثة .

عرفت مصر إذا الديمقراطية والليبرالية والإشتراكية وتأثرت بالأفكار المترتبة على تقدم العلوم التطبيقية , إلا أن هذا الفكر المستورد – الذي لم يظل نسخة كربونية للفكر الأوربى – ذلك أن المفكرين المصريين أضافوا بنات أفكارهم الكثير بما يناسب البيئة المصرية .

نقول هذا الفكر الذي تحمس له بعض المثقفين بغض النظر عن خلفياته التاريخية أصطدم بواقع التركيب الإجتماعي والإقتصادي والسياسي القائم على مفاهيم دينية في مصر الحديثة , وكانت النتيجة أن مسار هذا الفكر المستورد وتأثيره في البيئة المحلية كان مخالفا إلى حد كبير لمساره في البلدات الغربية التي تم استيراده منها ,

كما أن النظم السياسية التي جرت محاولة اقتباسها عن الغرب لم تأت بالنتائج التي توقعها مقتبسوها , لذا حاول البعض تشكيل نوعا من الفكر السياسي المستقل على اعتبار أن ذلك يتضمن نوعا من تأكيد الذات ودعم الإستقلال السياسي باستقلال أيديولوجي وتكونت تبعا لذلك الأحزاب محددة المعالم ذاتية المطالب والأهداف كما هو الحال في الأحزاب السياسية المصرية والتي تبعا لذلك كان لها سمات مختلفة عن الأحزاب المتقدمة .

تكونت الأحزاب المصرية في فترات متلاحقة وكان هناك اختلافات أساسية في تفهمها لأبعاد المشكلة السياسية الإجتماعية لذلك انتهجت كل منها المنهج والأسلوب الذي بدا لها والذي انفردت به شخصيتها .

إن الأستاذ جاكوب لاندو في كتابه " البرلمانت " قال " إنه لم يكن بين الأحزاب المصرية السياسية العديدة اختلافات اجتماعية واضحة , لأنها في محتواها الفكري والتنظيمي كانت جميعا تمثل كل الطبقات وأكثريتها من الملاك , لم يكن نشاطها الدعائي والسياسة يختلف كثيرا أيضا إلا في درجة العنف والتأثير "

وفى الحقيقة اننى أختلف معه في هذا الرأي ولا أستطيع التسليم به إذ أن موضوع هذه الرسالة ينفى كلية وجهة نظره قطعيا ويحلل أوجه التناقض ويرد تفصيليا على خطأ تلك الفكرة التي بناها الكاتب المعروف على اعتقاد خاطئ بأن الشعب المصري لا يختلف في منهجه وأسلوبه عن الشعب الهندي .

وقد أكد هذه الفكرة تآلف الأحزاب المصرية واجتماعها على ضرورة المفاوضات مع بريطانيا في عام 1936 والحصول على المعاهدة .

إلا أن الأحزاب المصرية كانت مجمعة على ضرورة إيجاد شكل واضح ومحدد لعلاقة بريطانيا بمصر يعترف فيه باستقلالها وفى نفس الوقت يحدد شكل لعلاقة من التبعية إلى المساعدات المتبادلة إذا دخلت إحداها حرب مع دولة أجنبية , واعتبرت الأحزاب أن في ذلك اعترافا بالندية , بندية مصر لبريطانيا.

وأيقنت الأحزاب أن في ذلك اعترافا بالندية , بندية مصر لبريطانيا و وأيقنت الأحزاب أن المعاهدة خطوة أساسية وناجحة يأتي من بعدها الكفاح من أجل الإستقلال التام والجلاء عن وادي النيل و على أن يتخذ كل حزب أسلوبه بعد ذلك فئ النضال القائم على الأيديولوجية التى أوضحها في برنامجه .

هذا من جهة ومن جهة أخرى أنه في العشرينات والثلاثينيات لم تكن قد نضجت بعد معالم الصراع الطبقي في مصر , بمعنى أن الشرائح الإجتماعية المختلفة والطبقات المصرية لم تكن قد حددت بصورة واضحة .

كما ظهر في الأربعينيات إذ أن تيار الفكر الإشتراكي بأيديولوجيته الإجتماعية كان قد تغلغل وأصبحت له عناصر فكرية كثيرة تدافع عنه وأصبحت له أحزاب وجماعات كما سيرد ذكره تفصيليا بالإضافة إلى الإحساس العام الذي ساد المفكرين من إفلاس الفكر الليبرالي في تلك المرحلة بالإضافة إلحاح المشكلة الاجتماعية بما لا يدع مجالا لتجاهلها .

هذا في اعتقادي ما دعا لاندو لإطلاق رأيه بهذه الصورة الغير دقيقة .أما بالنسبة لبرامج الأحزاب السياسية المصرية فلقد كانت مختلفة في الفكر وفى وسيلة الكفاح من اجل الإستقلال السياسي والإقتصادي بالإضافة إلى اختلافاتها أيضا في العناصر الطبقية المنتمية للأحزاب .

مثلا برنامج الوفد تكوينه كان لا يختلف كثيرا عن الحزب الوطني وهذا يدعونا إلى تساؤل لماذا ظل الوفد في الساحة المصرية ذا دورا فعال بينما أصبح دور [الحزب الوطني]] نسبيا .نعتقد أن الحزب الوطني احتفظ بجمود برنامجه ولم يتحرك قيد أنملة عما رسمه مصطفى كامل وسار على نهجه محمد فريد .

كما أن قياداته ابتعدت عن الجماهير الشعبية بمعاداتها الدائمة للوفد وانعزلت ولم يكن هناك أمامها إلا أحد اختيارين أما الإرتماء في أحضان الإستعمار وإما الإرتماء في أحضان القصر وفضلت الإختيار الثاني .

أما الوفد فقد كان يكتسب دائما عن طريق الممارسة اليومية السياسية والإحتكاك الدائم بالجماهير العريضة المنطوية تحت لوائه خبرة كثيرا ما كان يضيفها إلى برنامجه .

ثم دراسة المشاكل السياسية والإجتماعية – في الأربعينيات حتى أثناء وجوده في المعارضة وأخيرا نزوله الدائم لميدان الجماهير في القرى والنجوع في طول البلاد وعرضها بينما اقتصر دور الحزب الوطني على الإعتماد على الانتلجنسيا المصرية في القاهرة والأسكندرية .

ثم أنه كذلك لم يكن من المعقول أو المقبول واقعيا الإدعاء بأن برنامج الأحزاب الماركسية ذات الأفكار الإجتماعية المتقدمة هي مثلا نفس برنامج وأيديولوجية جماعة الإخوان المسلمين .

أو أن برنامج مصر الفتاة ووسائل كفاحه هو نفس أسلوب ومنهج الوفد .

أو ماذا يقال عن الائتلاف الذي حدث بين العمال والطلبة في جهة واحدة في عام 1946 في الواقع أنه يدل على منتهى النضج الطبقي والوعي السياسي لأبعاد القضية الوطنية – وللمصالح الطبقية للاثنين .

خلاصة القول إذا أنه كان هناك اختلافات جوهرية فئ المنهج والأسلوب بين الأحزاب المصرية تبلورت وأصبحت مرئية للباحثين والمراقبين للأحداث في الأربعينيات .

كما ظهرت بوادر هذه الإختلافات الأساسية فى خلال وأثناء الحرب العالمية الثانية . ثم الإدعاء الثاني للأستاذ جاكوب لاندو الذي قال فيه " لقد استغلت الأحزاب السياسية السلطات الكاملة التي أعطيت للشعب وممثليه ولكن الحزبيون لم يحاولوا أبدا أن ينظموا لهذه السلطات الشعبية سياسة موجهة طويلة المدى.

أما الإختلاف الأول بين حزب وآخر فكان يتبلور في ميول الحزب نحو بريطانيا .في الحقيقة لا يمكن الجزم بوجود حزب أو أحزاب تميل بكليتها وثقلها لبريطانيا .

بمعنى أن الأحزاب المصرية كانت واعية للعدو الأول للبلاد وهو الإستعمار وجميعها وضعت نصب عينيها أساسا التخلص من الإحتلال حتى أنه أخذ عليها تغافلها – في خضم الانشغال بالكفاح ضد الإستعمار – عن القضية الإجتماعية وآثارها الإقتصادية – والاعتقاد الأكثر تحديد وواقعية هو أنه كان يوجد في داخل بعض الأحزاب عناصر تميل للإحتلال ليس تجاهلا للقضية الوطنية وإنما من فرط الثقة بالوعود المعسولة التى كثيرا ما أعطتها بريطانيا .

وإن لم تنفذ منها شيئا .. من بين تلك العناصر مثلا أمين عثمان وإسماعيل صدقي وأحمد ماهر .. وفى الحقيقة لقد كان الشعب مستيقظا لتلك العناصر ومتربصا لها .

ولقد قتل بالفعل أمين عثمان على يد حسين توفيق في يناير سنة 1946 كذلك اغتيل أحمد ماهر بعد إعلانه الحرب مع الحلفاء فئ ساحة مجلس النواب وبالرغم من أن المتهم بتلك الإغتيالات عناصر متطرفة من جماعة الإخوان المسلمين .

إلا أنها عناصر وطنية وكان غرضها المصلحة المصرية .

ثم قول جاكوب لاندو " فبينما كانت كل الأحزاب تتحدث عن مظاهر التدخل الأجنبى الممثل فئ الإحتلال البريطاني كان هذا الشعار يختلف تفسيره بين زعيم وزعيم أو بين حزب وحزب آخر .

أما كان يجب أن يكون متفقا عليه مثل التعليم والإقتصاد الإجتماعي وحقائق المستوى الواسع للأماني الوطنية كان يعيش سطحيا في مبادئ الأحزاب .أو المح وجوده فى فترة متأخرة بعد الحرب العالمية الثانية .فى الحقيقة لم يكن هناك اختلاف بين الزعماء أو الأحزاب حول شعار مظاهر التدخل الأجنبى .

إذ أن الأحزاب العلنية المصرية عامة كانت متفقة لا فى ضرورة التخلص من الإستعمار فحسب فى أسرع وقت ممكن , بل أيضا متفقة بأن التدخل الإنجليزي في الشؤون الداخلية المصرية من أهم أسباب التأخر ومن أبرز العوائق في وجه التقدم والرقى وكانت تدلل على ذلك في صفحاتها .

بل أن تغافلها للمشاركة الإجتماعية كان مظهرا من مظاهر هذا الإحساس . وكان هناك شعور بأنه لا جدوى من المطالبة بالإصلاح الداخلي والسعي لتحقيقه طالما الإنجليز يدسون أنوفهم فئ كل الشئون الداخلية ويقفون عقبة كؤود أمام أنة محاولة جادة للإصلاح وتحسين الأوضاع .

بل إن الأحزاب التي كانت تضع في برامجها وسائل لتحسين الوضع الداخلي بعد إلحاح المشكلة الإجتماعية كثيرا ما وجدت تسلط من السفارة البريطانية على الحكومات القائمة لإغلاق تلك الصحف ومطاردة العناصر البارزة فيها .

مما أكد للوطنيين عامة والأحزاب خاصة ضرورة التخلص أولا من الإستعمار وتليها مرحلة كفاحها من أجل الحصول على الإستقلال المنشود .كما سيرد تفصيلا الإصلاح الداخل وحتى يتسنى لهم تطبيق ما يرونه مجدا في الداخل دون معارضة . أما الاحتلال الحقيقي بين الأحزاب كان في وسائل كفاحها من أجل الحصول على الإستقلال المنشود كما سيرد تفصيليا عند التعرض للمشكلة السياسية .

تكونت الأحزاب المصرية إذن في مطلع القرن العشرين وكان أولها الحزب الوطن بقيادة مصطفى كامل سنة 1906 ثم تولى قيادته محمد فريد بعد موت الأول سنة 1908 يدير دفته ويقاوم الإنجليز والخديوي حتى اضطر إلى الهرب إلى الخارج خوفا من السجن فئ سنة 1911 ومن منفاه ظل محمد فريد يباشر قيادة الحزب الوطني فيما بعد عناصر أقل ثورية من مصطفى كامل وفريد .

وهم حافظ رمضان ثم فتحي رضوان .عموما لقد ظل بالتالي دول الحزب الوطني كحزب ليبرالي في الحياة السياسية المصرية منذ الثلاثينيات . رغم أن حزب الوفد الذي كونه سعد زغلول سنة 1918 قد أنشأ بعد الحزب الوطني إلا أن دوره ظل كبيرا وفعالا حتى قيام الثورة المصرية سنة 1952 .

أوجه الشبه بين حزب الوفد والحزب الوطني

ولقد استرعى انتباهي هذه النقطة مما جعلني أحاول دراسة أوجه الشبه والخلاف بين هذين الحزبين أما الشبه بينهما فهو :

أولا : يشبه الحزب الوطني حزب الوفد في كلا منهما قد قام أولا كحركة سياسية قبل قيامه كحزب سياسي .

ثانيا :بالإضافة إلى أن كلا منهما كان يذهب حين ظهوره إلى أنه وحده هو الذي يمثل القوى الوطنية .

ثالثا :كما أنهما يلتقيان في التفاف جمهور الفلاحين والتجار والطلاب والموظفين ..أي أفراد الطبقتين الصغيرة والمتوسطة حولهما . رابعا :إن كلا الحزبين لم يهتم بالمشكلات الإقتصادية والإجتماعية ـ لم يعط الوفد اهتماما كبيرا قبل الحرب العالمية الثانية ـ إهمالا لا يبرر القول بأن الهدف الأول لابد وأن يكون مجاهدة الإنجليز وترك الأهداف الأخرى لما بعد الإستقلال .

خامسا :مرجع ذلك أن تكون قيادة الحزب الوطني والأحزاب السياسية الأخرى التي عرفتها مصر كان برجوازيا بحيث أن المشكلات السياسية لا الإقتصادية والإجتماعية هي التي خلقتها ,ولان كبار رجالها كانوا من الأغنياء والمحامين والأدباء والصحفيين والأطباء والمهندسين لا من رجال الإقتصاد أو ممثلي الطبقات العاملة أن الحزب الوطني ـ ومن بعده ـ الوفد قد تنبه إلى هذا النقص في حياة محمد فريد فقط حين انتقلت القيادة إليه فظهرت في برنامجه الدعوة إلى إنشاء نقابات العمال ونشر الجمعيات التعاونية وتنظيم نشر الثقافة الشعبية ومدارس الشعب التي تعلم العمال القراءة والكتابة ومبادئ التربية الوطنية فضلا عن الخطابة .

كما طالب فريد بإعادة النظر في القوانين الضريبية لإعفاء العمال والفلاحين والطبقات الفقيرة من الضرائب وتقرير التأمين الإجتماعي للفئات العاملة وتحقيق مستوى لائق لهم من الناحية الصحية والتعليمية .

أوجه الخلاف بين حزبي الوفد والحزب الوطني

أولا :أن سعد زغلول ثم مصطفى النحاس إقناع المصريين بعدم جدوى العناد في موضوع "لا مفاوضة إلا بعد الجلاء " الذي كان الحزب الوطني يتمسك بها طالما أن بريطانيا أقوى من مصر.

ثانيا : فبينما كان الحزب الوطني يعتمد على إلا نتلجنسيا المثقفة وحدها في القاهرة والأسكندرية فقط انتشر الوفد في الأرياف يتقدم للجماهير الفلاحين حتى أصبحت له لجنة في كل قرية صغيرة في مصر .

وكان الفلاحون أنفسهم قد أصبحوا الآن على درجة معقولة من الوعي السياسي يمكن أن يكون بها الوفد قاعدة له .

ثالثا : كان النحاس بعد سعد زغلول من أهم أسباب تفوق الوفد في الوقت الذي افتقر فيه الحزب الوطني إلى الشخصية الكبيرة الكفء بعد موت مصطفى كامل ثم نفى محمد فريد .

ففي الشرق عامة ومصر خاصة يقود الرجال الأكفاء مسيرة التاريخ والدليل على هذا أن مصطفى النحاس ومن قبله سعد زغلول لم يقدما للمصريين إلا البرنامج الذي كان قد وضعه الحزب الوطني ,فان الوفد هو الذي قاد مصر لعدد من السنين وحتى نهاية الملكية في مصر.

رابعا : قادت قيادة الحزب الوطني عقلية برجوازية تأثرت بالثقافة الغربية يداعبها حلم إعادة تنظيم الإسلام ويسيطر على كل تنظيمها الفكري والحزبي في نظرتها للحرية السياسية وشكل الحكومة فلم يكن تغيرا حقيقيا في مناهجها وإنما كان مجرد وسيلة لتنظيم حزبها وبرنامجها يحتفظ بشكله الأوربي في جميع من ناحية السياسية .

أما الوفد بحركته العلمانية التي تفصل الدين عن السياسية وبالتغيرات التي أتت بها الحرب العالمية الأولى في النواحي الإجتماعية والإقتصادية حيث كانت الضرورة تدعو إلى تعالى الدين والعقيدة بعيدا عن الحركة السياسية العامة الشعبية التي تناضل من أجل الإستقلال .

تكون اذن الوفد في مطلع العشرينات (1918 ) بزعامة سعد زغلول حتى مات سنة 1927 وتولى زعامة الوفد من بعد زميله في النضال مصطفى النحاس ,وقد انبثق من داخل الوفد أحزاب أربع وكان لانشقاقها عن الحزب الأم (الوفد) أسباب جوهرية في نظر المنشقين واعتبارها نزعات فردية غير صالحة في نظر القيادة الوفدية .

كان أول الانشقاقات في حياة سعد زغلول نفسه الإنسلاخ الذي كون "حزب الأحرار الدستوريين" بزعامة محمد محمود باشا ثم الدكتور محمد حسين هيكل بعد وفاة الأول .

ومن الملاحظ أن عناصر هذا الحزب تمثل بصدق الأرستقراطية المصرية فهم كبار ملاك مثقفون ثقافة غربية ,ولديهم نظرة معينة في الرؤية الجماهيرية بمضمونها الواسع التي يمثلها حزب الوفد ,إذ يعتقدون أنهم يمثلون البيوتات المصرية العريقة الأصيلة والتي لها الحق وحدها في التعبير عن رأى الأمة المصرية ككل في القضية الوطنية ,كذلك النظرة المتعالية على الطبقات الشعبية الكادحة كالعمال والفلاحين .

وفي اعتقادي أنه بخروج هذه العناصر الغير ثورية والتي أحسن ما توصف به إنها نوعيات معتدلة للغاية قد حافظ الوفد على بقاء العناصر الأكثر ثورية والأكثر حرصا على القضية الوطنية .

أما الإنسلاخ الثاني في الوفد فكان في سنة 1932 والذي كون ما عرف باسم حزب "السبعة ونصف " ولم يكن له دور فعال في السياسة المصرية .

وقد حدث الإنسلاخ في فترة الصراع مع صدقي وكان من نتائجه أن صمد البعض واحترق آخرون , والحقيقة أن بخروج هاتين المجموعتين يكون الوفد قد تخلص من العناصر الإقطاعية والرأسمالية الكبيرة .

أما الإنسلاخ الثالث فقد كان فى سنة 1937 يرأسه أحمد ماهر ومحمود فهمي النقراشي ومحمد صفوت باشا ومحمود غالب باشا وعلى فهمي باشا , وهم ينتمون للطبقة المتوسطة ولقد أصبحت العناصر الممثلة للطبقة المتوسطة الصغرى أكثر سيطرة على قيادة الوفد وأكثر إيجابية .. ولقد كان هناك أسباب لهذا الإنشقاق شرحها الدكتور هيكل إذ اتخذ محمود غالب باشا من مشروع كهربة خزان أسوان مادة للخلاف والإنفصال عن الوفد .

وتفصيل ذلك أنه صدر مرسوم بتأليف الوزارة يرأسها النحاس باشا بعد أن أدخل على هيئتها تعديلات فقد استبعد منها محمود فهمي النقراشي ومحمود غالب وقد عرف السبب عندما نشر غالب باشا في الصحف بيانا مطولا شرح فيه الخلاف الزى وقع في الوزارة السابقة بينه وبين النقراشي من ناحية وبقى الوزراء على رأسهم مكرم عبيد باشا من ناحية أخرى , حول استنباط المياه من مساقط المياه من خزان أسوان .

أما محمود فهمي النقراشي فقد اتخذ من قضية الزعامة المقدسة للوفد والتي يمثلها النحاس والقمصان الزرقاء التي كونها محمد بلال أساس للإنفصال عن الوفد وكونوا حزب الكتلة الوفدية وقد تبودلت الإتهامات بين سكرتير الوفد السابق ودفاع رئيس الوفد حول أسباب الإنشقاق , ولكن يمكن حصرها مما فصله مكرم فيما أسماه " بالكتاب الأسود " وملخصها يدور حول الإستثناءات التي قدمها رئيس الوفد للمناصرين .. والترقيات التي قدمها لأقاربه .

ثانيها: حول نفوذ ودور السيدة زينب الوكيل حرم النحاس على رئيس الوفد ..

وثالثها: إعتماد السيدة زينب الوكيل على العضو الجديد في الوفد والذي أصبح فيما بعد سكرتيرا له فؤاد سراج الدين باشا مما قلل من قيمة ونفوذ مكرم باشا .

كانت إذن الإنشقاقات أو الإنسلاخات الأربع التي خرجت من الوفد وكونت أحزابا مستقلة تعبر بطريقة أو بأخرى عن مبادئ الوفد الليبرالية .

ما يهمنا الآن دراسته هو الحزب الأم الوفد على اعتبار أن تلك الأحزاب الأحرار الدستوريين . السبعة ونصف .السعديين والكتلة وأحزاب أخرى كالحزب الوطني مثلا بالإضافة إلى أحزاب أخرى ليس لها دور يذكر في السياسية المصرية كالأحزاب النسائية وحزب الشعب وإن كانت تمثل الفكر الليبرالي إلا أنه لم تتح لمعظمها فرصة التجربة العملية والممارسة الميدانية مثلما أتيح للوفد .

كذلك هناك اعتبار آخر هو أن الوفد ظل الحزب الأكبر وذو الدور الإيجابي والفعال سواء في الوزارات أو في تاريخ مصر الحديثة حتى قيام ثورة يوليو سنة 1952 .

تكوين الوفد ودوره في البداية

تكون الوفد كما هو معروف في سبتمبر سنة 1918 يرأسه سعد زغلول وبين عامي 1918 وحتى 1924 ظلت مهمة الوفد الرئيسية النضال من أجل الإستقلال التام وتحقيق الوحدة بين الوطنيين المصريين جميعا .. وأطلقت الصحافة على هذه المهمة لفظ " الإتحاد المقدس " نسبة للإتحاد المقدس التحى استعملته صحافة الحلفاء أثناء الحرب العالمية الأولى وكان مبدأ الإتحاد المقدس يفرض على الوفد أن يجاهد من أجل

أولا : توحيد المصريين جميعا تحت قيادته بصرف النظر عن الدين أو الطبقة

ثانيا : تنظيم الرأي العام المصري بما يحقق هذا الغرض الوطني لصالح مصر .

ونجح الوفد في تحقيق قيادة العهد المقدس بالدعاية والمثابرة وكانت له وسيلته في إظهار غضب المصريين على الإنجليز بأسلوب عملي أعلنها في يناير سنة 1923 بعد ذلك استمرت مع إدخال بعض التعديلات – تحت نداء يطلب فيه من جماهير الشعب مقاومة الإنجليز سلبيا عن طريقين أ- عدم التعاون .

أ – أما عدم التعاون : فيعنى أن يقطع كل من له عمل مع الإنجليز علاقته بهم ويهمل توجيهاتهم ولا يشترك معهم في أي إجراء حتى يكونوا وحدهم المسئولين عن سياسة القوة التي تتم ضد الوطنيين الجماهير في مصر وأن يرفض الرسميون أن يطيعوا أوامره ولا تعامل المصريون إلا مع مصرين فلا يتعامل المحامون إلا مع قضاة مصريين .

ب- الإضراب- أما الإضراب : فهو بأن يسحب المصريون أموالهم المودعة في البنوك الإنجليزية وأن يحفظوها في بنك مصر والذين ساهمون في شركات إنجليزية عليهم أن يبيعوا أنصبتهم فيها ويقاطعوا التعامل معها ولا يستعملوا البواخر الإنجليزية في أي غرض مهما كان وأن يرفض الحمالون المصريون خدمة البواخر الإنجليزية مهما تحسنت معاملتهم ولا يقربوا إلا البضائع المصرية والتجار كذلك يجب أن يقاطعوا الإنجليز مهما كانت الأسباب والمغريات ويعطى التجار مهلة من ثلاثة أشهر حتى ستة أشهر لتخلص من البضائع الإنجليزية التي في مخازنهم وعلى كل لجان الوفد أن تعلن تفاصيل هذا الإضراب على البضائع والمتصلين بهذه الأعمال والإضراب ضد المصريين الذين يرفضون تنفيذ هذه القرارات .

ثم عاد الوفد ثورة 1919 التي ضمت كل فئات الشعب من عمال وصناع وموظفين وتجار وبرجوازيين وكان لنجاح تلك الثورة وما لاقاه أبطالها من نفى وتعذيب الأثر الكبير في اكتساب الوفد جماهيرية عريضة.

صاغت إذن ثورة 1919 لحزب الوفد مبدأه الرئيس النضال من اجل حق مصر فئ الإستقلال وعلى ضوء هذا المبدأ صاغ الوفد بقية خطوطه السياسية بإقامة حكومة دستورية تحترم حقوق الأجانب والإمتيازات الأجنبية والدين العام , وطبيعة قنال السويس وطمأنت ظنون أصحاب المصالح في مصر .

ولكن الوفد لم يطن قادرا على الوفاء بما يجيش بصدر بعض العناصر الوفدية الأكثر ثورية – طوال تاريخه- حتى التي ظهرت فيها في فترات مبكرة فمثلا عندما نشرت جريدة الأخبار القاهرية والتي كانت تمثل في قترة ما حزب الوفد في أحد أعدادها الصادرة في سنة 1921 نفس هذه المبادئ كبرنامج مذاع للوفد محمد كمال العضو الأكثر ثورية في إيمانه الرسمي ألا يقنعوا إلا بالإشراف المصري الكامل على الشئون الزراعية والبوليس والأعمال العامة , أما الإستقلال الخارجي فكان بما فيه مصلحة مصر الخاصة وحدها ويعنى بشكل عام جلاء الإنجليز والقضاء على كل تدخل أجنبي في الشئون المصرية .

عموما في قرار عاجل تقرر تكوين حزب الوفد كتنظيم سياسي للقضاء على كل المتاعب , وفى بيت أحمد الباسل باشا قرأ مكرم عبيد الذي كان يسمى خطيب الوفد الإعلان التشريعي لتشكيل الوفد واختير له اسما " حزب الوفد النيابي "وفى هذا الإجتماع تقرر قانون الحزب الذي على أساسه تتكون اللجنة التنفيذية برئاسة سعد زغلول وعضوين عن كل مديرية وانتخب الأربعة عشر عضوا في الحال.

وضمت اللجنة التنفيذية الجديدة إلى اللجنة الوفدية , وفى 14 مايو قرر الشيوخ الوفديون تكوين " الهيئة الوفدية بمجلس الشيوخ " وانتخب في الحال وحضر سعد زغلول كلا الإجتماعين , ولا شك أنه كان الملهم لهذه الحركة الجديدة في تاريخ الوفد , بعد أن أعدت لائحة بأسماء الأعضاء ثم حدد الهدف الرئيسي وهو تحقيق الإستقلال لمصر بالوسائل السلمية التي تستمد قوتها وتأيدها من إرادة الشعب الذي تمثله وتنص اللائحة على أن العضو :

أولا : يتسم بالمحافظة على السرية في كل المهام والأعمال التي يكلف بها .

ثانيا : أن ينفذ ما يصدر إليه من أوامر دون اعتراض ما دام فى خدمة الشعب والحزب .

ثالثا : الرئيس والسكرتير وأمين الصندوق يعينون .

رابعا : رئيس اللجنة يدير الاجتماعات وهو المسئول عن مراقبة تنظيماته والأشراف على إجراءات اللجان وأعمال السكرتارية وحالة الدخل , ويدير السكرتير الأعمال الكتابية بلجنة الحزب الكتابية وشئون الأرشيف والمستندات ما عدا الحسابات , أما أمين الصندوق فمسئوليته تقتصر على الأعمال المالية للحزب أي الدخل .

لم يكن إذ التنظيم المركز الشامل لجهاز الحزب هو الظاهرة الوحيدة في لائحة العلامات المميزة في تنظيم الوفد .فالرئيس يرأس الإجتماعات ويوقع جدول الأعمال ويهيمن على كل الأحوال بما فيها رؤساء اللجان فى الوفد , وكل أعضائه حتى مناقشاتهم الخاصة التي يشتركون فيه خارج نطاق الحزب تخضع لإشرافه الكامل وسيطرته .

عموما نظم الوفد طريقه على الأسلوب الحديث للأحزاب الأوربية ووضح أعماله وأبيح لكل عضو في الحزب حرية مناقشة الآخرين في السياسة بصفته الشخصية وليست الحزبية , وعلى إن يكون قد استأذن رئيسه المباشر في لجنة الحزب متعهدا بأن يرفع إليه تقريرا كتابيا عن موضوع المناقشة وفى النهاية حددت اللائحة انتخاب لجنة مركزية للحزب ونظمت طريق هذا الإنتخاب وروعي أن يكون شخصيات اللجنة المركزية من القادرين على تدمير وسائلهم المالية لتمويل الحزب بصفتهم الشخصية أو بجهودهم العامة .

فرق القمصان الزرقاء والغرض من إنشائها

تكونت فرق القمصان الزرقاء على يد محمد بلال أحد الشباب الوفديين وكان طالبا بكلية الطب و وكانت المرة الأولى التي نودي بها في المؤتمر الكبير الذي عقده الوفد في 5 يناير سنة 1936 أي بعد ثورة الطلبة التي قامت في أواخر سنة 1935 , وتتكون كل فرقة من أحد عشر طالبا فيما بينهم الرئيس وعليها أن تتقن نوعا من الرياضة .. ولقد أطلق على أول فرقة تكونت من طلبة الجامعة المصرية اسم فرقة " عبد الحكيم الجراحي " والثانية من طلبة كلية العلوم وأطلق عليها فرقة " طه عفيفي " وهما مما استشهدوا في ثورة الطلبة .

أما شعارهم فكان " جهادنا لمصر . شبابنا للملك والوفد , شعارنا طاعة وجهاد " وكان الطلبة يعيشون في معسكرات وتلقى عليهم خطبتان في الأسبوع الأولى دينية والثانية وطنية . وفى نوفمبر من نفس العام أصدر القائد العام للفرق محمد بلال نداء متضمنا المواصفات التي يجب أن يتحلى بها الجندي صاحب القميص

  1. أن لا يقبل في سلك الفرق من المستخدمين في المصالح الأهلية إلا من يقدم شهادة تحقيق شخصية .
  2. ثم على كل جندي أن يبرز تذكرته الشخصية لمن يطلبها منه , ولأفراد الجمهور إذا ارتكب أحد الجنود خطأ أن يطالبه بإبراز التذكرة وتقديم اسمه أو رقمه إلى مقر الفرق بالنادي السعدي مرفقا بما أتاه الجندي من عمل وعلى القيادة أن تنزل أقصى العقوبات .ولقد خولت القيادة بالفعل لقواد الأقاليم حق فصل من يخالف
  3. وأخيرا ذكر القائد أن ثمة بعض المخالفات قد وقعت مما استدعى شكوى بعض الناس من بعض الجنود , وقيادة الفرق تعلن أن من يأتون هذه الأعمال إنما هم خوارج يلبسون القميص بدون علمها وبقصد الإساءة لسمعتها .

ولقد أعلن الوفد في بيان آخر أن الغرض من إنشاء هذه الفرق غرض رياضي محض لا أثر فيه للسياسة , وأن حاجة الشباب المصري إلى مثل هذا النظام شديدة , لما يكتسبه عن طريقه من تعود على النظام والطاعة والتضحية والصبر , عدا ما يفيده من الصحة والقوة .

كذلك استقر الرأي على جعل تبعية هذه الفرق لوزارة الداخلية حتى لا يلحق بها إلا الذين اتصفوا بالخلق الرضي والسلوك الحسن وأن يكون الإلتحاق بشروط محددة مع تحريم الإشتغال بالسياسة على أعضائها , وقصر أعمالهم على الرياضة والرحلات وغير ذلك مما يتصل بالشئون الرياضية.

على أن هذا لا يمنع الشبان من الإشتراك في الإجتماعات العامة للوفد , وعلى أن يقضى أي عضو يخرج عن النظام أو تصل إلى مركز القيادة شكوى ضده من سلوك معين أثبت البحث والتمحيص صدقه لدى ولاة الأمور من زعماء الوفد .

هذا ولقد نشرت " جريدةالمرتن بوست " رسالة من مكاتبها بالقاهرة ذكر فيها " أن هناك على الأقل دلائل تدل على أن حكومة النحاس باشا ستتخذ بعض التدابير لتنظيم حركة أصحاب القمصان الزرقاء ولو أنها ستقدم على هذا العمل بشيء من التردد "وانتقد الكاتب هذه الحركة ثم أردف قائلا " أن الحركة قامت من دون موافقة النحاس باشا عليها رسميا ولكنه عدما رأى التقدم الكبير الذي قدمته لم يبد رغبته في التبرؤ منها "

وفى اعتقادي أن هناك مبالغة في ذلك إذ يكفى للتدليل على علم النحاس بها أنها كانت إحدى الأسباب الرئيسية التي أثارت الخلاف والشقاق بين النحاس باشا والنقراشي وأدت إلى تكوين الحزب السعدي كما سلف ذكره.

ثم أنه بالرغم من الأخطاء التي وقع فيها بعض عناصر من الشباب ذوى القمصان من إثارة الشغب إلا أن الوفد والنحاس كانا لديهما سبب جوهري من أجل إقامة التشكيل إلا وهو حماية الشباب الوفدي من الوقوع تحت تأثير الأحزاب الأخرى ولقد كان بالإمكان إستغلال هذا التكتل الشبابي فى أعمال سياسية أكثر جدية لصالح الوفد لولا تفشى العصبيات والمحسوبيات بين هذه التكوينات المختلفة الطبقات والهوية والمتباينة الغايات , وبالرغم من إتهام هذه التشكيلات بالفاشية إلا أن هناك اختلافا كبيرا بينهما .

أولا : إن التشكيلات الفاشية والنازية ترتكز في نشأتها على الفكرة الدكتاتورية بينما ترتكز التنظيمات الوفدية على فكرة الديمقراطية .

ثانيا : إن التنظيمان الأولى ترمى في تكوينها ووجودها إلى تدعيم النظام الدكتاتوري أما التنظيمات الوفدية فترمى إلى تدعيم روح الديمقراطية .

ثالثا : أن وجود التشكيلات الوفدية يتعلق بقضية الحرية والإستقلال فمن الراجح أن القوى الساعية للتحرر كلما نظمت كلما جدت .

وسائل كفاح الوفد

ظلت وسائل الوفد في كفاحه من أجل الإستقلال ولسنوات طويلة تقتصر فى عدم التعاون مع الإنجليز , والإضراب ضد المصريين الذين يتعاملون معهم ثم المفاوضات للوصول على إجلائهم عن وادي النيل .

ولقد أكد الوفد على هذه الوسائل في بياناته العديدة وفى قوانينه التي ظل يصدرها فى المناسبات السياسية بانتظام بجانب أقوال زعيمه والعناصر البارزة في تنظيمه في مناسبات مختلفة ولقد تبلورت هذه الوسائل فيم أصدره من قانون أذيع على الملأ في أواخر 1946 وكان أبرز مواده هى التي تذكر أن مهمة الوفد :

أولا : السعي بالطرق السامية المشروعة حيثما وجدوا للسعي سبيلا لاستقلال مصر استقلالا تاما .

ثانيا : أن الوفد يستمد قوته من رغبة الشعب .

ثالثا : لا يسوغ للوفد أن يتصرف فى المهمة التحى انتدب لها فليس له ولا أحد أعضائه أن يخرج فئ طلباته على حدود الوكالة التحى يستمد منها قوته وهى استقلال مصر والملحقات استقلالا تاما , وفى الواقع كان ينشده بحدوده الجغرافية المحلية المحدودة وليس بمفهومه العالمي الواسع القائم على مناصرة الإستقلال للشعوب المهضومة وفى كل مكان وتأييد الشعوب فى كفاحها ونضالها ضد الإستعمار سواء كان سياسيا أو اقتصاديا أو عسكريا , إنما الذي كان يعينه كما فهمته فهو الجلاء محلى عن كل شبر عن أرض مصر والسودان أما ما كان يجرى في العالم الخارجي فكان يسجل كحدث جارى وليست سياسة مدروسة لها رد فعل في نضاله .

رابعا : أنه يدوم ما دام العمل الزى انتدب من أجله قائما , وينفض بانفضاضه , أما أعضائه فيقسم كل عضو على قضاء مهمته على الوجه الذى انتدب له وعلى التضامن في العمل وعدم إفشاء أسرار الوفد , كما تصدر الآراء بالأغلبية فإذا تساوت فيرجح رأى ى الفريق الذي يكون فيه الرئيس.

وعلى الرئيس ممثل الوفد أن يرأس جلساته ويحافظ على نظامه ويشرف على أعمال اللجان والسكرتارية وأمانة لصندوق هذا ويظل الوفد فئ حالة انعقاد دائم وتنعقد جلساته بدعوة من الرئيس وعند الضرورة يجوز له أن يتخذ ما يراه من القرارات المستعجلة , وعليه فئ هذه الحالة أن يعرضها في أول جلساته النظامية لإدراجها في محضر أعماله , أما محاضر الجلسات فتضمن تلخيصا لجميع المداولات والقرارات وأخيرا يتصدق على المحضر في الجلسة التالية .

ظل الوفد إذ يؤكد على حقيقتين :

أولا : أن الأمة قد وكلته فى الدفاع عن مطالبها الداخلية وهى الحفاظ على الدستور كحق مكتسب لا يحق التفريط فيه ويجب أن يحكم الشعب من خلاله , وخارجيا في جلب الإستقلال من الإستعمار البريطاني بالوسائل السلمية المشروعة أي المفاوضات .

ثانيا : ضرورة إعطاء الوفد الفرصة الكاملة للحصول على تلك المطالب لأنه يمثل الأمة المصرية , ففا الاحتفال بذكرى سعد زغلول أعاد مصطفى النحاس إلى الأذهان إصراره على السير على منهج سلفه وأكد حرصه التام على التمسك بوكالة الأمة له " إن الوفد الذى أنشأته ووكلته الأمة للسعى إلى الإستقلال حيثما وجد إلى السعي سبيله وإن خليفته وإخوانه الذين هم على هدى هذه المبادئ , والتزاما حدود التمويل لن يفرطوا في مطالب ولن يلقوا العلم من أيديهم حتى يتحقق للوادي الجلاء والوحدة الحقيقية تحت التاج المصرى , وحتى ترسخ قواعد الدستور وتثبت دعائمه فإن لم ينالوا اليوم فإلى الغد وإن لم ينالوا غدا فجهاد إلى الأبد " .

الفصل الثاني

التيار الدينى في مصرمن 1919 حتى 1952

مقدمة

اجتاح مصر في أعقاب الحرب العالمية الأولى تيار ديني جارف مضمونه أن الإسلام دعوة كريمة شاملة تنتظم بها كل شئون الحياة وترسم طرائق النجاح فى كل ناحية من نواحيها , ثم أنها لا تقتصر على الناحية الروحانية وحدها بل هى فى الواقع نظام كامل يشمل تشريع وقضاء وتعليم وتجنيد .

آخذة فى الاعتبار أن الإسلام هو النظام العالمى الواضح الصريح الذى وضعه الله تبارك وتعالى وجعل فيه الدواء الناجح لمشاكل البشرية وأم مهمة رجل الدين هى الدعوة إلى العمل بهذا النظام وتطبيقه .

زيادة على ذلك أن العودة بالإسلام إلى منابعه الصافية الأولى فيه كل الخلاص من الشرور والآثام الت تحيط بالمجتمع خاصة أن الإسلام ليس دين عبادة فحسب ولكنه مجموعة من قواعد السلوك والتصرف فى كل ما يعرض للمسلمين فى حياتهم الخاصة وحياته العامة كأفراد وكشعب وكدولة .

انتشر التيار الدينى إذن فى المجتمع المصرى وساعد على تغلغله الفطرة المصرية المتدينة ووجود المكتبة السلفية .وتبعا لذلك الجمعيات الدينية الصوفية , التى اقتصرت العضوية فيها على رجال وشباب الحى أو القرية التى بها الجمعية , وتحدد نشاطها بما كانت تقوم به من مراسيم دينية معروفة لدى المسلمين فى المناسبات الدينية الشهيرة .

كميلاد العام الهجرى . ومولد الرسول ( ص ) وليلة عاشوراء الإسراء والمعراج والنصف من شهر شعبان . مع إقامة صلوات التراويح طوال شهر رمضان بالإضافة إلى حلقات الذكر والتشابق على حفظ القرآن والسنة .والمأثورات المتداولة عن الخلفاء الراشدين وصحابة رسول الله ( ص ) .

وبالرغم من عمق وقوة هذا التيار وبالإضافة إلى نشاط الجماعة الحفصية وجماعة المنار بزعامة رشيد رضا . اجتاح مصر تيار علمانى دعمه انتشار الأفكار الليبرالية وإقامة الجامعة المصرية ووجود صفوة من المفكرين المصريين الشبان .

إلا أن هذا التيار الثقافى التقدمى قوبل بتهجن واستنكار شديدين من قبل رجال الدين والمتدينين المصريين أمثال حسن البنا الذى لعب دورا خطيرا بإنشائه هيئة دينية سياسية أسماها هيئة الإخوان المسلمين ..

فقد اعتقد الشيخحسن عبد الرحمن البنا أن هذا التيار ما هو إلا موجة من التحلل فى النفوس وفى الآراء والأفكار , باسم التحرر العقلى ثم فى المسالك والأخلاق باسم التحرر الشخصى فكانت موجة الإلحاد والإباحية قوية جارفة طاغية.

لا يثبت أمامها شىء تساعد الحوادث والظروف ولقد تحولت الجامعة المصرية – فى رأى حسن البنا – من معهد أهلى إلى جامعة حكومية تديرها الدولة وتضم عددا من الكليات النظامية وكانت للبحث الجامعى تديرها الدولة وتضم عددا من الكليات النظامية وكانت للبحث الجامعى والحياة الجامعية حينذاك فى رؤوس الكثيرين صورة غريبة مضمونها التقاليد الإجتماعية المستمدة منه واندفعت وراء التفكير المادى المنقول عن الغرب بحذافيره وعرف أساتذتها بالتحلل والإنطلاق من كل القيود .

هذه التطورات الجديدة على المجتمع المصرى دعت الشيخ حسن البنا إلى مراقبة الوضع عن كثب مع التفكير الجاد فى إيجاد عمل إيجاب لدرء التيار العلمانى الخطير خاصة بعد أن " وضعت الجامعة بذلك نواة " الحزب الديمقراطى " الذى مات قبل أن يولد ولم يكن له منهاج إلا أن يدعو إلى الحرية والديمقراطية بهذا المعنى المعرف حينذاك .

يعنى التحلل والإنطلاق وأنشىء فى شارع المناخ ما يسمى المجمع الفكرى تشرف عليه جماعة الصوفيين وتلقى فيه خطب ومحاضرات تهاجم الأديان القديمة وتبشر بوحى جديد . وكان خطباؤه من المسلمين واليهود والمسيحيين وكلهم يتناولون هذه الفكرة الجديدة من وجهات النظرالمختلفة .

كما ظهرت كتب وجرائد ومجلات كل ما فيها ينضح بهذا الفكر وجهزت صالونات فى كثير من الدور الكبيرة الخاصة فى القاهرة يتطارح فيها زوارها مثل هذه الأفكار ويعملون بعد ذلك على نشرها فى الشباب وفى مختلف الأوساط "

كان لهذه الموجة رد فعل قوى فى الأوساط الخاصة المعنية بهذه الشئون كالأزهر وبعض الدوائر الإسلامية . ولكن جمهرة الشعب حينذاك كانت إما من الشباب المثقف وهو معجب بما يسمع من هذه الألوان , وإما من العامة الذين انصرفوا عن التفكير فى هذه الشئون لقلة المنبهين والموجهين .

" وكنت متألما لهذا أشد الألم فهأنذا أرى الأمة المصرية العزيزة تتأرجح حياتها الإجتماعة بين إسلامها الغالى الذى ورثته وحمته وبين الغزو الغربى العنيف المسلح بكل الأسلحة الفتاكة من جاه ومظهر ودعاية .

فاعتزمت أمر إيجابيا وقلت فىنفسى لماذا لا أحمل هؤلاء القادة من المسلمين هذه التبعة وأدعوهم فى قوة إلى أن يتكاتفوا على صد هذا التيار فإن استجابوا آنذاك فأهلا وإن لم يكن كان لنا شأن آخر وصح العزم على هذا وبدأت التنفيذ " .

البنا وبداية تأسيس هيئة الإخوان المسلمين

ولد حسن البنا فى أكتوبر سنة 1906 بقرية المحمودية التابعة لمحافظة البحيرة .أما أبوه فهو الشيخعبد الرحمن البنا الساعاتى . الإمام المؤذن والمعلم المحلى .

كان دارسا للحديث ولقد تلقى تعليمه فى جامعة [[الأزهر فى عهد الشيخ محمد عبده وفى الوقت الذى كان مهتما بالناحية الدينية . كان يقوم بإصلاح الساعات . ولقد نقل اهتماماته الدينية إلى ابنه الذى كان الخامس فى أسرته . والذى بدأ تعليمه فى الثامنة من عمره بالكتاب وتتلمذ على يد الشيخ ظهران ولقد كان ضمن أول من شارك بعد ابيه فى تقديم الجماعة .

وعندما وصل الثانية عشر أنهى الدراسة الإبتدائية وانضم بعد ذلك إلى أحد الجمعات الدينية الى كانت منتشرة فى ذلك الوقت وكان استاذه مديراللآداب العامة واضعا للأسس التى زادت من عدد أعضاء الجمعات .. وفى خلال مدة وجيزة أصبح البنا رئيسا للجماعة إلا أن بعضا من الشبان الكبار وعلى راسهم البنا لم يكتفوا بذلك وكونوا جماعة " لمنع المحرمات " وكان عملهم أساسا للوصول إلى عمق المدينة وأحد نشاطاتهم البارزة هى الخطابات التى توزع سريا وأحيانا خطابات تهديد لهؤلاء الذين يعيشون حياة مخالفة لتعاليم الإسلام كمحاولة لإجبارهم على تبديل سلوكهم بسلوك أكثر إيمانا واستقامة.

ولقد شاهد البنا أول ذكر فى دائرة الإخوان الحقيقيين بعد أن قرأ بعمق كل ما تيسر له عن مؤسس الصوفية .. وأصبح فى نفس الوقت من أكثر الأعضاء تحمسا لتلك الحلقات وللنظام الذى وضعه شيخها ولقد كان ذلك الهاما له بخلق " الجماعة الحفصية للخير " والتى كان لها غرضان :

أولهما: المحافظة على تعاليم الإسلام .

ثانيهما : إبطال أعمال الكتائب المسيحسة للتبشير فى مصر .

وعندما أصبح البنا فى الثالثة عشرة أصبح سكرتيرا للجماعة فى أثناء رئاسة أحمد السكرى . وهو رجل تعرف به ضمن جماعة الذكر . ولقد لعب دورا فى تطوير فكرة جماعة الإخوان فى الوقت الذى كان فيه البنا المؤسس للجماعة بعد ذلك .

ولقد ظل اهتمامه بالصوفية أكثر تركيزا حتى قبل عضوا أساسيا فيها سنة 1922 .. وفى 1923 كانت محاولته الأولى للحاق بنظام التعليم العالى . إذ التحق بدار العلوم العليا بعد تركه مدرسة المعلمين كإضافة منه للعلوم الدينية التقليدية والتى كانت على وجه الخصوص فى جامعة العلوم الدينية بالأزهر .

وفى عام 1927 عين حسن البنا مدرسا بالإسماعيلية . كان للإسماعيلية وحى عجيب بالنسبة للبنا نظرا لوجود المعسكر الإنجليزى فى الغرب وشركة قناة السويس المسيطرة على كل الأمور فى الشرق مما أثار فى نفسه الحفيظة على المحتل الغاشم والغيرة على وطنه الغالى وكانت بذلك نواة هيئة الإخوان المسلمين كما قال "

إذ كان المعسكر الإنجليزى فى غرب الإسماعيلية ببأسه وسلطاته يبعث فى نفس كل وطنى غيور ألأسى ويدفعه إلى مواجهة الإحتلال البغيض وما جره على مصر من نكبات جسام وما ضاع عليها من فرص مادية وأدبية وكيف كان الحاجز الوحيد دون نهوضها ورقيها – والمانع الأول من وحدة العرب واجتماع كلمة المسلمين .

ثم مكتب شركة قناة السويس ببهائه وروعته وسلطانه واستخدامه للمصريين ومعاملته إياهم معاملة الأتباع المضطهدين وإكرامه للأجانب ورفعهم إلى مرتبة الحاكمين واستئثار المكتب بالإشراف على المرافق العامة كالنور والمياه والنظافة وكانت الشركة تقوم بكل ما هو من شأن المجالس البلدية فالطرق والمداخل التى توصل الإسماعيلية البلد المصرى الصميم كانت كلها فى يد الشركة , لا دخول إلا بإذنها ولا خروج إ بموافقتها

وهذه المنازل الضخمة المنتشرة فى حى الإفرنج بأكمله يسكنها موظفوا الشركة الأجانب . تقابلها مساكن العمال العرب فى ضآلتها وصغر شأنها " خلاصة القول : لقد أوحت الإسماعيلية بالكثير من المعانى التى كان لها اثر كبير فى تكييف الدعوة والداعية .

عكف حسن البنا منذ منتصف عام 1927 وأوائل عام 1928 على دراسة الناس والأوضاع دراسة دقيقة لمعرفة عوامل التأثير فى هذا المجتمع الجديد وأدرك أن عوامل التأثير فيه تكمن فى العلماء .

شيخ الطرق , الأعيان ثم الأندية . وبدأ يوطد الصلات بهم وكون بالفعل من بعضهم أول جماعة للإخوان المسلمين وقد نشرت لهم الأهرام صورة بدون تعليق تضم اثنى عشر عضوا فى يناير عام 1928 .

وكون فروعا أخرى بإرسال مندوبين من المقرين له فى كل من أسيوط وشربين ثم بالقاهرة بعد أن اختار مقرا لها بمنزل فى شارع القصر العينى ثم ناديا خاصا أيضا .. كذلك أسس فرع للجماعة فى نجع حمادى وفى بنها من نفس العام .

بدأ الجماعات التابعة لهيئة الإخوان بالإنتشار السريع فى أنحاء القطر المصرى ما بين الحربين العالميتين حتى ضمت معظم الجماعات الدينية كما ظل شباب سيدنا محمد ضمن تلك الهيئة حتى انشقوا عنهم فى عام 1940 أثر اتهامات كيلت للبنا من أحد أعضاء مكتب الإرشاد للإخوان المسلمين منانه يتقرب من القصر .. ومن اتهام ثانى بتلاعبه فى أموال الجماعة .

وثالث برفضه تطبيق مبدأ الشورى الذى كثيرا ما نادى به ورابعا رفضه إقصاء الشخصيات الغير أخلاقية والموجودة بلسان الإخوان المسلمين .. أصبحت الناطقة بلسان شباب محمد منذ شهر فبراير سنة 1940 .

ولم يحاول البنا الدفاع عن نفسه قبل تلك الإتهامات فى حينها وإن كان فى نفس الوقت لم يفكر فى انفصال شباب محمد وجريدة النذير عن الهيئة .

" لقد استمرت النذير " تصدر سنتين كاملتين كانت فيهما تشرح دعوة الإخوان المسلمين وتنشر مذكراتهم إلى الحاكمين على اختلاف حكوماتهم وتهاجم هذا الفساد الإجتماعى فى قوة ووضوح وبانفصال صاحبها محمد أبا زيد عن الإخوان صارت تنطق باسم شباب سيدنا محمد وحدهم إلى الآن "هذا ولقد كانت هناك عوامل كثيرة ساعدت على انتشار الدعوة منها فصاحة صاحبها وبلاغته وكذا إلمامه الواسع بالدين والأصول والتفسير وسائر العلوم الشرعية وقدرته الخطابية مما أثر على النفوس وساعده ذلك بالتالى على نشر الدعوة وكسب الأنصار فى كل مكان .

خاصة وأن الإلتجاء إلى الدين كوسيلة لحل المشاكل المستعصية ظلت عقيدة مستقرة فى العقل الباطن لبعض المتدينين ممن اهتز إيمانه بقدرة الأجهزة السياسية على حل المشاكل وممن يظنون أن ما بلغه الإسلام فى مراحله الأولى من عظمة ومجد إنما كان بسبب تمسك المسلمين بقواعد دينهم ورجوعهم إليه فى كل صغيرة وكبيرة , وممن يعتقدون أن أهم الشرائع فى الشريعة التى جاءت من السماء .

وإن كل انحراف فيه انحراف ومعصية للخالق . كذلك ساعد جمود علماء الأزهر وتوقف نشاطهم عند حدود معينة من التفسيرات والشروح وبعدهم من اهتمامات الجماهير الحقيقية وعدم اهتمام الأحزاب السياسية القائمة بالمشكلات الإجتماعية .

ظهر هذا فى الوقت الذى كانت فيه الجماهير شديدة الاهتمام بضرورة الإصلاح الإجتماعى وبخاصة فى أعقاب الحرب العالمية الثانية حين انهارت القيم الاخلاقية على اثر ظهور مجموعة من الرأسمالية من أثرياء الحرب وما صاحب ذلك من انتشار للرزائل والآفات الأخلاقية الأمر الذى أفسح المجال للدعوة الدينية وفى هذا الوقت ظهر الإخوان المسلمون وجاءوا لملء الفراغ القائم بين القيادا السياسية الحاكمة وبين الجماهير التى أخذت تبحث عن قيادات تعبر عن مطالبها وتطلعاتها وبالتالى كان من السهل عليها أن تقع تحت تأثير حسن البنا الذى كان محور مناقشاته تدور حول فساد الحياة السياسية وضرورة العودة إلى الإسلام طلبا للاصلاح .

فقد ذهبوا إلى أن دولة ومجتمعا يقومان على القرآن والسنة بإمكانهما أن يضعا أحدا لكل أمراض المجتمع هذا فى الوقت الذى لم يكونوا فيه على وعى حقيقى بما يجب عليهم عمله لبقاء هذه الدولة .والأدهى من ذلك أنهم لم يدركوا جهلهم هذا لأنهم لم تكن لديهم فكرة واضحة عن المشكلات المعقدة التى تترتب على مجتمع حديث .

كذلك لم يكن لديهم بالفعل العلاج الواقعى العلمى الذى على أساسه تقتلع تلك المشاكل .. بل ظلوا يرددون الشعارات الخيالية البعيدة التحقيق عن المجتمع المثالى والذى يذكرنا بمدينة أفلاطون الفاضلة .

حقيقة الدعوة

تألفت هيئة الإخوان المسلمين كما سبق ذكره فى شهر ذى القعدة الموافق 1347 هجرية . 1928 ميلادية واختارت القاهرة مقرا لها .

واتخذت من " اله غايتنا والرسول قدوتنا . والقرآن دستورنا والجهاد فى سبيل الله أسمى أمانينا " شعارا لها . كما كان للأقاليم التابعة لها أعلام مميزة هى رقعة من اللون الأخضر رسم على كل المصحف فى نصف الدائرة الهلالية ومن تحتها الإخوان المسلمون ثم اسم الشعبة .. وأعطت لأعضائها إشارات خاصة تميزهم بها عبارة عن خاتم من الفضة ذى عشرة أضلع ترمز إلى الآية الكريمة " قل تعالوا أتل ما حرم ربكم عليك ألا تشركوا به شيئا " وكان ذلك فى عام 1936 تقريبا .

أما أصول الدعوة فهى ربانية تحيا عليها القلوب الميتة ويرتفع بها الشعور الإنسانى إلى الملأ الأعلى ويصل الناس بالله تبارك وتعالى .

وإنسانية ترفع من خسيس هذا الغلاف الطينى إذ تقرر أن الله بيد وسواه بقدرته ونفخ فيه من روحه وأسجد له ملائكته .. وعالمية تجعل البشر إخوانا على الحق وأعوانا على الخير وفى نطاق هذه المعانى الثلاث يعيش أبناء آدم خلفاء فى ارضه وأمناء على خلقه .

إذ سخر لهم ما فى السماوات وما فى الأرض جميعا منه . ولقد كان المرشد العام حريصا على تكرار تلك المعانى إذ أوضح أن الفكرة الأساسية للدعوة إسلامية جامعة وأنها تنقذ البلاد من الشيوعية الهدامة لأنها تعترف بالميراث والملكية .. ومن الرأسمالية المدمرة لأنها تنفذ الزكاة .

ثم أنها فكرة تقوم على البناء فهى تربى الأمة عامة والشباب خاصة ,. فكرة تجمع الأمة الإسلامية حول هدف واحد هو مقاومة الإستعمار فى الخارج وبناء المجتمع الإسلامى فى الداخل كذلك فكرة تحفظ المجتمع المصرى من الإنحلال .

بل وتنقذ الشرق الأوسط من الإستعمار الغربى . إذ تخلق الشخصية الذاتية للأمة العربية وتجعلها مثلا يقتدى به لأنها تدعم الإصلاح المادى والروحى .

هذا بالنسبة لفكرة الإخوان .. أما الأعضاء القائمون على تنفيذ هذه المبادىء فكان يضع لهم شروطا معينة بل أنه أيضا وضع الأعضاء أنفسهم فى مراتب داخل التنظيم ترتفع بما يقدمونه من أعمال جليلة للجماعة المنتمين لها خاصة والهيئة عامة .

فعلى العضو الراغب فى الإنضمام لأية جماعة أن يتحلى بالأخلاق والسمعة الحسنة .والسلوك المتين ويكون لديه الإستعداد للطاعة التامة وتنفيذ ما يلقى عليه من أوامر .

وهو فى هذه المرحلة يكون أخا مساعدا إذا ما أعلن استعداده للإصلاح ودفع استمارة العضوية تعهد بسداد الإشتراك المالى الذى يتطوع به للجماعة وللنائب حق اعفاء من يرى عذرا بالنسبة له .

ثم إذا ثبت حسن أدائه للواجبات من حفظ للعقيدة وتعهد بالتزام الطاعات والكف عن المحرمات وحضر الإجتماعات الأسبوعية والسنوية يصير أخا منتسبا ويرتفع بعد ذلك لأن يصبح أخا عاملا , إذا ما أضاف لسابق الواجبات والصفات قدرة على دراسة مشروع عقيدة الإخوان وتعهد بالورد القرآنى وحضر مجالس القرآن السبوعية والدائرة ..

كذلك إذا ما اشترك فى صندوق الحج ولجنة الزكاة وانضم إلى فرق الرحلات ما دامت تسمح بذلك وعليه فى هذه المرحلة أن يلتزم التحدث بالعربية الفصحى بقدر المستطاع مع عمله الدائم على تثقيف نفسه فى الشئون الإجتماعية العامة وحفظه الأربعين حديثا نبويا وأخيرا بتولية مفاوضات الإخوان التأديبية .. أما الدرجة الرابعة فهى أسمى الدرجات فهى درجة الجهاد وهى من حق الأخ العامل فقط والذى يثبت لمكتب الإرشاد محافظته على كل الواجبات السابقة ويصبح بذلك داعية مجاهدا .

والداعية مرتبة سامية إذ لا بد أن يكو مؤمنا بفكرة يدعو إليها بالكتابة والخطابة والحديث العادى .والعمل الجدى فى سيرته الخاصة والعامة بكل ما يستطيع من وسائل الدعاية . كما يتحلى بالبلاغة فيكون محدثا وقدوة يؤثر فى الناس بعمله وشخصه .

أما تكوين الإخوان الإدارى فكان تنظيما هرميا فى قمته يجلس المرشد العام وهو الرئيس العام للهيئة ولمكتب الإرشاد وللهيئة التأسيسية .

مكتب الإرشاد العام .مجلس الشورى العام .الذى يتكون من نواب المناطق .نواب المناطق والأقسام .نواب الفروع . مندوبى المكتب . فرق الرحلات ( الجوالة ) فرق الأخوات المسلمات .

وقد ترك لفضيلة المرشد العام تحديد مهمة كل هيئة من هذه الهيئات ووضع البيان الذى يوضح ذلك التحديد وقد تم إعداد هذه الهيئات الإدارية فى 22 صفر سنة 1352 الموافق حوالى سنة 1934 .

أما عن هوية الإخوان المسلمين . من كونها جماعة أم هيئة أوضحوا دائما أنهم هيئة بمشمولها الواسع لكل النشاطات . وعلى أنها تضم بداخلها كل هذه المسميات .

فهى جماعة دينية لتنفيذها تعاليم القرآن وجمعية لائتلاف القلوب حولها والأمر بالمعروف والنهى عن المنكر " يقولون نحن فى حيرة من أمر الإخوان المسلمين أهى طريقة صوفية أم جمعية خيرية أم حزب سياسى وأى شىء يقصدون وفى أى طريق يسيرون به .

أما نحن الإخوان فقد تجاهلنا هذه المسميات جميعا وأخذنا فى الطريق الأول الذى لا يصلح أمر الناس إلا عليه الدعوة إلى كتاب الله وسنة رسوله ( ص) ونهج الإسلام ووسيلتنا ايمان ومحبة وعمل "

وسائل الإخوان فى نشر دعوتهم قبل وبعد الحرب العالمية الثانية

" الإخوان المسلمين هيئة إسلامية جامعة تعمل لتحقيق الأغراض التى جاء من أجلها الإسلام الحنيف ما يتصل بهذه الأغراض من شرح دعوة القرآن الكريم شرحا دقيقا .

جمع القلوب والنفوس على هذه المبادىء القرآنية وحمايتها وتحريرها والعمل على رفع مستوى المعيشة وتحقيق العدالة الإجتماعية . والتأمين الإجتماعى لكل مواطن ومكافحة الجهل والمرض والفقر .

تحرير وادى النيل والبلاد العربية جميعا والوطن الإسلامى بكل أجزائه . قيام الرجولة الصالحة التى تنقذ الإسلام . مناصرة صادقة ويعتمد الإخوان فى تحقيق ذلك على كل وسيلة مشروعة .

فالدعوة بطريق النشر والإذاعة المختلفة من الرسائل والنشرات والصحف والمجلات والكتب والمطبوعات وتجهيز الوفود والبعثات فى الداخل والخارج لتخرج من دور التفكير النظرى إلى دور التطبيق العلمى .

والعمل بإنشاء المؤسسات الإقتصادية والمستوصفات والملاجىء وتأليف اللجان لتنظيم الزكاة والصدقات وأعمال البر والإصلاح بين الأفراد والأسر ومقاومة الآفات الإجتماعية والعادات الضارة وإرشاد الشباب إلى طريق الإستقامة وشغل أوقات الفراغ "وفى الحقيقة أعتبر الإخوان الحق المستمد من القرآن والإيمان العميق بالدين والأمل فى مستقب أفضل مع النشرات والبيانات إلى توضيح تلك المعانى هى أحسن الوسائل لعلاج الأوضاع المتباينة – فى المجتمع " إن لنا سلاح لا يقل ولا تنال منه الليالى والأيام وهو الحق .

والحق باق خالد والله عز وجل يقول " نقذف بالحق على الباطل فيدمغه فإذا هو زاهق " ولنا سلاح آخر بعد ذلك هو الإيمان وهو سر من أسرار القوة لا يدركه إلا المؤمنون الصادقون وإذا فقد الايمان , فهل تغنى أسلحة المادة جميعا عن أهلها شيئا وإذا وجد السبل إلى الوصول وإذا صدق العزم وضح السبيل " وكان حقا علينا نصر المؤمنين " والأمل بعد ذلك سلاح ثالث فنحن لا نيأس ولا نتعجل ولا نسبق الحوادث ولا نضعف من همتنا طول الجهاد والحمد لله رب العالمين لأننا مثابون حسنت النية وخلصت الضمائر وهى خالصة بحمد الله .

وسنعمل على ضوء هذه المشاعر فنذيع النشرات والبيانات ونوضح للناس ما خفى عنهم من حقوقهم ونكشف لهم ما استتر من ألاعيب المخادعين والمغررين فى الخارج والداخل وسنجمع كلمة الناس على هذا فى مؤتمرات جامعة فى كل مكان وسندعوا إلى عقد مؤتمر إسلامى جامع لتوحيد الجهود وتنسيق الخطط وسنبعث بإخواننا فى كل مكان من البلدان الأجنبية يثيرون الشعوب والحكومات فى القضية الإسلامية فإذا لم يفد ذلك كله ولم نجد النصفة من العالم الجديد الذى نريد ان تتركز الحياة فيه على الطمأنينة والسلام فسنعرف كيف نضبط ونضع حاجزا قويا بيننا نحن المؤمنين وبين هؤلاء الظالمين وسيرون أن هذا السلاح السلبى سيفوت عليهم قصدهم ويعكس عليهم قصدهم ويعكس عليهم عدوانه ويرد عليهم كيدهم فى نحورهم وسيعلم الذين ظلموا أى منقلب ينقلبون ولنا النصر فى النهاية .

فى الحقيقة لقد اقتصر نشاط الإخوان فى المجتمع كما سيرد ذكره تفصيليا عند شرح القضية الإجتماعية .على ترديد الشعارا ت والكلمات الرنانة والأمانى المعسولة لجذب الشباب التائه الغارق فى الآفات سواء التى جلبها الإستعمار أو تلك التى أوجدتها الحرب العالمية .

وبالإضافة إلى الصراع الطبقى العنيف الذى ظهرت آثاره خالصة للعيان فى تلك المرحلة . عموما فقد غلب على معظم أعضاء الجماعة طابع النمطية التقليدية ذات الطموح المحدود .

فى الوقت الذى جذب الشباب المثقف الواعى الأفكار الإشتراكية صاحبة المفاهيم المحدودة الملموسة وذات التطبيقات الواقعية الواضحة والحلول الأكيدة .

ولقد كان للإخوان المسلمين وسائلهم فى النشر فاستصدروا جريدة " الطهور " الأسبوعية فى اواخر سنة 1933 واستمرت لمدة أربع سنوات وكان رئيس تحريرها الأستاذ الشيخ طنطاوى , كما استصدر الإخوان " النذير " سياسية أسبوعية فى مايو من عام 1938 وقد ظهر فيها واضحا اتجاه الإخوان الوطنى وابتداء اشتراكهم فى الكفاح السياسى فى الداخل والخارج إذ كانت الدعوة قد أتمت عشر سنوات وكانت افتتاحية العدد الأول تصور الإخوان آنذاك تمام التصور.

إلى أن أصبحت " خاصة بشباب محمد " وبعدها أصدر الإخوان " جريدة الإخوان المسلمون " اليومية , ثم جريدة " الإخوان المسلمون الأسبوعية منذ سنة 1944 ولقد كان يرأس تحريرها صالح عشماوى والذى أصبح الرجل الثانى بعد إبعاد أحمد السكرى صديق البنا نظرا لاتصاله بالوفد وقبوله التفاهم معهم ومما هو جدير بالذكر أن الإخوان ظلوا طوال كل تاريخهم يناؤون الوفد ويناصبونه العداء ولا يبخلون بصداقة أى قوة سياسية تعادى الوفد .وتعمل على إجهاضه .

لم تقتصر الدعوة الإخوانية على الحدود الإقليمية لمصر فحسب بل إنها كانت تنادى بعالمية الإسلام وعلى أن المسلمين إخوة فى كل مكان ولا تعترف بالحدود القومية التى اعتبرتها بذرة من بذور الإستعمار ونتيجة من نتائج وجوده فى العالم العربى , وتبعا لذلك فقد أنشأت شعب للإخوان فى فلسطين وسوريا وانتدب لهذا الغرض كل من عبد الرحمن الساعاتى ومحمد أسعد الحكيم فى 13, 2.من أغسطس عام 1935 , كذا أرسل الهادى عطية إلى بيروت لنفس الغرض .

هذا ولقد أوجز المرشد العام للهيئة نشاطات الإخوان فى إثنى عشر مبدأ أساسيا منها المحاضرات والدروس فى الدجور والمساجد , تأسيس درس الثلاثاء , إصدار رسائل للمرشد العام فى المناسبات , مجلة أسبوعية , إنشاء شعب فى القاهرة وزيادة شعب الأقاليم , تنظيم التشكيلات الكشفية والرياضية , تركيز الدعوة فى الجامعة والمدارس , إقامة عدة مؤتمرات دورية للإخوان.

المساهمة فى إحياء الحفلات الإسلامية , المساهمة فى مناصرة القضايا الإسلامية والوطنية وخاصة قضية فلسطين و تناول الناحية الإصلاحية السياسية والإجتماعية بالبيان والإيضاح والتوجيه , كتابة المذكرات والمقالات والرسائل , المساهمة فى الحركات الإسلامية كحركة مقاومة التبشير وحركة تشجيع التعليم الدينى , وأخيرا مهاجمة الحكومات الحزبية فى وضوح وتاليف اللجان لدراسات فنية فى هذه النواحى .

ولقد أثنت على نشاط الإخوان جريدة الأهرام إذ اعتبرته " أن الإخوان يقدمون للبيئة المصرية معهدا علميا متكاملا بإنشائها قسما ليليا للغات الحية وآخر للفنون الجميلة نذكر منها الموسيقى الشرقية وفن التمثيل من الناحية الأخلاقية وأنشأت قسما للحفر والتفريغ يتمرن فيه بعض الشبان الناهمين , بالإضافة إلى القسم الرياضى وبجانب هذه القيمة قد اهتمت بتكوين مكتبة عامرة بالمؤلفات النفسية والمطبوعات القيمة مما جعلها مرجعا وافيا بحاجة الأعضاء .

ولقد كان لهذه الدعاية الواسعة فى تغلغلهم فى أعماق الريف وأصبحت مراكزهم وشعبهم تعدو بالألفين وخمسمائة مركز وبلغ عدد العاملين ما يربو على نصف مليون وعدد أعضائهم المؤازرين ما لا يقل عن ثلاثة ملايين هذا وقد بلغ عدد كشافتهم ما يربو على العشرين ألف كشاف .

هذا بالاضافة إلى تزويد الجماعة بجهاز كامل وتعليمات كافية فى كيفية إدارة العمل بالمكتب وتلقى التعليمات المركزية من القاهرة فى حالة وجود عقبات أو فى حالة إعتقال المرشد العام أو السكرتير العام وكان أيضا قد أنشأ صلات واسعة بمختلف القيادات السياسية على كل المستويات بحيث جملته هذه الإتصالات فى النهاية مشوق للعمل السياسى لاكتساب زعامة سياسية , وكان ذلك فى خلال وفى أعقاب الحرب العالمية الثانية .

الدين والسياسة فى منهاج الإخوان قبل وبعد الحرب العالمية الثانية

ظل الإخوان المسلمون ولمدة عشر سنوات .. يعملون تحت ستار الدين وظلوا حريصين بالفعل على تأكيد الاتجاه ليأمونا شر معاداة الحكومات والأحزاب بل وحتى لا تلتفت اليهم العيون .. تغلغلت خلالها فى أعماق الريف واستطاع البنا الإستقرار فى مصر والتقرب الشديد من الشخصيات السياسية الكبيرة صاحبة النفوذ والكلمة المسموعة ..

هذا إلى جانب حرصه المستمر على توطيد صلاته بالقصر مما كان أحد الاسبابا لانفصال جماعة محمد وانفرادهم بالنذير كما سبق شرحه وباستصدار الإخوان لجريدتهم الأسبوعية التى حملت اسمهم وأظهرت اتجاههم الوطنى وابتداء إشتراكهم السياسى فى الداخل والخارج . إذ كانت فى العدد الأول كانت تصور الإخوان آنذاك تمام التصور وكان ذلك فى حوالى عام 1938 .

وعلى أثر هذه الخطوة الجريئة التى رسمها البنا بحرص وذكاء شديدين بدأ يهاجم كل التيارات السياسية فى مصر ويعلن عداءه لكل من لا يسير على منهاجه من منطلق أن برنامج الإخوان هو الأمثل وهو الأصلح للبلاد , هذا الى جانب إيعازه المستميت للأعضاء على إظهار التخاصم مع السياسيين المصريين على اختلاف هويتهم , إلى جانب تبرئة نفسه مما يكال له من اتهامات بممالاة بعض القوى السياسية كالقصر وماهر باشا .

" إلى أيها الإخوان لم تخاصموا حزبا ولا هيئة كما أنكم لم تنضموا إليهم كذلك ولقد تعود الناس عليكم فمن قائل أنكم وفديون نحاسيون .. ومن قائل أنكم سعديون ماهريون , ومن قائل انكم أحرار دستوريون .. أو أنكم بالحزب الوطنى متصلون ولمصر الفتاة منتسبون إلى غير ذلك وأنكم بريئون فما اتبعتم غير الرسول زعيما وما ارتضيتم غير كتابه منهاجا وما اتخذتم سوى الإسلام غاية فدعوا كلام الناس جانبا وخذوا الجد والزمن كفيل بكشف الحقائق .

كان ذلك موقفكم أيها الإخوان سلبيا هكذا فيما مضى أما اليوم فى هذه الخطوة الجدية فلن يكون , كذلك ستخاصمون هؤلاء جميعا فى الحكم وخارجه خصومة شديدة إن لم يستجيبوا لكم يتخذو من تعاليم الإسلام منهاجا يسيرون عليه ويعملون له وسيكون هؤلاء جميعا متضامنين لكم فى وحدة وكتلة مترابطة متساندة ولسنا فى ذلك نخالف خطتنا أو ننحرف عن طريقنا أو نغير مسلكنا بالتدخل فى السياسة كما يقول الذين لا يعلمون وكلنا بذلك ننتقل خطوة فى السياسة كما يقول الذين لا يعلمون وكلنا بذلك ننتقل خطوة ثانية فى طريقتنا الإسلامية وخطتنا المحمدية ولا ذنب لنا أن تكون السياسة جزءا من الذين وأن يشمل الإسلام الحاكمين والمحكومين .

ظل المرشد العام يؤكد أن الإشتغال بالسياسة حق للمسلمين وإن الدين لا يقتصر على العبادات فحسب بل لابد من المشاركة فيما يخص مصلح المجتمع " أتحسب أن المسلم الذى يرض بحياتنا اليوم ويتفرغ للعبادة ويترك الدنيا والسياسة للعجزة والآثمين والدخلاء المستعمرين يسمى مسلما ؟ كلا إنه ليس بسلم فحقيقة الإسلام جهاد وعمل دين ودولة .

هذا وقد اتخذ الإخوان من الرسول (ص) قدوة يقتدى بها لجمعه بين الدين , بإمامته المسلمين فى الصلاة , والفصل بينهم فى الشرائع وتثقيفهم فى الدين , والسياسة بقيادته الجيوش فى المعارك الفاصلة الأولى فى الإسلام وعقده المعاهدات مع الكفار واليهود ولابد من السير على منهاجه .

" لقد كان رسولنا الكريم يوقع المعاهدات ويباشر المفاوضات ويراسل الملوك ويسير الجيوش فى الوقت الذى كان فيه رجل يصلى بالناس ويقيم شعائر الإسلام فهل كان فى هذا رجلا سياسيا ؟ نعم . كان ذلك ونحن من بعده نسير على منهاجه ونعتقد أن السياسة على قواعد الإسلام وإعلاء كلمة الله من صميم فكرتنا " ولم يقتصر دورهم فى إبراز حقيقة اشتغالهم بالسياسة بل وأكدوا على أنها أيضا ليست بدعة أو تغيير فى الأيديولوجية .

متخذين من الرجال البارزين أمثال محمد عبده قدوة ومثالا إذ كان يقر الجمع بينهما لا يؤمن بإبعاد رجل الدين عن العمل فى السياسة مطلقا . " لم يكن محمد عبده من هؤلاء وأولئك لأنه رأى الإسلام يمثل الدين والدولة معا .

إذ أنه يعتنى بتهذيب نفس الفرد وتخفيف حدة الأنانية فيها . كما يعنى بتوثيق الروابط الأخوية بين أفراد الجماعة الإنسانية . وليس هناك أمام الإسلام رجال دين وآخرون رجال دولة بل هناك مسلمون يدعون إلى الخير ويأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر " .

اعتبرت قادة الإخوان أن العمل بالسياسة والمشاركة فى أحداث المجتمع والتعليق عليها وإبداء الرأى والنصيحة فيها حق مكتسب لهم كأفراد فى المجتمع .وعلى أن اهتمامهم بالدين لا يجب بحال من الأحوال أن يفقدهم هذا الحق والموكول لأفراد الوطن الآخرين .. بل أن لرجل الدين أسبقية الأخذ برأيه نظرا لاتصاله بالجماهير عن طريق الإرشاد الدينى مما يتيح له فرصة التعبير عن إرادة الأمة .

خاصة وأنه لا يورد فى الإسلام للرهبنة تحتم على رجل الدين العزلة عن الحياة العامة . وبناء على هذا فلابد من المشاركة الإيجابية فى السياسة وفى الأحداث " واعتبار أن فكره ورأيه يعد بحق مدى لما يدور فى نفوس الشعب ومرآة تعكس أمانيه "

ولتأكيد نفس المعنى كتب صالح عشماوى رئيس تحرير الإخوان المسلمون الأسبوعية الأسبوعية مقالا يرد فيه على جريدة " لا يورمى اجيسيان الفرنسية " بأن حقيقة الإسلام تؤكد عدم الفصل بين الدين والسياسة أفضل النظم للحكم لحل المشكلات الإجتماعية " ورسم لنا سبل المواصلات وأقام أحكام الأسرة على أساس اجتماعى قويم "

" بعد هذا التحديد العام لمعنى الإسلام الشامل ولمعنى السياسة المجردة عن الحزبية أستطيع أن أجهر فى صراحة بأن المسلم لم يتم اسلامه إلا إذا كان سياسيا بعيدا النظر فى شئون أمته مهتما بها غيورا عليها وأستطيع كذلك أن أقول هذا الجديد والتجديد يقره الإسلام وأن على كل جمعية إسلامية أن تضع فى رأس – برنامجها الإهتمام بشئون السياسة وإلا كانت تحتاج نفسها إلى أن تفهم معنى الإسلام " .

ولقد أدان الإخوان الإستعمار واعتبروا أن أحد بذوره السيئة فكرة الفصل بين الدين والسياسة " جاء الإنجليز دعاة العالم وعمالقة الإستعمار فكانوا أنكى الأعداء وأشأم الدخلاء لأنهم استعمروا العقول واستذلوا القلوب ببث الأفكار الضارة .. ومهدوا للشعب طريق الفسق وكالوا لنا أشد ضربة فى المكر والخداع بإذاعة أسطورة فصل الدين عن السياسة لأنهم يعرفون القوى الكامنة فى ديننا والحيوية الكامنة فى عقائدنا فعرفوا أننا سرنا على سياسة الإسلام فعلى الإستعمار فى الدنيا العفاء " .

ودق علماء الدين بجانب الإخوان على نفس هذا الوتر الحساس بأن هذه المبادىء ما أتت إلا على يد الاستعمار البغيض وأنها مدعاة لتأخر الوطن وتقسيم مفكرية إلى مستجيبين ورافضين لتلك المبادىء الجديدة " افتتن رجال غير الغربيين من رجال الشرق ومن حاولوا تقليد النهضة الأوربية بهذا الفصل ايضا وأشاروا بتنفيذه فى الجماعات الشرقية ليكون للإسلام نطاقه ويكون للدولة نطاقها ويكون بذلك رجال دين ورجال سياسة وبذلك تتطور الأمم الشرقية وتسير فيها الحياة مسار الغربيون وحمل المستجيبون له اسم دعاة الجديد ونعتوا معارضيهم باسم الرجعيين والمعوقين لسير التقدم وكان بين الطرفين صراع كما بين اللفظين " .

ولقد اعتبر الإخوان إن هذا المنهاج تأكيدا لمبدأ الديمقراطية السياسية كما جاء به الإسلام وأمنا أن الشعب هو مصدر كافة السلطات " فهو عليك انتخاب الخلفاء وعزلهم وتعيين الأئمة وعزلهم . كما أن الشعب هو الذى عليه سلطة التشريع القضائى والسياسى . ومبدأ الشورى " وأن الرسول ما كان يقطع أمرا من أمور السياسة أوالأداه أو التشريع أو القضاء إلا بعد استشارة أهل الرأى .

كما أن الإسلام لا يقر الديكتاتورية لأن الدكتاتورية تقوم على إيثار وامتهان حقوق الفرد بينما الشريعة الإسلامية اعترفت للفرد بحقوقه كاملة كحق التملك والتعليم والزواج .

كما أن الإسلام يحقق أسس الديمقراطية كالحرية والمساواة , وحرية الفكر وكفالة قواعد المعادلة بالإضافة إلى حرية العقيدة والدين " خلاصة القول .

أنه من الغريب حقا أن تثار كل تلك الشعارات على الملأ دائما ولا يقتصر ترديدها على المرشد العام وقادة الإخوان فحسب بل ومعظم العناصر المنتمية لهم إلا وأن نظرة فاحصة واحدة .. ودراسة دقيقة متأنية لنظام الإخوان الإدارى وجهازهم السياسى يتضح منها مدى تركيز السلطة فى يد المرشد العام .. فهو إذن نظام فردى أقرب الشبه بالدكتاتورية , كما أن نظرة دقيقة إلى التشكيل العضوى – للمنتمين من رجالها - نجده يشترط فيهم الطاعة التامة لكل ما يأمرون به طالما أنه القائد ولصالح الجماعة ولا يقر مبدأ المعارضة

يجب على الجندى أن يعد نفسه إعدادا تاما ليلبى أمر القائد فى أية ناحية وأن الدعوة تتطلب منا جميعا أن نكون جنودا طائعين لقياد موحدة لنا عليها الإستماع للنصيحة ولها علينا الطاعة كل الطاعة فى الخير والشر "

هذا بالنسبة للتنظيم الداخلى للإخوان والمبادىء العامة لهم . أما بالنسبة لعلاقاتهم بالأحزاب السياسية الموجودة على خريطة السياسة فى مصر فمن منطلق معاداة الأحزاب كلها لفسادها .اختص الإخوان الوفد بالكراهية الأولى وظلوا ينافسونه طوال مراحل كفاحه بل أن القصر اتخذ منهم سلاح ضد الوفد فى المناسبات المختلفة .

فعندما هبت ثورة فلسطين عام 1938 حاول القصر والإخوان ضرب مشاعر المصريين خاصة وأن المصريون كانوا بعاطفتهم يشفقون على تلك الثورة فى الوقت الذى كان الوفد بمصريته التقليدية بعيدا عن استيعابها ..

كما أن البوليس تبعا لتأييد القصر كان من الموالين للبنا فكثيرا ما أغمضوا أعينهم عنه هذا ولم يكونا فى كراهيتهما وحدهما ضد الوفد .. فقد أثار حقد أحزاب الأقليات جماهيرية الوفد والتفاف الشعب حوله فلم يألوا جهدا فى معاداته ومعاونة كل من يظهر أيضا معاداة له كمحاولة لتصفيته .

ولعل حادثة " حامد جودة " الوزير السعدى فى وزارة حسين سرى . سنة 1946 والذى خرج حسن البنا من الإعتقال أثر اتفاق على أسلوب عملى ضد الوفد .. فى الوقت الذى استبقيت العناصر المقبوض عليها كأحمد حسين زعيم مصر الفتاة وآخرون إحدى العلامات المميزة لتأكيد تلك السياسة .

ظل حادث التوافق فى المزاج العام بين الإخوان والأقليات , فى الوقت الذى كانوا ينادون بضرورة التخلص من الحزبية السياسية كليا لتطهير السياسة فى مصر , إحدى العلامات المميزة فى تاريخ الإخوان المسلمين واحد أسلحتهم المضلله " لقد آن الأوان أن ترتفع الأصوات بالقضاء على الحزبية فى مصر وأن يستبدل به نظام تجتمع فيه الكلمة وتتوفر جهود الأمة حول منهاج قومى إسلامى صالح تتوافر على وضعه القوى والجهود "

وصلت قوة ونفوذ الإخوان المسلمين أعلى مراحلها فيما بين عام 1945 وعام 1948 فى الوقت الذى شهد المجتمع ككل تغيرات كيفية كنتيجة لتلك الحرب .. إذ بانتهائها نمت الصناعة نموا سريعا لسد حاجات البلاد أثناء الحرب مما ترتب عليه ظهور ثلاث فئات واضحة المعلم ..

أولا : بروجوازية محلية تقوم على رجال الأعمال والمديرين والتجار .

ثانيا: بلوريتاريا حضارية مستمرة النمو بفعل تدفق اعداد كبيرة من السكان في الريف الى المدينة وبنمو هذه الفئات قلت اهمية طبقة ملاك الأرض القديمة ولم تعد الحياة العامة قاصرة على فئة صغيرة ممتازة .

بل اتسعت قاعدتها خاصة بعد تحرر المرأة وتطوير وسائل الاتصال بين الجماهير .كانت المشكلات التي أحدثها ظهور هذا المجتمع جديدة ومعقدة وغريبة مما أدى الى اهتزاز الهالة التي سبق ان أحاطت بالماضي .حقيقة أن هذا الماضي كان لا يزال ركيزة للمستقبل المشرق .

إلا أن المفكرين لم يعودوا في معظم الأحيان يعتقدون انهم قد ورثوا عن الماضي نمطا حكوميا ثابتا ومجموعة من هذا النمط نابعة من العادات الموروثة أو عن الشريعة فلقد تم طرح الشريعة بصورة مذهلة كاملة .

وحلت القوانين الوضيعة في المجالات المدنية والجنائية والتجارية والدستورية محل القوانين المدنية وألغيت المحاكم في كثير من البلدن العربية وأشرفت الحكومة على الأوقاف وطبعت التعليم بالطابع العلماني بصورة خاصة وقلت أهمية المؤسسات التعليمية الدينية وانهارت مكانة رجال الدين الذين لم يعودوا الوحيدين الذين يحتكرون الفقه الإسلامي وتفسير الشريعة ومن ثم ظهور كتابات دينية جريئة وتقدمية اقترنت بأسماء خالد محمد خالد وآخرين ممن شنوا هجوما عنيفا على بقايا الكهانة ومخلفات عصور الجهل والتخلف .

وفي النصف الثاني من عام 1948 صدر الامر الحكومي بحل جماعة الإخوان المسلمين وكان وراء هذا الأمر الإعتقاد بأن هذه الجماعة كانت تخطط لثورة على وشك الإندلاع .

كذلك ارتبط أمر الحل بذلك السيل من أعمال العنف التي هزت مصر ما بين عامي 1945 ـ 1948 والتي كان دور الإخوان المسلمين فيها بالغ العنف بحيث كان من وجهة نظر الحكومة على قدر كبير من الخطورة .

وكان الصراع على السيادة بين الوفد والإخوان المسلمين في حد ذاته يشكل جزءا من صورة أكبر للعنف .التي اشتركت فيها كل الجماعات , المنظمة والغير منظمة في البلاد , في تحدي كل منها للاخرى وللسلطات الحاكمة

فقد اغتيل أحمد ماهر مثلا في فبراير سنة 1945 .وتبعها محاولة فاشلة في ديسمبر سنة 1945 لاغتيال النحاس باشا على يد حسين توفيق .

الذي تمكن من اغتيال أمين باشا عثمان في يناير 1946 بعد أن شاع اتهامه بأنه "عميل بريطاني " وكان من دواعي فخر حسين توفيق اعترافه بالجريمة وأيضا تقديمه أسماء شركائه وكان من بينهم أنور السادات الذي سجن واحد وثلاثين شهرا ثم اطلق سراحه بعد ان برائته المحكمة .

ومنذ عام 46 فصاعدا انتشرت في المدن الكبرى أعمال إلقاء القنابل على سيارات البريطانيين ومنشآتهم ومعسكراتهم وكان التنافس على اشده بين الجماعات في هذا المضمار وعلى ما يبدو فإن الإخوان المسلمين استخدموا هذا النوع من العمليات كاختبار تدريب لأفراد الجهاز السري .

وفي مايو 1946 , مايو 1947 انفجرت قنابل داخل دارين للسينما بالقاهرة هما سينما مترو وسينما ميامي واذا كانت المحكمة التي أطلق عليها "قضية قنابل القاهرة قد وجهت الى الجماعة التي القى القبض عليها الاتهام بإحداث الإنفجار الأول وأيضا بالقيام بالمحاولات الأخرى ضد البريطانيين والمصريين في هذه الفترة .

كانت هذه الجماعة تسمي نفسها "رابطة الشباب " وكانت تضم بين صفوفها في المقام الأول عناصر من الوفدين وفي خريف 1947 وخلال مناقشات قضية فلسطين ظهرت لنا في مجموعات من شباب الإخوان وكانت هذه الجماعات تتباهى بما لديها من اسلحة وذخائر ومفرقعات لاستخدامها في فلسطين وضد البريطانيين .

أما عام 1948 فقد كان عام الإخوان المسلمين اذ تحول الإنتباه الى صنعاء عاصمة اليمن والإنقلاب الذي قامت به "الحركة الحرة اليمنية " والذي أودى بحياة الإمام يحيى وثلاثة من إخوته ومع حلول 17 فبراير أبرق البنا الى ولي العهد اليمني سيف الإسلام أحمد يحثه على رفع مستوى الإجتماعي لليمن وبعد خمسة أيام أرسل وفد الى اليمن خصيصا لهذا الغرض .

وفي15 مارس أرسل الى الإمام أحمد المظفر يحثه على قبول تحكيم جامعة الدول العربية بخصوص أسس دستور جديد يستمر تأييده من الإدارة الوطنية كما ايد البنا الإقتراح بقبول قائد الثورة من الحكومة كرئيس بمجلس الشورى .

ولم يبذل الإخوان المسلمون في النهاية جهدا كثيرا في نفى مشاركتهم "لليمنيين الأحرار " اعترفوا صراحة باهتمامهم بإصلاح اليمن .

أعقب ذلك في22 مارس 1948 اغتيال أحمد الخازندار بك القاضي وهو في طريقه الى عمله بسبب الحكم الذي أصدره على واحد من الإخوان المسلمين .

أما شهر اكتوبر فقد شاهد اكتشاف السلطات وجود مخبأ ملئ بالأسلحة والذخيرة بالإسماعيلية في عزبة الشيخ محمد فرغلي قائد كتائب الإخوان المسلمين ففي عصر ذلك اليوم توقفت "سيارة جيب " أمام أحد المنازل في القاهرة نفس الوقت الذي تصادف فيه مرور بعض رجال البوليس والذين لاحظوا أن السيارة لاتحمل لوحة أرقام ومملؤة بالصناديق

وقاموا عندئذ بالتصدي للراكبين الذين هبطا منها وحاولا الفرار ولم يتمكنا لتدخل الأهالي ولم تمض بضعة دقائق حتى أقبل شخص ثالث أثار الريبة في نفوس المجتمعين فقد كان يحمل في يده حقيبة أوراق جلدية ويتجه نحو نفس المكان واستوقفه الجمع حتى ألقي القبض عليه وبعد بضع ساعات وصل عدد المقبوض عليهم من الإخوان اثنان وثلاثين وكانت الوثائق التي عثر عليها في السيارة الجيب وفي الحقيبة الجلدية وفي مذكرات ومحافظ وداخل منازل المقبوض عليهم هي أول اكتشاف علني ازاح النقاب عن الأسرار وراء وجود الجهاز السرى للإخوان المسلمين .

وفي سنة 1948 القي القبض على البنا بعد اتهامه بالمسئولية عن السيارة الجيب والمشاركة فى عملية تدمير مبنى الشركة الشرقية للإعلان . وفى 4 ديسمبر سنة 1948 انتشرت المظاهرات بشكل واسع فى الجماعة ضد المحادثات المقدمة للهدنة فيما يتعلق بفلسطين .

وتلا هذا الاتهام الأمر إلى صحيفة الجماعة بالتوقف والإغلاق وحل الجماعة فى 4 ديسمبر سنة 1948 وقد تضمنت المذكرة المقدمة إلى رئيس الوزراء من وزراء الداخلية بقرار الحل ثلاثة عشر اتهاما ضد الإخوان أولها أن الجماعة كانت تنوى الإطاحة بالنظام السياسى .

وبعدها حدث ما كان متوقعا إذ قام عبد المجيد أحمد حسن عضو جماعة الإخوان المسلمين والطالب بكلية الطب البيطرى باغتيال النقراشى باشا فى 28 ديسمبر سنة 1948 وسارت جنازة النقراشى تصاحبها صيحا أتباعه التى أخذت تنادى بحرقه " الموت لحسن البنا " إلا أن البنا حاول السعى للسلام مع إبراهيم عبد الهادى رئيس الحكومة الجديد عن طريق " لجنة للوساطة " تألفت من أصدقاء للطرفين وضمت صالح حرب باشا .

زكى على باشا – مصطفى مرعى بك – محمد الناجى ومصطفى أمين . إلا أن المفاوضات انهارت بين الطرفين على أثر نسف دار الحكمة المحفوظ بداخلها وثائق التحقيق فى حادثة السيارة الجيب وألقى القبض فى أعقابها على العضو القديم بالجهاز السرى للإخوان شفيق أبراهيم أنس وبعد اكتشاف القنبلة وانفجارها خارج المحكمة .

وبعد أن يئس البنا من الصلح مع الحكومة عكف على كتابة منشور صغير بعنوان " القول الفصل " وزع بشكل سرى على أعضاء الجماعة شجب فيه مرسوم حل الجماعة وأنكر الإتهامات الموجهة للجماعة واعتبرها محض افتراء ..

ومضى البنا فى منشوره يصف الإضطهاد الذى تعرض له أعضاء الجماعة الذين القى القبض عليهم خلال عمليات الإعتقالات ودون اتهام منها التعذيب فى السجون , والطرد من الوظائف والأعمال والممتلكات , وأضاف أن الأسباب الحقيقية وراء مرسوم حل الجماعة أيضا هى :

  1. الضغط الأجنبى .
  2. الإستعداد للمفاوضات مع الإنجليز والصهاينة .
  3. الرغبة فى تحويل الأنظار عن الفشل فى فلسطين .
  4. الإستعداد للإنتخابات المقبلة .
  5. الإصبع الخفية للصهيونية الواعية والشيوعية وأنصار الإلحاد والفسوق وجاء الفصل الختامى المنشور تلخيصا لما شارك به الإخوان المسلمون فى وادى النيل والبلاد العربية والأمة الإسلامية .

وكان ذلك المنشور الصغير آخر ما كتبه البنا ففى عصر يوم 12 فبراير سنة 1949 أطلق عليه الرصاص خارج المبنى أثناء ركوبه سيارة تاكسى وأطلق الجانى خلالها خمس رصاصات نقل بعدها إلى المستشفى حيث فاضت روحه بعد بضع دقائق ولقد كان البنا يتنبأ بما حدث .

وفى عام 1954 وبعد قيام ثورة يوليو أعيد فتح القضية وأعيد مثول الإتهام وصدرت أحكام على المتهمين الأربعة الرئيسيين فى الحادث وهم أحمد حسين جاد . محمود عبد عبد الحميد , محمد محفوظ , محمد الجزار .

وكان اليقين القاطع لأعضاء الإخوان بمسئولية عبد الهادى الكاملة وراء اغتيال البنا بالإضافة إلى ما سادهم من إحساس مخيف بفداحة الخسارة . لذلك تمت محاولة من الإخوان عن طريق خلاياهم لقتل عبد الهادى ولكن المحاولة فشلت وأصيب فى الحادث حامد جوده رئيس مجلس النواب فى البرلمان .

وخلاصة الموقف أن المحكمة اعتبرت أن التنظيم بعد أن ازداد قوة إتخذ لنفسه أهدافا سياسية وقام بتكوين الجهاز السرى وأخذ فى تدريب مجموعة الجوالة حتى تكون جاهزة للمعاونة فى تحقيق الغرض السياسى الرئيسى وهو الإستيلاء على الحكم .

ومنذ عام 1946 ظلت الجماعة تسعى لجذب الإنتباه إليها بواسطة أعمال العنف الموجه ضد الإنجليز أو تلك التى ظهرت خلاله الإثارة لمسألة فلسطين .

وبالتالى فقد كانوا مسئولين عن الهجمات التى وقعت على الممتلكات اليهودية فى القاهرة فى الفترة ما بين يونية ونوفمبر سنة 1948 .

لم تكن فلسطين سوى مجرد واجهة لاختفاء نواياهم الحقيقية من تسليح وتدريب للقيام بثورة فى مصر .

أما الدفاع فقد استطاع النجاح فيما أثبته بالمفاجأة المذهلة التى قدمها للمحكمة محامى شاب عضو فى الجماعة وهى وثيقة نشرت فيما بعد باللغة الإنجليزية توضح أن هناك اتصالا وطلب من السفارة البريطانية باسم السفارتين الأمريكية والفرنسية بأن تحل الإخوان وأصدرت المحكمة حكمها فى 17 مارس سنة 1951 وكانت النتائج التى وصلت إليها تمثل نجاحا باهرا لطاقم محامى الدفاع .

كانت عودة الوفد إلى الحكم فى الثالثة من يناير سنة 1950 فى صالح الجماعة إلى حد ما إذ تنبى الوفد إظهار فتور الحكومة فى قضية البنا وعدم إفراجها عن المعتقلين وما يلاقونه من ارهاب وتعذيب داخل وخارج السجن وكان الوفد يرمى فى ذلك الوقت إلى غرضين أساسيين :

أولهما: الخطر من جهة السعديين .

ثانيهما : التقرب من الإخوان .

ولقد بدأت المفاوضات بين الطرفين عقب هذا الدور ومثل مصطفى مؤمن الإخوان فى حين تحدث فؤاد سراج الدين بلسان الوفد واشترط الوفد لعودة الهيئة أن :

  1. عدم استئناف النشاط الرسمى حتى ينتهى القانون العسكرى .
  2. استئناف النشاط الغير رسمى دون أى تأخير شريطة أن يتم ذلك تحت اسم جديد للجماعة .
  3. عدم استخدام الإسم القديم إلا بعد رفع القانون العسكرى والعودة الكاملة للشرعية .

واقتنع مصطفى مؤمن المتلهف على عودة الجماعة لعملها . ومضى فى اقتناعه شوطا بعيدا باختياره إسم جديد للهيئة هو " النهضة الإسلامية " فى حين أن بقية الأعضاء خاصة عشماوى رفضوا الإقتراحات التى أصر عليها مؤمن .

وفى أواخر سنة 1950 عقد صالح عشماوى جلسة سرية لمكتب الإرشاد حيث نجح فى استصدار الأمر باقصائه على أساس أنه قد انحرف عن خط الإخوان خاصة وأنه كانت له إقتراحات بأن تكون هناك ديمقراطية فى التنظيم بعد أن أثيرت مشكلة خليفة البنا .

لقد كان الإفتراض المسلم به بين جميع الأعضاء هو أن الإختيار الرسمى سيقع على صالح عشماوى لخلافة البنا على أساس دوره الفعال فى القيادة خلال الأزمة مع السعديين والوفديين على السواء إلى جانب صلاته الطويلة العميقة بالتنظيم والبنا وما قدمه لهما من خدمات .

وكان ينافس على الزعامة بجوار صالح عشماوى " عبد الرحمن البنا " شقيق المرشد العام و" " عبد الحكيم عابدين " السكرتير العام والشيخ " أحمد حسن الباقورى " عضو مكتب الارشاد والذى كان الكثيرون يعتقدون أن البنا قد اختاره لخلافته بالإضافة إلى العضو الجديد " نسبيا " " منير الدلا "

الذى وصف انضمامه للجماعة كمقدمة للكاديلات والارستقراطية فى الحركة وأصبح بعد انضمامه تابعا مخلصا للبنا كما شارك بسخاء من أجل قضايا الإخوان عن طريق ثروته كأحد كبار ملاك الأراضى بالصعيد .. والذى كان صوته قويا ومسموعا فى المناقشات حول انتخاب خليفة للبنا .. وفى بيته وبإيماءة منه جاء للمرة الأولى ذكر اسم " حسن إسماعيل الهضيبى " القاضى الذى تجاوز اثنان وخمسون عاما كمرشح لمنصب المرشد العام .

ولعل الموافقة على اختيار الهضيبى بإجماع انبثق من منطلقات عديدة .

أولها: أن اختيار قاض لهذا الغرض سوف يهدىء ويرضى عالم القضاء والقانون وفى نفس الوقت سوف يساعد قضايا الإخوان التى لازالت معلقة أمام المحاكم .

ثانيهما : أن هذا الإختيار سوف يساعد الإخوان ويهدىء القصر خاصة وأن شقيق زوجة الهضيبى كان رئيسا للقصر الملكى فى تلك الفترة مما يساعد على سرعة العودة الشرعية .

ثالثهما : أن الهيئة تحتاج بصدق إلى وجه جديد .

ودم جديد وشخصية جديدة جديدة للظهور أمام المجتمع . خلاصة الموقف الهيئة محتاجة إلى الإحترام وهى صفة تتوافر فى الهضيبى وكما بين صالح عشماوى فى وقت لاحق فإنه كان ضروريا أن تختفى لفترة أسماء الإرهابيين الذين جعلت منهم الصحافة موضوعا لروايات الخوف والرعب .

أما بالنسبة لقدامى التنظيم فقد بات ذلك ضروريا ولكن بشكل مؤقت والمسايرة للظروف . انتهت المفاوضات مع الهضيبى فى أكتوبر من عام 1951 عندما أعلن اختياره بشكل رسمى .

وسعى الهضيبى للتفاهم " مع كبرا القدامى " إلا أن نظرتهم إله بعدم الإرتياح جعلتهم لا يتجيبون لنداءاته .

ومنذ البداية الأولى فإن فشله أو عجزه عن جلب التفهم الشخصى وإشاعة الثقة فى النفوس قد أدى إلى خلق مشكلة مستعصية ذلك أن قوة هذه الجماعة كانت تكمن فى تمسك قائدها بهذه الصفات .

أما هذه المصاعب فقد ازدادت تضخما بمحاولة الهضيبى إيجاد تسوية لمشكلة الجهاز السرى والذى كان أعضاؤه يعتبرون أنفسهم صفوة الإخوان .

ورغم إعلان اختيار الهضيبى تقريبا بقى فى منزله ما يزيد على الشهر طلب بعدها إعادة النظر فى مسألة قبوله المنصب وقد جاء ذلك الطلب عقب اكتشافه أن الجهاز السرى لازال موجودا .

وعلى أثر ذلك أعلن معارضته لأعمال العنف التى سادت البلاد ما بين 1946 , 1949 وعدم استعداده مطلقا للقيام بأى دور إزاء مثل هذه الأعمال , بل أنه قال صراحة " ليس هناك سر فى الرسالة ولا إرهاب فى الدين " .

وبمثل هذه القوة فإنه لم يندد فقط بأعضاء الجهاز السرى وإنما شك أيضا فى " نبل الغرض " وهى الصفة التى كان ينظر بها إلى هذه الأحداث , من جانب مرتكبيها وبالتالى قد كان تحديا لبعض الآراء الرئيسية للشخصيات التقليدية فى الجماعة حول كل من المسائل والأهداف .

تلك الآراء جسمت تحدى قيادة التنظيم من جانب الصفوة ( قادة وأعضاء الجهاز السرى ) وكما أوضحها الهضيبى فيما بعد فإن الجهاز السرى كان خطأ من الناحية الإدارية ذلك أنه خلق ازدواجا وقيادة متناقضة فى عديد من الجوانب .كانت هذه إذا شخصية القائد الجديد للإخوان والذى كان يمثل زعميا دينيا فقط .

ولقد حاول الإخوان ابتلاع شخصية الهضيبى خوفا من الإنشقاق السياسى إلى أن جاء تلاحق الأحداث على المسرح المصرى عندما وصلت التوترات إلى الذروة عندما القت الظروف بكل ثقلها على دورها فى منح مرحلة أخرى فى النزاع الإنجليزى المصرى والتى عرفت باسم الكفاح المسلح فى القنال .

أو الحركة الفدائية المصرية عقب إلغاء معاهدة 1936 كما سيرد ذكره – تفصيليا عند سرد القضية السياسية وموقف التيارات السياسية المختلفة على المسرح المصرى منها .

الفصل الثالث

التيار الفاشي ومصر الفتاةمن 19191952

أثر نجاح الفاشية الإيطالية على تكوين مصر الفتاة

مؤسس الفاشية الحديثة كما هو معروف موسوليني حاكم إيطاليا , الذي بدأ الحركة الفاشية بتأليف جماعات للأطفال تشرف عليها هيئة أطلق عليها اسم "باليلا " والتي نظمت بالمرسوم الذي صدر في 13 ابريل سنة 1926

وذكر في ديباجة التكوين أنه معهد لتنظيف الصغار تنظيفا أخلاقيا وجسمانيا حسب قواعد ومعتقدات الفاشزم .ومع بداية عام 1927 تولت هذه الهيئة الإشراف على التدريب الجسماني لطلبة المدارس الأولية.

إلا أنه بحلول أكتوبر من عام 1937 صدر مرسوم آخر يضم مؤسسة "الباليلا" بكل ما لها إلى الفرق التي أطلق عليها "شباب ليتوريا الإيطالي " وجعل الإشراف الكلي لسكرتير عام الحزب الفاشستي الاعلى ووضع دستورها على أساس " أعتقد .أطلع .حارب "

أما المبادئ الأساسية للفاشية فتقوم على التدريب الجسماني والتدريب العسكري بالإضافة إلى التدريب النفسي والعلمي .ويشمل بالطبع التدريب العسكري والرياضي جميع شباب الفاشية من السادسة حتى سن الحادية والعشرين , وينقسمون إلى أقسام تدريبية حسب أعمارهم , ويفرق كل مجموعة عن الأخرى عامان تقريبا

وهي مقسمة أيضا إلى رتب كمراتب الجيش الرومانية القديمة .ويقوم بتدريب هؤلاء الشباب بعض أفراد الميايشيا ومدرسون حاصلون على دبلوم خاص بهذا التدريب , وعلى أن يختار المدرسون من بين خريجي الأكاديمية الفاشية في السنوات الأخيرة .

أما الزي الخاص بهم فكان قميصا أسود مقفولا عند الرقبة بشارة معدنية على الياقة تمثل الذئب الروماني وحزاما أبيض وبنطلونا طويلا ونظام التدريب الجسماني يحض على التهذيب الخلقي ويهتم بالتعليم الديني .

كما يعطي عناية كبيرة للتدريبات بأنواعها برية وبحرية وجوية .كما كان لهم نواد رياضية خاصة بالباليلا .ولم ينس موسوليني تدريب الفتيات أيضا ففي الوقت الذي أنشأ فيه معسكر الدونش للفتيان في نوفمبر سنة 1927 وفتح أبوابه في فبراير سنة 1928 لتدريب مدرسين للتمرينات الرياضية في مدارس الحكومة ولتدريب الباليلا ومنهج التعليم فيها على أحدث الأساليب العصرية وكما تضعه العلوم التطبيقية لتربية النشء

أنشأت أكاديمية روما الفاشية للنساء وكان الغرض منها تخريج الفتيات المدرسات للباليلا ومدرسات الرياضة بمدارس البنات ومدة الدراسة سنتان . ومركزها مدينة آرفيتيو . كما كانت هناك فرق الشابات الفاشسيتيات وفرق الجامعيين الفاشست .

ولقد كان التركيز الرئيسى على تربية جيل من صغار الفاشت المحاربين وقوات شباب الفاشست ليخرجوا فى أبريل من كل عام فى فرق منسقة محتفلين فى شوارع روما بعيد ميلادها . ويعرف هذا اليوم عادة بيوم قوات الفاشست تزود فرق شبابا الفاشست بدراجات وموتوسيكلات ولوريات .

وأهم ما يلفت النظر فى برامج هذه الرحلة تنظيم التجمعات من وقت لآخر فى مراكز القيادة وإلقاء المحاضرات عن مميزات النظام وغرس مبادىء الفاشست فى نفوس الأعضاء .استهوت تلك المبادىء والإنتصارات شبابا من مصر وتحمسوا للقضية السياسية واعتقدوا أن حلها لن يكون على يد هؤلاء السياسيين العصريين التقليديين .

إنما سيكون على يد الشباب المثقف الواعى النابض بالدماء الجديدة والأفكار الحديثة أيضا . كما استهوتهم الثورات والحريات التحررية فى العالم أجمع كالثورة الفرنسية والثورة الأمريكية كذلك إيمانهم بالشعب المصرى .

" لقد كان ما شجعهم الحركات الثورية فى العالم أجمع .الثورة الفرنسية . غاريبالدى . ماتزينى . دى فاليرا . ثورة أمريكا وحرب تحرير العبيد وإيمانهم بالشعب المصرى والفلاح المصرى على وجه الخصوص " ولقد جاءهم الكثير من الآمال والتطلعات لبناء مصر جديدة بها الصناعات الثقيلة . الجيوش . الطائرات .التربية والتعليم . الأزهر .

محاربة الرأسمالية الرجعية التى تحتكر كل شىء فى مصر . وراودهم أمل غال ألا وهو إلغاء الإمتيازات الأجنبية " , وكانت البداية كلمات ماتزينى مؤسس حركة إيطاليل الفتاة فاستبدل كلمة إيطاليا بكلمة مصر وانطلق يكتب .

مصر التى علمت الإنسانية وأضاءت العالمين لن تموت أبدا بل سعت من جديد لتعيد سيرتها الأولى . مصر التى يجب أن تكون فوق الجميع . لعل أول احتكاك لأحمد حسين بالسياسة فى أواخر عام 1929 عندما اندمج داخل جماعة " الشباب الحر أنصار المعاهدة " التى تكونت على اثر عودة محمد محمود زعيم الأحرار الدستوريين من لندن فى أغسطس سنة 1929 حاملا مشروع المعاهدة التى توصل إليها من هندرسن ليعرضها على الشعب المصرى .

والذى انقسم ازاءها بين مؤيدين ورافضين وآخرين متحفظين , فى الوقت الذى بذل الأحرار الدستوريين أقصى جهودهم للترويج لهذه المشروع الذى توج بتأليف جماعة لتأييده عرفت بجماعة " الشباب الحر أنصار المعاهدة " وأسندت رئاستها إلى حافظ محمود واشترك فى عضويتها الشاب أحمد حسين عندما عرض عليه ذلك حسن صبحى أحد المتصلين بمحمد محمود لكى يعمل لمناصرة المعاهدة والدعوة لقبولها .

ولم يتردد أحمد حسين فى قبول هذا العرض على حد تعبيره . شارك أحمد حسين بجهوده المؤيدة لتلك الجماعة لأنه رأى أن زعيم الأحرار الدستوريين قد عاد إلى مصر بمشروع يفضل جميع المشروعات السابقة عليه , وكانت الجماعة تنشر بياناتها بجريدة " السياسة " .

وفى باكورة بياناتها التى كتبتها بنفس الجريدة فى يوم 2.أغسطس 1929 والتى أعلنت فيها أنها بعيدة عن الأحزاب تماما , وأنها تعبير عن رأى الشباب وأن رائدها تأييد المعاهدة وأنها الفرصة الوحيدة للسير بالبلاد إلى الأمام .

وفى ختام بياناتها وجهت نداء إلى الشباب بأن ينضوى تحت لوائها ومن ثم أخذت هذه الجماعة تسعى لتعسسن شخصية كبيرة مستقلة على رأسها , لذا حاولت إقناع الأمير عمر طوسون برعايته لها مستندة فى ذلك إلى ما أعلنه الأميرعقب إعلان المشروع على أنه " حسن فى جملته " ولكن الأمير لم يشأ أن ينغمس فى هذه المسألة .

فعقدت الجماعة اجتماعا فى منزل منزل إبراهيم بك فتحى فى العباسية حضره لفيف من الأعيان والأدباء والمفكرين , يتقدمهم عبد الخالق باشا مدكور واللواء أحمد فطين , ونصب عبد الخالق مدكور رئيسا لها بالقاهرة . وتولى أحمد كامل المحامى سكرتيريتها .

ومن ثم بدأت تتوالى أخبار تأليف اللجان والفروع للجماعة فى الأقاليم على صفحات جريدة السياسة , وقد حرصت هذه اللجان على إعلان شكرها لمحمد محمود بطل المعاهدة وزعيم البلاد كما اتخذ بعضها شعار " مصر فوق الجميع " .

بدأ أحمد حسين نشاطه فى جماعة " الشباب الحر أنصار المعاهدة " بمهاجمة الوفد لموقفه من المشروع وكان ذلك فى 24 أغسطس 1929 ووصف فى مقال له بأنه " موقف لا يغبط عليه وليس فيه ما يشرفه فى قليل أو كثير " .

ثم ألقى خطبة فى احتفال أقامه شباب الأحرار الدستوريين فى 13 أغسطس ذاكرا أن مصر فى حاجة إلى زعيم يؤمن بالعمل والوحدة . ولن يكون هذا الزعيم العامل إلا من دم فرعونى تنساب فيه دماء رمسيس ومينا .

ولقد أوضحت الخطبة فكرة أحمد حسين فى العمل على إعادة مجد مصر . " إذن فبلسان الشباب الحر . بلسان مصر الفتاة أسألك أن تكون زعيما للشباب فى الوزارة أو خارجها على السواء . لا تظن وقد جئت بالمعاهدة أن عملك قد انتهى فإنه لم يكد يبدأ فإلى العمل إذن والشباب يؤيدك ولتكن كموسولينى فى إيطاليا .

ثم هتف قائلا " فلتحيا مصر . مصر فوق الجميع . فليحى زعيم الشباب " ثم قدم لمحمد محمود بطاقة باسم الشباب الحر فقبلها مسرورا . ولقد ركز أحمد حسين فى هذه الخطبة على مجد مصر ووجوب بعث هذا المجد من جديد على يد هذا الزعيم مشيرا إلى محمد محمود .

وعندما لم تجد هذه المحاولات لإقرار مشروع المعاهدة ولم يستجب محمد محمود لمطالب أحمد حسين بأن يكون كموسولينى فى إيطاليا تصدى أحمد حسين فى العام التالى ليقوم بالدور الذى يرفضه محمد محمود نفسه .

وفى مستهل مارس سنة 1930 استصدر "مجلةالصرخة " وقد كتب فى عددها الثانى داعيا إلى تكوين " ميلشيا فرعونية " ذاكرا أنه بهذه الطريقة استقلت الممالك وارتقت . فمن قبل كانت إيطاليا الفتاة . ورومانيا الفتاة .

وألمانيا وأيرلندا الفتاة , وتركيا الفتاة , كل أمة أرادت استقلالا أو نهوضا أو مجدا اتبعت هذا الطريق , طريق الشباب الملتهب بحماسة الإيمان , فما أحرانا بتكوين مصر الفتاة لنعيد لمصر نهضتها ومجدها .

وفى عددها الثالث دعا إلى تكوين " جيش الخلاص " لتنفيذ فكرته فى إعادة مجد مصر مترسما تجربة الدول التى ذكرها . إلا أن هذه الدعوة التى دعا إليها ورفاقه لم تلق قبولا لدى الشباب فتوقف عن إصدار المجلة بعد ذلك .

وفى صيف سنة 1930 سافر أحمد حسين إلى باريس وكان مما شاهد هناك تمثال ضخم لأحد رجالات التربية فى حدائق " التوليرى " كتب على قاعدته " بنى هذا التمثال باكتتاب اشترك فيه كل من مليونى طفل دفع كل منهم " سو " وهى عملة تقرب من المليم . ولقد أعجب بهذه الفكرة وصمم على أن ينادى بتطبيقها فى مصر .

وعندما عاد إلى بلده رسم خطة للنهوض بالصناعات الوطنية على المستوى القومى بأن يشارك جميع أفراد الشعب بتنفيذها وبإنشاء صناعات جديدة يساهم فيها الجميع ووضع الحد الأدنى قرشا واحدا – وقد وصلت هذه التبرعات إلى مبالغ ضخمة ومن هنا سمى مشروعه " بمشروع القرش " عرض أحمد حسين بعد عودته من باريس فكرته على زميليه فتحى رضوان وكمال الدين صلاح فأبديا استحسانهما وكيف أنها ستساعد على غقامة ركائز وطنية للصناعة تحل مع الزمن محل الركائز الأجنبية المسيطرة على الإقتصاد المصرى .

هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فإنها سوف تحقق لهم جماهيرية تساعدهم على الإقدام على خطوتهم التالية . وعن طريق تلك الفكرة أيضا فإنهم سوف يشتهرون على أنهم أصحاب أفكار جديدة وبعد أن استوثق أحمد حسين من موقف زميليه من الفكرة.

لجأ إلى نشرها فى اوساط الطلبة بالجامعة والمدارس العليا , فلم يكد يبدأ العام الدراسى حتى بدأ اقناع كل من الطلبة والأساتذة بها فاستجاب لدعوته الكثيرون وكان منهم الدكتور على إبراهيم باشا الجراح الشهير وعميد كلية الطب فى ذلك الوقت والذى تولى رئاسة اللجنة التنفيذية للمشروع " فقد كانت رئاسته لها خيرا وبركة على المشروع " ولقد تشكلت اللجنة من مجموعة من الأساتذة والطلبة واتخذت من نادى الجامعة بميدان الأوبرا مقرا له .

وقد ضمت كلا من الدكتور على إبراهيم بميدان الأوبرا مقرا لها . وقد ضمت كلا من الدكتور على ابراهيم رئيسا والدكتور عبد الله العربى الأستاذ بكلية الحقوق والدكتور على حسن الأستاذ بكلية الطب وكيلين والدكاترة [[مصطفى مشرفة وعبد الرازق السنهورى وعلى بدوى .

وزكى عبد المتعال , والأستاذ أمين الخولى مراقبين كذلك ضمت عددا كبيرا من الأعضاء .

ولقد تولى داوود بك مراقب أمانة الصندوق واسندت أعمال السكرتارية إلى كل من أحمد حسين وفتحى رضوان ومدحت عاصم وبعد أن استقلت الفكرة إلى حد ما .

وبعد أن صار لها هيئة تشرف على تنفيذها واصل أحمد حسين الدعوة لها , فظل يرسل النداءات والبيانات إلى الصحف عن المشروع .

استمرت حملة الدعاية للمشروع تظهر على صفحات الصحف موجهة نداءات إلى الطلبة والعمال والفلاحين والسيدات , وإلى الفقراء والأغنياء على السواء ولقد اكتسبت الدعاية شكلا تنظيميا فكل النداءات كانت تصدر عن اللجنة التنفيذية للمشروع وأصبحت الدعاية له تغمر مصر كليا فى ظل شعار جديد واتخذته اللجنة التنفيذية هو " تعاون وتضامن فى سبيل الإستقلال الإقتصادى " ولقد اخذت الدعوة طريقها إلى كل فئات الشعب .

ولقد تحدد يوم الأول من فبراير سنة 1932 موعدا لبدء الإكتتاب للمشروع فى مدينتى القاهرة الأسكندرية على أن يستمر بهما حتى اليوم الخامس من نفس الشهر . وعلى أن يبدأ فى الأقاليم فى الفترة من 4 إلى 29 فبراير من نفس الشهر .

وفى هذا الشأن وجه أحمد حسين باعتباره السكرتير العام للجنة المشروع بيانا بقوله " ساهموا بقروشكم لبناء استقلالنا الإقتصادى " فاستخدم أسلوب الترغيب فى المشروع تارة والترهيب تارة بقوله " لا يفكر شخص فى الإمتناع عن شراء طوابع القرش المتطوعون مكلفون بالتعرض لكل شخص لا يحمل طابع القرش والمتطوعون الوف . إذن فخير لك أن تدفع "

أما عن موقف القوى السياسية من المشروع فعلى الرغم من النجاح المذهل الذى حظيت به فكرة المشروع وانتشار دعاية بين كل الطبقات إلا أن الوفد رأى صرف الشباب من جماهيره عن حزبهم هذا بالإضافة إلى أنه اعتبر المشروع مؤامرة جديدة ودسيسة يراد بها صرفا للشباب عن قضية البلاد الحقيقية , خاصة أنه نمى إلى علم النحاس باشا أن المشروع بدأ يلاقى نجاحا كبيرا أو لعله خشى من استقطاب جماهير الوفد من الشباب إذ أوعز للجنة الطلبة المركزية الوفدية أن تحارب المشروع .

إلا أن موقف الوفد سرعان ما تغير عندما اجمعت كل طوائف الشعب على الفكرة فبدأت جماهيره تتصارع لفكرة المشروع وتعتنقها وجاء اليوم المحدد للتبرع فقابل أحمد حسين النحاس باشا وحصل على تبرعه للمشروع الذى بلغ اثنين وعشرين جنيها , كما التقى عنده بكل من مكرم عبيد والنقراشى باشا وحصل على تبرعهما كذلك .

ولقد كان قيمة ما دفعه النحاس باشا وأعضاء الوفد المعنوية أكثر بكثير من قيمته المادية فهو يعنى رضاء الوفد عن المشروع ويوضح قوميته التى ظهرت أسمى من الخلافات الحزبية . أما عن الوزراة الحاكمة آنذاك – وزارة صدقى – فقد أظهرت تأييدها للمشروع .

بل أن صدقى أصدر تعليمات بالرضاء عن المشروع وأن تقدم له كل التسهيلات الممكنة . وفي الموعد المحدد .. إستيقظت القاهرة والشوارع ومركبات الترام والسيارات العلمة قد غصت بالمتطوعين والمتطوعات من مشروع القرش .

يحملون الشارات على صدورهم وعلى أذرعهم ويوزعون طابع القرش والذي رسمت عليها مصنع يشاد وكتب عليها "تضامن في سبيل الإستقلال الإقتصادي " .وأقبلت الجماهير خاصة في القاهرة والأسكندرية على ابتياع الطوابع أما في حديقة الأزبكية فقد اقبلت عشرات الألوف من طبقات الشعب المختلفة احتفالا بهذا المهرجان العظيم . حيث اختفى كيان الحديقة وتحولت الى كتلة بشرية .

وكانت جميع الهيئات من حكومية وشعبية قد تسابقت للمساهمة في المهرجان واحتشدت موسقيات الجيش بأنواعها والبوليس وقد جاءت كلها , وغصت الحديقة بالبهلونات والحواة ومروضى الحيوانات , وأقيمت حلقات للشعر والخطابة والزجل لمنح جوائز للمتفوقين وجاء الشعب كله ليدفع قروشه مساهمة في المشروع واقترح أعضاء الجماعة على جعل أول مصنع يقام لغزل الصوف وصنع الطبرابيش والقبعات .

ولقد قال امير الشعراء احمد شوقي قبل وفاته بأيام عن مشروع القرش " أنه كان مهرجانا يتضائل الى جواره مهرجان الأزبكية , ان كل شئ يتحدث عن عزيمة الجيل الجديد الذي تغلب على جميع الصعوبات فبارادته يوضع حجر الأساس لأول مصنع للشعب ومملوك له ."

ولقد قال وزير الشئون الإجتماعية في مجلس النواب " إن مقدار راس مال مشروع قد بلغ خمسة وثمانون الف جنيه ـ "85 الف " ـ تقريبا , ويقوم بإرادته نخبة من فضلاء مصر وعلى رأسهم سعادة الدكتور على ابراهيم باشا , وليس للوزارة أي رقابة عليه لأنه تم على يد جمعية لإحياء الصناعات المصرية ولا يدخل المال في نطاق أعمال البر والإحسان التي تراقبها الوزارة , ولم تطلب معونتها . "

وفي مستهل عام 1933 أدرك أحمد حسين إنه لكي يحظى بحماسة الجماهير فلابد وأن يروا ثمرة عاجلة لقروشهم التي دفعوها في العام الماضي ومن ثم انتهز فرصة وضع حجر الأساس لمصنع الطرابيش المصري و ألقى خطاب طالب فيه بالمزيد من الجهود لجمع الإكتتاب كما أقام مهرجان الأزبكية الثاني لمشروع القرش .

وفي نهاية العام . تم إنشاء مصنع للطرابيش كما تم تركيب الآلات وبدأ الطربوش المصري يطرح في الأسواق منذ الخامس عشر من ديسمبر عام 1933 .وقد بدأ لمصنع بطاقة إنتاجية تقدر بثلاثمائة ألف طربوش في العام ولقد ضم المصنع فيما بعد الى جانب الطربوش انتاج وغزل الصوف وشارك في أثناء الحرب العالمية الثانية في توريد غزل الصوف الى وزارة الحربية وتوريد القلنسوات لى سلاح الفرسان الملكي والطرابيش لجنود حرس الحدود .

وهكذا اتخذ أحمد حسين من المشروع القرش تمهيدية توصله لغايته التي ينشدها منذ آمن بمجد مصر والعمل على بعثه ولقد اكتسب شهرة قوية عن طريق المشروع وكسب أيضا أنصارا وأعوانا وخبرة بالتنظيم والعمل الجماهيري سهلت له القيام بخطوته التالية ألا وهي إعلان مصر الفتاة في 21 اكتوبر سنة 1933 .

كانت الفاشية إذن موجة انتشرت كما أوضحنا سالفا في أوروبا ومنها الى دول العالم المختلفة فبعد ظهورها في ايطاليا وتحقيقها نجاحا كبيرا موسوليني وكان وجودها ناتجا عن التناقض إلحاد بين الرأسمالية والشيوعية ولقد انتقلت أفكارها إلى معظم دول العالم في الثلاثينيات وما بعدها كظهورها في المانيا واليابان وأسبانيا وايرلندا , وقد اعتنقت كل هذه الحركات إطار أيدلوجيا واحدا الى حد كبير .

"وقد انتشرت تلك المبادئ بسرعة عجيبة ووجدت آذانا صاغية لها في داخل المجتمعات التي تحمل بين طيات تكوين طبقاتها تناقصا واضحا وركزت تلك الحركات اهتمامها على الشباب , لذا علمت على تنظيمهم تنظيما دقيقا وتدريبهم بأساليب عسكرية محضة تعودهم النظام حتى اذا ما آنست في نفسها القوة المادية التي تسعى لتكوينها تحركت لتحقيق أهدافها في تغير شكل الحكم القائم .

عن طريق تلك القوة التي أحرزتها ممثلة في التشكيلات شبه العسكرية ولقد كان للنجاح الباهر الذي أحرزته الحركات الشية والنازية صداها المسموع أيضا في منطقة الشرق العربي اذ ظهرت حركات مماثلة في كل من مصر , والعراق , وسوريا ولبنان . " وإن كان هناك تمايز واضح بينهم من ناحية وبين الحركات التي انتشرت في أوربا وآسيا من ناحية أخرى وهذا راجع الى الظروف الموضوعية لتلك المجتمعات .

تكون فريق من سبعة أعضاء هم أصدقاء الجماعة وقرروا المبيت في الهرم عند أول اجتماع لهم واشعلوا النيران وتناوبوا الحراسة حتى الصباح ولقد دفعهم إلى هذا الإجراء ما لاحظوه من تقصير في الإحتفال بذكرى ثورة سنة 1919 أو القصور أيضا في إظهار دورها الكبير في مصر والعالم.

إذ احتلفت الأحزاب في عيد الجهاد القومي بطريقة تدل على مدى التناحر الحزبي السقيم فرأت الجماعة أنه لابد من التغيير خاصة أن الوقت قد حان لان تستعيد هذه الذكرى جلالها بعد أن ألهبت الشرق القريب والبعيد ويكفي أن غاندي قد قال " أن ثورة مصر سنة 1919 هي التي شجعت الهند على أن تبدأ حركتها التحريرية الكبرى "

وتعاقبت الحركات الثورية بعد ذلك في تركيا وسوريا وشمال أفرقيا وكنتيجة لثورة سنة 1919 التي أثبتت كيف استطاع شعب أعزل أن يقاوم أكبر قوة عسكرية في آنذاك وهي قوة انجلترا بعد الحرب العالمية الأولى ولم يكن للشعب من سلاح إلا قدرته على أن يموت أبناؤه .

فلا يجعله ذلك إلا أن يزيد إصرار على المطالبة بحقه , وأن يتلف حول رجل واحد ويكون شعاره الإستقلال لمصر على رؤوس الأشهاد وأصبحت مصر بذلك دولة مستقلة لها ملكها , ودستورها , برلمانها , ووزارة خارجيتها التي تتشرف على سياستها الخارجية . وكان الأجدى لرجال تلك الصفحات الإستعانة بتلك الصفحات المشرفة في تاريخ مصر بدلا من التراشق بالتهم .

لذلك آثرنا يكون حول الإجتماع حول الهرم رمزا لعظمة مصر ووحدتها وانتصارتها حيث قضى الشباب ليلته ما بين أناشيد وطنية يرتلها وأحاديث عن أماجاد مصر للتعليم منها ومن سرد قصص الكفاح والبطولة , وظلت الجماعة تروج لفكرتهم في الإجتماع بالهرم بين طلبة الجماعة .

خاصة خاصة الآداب , ولقد ظل الإجتماع حتى الصباح وإن كان العدد الذي الإجتماع حضر الإجتماع الأول هذا لم يتعدوا الأشخاص السبعة إلا أن أخباره انتقلت للجامعة فى اليوم التالى وتألم الكثير من الطلبة لعدم حضورهم هذا الإجتماع وتمنى عددا آخر الحضور فى الإحتفال الثانى وقد نشرت جريدة الأهرام تفاصيل " ما كان عليه احتفال شباب من الجامعة بعيد الجهاد " وكان ذلك النشر آية ودليلا على نجاح فكرتهم مما شجعهم على المضى فيها .

عكف أحمد حسين ورفاقه على متابعة سياسة الحزب وبدايته ووسيلته التى تتلخص فى إظهار كراهية أساليب العنف والثورة والمؤامرات والحروب وآمن السلام وذكر أن " وسيلتنا للحصول على ذلك ليست حربا أو قتالا وليست عدوانا أو صداما لكنها تتلخص فى كلمتين الإيمان والعمل "

لقد ظهر جليا فى كلمات محدودة وقصيرة , الروح التى آمن بها أحمد حسين من العمل الجاد والإيمان لكى تكون مصر امبراطورية وإن كانت هذه أحاسيس وطنية والدافع إليها حب مصر واستعادة أمجادها لكنها دون شك مبادىء فاشية , وأن جاهر بعدم رغبته فى استعمال القوة لكنها دون شك مبادىء فاشية.

وأن جاهر بعدم رغبته فى استعمال القوة إلا أن تنظيم القمصان الخضراء كان ينطق بعكس ذلك فهو أقرب الشبه بالباليلا ولعل أول مقال له فى جريدة الصرخة التى أسسها فى اواخر سنة 1933 تظهر جانبا من تلك الأحاسيس " يا شعب مصر الخالد.

لقد حانت ساعة الجهاد وحركة البعث تدعوكم لعشر سنوات من الإيمان والعدل ليكن شعارك " الله . الوطن . الملك " ولتكن غايتك أن تصبح مصر امبراطورية شامخة تتألف من مصر والسودان وتحاف الدول العربية وتتزعم الإسلام "

ولقد رسم على غلاف الصفحات الأولى نارا مشتعلة وقد شكلت ألسنة اللهب صور زعماء مصر الثلاثة الذين اعتبروا رمزا على ثورة سنة 1919 سعد شعراوى وعبد العزيز فهمى وكتبت ألسنة النيران تاريخ 13 نوفمبر سنة 1935 وفى صفحتين متقابلتين صورة نكثات الإحتلال فى أنحاء القاهرة وفى قصر النيل والقلعة وكتب

" يا رجال مصر يا شباب هل أصبحت هذه المناظر لا تزعجكم ؟ هل ألفتم طعم الذل والهوان ؟ إنها ثكنات بريطانية وجيوش إنجليزية حتى قلعة صلاح الدين أصبحت بريطانية . وما أشبه اليوم بالبارحة ولكن ما أعظم الفرق بين جهاد اليوم وجهاد البارحة "

ظل أحمد حسين فى المقالات الأولى خاصة وفى كتاباته عامة يركز على الهاب حماس الشباب مذكرا له بماضيه الخالد , وبحضارته القديمة دافعا له على كراهية الإحتلال مناديا بأن يكون شباب 35 هو نفس شباب 1919 الغاضب على المستعمر الغاشم " يا شباب 1935 كن كشبابا سنة 1919 كن كهذا الشباب الذى أشعل الثورة فى وقت لم يتوقع الناس فيه ثورة جامحة ضد الغنجليز والأجانب لا تعرف هوداة ولا لينا , إلا خلاص الوطن من ربقة الإستعباد "

كانت البداية إذن عند أحمد حسين عندما كان طالبا بالجامعة الدعوة إلى تكوين " ميلشيا فرعونية " أو جيش الخلاص ولكنها لم تلق نجاحا فى ذلك الوقت ثم عاود الكرة عندما أعلن قيام جمعية مصر الفتاة فى خريف سنة 1933 على أساس الأفكار التى اعتنقها منذ الثلاثينات

وإن كانت فى تلك المرة بشكل منظم بعد أن اكتسبت خبرة بالتنظيم لكسب أنصار من الشباب ليجمعهم حوله وحول فكرته التى سيطرت عليه ومن ثم أخذ يضع له الأنظمة التى تكفل له تحقيق فكرته فعمل على تكوين تشكيلات شبه عسكرية وجعلها أساسا لاهتماماته ومن ثم برزت إلى الوجود تلك التشكيلات داخل المجتمع المصرى , فقد أعلنت مصر الفتاة أو أول ما تريده هو تنظيم الصفوف لتصل إلى غايتها بأسرع وقت وقالت " أننا نعيش فى فوضى فيجب أن نعيش فى نظام وعلينا أن نجمع الشباب فى صعيد واحد وأن نعودهم النظام وأن نلبسهم زيا واحدا وأن ننطقهم نشيد واحد وأن نجعل لهم شعارا واحدا وغاية محددة "

وعلى هذا أسرعت مصر الفتاة إلى تكوين فرق المجاهدين أعضائها فنشرت جريدة الصرخة أول صورة لجندى مصر الفتاة مرتديا القميص الأخضر فى ديسمبر سنة 1933 موجهة إليه تحية الأجيال الغابرة وتحية الأمة التى تريد على يديه رفعة ومجدا , ولقد كانت أولى التشكيلات التى ظهرت عدة كتائب فى أقسام العاصمة فى مستهل عام سنة 1934 .

أما خصائص هذه الكتائب فقد اتسمت بانضمام جامعى مثقف ممتلىء بالحماس يؤمن بسيادة القانون وتقديس حقوق الفرد والإنسان . ولقد وجه أحمد حسين نشاط تلك الكتائب إلى إنشاء فروع وشعب للجمعية فى الصعيد المصرى .

كان الوجه القبلى فى حاجة إلى مزيد من الجهد حقا فألفت لهم شعب فى أسوان وقنا وبعض عواصم الصعيد الأخرى لكن ذلك كان دون العناية وفكروا فى حملة لغزو الصعيد كله بمبادئهم وأفكارهم ورأوا تكوين حملة تبدأ من الشلالات وتنتهى عند الجيزة على أن تكون الرحلة سيرا على الأقدام لسببين :

أولهما : توفير المال اللازم للرحلة بقدر الإمكان .

وثانيهما : ليكن السير على الأقدام مظهرا لعزيمتهم وقوة إرادتهم وتضامنهم مع الفلاحين فى آلامهم ومتاعبهم عاملين فى الحقول مع العاملين حاملين شكواهم للسلطات وناشرين دعوتهم إلى تحرير الشعب من الفقر والجهل والمرض عن طريق تحرير مصر من ربقة الإستعمار والإستغلال .

أما فيما يختص بتسليح الأعضاء , فقد أوفدت جمعية مصر الفتاة أحد كبار أعضائها للإشراف على شعبة الأسكندرية القوية وأن كان الهدف الحقيقى من مهمته هو الإتصال ببعض مهربى الأسلحة فى المدينة ومن الواضح أن الملازم ثان عبد الله صادق , صديق أحمد حسين الحميم , والذى يعمل بالجمارك فى الأسكندرية حاول مساعدة " المشهدى " فى تلك المهمة بحكم وظيفته وإن كان المشهدى لم يستطع الحصول على الأسلحة .

رغم أنه بقى بالأسكندرية فترة طويلة . ولقد استمرت مصر الفتاة تجد فى الحصول على الأسلحة بمختلف الطرق الممكنة ففى سنة 1936 تمكنت من الحصول على بعض المسدسات عن طريق بعض التجار والضباط السابقين بالجيش المصرى .

ولقد كان الحصول على السلحة أحد المطالب الأساسية التى تسعى مصر الفتاة للحصول عليه , ليمهد لها فى النهاية تحقيق حلمها فى الإستيلاء على السلطة لتنفيذ برامجها فى إعادة مجد مصر القديم على يديها ومن هذا المنطلق كانت دائمة السعى لتسليح الأعضاء وعندما فشلت فى أن تحصل على الأسلحة الكافية طلبت من اعضائها بأن يحاول كل منهم الحصول على السلاح حتى إذا ما حانت الساعة المناسبة لكى تقوم بتنفيذ خطتها كان الأعضاء مستعدون ومسلحون .

بالإضافة إلى اعتناق الحزب للأفكار الفاشيستية وبالإضافة إلى مساعيه الدائمة والتى لم تكل فى الحصول على السلاح فقد كان للإيطاليين المقيمن فى مصر دور لا فى انتشار الأفكار الفاشسية فحسب بل وفى تشجيع وتعليم تلك العناصر أيضا خاصة وأن المراجع قد حددت مدى ضخامة عددهم بالمقارنة لأية جالية أجنبية أخرى " أن الإيطاليين فى مصر كان يتراوح عددهم ما بين 6.ألف و7.ألف وكان نفوذ الجالية الإيطالية فى مصر مستمدا ليس فقط من كثرة عددها بل كذلك من مصدرين :

أولا : وجود الإيطاليين داخل القصر ويرجع إلى أيام كان الخديو إسماعيل منفيا فى إيطاليا وتربى فؤاد هناك ثم تولى الحكم ومعه عدد من الإيطاليين أمثال " أنطونى بوللى " الذى كان كهربائيا للحاشية و" جارو الحلاق " و " كافوتش " مدرب الكلاب ولكن الشخصية التى كان يبدو لها بعض النفوذ فى القصر فهو " ميلانيزى " رئيس الفرقة الموسيقية بالقصر و " ينزنش " كبير مهندسى القصر بالإضافة " لانجلوسان ماركو " المؤرخ المعروف .

ثانيا : يرجع نفوذ الجالية الإيطالية إلى موقفها بشكل عام من المعركة الوطنية سنة 1919 وهناك شواهد على ذلك " فانويل بالذى " وضع أول كتاب بالإيطالية عن الثورة المصرية والوفد المصرى حوالى عام 192..

وقد عاصروا دون شك الموسيقار الإيطالى " مارانجونى " الذى قتل فى حادث تصادم مع القوات الإنجليزيةوإلى جانب المعهد الإيطالى وجمعية الصداقة الإيطالية المصرية والصحف الإيطالية كان هناك نادى خريجى المدارس والجامعات الإيطالية ويضم مصريين وأجانب فالمؤرخ " جان ليجول " ذكر فى كتابه " عن مصر والحرب العالمية الثانية " يؤكد أنه بصرف النظر عن العمال الإيطاليين والمثقفين الثوريين الإيطاليين فى مصر فإن غالبية الجالية الإيطالية كانت شديدة الحماس لقضية الفاشستية .

هذا بالإضافة إلى أن الفاشية الإيطالية قد أنشأت فى القاهرة فى عام 1923 و 1924 مركز الفاشستية التابع للحزب وكان فيه 40.طالب مصرى و وكان مقره بالمدرسة الإيطالية وكان التعليم فيه بالمجان ومساء وكان السكرتير السياسى للمركز يعين من الحزب الفاشستى فى روما أما عن المفوضية الإيطالية

فإننا نجد فى كتاب " جان لوجول " السابق تفسير لموقف المفوضية الإيطالية برجالها الباغل عددهم مائة من أنها لا تستطيع الفصل بين كراهية المصريين للإنجليز ورضائهم بالحكم الإيطالى الفاشستى كما أنها كانت تتابع فى سهولة إمكانية غزو مصر من ناحية ليبيا

ولعل هذا يفسر لنا حرص الإيطاليين على نشر أفكارهم فى مصر من ناحية وتحريضهم مع اجتذابهم للعناصر الوطنية ضد الإحتلال بكل طريقة من ناحية أخرى بالإضافة إلى ترويج الإشاعات عن قوة النظام الفاشستى ومناصرته لقضايا التحرير الوطنى وإن كان ذلك يتناقض مع دور موسولينى فى أثناء الحرب العالمية الثانية – المهم أن محاولات التقرب من جانب الإيطاليين بمصر بالإضافة لنشاط الدعاية الجزئية التى كان يسندها الألمان عن طريق الإذاعة العربية ببرلين كان لهما أثر فى تنمية شعور عنيف وعاصف ضد الإنجليز بين الجمهور المصرى .

ولعل من الدلائل التى تنطبق على هذا التقارب ما حدث من اتصال أحمد حسين بجريدة " بجريدةدوريانتى الإيطالية " ورئيس تحريرها وما ذكره هو بنفسه " أثناء تجولى المعتاد للحصول على مشتركين وجدت نفسى فجأة بالقرب من إدارة "الجريدة دوريانتى " الإيطالية فخطر لى أن أقابل مديرها لعلى أحصل على بعض المعلومات عن السياسة الإيطالية فلم يكد مدير "جريدة دوريانتى " يتسلم بطاقتى ويعلم أننى سكرتير مجلة الصرخة حتى قابلنى على الفور بالترحاب العظيم وراح يثنى على حركتنا ومحاربتنا للإنجليز وعلى أنه يتابع اخبارهم باهتمام ويترجمها إلى الإيطالية ويوزعها فى أنحاء العالم فعرض أن يرسل لنا جريدته يوميا فى مقابل تبادلها مع مجلتنا فرحبت بالفكرة واصدر أوامره على الفور بتنفيذها وطلب منى تبليغ سلامه للشباب البعثيين عموما لم يعترض رئيس الجماعة على ما فعلته "

ولقد كان لجنود مصر الفتاة – كما كان يحلو لأحمد حسين أن يسميهم – جرائد اتخذت أسماء عديدة قبل أن تصبح جريدة مصر الفتاة ولعل أول تلك المحاولات "جريدة الصرخة " التى استصدرها فى أكتوبر سنة 1933 وحتى نهاية العام الذى تلاه ومع بداية مايو من عام 1935 وحتى أوائل عام 1936 أصدر "جريدة وادى النيل " التى كانت مقرها الأسكندرية

ثم أعيد استصدار " الصرخة " مرة أخرى حتى مستهل سنة 1937 , والذى تغير فيه اسم الجريدة على اسم " الثغر " حتى نهاية سنة 1937 ومع مطلع يناير من عام 1938 ظهرت الجريدة المتكاملة الناضجة " مصر الفتاة " والتى استمر صدورها بنظام – إلا عندما كانت تغلق عنوة – وحتى عام 1949 حين تغير منهاج واسم الحزب من " مصر الفتاة " إلى لحزب الإشتراكى المصرى وبالطبع أصبحت جريدة مصر الفتاة هى ذات جريدة الإشتراكية والتى استمر صدورها إلى أن اعتقل أحمد حسين وأودع السجن على أثر اتهامه بالإشتراك فى أحداث حريق القاهرة – الذى سيرد ذكره تفصيلا – فى 26 يناير سنة 1952 .

فى الحقيقة أن صحافة مصر الفتاة قد تميزت بالتطرف فى معاداة الإنجليز المستعمرين . إذ عكف على مهاجمة الإحتلال فى مصر خاصة والاستعمار فى مختلف أنحاء المعمورة عامة , كما نددت بالمستعمرين فى كل أجزاء الوطن العربى وكان ذلك عله اضطرابها فى الصدور وأحد دواعى مصادرتها الدائمة وأحد أسباب أزمتها المالية المستمرة والحقيقة أن الجريدة قد اكتسبت عداء كل الحكومات مما جعلها عرضة للتشهير بأقلامها البارزة , وإن ظلت الجريدة لا تغير من أسلوبها المسلط على مخالفيها .

ولم تعبأ بما كانت تلاقيه من مضايقات وظلت فى نشر دعوتها إلى جانب دورها فى ممارسة نشاطها السياسى والحزبى .لقد اتسمت صحافة مصر الفتاة بسمات خاصة لم تشهدها الصحافة الأخرى المعاصرة لها , فقد كانت عنيفة فى مهاجمة نواحى القصور فى أية ناحية وربما كان ذلك أيضا أحد العوامل التى لم تمكنها من الإزدهار والنجاح الملموس إلا فى فترات صغيرة كما حدثت فى سنة 1938 ولم يتكرر إلا عند مهاجمة جريدة الإشتراكية للملك فاروق عام 1951 بعد أن تحولت العلاقة بينهم من الوفاق إلى النقد والعداء .

وقد يتبادر سؤال : إذا كانت جريدة مصر الفتاة قد تعرضت دائما لهزات مالية عنيفة نتيجة لمصادرتها من جهة والى الغرامات المالية على كتابها لمهاجمتهم الساخنة للإستعمار والحكومات من جهة أخرى فمن أين أتت بالمال الكافى لإدارة الحزب والجريدة ؟

الواقع أن موارد مصر الفتاة المالية الرئيسية كانت تأتى عن طريق اشتراكات الأنصار ومقدارها خمسة قروش شهريا , واشتراكات المجاهدين وتبلغ عشرة قروش شهريا , بالإضافة إلى التبرعات المالية الكبيرة التى كانت تأتى لها كهبات من الشخصيات السياسية البارزة والقصر فى فترة الوفاق الولى . على ماهر باشا . علوبة باشا . عزام باشا .

وآخرون , كما كانت تأتى إليهم من أرباح المؤسسات والمشروعات التى كانت تنشئها الجمعية بالإضافة إلى نصيبها من دخل الاعضاء فى مجلس الجهاد ويبلغ عشرة فى المائة من دخلهم , كذلك كانت على كل من الشعب والعصب والجماعات أن تسلم إليها المبالغ المتحصلة عن طريق صناديقها من الإشتراكات التى يدفعها الأنصار والمجاهدون , كما كانت تقبل الهبات والمنح المقدمة من الأغنياء والأعيان فى المناطق التى تقع وعلى كل جماعة أن تحتفظ فقط بمبلغ ثلاثين بالمائة من إيراداها وتوصل الباقى إلى العصبة التى تحتفظ هى الأخرى بمبلغ ثلاثين بالمائة وتسلم الباقى بعد ذلك إلى مجلس الجهاد .

وبالطبع كان بالإمكان تعديل تلك النسبة عن طريق المستوى الأعلى كما كان يجرى قيد حسابات الجمعية يجميع هيئاتها فى دفاتر منظمة بحيث يمكن مراجعتها فى كل حين . وعلى أن تودع أموال الجمعية فى " بنك مصر " باسمها أو باسم أى شخص آخر ممن يعينهم مجلس الجهاد فى حالة الخوف من مصادرة أموال الجمعية .

الأوضاع السياسية والإجتماعية قبل وبعد الحرب العالمية الثانية

كان الصراع بين القصر والوطنيين أحد مظاهر الإهتزاز السياسى .

فالقصر بأوتوقراطيته المعتادة ظل يعمل جاهدا على نقل مقاليد الأمور إلى ساحته , ولكنه لم يتمكن من ذلك إلا بالإعتداء على الدستور .

أما الوطنيون فقد كانوا حريصين كل الحرص على الإحتفاظ بما تم لهم من مكاسب كفلها لهم الدستور .

فإذا أضفنا إلى ذلك دور الإنجليز فى الإنقلابات التى تعرض لهم الدستور فإن لم تكن وراء حدوثه فهى لا أقل من أنها قد أحسنت استغلالها إلى أبعد الحدود لصالحها .. ولعل ذلك يوضح عدم الإستقرار السياسى الكبير خاصة وأن حركة الأحزاب السياسية التى كانت بالساحة المصرية لم تستوعب العناصر الشبابية – باستثناء منظمات الطلبة التى تكونت فيما بعد – التى تبعد أمانيهم ووجهة نظرهم فى المشكلة السياسية .

كان ذلك بالطبع مبررا كافيا لكى تظهر تجمعات سياسيى تعتمد فى المقام الأول على عنصر الشباب المتدفق بالحيوية .

وهذا العنصر الرافض للأساليب التقليدية القائمة على التعقل والروية والمفاوضات السطحية , إنما آمنت تلك العناصر بأن حل تلك المشكلة لن يتأتى إلا عن طريق استخدام القوة وإكراه المستعمر الغاشم على الجلاء وترك البلاد , ولقد كانت جمعية ثم حزب مصر الفتاة التى ظهرت مع خريف سنة 1933 أحد تلك التجمعات العنيفة الممتلئة بالحماس الذى يغلب عليه طابع التهور .اذا تركنا جانبا الحالة السياسية .

ونظرنا الى القضايا الإجتماعية التي فرضها واقع المجتمع المصري سواء قبل او بعد الحرب العالمية الثانية نجد أن الطبقات الكادحة المطحونة على الدوام لم تلق عناية من قبل القوى السياسية التقليدية القائمة .. فالأحزاب السياسية على اختلاف أيديولوجيتها قد ابتعدت الى حد كبير عما كانت تحتاجه بالفعل هذه الشرائح العريضة من الشعب المصري .

تلك الطبقة المتوسطة التى كانت فى تزايد مستمر فى الوقت الذى تمثل القيادات الحزبية من عناصر برجوازية كبيرة لها مصالحها الطبقية المحدودة . والتى كانت فى معظمها تدور حول كيفية إستغلال واستثمار أموالها وعقاراتها الدائمة الكبر .

ولعل فكرها عامة انطلق من بديهية أن المسألة الوطنية أو المشكلة السياسية لها الأولوية على ما عداها من مشاكل معتقدة أن الحل سيكون للقضية السياسية إنما سيتيح المجال فيما بعد لكل المشكلات والمعضلات الإجتماعية .

ولم تكن تلك الأحزاب تجد غضاضة مطلقا فى تأجيل النظر أو البحث فى الوضع الاجتماعى يوميا إلا إذا ما استثنينا بعض التحسينات الجزئية والتى اتسمت بالسطحية فرضتها ظروف ما بعد الحرب . كما سيرد ذكره تباعا عند تفصيل الوضع الإجتماعى وآثاره الإقتصادية على شرائح المجتمع المصرى .

خلاصة الوضع إذن أن مصر الفتاة كانت تمثل حركة الطبقة الوسطى المصرية التى برز من بين أفرادها القيادات التى نادت بتحقيق الإستقلال لمصر وهو هدف نبيل يطمح إله كل مصرى .

ولا يختلف عليه أحد وإن كانت قد سلكت طريقا جديدا لم تألفه الحركة الوطنية المصرية , إذ آمنت أشد الإيمان بمبدأ استخدام القوة المستوحى بالطبع من أساليب فاشستية والتى قوبلت بالرفض من قبل المجتمع المصرى , فقد عاشت مصر فى أحضان استعمار غاشم ما يهمه فقط مصالح مستثمريه من الأجانب , لهم سلطات قد تفوق سلطة القانون بالإضافة إلى دوره التقليدى لدور الأفكار التقدمية الرامية الى ترقية الطبقات الكادحة من أبناء الأمة المصرية , سواء كانت عمال أو فلاحين , طلاب أو موظفين .

جماهير مصر كلها . لذلك وكان لطرح هذه الشعارات الرنانة من جانب مصر الفتاة والتى بشرت بخلاص تلك الطبقات الكادحة من نير الظلم والصراع الذى تعيشه بالإضافة إلى كون قيادات من بين تلك الطبقات هى المنادية بها أثره الكبيرفى تصديقها إلى حد ما .. هذا مع مراعاة إن الأنظمة السياسية عامة والأفكار التقدمية خاصة أقرب الشبه إلى النباتات ما يصلح منها فى تربة قد لا يصلح مطلقا فى تربة أخرى .

كان ظهور مصر الفتاة وسط هذا الخضم من التيارات والأحداث مثار تساؤل واستفهام من جانب السياسيين القائمين عن هويتها السياسية .. اتجاهاتها .. لونها العام ككل .. فعندما عرضت برنامجها الذى تضمن شعاره اسم الملك اطمأن القصر من ناحيتها أو من شر محاربتها.

واعتبرها حركة مهادنة ومؤيدة له فى مواجهة القوى الأخرى .. أما عندما شددت هجومها على الأجانب وامتيازاتهم عامة – قبل أن تلغيها معاهدة سنة 1936 – وعلى الإنجليز خاصة اعتبرها المستعمر حركة معادية له على طول الخط , واعتقدوا أنها قد تكون امتداد للتيار المعادى القادم من أوربا وخاصة إيطاليا وألمانيا فكان العداء من قبلهم بالمثل .

أما الوفد فقد نظر إليها بمنظار الريبة والشك خاصة بعد أن جعلت الملك جزءا من شعارها وبما أن الوفد يعادى الإستبداد الممثل فى القصر فمن البديهى أن يعادى من يعلن ولاءه اللانهائى له .

خاصة وأن سياسة القصر فيما بعد أظهرت حرصه على اكتساب القوى الجديدة الموالية له ضد الوفد العدو التقليدى , وازداد شك الوفد عندما تكرر لجوء مصر الفتاة على القصر حتى فى المسائل السياسية ومنها العريضة التى قدومها طالبين إنهاء الإمتيازات الأجنبية . هذا وان كانت العلاقات قد تحولت الى النقيض في الخمسينات عندما ركز أحمد حسين في " الإشتراكية " هجومه الساخن ضد القصر واستبداده .

كان موقف الوفد اذن متشككا منذ البداية وحتى أثناء تنفيذ "مشروع القرش" خشية على الجماهير الوفدية الشبابية من الإنضواء تحت لواء الزعيم الجديد , الذي لم يال جهدا لرفع شعار الشباب , وبالإمكان تلخيص

مراحل العلاقة بين الوفد ومصر الفتاة في ثلاث مراحل متباينة :

لعل أولها مرحلة تقارب ومهادنة من قبل الجمعية الجديدة وقبل أن يتعرف عليها المجتمع والتي آثرت بالطبع عدم معاداة الوفد صاحب الأغلبية ووكيل الأمة . والتي قوبلت بالتشكك من قبل الفد خاصة بعد ظهور كتائب المجاهدين من ذوي القمصان الخضراء تلتها مرحلة الخصومة الشديدة من كلا الطرفين .. والتي لم يفت أحمد حسين أية مناسبة للتنديد بالوفد ورجاله .

أما الوفد فقد عاش ينظر اليهم نظرة متعالية نابعة من إيمانه برسوخ أقدامه في التربة المصرية من جهة .وبفهمه العميق لنفسية الشعب المصري الذي يكره الأساليب الفاشية التي أتبعتها مصر الفتاة .. أما آخر تلك المراحل فهي التي أعقبت خروج أحمد حسين من المعتقل في نهاية الحرب العالمية على يد الوفد والتي تتسم بمحاولة التقرب والممالاة من قبلهم .

كمحاولة لمسايرة اتجاه الجماهير . وإحساسا ببقاء الديمقراطية وزوال الديكتاتورية . ولعل درس هزيمة كل من هتلر وموسوليني وانتصار بريطانيا أدى لتأكد ذلك الخط الذي فرض نفسه على أحمد حسين .

ولقد فسره قائلا :

" لقد كان أشد ما عابوه علينا أننا حاربنا الوفد بأشد مما حاربته جماعة أخرى ثم انقلبنا بعد ذلك حلفاء له وفسروا النظرية في وجوب احترام مشيئة الأمة وكما تعتبر عنها الإنتخابات الحرة . وينسى هؤلاء المعترضين أن بين الموقفين وقعت الحرب العالمية الثانية الجبارة التي قلبت الدنيا رأسا على عقب وغيرت الآراء والأفكار . وأن من ظل بعد هذه الحرب بالعقلية والأفكار التي كانت تملأ رأسه قبلها فهو إنسان جامد ومقضى عليه بالفناء إن عاجلا أو آجلا " .

" أدرك [حزب مصر الفتاة] من عظات الحرب أن الدكتاتورية والتحكم في الشعوب وسلب الأفراد حرياتهم وإرادتهم بحجة الرغبة في الإصلاح والرغبة في اسعاد الجماعة .. إنما هي نظرية خاطئة وإن كل إصلاح إن لم يخرج من صميم الشعب فمآله ألا ينمو لأي سبب من الأسباب وهو جريمة لاتعادلها جريمة أخرى ولايمكن أن تعود على شعب من الشعوب بأي عوض .واذا فقد تضافرت الحوادث والتجارب على إثبات هذه الحقيقة .

حقيقة أن الديمقراطية الصادقة أصلح نظام يناسب مصر فآمنا بهذه الحقيقة واعتقدناها وبادرنا على الفور بإعلان ورسم سياستنا على أساسها وقد كان طبيعيا أن يجعلنا هذا التحول نقف في صف الوفد الذي دافع حتى الآن عن الدستور والنظام الدستوري والذي يمثل الأغلبية في هذه البلاد .

أما عن علاقة مصر الفتاة بأحزاب الأقليات وعلى رأسها الأحرارالدستوريين فقد اتسمت فى البداية بشهر عسل لعدة سنوات وخاصة بعد اندماج أحمد حسين فى " جماعة الشباب الحر أنصار المعاهدة " إلى أن استصدر محمد محمود قرارا بحل التشكيلات شبه العسكرية فى حكومة سنة 1938 .

إذ بالعلاقات تتحول إلى النقيض وتعرض فى أثنائها محمد محمود إلى حملة صحفية عنيفة ضده من قبل أحمد حسين .. وفى الحقيقة إن مهادنة الأحرار الدستوريين كانت نابعة من رغبة أحزاب الأقليات عامة اتخاذها كأداة للتشنيع بالوفد وزعمائه .

وكمحاولة للإنقاص من هيبته – وإن فشل فى ذلك وظلت مصر الفتاة تؤدى هذا الدور إلى أن اعتقل أحمد حسين أثناء الحرب العالمية الثانية . ولم يفرج عنه إلا على يد وزارة الوفد سنة 1944 .. وما أعقب من تودد وليونة من قبل زعيم مصر الفتاة والذى قوبل بفتور وتحفظ من قبل قيادة الأغلبية .

أما عن علاقة أحمد حسين ومصر الفتاة بالإخوان المسلمين وحسن البنا فقد اتسمت بالتنافس المستمر على كسب الأنصار . منذ البداية ثم أعقبها محاولات للإندماج من قبل أحمد حسين بالإخوان فى جماعة واحدة قوبلت باستحياء ورفض من حسن البنا والإخوان .

" رأيت تقديم مثال للشعب المصرى والعربى على الإتحاد .وقد استطعت أن أقنع زملائى بأن أعرض عيك اندماج جماعتنا فى جماعة واحدة مع جماعتكم بتنظيماتكم الراهنة وتشكيلاتكم وتحت زعامتكم وقيادتكم بعد أن ثبت لدى أنك أنجح من شاهدته فى هذه البلاد سواء فى تنظيم الجموع أو حشدها . وليس لنا شروط .

فنحن نضع أنفسنا تحت تصرفكم كجنود فى حركة واحدة وكل الذى نرجوه أن تعرف الدنيا أننا اتحدنا ويكون ذلك قدوة لباقى الهيئات .وأن اتحادنا سيقضى على الأحزاب البالية القديمة . فرد عليه حسن البنا بقوله " المسألة أننى عرضت رسالتك الكريمة على مجلس الإرشاد فشاركونى فى إكبار هذه الروح السامية التى أوحت إليك بهذا الموقف الصادق . وكلفونى أن أبلغك شكرهم وتقديرهم .ولكن المسألة أن بعض الإخوان يرون أن المصلحة العامة التى نهدف إليها جميعا تستلزم أن يبقى الوضع على ما هو عليه .

وعلى أن نعمل متساندين إن شاء الله . وهو خطوة فى الإتحاد .ولقد رفض باقى أعضاء المجلس البالغ عددهم خمسة وعشرون ولم يوافق سوى (أنا ) فما كان منى إلا أن قلت أن تلك الخطوة هى الفيصل النهائى بيننا " كانت تلك هى حقيقة الوضع بين التيارين المتنافسين .

استمرار فى التنافس وعدم اتفاق على منهج ولقد زادت تلك العلاقة سوءا خاصة فى أثناء الحرب العالمية وبعدها نظرا لما تمتع به الإخوان من تقارب وتعاون مع الحكومات القائمة مما كان له الفضل فى حصولهم على كل المعونات المادية بالإضافة إلى التسهيلات التى منحت للأعضاء حرية التحرك داخل القطر ولعل أهمها جميعا استمرارهم فى استصدار جرائدهم اليومية والأسبوعية فى الوقت الذى تعرضت صحافة مصر الفتاة للتعطيل المستمر والمصادرة خاصة على يد صدقى باشا.

ما أدى إلى زيادة حدة الهجوم على الإخوان المسلمين من قبل مصر الفتاة واتهامها للبنا بالعمالة للإنجليز والرأسمالية وصدقى مما أدى بالعلاقات إلى طريق مسدود " أظهرت الحوادث أن حسن البنا أداة فى يد الرجعية وفى يد الرأسمالية اليهودية وفى يد الإنجليز وصدقى باشا الذى سخره لخنق الرأى العام وكبت شعوره فيلبى , والإنجليز يسخرونه فى محاربة الشيوعية والوطنية فيلبى , ويفتحون له الشعب فى السودان وفلسطين .. أى والله فى السودان وفلسطين حيث يحكم الإنجليز بالأحكام العرفية , يسمحون للبنا بذلك , ويقول للناس أنه مافعل ذلك إلا لإخراج الإنجليز ويصدق البلهاء " .

خلاصة الموقف أن القوى الوطنية عامة انقسمت فريقين إزاء الفاشية :

الفريق الأول :

ويضم كافة القوى الممثلة فى الوفد , كان يرى فى الفاشية خطرا استعماريا داهما يفوق فى خطورته وبأسه الإستعمار القديم وهذا الخطر لا يهدد مصر الغربية والجنوبية فحسب بل يهدد نظامها الديمقراطى والليبرالى الذى ناضلت من أجله كثيرا , واعتبرته مساويا تماما وأبرمت معه معاهدة سنة 1936 ثم قاومته وألغت المعاهدة فى أكتوبر سنة 1951 , وأيدت الكفاح المسلح فى القتال بعد أن لم تجد وسيلة سواه فى التخلص من الإستعمار .

الفريق الثانى :

قد بهرته انجازات الفاشية والنازية فى بلادهم , وجذبته التشكيلات شبه العسكرية التى تميزت بها ورأى فى هذه التشكيلات وسيلة سهلة للوثوب إلى الحكم , فسارع إلى تأسيس تنظيمات مماثلة وأخذ يستعين فى سياسته ونضاله بالأساليب الفاشية ويتطلع إليها باعتبارها مثلا أعلى وترتب على ذلك نتائج هامة :

أولها : أن القوى الأوتوقراطية فى مصر وعلى رأسها القصر قد أدركت مبلغ ما يمكن أن تفيده من قيام الأنظمة الفاشية بمصر فى ضرب القوى الديمقراطية وعلى رأسها الوفد , فسارعت إلى احتضان هذه الأنظمة وسارعت هذه الأنظمة إلى احتضان تلك القوى بالمثل بحكم المصالح المتبادلة .وبذلك يكون الصراع السياسى الداخلى فى هذه المرحلة , بنفس الصفة التى كانت تكون الصراع العالمى . .

ثانيهما : أن هذه التنظيمات الفاشية بحكم عدائها المذهبى للديمقراطية الليبرالية وبحكم تعاطفها مع القوى العالمية التى تتخذها مثلا أعلى , وبحكم تحالفها مع القصر وقفت من معاهدة سنة 1936 موقفا عدائيا والتمست من العيوب والخطايا لموقفها دون رعاية للظروف والدوافع التى دعت إلى عقدها .

ثالثهما : وهذه النتيجة مترتبة بدورها على النتيجتين السابقتين إذ أن النضال ضد الإحتلال البريطانى فى تلك الفترة – قبل الحرب الثانية – قد انتقل من يد القوى الديمقراطية التى يمثلها الوفد والتى لم تملك إلا أن تحترم توقيعاتها على المعاهدة والإلتزام بتنفيذها إلى يد القوى الفاشية والقصر .

وعلى هذا فقد شهدت هذه المرحلة ما يمكن أن نسميه بالثورة الزائفة , وهى الثورة التى كانت تمثلها القوى الفاشية والأوتوقراطية , وتخدع بها الجماهير مدعية أنها موجهة ضد الإحتلال البريطانى , بينما هى مصوبة لخدمة مآربها الخاصة ومصالحها الذاتية , وهدفها اخضاع إرادة الجماهير لإرادة الفرد .وغرضها داخلى لا خارجى وفى الوقت نفسه فإن الحكم على العمل الوطنى فى هذه المرحلة لم يعد هينا .

فمن ناحية القوى الديمقراطية فإن موقفها فى وجه الخطر الفاشى , وتعاونها مع الإحتلال البريطانى لتحطيمه يعد بالمعيار الأيديولوجى معيارا صحيحا , ولكنه بالمعيار الوطنى فهو معيار محاربة الإحتلال متهاونا أمامه من ناحية القوى الفاشية فإن موقفها ضد الإنجليز وتآمرها مع المحور فى هذه الفترة يبدو بالمعيار الوطنى موقفا صحيحا ولكنه بالمعيار الأولوجى موقفا مشبوها .

سمات التغيير فى أيديولوجية مصر الفتاة

بعد أن أحرز النظام الفاشى إنتصارات باهرة فى كل من إيطاليا وألمانيا .. وما كان له من صداه فى مصر من قيام تشكلات وتنظيما فاشية خاصة وسط الجالية الإيطالية فى مصر .

بذل موسولينى جهودا جبارة لتأسيس المدارس الإيطالية ذات النمط الجديد فى عدد من المدن المصرية بهدف تلقين الطلاب المصريين والإيطاليين أمجاد الفاشست وقام على أثرها " عباس حليم " أيضا بتشكيل فرق خاصة من الشباب أطلق عليها " جيش الخلاص " على أثر ذلك ونتيجة لتطور الأحداث التى أوصلت إلى الحرب الثانية نجد أن " أحمد حسين " قد مال بحزبه إلى النزاعات المتطرفة المميزة بالتعصب الدينى..

أما لماذا هذا التعصب والميل الشديد إلى الدين ؟ فمرده إلى المنافسة التقليدية بيم مصر الفتاة والإخوان المسلمين , نظرا للتوسع والإنتشار الذى فازت به حركتهم وسط الجماهير المصرية , مما أدى بمؤسسى مصر الفتاة إلى تغيير اسم حزبه من مصر الفتاة إلى الحزب الوطنى الإسلامى فى 18 مارس سنة 194.رغبة فى امتصاص أكبر قدر ممكن من الشباب تحت شعار الدين الجذاب بالنشبة للفطرة المصرية فى تلك الآونة .

عموما فى هذه المرحلة الجديدة فى الإسم والتى لم تختلف كثيرا فى الأيديولوجية فى برنامج مصر الفتاة اللهم إلا زيادة فى إبراز جانب الكراهية للأجانب والمستعمرين إلى جانب دعوته إلى طبع المجتمع المصرى بالطابع السنديكالى والعسكرى المتغنى بماضى مصر المجيد والمطالب بأن تلعب مصر دورها تحت الشمس.

والمنادى بتوحيد الأمم العربية سياسيا وإقتصاديا وتشريعيا مع تحريرها من كل نفوذ أو سيطرة أجنبية ساعيا فى ذات الوقت إلى تحرير وادى النيل من منبعه إلى مصبه وعلى أن تصبح مصر دولة شامخة تتألف من مصر والسودان وتحالف الأمة العربية وتتزعم الإسلام داعيا إلى أن مصر يجب أن تصبح فوق الجميع وأن الكلمة المصرية يجب أن تكون هى العليا وما عداها لغو لا يعتد به .

كما أوضح الحزب فى تلك المرحلة تصوره لما تعنيه كلمة " إمبراطورية مصرية " التى يدعون إليها بأنها كل أرض يجرى فيها ماء النيل وتمتد من البحيرات الإستوائية جنوبا إلى البحر المتوسط شمالا ومن أعالى الحبشة إلى البحر الأحمر وحدود سيناء شرقا إلى الحدود الغربية لمصر والسودان جنوبا بمعنى أن مديريه خط الإستواء جزءا من المجال الحيوى لمصر . هذا بالإضافة إلى بحيرة تانا المنبع الهام للنيل .

خلاصة الموقف إذن أن الهدف الذى أعلنه مؤسس الحزب للتغيير فى تلك المرحلة هو محاولة أكثر طموحا لتوسيع دائرة كفاح الحزب لتشمل العالم العربى والإسلامى ولكن الهدف الحقيقى كان محاولة من جانبه لكسب المزيد من الأنصار والأعضاء حتى يتحقق له الجماهيرية التى كان ينشدها منذ البداية وخاصة وان المراحل السابقة التى مر بها الحزب لم تساعده على تنفيذ فكرته فى بعث مجد مصر التليد .

فرأى أن يطور أسلوب كفاحه بإبراز الجانب الإسلامى فى الأيديولوجية والانتقال به إلى دائرة أوسط وخطوة أكبر لبعث مجد الإسلام , عازفا على وتر الحماس للدين وخاصة وأن المجتمع المصرى بقيمه وتقاليده وتراثه آنذاك كان أكثر استجابة لتلك النغمة وهذا الإتجاه .هذا بالإضافة إلى إدراكه لأبعاد نشاط الإخوان المسلمون المتزايد وإلى قدرتهم على السيطرة على الجمعيات الإسلامية الأخرى مما أدى إلى تعاظم القوى المؤيدة لهم .

لأجل تلك الإعتبارات أقدم " أحمد حسين " على استبدال مصر الفتاة بالحزب الوطنى الإسلامى .. وإن كان قد ذكر مؤخرا أن التغيير كان بهدف الرغبة فى التعاون مع الإخوان المسلمين والشباب المسلمين على السواء ومهما كانت الدوافع فقد تحولت مصر الفتاة النهاية إلى الحزب الوطنى الإسلامى بتاريخ 18 مارس سنة 194.وإن لم تستمر عليه إلا سنوات تسعا .

لم تكن تلك هى المحاولة الفريدة للتغيير لديهم بل إن تسجيل تاريخ تلك الجماعة يضع أيدينا على تغيير آخر وقع فى عام 1949 إلى " الحزب الإشتراكى المصرى " على اعتبار أن الحزب الإشتراكى ما هو إلا استمرار وتطوير لجمعية مصر الفتاة التى تأسست خريف سنة 1933 ثم ظهرت فى يناير سنة 1937 باسم حزب مصر الفتاة ثم فى مارس سنة 194.

بالحزب الوطنى الإسلامى وأخيرا فى سنة 1949 أعلن الحزب الإشتراكى عندما رأى رئيسه أن الوقت قد حان لاستبداله بهذه التسمية الجديدة ليكون ذلك أكثر دلالة على أهداف الحزب ومراميه ويقول فى ذلك الصدد " فما مشروع القرش إلاحركة إشتراكية هى نظام العالم الحديث وما كان كفاح مصر الفتاة إلا على قواعد إشتراكية , وإذ أصبحت الإشتراكية هى نظام العالم الحديث قواعد إشتراكية , وإذ اصبحت الإشتراكية هى نظام العالم الحديث فقد أصبح من الحق أن نسمى الشياء بمسمياتها وأن تصف مصر الفتاة بوصفها الصحيح وهى الإشتراكية التى هى من لب الإسلام وصميم دعوته وهكذا أعلنا برنامج الحزب الإشتراكى " .

وكان يتصدر قيادة الحزب كالعادة " أحمد حسين " المحامى وكان تشكيل العناصر القيادية فى الحزب من المثقفين والبورجوازية الصغيرة والمتوسطة .

أما القاعدة فكانت تضم عناصر من العمال والحرفيين وبعض الفلاحين إلى جوار فئات من الشباب المثقفين وكانت جريدة الإشتراكية لسان حال للحزب الجديد وتوزع فلا الأرياف بنسبة غير قليلة مع جرائد تلك الفترة – باستثناء المصرى والأهرام – ولكن ذلك الإلتفاف الجماهيرى لم ينعكس فى أشكال تنظيمية محددة بالحزب بل كانت أقرب إلى مجرد رأى عام عاطفى حوله .

أما عن هيئة الحزب فقد ضمت جوار " أحمد حسين " الشخصية الأولى فيه " إبراهيم شكرى " المهندس وأحد كبار الملاك للأراضى , كما ضمت " حلمى الغندور " التاجر الذى لم يبخل فى الإنفاق على الحزب , كما ضمت " كمال سعد " المهندس الزراعى والدكتور " فخرى أسعد " و" إبراهيم الزيادى " المحامى ولقد اعتمدنا فى نشر وثيقة المبادىء الرئيسية للحزب على كتاب " الأرض الطيبة " الذى أصدره مؤسس الحزب .

أما أبرز المبادىء الرئيسية للحزب الإشتراكى فهو شعار الله والشعب أى الإيمان بالله خالق هذا الكون وعبادته هو أساس الإجتماع بشرى وعبادة الله لا تتجلى فى شىء بقدر تجليها فى خدمة الشعب فى صدق وإخلاص , والدعوة إلى الحرية الشخصية وحرية الخطابة والعقيدة , وحصانة المسكن وحرية الصحافة والإجتماع والتظاهر السلمى .

كما تكفل حق الشعب فى تأليف الجمعيات والإتحادات وحق كل فرد فى السعى لترشيح نفسه للنيابة وتقلد الوظائف العامة وبالجملة كل ما تضمنه الدستور المصرى من حقوق ثانيا :

التأمين الإجتماعى :

بمعنى أن المصريين جميعا منذ ولادتهم وحتى نهاية حياتهم فى كفالة الدولة التى يتعين أن تسهر عليهم منذ الطفولة المبكرة وأن تعاون الأمهات والآباء على إحسان تربيتهم ومدهم بالغذاء الكافى والعناية الطيبة اللازمة وتأمينهم بعد ذلك ضد المرض والبطالة والعجز والشيخوخة .

ثالثا : حق التعليم :

فالتعليم حتى نهاية المرحلة الثانوية واجب على كل مصرى ومصرية بالمجان وحق التعليم لما فوق هذه المرحلة هومن حق كل مصرى ومصرية لا تحول بينه وبينها موانع مالية أو قلة الأمكنة , ومهمة الدولة أن تضع برنامجا يتم فى خمس سنوات ويقضى فى ختامها على الأمية فى طول البلاد وعرضها .

رابعا : حق العمل :

العمل واجب على كل مصرى وهو فى ذات الوقت حق له فلا ينبغى أن يكون هناك مصرى واحد بغير عمل كما لا ينبغى أن يطلب مصرى واحد العمل فلا يجده , وحق العمل مشفوع بحق الراحة بأجر .

خامسا : الإنتاج الجماعى :

بمعنى أن هدف مصر الإشتراكى أن يحل الإنتاج الجماعى محل الإنتاج الفردى ليكون المقصود فيه تحقيق مصلحة المجموع ولكن يمكن أن يتم الإنتاج سواء فى الزراعة أو الصناعة أو التبدل التجارى وفق خطط مدروسة ومشروعات شاملة تضعها الدولة لعدة سنوات متتالية ولكن يمكن فيه انتاج واستيراد مواد الترف والكماليات التى لا تستعملها إلا مع فريق ضئيل من الناس .

سادسا : الملكية الزراعية :

إنه لعلاج الأوضاع المالية فى مصر عن طريق قانونى ودستورى وعلى سبيل التدرج , تبتاع الدولة أطيان جميع الملاك الذين تزيد ملكيتهم عن خمسين فدانا أو الذين تزيد ملكيتهم عن هذا القدر ولا يعملون فيها وذلك مقابل سندات على الخزينة المصرية تستهلك فى 25 سنة وتخول لحاملها ربحا سنويا .

سابعا : الفوارق الإجتماعية :

تتحول الضرائب التصاعدية وضرائب التركات والضرائب على الكماليات وإعادة توزيع الثروة فى مصر توزيعا عادلا فلا يسمح بزيادة دخل الشخص عن حد معين يكفل حياة طيبة فى غيربطء أو تجبر .

ثامنا : مصر والسودان :

هدف حزب مصر الإشتركى منذ انشائه سنة 1933 تحت اسم مصر الفتاة هو تحرير وادى النيل من ربقة الإستعمار الأجنبى لذلك فقد عمل ويعمل لتحقيق هذه الغاية ومع إيمانه بأن مصر والسودان وحدة اقتصادية وإجتماعية واحدة وأن النيل لا يتجزأ .

تاسعا : الولايات العربية المتحدة :

يعمل حزب مصر الإشتراكى على توحيد الشعوب العربية كلها فى ظل دولة واحدة يطلق عليها اسم الولايات العربية المتحدة حيث يحتفظ كل شخص عربى فى ولايته بشخصيته وطابعه واستقلاله بشئونه الداخلية وأن يتعاون الجميع كدولة واحدة على ما يرفع من مستوى الشعوب العربية إقتصاديا واجتماعيا .

عاشرا : التآخى العالمى :

ويعنى توطيد السلام على التآخى بين البشر على اختلاف ألوانهم وأجناسهم وأديانهم ومقاومة كل محاولة ترمى إلى الإستعمار أو استغلال إنسان لأخيه الإنسان .

حادى عشر : الوسيلة :

إنه لا سبيل لتطبيق المبادىء السابقة إلا بنشر التعليم والأخلاق ولتربية الشعوب تربية إجتماعية على اوسع نطاق ولذلك كان الحزب يعمل جهد طاقته على هذا السبيل ويشجع كل المجهود ويبذل فى فى هذا الإتجاه ويحمى حرية الفكر وحرية البحث العلمى والعقيدة وينكر كل الأفكار أو محاولات إستعمال القوة أو الإرهاب فى تطبيق المبادىء السابقة , ويؤمن الحزب أن حب الخير واقتناع الناس به والإخلاص فى القول وفى العمل هو كل السلاح اللازم لتحقيق البرنامج السابق .

لقد أصدر الحزب الإشتراكى قرارات مصدقة من جمعيته التأسيسية التى انعقدت فى يوم الجمعة الموافق 1.مارس سنة 195.ونشرت بجريدة مصر الفتاة فى 3.مارس سنة 195.

تمثلت فيها سياستها الخارجية الطموحة , والتى اتسمت بجانب الحياد تجاه الكتلتين الشرقية والغربية وتفاصيل السياسة الداخلية والتى اتسمت هى الأخرى بالمناداة بالـتأمين لبعض المرافق كما سيرد تفصيله عند شرح القضية الوطنية والقضية الإجتماعية فى فصلين منفصلين .

إنما يعنينا الآن عند التحديد السريع لتسجيل الخطوط العريضة فى سياسة مصر الفتاة , نستطيع القول دون تحفظ أنها كانت أهداف وأمانى متسمة بالطبع الخيالى .لا يمكن تطبيقها أو تحقيقها فى بلد يسيطر عليه الإستعمار من جهة وما ترتب على ذلك الإحتلال من تعطيل للإمكانيات الفكرية أو الفنية للشعب المصرى وما وصل إليه هذا الشعب من إمكانيات فنية وثقافية وتجريبية محدودة أيضا .

أما عن الجديد الذى أتت به مصر الفتاة فى ثوبها الإشتراكى الجديد , فقد حدده أحد كتابها , مبينا أسباب عدم نجاح مصر الفتاة فى ارتداء الثوب الإشتراكى قبل تلك المرحلة وشارحا لنتائج هذا الرداء " فى حركتنا اليوم الجديد .

ذلك الجديد هو الدعوة الإشتراكية المنظمة التى تهدف إلى إقامة عدالة إقتصادية شاملة تتبعها عدالة روحية وأخلاقية أعم وليس يعنى أن الروح الإشتراكية التى تؤمن بها اليوم كانت منعدمة تماما لا بل أنها كانت موجودة فى حركتنا منذ إنشائها.

كانت موجودة فى جمعية مصر الفتاة ثم فى حزب مصر الفتاة ثم الحزب الوطنى الإسلامى ثم مرة أخرى فى مصر الفتاة بوضوح وجلاء خاصة فى الفترة التى أعقبت الحرب العالمية الماضية ولكن الواقع أن هذا الجديد لم يكن كما نريده وكما نهدف إليه اليوم اشتراكية منظمة واضحة المعالم محدودة الأهداف بل أن هذا الجديد مكان منشورا فى خضم الدعاوى الأخلاقية والإقتصادية التى نادى بها الرئيس منذ ثمانية عشر عام وكان يأمل أن تصير الطبقات التى نادى بها الرئيس منذ ثمانية عشر عام وكان يأمل أن تصير الطبقات الرأسمالية المتحكمة إلى وطنيتها وتباعد بينها وبين مطامع الإستعمار ونترك الشعب يشق طريقه نحو الإشتراكية فى تطور وهدوء بعيدا عن الصراع الطبقى الحقيقى وكان " أحمد حسين " فى هذا إنسانيا إلى حد كبير.

وكان يؤمن بإنسانيته الشعب المصرى ويعتبر الإستغلاليين وأعوان الإستعمار طبقة من طبقات الشعب يرجو لها الهدى والرشاد متجاهلا أن هؤلاء العبيد الكبار إنما عاشوا وتضخموا من تحت موائد الإستعمار وعن طريق هذه الجماهير وأنهم من مدرسة الرأسمالية تتلقى تعاليمها من الإستعمار وبهذا لن يكتب لهم الهدى أبدا وكأنما هذا الذى حدث فى تلك الثمانية عشر عاما إرادة من الله فلقد طهرت الحركة التى يقودها الزعيم من العناصر الفاشية والوصولية والرجعية .

ووضحت أمام التاريخ اليوم على حقيقتها حركة اشتراكية كاملة المعالم على استعداد لأداء رسالتها والقيام بدورها التاريخى فى دفع الإستعمار وأعوانه من المستغلين المصريين من هذا الشعب الذى يتلفت من حوله فلا يجد إلا روح حركتنا الإشتراكية تدفع به نحو الخلاص من جوعه وعريه وفقره ومرضه .

ثم أعاد الكاتب إلى الأذهان فى موضع آخر تحليلا لأسباب قصور نشاط مصر الفتاة قبل أن تبدل ثوبها وتبدأ مرحلة جديدة من الكفاح مشيرا لأسباب الفشل السابق قائلا " لا غرابة فى أننا فشلنا حتى ليوم فى مراحل كفاحنا الدستورى لسببين :

أولا : لأننا لم نكن قد استكملنا بعد وجودنا المتحرر بمعنى أنه لم تكن أهدافنا قد تم تطورها حتى تصل إل غايتها العليا ويجب أن نضع أمام أبصارنا طبيعة التطور الحركى ليتبين لنا أن حركتنا إذن كانت لم تستكمل أصولها بعد , وأنها اليوم تصل إلى نهاية مراحل وجودها وتضع السطر الأخير من أهدافها وتعد نفسها لانقاذ الجماهير من تحكم الإستعمار الإنجليزى والإستغلال الرأسمالى .

هذا هو السبب الذى يتصل بنا وبتركيبنا الإجتماعى وبهذا نصل إلى النقطة التى تتصل بطبيعة القوى التى نحاربها ونعمل للقضاء عليها .

ثانيا : إذا رجعنا إلى التاريخ وجدنا أن الإستعمار الإنجليزى وهو ابو الإستعمار فى العالم جاء إلى مصر نتيجة نشوء الصناعات وظهور الآلة وطلبا للسواق الجديدة ولكى نتمكن من محاربته كان يجب أن تمر هذه السنين الطوال وحتى تستكمل الرأسماليات المصرية تعاونها المطلق ( الصناعى) مع الإستعمار حتى تتكشف هذه الطبقات أمام الشعب المصرى بكافة طبقاته , سيما والشعب المصرى مطبوع على روح النبوة أننا نحمل أعباء ضخمة تتلخص فى تخليص العالم العربى من طغيان حكامه ورأسمالييه وإعطاء الشعب حقوقه هذه الرسالة هى زعامة الحركة الإشتراكية فى العالم العربى .

ولعل جريدة الإشتراكية الناطقة بلسان الحزب الإشتراكى ظلت حريصة على شرح أسباب ودواعى التغيير من برنامجها , ولم يقتصر الشرح والتفصيل على معنى وقصور التغيير فحسب بل تضمن أيضا تحليل مبسط لما تعنيه الإشتراكية المقصودة عامة بأسلوب مقبول وتضمن ذلك التفسير التى اعتمدت عليها الإشتراكية السياسية والإقتصادية .

" إن الإشتراكية تعنى إشتراك أهالى الفريق الواحد أو المدينة الواحدة أو الوطن الواحد فى تحصيل رزقهم العام وتوزيعه عليهم على حد اشتراكهم فى تحصيله تحت وصاية حكومة ديمقراطية منتخبة منهم انتخابا حرا صحيحا ومن هذا التعريف المفهوم يتضح قاعدتان هامتان :

القاعدة الأولى :

وتمثل الجانب الإقتصادى وهو أن جميع الأهالى يشتركون فى حدود طاقة كل فرد فى تحصيل الروة العامة لهم ثم يشتركون معا فى توزيعها عليهم على قدر اشتراكهم فى تحصيلها أى أن كل فرد منهم يأخذ من الثروة أو من الرزق بقدر ما يعطى أو بقدر ما يبذل من جهد وعمل فالتفاوت فى الجهود فى التحصيل يتبعه تفاوت فى مقدار الرزق فى التوزيع وهنا تبرز نظرية " لكل بقدر عمله وجهده " المشهورة .

وهى تطابق جميع الأديان بل هما من صميم الإسلام , فالله سبحانه وتعالى يقول " كل نفس لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت " وهذا ما يسمونه بالديمقراطية الإقتصادية .

القاعدة الثانية :

وتمثل الجانب السياسى للإشتراكية , وهى أن تقوم بتنظيم عملية تحصيل الثروة وتوزيعها على الناس حكومة شعبية منتخبة منهم انتخابا حرا مباشرا صحيحا فتكفل العدالة فى التحصيل والتوزيع وإحقاق الحق بين الناس وهنا تتمثل الديمقراطية بأجل معانيها .

ومن هاتين القاعدتين تعرف الوسائل المؤدية لتحقيق الإشتراكية عن طريق النظام البرلمانى والكفاح الحزبى أى بالوسائل الدستورية فى المجتمعات العريقة فى الديمقراطية والحرية .

أما عن الفوائد التى تعود على المجتمع الإشتراكى فهى لا حصر لها كتطهير المجتمع من الإستغلال الإقتصادى الصادر من طبقة الملاك لجميع الأجزاء , هذا الإستغلال الإقتصادى الذى هو مصدر الإستعباد السياسى والفكرى والخلقى والدينى والإجتماعى بما فى ذلك الأرض أو العقار يسيطر على أجره أو عمله أو مواطنه فى حرياته وحقوقه الإجتماعية السياسية وغيرها .

فضلا عن استغلاله لعرقه ودمه فتطهير المجتمع من الإستغلال الإقتصادى معناه إعطاء كل ذى حق حقه فالعامل الذى ينتج فى اليوم جنيها له الحق فى أخذه بعد خصم مصاريف الإنتاج والفلاح الذى ينتج مائة جنيه له الحق فى أخذها بعد خصم التكاليف والضرائب المستحقة وفى الحال تنعدم طبقة المستغلين .

هذا من الناحية الإقتصادية ,أما عن الناحية العمرانية فالمجتمع الإشتراكى يهدف إلى إعادة تنظيم القرية والمدينة وربطها ببعض بتعبيد الطرق وتسهيل المواصلات فتتبادل تبعا لذلك المصنوعات , كذلك العناية بأمور الرى والصرف والإنارة , وإدخال المياه العذبة وإيجاد العيادات الصحية والوحدات الزراعية والصناعية وانتداب الإخصائيين ".. الخ

" أما من الناحية السياسية فلا حجر على حرية أحد ولا إعتداء من أحد على أحد ولا يضطر زيد من الناس تحت ضغط حاجته إلى بيع حرياته وحقوقه فبانعدام المستغل الإقتصادى , وبارتفاع مستوى المعيشة الناتج عن تحقيق المبادىء الإشتراكية ينعدم الإستغلال السياسى والإجتماعى "

" أما عن تنافى الإشتراكية مع الأديان فهو قول لا أساس له من الناحية الإقتصادية متمثلة فى قوله تعالى لكل نفس"لها ما كسبت وعليها ما اكتسبت " و"كل امرىء بما كسب رهين " وممثله من الناحية فى قوله تعالى " وشاورهم فى الأمر" و" أمرهم شورى بينهم " وفى تلك الآيات ما لا يتنافى مع الإعتقاد السائد عن الإشتراكية .

الفصل الرابع

التيار اليسارى فى مصر من 1919 إلى 1952

أهم الأفكار التقدمية فى تلك الحقبة

عند دراسة تيار كبير ونشط كالتيار اليسارى فى المجتمع المصرى .على المرء أن يقدم تحليلات سريعة عن المناخ الذى تواجدت فيه تلك الأفكار .وبالضرورة أعنى الإرهاصات الفكرية التى قد تكون متناقضة ومتباينة ومتآلفة فى نفس الوقت .

ثم يتعين علينا أيضا تقديم الأسباب والدوافع التى حدت بتلك التنظيمات أن ترى النور .ثم سرد سريع وشامل لمختلف تلك التنظيمات مع إبراز أهم نقاط الخلاف بين كل اتجاه .وفى ختامها دراسة سريعة عن المنابر العلنية التى من خلالها استطاعت هذه التنظيمات توصيل أفكارها إلى مريديها وأعنى دور صحافتها وأنديتها ومختلف مناظرتها العلمية والعلنية وغيرالعلنية فى توسيع دائرة التفاف الجماهير الشابة المتعطشة إلى تلك الثقافات الجديدة المتطورة .

خاصة وبعد ما عانته فى سنين الإحتلال والحرب من أزمات اقتصادية ونفسية وعلمية . بدأت الأفكار التقدمية تجد طريقا لها فى مصر عن طريق الأجانب – والمتأجنبين من الطبقات الثرية فى مصر ولعل من الأفكار التى وجدت صدى لها ومناخا لمناقشاتها هو الاشتراكيات بأنواعها .

اشتهر القرن التاسع عشر بأنواع عديدة من الاشتراكيات منها على سبيل المثال لا الحصر الإشتراكية الفوضوية وهى التى كان معتقدوها يرمون بها إلى إلغاء وجود الدولة . وإبطال رأس المال الصناعى .

ووقفوا من الماركسية موقف المعارضة الشديدة .كما ظهرت فى أواخر نفس الاشتراكية النقابية المعروفة بالسنديكالية وكانت لا تطمئن إلى الإصلاح السياسى وتؤمن بقدرة العمال على خلق المجتمع الجديد .

كما ظهرت الإشتراكية الوطنية أو النازية فى ألمانيا وهى التى تنكرت للنظام الديمقراطى .ووجهت النقد إلى الأسس السياسية والإجتماعية والإقتصادية للنظام الديمقراطى .وحاولت استعمال القوة لحمل الأمم على الإعراض عن النظام الديمقراطى .ويؤخذ على الإشتراكية الوطنية سواء فى صورتها النازية أو صورتها الفاشية الإستهانة بقيمة الفرد وإهدار حريته .

ثم إن الشيوعيين يقولون عن النازية والفاشية أنهما كانتا آخر محاولة مستميتة تبذلها الرأسمالية الراهنة لاستبقاء نفوذها والمحافظة على كيانها .ثم إنه هناك أيضا النظام الإشتراكى التعاونى الديمقراطى وهو نظام اقتصادى يحفظ للفرد كيانه ويصون حريته ويلائم بين مصلحته ومصلحة الجماعة ولا يمكن القيم المادية من الطغيان على القيم الروحية .

وهو يشجع مختلف الكفايات ويؤيد الحرية والمساواة ولا يدخر جهدا فى النهوض بالمجتمع وتحسين أحواله وحماية حوزته .ورفع المكاره عنه .كما ظهرت أيضا عناصر واعية ومتطورة وإن كانت منبثقة من الأفكار الليبرالية نادت بالديمقراطية فى أوسع معانيها كفلسفة جماعية تسيطر على العلاقات البشرية جميعا سواء كانت علاقات شخصية أو علاقات اجتماعية .

ومن أهم مميزاتها أنها مرنة قابلة للمطالب المتغيرة وهى ليست نمطا من أنماط الحياة صلبا جامدا .ولا مذهبا من مذاهب الحكم التى تدعى العصمة والكمال .ولا نظاما اقتصاديا يزعم أنه له الكلمة الأخيرة فى الإقتصاد , وهى قابلة للتطور فى كل خطوة وبكل مرحلة من مراحل تقدمها ذلك لأنها قائمة على الإستفادة من التجارب ومسايرة التطورات التى تحدث فى حياة البشر ونظمها قابلة على الدوام للبحث والنظر والتعديل والتفتيح فى ضوء المناقشة الحرة .

والتجربة الواقعية .ومن ثم تختلف صور الديمقراطية باختلاف الأمم الآخذة بالنظام الديمقراطى .فهو النظام الذى يتيح لكل فرد أن يحقق ذاته .كانت هذه الديمقراطية كما يفهمها الليبراليون .فى نفس الوقت الذى كانت هناك الديمقراطية كما يراها الشيوعيون السوفييت على أنها ديمقراطية الأقوياء .

حيث لا يزال الصراع الطبقى مستمرا .أما فى روسيا فإنها ديمقراطية العمال .أى ديمقراطية الجميع .ويرى الشيوعيون أن هذا النوع من الديمقراطية لا يمكن الوصول إليه إلا بالثورة وإقامة ديكتاتورية البلوريتاريا .

كما أن الإشتراكية عند الشيوعيين ما هى إلا خطوة لازمة ومكملة للديمقراطية فهى التى تجعل الديمقراطية حقيقة لفظا ومعنا ويأخذون على الديمقراطية الغربية أنها لم تقلل من سيطرة صاحب رأس المال على عمله , وأن ما تزعمه من إطلاق حرية الإجتماع وحرية إبداء الرأى وإذاعته , ليس معناه أن الفرصة للتعبير عن الرأى متساوية .

فى وسط هذا الخضم من الأفكار المتباينة ظهرت نظرية ماركس الذى يرى أن النظام الرأسمالى والنظام الإشتراكى مراحل متباينى فى تطور العالم التاريخى وهو تطور مستمر. وكما أن النظام الرأسمالى لم يتحقق كاملا إلا بعد توفر وسائل الإنتاج الصناعى فكذلك لا يتيسر للنظام الإشتراكى أن يخلف النظام الرأسمالى إلا بعد أن تصبح علاقات الإنتاج جميعا إشتراكية وذلك بظهور طبقة العمال الكادحين .

طبقة البلوريتاريا وتغلبها .وهذا يجرنا بالتالى لمعرفة ما تعنيه كلمتا بلوريتاريا واقتصاد بلوريتارى فالإقتصاد البلوريتارى بوجه عام يقول بأن الفقر أصل التكاثر با أن كلمة بروليتاريا نفسها معناها الطبقة الولود .شديدة الخصوبة .كثيرة النسل .التى لا تخدم الدولة بمالها ولكن بأبنائها .

والإقتصاد البلوريتارى يرى أن الفقر بسبب كثافة السكان لأن كل ابن يولد للأسرة الفقيرة ليس عبئا عليها بل مصدرا جديدا من مصادر دخلها فتوالد الفقراء هو سبيلهم إلى رفع مستواهم المعيشى .

وهو أشبه شىء بإنشاء الجمعيات التعاونية على نطاق فطرى والعلاج فى هذا الإقتصاد العمالى هوتكبير النظرة وتحسين التوزيع لا تقليل عدد الأفواه والنظرة هنا هى الدخل القومى الحاصل من الإنتاج .

ولقد رفع ماركس شعاره الشهير " أيها البروليتاريون فى جميع أنحاء العالم اتحدوا من أجل القضاء على الملكية الفردية للأرض ولرأس المال .ولكى يقوم كل إنسان بنصيبه من العمل ثم يتقاسم الجميع فى ثمرات الإنتاج دون أن يدفعوا إتاوة لأى كسول قاعد من العاطلين بالوراثة .

هذا والطريق الوحيد لضمان ذلك أن تتحد البروليتاريا جميعا بدون تمييز بين طبقة أو أمة أو وطن لكى تضع حدا للنظام الرأسمالى وذلك بتعزيز الجانب الشيوعى من حضارتنا باستمرار حتى تصبح الشيوعية هى المبدأ السائد فى المجتمع وتختفى أساليب الحياة التى يعيش بها بعض الناس من يملك أرضا أو راس مال .

ثم لا عليه إلا أن يفعل فى كسل تام وارستقراطية كاذبة مثل هذه الأساليب التى يجب أن تختفى عن الأنظار وتلفظ نهائيا من الجميع وينظر إليها كأعمال محطة بكرامة الإنسان .وباختصار يجب أن يكون للأرض إله واحد بدل من عبارة الدولاركما يعبر عنها رجال الدين .

وبما أن الشيوعية الصورة غير الدينية للكاثوليكية .بل فى الحق أنها تعنى نفس الشىء تماما فإنها لم تفتقر أبدا إلى الدعاة والأنصار والبشرية فى كل مكان .

علينا إذا أن نتعرف " بكارل ماركس " هذا حتى يتسنى لنا فهم نظرياته ووجهة نظره فى كل منها ." فكارل ماركس " من أسرة يهودية ألمانية من الطبقة المتوسطة ولقد ولد فى سنة 1818 .والتحق بعد ذلك بجامعة بون فى عهد ثورة فكرية .

وتأثر تأثرا شديدا بعد حصوله على الدكتوراه فى الفلسفة سنة 1841 . لأن آراءه لم تكن مرضيا عنها فى تلك الفترة .فتحول إلى الصحافة . وأنشأ جريدة وأقبل على دراسة المؤلفات الإشتراكية . واستطاع فى مدى قصير أن يكون المبادىء الأساسية لمذهبه .وأصبحت اشتراكية تسمى بالإشتراكية العلمية .

حاول " ماركس " أن يكشف العوامل التى تختفى وراء التطور الإجتماعى واستعان فى هذه المحاولة باتخاذ فكرة الحركة الدياليكتيكية من فلسفة " هيجل " ولقد كان " ماركس " منذ كان طالبا يعد نفسه من أتباع " هيجل " .ولقد كان يعارض اتجاهه الرجعى فى السياسة وكان يرى هو وجماعة من أصحابه الهيجليين الشبان أن جوهره دائم التعبير ومتتابع التطور .

ولقد ظل " ماركس " إلى آخر حياته يردد أنه يدين " لهيجل " ولكنه عاش يصر على أنه أخطأ فهم المعنى الحقيقى لفلسفته أو أنه اتجه اتجاها منحرفا عن القصد . وأن " ماركس " نفسه هو الذى صحح هذا الخطأ .وأعاد الأمر إلى نصابه وكان الدليل فى رايه على فهمه جوهر فلسفة " هيجل " أنها قبلت هذا التصحيح .

ولقد ظل ماركس طوال حياته باحثا دارسا وكاتبا مثابرا على الكتابة والتأليف ولكنه كان فى الوقت نفسه ثائرا خطيرا . ولقد تنقل فى خلال حياته العامة من ألمانيا إلى فرنسا ومن فرنسا إلى بلجيكا ثم استقر به المقام فى انجلترا ومضى بها أربعة وثلاثون عاما حتى أدركته الوفاة سنة 1883.

ولقد كانت جهوده مزرعة لغايتين هامتين :

أولهما : استكمال وضع مذهبه الإقتصادى السياسى .

ثانيهما : الإشتراك العملى فى تنظيم الحركة العمالية .

ولعل أوضح تعبير لبرنامجه السياسى هو " المانيفستو الشيوعى " وكان هذا الاتحاد مكونا من جماعة من الألمان الأحرار المبعدين .ولقد رأى ماركس أن يسمى هذا الإتحاد "بالاتحاد الشيوعي " ليميزه عن الجماعة المعروفة بالاششتراكيين المصلحين وفي سنة 1865 كان "ماركس " القوة المحركة في تكوين جماعات العمال المعروف باسم الدولية الاولى وقد استمر هذا الإتحاد حتى سنة 1876 .

ومؤلفات "ماركس " كثيرة متنوعة ولقد اشترك معه فردريك أنجلز " في تأليف بعض الكتب مثل ألمانيفستو وغيره من الكتب والرسائل . وكان انجلر نفسه كاتبا قديرا ومفكرا لامعا .ولقد كانت الماركسية نقطة ابتداء لحركتين هامتين من الحركات الإشتراكية وهى الإشتراكية التطورية . والإشتراكية الثورة .

والإشتراكية الثورية تتبع مذهب ماركس بحذافيره .أما الإشتراكية التطورية فإنها تستأصل من الماركسية فكرة الصراع الطبقى والحاجة إلى العمل الثورى وترى تعويض أصحاب الممتلكات بدلا من المصادرة المباشرة كما أنها لا ترى القضاء على الدولة السياسية وإنما ترى تحويلها إلى دولة ديمقراطية .وترفض فكرة إقامة الديكتاتورية فى دور الإنتقال رفضا باتا .

كان لظهور هذه الأفكار , وإن كانت محدودة الإنتشار , التركيز فى تكوين مجمعات دراسية من بين الشبان الإيطاليين المقيمين بالأسكندرية سميت باسم " الجامعة العربية " وكان غرضها الأساسى نشر الأفكار الماركسية مع مطلع القرن العشرين , لتكون نواة منارة للفكر الإشتراكى , خاصة وأنه فى ذات الوقت كانت موجة انتشار الفاشية فى مصر عارمة .وموجة الإعجاب بكل من هتلر وموسولينى لا يمكن تجاهلها .

ولعل سيل الكتب التى لا يمكن حصرها والتى سأحاول ذكر عدد منها يصور مدى قوة هذا التيار وخطورته – وللإنصاف لا يمكن أبدا تجاهل تفسير معنى هذا الإحساس على اعتبار أن المصريين من بين المعجبين بموسولينى وهتلر خاصة ولم يكن إعجابهم بالديكتاتورية فى حد ذاتها بقدر ما كان إعجاب بالمنجزات الضخمة , التى تحققت على يد كل منهما فى بلده , والأمل بإمكانية مساعدتها للحركة الوطنية الشابة الساعية على التخلص من الإحتلال البريطانى عدو الرجلين – ومن هذه الكتب على سبيل المثال لا الحصر :

  1. كتاب أحمد محمد السادات : أدولفت هتلر زعيم الإشتراكية الوطنية . مع بيان المسألة اليهودية – سنة 1914 .
  2. محمد مصطفى جمعة : بين الأسد الأفريقى والنمر الإيطالى – سنة 1935 .
  3. رياض حسيب : الإمبراطورية الإيطالية – سنة 1937 .
  4. فتحى رضوان : موسولينى – سنة 1937 .
  5. محمد صبيح عبد القادر : هتلر – سنة 1937 .
  6. ثابت ثابت : ألمانيا اليوم – سنة 1938 .

لو قدر لهذه الموجة قدر من الدعاية , التى شجعتها بعض العناصر الرجعية , لساعد ذلك على انتشارها .ولعل تنظيم عباس حليم رد فعل لقوة وانتشار هذا التيار , إذ سعى إلى عمل تشكيل قوى خاصة من الشباب الذى أطلق عليها " جيش الخلاص " والتى تلقت تدريبا عسكريا شبيها بنظام الكشافة وألحق بها الشباب من طلبة المدارس وفرض على الأعضاء تحية هامة برفع اليد ثم تنظيم القمصان الخضراء التى أسسها أحمد حسين , دليل أيضا على قوة هذا التيار .

ثم هناك دليل آخر هو المظاهرات التى قامت , عندما وصلت فلول روميل للعالمين , تنادى " إلى الأمام يا روميل " وهذا دليل على مدى إسراف بعض الوطنيين فى الثقة والأمل فى إمكانية مساعدته للحركة الوطنية الشابة إذا أحست الجماهير بأمل قرب خروج الإنجليز .

ولكن عندما هزم روميل فى العالمين , فهمت نفس الجماهير أن الفاشية يمكن أن تهزم , وتحطمت أمامها أسطورة القوة الخارقة للفاشية .واستعادت الديمقراطية مكانتها فى عقول الجماهير .

كان انتشار الفاشية قد أعطى بالفعل دفعة قوية للحركة الشيوعية المصرية الناشئة , كذلك للنمط الذى تبناه المؤتمر السابق للكومنسرون وهو المشهور " بخط ديمتروف" ينادى بتكوين جبهات شعبية واسعة للكفاح ضد الفاشية ولقد ساعد هذا الخط فى القيام بحركة واسعة لمعاداة الفاشية وقد تجمع عدد من اليساريين الإيطاليين فى مصر وبدأوا نشاطا واسعا واستغلوا عدد من المنابر منها مثلا الجمعيات الماسونية .

الهيكل التنظيمى لليسار المصرى من البداية وحتى سنة 1952

لعل أول حزب شيوعى مصرى أقيم هو الذى أسس فى سنة 1921, 1924 وكان محمود حسنى العرابى سكرتيره العام , والذى كانت نهايته على يد حكومة سعد زغلول الوفدية سنة 1944 .وفى الحقيقة لم تتلاشى أو تذوب كل كوادر هذا الحزب .

بل ظلت عناصر منه وحتى 1935 متواجدة ويقظة وأن مارست عملها فى شكل حلقة دراسية مستقرة بالأسكندرية خائفة ومتوجسة من البوليس .وكانت تلك الحلقة حريصة على جمع فلولها المتناثرة وكان من أبرز رجالاتها الشيخ صفوان أبو الفتح .والدكتور عبد الفتاح القاضى .

ومحمد دويدار بالإضافة إلى شعبان حافظ وكانا الإثنان قد عادا توا من موسكو حيث اتخذا دراستهما بمدرسة كادحى الشرق هناك .بدأت تلك الحلقة تقيم علاقات وثيقة مع مجموعة من اليساريين المصريين وكونت تنظيم صغير كان من بين أعضائه عبد الفتاح الشرقاوى وعبد الغنى سعيد والشيخ سعاد جلال بالاضافة إلى لطفى واكد .

وكانت تلك الحلقة بالطبع مطاردة من البوليس . لذلك عانت من العزلة الشديدة متخوفة من أى عمل جماهيرى . لذلك لم تتسع دائرتها وانغلقت على نفسها فى الوقت الذى كانت تنمو فيه تيارات يسارية أخرى من بين الأجانب التقدميين المقيمين بالقاهرة .ومستقلة بالطبع عن المجموعة القديمة .

تسمت تلك الحلقة الأولى باسم " الابسيت " أى " المحاولين " وكانت مهتمة بالدرجة الأولى بمناقشة قضايا الفن والأدب وما يدور فى فلكها .وخرجت من تلك المجموعة المهمتة بالفن والأدب مجموعة أخرى سميت " جماعة مناهضة معاداة السامية " أو " اليسكا " ولقد كانت مجرد تجمع من اليهود المعادين للنازية ثم من داخل " اليسكا " برز تيار يهودى صهيونى يعادى النازية .

ثم تيار يهودى لينا ولكنه يعادى الصهيونية على اعتبار أنها حركة عنصرية . وتيار ثالث يسارى – تقدمى يرى أن مناهضة السامية موقف برجوازى وأن ضمان حقوق اليهود لا يكون بالإنضمام للحركة الصهيونية وإنما بتعزيز مواقع الديمقراطية فى العالم .فى تلك الآونة بدأت تتواجد وبشكل تدريجى عدد من الأندية والمنظمات والروابط التى تحولت فى المستقبل إلى عمل يسارى .

إذ خرج " جورج حنين " وكان تروتسكيا وكون جماعة " الفن والحرية " وكان هذا التجمع اليسارى مهتما أساسا بالفن التشكيلى . وإن كان هذا الإهتمام الفنى لم يكن مجردا . بل على عكس ذلك تماما فلقد اعتقدت تلك المجموعة أن الفن فى حد ذاته " معملا للبارود " وأنه بالإمكان استعمال هذا التجمع كأداة لتغيير المجتمع عن طريق السريالية فى الفن التشكيلى بمعنى أن الإستغراب الذى تثيره السريالية سيخلق روح التمر وعدم الرضاء من قبل الأفراد على الأوضاع السيئة الموجودة بالمجتمع وبالفعل بدأت الجماعة بعمل – جماهيرى واسع وهو إقامة معرض للفن التشكيلى السريالى وأسموه " المعرض الأول للفن الحر " ومع إقامة المعرض أصدرا بيانا ووقع عليه ثلاثة من الأقطاب هم :

جورج حنين , وسلامة موسى , ورمسيس يونان , وكان عنوان البيان " يحيا الفن المنحط " وهو عبارة عن احتجاج على تدمير النازيين لفنون الرسامين التقدميين واعتبارها فن منحط , وظلت تلك الجماعة تعمل فترة طويلى إذ تحددت عناصر فى داخلها بعد احتكاكها بجمهور المصريين , وخاصة بعد أن تساءلت العناصر الشعبية – لماذا لا نهتم بمشاكل الجماهير اهتماما حقيقيا ؟ وعلى أثر ذلك الخلاف خرجت من " الفن والحرية " جماعة " الخبز والحرية " وبالطبع كانت امتدادا اجتماعيا لجماعة " الفن والحرية " .

أصدرت جماعة " الخبز والحرية " منبر علنيا لها من مجلة " التطور " التى صدر منها أربعة أعداد فقط وتوقفت عن الصدور على أثر سحب جورج حنين – ترخيصها الذى كان مستخرجا باسمه .

وبالتدرج إذا تمايز اتجاهان فى داخل " الفن والحرية " :

  1. تيار تروتسكى يرأسه أنور كامل وفتحى الرملى وآخرون .
  2. تيار ليس تروتسكيا وإنما هو مجموعة من الشيوعيين الذين كانوا داخل جماعة الفن والحرية يتزعمه شاب إيطالى اسمه " مارسيل إسرائيل " وكانت مجموعته مكونة من أسعد حليم . صالح عرابى والدكتور أحمد هيكل وكانوا يمثلون الإتجاه الشيوعى فى داخل " الخبز والحرية " .

وكان من سماه التيار التروتسكى أن أنصاره يؤمنون بأنه لا ضرورة لأى عمل سرى ويؤيدون تبعا لذلك العلنية .أما مارسيل إسرائيل ومجموعته فكانت تؤيد العمل السرى مع استخدام المنابر العلنية .وكانوا تبعا لذلك منظمة صغيرة أسموها " تحرير الشعب " .

ثم قام شاب سويسرى الأصل اسمه " بول جاكوب دى كومب " بتأسيس " اتحاد أنصار السلام " وكانت منظمة علنية .. والحقيقة أن جاكو شاب مسيحى قد تربى فى ألمانيا وكان على علاقة بالحزب الشيوعى الألمانى ولما قدم إلى مصر رفض العودة إلى وطنه وبدأ يقيم علاقات مع المنظمات اليسارية فى مصر ولقد نجح فى إقامة علاقات جماهيرية مع المنظمات اليسارية فى مصر ولقد نجح فى إقامة علاقات جماهيرية بقوى سياسية غير شيوعية وإن كانت معادية للفاشية .

منهم مثلا عبد الفتاح الطويل . هدى شعراوى . وكانت تلك العلاقة من العوامل المساعدة لجاكوب .فى العمل وسط الجماهير إذ كانت تعقد مؤتمرااتهم فى مقر الإتحاد النسائى الذى ترأسه ( هدى شعراوى ) بالقصر العينى .وكانت مجموعة " أنصار السلام " تعادى النازية والفاشية وتعتبرها خط لابد من محاربته .

وبرزت فى داخل التجمعات أعضاء مجموعة " أنصار السلام " وإن ظل " بول جاكوب " دائم الرفض لذلك .فى الوقت الذ كان يسعى وبنفسه إلى تأسيس ذات المنظمة المطلوبة لكن بعيدا عن الآخرين نظرا لما ظل يتمير به من اتباع أساليب غاية فى الحرز .

وبناء على هذا التزاوج الذى عرف به " جاكو " اضرت المشروعات – الماركسية الأجنبية التى كانت بداخل " أنصار السلام " الإتجاه إلى إنشاء – " النادى الديمقراطى " وكانت أهم أعمال أعضاء هذا النادى أعدادا سلسلة من المحاضرات والندوات والمناظرات لاجتذاب أكبر عدد من الشباب المتعطشين للثقافة التقدمية . بل إنهم ذهبوا إلى التفكير فى إنشاء تنظيم شيوعى .لذلك تمايزت وتبلورت أهم الإتجاهات فى تلك الآونة ومع نهاية الحلقة الثالثة من القرن العشرين .

أولا : تيار يتزعمه هنرى كورييل وهو يرى ضرورة العمل على تأسيس منظمة شيوعية تؤيد التميز وتحاول كسب عناصر كبيرة منهم وتسمن " (ح.م)" .

ثانيا : مجموعة يتزعمها هليل شوارتر وكان يشتهر باسمه الحركى " شندى " ويرى أن الدعوة إلى التمصير دعوة شيفونية ( أى عنصرية ) وأن الحركة الشيوعية يجب ألا تهتم بالأجناس .لذلك لا داعى أبدا إلى التمصير . وكان قد اقتبس فقره من كلمة القاها لينين ضمن نشره اسمها " اسكر " أى الشرارة ولذلك أطلق على مجموعته " ألايسكر " .

ثالثا : تيار يترأسه " مارسيل إسرائيل " وكان يرى أنه إذا كان ولابد من التمصير فإنه يتعين على الأجانب عدم الدخول أبدا فى الحلقة وأن – يكتفوا فقط بالتنظيم من الخارج إلى الإكتفاء بقيادة وتوجيه الحلقة .وكانت مجموعة تسمى " تحرير الشعب " .

وفي الحقيقة أنه قد حدث حوار بين الدكتور رفعت السعيد وبين هنري كورييل بباريس في نوفمبر من عام 1968 تخلله ذكر أهم نقاط الخلاف الحقيقة بينه وبين " مارسيل إسرائيل "بالإضافة الى فكرته نحو التمصير فقال إن محور وصلب الخلاف كان في الحقيقة حول "الدين " اذ أن مارسيل كان يرى ان الدين عقبة أساسية نحو السير الى الشيوعية في الوقت الذى رأى فيه " هنري كورييل " ان الدين الإسلامي بما له من نظرة تقديمة ودور كبير في حياة الأفراد يمكن ان يقوم بدورا كبيرا في جذب عناصر كثيرة .

لذلك استطاع كورييل أن يقيم علاقات وثيقة بالأزهر واستطاع ضم قيادات منه ويضرب مثال على ذلك بإقامة أحد الندوات اليسارية بالأزهر وهو عبد الرحمن الثقفي استطاع أن يصوغ قواعد الجدل شعرا على نسق الفية ابن مالك .

رابعا : ان جماعة "أنصار السلام " التي كان قد كونها "بول جاكو دي كومب " والتي بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية لم يكن هناك داع لوجودها لذلك جلت نفسها وكونت " جماعة الدراسات " وأسندت قيادتها لجاكوب ايضا " .

خامسا : جماعة تكونت من "صادق سعد " يوسف درويش "وريمون دوبك " ومنهم بدأت تتكون نواه منظمة "الفجر الجديد " وكانوا أيضا يتبعون أسلوب الحذر الشديد .

ومع مطلع الأربعينات استطاعت اجتذاب أحمد رشدي صالح الى صفوفها وعلى أثر ذلك أصدرت "مجلةالفجر الجديد " وكان يرأس تحريرها أحمد رشدي صالح وكانت تعمل بنشاط في داخل المثقفين ونشطوا أيضا في "لجنة نشر الثقافة الحديثة " .

وكان ذلك من نوع من التنسيق في العمل ففي الوقت الذى عكف معظم الأعضاء على الإهتمام بالمثقفثين تخصص يوسف درويش بالعمل داخل الحركة العالمية .وعلى أثر ذلك ومن داخل التنظيم الفجر الجديد أصدر "مجلةالفجر" وكون الهيئة السياسية للطبقة العاملة في داخل عمال شبرا الخيمة .

ولقد ظلت حلقة الفجر الجديد تعمل في سرية .ولم ترق الى مستوى التنظيم في المستقبل إلا بعد يوليو سنة 1946 .. وبعد ضربه صدقي ومن داخل السجن ظلت حلقة سرية وسميت (طليعة الشعب للتحرر) ـ "ط. ش. ت " وكانت ذات طابع حلقي .

وكانت ترى أن العمل الخارجي ضار وأن الكشف عن نفسهم سيقض عليهم . وكانت تسعى إلى إقامة جناح يسارى في داخل الوفد . وبالفعل نجحوا الى حد كبير في ذلك . وفي مساعدة القوى التقدمية في داخل الوفد . وكانوا ساعدون في تحرير "مجلةرابطة الشباب " .

سادسا : "الطليعة الوفدية " وهو تشكيل للشباب التقدمي داخل الوفد وكانت خاضعة لسياسة الحزب ولكنها أفرغت في هذه السياسة مضمونا وطنيا واجتماعيا ثوريا بحكم مابننه من أفكاراجتماعية جديدة .ولقد اتصلت في العمل السياسي بالتنظيمات الماركسية وخاصة تنظيم طليعة العمال والفلاحين .

وذلك خلال لجنة ـ الطلبة التنفيذية ومن خلال النوادي السياسية للوفد في الأحياء ومدن الأقاليم . ومن خلال صحيفة رابطة الشباب .وكانت الطليعة الوفدية تلتزم بالخط السياسي لقيادة الوفد .وتقف في دعوتها السياسية عند حدود المسألة الوطنية . اذ كانت تدعو لها بفهم علمي يكشف عن الأساس الإقتصاد للإستعمار ويدعو لاتخاذ سياسية خارجية تصدر عن هذا الفهم .

وعن معرفة القوى الدولية الجديدة التى تتمثل فى البلاد الإشتراكية . وحركات التحرر فى البلاد الخاضعة للإستعمار .وعن المواقف المختلفة للطبقات فى مصر .أوقفت الطليعة جانبا من نشاطها على الدفاع عن حقوق العمال .وعرضت رابطة الشباب على الإفساح فى سعة للقضايا الإقتصادية للعمال . ووصف ظروفهم المعيشية البالغة السوء .ثم كشف علاقات العمل ومهاجمة القوانين الضارة بهم .والتصدى – لمشاكلهم النقابية .

كما نادت الصحيفة أحيانا فى صراحة بالإشتراكية إذ كتب الدكتور " محمد مندور " عن اشتراكية الدولة قائلا " إن الفساد يأتى من اشتباك مصالح من يهيمنون على مصير البلاد بكثير من الشركات الأجنبية وشبه الأجنبية والمدربة كما اشار الدكتور مندور إلى ما يعترض مشاريع الإصلاح الإجتماعى من عقبات لمجلس البرلمان .وأساليب التحاليل على ما يصدره من هذه المشاريع رغم تواصفها .

وقال – إن العلاج الصحيح هو ما قلنا به غير مرة من وجوب الأخذ بمبدأ الإشتراكية الدولة ذلك بأن تبدأ الدولة منذ الآن فى الإستيلاء على شركات الإحتكار وشركات المرافق العامة .

انتشر ذلك التيار اليسارى فى قواعد الحرب وبين الشباب فيه وتقدمت هذه العناصر إلى صحف الوفد :

  1. الوفد المصرى .
  2. صوت الأمة .
  3. رابطة الشباب .

وكان لهذه العناصر أثرها الكبير فى الإنتشار .وسن لها علاقات كثيرة تركزت تحت عنوان الوفد والتشكيلات الماركسية .ولقد أقسمت قيادة الوفد لهذا الإتجاه بإملاء من الظروف القاسية التى تعرض لها مع مطلع الخمسينات خاصة وكذا رغبة منه فى كسب النفوذ بين الجماهير وتأليبها على الحكومة القائمة مع تجمع المعارضة ضدها .

سابعا : كانت هناك أيضا جماعة " القلعة " التى يتزعمها شاب اسمه مصطفى هيكل وأن هذا التنظيم انقسام من ( ح . م ) ولقد كان هناك انقسام داخل ( ح. م) الأول – بزعامة عبد الفتاح الشرقاوى فى 16 أكتوبر سنة 1945 .والذى كان ضمن المجموعة القديمة .

وكان يرى أن الأجانب عليهم ألا يشتركوا فى العمل داخل التنظيم الشيوعى المصرى على أساس دينى أى يجب أن يعلن التنظيم أنه يلتزم بالدين الإسلامى ومبادئه التى تتفق مع المبادىء الإشتراكية . بمعنى أن الماركسية اللينية لا يجب أن تكون الأيديولوجية الأساسية من خط التنظيم .

بل على التنظيم أن يلتزم بتعاليم الإسلام التى هى فى جوهرها تعاليم اشتراكية .وهنا يجدر بنا أن نتسائل عن ماهية المناسبة التى استغلها عبد الفتاح الشرقاوى للخروج من التنظيم متجاهلا للأسباب الحقيقية للخلاف .وكان ذلك فى 15 أكتوبر عندما كانت ( ح. م) تتوقع قيام مظاهرات فى 6 أكتوبر بعد أن سمعت إليها بإعلانها المنشورات الشهيرة الشديدة الداعية إلى التظاهر .

وبعد أن ألقت أيضا بمنشورات موجهة لرجال البوليس تدعوهم فيها بعدم المساس بالمتظاهرين وعدم التدخل مطلقا .وكان يوم 6 أكتوبر هو اليوم الأول لافتتاح الجامعات وبعد إعلان نهاية الحرب العالمية الثانية .إلا أن المظاهرات لم تتم كما كان مرتقبا ومر اليوم بسلام .

فما كان من الشرقاوى إلا أن انسحب معلنا أن عدم قيام المظاهرات لهو دليل على سقوط التنظيم وعدم فاعليته .أما هنرى كورييل فقد أعلن على أثر ذلك أن التنظيم لم يسقط إن الذى سقط بالفعل هو القيادات التقليدية القديمة غير المتحمسة وغير الواعية لدى خطورة المد الثورى وغير اليقظة لمطالب الشعب الوطنية من المستعمر .

وأنه يتعين على التنظيم ألا يقف مكتوف الأيدى بل يبادر بتقليد قيادات جديدة يتوفر فيها الوعى والثورية الكافيين وعلى هذا النحو قام بتشكيل " اللجنة الوطنية للعمال والطلبة " وكذا " اللجنة التنفيذية للطلبة " فى الوقت الذى خرج فيه

عبد الفتاح الشرقاوى مكونا " اتحاد منظمة وادى النيل " .ولم يكن هذا الإنقسام الأول والأخير فى ( ح . م ) بل خرج جناح آخر فى يوليو سنة 1946 يتزعمه كل من فوزى جرجس والدكتور عبد الفتاح القاضى وكذا يناديان بضرورة "إحناء الرأس للعاصفة " .

طالما أن الظروف غير مواتية للعملى وإلى أن تتغير الظروف إلى أفضل .وعندها ينشط التنظيم من جديد .ولعله كان لتجربتهم فى السجون فى المراحل السابقة عن 1945 .من الدوافع القوية التى حدت لهم إلى رفع هذا الشعار المؤقت .

إلا أنه فى الحقيقة لم تقبل ( ح . م ) التى رأت أنه على العكس من ذلك تماما لابد من مقاومة العاصفة واستمرار الكفاح , وكون بذلك الدكتور القاضى تنظيم " القلعة الماركسية " .

ثامنا : أنه مطلع عام 1946 وكنتيجة للمد الثورى المتزايد برز شعار الوحدة يسيطر على كوادر الحركة الشيوعية .بل أن عدد من كادرات " اسكرا " هددت بالإستقالة إذا لم تتم الوحدة .

ولذلك قامت الوحدة على عجل بين " تحرير الشعب " وأسكير " وكونتا " " منظمة الطلبة المتحدة" ثم انقسمت المنظمة إلى مجموعتين .مجموعة فضلت الإتحاد مع ( ح . م ) ومجموعغة أخرى انضمت إلى أيسكرا " وعل أثر ذلك اتخذت كل من ( ح . م ) والطليعة المتحدة .وكونتا " الحركة الديمقراطية للتحرر الوطنى "والتى رمز اختصارا لها " حديتو " فى مايو ويونيو سنة 1947 .

أما منظمتى الفجر الجديد والعصبة الماركسية " فلقد رفضتا بإصرار مبدأ الوحدة . وأما تخاذ منظمة " وادى النيل " فلقد صفى وتلاشى أعضاؤه وفى الواقع بالرغم مما للوحدة من ميزة اتحاد الجبهة وتماسك منظمات ووحدة فى العمل والهدف إلا أنها لم تدم لفترة طويلة ولعل أهم أسبابها عدم الإستمرار يرجع بالضرورة إلى عوامل عديدة :

أولا : الإختلاف الجذرى الناتج عن التمايز الفكرى والطبقى بين عناصر كل تنظيم – خاصة بين كوادر كل من ( ح . م ) و" أيسكرا " .إذ أن معظم كادرات (ح . م) كانت أصلا من بين صفوف الكادحين . فقراء .عمال طبقة وسطى دنيا .

فى حين أن معظم كادرات " اسكرا " كانت عناصر من الأجانب " والتأخبين " أو الأرستقراطية المصرية وحتى من انتهى منهم الطبقات الوسطى فكان ممثلا لشرائحها العليا . .وبالطبع هذا التمايز أوجد بالضرورة حزازات وتعاليا من بعض العناصر على بعضها الآخر .

ثانيا : إتمام الوحدة على عجل دون نضج كاف .. ثم حمله الارهاب الشديدة التى تعرضت له معظم العناصر – الشيوعية أدى إلى ردود فعل عكسية إذ ظهرت تغيرات فى داخل المنظمة وتبلورت بصورة أوضح أن الخلاف بالفعل خلافات أيديولوجية .

ثالثا : للتدليل على الخلاف الأيديولوجى هذا إن هنرى كوبيبل أصدر بيانه الشهير والمعروف " بخط القنوات الوطنية والديمقراطية " وهو عبارة عن نظرة جديدة ترى أن ظرف ما بعد الحرب العالمية الثانية وظروف تكون الإشتراكية .

ثم المد الثورى الهائل والتواجد بداخل المستعمرات وشبه المستعمرات .فإن عناصر البرجوازية الصغيرة من الفلاحين والطلاب والمهنيين يكتسبون وضعا ثوريا غاية فى الثورية بحيث تقرب توريتهم من ثورية الطبقة العاملة ومن ثم فإن هذا الحزب الذى يسعى الشيوعيون إلى تكوينه فى مصر ليس حزبا للطبقة العاملة وإنما حزب لكل القوى الوطنية والديمقراطية .

بالرغم من نضج وشمولية وواقعية بيان هنرى كورييل . وبالرغم من أنه يعنى إحتواء كاملا لكل الطبقات الثورية واتساعا لقاعدة الجماهيرالوطنية من المثقفين والطبقات الوسطى والدنيا الوطنية فى تلك الآونة فإن أول العناصر التى اعترضت عليه كانت فئة من المثقفين الذين اعتبروا هذا الموقف اليقظ الواسع له أغراض .

وأن على الحزب أن يتوجه أساسا على الطبقة العاملة .وبدأ بالفعل الصراع حول كل شىء .وقد حول دوائر الأقاليم التى كانت متواجدة بين العناصر الفلاحية والمهتمة بشئونهم ومصالحهم من اعتبار لديهم أنه وحتى الفلاحون يجب أن يأتوا فى المرتبة الثانية بعد الطبقة العاملة .

وبناء على ذلك خرجت بعض عناصر من مثقفى " حديتو " نذكر منهم على سبيل المثال :

  1. " عادل " وهو الاسم الحركى لعبد المعبود الجبيلى والذى سمى انقسامه " منظمة العمالية الثورية " .
  2. شهدى الشافعى وأنور عبد الملك وعباس سيد أحمد . وعبد المنعم الغزالى وآخرين كونوا ما عرف " " بالتكتل الثورى " وإن ظل التكتل داخل إطار التنظيم نفسه وإن كانت متبينة لوجهة نظرها الخاصة .
  3. ثم خرجت أيضا منظمة أخرى " ن . ش " نحو منظمة بلشفية . مع تكتل آخر هو " صوت المعارضة " وكونا معا المنظمة الشيوعية المصرية , وكانت قياداتها جميعا من العناصر الأرستقراطية والأجانب وكانت تحمل شعار 10.% عمال .ولقد كانت محل سخرية المنظمات الأخرى وانتهى مصيرها بالتعب والمصادرة من البوليس .

رابعا : أما عن حديتو فلقد ظلت قياداتها تنقسم بين خارج المعتقلات وداخل السجون على أثر الموجة التى قام بها البوليس السياسى فى 15 مايو سنة 1948 وحيث وزعت على أثرها كوادرها بين الهايكستب وأماكن أخرى .

وكانت مرتكزة أساسا فى تلك المرحلة بين فؤاد عبد الحليم .حمدى عبد الجواد .عبد الخالق محجوب وهو سكرتير عام الحزب الشيوعى السودانى فيما بعد .ظلت تلك المجموعة رافعة شعار التوحيد مع باقى المنظمات إلى أن فشلت عملية الوحدة وأصبح الوضع مشتتا إلى حد ما إلى أن خرجت فلول المعتقلين الشيوعيين مع مطلع الخمسينات .وما أن خرجت قيادات " حديتو " من السجون حتى بدأت تعيد تشكيل نفسها وتجمع فى فلولها المتناثرة محافظة على كونها أكبر المنظمات الشيوعية فى تلك الحقبة .

خامسا : أنه نشأ تنظيم آخر عرف " بمنظمة الحزب الشيوعى المصرى " التى أطلق عليها الشيوعيون لقب " الراية" تأكيدا على أنها ليست بالحزب الشيوعى الرسمى المنشود .

وقد نجحت الراية فى تكوين كادرات عديدة وأن أكدت على مبدأ الإنقسامية .كما سيرد ذكره تباعا . والخلاصة أنه لابد بعد سرد أهم نتائج الخلافات الجوهرية بين الإتجاهات والأجنحة المختلفة من اليسار المصرى .

نستطيع حصر الخلاف الأيديولوجى حول نقطتين هامتين :

أولهما: متعلق بوسيلة العمل الجماهيرى من قبل الحركة الشيوعية المصرية بمعنى أنه طرح تساؤل هام هلى من الواجب أن تتحول الحركة الشيوعية إلى حركة جماهيرية؟ أم تكتفى فى تلك المرحلة بمحاولة كوادر ؟ وتساؤل آخر هلى تحاول تجنيد أكبر عدد من المصريين فى مختلف مراتبها مع ما قد يترتب على ذلك من خفض مستوى النضج السياسى فى وقت كان فيه بعض الأجانب المولودين بمصر شغوفين بالماركسية .

وبث الوعى بها بين الجماهير الكادحة واستمر الخلاف حول هذه الآراء عدة سنوات فقد كانت الحركة المصرية تعد خلية الحزب وحدة نضالية .بينما صرفت " ايسكر " جل اهتمامها على إعداد الكوادر .وفضلت أن تكون الخلية وحدة دراسية .

وبينما وقفت الحركة المصرية فى صف التمصير والتعميل " 10.% عمال " رأت " ايسكر " أن الظروف الحاضرة تحتم عليها الإعتماد على المثقفين والأقليات الوطنية وأنه بناء على ذلك يجب بذل الجهود لضم العناصر الميالة للشيوعية وعلى أثر ذلك تحددت إلى حد كبير ملامح الخلاف الأيديولوجى بين كل القيادت .

ومن نتائج الخلاف ما أبدته " الفجر الجديد " واتهمت فيه " الحركة المصرية للتحرر الوطنى " بأنها تخلت – كما سبق ذكره – عن الماركسية اللينية لأنها ألقت بكل ثقلها على الفئات الأكثر من البروليشاريا واتهمتها فى أحد منشوراتها بأن الحركة المصرية تتوقع أن تقوم الثورة بجهود الطبقة المتوسطة الصغيرة وأنها تعمل على إقامة جبهة شعبية فى الوقت الذى كانت تهمل فيه تربية الكوادر السياسية وكان ذلك على اثر بيان" كورييل "الذى عرف " بخط القنوات الوطنية والديمقراطية " .

ثم إنه عندما دعت "مجلة الجماهير " التى كانت توجهها الحركة الديمقراطية إلى خدمة قيام العمال المصريين بضم حقوقهم تحت قيادة حزب من نوع جديد .حزب يمثلهم أصدق تمثيل ويلتف حوله ملايين الفلاحين والطلبة والمثقفين يقود الكفاح ويسير الملايين سير لا هوادة فيه نحو الحرية والديمقراطية والإستقلال .

انبرى أحمد رشدى صالح يفند تلك الدعوة على صفحات "مجلة رابطة الشباب ط موضحا هذا الإتجاه بأنه خاطىء وخطير لأنه يقوم على خطة سياسية وطنية واضحة كما لم تعد له عناصر قيادية واضحة ملموسة فى معارك كل يوم ولها تأييدا جماهيريا .والتى تنطلق بوجدان الطبقات العمالية والشعبية المختلفة واتهم دعوة الجماهير بعدم الوضوح والديماجوجية وأنها قائمة على سوء تقدير لقوة الحركة الإستقلالية النقابية .

ثم بذلك بدأ صراع طويل بين " حديتو " و" الفجر الجديد " والمنظمات الشيوعية التى دارت فى فلكها وأدى ذلك الصراع إلى أضعاف الفريقين ولكن ضرره على الفجر الجديد كان أكبر .ثم سرعان ما تفجر الصراع داخل " حديتو " نفسها بعد أربعة شهور من تأسيسها .ففى سبتمبر سنة 1947 تجددت المنازعات بين الجماعات التى ضمتها المنظمة وترتب على هذا المنازعات حدوث تغير فى اللجنة التنفيذية للمنظمة .

التى كانت تتكون من عشرة أعضاء " خمسة أعضاء من كل منظمة " .وأصرت الحركة المصرية على اتباع تاكتيك الجبة الوطنية الشعبية بينما رأت " ايسكر " ضرورة إعداد الكوادر أولا باعتباره العمل الأساسى للحزب .كما ظهر خلاف آخر عندما طالب البعض بأن يتخلى " هليل شوارنرر " , " هنرى كورييل " عن الزعامة من المصريين أعضاء الحزب .

وصبغه بالصبغة المصرية هذا وكان هناك أيضا اختلاف فى الرأى حول القضية الفلسطينية .إذ ابتدت الحركة الديمقراطية موقف الإتحاد السوفيتى المؤيد للتقسيم كذلك أسست " حديتو " فى شتاء "1947-1948 " الرابطة اليهودية لمناهضة الصهيونية , ولكنها لم تجد إلا استجابة ضئيلة وحلت بعد بضعة أسابيع من إنشائها .

كما أنه فى نوفمبر سنة 1947 كانت منظمة " ايسكرا " , " ج . م " قد توحدتا فى يونيو ويوليو 1947 وانضمت إليهما عدة منظمات صغيرة مثل تحرير الشعب والقلعة والطليعة وتكونت اللجنة المركزية للمنظمة الموحدة ( حدتو ) من 11 عضو ( 5 ح . م , 5 ايسكرا , 1 طليعة ) وسرعان ما حدث خلافات فى صفوف حدتو البعض من كوادر ايسكرا يطالب بالديمقراطية فى العمل الحزبى وبالتمصير ويعلن مركزية جديدة مثلت فيها الحركة المصرية بستة مقاعد أن حدتو أصبحت جبهة أكثر منها حزبا شيوعيا .

بينما نادت كوادر الحركة المصرية بضرورة إقامة حزب على نمط ما صنع لينين وستالين مع وجوب الإلتحام بالمنظمات الجماهيرية الأخرى .ولكن البوليس وضع حدا لهذه الخلافات بحركة الإعتقالات التى تمت مع ربيع سنة 1948 مما أدى إلى إضعاف حديتو .بإعلان حرب فلسطين .

ومع مايو سنة 1948 ألقت السلطات القبض على مائة شيوعى مائة شيوعى فور إعلان الأحكام العرفية .وفى يوليو سنة 1948 قرر الباقون هيئة تنفيذية .أصرت فيه على أن يكون مبدأ الديمقراطية المركزية دستورا يجمع أعضاء الحزب وأعلن أن تكون تعليمات اللجنة المركزية .

والتى كانت غالبيتها من الحركة المصرية – مطاعة دون مناقشة .ولكن ايسكرا وبعض المنشقين من أعضاء اللجنة المركزية رفعوا لواء المعارضة .وطالبا بعقد مؤتمرالحزب هو ما كان من الصعب تنفيذه فى ظل الأحكام العرفية .وفى نفس الوقت أسس من الصعب تنفيذه فى ظل الأحكام العرفية .

وفى نفس الوقت أسس المنشقون من أعضاء اللجنة المركزية منظمة " العمالية الثورية " " ع.ث" وكون البعض الآخر " نحو حزب شيوعى " تمشى كما سبق ذكره – ولقد استطاعت هاتان المنظمات العمل تحت أسماء مختلفة ولسنوات وإن لم يكن لنشاطها أهمية كبرى فى ظل الأحكام العرفية التى استمرت وحتى فبراير سنة 195.

وظل طابع النشاط الشيوعى فى تلك الحقبة محدود وبلغ عدد المعتقلين السياسيين سواء فى الهايكستب وأبى قير وأماكن أخرى حوالى ثلاثة آلاف معتقل كان منهم الشيوعيون .أعنى أعضاء الحزب الشيوعى . ثم عناصر من الإخوان المسلمين والوفديين واليهود .

هذا بالإضافة إلى أن حديتو قد فقدت الصلة بينها وبين فروعها خارج القاهرة والأسكندرية بالرغم من كونها طبعت ووزعت مجلتين سريتين أسمتهما " المقاومة " و" كفاح العال " كذلك لم تستطع رغم محاولاتها جمع فلولها توسيع دائرة نفوذها وعموما لم تستفيد المنظمات الشيوعية من النشاط العام بقدر ما استعادت من النشاط الذى زاولته بين صفوف الأفراد الذين ضمتهم معسكرا الإعتقال بالدرجة التى أثرت تأثيرا ملحوظا فى مستقبل الحركة .

إذ التقى كثير من الوفديين والإخوان والمستقلين والشيوعيين لأول مرة وأثمر هذا اللقاء بتحويل البعض إلى شيوعيين أو مناصرين للشيوعية وكان هذا بالطبع تمهيدا للجبهة الوطنية التى تألفت فى عام 1951 , 1952ونجح من خلالها الشيوعيون أكبر قسط من النجاح فى تاريخ حركتهم .

هذا وبعد إطلاق سراح معظم الشيوعيين من معسكرات الإعتقال المختلفة مع مطلع الخمسينات وحاولت " حديتو" أن تجدد نشاطها خاصة وإن السلطات كانت قد تغاضت عنها فى تلك المدة .وعكفت على تكوين " الجبهة الوطنية " وأسسها الدكتور " فؤاد مرسى حداد " الذى كان على صلة بدوائر الحزب الشيوعى المصرى " الراية " وكانت تلك المنظمة على علاقة بالحزب الشيوعى الإيطالى .

لم يترك الحبل على غاربه للشيوعيون . وإنما قامت على عزة حملة من الإعتقالات وكان بين من اعتقل بعض قادة " حديثو " كالدكتور شريف حتاتة وكمال عبد الحليم . كما ألقى القبض على هنرى كورييل .وهليل شوارتز وآخرين , فى صيف سنة 195., كما صودرت دوريات الحركة ونفى هنرى كورييل إلى إيطاليا فى أغسطس سنة 195.

إلا أنه مع مطلع خريف 1951 وبداية سنة 1952 هيأت الإضرابات التى عقبت إلغاء معاهدة 1936 جوا مناسبا لنمو الشيويعة وليس أدل على ذلك من أن منظمة " حديتو " التى لم يكن يزيد عدد أعضائها عن مائة أو مئتى عضو – عندما الغيت الأحكام العرفية فى سنة 195.

– أصبحت تضم بعد ذلك ما بين ألفين وثلاثة آلاف عضو مع نهاية سنة 1952 . كما نمت أيضا باقى المنظمات الأخرى على نفس النمط تقريبا وإن استطاعت " حديتو " أن تستعيد نفوذها فى قيادة النقابات .كما شرعت فى إقامة خلايا لها بالقرى بلغ عددها نحو الثلاثين خلية فى عام 1951 , ومع قرب نهاية سنة 1952 وصلت إلى مائة خلية بالريف .

وبالطبع كان لها خلايا نشطة ومنظمة فى وسط الجيش وبين فئاته المختلفة من عمال الصيانة والضباط .كما سيرد ذكره فى فصل لاحق . بالإضافة إلى قدرتها الفائقة فى تقوية قبضتها على منظمات الطلبة .هذا واستطاعت حديتو أيضا أن تكون لها فروعا خارج مصر خاصة فى لندن على يد عدد من أعضائها الذين فروا أثناء الإعتقالات .

كما حاولت أن تنشأ صلات مع الشيوعيين البريطانيين للإعتراف " بحديتو" كحزب شيوعى رسمى فى مصر ولقد وافق بالفعل الشيوعيين البريطانيين فى البداية على هذا المطلب .ولكن حين تبينوا أن معظم البيانات التى وصلتهم عن حديتو لم تكن صحيحة عدلوا عن تأييدهم .وعلى أية حال لم تكن تلك المسألى بين الشيوعيين البريطانيين وحدهم ولقد اشتغل أعضاء فرع المنظمة بفرنسا فى التجارة والصحافة .

كما أوجدت فروعا أخرى لها بإيطاليا والنمسا ومن الملاحظ أن كثيرا من المنظمين الأجانب أجبروا بعد مطلع سنة 195.على ترك البلاد جملة .وسعت حديتو إلى أيجاد كوادر وطنية كافية , لمتابعة نشاطها , من بين المصريين " سعيد سليمان رفاعى " الميكانيكى الذى اصبح سكرتيرا للمنطقة و" محمد محمد شطا " عامل نسيج و " زكى مراد المحامى " " كمال عبد الحليم " و " مبارك عبده فاضل " و " فؤاد حبشى " .أما بقى المنظمات الشيوعية الأخرى فقد كان تطوره فى تلك الحقبة ما بين 195.حتى 1952 يكتنفه الغموض .

لماذا نشأت الحركة الشيوعية المصرية منقسمة . ثم لماذا لعب الأجانب دورا أساسيا فى هذه التنظيمات ؟

أولا : أن الكادرات القديمة وهى فلول الحزب الشيوعى القديم لم تكن بقادرة على استيعاب العناصر الجديدة وأعنى منظمة " ح.م" بل إن الصورة انعكست تماما إذ قامت هذه العناصر الحيوية وهذا التنظيم الناشىء بالتقاط واحتواء الكادرات القديمة متناسية مالها من خبرة متجاهلة لتجربتها

ثانيا : إن " بول جاكوب دى كوب " ومنبره رفض بشكل مطلق الإستماع إلى رغبات وطلبات الكوادر المنطوية تحت لوائها .والتى أقبلت على حركة اليسار .وكان أهم تلك الرغبات تكوين حلقة ماركسية من عناصر تقدمية راغبة فى العمل معه .هذا فى الوقت الذى حاول بنفسه ومنفردا ضم عناصر يعتقد أنها صالحة للعمل السرى .

وكان هذا التناقد الذى تميز به وأسلوبه القائم على الحذر الشديد وإلى تجاهله لفئات تواجدت بالفعل فى حقل اليسار , لها الجدية والرغبة ما جعلها تقبل على تشكيل تنظيم مستقل مما شجع على إيجاد فرصة للإنقسام .

ثالثا : نشأت الحكة الشيويعة المصرية مستقلة عن الحركات الشيوعية العمالية مما قلل من فرصة الإستفادة بخبرة الحركة العمالية , وأبعدها عن فرصة الإستفادة من نفوذها ومساعداتها وتوجيهاتها .

رابعا : بالرغم من كون الحركة الشيوعية لقيت ترحيب واستجابة فى مصر خاصة بين الفئات الشبابية المثقفة , وبالرغم من أنه كانت هناك يقظة , وجو مناسبة لسرعة انتشارها , إلا أنه كان أيضا أحد الأسباب التى أدت إلى تشجيع كل فئة من الشباب على تكوين منظمة صغيرة مستقلة عن الآخرين ولقد زاد هذا بالطبع من فرصة الإنقسامية .

خامسا : أن منظمة " الراية " أكدت برفعها لشعار " خط النمو الذاتى " بعد الإنقسامية , أن على أعضائها أن يعكفوا على تجديد الناس متجاهلين الأيديولوجية الأخرى .

ولقد شجعت الظروف السياسية فى مصر على هذا العمل السياسى الذى كان متاحا فى فترة حكومة الوفد الأخيرة ولقد ساعدها أيضا " الفجر الجديد " على حمل ذلك الشعار . والآن يجدر بنا أن نقول وبتلخيص شديد أن الخريطة السياسية للتنظيمات الشيوعية مطلع عام 1952 كانت على النحو التالى :

  1. حديتو أكبر المنظمات .
  2. الراية .
  3. طليعة العمال وهى امتداد الفجر الجديد والتى اتسمت أخيرا " بحزب العمال والفلاحين الشيوعى المصرى "
  4. امتدادات العصبة الماركسية . والنواة .

إلا أن " حديتو " و " الراية " كانا فى الحقيقة , ومن أكبر المحاور . أما لماذا لعب الأجانب دورا أساسيا فيها .

أولا: الكثرة العددية التى تميزت بها الجاليات الأجنبية فى مصر , كالجالية الإيطالية ( حوالى 7.ألف إيطالى ) والجالية اليونانية .والجالية الأزمنة والسويسرية . بالإضافة للجالية الإنجليزية .وكان داخل تلك الجاليات امتدادات الأحزاب شيوعية فى الوطن الأم .

ثانيا : شعور هؤلاء الأجانب بضرورة عمل شىء من أجل مصر – وخاصة بعد إحساسهم لطول فترة بقائهم بها بنوع من الإنتماء والحب , يحق لنا أن نسميه , لتلك الأرض ولهذا الشعب المغلوب على أمره والمستعمر .

ثالثا: أن العناصر الأجنبية هذه , وبالرغم من إلغاء الإمتيازات الأجنبية فى معاهدة 1936 , إلا أنه بقى كثير من الحقوق المتعارف عليها , وكانت أهمها بعد البوليس المصرى عنها , ولذلك استطاعت بحرية كبيرة أن تقيم ندوات ومناظرات وأندية علمية دون تعرض يذكر من قبلهم .

رابعا : إن الفكر الماركسى لم يكن قد تواجد بالفعل فى أرضية الثقافة المصرية وكان للأجانب فقط والأرستقراطية المصرية الفرصة فى شراء وتداول تلك الكتابات والتأثر والإلمام بها .

خامسا :أن العناصر الأجنبية لمصر كانت تناهض الفاشية وبذلك التقت وجهات النظر هذه مع رغبات الأغلبية الملحة فى ضرورة محاربة الفاشية بكل وسيلة لذلك أغمضت الطرف قليللا عن المنظمات الشيويعة حتى يتسنى لها مساعدتها ضد الفاشية .

ولعل خير مثال على ذلك سعى الإنجليز لتجنيد " هنرى كورييل " ورفاقه للعمل ضد الفاشية ورفضه التعاون معهم , الحقيقة أنه بعد إعلان الحرب العالمية الثانية اتصلت بنا سلطات الإنجليزية وعرضوا علينا التعاون ووعدوا بتقديم مساعدات لنا لكننا رفضنا ولما فشلوا تماما استخدامنا لجأوا إلى تأسيس تنظيم خاص بهم هو " إخوان الحرية " وقد أدى هذا الخط الذى سرنا فيه إلى الإصطدام بالإنجليز أثناء الحرب "

وعلى أثر هذا تبلور تياران أساسيان واعتقد أنهما ظهرا فى كل المستعمرات وهذان التياران هما :

  1. تيار يرى أن الأولوية يجب ان تعطى للخط المعادى للفاشية ومن ثم لا يستبعد مع الإنجليز على أساس أنه كان هناك تعاون بين الإتحاد السوفيتى والحلفاء .
  1. تيار آخر يرى الكفاح ضد الفاشية وضد الإستعمار معا ولقد كنت , والحديث لكورييل , أؤيد هذا التيار , وقد ظهرت هذه المشكلة فى عديد من البلاد ومنها الهند فعندما اصطدم غاندى ونهرو بالإنجليز إعترض الشيوعيون الهنود على هذا الموقف وخسروا كثيرا من هذا الموقف .

أيديولجية التنظيمات اليسارية وموقفها من الأحزاب السياسية التى كانت بالساحة المصرية حتى سنة 1952

فى مطلع الخمسينات أصدر الحزب الشيوعى المصرى برنامجا تشير أهم بنوده إلى المناداة بالإستقلال والتحرر من الإستعمار الأجنبى الإنجليزى والأمريكى وجلاء الغزاة البريطانيين عن مصر والسودان .

مع الدعوة لمقاومة الإستعمار العالمى بزعامة أمريكا .وكذا الوقوف فى معسكر الشعوب .والذى يضم جميع الشعوب المستعمرة التى تناضل عن حريتها واستقلالها فى السلام والديمقراطية تحت زعامة الإتحاد السوفيتى .

ثم الدعوة إلى القضاء على نظام كبار ملاك الأراضى الإقطاعيين الرأسماليين والإحتكاريين الذى يستند إلى نفوذ الإستعمار المسلح على إقامة الديمقراطية التى يكون الحكم فيها للشعب من العمال والفلاحين الوطنيين .

بالإضافة إلى مصادرة الملكيات الزراعية الكبيرة وإعادة توزيعها على الفلاحين الفقراء .والدعوة إلى تأميم الإحتكارات والبنوك والمرافق العامة .والمؤسسات الإستعمارية وإداراتها بواسطة العمال .

مع إطلاق الحريات السياسية وهى حرية الكتابة والنشر والكلام وحرية العقيدة الدينية حرية الفئات الشعبية المختلفة فى القاهرة والأحزاب والإجتماع وحريتها فى تكوين الهيئات والنقابات والأحزاب التى تعبر عن رأيها وتدافع عن مصالحها .

ثم بناء جيش شعبى ديمقراطى من جميع أبناء الشعب يصون مصالحه ويدعم السلام العالمى .كما نادى البرنامج بضرورة تحسين مستوى معيشة العمال وفئات الشعب الأخرى وبخاصة الفلاحين والموظفين .وتأمين العمال ضد البطالة والمرض والشيخوخة وجعل ساعات العمل أربعين ساعة فى الأسبوع .

كما تدعو إلى فرض الضرائب التصاعدية على دخل الأرباح غير العادية والتركات وإعفاء العمال وفقراء الفرحين وصغار الموظفين من الضرائب المباشرة وإلغاء جميع الضرائب غير المباشرة التى تصيب المستهلكين الفقراء .أما عن التعليم .

فالبرنامج يدعو إلى جعله بجميع مراحله حقا لكل مصرى بغير مقابل مع توفيره لجميع أبناء الشعب وتحرير العلوم والثقافة من بقايا الأفكار الإستعمارية والإستبدادية الرجعية .

أما عن المرأة فإنه يدعو إلى تحريرها من قيود الحريم الإستبدادية المتأخرة ومساواتها بالرجل فى جميع الأمور سواء الاقتصادية أو السياسية أو الإجتماعية وبخاصة تقرير حقها فى الحصول على أجر مساو لأجر الرجل نظير قيامها بنفس العمل . كما يدعو إلى حق الشعب السودانى فى تقرير مصيره .

والآن بعد استعراض أهم التنظيمات الشيوعية المختلفة فى خلال وأعقاب الحرب العالمية الثانية وبعد توضيح أهم الإختلافات الأيديولوجية فيما بينها يجدر بنا أن ندرس الخصائص العامة للحزب الشيوعى المصرى الذى ذكرنا جزء من برنامجه لعل ذلك يوضح خصائص التنظيمات الشيوعية عامة :

أولا : حرص الحزب الشيوعى المصرى على الإعداد الفكرى لمجموعة من الأعضاء ترتبط ارتباطا محكما بالتنظيم وتمارس عملها فى حرية تامة ودعا هذا الحرص على التركيز على نشر المبادىء النظرية للتنظيم المعروفة فى الفكر الماركسى .ونشر المناهج الماركسية والدعاية والاثارة بالنسبة للإستراتيجية والتكتيك .

ثانيا : إن الدعاية للنظرية الماركسية اللينية وشرح أسسها المختلفة لتربية كوادر وأعضاء حزبين واعين كان يرى أن ذلك يعتبر من المهام الأولى للحزب ولنشاطه السياسى .

خوفا من الإعتقالات رغم أنه يخض تجربة الإعتقال , لأنه تكون بعدها , وكان يرى أن تفكك التنظيمات الشيوعية الأخرى يرجع إلى عدم التزامها بمبدأ السرية .

وعدم احترام القواعد التنظيمية المختلفة للأحزاب الشيويعة , لذلك فرض على أعضائه احتراما خاصا بقواعد الإنضباط .

ثالثا : بالإضافة للتمييز الفكرى والبناء التنظيمى فإنه ركز على الطابع وأقلع عن تجنيد يهودا وأجانب فى أى مستوى .

رابعا : امتنع لفترة طويلة عن تجنيد النساء لمراعاة الإنضباط والتخلص من الشائعات الأخلاقية التى انتشرت فى الأحزاب الأخرى .

خامسا : عدم ممارسة النشاط العلنى والعزوف عن استعمال المنابر العلنية من صحف واجتماعات حتى لا يتركز الضوء على أعضائه .

سادسا : السرية التامة أبعدته عن الإنتشار الواسع فى وقت كان الإنتشار الواسع فيها هو الطابع العام للنشاط السياسى المعارض للتحكم والنظام القائم وهذا الأسلوب متفق مع نظرية الكوادر ذات الوعى الأعمق .وهى نظرية الحزب البلشفى حسبما شرحها لينين فى كتاباته .

إذن يتضح لنا وكمصلحة طبيعية لكل هذه النقاط التى وصفها وصفا بالغ الدقة والصدق للأوضاع الإقتصادية والإجتماعية للمجتمع المصرى وعن الحالة المعيشية لجماهير العمال والفلاحين والظروف الصعبة التى يعيشون فيها أورد تحليلا للأحزاب السياسية الموجودة فى مصر فى ذلك الحين .

فحزب الإتحاد , ما هو إلا حزب عملاء السراى , وكبار البروقراطيين وكبار الإقطاعيين .وحزب الشعب ما هو إلا حزب أصحاب الملايين من البرجوازية الكوامبرادورية ومصدرى الأقطان .أما عن حزب الأحرار الدستوريين , فما هو فى نظر الحزب الشيوعى إلا حزب البرجوازية من رجال الأعمال المرابين وضاربى البورصة وكل هذه الأحزاب تخفى أسمائها .

ووعودها البراقة عبودية وخضوعا للإمبريالية الإنجليزية وللإتجاهات الأكثر رجعية . هذا ولقد تباين موقف الشيوعيين المضريين من المنظمات السياسية الأخرى بتباين الظروف فحتى سنة 1949 اعتبر ت " حديتو " كلا من " حزب مصر الفتاة " و" جماعة الإخوان " تنظيمين فاشيين وأن هدفهما الأساسى تحطيم وحدة النضال فى سبيل الحرية واعتبر أحمد حسين عميلا بريطانيا إلا أنه بعد إلغاء الأحكام سنة 195.

واتجاه " حديتو " إلى اتباع سياسة " الجبهة الوطنية " بدا الشيوعيون أكثر اقترابا من حزب " مصر الفتاة" و "الإخوان المسلمين " ولكن المنظمات الشيوعية الأخرى رفضت أن تسير على نفس الدرب الذى سلكته " حديتو " مما أدى إلى عرقلة استمرار الوحدة , بين الحركة الشيوعية المصرية .

إذ الخلاف حول التعامل مع الإخوان .إذ رات أن اتباع سياسة مرنة معهم تؤثر فى مواقف الجماعة أو تكشفها أمام الجماهير .ومن الصعب أن نقرر ما إذا كان تغيير " حديتو " لموقفها من الجماعات الفاشية قد تم بناء على تعليمات وردت من الخارج .

أو أنه كان تكتيكا محليا أملته ضرورة مرحلية فمن المعروف أن أعضاء تلك المنظمة أيقنوا أن تكوين جبهة معادية للإستعمار أمر تفرضه ظروف تلك المرحلة من تاريخ مصر وأن الإعتبارات الأخرى جميعا .

لابد أن تخضع للحاجة المحلية – وبرزت هذه السياسة بتحول حزب مصر الفتاة إلى تزعمه " فتحى رضوان " و" نور الدين طراف " أصبح بطل النضال – فقد عقدت تحالفين مصر والغرب وتطالب أيضا بعدم إقامة أحلاف عدائية ضد الإتحاد السوفيتى .

كما أن الجناح التقدمى للإخوان المسلمين تآلف مع الشيوعيين لمواجهة الإستعمار وإن من الصعب الكلام عن الفاشية فى الحقيقة فى البلاد المستعمرة .

ومن ثم قام الوفاق بين "حديتو" و " الإخوان المسلمين " حنى انفرط عقد الجماعة الأخيرة .ولكن الشيوعيون بم يهتموا بالجناح اليمينى الذى تزعمه حسن الهضيبى فى مواجهة الجناح التقدمى الذى تزعمه صالح عشماوى . لأن الهضيبى عارض ثورة 1952 منذ قيامها بينما رأى معارضوه ضرورة التعاون مع الضباط الأحرار .

وهو نفس الموقف الذى رفضته " حديتو " فى بداية الثورة وزادت إمكانيات التعاون للشيوعيين والوطنيين بعد حريق القاهرة فى 26 يناير سنة 1952 .وكانت علاقة الشيوعيين بالوفد أوثق ما تكون عندما يكون خارج مقاعد الحكم .

ويتضح اتحاد الجبهة الوطنية التى تشككت من الشيوعيين والمنظمات الجماهيرية الأخرى من البيانات التى أصدرتها فقد ذكرت فيها أن هدفها هو تنظيم المقاومة الشعبية للقضاء على الإستعمار وبطرد قواته وتأميم شركاته والقضاء على كل نفوذ سياسى له فى مصر والسودان .

وأن الجبهة تضم الوطنيين المخلصين من مختلف الهيئات والأحزاب والطوائف الشعبية الراغبين فى محربة الإستعمار ونادت بضرورة العمل من أجل الحرية السياسية للشعب وقطع كل صلة بين مصر ومعسكر المستعمرين الأنجلو أمريكيين أعداء الشعب المصرى وجميع الشعوب المحبة للسلام والحرية وطالب اللجنة بمنع أى محاولة لإقحام مصر فى الحروب الإستعمارية .

أو إدخالها فى اتفاقيات أو معاهدات أو أحلاف استعمارية وتوثيق الروابط بين شعب مصر والشعوب المناضلة من أجل الحرية وأكدت ضرورة عقد معاهدات تجارية مع الإتحاد السوفيتى والجمهوريات الشعبية .

المنابر العلنية لليسار المصرى 1925 : 1952

والآن بعد الإستعراض السريع لأهم التنظيات الماركسية فى خريطة السياسة المصرية فى الأربعينات ومطلع الخمسينات .وبعد أن أوجدنا أهم نقاط الإختلاف يجدر بنا الاشارة إلى وسائل إعلام تلك الأجنحة ولعل أول هذه المنابر بالضرورة وأهمها الصحافة .

خاصة وأن الصحافة بالنسبة لليسار لم تكن تعنى مجرد منبر إعلامى فقط بل إنها كانت الوجه العلنى لتنظيم سرى وفى أحيان أخرى بديلا عنه .وفى بعض الحالات كانت لا تمثل أكثر من أداة تجميع وتنظيم وتعبئة .وإنما محورا يمارس التنظيم نشاطه من خلاله .

وخاصة وأنه من منتصف الأربعينات كانت قد ولدت الأجنحة المختلفة لليساروتحولت إلى حركة عارمة هزت اعماقها .وأثرت بلا شك على مجريات الأمور والأحداث فيها .وإن لم تدم طويلا إذ قام صدقى فى يوليو سنة 1946 ومن داخل مجلس الشيوخ .

مناديا فيه بالموافقة على استصدار قانون غير دستورى يقضى بمكافحة الشيوعية . ولم يستطع صدقى إيجاد وسيلة لإقناع الشيوخ إلا قراءة جزء من قصيدة لأحد الكوادر الشيوعية " كمال عبد الحليم " بعنوان " إصرار" وبعد سماعهم إياها ارتفعت أصواتهم على التو بالموافقة .

واستطاع بذكائه ووحشيته استعمال هذا القانون لا فى ضرب الحركة الشيوعية – كما كان يسعى فى مصر – فحسب بل أيضا ضرب كل العناصر الشبابية الوطنية الثورية سواء أكانت فى الوفد أو الإخوان أو حتى مصر الفتاة .

وفى الحقيقة فإن اليسار المصرى بكل أجنحته كانت له دائما أبدا منابر صحفية من خلالها يبث فكره ويعلن عن أيديولوجيته , ولكى نؤرخ لتلك الحقبة الخفية فلابد بالضرورة من سرد بسيط لأهم تلك الصحف منذ أول جريدة تكلمت بلسانهم فى العشرينات وحتى قيام ثورة الضباط الأحرار ومطلع الخمسينات .

وإذا كنا قد حددنا نقطة البدء وهو تأسيس الحزب الشيوعى المصرى والذى كان محمود حسنى العرابى يشغل فيه منصب السكرتير العام .فإن "مجلة الحساب " تعتبر المنبر الإعلانى .

والمعبر الرسمى عن هذا الحزب فى عام 1925 إذ كان مديرها المسئول هو " ابراهيم الصبحى " وكان " رفيق جيور " الصحفى اللبنانى المخضرم رئيسا لتحريرها ولقد كان رفيق أحد قادة جماعة " لبنان الفتى بمصر " ولقد لعب دورا هاما فى صحافة الرأى المصرية فى "جريدة النظام " الوفدية الميول .وظل محررا بها من سنة 1916 حتى سنة 1925 .

ثم بعد أن أعلقت "جريدة الحساب " استصدر كل من محمود حسنى العرابى والدكتور عبد الفتاح القاضى وعصام الدين حفنى ناصف جريدة اشتراكية سياسية أسبوعية أسموها " روح العصر " وكان ذلك فى الرابع عشر من فبراير سنة 193.

ولقد اتسمت " روح العصر " بسمة اجتماعية هامة وهو أن أهم قضايا كفاحها قضية العمال .ومن هنا فلقد خصصت الكثير من صفحاتها للحديث عن مشاكلهم وحثهم على النضال من أجل تحقيق ظروف أفضل لمعيشتهم .

وفى الحقيقة فإن "جريدة روح العصر " لم تدم طويلا إذ أن أحد أهم كتابها . هو الدكتور عبد الفتاح القاضى . ثم محمود العرابى قد هاجرا إلى ألمانيا نظرا لما تعرضا له من صنوف العذاب وأغلقت على أثر ذلك الجريدة .

وفى السادس والعشرين من أغسطس سنة 1037 استطاع محمود القصرى استصدار "جريدة شبرا " السياسية والإجتماعية وكان محمد البيومى مديرا لادارتها . ومن أهم كتابها بالإضافة إلى عصام الدين حفنى ناصف . والذى ظل بمصر وحده بعد أن هاجر صديقاه القاضى والعرابى .

ولكن جريدة " جريدة شبرا " أغلقت بعد بضعة أعداد واستطاع بعض الأقطاب التروتسكيين أمثال " أنور كامل " و " كامل التلمسانى " و" أحمد الصاوى محمد " . " جورج حنين " استصدار " مجلة التطور " فى 1.يناير 194..

والتى صدر منها فقط أربعة أعداد . وتوقفت عن الصدور كما تم شرحه . إلى أن سحب صاحب ترخيصها جورج حنين امتيازه على أثر انشقاق الخبز والحرية " عن منطقة " الفن والحرية " . وظلت الفترة من مايو سنة 194.

وحتى مايو سنة 1945 تهتم الكوادر بتأسيس المنظمات وتبلورت أوجه الإختلاف بين كل تيار على حده واتخذت كل فئة منبرا إعلامى خاص بها إذ أسس " جورج حنين " و" رؤول كورييل " وغيرها " اتحاد الدراسات " وبدأوا العمل بالفعل فى إعداد دراسات متجهة عن الواقع العصرى والفلاحين ولكن لم يكن لهم جريدة خاصة بهم .

وفى حوار أجراه الدكتور رفعت السعيد مع أحد مؤسسى التنظيمات الشيوعية فى مصر " جاكوب دى كومب " عن عملية تأسيس تنظيمية الشيوعى والذى عرف بأسماء عديده منها " طليعة العمال " و" الفجر الجديد " , " د.ش" , و" العمال والفلاحين " إلا أنه كان يتهرب قائلا " إننى كنت من الناحية المبدئية ضد أن يقوم أى أجنبى بتأسيس تنظيم وأننى أقرر أن تاريخ الحركة الشيوعية بدأ بعد تنحيتى أنا عن العمل .

لقد عملت فى مصر عشر سنوات من النضال الديمقراطى المركسى بهدف نقل الفكر الماركسى إلى عدد من المصريين وهذا هو دورى . وبعد ذلك تركتهم يفعلون ما يشاءون " المهم أن أعضاء هذا التنظيم الذى أنشأه " جاكو " أو كما يقول أشرف على إعداده برز أربعة كتاب هامين استطاعوا استصدار منبر علنى لهم وهو " مجلة الفجر الجديد " وهم صادق سعد .ريمون دويك .يوسف درويش أحمد رشدى صالح . وكان يدفعهم جاكوب للإبتعاد عن المجموعة الأجنبية ليعلموا مستقلين .

وكان يصرخ فيهم قائلا " لستم أطفالا لقد بلغتم سن الفطام " وفعلا مع مطلع سنة 1941 بدأ الثالوث " صادق سعد ويوسف درويش وريمون دويك " مستقلين ومؤسسين " صادق سعد ويوسف درويش وريمون دويك " مستقلين ومؤسسين ومستخدمين ذات الإسم " الفجر الجديد " بعد أن تخصص يوسف درويش للعمل وسط العمال مؤسسا لجريدة " الفجر " كما سيرد ذكره تباعا .

ويجدر بنا الإشارة هنا إلى أن ريمون وصادق اتصلا بسعيد خيال ومصطفى كامل منيب واشتركا معهما فى تاسيس " جماعة نشر الثقافة الحديثة " لكنهما كعادتهما ووقفا للتعليمات الحزب الشديد التى أحاطت بكل تصرفاتها لم يفاتحهما فى أى شىء وحاولا مجرد استخدامها كمنبر علنى لهم دون أن يشعر أحد من شركائهما بذلك وقد أدى ذلك أن تردى الوضع بطردهما من هذه الجماعة بعد أن أشيع أنهما وبمساعدة جاكو قد اسسا " جماعة نشر الثقافة " .

ثم أسس بعد ذلك كل من سعيد خيال ومصطفى كامل منيب الفجر الجديد ويروى صادق سعد أنه خلال تواجده مع ريمون فى جماعة نشر الثقافة الحديثة كانا قد تعرفا إلى عدد من المثقفين المصريين منهم أحمد رشدى وعبد الرحمن الشرقاوى ونعمان عاشور وسعد مكاوى ومحمد إسماعيل محمد .

كما تعرفا بأبى سيف يوسف عن طريق محمد اسماعيل محمد وعلى المراغى عن طريق أحمد رشدى صالح .وهكذا فإن الماركسيين الأجانب توصلوا إلى أنصاف مصريين .وأنصاف المصريين تلاحموا مع عدد من المثقفين المصريين وأصبح من الممكن بالرغم من إبعادهم عن جماعة نشر الثقافة الحديثة أن يلعبوا دورا مستقلا لأن زوجته كانت علاقة بوزارة الداخلية وكان ذلك فى 16 مايو سنة 1945 .

نعود مرة أخرى إلى يوسف درويش الذى جمع كل من يوسف المدرك ومحمود العسكرى وطه سعد عثمان فى " جماعة نشر الثقافة الشعبية " ولقد أسست هذه الجماعة مركزين امحو الأمية .

الأول فى شارع وابور النور بالسبتية والثانى فى ميت عقبة .ثم تطور إلى " لجنة العمال للتحرر القومى " أو الهيئة السياسية للطبقة العامة " وهو منبر أسس بإشراف مباشر من حلقة ماركسية بغير اسم تستهدف التحول من خلال النشاط الجماهيرى واستقطاب اعداد من المثقفين والعمال المصريين إلى تأسيس تنظيم شيوعى .

وكان منبرهم الإعلامى والمعبر عن آرائهم " صحيفة الضمير " وهى صحيفة سياسية أسبوعية علمية اجتماعية .

أسسها محمد العسكرى فى 17 أكتوبر سنة 1945 وكانت تلك الصحيفة تركز نشاطها على :

  1. نشر الوعى السياسى بين العمال وحثهم على ضرورة تكوين منبر عمالى مستقل وعلنى يمثلهم .
  2. الدفاع عن الحريات النقابية والحريات الديمقراطية عامة .
  3. التوعية بضرورة التضامن العمالى العالى .
  4. التوعية بضرورة التضامن العربى والإهتمام بالمشكلة الفلسطينية بشكل خاص .

ولقد كان من أهم كتابها الدكتور عبد الكريم السكرى الحائز على درجة الدكتوراه فى الفلسفة والآداب .

ولقد ظلت " الضمير " تعمل فى إطار مجلة الفجر الجديد وظلت الصحف تصدر إلى أن أغلقها صدقى على أثر صلته العنيفة ضد القوى الوطنية واليسارية فى 11 يوليو سنة 1946 .

وعلى اثرها أغلقت أيضا النوادى الثقافية وأغلقت الصحف المعارضة أمثال " الوفد المصرى " البعث .

الطليعة . أم درمان . الضمير . الفجر الجديد. الجبهة .البراع . بالإضافة إلى حملته الدعائية الضخمة حول القبض على أكبر قضية شيوعية .

ثم تأسست الجماهير كصحيفة للعمال والفلاحين والطلبة والموظفين فى سنة 1947 ولقد تكونت قياددة سياسية للجماهير مكونة من خمسة كوادر من " ايسكر " منهم على سبيل المثال " شهدى عطية الشافعى " عبد المعبود الجبيلى سيدنى سلامون . محمد سيد أحمد . أيلى فيران . ثم انضم نقولا ورد كسكرتير للتحرير .

ثم دائرة للطلبة وقد تولاها ثلاثة من المحررين هم " عبد المنعم الغزالى , جمال شلبى , سعد زهران " كذلك دائرة للعمال والنساء .

أما عم مجلة التوزيع فلقد كان عليها فى القاهرة . إبراهيم المناسترلى وفى بحرى عبد المنعم الغزالى .ولقد كانت هناك لجنة للتنسيق من بين عمال المجموعات وكان مسئولها سيدنى سلامون .

أما عن الإتجاه الذى عبرت عنه " الجماهير " فلقد كانت من إبريل , مايو سنة 1947 مجلة " الايسكرا " ثم من يونية ويوليو سنة 1947 تمت الوحدة بين الحركة المصرية للتحرر الوطنى " " ح . م " وبين تنظيم " ايسكرا " وتأسست منظمة الحركة الديمقراطية للتحرر الوطنى " حديتو " وأصبحت الجماهير منبرا سياسيا لهذا التنظيم الجددي .

وبذلك أضيف كاتبان من أهم كتابها هما كمال شعبان وعبده ذهب كذلك كان من الأسماء . محمود النبوى المحامى وصاحب امتيازها ورئيس تحريرها المسئول وهو أحد كوادر " ايسكرا " ثم " حديتو " وأنه كان يمارس دورا سياسيا هاما فى المجلة ثم كان واحدا من اللجنة السياسية والحزبية المصرفة على " الجماهير " .

لقد اتسمت مجلة الجماهير بسمات هامة لعل أهمها :

أولا : المناداة بضرورة قيام حزب جديد يمثل طليعة الطبقة العاملة المصرية وأن قيام الحزب حتمية تاريخية .

ثانيا : منهج التحالف والصراع مع الوفد وحزب الكتلة .

ثالثا : يدين السعديين والأحرار الدستوريين .

رابعا : تركيز ما سمى باتجاه الضربة الرئيسية إلى أحزاب البورجوازية الصغيرة التى وصفتها بأنها " فاشية أو شبه فاشية " على كل من الإخوان المسلمين . مصر الفتاة " الحزب الوطنى"

خامسا : الدعوة لجبهة وطنية تقاعست قيادات الأحزاب الوطنيةعن التحالف مع الشيوعيين بذات الدعوة لتأسيس " جبهة وطنية شعبية " هذا عن الصحف التى أعلن عن تأسيسها رسميا ولكن هذا لا ينفى محاولات اليساريين تغبير مسار بعض الصحف والمجلات كمجلة " الشعاع " ومجلة " الطليعة " التى كانت تصدر سنة 1946 عن اتحاد خريجى الجامعة .

بالإضافة إلى " رابطة الشباب " التى كانت تمثل يسار الوفد كما سبق ذكره . كما استطاعت حديتو إصدار نشرتين فى سنة 1951 هى المقاومة . وكفاح العمال . والآن لعلنا نكون قد وفقنا فى كتابة هذا الفصل .

الفصل الخامس

الوضع السياسى والإجتماعى فى مصر على عتبات ثورة سنة 1952

" فشل الأسلوب التقليدى فى جلب الإستقلال لمصر "

موقف القوى السياسية من المفاوضات ومجلس الأمن

إن إيطاليا كانت قدأعلنت الحرب ضد بريطانيا فى شهر يونيو من عام 194.وهو ذات الشهر الذى عقدت فيه فرنسا الهدنة مع ألمانيا . ومع نهاية شهر ديسمبر 1941 أعلن هتلر الحرب على روسيا .

وانتهت الحرب فى 7 مايو سنة 1945 باستسلام ألمانيا بلا قيد ولا شرط لبريطانيا والولايات المتحدة وروسيا جميعا .وبذلك انتهت الحرب العالمية فى أوربا بعد خمس سنوات وثمانية أشهر وستة أيام .ومع مطلع أغسطس من سنة 1945 أذعنت كذلك اليابان بلا شروط للولايات المتحدة وحلفائها .

ووقع مندوبوها وثيقة الاستسلام فى الأول من سبتمبر سنة 1945 وباستسلامها انتهت الحرب على اليابان فى 26 من فبراير سنة 1945 .

هذا ولقد هللت الحركة الوطنية المصرية لانتصار بريطانيا والديمقراطية .على أمل أن تفى بريطانيا بما تعهدت به أى الإعتراف بالإستقلال التام لمصر والسودان لذا بادرت تلك القوى بالتحرك .ومع نهاية حالة الحرب قرر مجلس الوزراء فى جلسة يونية سنة 1945 إنهاء الرقابة على الصحف والنشرات الدورية وغيرها من المطبوعات إلافيما يتعلق بالخسائر العسكرية وإباحة الإجتماعات العامة .

مع منع اعتقال أى شخص بواسطة السلطة القائمة على الأحكام العرفية .ولقد باركت العناصر الوطنية هذا القرار الذى كان عدم صدوره سببا فيما عانت منه . وكان الوفد دائم التمسك بالحرية والديمقراطية .

وبالحريات الأربع التى تضمنها أيضا تصريح الرئيس الأمريكى روزفلت فى عام 194.. ومع نهاية الحرب الثانية تطلع الوفد إلى ضرورة اللجوء لمفاوضات ثانية مع بريطانيا تعترف فيها باستقلال مصر لما قامت به من دور إيجابى فى حربها مع الحلفاء .

ثم حضور مؤتمر الصلح الدولى لذلك أرسل زعيم الوفد " مصطفى النحاس باشا " بمذكرة فى 31 من يوليو سنة 1945 إلى بريطانيا عن طريق سفيرها بالقاهرة تضمنت " أنه سجل أقطاب الحلفاء لمصر خدمتها الممتازة لقضية الديمقراطية وأشادوا به .

كما سجل كبار الأقطاب والقواد من العسكريين والسياسيين نصيبها الوافر فى مجرى الحرب واعتماد الحلفاء على ولائها للديمقراطية بحيث لو انحرفت عن هذا الولاء لتغير مجرى الحرب إلى زمن طويل " كما استطردت المذكرة شارحة حق مصر على بريطانيا " ومن حق مصر نفسها وقد انتهت الحرب الأوربية وبدأت المحادثات بين أقطاب الحلفاء لتسوية شئون العالم ووضع الأسس والنظام الجديد أن ترى أن هذا الوقت هو أنسب الأوقات .

بل ألزم الأوقات للمفاوضة فى استكمال حقوقها أو استقلالها .ولقد أكدت الحليفة لمصر فى عهد رسمى أن يكون لها شأن فى الصلح يتناسب مع شأنها فى الحرب .

وأن تشارك فى كل ما يمس مصالحها .. وترى مصر بحق أن تسوية العلاقات بينها وبين بريطانيا يجب أن يسبق مؤتمر الصلح لسببين :

أولهما : ما هو معروف من أن أسس الصلح نفسها يمهد لها ويتناقش فيها وترسم خطوطها منذ الآن .

ثانيهما : حرص مصر على أن لا تواجه مؤتمر الصلح إلا وهى على اتفاق تام مع حليفاتها .

ولقد حرص النحاس على إشعار بريطانيا بدور مصر فى ترجيح كفتها على المحور مذكرا لها بأهمية مكانة السودان بالنسبة لوادى النيل .

" وفى الحق أن تجارب الحاضر قد أثبتت بجلاء أن اعتماد انجلترا فى مثل هذه الحروب إنما ينبغى أن يكون على إحساس بالمودة والوفاء من جانب الشعب المصرى وما كان ليغنى عن ذلك أن يقوم مقامه وجود عدد محدد من الجيوش البريطانية سواء فى المدن المصرية أو على جانب القنال .

أما فيما يتعلق بالسودان فقد توالت تصريحاتى خارج الحكم وأثنائه .بوجوب تسوية هذه المسألة المتعلقة بما يتفق والروابط التى تربط مصر بالسودان وما بينهما من علاقات الطبيعة والدم .واللغة والدين والمصلحة المشتركة .

ولقد اشرنا إلى ما تقدم جميعه فى مذكرتنا التى قدمناها لسعادتكم فى أول إبريل سنة 194." ولقد أوضح النحاس باشا فيما بعد السبب فى تقديم المذكرة مباشرة بعد انتهاء الحرب وبالذات عن طريق سفير بريطانيا فى مصر .

مبينا أنه كان يقصد هدفين هدفا فى الداخل وهو تنفيذ دستور الأمة روحا ونصا . وإشعارها بأنها هى وحدها مصدر السلطات . والهدف الآخر استكمال استقلالها وتحقيق وجودها السياسى كأمة لها نصيب فى تقرير السلام العالمى .أما لماذا هذا الوقت فلأنه أنسب الأوقات لبحثها والمفاوضة فيها وفى مقدمتها السودان والجلاء والمسائل الإقتصادية والمالية .

كما رايتم ليست هذه المطالب جديدة على الوفد ولا من ابتكاره فى هذه الأيام ولكنها كما تعلمون وتعلم مصلحتها . وتعرف الحليفة نفسها هى مطالب الوفد التى لم يتحول عنها سواء أكان هو الذى يتولى الحكم باسم الدستور أو مبعدا عنه ولو كره الدستور .ولم يكن الوفد لمنهجه الليبرالى وده المنادى بضرورة فتح باب المفاوضات مع بريطانيا لتحسين وضع مصر بعدما قامت به مجهودات مشرفة مع الحليفة .

بل إن الحكومة المصرية اضطرت تحت الحاح القوى الشعبية أن تطالب بنفس المطالب .وأعلن مجلس الوزراء فى جلسته التى عقدت فى 22 من سبتمبر سنة 1945 أن " الهيئة السياسية ترى بإجماع الآراء أن حقوق مصر الوطنية كما أجمع عليها رأى وادى النيل فى وحدة مصر والسودان .

كما ترى الهيئة أن الوقت الحاضر هو أنسب الأوقات للعمل على تحقيق أهداف البلاد القومية . واتخاذ كافة الوسائل لمفاوضة الخليفة للإتفاق على هذه الأسس مما يزيد ما بين البلدين من علاقات الصداقة والتعاون توثقة ومتانة . هذا ولقد أرسلت الحكومة المصرية فى 2.ديسمبر سنة 1945 بمذكرة إلى سفير لندن عبد الفتاح عمرو يطلب فيها الدخول فى مفاوضات بين الدولتين لإعادة النظر فى معاهدة سنة 1936 .

إلا أن الحكومة البريطانية ردت على الحكومة المصرية فى 26 يناير سنة 1946 على هذا الطلب بمذكرة , أعلنت فيها أن المبادىء الأساسية التى قامت عليها معاهدة سنة 1936 سليمة فى جوهرها .

وأن سياسة الحكومة البريطانية . ترى أن تدعم روح من الصداقة والتعاون الوثيقة الذى حققت مصر ومجموعة الأمم البريطانية الإمبراطورية فى أثناء الحرب وأن تقيم هذا التعاون على أساس المشاركة الحرة التامة بين ندين للدفاع عن مصالحها المتبادلة وأيدت استعدادها لإعادة النظر مع الحكومة المصرية.

فى أحكام المعاهدة على ضوء تجاربها المشتركة ومع مراعاة أحكام ميثاق الأمم المتحدة .التى تهدف إلى ضمان السلم والأمن الدولى . وأنها سترسل قريبا إلى سفيرها فى مصر تعليمات لإجراء محادثات تمهيدية مع الحكومة المصرية لهذا الغرض .

وعندما عقد مؤتمر الصلح ولم تدع مصر أرسلت الحكومة المصرية احتجاجا على عدم دعوتها إلى هذا المؤتمر .ولقد كان من النتائج تلك المذكرات المتبادلة بشأن فتح باب المفاوضات من جديد لتعديل معاهدة سنة 1936 أن ثار الطلبة وتشكلت لجنة للعمال والطلبة .

قامت بأحداث اليوم الشهير فى تاريخ مصر والمعروف بيوم الطلبة 21 من فبراير سنة 1946 , ولن اتطرق إلى أحداث هذا اليوم إنما الذى تعنينى هو أنه كان تعبيرا عن رفض العناصر التقدمية سواء من العمال والطلبة إلى القيادات التقليدية الرجعية .

وعدم الإكتفاء بهذا الرفض إنما تعدوه لى مرحلة أكثر نضجا وهو إعلان الغضب فى العمل والتنظيم وإذا كان قد بدى كصورة زائفة أو مصغرة فإنه دون شك عبر عن إيمان تلك العناصر باتفاق مصالحهم وتعارض ذات المصالح مع أطماع الرأسمالية والرجعية الحاكمة ويمكن تلخيص وجهة نظر زعماء الوفد , كما ذكرها النحاس وأمين عثمان , فى تعديل المعاهدة وكما ذكرتها مجلة التايمز الإنجليزية ومصروهذا يمكن أن يتحقق بطريقة واحدة .

وهى أن تعالج بريطانيا الموقف مع الممثلين الحقيقيين للشعب المصرى .الذى يعتقد زعماء الوفد أن الحكومة الحالية لا تمثله . وكانت البيانات الرسمية لقيادة الوفد تؤكد دائما على معنى أساسى وهو أن الأمة المصرية لا ترتبط بما تسفر عنه أية مفاوضات تجرى على يد حكومات الأقلية المفرطة .

فى حقوق البلاد وكان هذا نوع من الضغط السياسى على الإنجليز الذين يهمهم التأكد من قدرة الحكومة المصرية على تنفيذ الإتفاق المزمع عقده .وألا تثير من المعارضة الشعبية ما لا تستطع هذه الحكومة تصديه .

وهذا يقتض التأكد من مدى ضعف المقاومة الشعبية .ومدى قوة الحكومة .وكان الوفد يدرك أن الاحتياج إليه يكون قبل إبرام المعاهدة .لا بعدها . وأنه هو وحده القادر على إقناع الجماهير بحدود المسكنات السياسة التى تبرر ما عسى أن يضطر إليه من تنازلات , كما كان يدرك أن مركز ثقله هو علاقته بالجماهير وعدم ابتعاده عن مطالبها .

ولم يكن الإنجليز بعيدين عن هذا الفهم وعن أهمية وجود الوفد فى الحكم فى أية مفاوضات تعقد بين البلدين فى هذه الفترة .هذا وفى الحقيقة يمكن استيضاح موقف الوفد من المفاوضات على أساس أنه راض عنها ولكن على يديه هو كوكيل للأمة وباعتباره الذى عقد معاهدة سنة 1936 وعليه تقع عبىء إصلاحها , واستكمال ما لم يستطع تحقيقه فى سنة 1936 , وبالتالى لم يكن موافقا أبدا على أن يتولى صدقى باشا رئاسة المفاوضات .

وركز هجومه على الحكومة معتمدا على أساسيات مثيرة من أهمها :

أولا: الهجوم الشديد على مسلك الحكومة إزاء المسألة الوطنية وإثارة الجماهير ضدها .

واقتض ذلك من الوفد أن يتقدم للجماهير بشعارات تتخطى حدود هذا المبدأ فنادت بيانات الوفد بعرض قضية مصر على مجلس الأمن. ومطالبة الشعب بالجهاد والتضحية والفداء . ولقد صرح مصطفى النحاس لصحيفة الجمهور البيروتية . " بأن تحقق مطالب مصر يكون بالإلتجاء إلى كل الوسائل السلمية لاثارة القضية أمام الرأى العام العالمى .

ثانيا : كما صرح عبد السلام فهمى جمعه باشا سكرتير عام الوفد بأنه " علينا أن نستأنف الجهاد وعلينا أن ننتزع استقلالنا بأيدينا "

ثالثا : أنه فى الواقع لم تكن تلك الكلمات مجرد مزايدة سياسية ضد حكومة صدقى وقد يفهم منها عدم اعتراض الوفد على مبدأ التفاوض كاساس لأيديولوجيته . وفكره السياسى .

ثم إشارته على الجهاد وإلى الاثارة العالمية للقضية المصرية .وقد يمكن فهمه على أنه نوع من الضغط على الجانب البريطانى لاستخلاص أكبر قدر من التنازلات منه .ولقيادة الوفد أن تشكك فى اية مباحثات تجريها حكومات الأقليات الخاضعة لهيمنة القصر والإنجليز .

على أن الواضح أنه لم تكمن ضد مبدأ المفاوضات لو وصلت إلى الحكم . رغم إثارتها لوسائل الكفاح الأخرى , وكان مما يكسبها تأييدا شعبيا واسعا والحاصل أن هذا السبيل الذى سلكته قيادة الوفد كان من شأنه أن ينفر الإنجليز منها وأن يباعذ بينها وبينهم .

ولقد أبدت صحيفة التايمز أسفها لعدم اشتراك الوفد فى المفاوضات ثم استدركت قائلة " إن الموقف المتطرف الشديد الذى أبداه الوفد فى المعارضة . لم يدع له فى الغالب سبيلا إلى الإختيار إلا أن يقف وأن يحتفظ لنفسه بحق رفض النتائج التى تسفر عنها المفاوضات . إن هى أهملت موافقته وسيستخدم حقه هذا حينما يعود إلى الحكم " .

وفى الواقع أن الوفد لم يفتقر أبدا إلى السياسيين الليبراليين المحنكين الذين يعرفون أين توجد مصلحة بلادهم . والذين لا تفوتهم تلك الأهمية التى يعلقها الملك فاروق بحق على مواصلة السياسة الخارجية المصرية .

وهذا يعنى أن الصحيفة إذ تثق فى حرص الوفد على مواصلة السياسة القائمة فإنها ترى أن التطرف الشديد الذى أبداه يجعله غير صالح حاليا لأن يقف بعيدا بعد ان اصبح أسيرا لهذا التطرف الذى تمادى فيه .

رابعا – أن الإتصال بالجماهير ليس ميزة للحزب السياسى فقط ولكنه خضوع لها بأى معنى من المعانى والتزام بمطالبها فى اى ناحية من نواحى السياسة والجماهير ليست سلاحا يمكن الإمساك به أو طرحه حسب الرغبة .ولكنها كين فاعل ومؤثر فى أية قيادة ما بقيت مستقلة بها .

وفى الواقع فإن قيادة الوفد عندما تصارع الرجعية على الجكم إنما تفعل ذلك بواسطة الجماهير وهى فى سعيها لاكتساب الجماهير . إنما تتنافس عليها مع التيارات السياسية الجديدة . التى غزت صفوف الشباب بنظرة جديدة للأهداف الوطنية وللمشاركة الإجتماعية فى الوقت الذى تقود فيه حزب ذا شعبية واسعة وتمده شعبيته بالكثير من العناصر الشريفة الناضجة . ومن الشباب أكثر ثورية وتمارس هذه العناصر نفوذا ضاغطا داخل الحزب .

وهذه المور تستوجب على القيادة لا أن تثير الجماهير فقط ولكن أن تفسح لوجهات النظر الكثر تقدما وثورية فى صحفها وبين المستويات المختلفة فى الحزب ولعله دث بالفعل عن نطاق معقول ومؤثر فى جريدتى الوفد المصرى " ورابطة الشباب " و" البعث " .

ولقد وصفت صحيفة " نيوستيتمان " الوضع فى مصر وقتها بأن ما من حكومة مصرية تستطيع أن تبقى فى كرسى الحكم إلا إذا ألحت فى المطالبة بالجلاء والسودان وذكرت أن زعماء الوفد يشتركون فى المطالبة بالجلاء تحت ضغط العناصر المتطرفة وأنهم يعلمون مدى ازدياد التوتر الإجتماعى داخل مصر .

وفى هذا الإطار يمكن استخلاص شروط الوفد للإشتراك فى المفاوضات مع بريطانيا : أولا : على أنه يجب أن يصدر تصريح من الجانب المصرى يبلغ للحكومة البريطانية بدخول المفاوضات غير مقيدة بأى قيد . مما ورد فى المذكرتين المتبادلتين بين الجانبين المصرى والبريطانى الوصول إلى تحقيق إرادة الأمة فى الجلاء ووحدة وادى النيل .

ثانيا : فيما يختص بتشكيل جبهة المفاوضات يكون للوفد المصرى أغلبيتها ورياستها كما ارتضاها الجميع فى المفاوضات .

ثالثا : فيما يختص بمجلس النواب : يقبل الوفد ما طلبته الحكومة من إرجاء حله إلى أن تنتهى المفاوضات على أن ينص فى المذكرة التى ترفع باستصدار المرسوم بتشكيل جبهة المفاوضات على حل مجلس النواب بعد انتهاء المفاوضات مباشرة على أية صورة تنتهى إليها وأن تؤلف وزارة محايدة لجراء الإنتخابات الجديدة .

كانت تلك إذا مطالب الوفد فى الوقت الذى اقتصر عرض صدقى باشا على إصراره بعدم تعديل أساس المفاوضات . واستمساك دولته برئاسة جبهتها وأخيرا عرضه مقعدين فقط على الوفد فى هيئة المفاوضات . للإنصاف فإن الوفد لم يأل جهدا فى شرح مطالب الجلاء وعدم الإرتباط

بأى حلف عسكرى فى العلاقة مع بريطاينا سواء أكان ذلك عن طريق تصريحات أعضاء الهيئة الوفدية أو عن طريق كتابة البارزين ولعل " إبراهيم عبد القادر المازنى أحد الكتاب الليبراليين البارزين .

كتب فى جريدة المصرى بنضج كامل محددا أن مصر ليست حريصة فقط على الإستقلال عن بريطاينا بل أنها أيضا حريصة على الا ترتبط معها بأية إتفاقية عسكرية لأن فى ذلك احتلال مقنع أو تعويق للإستقلال .

إن الجلاء يجب أن يتقرر بغير قيد أو شرط وبدون أن تكون هناك مخالفة أو ارتباط عسكرى أو اتفاق على تدبير دفاعى من أى نوع بأية حجة من الحجج وإلا فلن نكون قد صنعنا أو كسبنا شيئا .

هذا ولقد توقفت المفاوضات واستأنفت مرارا ثم فى الثامن من مايو سنة 1946 صدر البيان البريطانى من السفارة الإنجليزية بمصر يؤكد رغبة بريطاينا فى استئناف المفاوضات مع مصر وأن كان غير وافى لما تطلبته الجماهير " إن السياسة المقررة لحكومة صاحب الجلالة فى المملكة المتحدة هى توطيد محالفتها مع مصر على أساس المساواة بين أمتين تجمع بينهما مصالح مشتركة ولقد عرضت حكومة المملكة المتحدة إجلاء جميع قواتها البحرية والبرية والجوية من الأراضى المصرية والمفاوضة لتحديد مراحل هذه الجلاء وموعد اتمامه والتدابير التى تتخذها الحكومة المصرية لتحقيق تبارك المعاونة زمن الحرب أو فى حالة توقيع التهديد الوشيك بها طبقا للتحالف "

ولقد رد الوفد على هذا البيان بأن أذاع جزءا من مذكرة الوفد والهيئة الوفدية إلى " اللورد هاليفاكس " فى أبريل من عام 194.. وفيه يطلب الوفد المصرى والهيئة الوفدية البرلمانية باسم الشعب المصرى أن تصرح الحكومة البريطانية الحليفة من الآن أنه عندما تضع الحرب أوزارها ويتم الصلح بين الأمم المتحاربة تنسحب من الأراضى المصرية القوات البريطاينة جمعيا.

سواء فى ذلك القوات العسكرية قبل الحرب أو بعدها وأن تحل محلها القوات الحربية المصرية .لم يقبل الشباب المصرى المتحمس لمطالبة القومية هذا الرد البريطانى ولا موقف الحكومة تجاه المفاوضات لذلك سارع بتوجيه النداء التالى على لسان اتحاد شباب الأحزاب والهيئات .

" لا يخفى على الشعب الكريم أن استئناف المفاوضات جاء على أساس قبول الجانب المصرى بمبدأ لجنة الدفاع المشترك ولا يخفى أن هذا المبدأ قيدا من قيود الإستقلال بل لعله يهدر سياسة الوطن من أساسها مهما كانت اختصاصات هذه اللجنة التى يعمد المفاوضون إلى المناقشة فيها . ولما كانت آمال الأمة محدودة واضحة وهى الجلاء التام عن وادى النيل ووحدته بلا قيد ولا شرط .

فإن المفوض المصرى يكون قد تجاوز اختصاصه وتعدى الدور الذى رسمتها الأمة له " الأمر الذى دفع اتحاد شباب الأحزاب والهيئات إلى المطالبة بقطع المفاوضات فورا وعرض قضية وادى النيل على مجلس الأمن واعتبار يوم 11 يوليو وأول يوم وطئت فيه أقدام المستعمرين أرض الوطن العزيز يوم حداد عام .

واتحاد الشباب يدعو شعب وادى النيل للاشتراك فى هذا اليوم اشتراكا يضر الروح الوطنى إلى استخلاص حقوق البلاد كاملة غير منقوصة وليكن شعارنا لا مفاوضة لا تحالف , لا مشاركة ولتكن قضية الوادى قضية مصرية .

فإلى مجلس الأمن . وخلاصة الموقف أنه فعلا تمت المفاوضات بين صدقى باشا رئيس الوزارة وبين وزير خارجية بريطانيا بعد مراحل عديدة من القطع والإستئناف ولقد اشترك معهما كل من ستانسجيت وإبراهيم عبد الهادى ورونالد كامبل واحتوى المشروع على سبعة مواد .

وبروتوكول خاص بالسودان . ومشروع بروتوكول خاص بالجلاء . وبعد عودة صدقى باشا . من لندن عرض المشروع على هيئة الوفد الرسمى للمفاوضات مرفقا به مذكرة تفسيرية لشرح بعض النقاط الواردة بها وبعد أن درسته الهيئة قرر سبعة من اعضائها رفضه .

وبالفعل أصدروا بيانا على الرأى العام فى 25 نوفمبر سنة 1946 مذيلا بتوقيعاتهم وهم شريف صبرى . على ماهر . عبد الفتاح يحيى . حسين سرى . على شمس . أحمد لطفى السيد .

مكرم عبيد وكان جواب صدقى باشا على هذا البيان أن استصدر مرسوما من 26 نوفمبر يحل الوفد الرسمى للمفاوضات . جاء فيه أن أغلبية أعضاء الوفد قد أعلنوا جهارا رأيهم فى المفاوضات الجارية وأصدروا قرارهم فى بيان مذيل بإمضائهم بعثوا به إلى الصحف .

وبها أم مهمة الوفد أصبحت غير ذات موضوع رأينا أن يلغى المرسوم سالف الذكر الصادر فى 7 مارس سنة 1946 بتأليف الوفد الرسمى لمفاوضات وعلى رئيس الوزراء ووزير الخارجية تنفيذ هذا المرسوم .

ولقد هاجم المشروع . جريدة الأهرام فى مقال صدر بعد الثامن من ديسمبر سنة 1946 .

هذا عن موقف الحكومة المصرية أما عن بريطاينا فقد أعلنت جريدة " الهدف البيروتية " تحت عنوان " الجلاء من مصر إلى سيناء " وفحواه أن المارشال اللورد " الن بروت " الذى كان قومندان مصر والذى اجتمع بالنقراشى والذى قدم تقريره عقب عودته إلى لندن وكانت مسالة الجلاء منبين النقاط التى تبادلها تقريره الذى جاء فيه " أنه لكى يحقق المصريون أمانيهم ويوفق بين رغبة العسكريين البريطانيين الذين يصرون على الإحتفاظ بنقاط استراتيجية كما يرى إجلاء جميع القوات البريطانية من مصر وسحبها وجمعها من شط القناة إلى منطقة سيناء كافية لتحقيق النقط الإستراتيجية التى يطالب بها العسكريون " ثم علل سبب اختياره لهذه المنطقة " بأنها بعيدة ونائية عن مصر ومهجورة حتى لا تكاد تعتبر أرضا غريبة عن مصر " وقد وقع ما يمكن الإستدلال منه على أنه بدء فع تنفيذ هذه الخطة فهناك الآن متحركات عسكرية واسعة النطاق . اقتنعت باعتبار سيناء منطقة مقفولة لا يسمح بدخولها إلا بإذن خاص .

وبدأت مصر حكومة وشعبا مستعدون على عرض قضية مصر على مجلس الأمن بعد رفضهم المعاهدة التى وقعت بالأحرف الأولى لاسم عاقديها صدقى – بيفن , جورج – لطفى السيد " بأن الحكومة المصرية قد أعدت جميع الوثائق اللازمة لعرض قضيتها على هيئة الأمم المتحدة وأن طريقة عرض ههذ القضية ستكون على جزئين تتطلب مصر أولا من الهيئة أن يتولى مجلس الأمن المطالبة بجلاء القوات البريطانية عن مصر .

أما الجزء الثانى :

فهو خاص بحقوقها فى السودان والحقوق التى توجب وحدة وادى النيل قد أضاف إلى ذلك أن الوثائق الخاصة التى تضمنت اعتراف الحكومة البريطانية المتعاقبة بهذه الحقوق التى قد أعلنت .

فما كان من الوفد أن اعترض على أسلوب عرض القضية وأعلن النحاس باشا فى خطابه الذى ألقاه بمناسبة عيد الجهاد الوطنى أنه :

أولا : يجب قبل كل شىء قطع المفاوضات التى طالت ووضعت كرامتنا الوطنية فى التراب وانتهت الى تلك الكارثة الوطنية التى سبق أن بينا ما تنطوى عليه من الأضرار والأخطار .

ثانيا : يجب إعلان سقوط معاهدة سنة 1936 – وكانت تلك أول مرة يعلن فيها الوفد ذلك – فقد تغيرت الظروف التى عقدتها فيها كليا .

إذا كان الخطر من دول المحور قائما بل متفاقما فزال هذا الخطر نهائيا وبانتصار الأمم المتحدة إنتصارا حاسما . كما تضمنت هذه الظروف بتكوين هيئة الأمم المتحدة وأخذها على عاتقها مهمة حفظ الأمن الدولى وصيانة السلام العالمى .

ثالثا : الإلتجاء إلى هيئة الأمم المتحدة فورا وقد سبق أن بينت بما لا يحتمل المزيد من أحكام ميثاقها " تؤيد قضيتنا كل التأكيد . وأشرت إلى القضايا المماثلة التى عرضت على مجلس الأمن وانتهت بانتصار الحق وجلاء المحتل فمن واجبنا أى لا نغفل تلك الفرصة الذهبية التى أتاحها الميثاق لإنصاف الضعفاء من الأقوياء . وباحتكامهم إلى الضمير العالمى . والمجاهرة بعدالة حقهم فى المجتمع الدولى.

رابعا : الرجوع إلى الأمة فى ذلك مفتاح الموقف كله إذا كيف نناهض الأجنبى وحديثنا مؤودة وأيدينا مغلولة . وإننى باسم الوفد المصرى وكيل من الشعب المصرى فى السعى إلى الإستقلال التام لمصر والسودان .

أعلن مرة أخرى أن مصر لن ترتبط باتفاق لا يحق أهدافها ولو أبرمه البرلمان ولا غيره بإنكار المفكرين لهذا التوكيل . إن هذه النصوص المشئومة تسجل على مصر التبعية التامة لانجلترا فى سياستها الخارجية وتحولها للسيطرة العامة على شئونها الداخلية مدنية وعسكرية وتجعل منها أداة لبسط السلطان البريطانى على جيرانها وأشقائها فى منطقة الشرق الأوسط كلها .

وعلى أثر غضب الشعب المصرى ورفض كل أحزابه وطوائفه لمفاوضات صدقى – بيفن أعلنت بريطانيا " أنها تعزو سبب فشل المفاوضات إلى أنه راجع إلى خطا ارتكبه قبوله مفاوضة أقلية " وهكذا سدد مستر بيفن ضربه أخرى لخصمه الضعيف بذاته كى يوهن روحه المعنوية فكان له ما أراد فتلقت الحكومة المصرية هذه اللطمة الدولية دون أن تحرك ساكنت ولم يتلق مستر بيفن لطمة مقابلة أو احتجاجا رقيقا .

هذا ولقد قدمت مصر بالفعل دعوى إلى مجلس الأمن عن طريق محمود حسن باشا سفير مصر فى واشنطن قالت فيه الحكومة المصرية " إن احتلال بريطانيا المسلح فى وادى النيل يثير نزاعا يعرض السلم الدولى للخطر لذلك ترفع الحكومة المصرية النزاع بينها وبين المملكة المتحدة إلى مجلس الأمن تطبيقا للمادتين 35 , 35 من الميثاق ويتلخص مطالبها فى نقطتين :

أولا : جلاء القوات البريطانية عن مصر والسودان . جلاء تام ناجزا .

ثانيا : إنهاء النظام الإدارى الحالى للسوادن .

والحكومة المصرية إذ نطلب اليكم إدارج هذا النزاع فى جدول أعمال المجلس تبدى استعدادها لشرح هذا النزاع وتقديم الوثائق اللازمة حين يطلب إليها ذلك .

هذا بالنسبة للموقف الحكومى أما بالنسة للوفد فقد أعلن النحاس باشا أنه بصدد إرسال مندوبيهم للدعاية للقضية الوطنية دعاية صحيحة لا زيف بها ولا التواء فطلب أحد أعضائه " فؤاد باشا سراج الدين إلى رئيس الوزراء بصفة كونه وزير للخارجية والداخلية وإلى وزير المالية التنبيه على الجهات المتختصة بعمل التسهيلات اللازمة لاستخراج جوازات السفر إلى الولايات المتحدة لكل من فؤاد سراج الدين باشا وأحمد راغب بك وكيل الأشغال سابقا –والأستاذ كامل يوسف صالح نقيب المحامين بأخذ الأموال اللازمة للقيام بهذه المهمة .

فأعلن النحاس باشا أن الوفد يحمل النقراشى مسئولية الوقوف حجر عثره أمام سفر مندوبى الوفد المصرى إلى الولايات المتحدة . ولن يسعه إذن إلا أن – يلجأ مرة أخرى إلى هيئة الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولى ليعلن باسم وادى النيل أن الوفد الحكومى المتسلل إلى الولايات المتحدة على غير إرادتكم لا يملك التحدث باسمكم لأنكم لم توكلوه عنكم ولم ترضوا عن سفره وأن البلاد لا ترتبط بما ارتبط به هذا العهد .

ولا يرض ولا يقبل قرارإلا يطلبها فى الجلاء الناجز السريع عن الوادى بأكمله مع تحقيق وحدة هذا الوادى وحده حقيقة تحت التاج المصرى . وفى الختام قدم النقراشى رئيس مجلس الوزراء ووزير الخارجية المصرية بمذكرة إلى مجلس الأمن فى أغسطس وسبتمبر سنة 1947 – ومهما كانت صيغة أو طريقة العريضة فإن ذلك ما كان ليغير المصير الذى آلت إليه القضية أمام مجلس الأمن وهو إنحياز المجلس إلى جانب بريطانيا .

وطالبت مصر أمام مجلس الأمن بجلاء القوات البريطانية بشطب القضية المصرية منذرعة بمعاهدة سنة 1936 – التى خولتها إبقاء قواتها فى مصر والسودان وباتفاقية سنة 1899 التى فرضتها على مصر وشاركتها بذلك إدارة السوادن .كان ذلك استعراض لفكر وأسلوب ومنهج الفكر الليبرالى بمتابعة القضية الوطنية .

وينقلنا الحديث بالتالى لمناقشة موف التيار الدينى من ذات القضية ويدفعنا هذا التساؤل عن هوية الجماعة؟ ففى إحدى القرارات التى اتخذتها الهيئة فى سنة 1045 أبانت فيه حرصها على الجمع بين الدين والسياسة معلنتا " أن الجماعة هيئة إسلامية تعمل لتحقيق الأغراض التى جاء بها الإسلام الحنيف الغرض الوطنى وهى تحريروادى النيل والمساهمة فى العمل على استقلال البلاد العربية والشعوب الإسلامية .

وكذلك المشاركة فى بناء السلم العالمى على قواعد الإخوة الإنسانية والعدالة الدولية .وتحقيق مبادىء الإسلام التى تحقق هذه القواعد ليقوم النظام العالمى على أساس جديد من تآزر المادة والروح .

وكان من بين القرارات فيما يتعلق بالحقوق الوطنية إن من حق مصر أن تنال حقوقها ومن اجب بريطانيا والأمم المتحدة أن تعترف بهذه الحقوق الوطنية وكذلك تضمنت القرارات مطالبة الأمم المتحدة بأن تعترف بحقوق الوطن العربى والإسلامى فى الحرية والإستقلال واستنكار كل تصريح يرمى إلى انتقاص حقوق هذه الأمم .

كما تضمنت إيفاد بعثه إلى عواصم الدول الكبرى لبث الدعاوى للقضية الوطنية والإسلامية . أما عن الأسلوب الذى يجب على الجبهة القومية أن تتبعه وحدود الأمانى الوطنية فلقد كان مضمون واسع وشامل للبلاد الإسلامية والعربية .

إن بقاء فلسطين عربية – هدف من أهدافنا القومية . ثم لتقدم الجبهة بهذه الأهداف الواضحة مطالبة لا مفاوضة لأن المفاوضة معناها المساومة ولا محل للمساومة فى حقوق شعب وحرية أمة .

كذلك أعلن الإخوان بأنه فى حالة عدم تحقيق تلك الأهداف فلابد من الجهاد دون أن يحددوا وسيلة هذا الجهاد قائلين " أما رفضت مطالبنا القومية فعندئذ يجب أن نعود للجهاد من جديد ويجب أن يتحول السياسيون والدبلوماسيون إلى مجاهدين ومناضلين " أما عن نوعية وطبيعة هذا الجهاد فهو عن طريق الدعاية للقضية المصرية فى عواصم الدول الكبرى . " يجب أن نجاهد ونرفع صورة مصر عليا فى كل مكان " .

وفى إيجاز شديد وتحديد كما أوضح الإخوان أن المطلب القومى هو " استقلال مصر التام وسيادتها الكاملة على جميع أراضيها من غير قيد من سلطانها ويستلزم ذلك جلاء القوات الأجنبية عن الأراضى المصرية . كما يترتب عليه أن تتولى مصر وحدها حماية قناة السويس وأن تتم وحدة وادى النيل شماله وجنوبه فتصبح مصر والسودان قطرا واحدا . وأوضحت الهيئة أنه لكى تتحقق تلك الأهداف لابد من إلغاء معاهدة سنة 1936 .

وبمقتضى تحقيق هذه المطالب تعديل المعاهدة المصرية الإنجليزية تعديلا جوهريا بعد أن زالت الظروف العسكرية التى استلزمت تقييد مصر بقيود ثقيلة خصوصا وقد وفت [[مصر[ب بتعداتها بل بذلت كل ما تستطيع من جهد ومعاونة فى الحرب الحاضرة مما كان موضع اعتراف وتقدير وزراء انجلترا وقوادها بل الدول جميعا فى مؤتمر سان فرانسسكو كما كان سببا مباشرا فى النصر الذى تم للحلفاء وللديمقراطية " .

هذا ولقد قررت الجمعية العمومية قرارات تتعلق بالحقوق الوطنية :

اولا : أنه من حق مصر أن تنال حقوقها الوطنية ومن واجب بريطانيا والأمم المتحدة أن تعترف لها بذلك .وفى مقدمة هذه الحقوق .

  1. جلاء القوات الأجنبية من أرض وادى النيل فورا.
  2. حل مسألة السوادن حلا سريعا على أساس أن مصر والسودان وطن واحد للسودانى والمصرى ماله من حقوق وعليه من واجبات .
  3. قناة السويس أرض مصرية تقوم مصر وحدها بحراستها وحمايتها وتنظيم شئونها .
  4. رفع جميع القيود الإقتصادية والتجارية والمالية والتقدمية التى قبلتها مصر مساهمة فى المجهود الحربى واستيفاء ديون الأرصدة الاسترلينية والديون الأخرى التى لمصر على انجلترا .

ثانيا – مطالبة الأمم المتحدة تطبيقا لميثاق الأطلنطى الذى أعلنته أن تعترف بحق الوطن العربى والإسلامى فى الحرية والإستقلال واستنكار كل تصريح أو رأى إلى انتقاص حقوق هذه الأمم وتشجيع – الإستعمار الظالم على التدخل فى شئونها أما عن وسائل ذلك فقد شرحتها الجمعية العمومية بأنها

  1. إذاعة البيانات والنشرات .
  2. عقد المؤتمرات فى عواصم المحافظات والمديريات والمدن الهامة .
  3. الدعوة لعقد مؤتمر عربى إسلامى فى إحدى عواصم الأقطار العربية لتنسيق خطة للعمل المشتركة بين الشعوب العربية والإسلامية والبدء فى ذلك من الآن .
  4. أرسال الوفود والبعثات إلى عواصم الدول الكبرى لبث الدعوة وتنوير الشعوب والحكومات فى القضية الوطنية الإسلامية .

ولقد تقدمت هيئة الإخوان بتقديم مذكرة تحوى النقاط السابقة إلى الملك ثم صورا من ذات المذكرة إلى مجلس الوزراء والسفارة البريطانية والمفوضات العربية والأجنبية على السواء .

ولقد كان حجم أمانى الإخوان المسلمين وتصورهم لحدود المملكة المصرية المستقبلة غاية فى الخيال والتطرف والبعد عن الواقعية إذ لم تقتصر على حدود مصر والسودان بل تمتد إلى مديرية خط الاستواء" حدود مملكة وادى النيل تشمل مصر والسودان وسائر الملحقات التى كانت للإمبراطورية المصرية فى عهد اسماعيل كالصومال وأرتريا وإقليم هرر وزيلع ومصوع ومديرية خط الإستواء . وأوغندا يجب إرجاعها إلى حظيرة الأم وتسمى مملكة وادى النيل وملحقاتها ويسمى الجيش المصرى " بجيش وادى النيل " .

وعندما بدأت المفاوضات بين مصر وبريطاينا لم يعترض الإخوان على مبدأ المفاوضات وإن كانوا قد أصروا على التلويح لبريطانيا بأنه لن تتكرر مرة ثانية ولابد من الوصول إذن إلى حل جذرى للمشكلة معها بالإضافة إلى تحديد وسائل النصر فى إطار نظرى ساذج " اتفق الرأى على الدخول فى مفاوضات مع بريطانيا على أن تتاح لها تلك الفرصة فقط " أما وسائل النصر فتتركز فى الإيمان والجهاد .

إن شعب وادى النيل قد حدد مطالبه بالجلاء التام عن أراضيه وبحره وجوه وما دام الأمر كذلك فلا يعنى الشعب فى كثير أو قليل يتولى المفاوضة زيد وعبيد إننا لسنا نسمح بمفاوضة أخرى فإما أن يستجيبوا لمطالب وادى النيل العادلة وهى جلية بينه وإما أعلنا الجهاد ولكى نعيش أحرارا أو نموت كراما .

هذا ولقد أعلن المرشد العام للإخوان فى قانون النظام الأساسى إن الكفاح من أجل التحرر لا يقتصر على وادى النيل بل إنه يشمل تحرير كل الشعوب الإسلامية المحتلة .

" إن الاخوان المسلمين هيئة إسلامية جامعة تعمل على تحقيق الأغراض التى جاء بها الإسلام الحقيقى ومما يتصل بهذه الأغراض تحرير وادى النيل والبلاد العربية جميعا والوطن الإسلامى بكل أجزائه من كل سلطان أجنبى ومساعدة الأقليات الإسلامية فى كل مكان وتأييد الوحدة العربية تأييدا كاملا والسير إلى الجامعة الإسلامية .

" وفى بند آخر أشار إلى ضرورة " مناصرة التعاون العالمى والمشاركة فى بناء الإسلام والحضارة الإنسانية . وفى أثناء مفاوضات صدقى – بيفن أذاع الإخوان بيانا على شعب وادى النيل – موضحين فيه ذات المعانى السابقة ومطالبين بضرورة إلغاء معاهدة سنة 1936 وعلى أن يشمل الإستقلال كل مظاهر الحياة السياسية والإجتماعية المصرية .

إن الحقوق القومية لشعب وادى النيل هى لاستقلال الكامل لهذا الشعب ولن يكون لهذا الإستقلال حقيقة إلا بجلاء هذه القوات جميعا عن الوادى فى أقرب وقت .

ولن تكون لهذه الوحدة حقيقة حتى تشمل كل مظاهر الحياة السياسية والإجتماعية فى جميع أنحاء الوادى شماله وجنوبه وأن قناة السويس جزء من ارضنا يجب أن نقوم بحمايته وحراسته وأن مرافق بلادنا الإقتصادية من حقنا وحدنا أن نتصرف فى الإنتفاع بها كما نشاء ولقد أوضح البيان كذلك أن معاهدة سنة 1936 استنفدت أغراضها ولم تعد أساسا صالحا بحال للعلاقات بيننا وبين الإنجليز والمفاوضة وسيلة لا غاية رفضها المصريين كما لمسوا وتوقعوا وصدقت الحوادث توقعهم .

من آثارها ونتائجها وقبلها الباقون جريا على أساليب السياسة الدولية وتعليلا بالأمل فى الوصول على الغاية من أسلم الطرق " ثم استطرد البيان موضحا أن من حق الإخوان الإشتراك فى هيئة المفاوضة لأنه يمثل جانبا كبير من الرأى العام المصرى " ولقد كان من المنتظرأن يتألف وفد المفاوضة من كل هيئات الأمة وأحزابها وفى مقدمتها هيئة الإخوان المسلمين التى تمثل ولا شك الأمة وأحزابها وفى مقدمتها هيئة الإخوان المسلمين التى تمثل ولا شك مجموعة كبرى من الشعب وتقوم على توجيه الرأى العام فيه .

إلا أن الإخوان كان لديهم تحفظين :

الأول : أن نتيجة المفاوضة يجب أن تعرض على الأمة فى استفتاء عام لتقول كلمتها فهى صاحبة الحق الأول والأخير فى القبول أو الرفض .

الثانى : أن شعب وادى النيل الأبى لن يسمح بعد ذلك بتكرار تجربة المفاوضة بيننا وبين الإنجليز . لن يدع للسياسة الإستعمارية بعد التجارب العديدة الماضية أن تساوم "

ثم أنه فى حالة فشل المفاوضات لابد من عرض القضية على مجلس الأمن " أما أن تنتهى هذه المفاوضات إلى نجاح وإلا فإن الشعب لن يتردد بعد ذلك فى متابعة حركته القومية بعرض قضيته على مجلس الأمن استكمالا للمراحل القانونية الدولية وبالجهاد المستمر حتى يتم تحقيقها .

وعلى أثر إذاعة البيان بعث المرشد العام برسالة إلى اسماعيل صدقى باشا رئيس الوزراء ورئيس وفد المفاوضة يطالبه بألا يطول وقت المفاوضة وأن يؤكد للإنجليز أنها الفرصة الأخيرة " أن الفرصة أن نغفل عن قيمة الوقت وقضيتنا واضحة عادلة لا تحتاج إلى كبير دراسة وتمحيص وقد درست وبحثت من الجانبين منذ وضعت الحرب أوزارها .

فمن الواجب ألا يطول وقت المفاوضات كذلك فإنه من الخير أن تكاشفوا المفاوض البريطانى فى وضوح بأن الأمة قد جمعت على أن تصل إلى حقها أو تموت دونه "

وبعد أن قطع الوفد البريطانى المفاوضات أرسل الإخوان برسالة إلى صدقى يطالبون فيها " بقطع المفاوضة وبرفع قضية كصر إلى مجلس الأمن وإعلان بطلان معاهدة سنة 1936 .

وفى ختام الرسالة طلب الإخوان بأن يتحرك الشعب ولن يتحرك الزعماء بعد أن يتحدوا فى كفاح مشترك قائلين " على الشعب أن يتحرك من جديد وأن يعبر عن إرادته بقوة كما فعل يوم الجلاء فى 21 فبراير الماضى وعلى الزعماء أن يتحركوا ويتركوا المنازعات الشخصية وليقودوا هذا الشعب فى جهاده وكفاحه المقبل الطويل وتعليم الأمة أن سياسة القرارات والإجتماعات والخطب والمقالات والمفاوضات لت تكون سببا فى جلاء ذبابة "

حرص الإخوان المسلمين باستخدام القوة فى الكفاح ضد الإنجليز خاصة بعد فشل المفاوضات , وفى مقال لرئيس التحرير الإخوان الأسبوعية دعوة صريحة بهذا الأسلوب معللا بأنه ذات الأسلوب الذى استخدمه رسول الله ( صلعم ) فى " بدر " فالحرب أجدى على الدنيا من السلم واليوم تمثل على مسرح السياسة المصرية مهزلة المفاوضات .

أو المحادثات والقارىء لا يجهل تفاصيلها وهو متتبع طبعا خطواتها وما أظن أحدا من المصرين لم يقتنع بخداع الإنجليز وسوء نيتهم فهل لى أن أتقدم إلى المفاوضين المصريين بهذه العبرة . من عبر بدر راجيا أن يقنعوا الإنجليز بمنطق بدر بعد أن فشلوا فى إقناعهم بمنطق الحق والعدل .

ولما أذاع صدقى مشروع صدقى – بيفن عارض الإخوان واجتمعت جمعيتهم العمومية . واصدرت القرارات الآتية " رفض المشروعين المصرى والإنجليزى ومطالبة الحكومة البريطانية المفاوضات وبطلان معاهدة سنة 1936 ومطلبة الحكومة البريطانية باحترام حقوق مصر .

ورفض أية مخالفة أو معاهدة قبل أن يتم الجلاء وإلا عد من يقبل منهم خارجا على وطنه يجب مقاومته كمقاومة المعتدين الغاصبين . وأنه فى حالة ما إذا لم تستجب الحكومة للأحزاب فسيعلنون هم " الجهاد " وأعدوا الأمة للمقاومة والكفاح فى سبيل حقوقها حتى النصر أو الاستشهاد .

كذلك أرسل الإخوان عريضة إلى الملك ضمنوها رايهم فى الوزراة الحالية . طالبين منه أن يقبل الوزراة لفشلها فى المفاوضات والإلتجاء إلى الكفاح " إن المفاوضات بين مصر وبريطانيا لم تعد الوسيلة الصالحة لتحقيق مطالب الجلاء .

وإنها ليست أكثر من إجراء يقصد من ورائه الإنجليز التعاقد لحماية مصالح يدعونها لا تتفق قطعا مع استقلال البلاد " " يقترح الإخوان المسلمون إلى جلالتكم توجيه الحكومة هذا التوجيه السليم أو إعفائها من أعباء الحكم والجهاد فى سبيل حقوق البلاد لتنهض – بذل حكومة قوية على هذه القواعد السليمة والأسس الصالحة . "

لقد دعا البنا " المرشد العام للإخوان – الأحزاب المصرية إلى الإتحاد فى تلك المرحلة واعتبارها " الأساس الصحيح عندى الذ ى يصح أن – يجتمع عليه الأمة ممثلة فى أحزابها وهيئاتها بعد فصل القضية الوطنية فى مرحلة التحكيم الدولى عن المسالة الداخلية إلى حين .

فلجميع الزعماء أمرهم ولينسوا ما بينهم وليقفوا صفا واحدا وليحملوا قضية الوطن إلى مجلس الأمن وهيئة الأمم المتحدة ليبسطونها ويدافعون عنها فإذا انتصرنا عدنا جميعا نطالب بالإنتخابات واستفتاء الأمة وانقسمنا شييعا وأحزابا الكل يبغى خدمة بلاده بوسيلة ومنهاج .

وإذا خذلتنا الأولى عدنا كما ذهبنا صفا واحدا لنستأنف الجهود ونوجه الكفاح ونحقق أهدافنا أو نهلك دونها .وما ضاع حق وراءه مطالب . هذا ولقد أيد الإخوان موقف النقراشى واستعراضه للقضية فى مجلس الأمن وإعلانه التمسك بمعاهدة صدقى – بيفن وايضا رغبة الحكومة التخلص من معاهدة سنة 1936 .

" إن الظروف التى عقدت فيها معاهدة سنة 1936 لم يعد لها وجود وأن المعاهدة قد استنفدت أغراضها .ثم ذكر أن مشروع صدقى – بيفن ممثلى الجانبين والذى وقعوه بالحروف الأولى من أسمائهم على أساس شخصى وهذه المشروعات لا ترتبط بها أى من الحكومتين " ولقد اعتبر الإخوان هذه الكلمات التى قال " النقراشى " فى مجلس الأمن نصرا ساحقا للمصريين . كان ذلك وجهات نظر كلا التيارين التيار الليبرالى الذى يمثله الوفد والتيار الدينى الذى يمثله الإخوان المسلمين .

أما عن التيار الفاشستى والذى تمثل " مصر الفتاة " فكان باكورة آرائهم المتعلقة بالإستقلال متناقضة حقا , إذ فى الوقت الذى قالت فيه اننا لن نستطيع الحصول على الإستقلال إلا بإرادة انجلترا وتتساءل هل تريد انجلترا أن تعطى لمصر استقلالها أم لا " وان ترد لها حقوقها الكاملة فى السودان أم لا ؟ فإذا كانت انجلترا جادة فى شىء من ذلك سنحصل عليه سواء دخلنا مؤتمر الصلح أو لم ندخله وأما إذا كانت انجلترا غير جادة فى أن تمنح مصر حقوقها , وأن تجلو عن أراضيها فلن ينقصنا بحال من الأحوال أن نجلى ء فى مؤتمر الصلح " نجدها فى موضع آخر تناقض ذلك قائلة إن الإستقلال لا يمنح إنما يؤخذ عنوة .

" الإستجداء من الإنجليز لا يجدى والإستقلال والحرية قولا لا يجزى , إنما يؤخذ الإستقلال ولا يعطى وتنتزع الحرية الحمراء انتزاعا عندما يتهيأ الحر لدفع الثمن " ولقد فسر " أحمد حسين رئيس الحزب الوسيلة التى يمكن بها تحقيق الأهداف القومية " فإذا سألنى سائل وكيف نحقق المطالب القومية إذن كيف نحقق وحدة وادى النيل وكيف يجلى الإنجليز عن بلادنا قلت له إنما يتحقق ذلك عن طريق الجهاد , وعن طريق التضحيات وعن طريق الشجاعة والجرأة والإقدام فعلى حكومة مصر أن تقرر أن وادى النيل وحده لا تتجزأ وأن يصدر البرلمان المصرى قراراته لجعل هذه الوحدة حقيقة مقررة "

اما عن الوسيلة التى يجب اتباعها فهى القوة المسلحة , ففى مقال لأحمد حسين فى جريدة " مصر الفتاة " تحت عنوان "القوة .القوة " نجده ينادى بالتجنيد الإجبارى وتسليح كافة المواطنين مع العناية بالجيش , يجب أن نجعل التجنيد إجباريا لمدة سنتين لينضوى تحت لوائه الفقير والغنى والحقير والأمير , فيرتفع مستواه ويصبح المصريون بعد فترة وجيزة من الزمن مستعدين لاستجابة داعى الجهاد الوطنى.

وعليه يجب أن نمد الجيش بأحدث الأسلحة وأفتكها لأن الجيش العرمرم بدون سلاح كقطيع من الغنم إذا ما رأى الذئب اطلق سيقانه للريح , وفى سبيل ذلك يجب أن ننشىء مصانع الأسلحة والذخيرة والطائرات والبوارج والغواصات , ويجب أن تعتمد هذه المصانع على حديد مصر وفولاذها المدفون فى تربتها , كما يجب ألا تقيد حرية المصريين كافة فى التسليح بجميع وسائل الأسلحة لأن وضع أى قيد على هذا الحرية جناية وطنية لا تغتفر "

وفى قرارات الجمعية العمومية لمصر بحقوقها فى جلاء الجيش البريطانية من بلادنا وتحقيق وحدة وادى النيل فى ظل الإستقلال والحرية وتزيد " مصر الفتاة " على ذلك مطالبتها بتآلف وطن عربى واحد على غرار الولايات المتحدة الأمريكية وذلك بتحرير فلسطين وسوريا ولبنان والعراق والجزائر وتونس ومراكش وطرابلس وكل الأقطار العربية فى الشرق والغرب من كل سيطرة أجنبية وقد أعلنت الحكومة المصرية باسم الأمة المصرية مطالبنا القومية الخاصة بالجلاء ووحدة وادى النيل , ولقد بقى أن نتلمس السبيل لتحقيق هذه المطالب القومية "

أما فيما يختص بإعلان الحرب ضد المحور فلقد رفضت مصر الفتاة ذلك حتى ولوكان ذلك بالإسم فقط ما دام الإنجليز على موقفهم الذى يرفضون فيه أن يعترفوا لمصر بأى حق فى الحرية الكاملة والإستقلال " هذا ولقد عسرت جريدة " مصر الفتاة" عن رأى الحزب بصفة عامة عندما ترددت صحيفة الرأى العام ورفضه الفكرة إعلان الحرب ما لم تلب انجلترا مطالب مصر القومية وهى الجلاء وتحقيق وحدة وادى النيل " .

ولما انتهت الحرب العالمية الثانية طالبت " مصر الفتاة " بضرورة إخلاء كل المساكن التى تشغلها القوات البريطاينة خاصة وأن وجودهم أصبح غير ذى موضوع " لقد انتهت الحرب فى أوربا وفى الشرق الأوسط فما الذى يبقى هذه الحشود من الجنود واللوكاندات والنوادى والمستشفيات , فما الذى يبقيها حتى الآن ؟ إلا أن تكون الرغبة فى احتلال مصر أطول مدة ممكنة تخمد أنفاس المصريين وتحطم معنوياتهم وتملأ قلوبهم باليأس من إمكان جلاء الإنجليز عن بلادنا "

ولما حاولت الحكومة الصدقية الدخول فى مفاوضات مع بريطانيا كما كانت " مصر الفتاة" تنادى بأن لا جدوى منها , وأنه لا مفاوضة ولا معاهدة ولا تحالف إلا بعد الجلاء عن وادى النيل " أى مفاوضة يمكن أن تجرى بين الذئب والحمل , أى مفاوضة يمكن أن تجزى بين السبع الضارى وفريسته " " ألا يعرف الإنجليز أن كل قوة لمصر معناها ضعف للإنجليز , ألا يعرف الإنجليز أن كل نجاح لمصر هو خذلان لانجلترا "

وفى موضع آخر أوضح أحمد حسين أن مصر الفتاة لا تؤمن بالمفاوضات فى هذه الظروف أن ترمى مصر على المفاوضات مع بريطانيا من شأنه أن يضعف مركز البلاد وعلى الإنجليز لا المصريين أن يكونوا هم الذين يطلبون المفاوضات ويلحون ويعلقون أسسها , أما قبل ذلك فلن تكون هناك نتيجة لهذه المفاوضات إلا أن تقطع وتفشل "

وبعد أن أكد أحمد حسين نفس المعانى فى مواضع أخرى دعا إلى اللجوء إلى مجلس الأمن إذ ما فشلت المفاوضات " لا صداقة ولا تحالف ولا تعاون بيننا وبين الإنجليز قبل أن يتم هذا الجلاء وأن تاريخ المفاوضات المتعاقبة بين البلدين والى انتهت لمعاهدة سنة 1936 لخير دليل على ذلك" فإذا لم تقبل بريطاينا أن تجلوا فورا عن الوادى فعلى الحكومة المصرية أن تعرض قضيتنا على مجلس الأمن , الذى سينعقد فى 21 مارس الحالى تحصل عن هذا الطريق على كل ما تريد "

وبعد أن يئس أحمد حسين من المفاوضات دعى إلى أنه ليس هناك من وسيلة سوى أن تعلن مصر الحرب على بريطانيا وهذا بالطبع تطرف خلا من التقييم لموضوعي لحجم القوات بين الطرفين , وخلا من بديهيات الحرب وهو تكافؤ التسلح " نحن نريدها حربا قانونية رسمية وفقا لأحكام قانون الحرب تعلنها الحكومة المصرية للحكومة البريطانية وتخطر بها الدول الأخرى ويحاط بها مجلس الأمن علما وعندنا آن هذا الإجراء الوحيد الذي لم يبق هناك مناص من الإقدام عليه "

"يجب أن تنذر الحكومة المصرية الإنجليز بوجوب الجلاء عن مصر فورا , لأن مصر الدولة المستقلة لا ترضى عن وجود هذه الجيوش الآجنبية على أراضيها , وإذا انقضت مدة الإنذارولم يجل الإنجليز عن مصر فعلى الحكومة المصرية أن تعلن الحرب على انجلترا حربا يشترك فيها الشعب بأسره بقواته الرسمية من جيوش وبوليس وقواته المدنية الممثلة في الثلاثين مليونا التي يتآلف منها سكان وادي النيل من منبعه إلى مصبه "

أما عن نوعية هذه الحرب فلقد اقترح أن تكون حرب عصابات أو فدائية " لن تكون حرب ميدان لأن الإنجليز سيتابعوننا في كل مكان ولكنها ستكون حرب مقاومة كهذه المقاومات التي قامت بها الشعوب الممثلة للإحتلال الألماني "

إلا أنه بعد أن فشلت المفاوضات أذاع رئيس الحزب بيانا يتهم فيه المفاوضين بالخيانة الوطنية " يرى حزب " " مصر الفتاة " أن الإستمرار في هذه المفاوضات بكل الوسائل التي توصلها إلى تحقيق هذا الغرض "

وإذا كان أحمد حسين قد نادى بأن تعرض قضية مصر على مجلس الأمن وعندها ستنال كل ما تريد فإنه قد عاد وقال أنه يطالب بعرض القضية على هيئة الأمم المتحدة بدل من مجلس الأمن وعلل ذلك " بأن قرار يؤخذ من هيئة الأمم المتحدة التي تجمع بين صفوفها خمسة وخمسون دولة هم أعضاء الجمعية العمومية فهو قرار غير ملزم لأي دولة إلا إذا رأت أن تتحدى الرأي العام العالمي "

ولقد حدد مطالب مصر التي ستقدمها إلى الجمعية العمومية بأنها مطلب واحد " هو الجلاء عن وادي النيل مصره وسودانه على أن يسبق ذلك إلغاء سنة 1899 , سنة 1936 " ثم طالب بأن يتكون الوفد الذى سيعرض القضية من الكفاءات المختارة من مختلف الأحزاب ومن بينها أيضا الوفد السودانى حتى يكون ممثلا لوادى النيل بأكمله " وفى ختام بيانه نادى الحزب " بالإستعداد للجهاد مهما تكن فلن تغير موقف الأمة من أمانيها حتى تتحقق كاملة بهذا يجب أن يتهيأ الشعب إلى مختلف الإحتمالات ليكون على أهبة الإستعداد إذ أن قضيتنا لن تحل إلا بأيدينا"

وبالرغم من كل تلك القرارات المتناقضة والنهج الغير محدد وبالرغم من دعوته لعرض القضية على هيئة الأمم , فإن الحكومة والأحزاب الأخرى اتفقت على عرض قضيتها على مجلس الأمن , وبالفعل سافر أحمد حسين إلى أمريكا وقضى خمسة أشهر وعاد دون أن ينظر عرضها وأن كان قد أتى بقرارات أهمها أن حل قضية مصر لن يكون إلا داخل القاهرة عدت من أمريكا دون انتظار عرض قضية مصر على مجلس الأمن لأننى كنت قد اكتشفت بعد خمسة أشهر قضيتها فى نيويورك وفى هيئة الأمم المتحدة.

إن قضية مصر ستحل فى القاهرة لا فى أمريكا وأن الدماء المصرية والتى سترفع لواء المجد " لا تقولوا إننا لم نستفد شيئا من عرض قضيتنا على مجلس الأمن فلأول مرة فى التاريخ الحديث تحدينا انجلترا فى مجتمع دولى " , " إن مصر لن تعود إلى المفاوضة مع انجلترا ولن ترضى بأى قيد ولا مبرر للإنجليز أن يجلو عن وادى النيل بدون قيد أو شرط , هكذا قالت الأمة بمختلف أحزابها وهيئاتها التى أعلنت هنا باسم الشعب أننا لن نرض العودة إلى المفاوضات " .

وفى موضع ثان أبان أحمد حسين تناقضه وفاشسيته صراحة فبعد أن هلل لدخول مصر مؤتمر " سان فرانسسكو " أذاع " أنه لا فائدة من هيئاتها التى أعلنت هنا باسم الشعب أننا لن نرض العودة إلى المفاوضات " .

"وأعدوا لهم ما استطعتم من قوة " ... " سوف يصبح أقوام بعد سماعهم كلامى هذا قائلين ما هذا التبشير بفلسفة القوة وسياسة القوة إنها عودة إلى التعالم الفاشستية وأريد أن أعلن هنا ومن فوق هذا المنبر لن نسمح لأحد بعد اليوم أن يخيفنا بهذه التهمة , تهمة الفاشية فإننى أعلن للدنيا أننى أول الفاشست حتى يخرج الإنجليز من بيوتنا وذلك لن يتم بعد اليوم بالظاهرات تسير فى الشوارع فقد راح زمن المظاهرات وانقضى ولست ضد المظاهرات بل إلى العكس إننا من أشد أنصارها لأنها وسيلة لإظهار إجماع الأمة وانعقاد عزمها على منهج سبيل معين " .

ولقد عقب مصرحا بأنه لابد من معاقبة انجلترا بإعلان بطلان معاهدة سنة 1899 , وسنة 1936 وكذلك مقاطعتها اقتصاديا وأدبيا مع العناية بتقوية الجيش .

هذا ولقد أرسلت مصرالفتاة مندوبا عنها هو " حسين حمدى " للدعاية من أجل القضية الوطنية وتوضيح وجهة نظر الحزب فيها , ولقد عاد بحقيقة أذاعها على الملأ فحواها " أنه لابد أن يؤمن كل مصرى أنه لا سبيل إلى إجلاء الإنجليز واتحاد النيل جنوبه وشماله تحت تاج واحد إلا إذا توفرت القوة المحاربة التى تخرج بها الإنجليز عن مصر "

إلا أنه مع مطلع الخمسينات تغير اسم حزب مصر الفتاة إلى الحزب الإشتراكى وعلى أثر ذلك أعلنت الجمعية التأسيسية عدة قرارات أهمها المناداة بمبدأ الحياد عن الكتلتين الشرقية والغربية وعدم دخول أية حرب والمناداة أيضا بضرورة تقوية الجيش وإقامة مصانع للذخيرة والمؤن العسكرية حتى مصر " ترى الهيئة وجوب العمل على إجلاء الإنجليز عن منطقة قنال السويس والسودان واتخاذ الإجراءات التى تؤدى لهذاالجلاء باعتبار الإنجليز أعداء مصر ظلوا يحتلون شبرا من أرض الوادى.

كما ترى الجمعية أن مصر يجب أن تلزم الحياد المسلح فى أى حرب تقوم بين الكتلتين الشرقية والغربية فلا تسمح بأن تتخذ أراضيها قاعدة للهجوم على أحد الطرفين ولاتحارب إلا اذا اعتدى على حقوقها كدولة مستقلة تنضم أوتوكاتيكيا إلى الطرف الآخر.

كما ترى الجمعية أن واجب مصر أن تلتزم سياسة الصداقة والتعاون مع كل الدول الراغبة فى التعاون معها واحترام سيادتها دون تفريق بين نظم الدول الداخلية , كما ترى الجمعية أن قوة مصر العسكرية وتدعيمها فى البحر والجو هى أساس سيادتها وحق استقلالها لن يكون أى قيمة فعالة ما لم تعتمد على الإنتاج المحلى للأسلحة والذخائر والطائرات والدبابات والمدافع وبقية مهمات الجيش.

ولذلك فهى تستحث الحكومة بالإسراع بإنشاء مصانع الحديد والصلب باعتبارها حجر الزاوية فى قوتها العسكرية , وكل تقصير وتقاعس فى إنشاء هذه المصانع هو بمثابة إهدار للإستقلال وأن كل نفقة أو جهد يبذلان فى غير هذا السبيل هى نفقة وجهد ضائعان " .

خلاصة الموقف غذن أن المفاوضة هى الأداة التى استخدمتها الأحزاب المصرية فى إرادة العلاقات المصرية البريطانية ووضعها على أساس يحقق لمصر أمانيها القومية والمفاوضة أخذ وعطاء فكان هم المفاوض المصرى ألا يعطى انجلترا ما يتنافى مع جوهر الإستقلال وقد اختارت الحكومة الإنجليزية أيضا المفاوضة كأداة تحقق اعتراضها التى من أجلها احتلت مصر فكان هم المفاوض الإنجليز أن يوفق كل التوفيق فيما يمس المصالح التى أودعتها بلاده نفسها فالمفاوضة إذن وسيلة لتنظيم العلاقة بين مصر وانجلترا " .

كان ذلك اسلوب الحكومات المصرية وبعض الأحزاب , إلا أن " مصر الفتاة " كانت لا تؤمن بهذا الأسلوب فهى تسعى لخلق جيل جديد قوى يستطيع أن يكره الإنجليز على الجلاء عن البلاد ويعيد السودان لمصر .

ولقد ظل ذلك هو منهاج " مصر الفتاة " وزادت عليه بعد ذلك بأن جهرت أن الإنجليز أعداء طبيعيون , لا يضمرون لمصر إلا الويل والفناء وكذلك لأنهم أقوياء ونحن ضعفاء وسنة الحياة أن يلتهم القوى الضعيف , وقضيتنا مع الإنجليز لا تحل إلا بالحديد والنار أى بمعنى آخر لا تحل بالقوة , ولكن حديث القوة فى مصر يبدوا غريب الآن , هذا ولقد أعلنت " مصر الفتاة دائما أن أغراضها مقاومة الإنجليز ومحاربة الحزبية ونيل الإستقلال بالقوة المسلحة " .

وفى الحقيقة لم يكن إيمان الفتاة بمبدأ القوة وليد الساعة إنما نشأ وتكون وبرز منذ بداية ظهورها ولعل تشكيلات القمصان الخضراء وتوالى دعوتها أملا فى أن يصل حجم هذه التشكيلات إلى المستوى المطلوب الذى يمكنها من تحقيق أهدافها لخير دليل على ذلك بالإضافة إلى مبدأ القوة الذى اعتنقه رئيس الحزب ورجاله لابد وأن يكون مستوحاه من التجربة الفاشية فى إيطاليا والتجربة النازية فى المانيا ,إذ طالما أشاد بها رئيس الحزب " أحمد حسين " سواء فى خطبه أو كتاباته وظل يستخدم نفس المنهج تقريبا بالإضافة إلى تركيزه على دور وأهمية الشباب .

أجمع اليسار المصرى على مختلف أجنحته أنه لا استقلال بلا ديمقراطية وأنه يتسنى عليهم إذن الكفاح من أجل الهدفين فى وقت واحد " إن مسألتنا الآن هى الإستقلال ثم عرض لأهمية الديمقراطية فى كفاحنا الوطنى حيث تكون منه " العمود الفقرى " ولهذا يكون تدعيمها تدعيما لنضالنا من أجل الإستقلال ويكون ضربها معاونة للإستعمار الأجنبى وأظهر فى جلاء أن " الوطنية والديمقراطية يكونان وحدة لا تتجزأ " بل أنهم يسيرون إلى أبعد من ذلك محددين العلاقة الجوهرية بين نشر الديمقراطية فى مصر وبين رفع مستوى الطبقات الشعبية وتشجيع المنظمات الديمقراطية . كنقابات العمال .

إن أكبر عدو وأخطره للديمقراطية فى مصر هو الإستعمار الأجنبى ويرجع ذلك إلى أن الإستعمار لم يقيد وطننا بقيوده الأخطبوطية إلا لاستغلال ثلاوتنا القومية واستنزاف جهود شعبنا وذكائه من أجل مصلحة الرأسماليين الأجانب لتحقيق هذا الهدف الدموى من جانبنا يساعد على إفساح المجال فى بلادنا أمام الرأى الأجنبى الذى ينطلق بعد ذلك يحارب الرأسمال الوطنى ويعتصر الشعب .

فيترتب على هذا عدم نهوض صناعتنا الوطنية " ثم استطرد الكاتب يوضح أساليب الإستعمار فى القضاء على وسائلنا فى تدعيم الديمقراطية " يعمل الإستعمار الأجنبى فى تدعيم استقلاله لبلادنا ثم محاربة الديمقراطية عندنا سرا أن علانية حتى يضمن بذلك عدم ارتفاع صوت الشعب مناديا بحقه فى الحرية والإستقلال كما نراه يحارب المطالب الديمقراطية التى تقتضى تعليم الشباب وترفع مستوى معيشتهم ومكافحة الأمراض المنتشرة بين أبنائه وذلك لسببين :

أولا : لأن تحقيق هذه المطالب الديمقراطية تقتضى أن تضع الدول يدها على الإحتكارات الأجنبية والرأسمال الأجنبى الضخم الموجود فى بلادنا والنهوض بحركتنا القومية – الصناعية والتجارية وغيرها – نهضة قوية لا يمكن أن تكون إلا على حساب الوجود الإستعمارى .

ثانيا : لأن انتفاع الشعب بالديمقراطية يترتب عليه تقوية واشتداد ساعده فى مضمار الكفاح الوطنى , ولا يحرص الإستعمار الأجنبى بداهة على بقاء استغلاله والإستمرار فى زيادته ثم عدم السماح بازدياد قوة الحركة الوطنية .

بل أن هدفه الدائم هو إضعافها , إن لم يكن القضاء عليها القضاء المبرم , ومن هنا كان موقف الإستعمار الأجنبى من الديمقراطية فى مصر هو دائما أبدا موقف الخصومة والعداء .

عموما لقد نشأ نوع من الالتقاء الفكرى بين الفجر الجديد والوفد لذلك حرص أحد كتابها على إبراز سبب ذلك اللقاء وإنهائه على اعتبار أن الوفد نصير للديمقراطية .لقد كان الوفد منذ نشأته القائد للكفاح الوطني الديمقراطي .

فالوفد هو الذي تزعم تحت قيادة سعد زغلول النهضة الوطنية الديمقراطية سنة 1919 وهو الذي أنطلق بعد ذلك يقود الحركة الوطنية بتدعيم الديمقراطية ويبدو عمل الوفد في الكفاح الوطني الديمقراطي ممثلا في جانبين :

أولهما : الحرص على الدستور والنظام البرلماني ومحاولة تدعيم قواعدها وأيضا في سلسلة المشروعات الديمقراطية الإصلاحية التي حققها الوفد في فترات حكمه ل[مصر]] .ولعل الإصلاحات التي قام بها في فترة حكمه الأخيرة هي أهم الأعمال الديمقراطية التي حاول القيام بها في الميدان الإقتصادي والإجتماعي.

ثانيهما : أما الجانب الثاني الذي يبدو فيه عمل الوفد في الكفاح الديمقراطي – الوطني هو مناهضة أغلبية خصوم الديمقراطية ومحاربتهم وموقفهم من الإستعمار الأجنبي والحيولة بينه وبين التمادي في العدوان على حقوقها الوطنية والديمقراطية.كانت إذا تلك بإختصار قصور جناح من اليسار للوفد وديمقراطيته وإن كانوا بالرغم من ذلك يعتقدون أنها ليست بالديمقراطية الكاملة المطلوبة .

إذا أمعنا النظر في ديمقراطية الوفد بوجه عام غير أنها تقف عند حدود معينة ليست هي الحدود التي تتطلبها الديمقراطية في الوقت الراهن ويعزى ذلك لسببين :

الأول : طبيعة تكوين الحزب نفسه فعلى الرغم من تأييد غالبية الشعب له إلا أن قيادته لا تمثله تمثيلا حقيقيا صادقا حين تختلف الطوائف وتخص بالذكر طبقة العمال والفلاحين الإجراء وطائفة الطليعة الديمقراطية من المثقفين المصريين.

الثاني : وجود عناصر في صفوف الوفد يقل اقتناعها بالديمقراطية عن قدر اقتناع الأغلبية وتنعكس قلة ديمقراطيتها من حين لآخر على بعض أعمال الوفد ويبدو ذلك من عدم وقوفها الموقف الديمقراطي الحازم من حقوق الديمقراطية أجانب كانوا أو مصريين.

ولقد كانت الفجر الجديد تؤيد إلى حد ما موقف الوفد إلا أنها قد " شددت – الهجوم على جماعة مصر الفتاة والإخوان بالذات ولسنا نعتقد أن في ذلك شيئا ملفتا للنظر فهو مسألة طبيعية كما سبق شرحه .

أما عن المذكرة التي أدلتها الحكومة المصرية إلى بريطانيا بشأن الجلاء فلقد كان لأحد كادرات الفجر الجديد " صادق سعد " رأي أشمل للجلاء مطالبا بألا يقتصر على الجلاء السياسي بل لابد أن يكون جلاء اقتصادي وسياسيا وأن تؤيد الطبقات الشعبية العمال والفلاحين والبورجوازيين الصغار في نضالها الديمقراطي لأنها هي التي حققت انتصاراتنا الوطنية والديمقراطية المختلفة وهي التي تخلص لكفاحنا التحرير ضد الإستعمار وقد بدأت راية الكفاح تنتقل إلى يدها .

ولقد طالب اليسار بأن يختار من سيمثل مصر في مجلس الأمن لا في منظمة الأمم المتحدة ثم كان اليسار يرفض بشدة مبدأ المفاوضات موضحين قيمة وحجم الحركة الشعبية وكيف أنها بقادرة على التحدي للإستعمار " أن الحركة الشعبية التي تنهض الآن تطالب برفض المفاوضات الثنائية الفاشلة حتما وتلح ألا يكون تمثيل مصر في منظمة الأمم المتحدة , ومن باب أولى عضويتها في مجلس الأمن تمثيلا صوريا لا يفيد إلا الإستعمار البريطاني والرجيعة العالمية وأن الطبقات الشعبية تطلب بكشف المناورات الإستعمارية البريطانية في وقتها المناسب أمام الرأي العام العالمي الحر.

وفي دعوة صريحة إلى دولية الوطنية نادو "أننا نؤمن أن قضيتنا الوطنية التى يمكن حلها بمعزل عن التطورات العلمية بمنىء عن القيادات التي العالم الآن وإن كان الإستعمار قويا في مصر فإنه ليس كذلك أجزاء كثيرة من العالم .حيث الشعوب تهب لاسترداد حقوقها أن بين الدول العظمى ذاتها من ينادي بتحقيق المواثيق التي قامت أثناء الحرب .

بل أن الإتحاد السوفيتي يعلن عن طريق ممثليه الدبلوماسيين أنه يؤيد استقلال لبنان ولا يوافق على الإتفاق الفرنسي الإنجليزي الذي هو محاولة من محاولات الإستعمار العالمي المنهار .وأنه يشد بعضه أزر بعض ويطالب بجلاء الجنود البريطانيين عن وفلسطين .وفي دعوة صريحة بالإستقلال والتحرر .

والحفاظ على الديمقراطية كأساس للتخلص من الإستعمار نادت الفجر الجديد بالتحرر الكامل من الإستعمار والديمقراطية الصحيحة التي لا تجوع الفلاحين ولا تغبن الموظفين الصغار بالديمقراطية التي لاترسل المثقفين الأحرار إلى غياهب السجون .

والتي لا تواجه الحركات العمالية الشريفة بالدبابات والقوات المسلحة .علينا أن نثق بشعبنا وبقواته الكامنة الواسعة .وبإدراكه العميق لمصالحه ومصالح الأمة وللحقيقة توجد الآن إمكانيات واسعة للنضال في سبيل الإنتفاض على الاستعمار .وفي سبيل إيجاد حياة لائقة كريمة لشعبنا العزيز فلنمد إليه يدنا في كفاحه .

هذا ولقد حدد اليسار المطالب القومية كما ذكرتها جريدة " الديلي وركر "

أنها تنحصر في :

  1. سحب الجيوش البريطانية والأجنبية من والسودان
  2. الإستغناء عن كل الموظفين الأجانب ومعظمهم من الإنجليز الموجودين في الإدارة والجيش والبوليس .
  3. إلغاء المحالفة البريطانية المصرية القائمة سنة 1936 .
  4. إستقلال وادي النيل وإقامة اتحاد بين مصر والسودان .

ولقد أضافوا تحليلا للأهداف الشعبية للمصريين .

أن هدف الشعب المصري سحق الإستعمار .وتدمير أساليبه الإجتماعية والإقتصادية والسياسية والدليل على ذلك :

  1. أن بريطانيا لا يمكن أن تتبرأ من مسئولية هذه الحالة الراهنة .فقد حكمت مصر مباشرة خمسة وأربعين عاما .ثم حكمت مصر خلال وزارات أهلية مدة عشرين عاما .
  2. ليس صحيحا أنه لايوجد في مصر جانب متقدم ففي سنة 1942 عندما كان روميل يهدد بزحفه كانت حكومة الوفد تدبر الأمور وتؤيد الديمقراطية وأنشأت هذه الحكومة عددا من الإصلاحات الشعبية فخفضت الضرائب العقارية على صغار الملاك .

واعترفت بالنقابات ووضعت حدا أدنى للأجور وبأت بحملة واسعة ضد الأمية وفتحت العلاقات السياسية مع الإتحاد السوفيتي .فلما تحقق الإنتصار على الفاشية أقيلت الوزارة الوفدية بوحي من بريطانيا . خلاصة الموقف إذن أن الجرائد الإستعمارية تريد أن تعتقد أن الحركة الوطنية ليست حركة الجماهير الشعبية .

إنما هي إطاء الطبقة الحاكمة لتمد نطاقها وهذا الإدعاء باطل لأن الحركة الوطنية قائمة الآن على الطلبة والعمال .والعمال قد بدؤا يلعبون دورا وطنيا تاريخيا مستقلين عن سيطرة كبار الملاك والرأسمالية .

وفي تحليل طريف للفوائد التي ستعود على مصر من عرض قضيتها على مجلس الأمن ذكر سعيد خيال – أحد كادرات اليسار - أن قضيتنا تتكون من مطالب ثلاثة :

الأول: هو الجلاء برا وبحرا وجوا هذا مطلب إيجابي واضح أما المطلبان الآخران فهو الامتناع عن عقد محالفة مع بريطانيا الإستعمارية .والإمتناع عن منحها المركز الممتاز وبهذا يتم الإستقلال الصحيح .

ثم استطرد مكاسب مصر من عرض قضيتها على مجلس الأمن بأنها " كشف الإستعمار البريطاني وفضحه وتشجيع القوى الوطنية في المستعمرات على مواثيقه للقضاء عليه كما سيتضح للجميع مدى تأييد الدول الآخرى لنا .ثم القضاء على كل محاولة للتكتل مع الإستعمار – وبالتالي تحقق الإمتناع عن المماطلة .ومنح المركز الممتاز والمشاركة أيضا وفي هذا تدعيم للتعاون الدولي وتنظيمه .

كذلك ضمان العلانية فيتمكن الشعب من متابعة القضية ومراقبة تطورها في أسسها وأخيرا فنحن على ثقة من أن استقلالنا لن يتحقق إلا بالكفاح .وأن عرض القضية على المجلس عمل كفاحي لا تقدم عليه حكومة إلا إذا جاهرت بالعداء للإستعمار البريطاني ".

وفي تعليق ساخر للفجر الجديد حول قصر وفشل المفاوضات وعدم إيفائها مطلقا بما تتطلبه الجماهير الشعبية قالت "إن الإستعمار البريطانيا عدو الحركة الوطنية المصرية لا صديقها وأن المعاهدات القديمة أو الجديدة بين مصر وبريطنيا يجب أن تكون نصير لكفاحنا لا أن تكون سببا للضغط علينا ولاستبدادنا ثم أن القيادة الوطنية الصحيحة يجب أن تكون متصلة بالجماهير أشد الاتصال .

وأن تعبر عن مطالب الطبقات الشعبية لا أن تفقدها وتشل منظامتها وهيئاتها ولذلك تقول أن المفاوضات الحالية ليست في صالح الحركة الوطنية في شيء .

بالرغم من أن انصافا للحق كان حجم الحركة الشعبية والنشاط العمالي والطلابي في أوجه تجاه المستعمر الغاشم إلا أنه أيضا وبالضرورة لابد من التلويح إلى مدى وقوة ونفوذ القوات المحتلة البريطانية لعل البحث الطريف الذي ذكرته مجلة " دي وركر " الأمريكية وكذلك مجلة " ورلد نيوز آندنيوز " الإنجليزية بحث عن مدى قوة النفوذ البريطاني في مصر في عام 1946 وأيضا تقييم لحجم المطالب في أنها " تمثل سيطرة بريطنيا على مصر في عدة وجوه

أولها القوة العسكرية الكبيرة التي تنتشر في عدة أجزاء من البلاد وبخاصة في منطقة القنال والسودان .

وثانيهما الدين الذي يتراكم لمصر على بريطانيا أثناء الحرب العالمية والذي يقدر 40.مليون جنيه استرليني وهذا الدين يمكن المالية البريطانية من السيطرة على تجارة مصر والمعروف أن جزءا من هذا الدين يمكن يمكن تحويله إلى إلى بضائع أمريكية .ولما كانت بريطانيا لا تستطيع إمداد مصر .

الوجه الثالث لسيطرة بريطانيا من تلك المناصب الرئيسية في البلاد التي التي يشغلها بريطانيون في جهاز الدولة من البوليس والرقابة والجيش والمالية والتعليم والزراعة وإنتاج القطن الوجه الرابع تدخل بريطانيا فى تعيين الوزارات وإسقاطها وتطالب مصر بتعديل المعاهدة الإنجليزية لها أن تستقل سياسيا واقتصاديا .

وأن تنمى مواردها . ويردي الشعب المصرى حكومة شعبية وديمقراطية تستطيع أن تكيب له استقلالا . ومن الواضح أن الإضطرابات التى قامت فى مصر أخيرا . بأنه توجد حركة وطنية قومية لا يمكن وقفها بل أن حقها سيزيد من حدتها . وفى سبيل طرد المستعمرين البريطانيون من مصر .

يربط الشعب المصرى بين قضيته وقضية الشعب السودانى ويريد المتقدمون تكتيل الشعب فى وجه الإستعمار حتى يجلوا عن وادى النيل كله وبعدها تقوم فى السودان حكومة سودانية ديمقراطية تحدد نوع علاقتها مع مصر " .

ولما عقد صدقى معاهدته مع بيفن ثار اليسار المصرى معلنا رفضه لباقى الأحزاب – مطالبا بعدم التقيد بعا . " أننا نؤيد كل معاهدة أو تآلف تستهدف تحرير بلادنا من الإستعمار وتستهدف تحقيق الجلاء التام الشامل الحقيقى لا الجلاء الشامل لصدقى . الجلاء الذى لا تشمله التزامات أو تحفظات .

إننا نرفض نتائج هذه المفاوضات فهذه طلائعها عليها ونتوجه بالنداء إلى نواب الأمة وشيوخها إلى صحافها ومفكرين إلى عمالها وفلاحيها أن يقاوموا كل محاولة ترمى إلى جعل مصر مستودعا للإستعمار اللبريطانى .نحن نهيب بالمواطنين أن يتنبهوا إلى الموقف الدقيق الذى تحويه بلادنا وليعطوا الحرية لشعبنا كاملة وديمقراطية حقيقية " .

نادى اليساريون بضرورة التخلص من وزارة صدقى نظرا للإتفاقية الضارة التى عقدوها من جهة ولتقييدهم حرية الصحافة التى هى الوسيلة الهامة فى الكفاح من أجل التخلص من الإستعمار " إن اضطهاد صدقى لحرية الصحافة المعارضة ركن من أركان سياسة الإرهاب والعدوان وكبت الحريات والديمقراطية والحركة الوطنية وتكبيل وطننا بمشروع الحماية الجديد مشروع صدقى – بيفن .

والزوال العاجل للنظام الحاضر شرط أساسى لتحقيق حرية الصحافة وتقدم نضال شعبنا ضد الإستعمار فى سبيل الحرية والديمقراطية والإستقلال " .

وعندما أذاع الوفد الشهير فى 13 مايو سنة 1947 يرفض فيه التقييد بالمعاهدة .

فما كان من اليسار أن هلل وبارك تلك الخطوة لمطابقتها لمتطلباتهم ونفس موقفهم من المعاهدة الصدقية " أصدر الوفد بيانا فى 13 مايو حول المفاوضات عارض فيه بيان السفارة البريطانية .

وتلك الخطب المتبادلة بشأن المفاوضة وجدد موقفه منه . والأسس التى تجرى عليها الآن أعلن أنه لا يرتبط بنتائجها . وعلى أثر تلك النقابات الرافضة للمعاهدة الصدقية من جهة والمطالبة بالتخلص من ذات الوزارة لا من قبل اليساريين فقط بل من قبل كل التيارات الليبرالية والدينية والفاشية .

انتهز صدقى تلك الفرصة وأعلن أنه يكافح الشيوعيين وأصدر قراراته الشهيرة بمقاومة الشيوعية بمنشورات سنة 1946 . ولم يقف اليساريون مكتوفى الأيدى بل أصدروا بيانا باسم العمال والفلاحين يطلبون التخلص من تلك القوانين والمفاوضات على السواء . " فليعلن العمال فليعلن الشعب وجوب زوال العهد الحاضر , واستفتاء الشعب .

حتى يتحقق لمصر حرية واستقلال قبل أن نتخلص من هذا النظام ولتقف الحركة العمالية . فى طليعة الشعب المناضل فى سبيل إلغاء القوانين الرجعية ومحو مشروع صدقى – بيفن وخاصة المعاهدات السابقة مع الإستعمار , ولتبقى الحركة العمالية قوى الشعب الحية للحيلولة دون استئناف المفاوضات ولنتمسك بعرض القضية والجلاء التام فورا عن وادى النيل فورا دون تحالف عسكرى على مجلس الأمن .

ولقد اشادت الجماهير بضرورة إيجاد تحالف بين الطبقات العمالية والوفد على أساس أنها ضرورة تفرضها الظروف الحاضرة وأن الشعب سيكسب من هذا التحالف الكبير . " وزوال حكومة صدقى . لا لتحقيق الديمقراطية . وللقضاء على الفاشية .

ثم لتحقيق الجلاء عن " وادى النيل " إن تكوين جبهة قوية من حزب الطليعة العمالية والوفد . إنما يعطس ويعبر عن أمانى الملايين من العمال والفلاحين ويقوى وحدة الشعب فى الكفاح من أجل الحرية والديمقراطية والإستقلال .

وفى نداء لأحد أقطاب اليسار ( شهدى عطية الشافعى ) نرى أن مدلول الإستقلال لا يقتصر على التخلص من النفوذ العسكرى فقط للإنجليز إنما يتخطاه إلى المطالبة أيضا بضرورة التخلص من أشكال الإستعمار كافة سواء السياسى منها أو الإقتصادى بالإضافة إلى الشكل العسكرى .

" إن المناداة بالتحرر من الإستعمار عسكريا وسياسيا واقتصاديا إنما هو نداء استراتيجى . أى أنه نداء استمر أعواما طالما كان هناك احتلالا عسكريا جزئيا كان أو كليا لوادى النيل . وطالما بقيت السيطرة الإقتصادية والسياسية للإستعمار سواء فى شكل قيود أو محالفات تجارية أو عسكرية .

هذا ولقد حاول اليسار المصرى إرسال مندوب له " وهو عبد المعبود الجبيلى " للدعاية للقضية الوطنية وللتعبير عن آرائهم تجاهها فى مجلس الأمن إلا أنه لم يستطيع تحقيق ذلك نظرا لوجود اسمه ضمن قائمة الممنوعين من السفر التى أعدتها الحكومة الصدقية .

وفى الواقع وإنصافا للحق فقد علت اصوات كثير من مختلف الأحزاب وممثلة لمختلف التيارات والأفكار تطالب بالإستقلال التام ونظمت المظاهرات السلمية فى يوم ذكرى احتلال البلاد فى الحادى عشر من يوليو سنة 1947 .

غذ طالب الشباب الوفدى من حكومة صدقى أن تنسحب البعثة التى أوفدتها إلى لندن للإشتراك فى احتفالات النصر هناك كإحدى المستعمرات , وفى ذات الوقت أقر كل من الوفد والكتلة والحزب الوطنى وكل الأحزاب يوم 11 يوليو والقيام بمظاهرات وتخليدا لذكرى هذا اليوم المشؤوم يوم أن خرجت المدافع البريطانية فاستعبدت شعبنا منذ 46 عاما.

وعلقت الفجر الجديد تقول " إن سمعة مصر ملوثة ما بقى الإنجليز فى بلادنا وما عشنا مستعمرين مستهلكين .كذلك كتبت " أم درمان " فليكن شعارنا وادى النيل لأهله أبعدوا عن مصر والسودان . ونشرت " دار الأبحاث العلمية " تصريح تريد أن نخرج الكابوس الذى جثم علينا أكثر من نصف قرن وذلك بالجلاء النهائى .

كما نريد التخلص من كل قيد اقتصادى أوعسكرى يحد من تمتعنا الكامل بالإستقلال ." إن أهم أهدافنا الوطنية رفع المستوى الإجتماعى للكادحين وعدم حصرها فى مهاترات كلامية " إن قضية الإستقلال ليست مجرد ألفاظ جوفاء . إنما هو استقلال يسعى ويعمل على رفع مستوى المعيشة للجماهير .

هذا ولقد أذاعت الحركة الديمقراطية للتحرر الوطنى " حديتو " بيانا على الشعب بمناسبة عرض القضية على مجلس الأمن . حدد فيه مطلب اليسار المصرى أثناء الإتحاد الذى تكون كما سبق شرحه قائلة " فلتسمعوا العالم صوتكم مدويا إن مطلبكم هو لجلاء التام فورا عن وادى النيل دون قيد أو شرط دون أى تحالف مع الإستعمار ولتعلنوا رفضكم التام لمشروع صدقى – بيفن .

ولتعلنوا إصراركم على إلغاء معاهدة سنة 1936 واتفاقية 1899 ولتنشئوا كفاحا لا يلين على المستعمرين وأذنابهم حتى تطهروا وادى النيل من كل أثر من آثار الإستعمار ليسقط الإستعمار وأذنابه .

وليسقط مشروع صدقى بيفن . كفاح مصر والسودان فى سبيل الحرية والديمقراطية "

ولقد أوضح اليساريون إن الكفاح ضد الإستعمار إنما هو أيضا كفاح من أجل البقاء من أجل حياة أفضل ومستقبل أهنأ للعمال والفلاحين ولن يتأتى ذلك إلا بتقوية الجيش المصرى وإعداده للنضال ضد المستعمرين .

إن كفاح الطلبة والعمال والفلاحين ضد المستعمرلهو كفاح فى سبيل لقمة العيش . فى سبيل مستقبل أسعد .وهذه الطنطنة حول الجيش . أهى دعوة مخلصة ؟ عن تحديد تقوية الجيش ولكننا نيد جيشا يحارب الإستعمار البريطانيى نريد الشعب كله جيشا مسلحا للكفاح ضد الإستعمار.

" إن الشعب الذى يرفض كل مفاوضة أو تحالف يستطيع أن يضغط على النقراشى لينهج سياسة إيجابية ضد بريطانيا بإعلان بطلان معاهدة سنة 1936 .

وإقرار إنجلترا بالجلاء وأن تمنع تموين قواتها ببلادنا وبإطلاق الحرية للشعب أن يحمل السلاح ويعد نفسه لطرد المستعمر . لن نرضى أن نخسر قضيتنا مرة أخرى فى نطاق ثنائى بيننا وبين المستعمر .

وفى الحقيقة لقد ازدادت حدة النداءات اليسارية الداعية للكفاح وكانت الدعوى الصريحة التى توجه بها " محمود النبوى" من أجل النضال المسلح على اعتبار أنها الوسيلة الوحية التى على الشعب أن يخوضها ضد بريطانيا بعد أن فشلت كل الطرق السلمية من مظاهرات ومفاوضات وخلافه

" يا أيها المواطنون : إن كفاحكم وحده هو الكفيل بتحقيق الحرية والإستقلال فكونوا اللجان الوطنية فى المصانع والمدارس والقرى والأحياء . ولتنظموا الكتائب الوطنية للتحضير للكفاح الإيجابى ضد الإستعمار .لقد دق ناقوس الجهاد من أجل وادى النيل ومستقبله "

زاد اليسار اقتناع بأن النضال الشعبى المسلح هو الطريق الواع والواقعى فلا مفر من اللجوء إليه " لم يبق أمامنا سوى أن نخاطب الإستعمار باللغة التى يفهمها وهى لغة القوة والعنف هى لغة الكفاح الكامل .

وهى أن يهب الشعب الآن صفا واحدا فى جبهة وطنية تضم جميع العناصر الوطنية أيا كان لونها السياسى أو الحزبى . ما دامت هى على استعداد لأن تخوض معركة رهيبة قاسية دامية لطرد الإستعمار .

وفى الواقع أن اليساريين اعتقدوا تماما أن التخلص من الفاشية ومقاومتها إنما هو نفس الخط ونفس المسار الذى لابد أن يتبع اثناء مقاومة الإستعمار لذلك لابد أن يؤخذ الفاشيون ويعاملوا بلا هوادة حتى ينسف مقاومة الإستعمار من منطلق . إن وجود الفاشية إنما هو تثبيت وتشجيع بقاء الإستعمار .

إن كفاحنا ضد الفاشية جزء لا يتجزأ من كفاحنا ضد الإستعمار وأعوانه وكل ضربة توجهها إلى الفاشية هى ضربة توجه ضد الإستعمار .

لقد آن للأحزاب والهيئات الديمقراطية المعادية للإستعمار والفاشية أن يدركوا أن دستورنا فى خطر وحريتنا فى خطر وحياتنا فى خطر وأنه ليس أمامنا سوى طريق واحد هو أن تتكتل جميع العناصر الوطنية المعادية للإستعمار فى جبهة واحدة قوية لتطير الوطن من الإستعمار وأذنابه من الرجعيين والفاشيين .

كانت هذه وبالتحديد نماذج لمواقف اليسار من القضية الوطنية .

ولقد عادوا إلى تأكيدها عندما تولت حكومة الوفد الأخيرة فى الخمسينات وعلقوا آمال عراض على تلك الحكومة خاصة بعد أن وجدوا صدى واستجابة لمطلبهم والأحزاب الأخرى بضرورة إلغاء المعاهدة البريطانية المصرية بعد استنفاد آثارها .

وفى بيان من الحكومة الديمقراطية لتتحرر الوطنى والتنظيمات الشيوعية فى 14 أبريل سنة 1951 من أساتذة وشباب وكتاب أحرار من مختلف التنظيمات أعلنوا هذا الميثاق الوطنى :

أولا : رفض أية معاهدة أو تحالف أو دفاع مشترك فى أية صورة من صور التعاقد مع الإستعمار الأنجلو أمريكى أو التحالف الثنائى إكتفاء بميثاق الأمم المتحدة .

ثانيا : تدعيم الكفاح المشترك بين المصريين والسودانيين من أجل القضاء الكامل من براثن الإستعمار والإحتجاج على سياسة الحاكم العام " فى السودان " والمطالبة بإلغاء قانون الطوارىء والحكم العرفى فى السودان .

ثالثا: الإعتداء على الحريات العامة .

حرية الصحافة والرأى والإحتجاج .

رابعا : رفض الهيئة التى أقامها الإستعمار لتوطيد أقدامه ولمحاربة الوطنيين الأحرار وهى البوليس السياسى .

كما أعلن الميثاق والنضال من أجل :

  1. قطع المفاوضات فورا .
  2. نصرة قضية الإسلام وتأييد جميع المناضلين من أجله .
  3. تطهير البلاد من الجاسوسية بإلغاء البوليس السياسى .
  4. إلغاء الأحكام الصادرة فى القضايا السياسية خصوصا من المحاكم العسكرية .

خامسا : تكوين الجمعيات والهيئات والأحزاب باعتباره حقا دسوريا للمصريين وإلغاء جميع التشريعات الإستثنائية التى تحد من الحرية والمطالبة بصفة خاصة بإعادة جميع الصحف الملغاة وتحريم إلغاء أى جريدة فى المستقبل متمسكا بالدستور .

ولقد وقع على ذلك الميثاق عديد من الكتاب والصحفيين البارزين وتكونت على أثره لجنة الميثاق وطافت على السياسين لتجمع التوقيعات وأصدرت اللجنة نداء بأنها تهدف إلى خلق جبهة الميثاق لتكون قيادة وطنية للنضال فى المرحلة الحالية من أجل أهداف الميثاق .

وأهابت بالمواطنين جميعا من نواب الأحرار فى البرلمان والعمال فى نقاباتهم والفلاحين فى قراهم والطلبة فى اتحاداتهم وتنظيماتهم والصحفيين والمحامين والمهندسين والموظفين يبادروا إلى تاييد الميثاق والنضال على أساس أهدافه لتوحيد قوتنا جميعا ولنعمل أقوياء متكاتفين من اجل الوطن .

" التيارات السياسية المصرية ومشكلة السودان"

مما هو جديد بالذكر أن الوفد ظل صراعه الطويل مع المستعمر , وفي كل – المفاوضات التي دارت بين الطرفين , ظلت مشكلة السودان ونوع العلاقة بينها وبين مصر من جهة وبريطانيا والسودان من جهة آخرى محل نقاش , بل وشقاق ولعل الكلمات المشهورة من أن السودان " هي العقبة التي تنكسر عندها أية مفاوضات " , لدليل على مدى أهمية السودان بالنسبة لمصر من جهة وحرص بريطنيا على التمسك بالسيادة المباشرة دون اشتراك مصر معها في إدارتها من جهة أخرى , ولقد رفع الوفد دائما شعار الإستقلال ووحدة وادي النيل .

أي الإحتفاظ بالسودان في وحدة مع مصر طوال تاريخه , ولقد أرسل الوفد مذكرة للحكومة البريطانية كما سبق شرحه عقب نهاية الحرب العالمية الثانية وذكرا لبريطانيا وعودها الدائمة طوال الحرب بضرورة إعطاء الإستقلال لمصر والسودان .

ولقد بالضرورة للسودانيين رأيهم أيضا في نوع العلاقة مع مصر وبريطانيا , ففي الوقت الذي كانت تنادي بعض الأحزاب بالوحدة مع مصر تحت تاج واحد , كان هناك أيضا أحزاب تنادي بضرورة الإستقلال عن بريطانيا ومصر في وقت واحد , وثالثة تدور في فلك الإستعمار مستوثقة من الوعود المعسولة التي لم تألوا بريطانيا جهدا في بذلها ملوحتا بشعار" الحكم الذاتي " للسودانيين وإلى ما عرف فيما بعد بإسم السودنة , أي إحلال السودانيين محل البريطانيين والمصريين في المناصب الكبرى بالسودان , وفي الحقيقة لم تكن بريطانيا أبدا تعني هذا المعنى بالضبط , بل ظل مجرد أمل تلوح به للسودانيين حتى تحقق هدفها الأزلي وهو فصل السودان عن مصر واستمرار حكمها مباشرة عليها .

عموما لقد اصدرت مختلف الأحزاب السياسية بالسودان قرارات مع نهاية أغسطس 1945 , أهمها :

أولا : المطالبة بإصدار تصريح مشترك من دولتي الحكم الثنائي مصر وبريطانيا , تعلنان على أن مهمتهما تنحصر في العمل على قيام حكومة سودانية ديمقراطية حرة في اتحاد مع مصر وتحالف مع بريطانيا العظمى في أقرب وقت مستطاع .

ثانيا : طلب تعيين لجنة مشتركة ينتخب نصفها من بين ممثلوا حكومة السودان , والنصف الثاني من بين ممثلوا الطليعة المستنيرة من السودانيين على أن يتولى المؤتمر اختيار هؤلاء الممثلين لوضع مشروع تولي السودانيين الإدارة الحكومية في أقرب وقت ممكن , وشرط أن تعطي الحكومة لهذه اللجنة كل التسهيلات الممكنة لأداء مهمتها , وأن تلتزم بتنفيذ توصياتها .

ثالثا : المطالبة بإطلاق الحريات العامة , والدعوة إلى قيام حكومة سودانية ديمقراطية في اتحاد مع مصر تحت التاج المصري .

ولقد حرص الوفد على توضيح ابعاد السياسية الإستعمارية الرامية إلى فصل شطري وادي النيل من جهة , وتقسيم السودان شماله عن جنوبه " فلنحم أبناء وادي النيل في الشمال والجنوب من هذه الشراك الإستعمارية المنصوبة لفصل مصر عن السودان وفصل شمال السودان عن جنوبه , وإلتهام الجميع على حد سواء .

أما استفتاء أهل السودان على يد الإستعمار وفي الإحتلال , فحسبي أن أقول فيه هذا كلام له خبئ " .

كذلك ذكر " النحاس " زعيم الوفد للسودانيين بضرورة التمسك بالوحدة وخطورة الإستماع لنصائح الإحتلال " ولا يفوتكم إخواننا معشر السودانيين أنكم بغير هذه الوحدة تكونون للسياسية الإستعمارية الإنجليزية ارتكازا على ما تدعيه من أن السودان لم يصل بعد إلى مرتبة الدول المستقلة ذات السيادة أن تلعب لعبتها الخطيرة فتجري عليه حكم الوصاية وتجعله موضعا لنقط استراتيجية وتتخذ منه مكانا لإقامة جيوشها وقواتها المسلحة.

وبذلك تبعد مجلس الأمن وهيئة الأمم المتحدة من التدخل في الأمر " ولقد أعلن في ختام حديثه أن كل محادثة أو مفاوضة لا تتحقق وحدة وادي النيل والجلاء عنه لا نرضاها ولا نقرها ولا ترتبط بها البلاد , كذلك أعلن في مناسبة أخرى أن هدف الوفدى بالمناداة بالوحدة , هدف اندماج ومصالح متبادلة وليس هدفا استعماريا .

أن حق مصر في السودان حق وحدة واندماج ,لاحق سيادة واستعمار , أما السيادة على السودان فهي كالسيادة على مصر لا هل وادي النيل جميعا , ممثله في العرش المصري الذي هو عرش وادي النيل .

أنها وحدة بنتها الطبيعة وغذتها المصالح المشتركة , ووثقت عراها على مدى الأعوام روابط الدم والدين واللغة والتاريخ والنيل , وإذا كان مجرد وقوع مصر في طريق المواصلات الإمبراطورية البريطانية , قد استدعى في عرف الإنجليز احتلالها بأكثر منستين عاما وهو يدفعهم اليوم إلى التلكؤ في الجلاء عنها , ومحاولة إخضاعهم لنفوذهم فكيف يطلبون منا أن نوافق على فصل السودان عنا ومنه يتدفق النيل إلينا , وهو مصدر وجودنا وشريان حياتنا .

كانت إذن وجهة نظر الوفد تجاه الوحدة وأسباب سعيهم الحقيقى عليها وحرصهم على التمسك بها , إلا أن المفاوضات وما أعقبها من تصريحات لصدقى باشا قد اثارت العديد من الإضطرابات فى السودان وردود فعل متضاربة , ففى 26 أكتوبر سنة 1946 بعد عودته من لندن قال " لقد صرحت فى الشهر الماضى بأننى سأجىء بالسودان تحت التاج المصرى وقد نجحت فى مهمتى , وأن الوحدة بين مصر والسودان تحت التاج المصرى تقررت بصفة نهائية "

وكان هذا التصريح قبل نشر نصوص الإتفاق , وبالرغم من ذلك هاج المنفعلون فى السودان وتركت حكومة السودان المتظاهرون يتسلحون ويعتدون على أنصار الوحدة , ويهاجمون نادى " الحزبيين " بأم درمان ويحطمون أثاثه تحطيما وحشيا ولم تحرك ساكنا لدفع عدوانهم.

بل اغتبطت به اغتباطا لأنها هى الموعزة به واعقب هذا العدوان قيام مظاهرات من أنصار الوحدة فى السودان أعلنوا فيها نطقهم بوحدة الوادى وكذلك قامت عاصفة من الإحتجاج عليه فى الدوائر الإستعمارية البريطانية بلندن وادعى المستر " آتلى" رئيس البريطانية لا تفكر فى إدخال أى تغير على وضع السودان الحالى وأن الذى جرى من محادثات لم يعدو أن يكون محادثات تمهيدية بحتة ولم تتفاوض على شىء بصفة نهائية وأعقب ذلك تمادى حاكم السودان العام فى تصرفاته التى ترمى إلى الفصل بين شقى وادى النيل .

وأعقب ذلك تصريح للسيد " عبد الرحمن المهدى باشا " يدعو إلى فصل السودان عن مصر , كذلك أبرق إلى كل من " صدقى والمستر بيفين والمستر آتلى " يطالبه باستقلال السودان وانفصاله عن مصر .

ثم أعقب ذلك تظاهر " دعاة وحدة النيل " وكانت أول مظاهرة من نوعها فى تاريخ السودان الحديث لما امتازت به من الكثرة العددية الساحقة , وبما سادها من تنظيم , وبعد أن خرجت الكتل البشرية إلى ميدان " عباس " بالخرطوم أخذت الوفود تتجمع من شتى الطبقات والهيئات منذ الصباح الباكر من أنحاء العاصمة المثلثة ومن الضواحى وهى تحمل الأعلام المصرية وتهتف لجلالة الفاروق ملك وادى النيل .

هذا وقد كان أعضاء مؤتمر الخريجين حكماء فى تصرفاتهم فلم يقابلوا اعتداء دعاة الإنفصال ومأجورى الإستعمار بمثلها بل لزموا جانب الحكمة وأصدروا أوامرهم لأنصارهم بالتزام الهدوء التام وعدم التصادم بمثيرى الشغب حتى يفوتوا على المغرضين نواياهم الخبيثة ضد دعاة الوحدة .

والمتعقب لتاريخ الوفد الطويل تجاه السوادن يلاحظ أن شعار الإستقلال كان يرادفه وحدة وادى النيل , وكما قلت سابقا كانت النقطة التى عندها تتكسر المفاوضات , وفى كلمة " لفؤاد باشا سراج الدين " أوضح مدى حرص مصر على مر التاريخ على التمسك بالسودان وأنها كانت من دواعى توقف المفاوضات ولنا سوابق تاريخية على التمسك بالسودان فقال " أن سبب انقطاع مفاوضات الزعيم " سعد زغلول " و" مكدونالد " جاءت بعد قولته الشهيرة " إن السودان ألزم مصر من الاسكندرية :

كذلك قطع " النحاس " باشا المفاوضات مع " هندرسون " سنة 1949 بعد قولته " تقطع يدى ولا تقطع السودان عن مصر " ثم استأنف ذاكرا أنه اثناء وجود الوفد بالحكم كان شديد التمسك بسلطانه ونفوذه على حاكم السودان العام ,ونظرة عابرة إلى الوثائق والمكاتبات التى دارت بين رفعة " النحاس " باشا وبين الحاكم العام فى هذا الصدد تثبت بوضوح كيف أن حكومة الوفد لم تكن تلجأ على السفير البريطانى فى القاهرة بل كانت تحضرالحاكم العام بشخصه وتكلفة بالإجابة عن تصرفاته ومن الأدلة على ذلك أن النحاس باشا كلف الحاكم العام بأن يصدر قاضى السودان منشورا بالنداء للملك فى خطبة الجمعة طبقا لما كان متبعا قبل عام 1924 , كذلك عندما شعرت حكومة الوفد بأن هناك نية تقسيم السودان إلى قسمين بعث رفعة النحاس باشا إلى الحاكم العام يلفت نظره إلى أن هذا النظام غريب فى الإدارة .

وليس من حقه ولا من حق غيره أن يقدم عليه إلا بعد موافقة الحكومتين المصرية والبريطانية طبقا لمعاهدة سنة 1936 , كذلك أمرت الحكومة الوفدية سنة 1942 حاكم السودان العام بعدم مغادرة السودان قبل إخطارها بوجوب إبلاغها باسم من ينوب عنه أثناء غيابه وتفهمه تلميحا أحيانا بحقيقة مركزه واحترامه الجانب المصرى الذى يمثله .

وفى الحقيقة فقد كان الوفد يعتقد أن السودانيين لديهم نفس الحماس والرغبة فى التمسك بمصر إذا ما ترك لهم حرية الإختيا ر" إننا لا نأبى على السودان شيئا , وإنما نأبى أن يبقى فيه الإنجليز كما نأبى أن يبقوا فى بلادنا فليخرجوا منه وللسوادن بعد ذلك ما يشاء ويؤثر لنفسه على يقين جازم بأنه لن يؤثر حينئذ إلا وحدة وادى النيل .

هذا فى الوقت الذى كانت لبريطانيا سياستها الخاصة بالسودان والتى نفذتها عن طريق تعليمات أرسلتها الحكومة السودانية لتنفيذها والغرض منها ضم أكثرية الرأى العام السودانى إلى جانب بريطانيا وتنفيره من مصر , ولهذه السياسة برنامج خطير ويركز بالدرجة الأولى على نشر الدعوة للإستقلال مع اتهام المصريين بأنهم يقفون حجر عثرة فى سبيل هذا الإستقلال .

ومع مطلع سنة 1948 تبودلت مذكرات بين الحكومة البريطانية والمصرية حول ما أسمته بمشروعات السودنة , ولقد أحدث النشر الرسمى لهذه المشروعات والمذكرات المتعلقة بها ضجة وسخط فى كل الأوساط السياسية المصرية كذلك أرسل رئيس الإتحاد السودانى السيد : محمد المهدى التعايش " برقية يستنكر فيها باسم الإتحاد مشروع السودنة الجائر الذى يتحكم فيه حاكم السودان العام فى مصير شطر الوادى الجنوبى لأن ذلك يثير الفتنة بين أبناء الوادى لصالح الإنجليز .

كذلك أرسل " اتحاد الشبان السودانيين " نداء إلى الذين حاربوا كل مناورة ترمى إلى شطر قضية وادى النيل بدمائهم واستشهدوا فى سبيلها وضحوا بكل نفيس من أجلها , إلى الذين لن يسمحوا بتنفيذ مشاريع السودنة الإستعمارية , إلى أبناء وادى النيل أصحاب هذه القضية الواحدة , نرسل هذه الصرخة مدوية ويعلن الشبان السوادنيون أنهم سيكافحون هذه المشاريع الإستعمارية وأنها لن تقف إلى على أشلائهم وأنهم يعتبرون أن التهاون صريح من المستعمر وتشجيع لخ على المضى فى سياسته الغاشمة .

هذا فى الوقت الذى أعلن المجلس الإستشارى إقرار مشروع السودنة وذهب أبعد من ذلك بأن طالب الحكومة السودانية بضرورة تنفيذه بسرعة . ولقد أعلن الوفد رأيه على لسان " فؤاد سراج الدين " الذى اقترح على لجنة الخارجية بمجلس الشيوخ بأن تقوم سياسة مصر على اساس وحدة مصر والسودان تحت التاج المصرى .

وأن يتولى السوادنيين شؤونه الداخلية فى نطاق هذه الوحدة , ولما كان تحقيق هذه السياسة يقتضى وضع نظام الإدارة للحكم فى السودان يقوم على هذه الأسس ويصدر من الولى الشرعى للبلاد وجلالة ملك مصر والسودان بعد مشاورة السودانيين لذلك يدعو مجلس الشيوخ الحكومة أن تلتزم هذه السياسة فى وضع النظام المنشود لإدارة الحكم فى السودان.

ولقد صرح عن السودنة أيضا سكرتير عام الوفد لجريدة " مصر الفتاة " برفض هذا المشروع الهزيل الذى اسفرت عنه محادثات " خشبة – كمبل " نرفضه فى أساسه وفى تفصيله ونهتبره محاولة إنجليزية جديدة لفصم كل أثر باقى للوحدة بين شطرى الوادى " .

كذلك فضحت " المصرى " الآمال الإنجليزية فى إنشاء قاعدة عسكرية بجنوب السودان " حرصت بريطانيا على إنشاء أكبر قاعدة عسكرية وصناعية جنوب السودان وتحويل 35.ميلا مربعا من الأرض إلى معسكرات ومخازن حربية , وذلك لبعض المصريين بقاء القوات البريطانية فى منطقة القناة ولاحتمال الوصول إلى تسوية سياسية مع مصر تنتهى بالجلاء عن منطقة القناة قرر العسكريون البريطانيون أن تنشىء بريطانيا قاعدة كبرى فى شرق أفريقيا تكون بعيدة عن قواعد روسيا الجوية الجنوبية بمسافة كبيرة تكفل لها الأمن وتضمن المخزون من المواد الحربية والغذائية فيها أن يكون بعيدا عن القنابل الذرية والصاروخية فى الحرب القادمة" .

ويمكن تلخيص الموقف برمته بالنسبة للوفد على أنه فى مايو سنة 1944 انفجرت مسالة السودان بعد أن تقدم مؤتمر " الخريجين " فى 13 إبريل سنة 1942 بمذكرة لحاكم السودان طالب فيها بإصدار تصريح مشترك فى أقرب فرصة من الحكومتين الإنجليزية والمصرية بمنح السودان بحدوده الجغرافية حق تقرير مصيره بعد الحرب مباشرة ,

وإحاطة ذلك بضمانات تكفل حرية التعبير من هذا الحق حرية تامة , كما تكفل للسودانيين الحق فى تكييف الحقوق الطبيعية مع مصر باتفاق خاص بين الشعب المصرى والسودانى, ثم طالب بإعطاء السودانيين فرصة للإشتراك الفعلى فى الحكم بتعيين السودانيين فى وظائف ذات مسئولية فى جميع فروع الحكومة الرئيسية "

كان من أثر هذه الحركة التى لقيت تأييدا واسعا فى السودان أن عقدت حكومة السودان إلى مواجهتها بهجوم مضاد , فأصدر الحاكم العام قانونا فى سبتمبر سنة 1943 بإنشاء مجلس يسمى " المجلس الإستشارى لشمال السودان "

وقد ورد فى ديباجته أن الغرض منه تمكين الحاكم العام فيما يتعلق بإدارة شمال السودان من استشارة أشخاص لهم صفة تمثيلية عن الشعب السودانى , ولكن المشروع فى الواقع كان يستهدف إيهام الشعب السودانى بإشراكه فى الحكم وقطع الطريق على المؤتمر بإنشاء هيئة يكون لها دون غيرها حق التعبير عن السودانين والفصل فى مصير السودان .

نجد أن إنشاء هذا المجلس الإستشارى أثار غضب الوطنيين سواء فى السودان أو فى مصر , فبالنسبة للسودانيين فقد ثبت لهم بوضوح سوء نية الإنجليز فى المشروع أو رأوه قاصرا على شمال السودان دون جنوبه فقرر المؤتمر مقاطعة المجلس واعتبار كل من يتقدم لعضويته أو يقبلها خارجا عليه ومنفصلا عنه , وكان هذا القرار ضربة قاصمة للمجلس , فقد وجدوه من مظاهر التفصيل التى كانت ترجوها له الحكومة .

أما بالنسبة للوطنيين فى مصر فإن إنشاء هذا المجلس قد اعتبر دليلا على نية الحكومةالبريطانية فى فصل شمال السودان عن جنوبه وفصل السودان كله عن مصر , ولهذا فقد علت الأصوات فى ذلك الحين أن الحكومة الوفدية كان يقضى بأن تصدر بيانا قبل الإفتتاح وتعجب البعض أن المجلس قد تكون بغير علم مصر , وقيل أنه كان من الأجمل أن يوجد مصرى كبير فى حفل الإفتتاح فى 15 مايو سنة 1944 وأن وكيل رئيس المجلس يجب أن يكون مصريا .

وفى سبتمبر 1944 أدلى السكرتيرالإدارى لحكومة السودان بتصريح لمندوبى الصحف فى الخرطوم نفى فيه ما أوردته الصحف فى أن حكومته تتخذ الخطوات لفصل السودان عن مصر وكان مما قاله أن اتفاقين سنة 1899 , 1936 جعلا من السودان وحده حكومية وإدارية قائمة بذاتها.

فالسوادن لا يعبر من الوجهة الدستورية جزءا من مصر ولا من بريطانيا , ولكن تقوم بإدارته الحكومة السودانية وهى تعمل تحت سيطرة الدولتين الشريكتين , ومضى يقول " إن حكومة السودان تعمل على تعليم السودانيين وتدربيهم ليكونوا أهلا للحكم الذاتى ففى المجالس البلدية ومجالس المديريات والمجلس الإستشارى لشمال السودان يتدرب أهل السودان على الإضطلاع بشئونهم وذلك تنفيذا للمادة " 11 من معاهدة سنة 1936 " ولقد علقت جريدة الأهرام على هذا الكلام بقولها " أنه كلام صحيح إلى حد كبير من الوجهة النظرية وأن كل السودان جزءا من مصر وليس جزءا من بريطانيا " .

ولكن من الوجهة العملية يحق لنا أن نتساءل هل ما اسماه صاحب الحديث " سيطرة الدولتين الشريكتين هى سيطرة متكافئة أم أن هناك سيطرة راجحة وسيطرة إسمية مرجوحة ؟ ثم قالت الجريدة أيضا " إن حكوم السودان تعلن أنها تعمل على تعليم السودانيين وتدريبهم ليكونوا أهلا للحكم الذاتى تنفيذا للمادة 11 من معاهدة سنة 1936

ولكن هذه المادة تنص على أن الغاية الأولى للدراسة المشتركة هى " رفاهية السودانيين " وليس " الحكم الذاتى " فمتى كان معنى " رفاهية السودانيين " التدريب " على الحكم الذاتى " هل إذا عين مدير لقنا أو أسوان يعد نكبة ؟ وجاء فى امر التعيين أن على المدير أن يعمل على رفاهية الأسوانيين أو القنائيين يؤخذ من ذلك أن يعمل على تدريبهم على الحكم الذاتى .

ومضت الجريدة يقول " ولا يتوهمن واهم أننا نتنازع فى الحكم الذاتى لإخواننا السودانيين فنحن نطمع لهم فى أكثر من ذلك , نحن نطمع لهم فى الإستقلال التام كمصر ومع مصر فتكون لهم كحقوق المصريين وكواجبات المصريين فى مملكة واحدة ؟ كما تساءلت الأهرام قائلة " لماذا اختص المجلس الإستشارى بشمال السودان دون جنوبه ؟ فهل رفاهية السودانيين الواردة فى المعاهدة والتى يفسرونها اليوم بالحكم الذاتى مقصورة على شطر دون شطر " .ولقد كان فى الواقع سماح الرقيب هذا الهجوم على حكومة السودان فى الأهرام معناه رضاء حكومة الوفد عنه .

ولذلك فقد سارع مراسل التايمز إلى مقابلة النحاس باشا للحصول على رأيه فى المسأله , وقد رد النحاس بنفس ما ردت به الجريدة تقريبا , فقد ذكر أن ما يقال بأن المعاهدة تنص على شىء من الحكم الذاتى للسودانيين غير صحيح.

لأن الحكم الذاتى أو أى إصلاح آخر . هى من المسائل التى يجب أن يتم الإتفاق عليها بمفاوضات تدور بين مصر وانجلترا فإن المعاهدة لا تتحدث إلا عن رفاهية السودانيين ولقد قيل إن انجلترا تستعد لشطر السودان شطرين , وإن تدمج الجزء لجنوبى منه فى أوغندا وأقول إن أحدا لا يستطيع أن يشطر السودان شطرين , فالسودان لا يتقبل التجزئة وهو الآن تحت الإدارة المشتركة بين مصر وانجلترا .

جرت هذه المساجلات حول السودان والإستقلال التام وتعديل المعاهدة فى السنة الأخيرة من حكم الوفد منذ المؤتمر الوفدى الذى عقد فى نوفمبر سنة 1943 و وقد انتهز " فاروق " الفرصة ليقيل " النحاس " فى إبريل سنة 1944 و ولكن الحكومة البريطانية ردت بأن " لا تغيير " لأن الجبهة الثانية لم تكن قد فتحت بعد ولم يكن بعد الحرب قد تحدد بشكل حاسم وكانت أوربا تحت أقدام الألمان , ولكن الموقف تغير بعد يونيو سنة 1941 لصالح بريطانيا .

وهكذا بدأ فى الأفق شبح المطالبة الوفدية لبريطانيا بدفع الحساب وكان معنى هذا بالنسبة للسياسة البريطانية أن هذه الحكومة لم تستنفد أغراضها فحسب بل وأصبح وجودها فى الحكم يمثل خطرا على المصالح البريطانية , ولكن الدور كان ما يزال مشهد واحد لم ينته بعد وهو توقيع برتوكول الأسكندرية أو وثيقة ميلاد جامعة الدول العربية , لذلك فحين أراد فاروق إقالة لنحاس طلب إليه الارجاء حتى تتم فصول الرواية وهو ما حدث فعلا وسافر السفير البريطانى إلى جنوب أفريقيا .

حتى لا يشهد الخاتمة المفجعة وأعقب ذلك المفاوضات كما شرحنا وأعقبها أيضا مشروعات السودنة التى رفضها الوفد ثم محاولاتهم إقامة قواعد عسكرية بالأراضى السودانية , مع محاولاتهم المستميتة فى خلق الشقاق بين السودانيين والمصريين بخطة محكمة ولعل أهم بنودها إيهام السودانيين بأن المصريين عقبة فى سبيل " حكمهم الذاتى: واستقلالهم المنشود "

كانت إذن تلم محاولات بريطانيا وموقف " الوفد " الممثل للتيار الليبرالى منها فى مصر الحديثة , ينقلنا الحديث إلى موقف الإخوان المسلمين من ذات المشكلة .

لقد أعلنوا أنهم يريدون السودان " جزءا من مصر كما أن مصر جزءا من السودان , للسودانى ما للمصرى من حقوق وعليه ما عليه من واجبات , إذا فتحت المدارس فى مصر افتتح مثلها فى السودان , وإذا أنشأت المحاكم فى الشمال أنشئت كذلك فى الجنوب , وتتوحد الجنسية , ويتوحد القانون ويتوحد القانون ويتوحد كل شىء فى مظاهر الحياة الإجتماعية فى جزأى الوطن الواحد وادى النيل "

ثم عاد فى موضع آخر يوضح المصالح المتبادلة بين شعبى الوادى , فإن مصر إذا كانت تحتاج السودان لتطمئن على ما النيل وهو حياتها فإن السودان أحوج ما يكون إلى مصر فى مقومات الحياة وكلاهما جزء يتمم الآخر ولا شك وذلك فضلا عن وحدة اللغة والدين والمشاعر والمظاهر والأنساب والدماء وسنظل نطالب بهذا الحق ونتمسك به " .

وفى رسالة من المرشد العام للإخوان المسلمين إلى رئيس الوفد السودانى يحدد له الخطوات التى يجب اتباعها من أجل الحصول على مطالب الوادى" ألا ترون أن إفصاحكم عن رغبتكم فى أن تدخلوا طرفا ثالثا فى المقاومة فى هذه لمرحلة الدقة التى تجتازها القضية الوطنية قد يكون زريعة للمفاوض الإنجليزى.

فى أن يتهرب من مسألة السودان وينكر على المفاوض المصرى حق التحدث فى شأنها وقد يؤدى ذلك إلى إرجاء النظر فى مشكلة السودان وفى ذلك ما فيه من الخطورة على القضية الوطنية التى تؤمن أشد الإيمان بأن النظرفيها يجب أن يكون كوحدة لا تتجزأ .. وعلينا أن نتبع الآتى :

أولا :

  1. المناداة بجلاء القوات البريطانية جلاءا تاما عن الوادى جنوبه وشماله وتحقيقا وتأكيدا باستقلاله الكامل.
  2. الإتفاق مع الحكومة المصرية والمفاوض المصرى على نوع الصلة التى يجب أن تقوم بين الشمال والجنوب .

ثانيا : العمل على اشتراك بعض الوفد السودانى كممثلين لأهل الجنوب فى وفد المفاوضة المصرى لتقف أمام المفاوض الإنجليزى صفا واحدا يشد بعضنا أزر بعض حتى نصل معا إلى حقنا المشترك وأما عن الصلة بين الشمال والجنوب فلعل من الخير أن أضع بين أيديكم رأى إخوان الشمال فيها مصر كما نعرفه لعل يروقكم فيقضى بالأمر .

إن إخوان الشمال فى مصر يعتقدون أننا أمة واحدة ويريدون وحدة كاملة بين المصرى والسودانى فى مصر يعتقدون أننا أمة واحدة ويرويدون وحدة كاملة بين المصرى والسودانى كأبناء شعب واحد ووطن واحد للسودانى ما للمصرى فيه من حقوق وعليه من الواجبات فالجنسية واحدة والدستور واحد.

ومعنى هذا أن الإنتخابات ستجرى فى السودان كما تجرى فى مصر فيكون من السودانيين نواب وشيوخ فى البرلمان بنسبة عددهم ويكون منهم وزراء ورؤساء حكومات ولا مانع أن يستبدل اسم المملكة المصرية إلى " مملكة وادى النيل " وتكون الوظائف الإدارية الكبرى والصغرى للسودانيين على اعتبار أنهم أعرف بشئون البلاد ولا حجة بعد ذلك لمن يقول بأن وحدة السودان مع مصر ستجعل مصر بحكم بل إن ذلك أيضا لا يمنع من أن يتولى الأكفاء من السودانيين الوظائف والأعمال التى ترشحهم لها مؤهلاتهم فى شمال الوادى .

أما فيما يختص بالسودان وإجراءات بريطانيا فيها فلقد أبدى دائما الإخوان اعتراضهم مطالبين الحكومة بأن تلجأ إلى مواقف عملية وتبتعد عن المزايدات الكلامية .

" إن المحادثات تجرى فى مصر بينما الحاكم العام فى السودان يخطو الخطوات العملية لفصل السودان عن مصر , فمن إقصاء لقاض القضاة المصرى إلى الموافقة على قانون الجنسية وأخيرا التحايل على نظار القبائل من أعضاء المجلس الإستشارى حتى وقعوا على عريضة تحتوى على توكيل لحكومة السودان بأن تسعى فى إعطاء السودان حق نقرير مصيره وفصله عن مصر وهكذا فى مصر كرم وفى السودان عمل . "

إذا رفضت الهيئات السودانية والأحزاب جميعا مشروعات السودنة وأعلنت أنها ستقاوم كل عمل يؤدى إلى استمرار الحكم الثنائى بكل قوة ولا شك أن المصريين جميعا وهم يعتبرون السودان جنوب الوادى جزءا لا يتجزأ من شماله ولا يمكن أن يرضوا عن هذا الوضع ويقروا مثل هذا الإتفاق أن الحكومة المصرية بموقفها الأخير قد خسرت المصريين والسودانيين على السواء.

كما أنها خسرت أيضا الوحدة والإنفصاليين فى السودان ولا شك أن الذى شجعها على هذا التحدى هو إعلان الأحكام العرفية وامتداد سلطانها إلى أبعد الحدود المرسومة كالمحافظة على الأسرار العسكرية وسلامة الجيش المصرى والجيوش العربية من الطابور الخامس "

إن مصر قد قالت كلمتها وحددت مطالبها وهى الجلاء التام غير المشروط بمساعدة أو تحالف ووحدة وادى النيل وكان على انجلترا أن تخطو الخطوة الأولى لتجلو عن أرض مصر فتسحب جيوشها من منطقة القنال وعى ليست فى حاجة إلى إذن من مصر بالجلاء ولسنا نوافق الحكومة المصرية على تركها الموقف معلنا مكتفية بالسياسة السلبية أو ما تسميه تجاهل الإنجليز.

بأن الواقع أثبت أن الإنجليز هم الذين تجاهلوا فتشبثت جيوشهم فى القنال وبمصر أو عندنا فى مشروعات السودنى التى يهدفون من ورائها إلى فصل جنوب السودان عن شماله وضمه إلى الإمبراطورية العتيقة , كنا نود أن تخطو الحكومة المصرية الخطوة الأولى نحو الإتجاه الصحيح فتلعن إلغاء معاهدة سنة 1936 , سنة 1889 وتطالب الإنجليز رسميا بالجلاء الناجز وأن نسلك سبيل الجهاد والعمل لتحقيق هذا الهدف .

ولقد كان خلاصة موقف الإخوان وهو يدعو إلى الوحدة مع السودان من منطلق إسلامى بحث بدعوى أن الدين الإسلامى عالمى ولذلك فلابد أن يكون هو اللواء الذى عنده تلغى الحدود القومية وتصبح كل الشعوب التى تدين بالإسلام شعوبا متحدة واحدة , لا من منطلق تبادل المصالح أو صلة تاريخ أو ما شابه ذلك .

أما عن موقف مصر الفتاة فكانت تدعو إلى الوحدة الإندماجية بعد جلاء الجيوش الإنجليزية المحتلة موضحت أهم المطالب القومية " وإذا سألنى سائل وكيف تحقق المطالب القومية أو كيف تحقق وحدة وادى النيل ؟ وكيف نجلى الإنجليز عن بلادنا ؟ قلنا له إنما يتحقق ذلك عن طريق الشجاعة والجرأة والإقدام , فعلى حكومة مصر أن تقرر أن وادى النيل وحدة لا تتجزأ وأن يصدر البرلمان المصرى قراراته لجعل هذه الوحدة حقيقة مقررة فلا جمارك بين مصر والسودان , كما أنه يجب أن يعدل الدستور

كما أن قانون الجنسية المصرى يجب أن ينسحب على السودانى مثل انسحابه على المصرى بحيث يصبح السودانى مصيريا له كل ما للمصرى من حقوق وعليه ما على المصرى من واجبات , فجيش مصر وحكومة مصر وبرلمان مصر ومدارس مصر.

كل هذه يجب أن تكون مفتوحة للسودان وهذه قرارات يستطيع الجانب المصرى أن يقررها فإذا اعترض الإنجليز فليعترضوا وإذا حاولوا أن يصبوا جام غضبهم علينا فليفعلوا " الحق أن الطريق واضح وأن واجب الحكومة المصرية صريح وقاطع فى أنها يجب أن تقود مصر لتحقيق حريتها واستقلالها غير ناظرة العواقب لأنه لا عواقب أسوا أبدا من القعود عن المطالبة بالحرية والإستقلال .

وعندما جاء الوفد السودانى إلى مصر للاشتراك فى المفاوضات كان لديه نقاط محددة نحو تأليف حكومة سودانية ديمقراطية حرة وتحدد هذه الحكومة السودانية شكل الإتحاد مع مصر ومدى الإتحاد ثم تحالف السودان انجلترا " إلا أنه بعد ما التقى الوفد السودانى بالشعب المصرى , اتفق على أن يكون مطالب السودان هى ذات مطالب الشعب المصرى وهى" الجلاء عن وادى النيل بأكمله ووحدة وادى النيل "

ولقد كانت عموما وجهة نظر " مصر الفتاة " للسودان نابع من اهتمامها منذ بداية تكوينها , واعتبراه جزءا لا ينفصل عن مصر , وإنما يشكلان معا كيان واحد ولقد كان ذلك الإهتمام نابع من الأفكار والشعارات التى طالما طرحتها حول الإمبراطورية المصرية المكونة من وحدة مصر والسودان والمناطق الممتدة إلى حدود خط الإستواء "

إن مصر التى تسعى لإعادة مجدها لا تنتهى عند السودان فقط بل تمتد إلى نهاية خط الإستواء ولذلك فقد كانت تعمل لخلق جيل من الشباب ا يؤمن بهذه الفكرة ويعمل على تنفيذها , وفى إطار هذا التصور من جانبها فقد نادت بوحدة وادى النيل .

وهو ذلك المطلب الذى كان ينادى به الحزب الوطنى ولكن بصورة استعلائية نابعة من " أن مصر يجب أن تكون فوق الجميع , وإن الكلمة المصرية هى العليا وما عداها لغو لا يعتد به كذلك طالبت بإلغاء كل المعاهدات التى تمس سيادة مصر على وادى النيل أو تعديل هذه المعاهدات على الأقل بما يحقق استقلال مصر والسودان استقلالا تاما مطلقا من كل قيد أو شرط ويجعلها تقف على قدم المساواة مع أية دولة عظمة.

ولقد كان السودان بالنسبة لمصر هو الجزء الذى يتمم خوض وادى النيل بما فيها جميع الممتلكات التى كانت لمصر قبل إخلاء السودان , والتى كان يعبر عنها بالملحقات على أن تطبق على الجميع كل الأنظمة المصرية من اجتماعية واقتصادية مع مراعاة الظروف الخاصة.

على أن يكون للسودانيين الحق فى الإشتراك فى الوزارة وفى المناصب الكبرى للدولة ووظائفها العامة وأن يكون لهم ممثلون فى البرلمان , واعتبرتها بالتالى معقد أمالهم فى حل مشكلة تزايد السكان وطالبت الحكومة أن تنشىء وزارة بشئونه الإقتصادية والإجتماعية وأن تخصص كل وزارة أخرى جزءا من نشاطها لتصرفه فى السودان وتعمل على ترقيته على أن تتجه مصر بكل إمكانياتها الإقتصادية والإصلاحية صوب السودان .

هذا ولقد وضعت مصر الفتاة تصورا لحدود تلك الإمبراطورية المزعومة وحددتها " على أنها كل أرض يجرى فيها ماء إذ تمتد من البحيرات الإستوائية جنوبا إلى البحر المتوسط شمالا وإلى الحبشة والبحر الأحمر وحدود سيناء الشرقية شرقا ومن الحدود الغربية لمصر والسودان غربا " ..

ومعنى ذلك أن مديرية خط الإستواء التى وضعت مصر يدها عليها أيام الخديو إسماعيل تعتبر جزءا من المجال الحيوى لمصر , يضاف إليها بحيرة تانا المنبع الهام للنيل , وأشارت مصر الفتاة إلى تحديد الإمبراطورية بهذه الحدود يختلف عن تحديد الحزب الوطنى .. والأحزاب الأخرى.

وفهمها لمدلول كلمة السودان , فالحزب الوطني يضيف إلى تطور مصر الفتاة كل من " هرر وزيلع ومصوع " على اعتبار أنها كانت يوما ما من الأملاك المصرية ولكن هذه المدن كما تراها مصرالفتاة لا تقع فى حدود النيل وبذلك فليست ماسة بالمجال الحيوى المطلوب لمصر , هذا أى أن الأحزاب الأخرى تفهم كلمة السودان فهما غامضا لا حدود له "

كان ذلك خلاصة مفهوم مصر الفتاة لحدود امبراطوريتها المنشودة وكأساس هام لإعادة مجد مصر القديم إلا أن ذلك يتطلب بالضرورة تنظيما بشريا واقتصاديا ودفاعيا هائلا .ولكى يتحقق هذا الحلم الكبير فإنه لابد من الإيمان والعمل " والإيمان يتأتى عن طريق عشر سنوات من العمل يقوم بها الشعب المصرى على أن يكون هذا لعمل فى كل المجالات والإيمان بحق وقوة الشعب المصرى كى تصبح مصر فوق الجميع " والتنديد بالإحتلال البريطانى الذى عمل ويعمل على قطع أوصال مصر وحرمانها من السودان بإعلانها مشروعات السودنة المرفوضة"

هذا وللتدليل على اهتمام مصر الفتاة بالسودان ما نشر فى برنامجها لنهاية عام 1948 والذى أشارت لائحته عن دراسة واسعة ومحددة لما ينشده الحزب بالنسبة للسودان قائلا " تحرير وادى النيل من كل استعمار أجنبى وجلاء الجيوش البريطانية عنه بدون قيد أو شرط ثم توحيد مصر والسودان فى دولة عظمة ذان سيادة عليا على وادى النيل من منبعه إلى مصبه فى ظل عرش واحد.

وبناء عليه يكون للسودانيين باعتبارهم جزءا من الشعب المصرى أن يؤلفوا لأنفسهم إدارة محلية تختص بشئون السودان الداخلية , معتمدة على مجلس النواب يختاره السودانيون , على أن يشتركوا اشتراكا مباشرا فى حكومة مصر والسودان بأن يبعثوا إلى البرلمان فى القاهرة وبنوابهم وشيوخهم وإلى مجلس الوزراء بوزرائهم على أن يسرة على الإدارة الداخلية فى مختلف شئون السودان ما يسرى على الادارة فى المديريات المصرية , بمعنى أن تكون منوطة بالهيئات والحكام المنتخبين بمعرفة الشعب واختيار أى الطريقين متروك للشعب السودانى ليقرره فى حرية كاملة " .

أما عن التيار اليسارى فلقد نظر إلى السودان من زاوية مختلفى وبالتالى له رؤية أيضا مختلفة , إذ أن شعار وحدة وادى النيل لم يفع إنما كبديل له التآخى مع الشعب السودانى ضد الإستعمار , ولذلك فقد عارضوا مبدأ الوحدة إذا كان مصدرها استغلال فئات من الرأسماليين المصريين للسودان كسوق احتكارى " كانت القيادة الرأسمالية المصرية وما تزال بوحدة وادى النيل فتعبر بذلك عن حاجتها إلى الإنتشار جنوبا على رغبتها فى توسيع السوق التى تستغلها وهى كلما تقدمت وزادت قوة أجزائه الإحتكارية واشتد تدخل الرأسمال المصرى بالرأسمال الصناعى كلما وضحت اتجاهها إلى الإستعمار , أى الإنتشار جنوبا حيث المناطق الغنية , وحيث العامل المأجور الرخيص

ومستوى المعيشة منخفض والفرصة أمامها لتكدس أرباحها أكبر منها فى مصر ولكنها إذ تتحرك إلى الجنوب يقف الإستعمار البريطانى فى وجهها ومن ثم فهى تناهضه وتستعين عليه بوشائح اللغة والعلاقات بين الشعبين السودانى والمصرى , فتطالب بوحدة وادى النيل , أى تحرير السوق السودانية من الإستغلال الرأسمالى البريطانى , كان ذلك هو موقفها من الثورة التى قادتها وهو مثال واضح لمصالحها الطبيعية .

ثم إن الشعب آزر الدعوة إلى وحدة وادى النيل تحت قيادة الرأسمالية المصرية والرغبة فى التضامن مع الشعب السودانى . ولا يريد استغلاله أو الإحتفاظ به كمستهلك ومنتج صريح , ولا شك أن تأييده لوحدة وادى النيل تختلف جوهريا عن تأييد الرأسمالية المصرية لها .

غير أن هناك طليعة من المفكرين والوطنيين والأحرارلا يؤيدون الوحدة لأنها تخدم الرجعية المصرية من جانب وتطمس معالم القومية السودانية من جانب آخر , لأنهم يؤيدون حركة الشعب السودانى إلى تحريره من الإستعمار البريطانى والمصرى على السواء , ويؤمنون أن الخطوة اللازمة لحل مشكلة السودان فى اتجاه الشعبين مقاومة الإستعمار ويؤيدون العناصر الحرة فى السودان الهادفة إلى خير الطبقات الكادحة السودانية التى لا تتناقض مصالحها مع مصالح الطبقة العمالية المصرية وهؤلاء المفكرون والوطنيون الأحرار سيفدون فىتعبيرهم المتقدم هذا إلى تعبير أصيل فى المجتمع المصرى . أى ظهور طلائع الطبقة العاملة كقوة موجهة فى مسرح السياسة المصرية .

فإذا ما رجعنا إلى السودانيين وجدنا أحزابا لكل واحد منها مضمون اقتصادى أكبر لم يكن واضحا كل الوضوح بما فيه الكفاية وأخطر هذه الأحزاب على قضية السودان ذلك الحزب الداعى إلى الإنفصال الآن لأن معنى هذا عمليا إلقاء السودان فى براثن الإستعمار البريطانى فإذا ما تساءلنا عن دعوة هذه الإنفصالية , وجدناه فى تداخل مصالح قادته مع مصالح الإستعمار , فهؤلاء القادة يريدون أن يحرروا السودان نهائيا من الإستقلال المصرى لينفردوا هم وحلفاءهم الرأسماليون البريطانيون باستغلاله .

هذه النزعة الإنفصالية إذن اتجاه رجعى نحاربه كما نحرب نقيضه المقابل , وحدة وادى النيل وهناك فريق آخر يدعو إلى الإتحاد وهو التعبير الصادق عن مصالح القومية السودانية الناشئة , إن هذه الحركة الوطنية رد فعل الإستعمار البريطانى , لم تختلط عناصرها القائدة به فلم تجنح إلى مهادنته , والتفاهم معه.

هى تعلم أن الإستعمار البريطانى عدوها الأول , فهى تقاومه وتتجه إلى التآخى مع الشعب المصرى , تخاف على كيانها ومقوماتها مع الرأسمالية المصرية , فهى تدعو إلى الوحدة معها الآن , وإنما تدعو إلى الاتحاد , فهى إذن لا تريد الإنفصال عن مصر والوقوع بين يدى الرأسمالية البريطانية , ولا تريد الوحدة مع مصر والتجميع فيها وطمس معالمها , ولا شك أن واجب المفكرين الأحرار أن يؤيدوا الإتجاه الأخير فهو أقرب إلى مصلحة الشعب السودانى والمصرى على السواء " .

أما فيما يخص السياسة البريطانية فى السودان والأسس التى تسير عليها فقد أوضحتها مجلة .. ذى ووركر " الأمريكية ونشرتها " " الفجر الجديد" فتتلخص فى " أن السودان من أهم القضايا التى يكافح من أجلها الأحرار المصريون الإستعمار البريطانى , وأدواته من الرجعيين فى الحكومة المصرية ويختلف الشعبان السودانى والمصرى عن بعضهما من عدة وجهات بينها الجنس واللغة والتاريخ المشترك , ومن جهة أخرى نجد أن مصر والسودان يكونان قطرا جغرافيا واحدا من وادى النيل فضلا عن أن مصالح القطرين الإقتصادية مرتبطة أوثق ارتباط .

والسودان يديره الحكم الثنائى المصرى والإنجليزى ولكنه فى الواقع خاضع تماما للنفوذ البريطانى الذى يمثله هناك الحاكم العام البريطانى , وتستطيع بريطانيا تحويل مجرى النيل , أو ربما هو أسهل من ذلك بمضاعفة المياه المنصرفة للرى فى السودان بأن تجر الخراب على اقتصاد مصر الوطنى الذى يعتمد تماما على النيل وهذا هو السبب الذى من أجله يعد اتحاد وادى النيل واحدا من المطلبين الوطنيين الرئيسيين لمصر .

ومنذ ظلت الحكومة البريطانية حتى الآن ترفض السماح للسودان بالإتحاد مع مصر واستعملت كل نفوذها محققة شعور عدائى قومى للمصريين والسودانيين وذلك بتصوير المصريين كدولة استعمارية تريد أن تجعل من السودان مستعمرة مصرية .ولقد لاقت هذه السياسة بعض النجاح مما لا شك فيه أن بعض الأقسام البرجوازية تحلم بسودان مصرى تستطيع استغلاله كما لو كان متعة خاصة .

وترمى السياسة البريطانية إلى تقسيم السودان إلى قسمين سودان شمالى وسودان جنوبى فالسودان الجنوبى يتصفون فيه كما لو كان مستعمرة تابعة للتاج البريطانى ويديره موظفون بريطانيون , أما السودان الشمالى فإن الريطانيين يزيدون على العكس أن يهيئوا نوعا من الحكم الذاتى.

فلقد أنشأوا المدارس وألغوا المجالس الإستشارية وعينوا فيها السودانيين وأحسنوا اختيارهم ,والواقع أن بريطانيا تشجع السودانيين الشماليين على أن يطالبوا بالإستقلال وهدف هذه السياسة تكوين دولة مستقلة من المديريات الشمالية على أن تعطى رئاستها للمهدى وهو أكبر سلطة دينية هناك وأداة من أدوات بريطانيا .

وعلى هذا يمكن الحصول على النتائج الآتية :

أولا : إلغاء المشاركة الإنجليزية المصرية فى السودان الشمالى وإعطاؤه خالصا للسيطرة البريطانية بلا تدخل من المصريين .

ثانيا : انتقال السودان الجنوبى إلى السيطرة البريطانية المطلقة وهو ينضم بعد هذا إلى كينيا أوغندا , ولا شك أن عناصر جديدة ومجاهدة داخل الوفد يقوم بمجهود داخل الوفد يقوم بمجهود كبير فى الحوادث الجارية الآن فى مصر.

ولكن الحركة نفسها برجوازية الإتجاه وشعاراتها وطنية ولا تؤكد الفساد السياسى , فى الإقتصاد المصرى , وهناك خطر من أن تتحد القيادة داخل الوفد وحركة الضمير الشعبى الموجود الآن تجاه العودة إلى الحكم " وخلاصة الموقف إذن أن اليساريين منذ مطلع عام 1946 بدأوا فى تكوين شكل جديد فى الكفاح بتكوينهم "

الجان الوطنية للطلبة " بعد المؤتمر الذى عقده اليساريين فى أكتوبر سنة 1945 بكلية " طب القصر العينى " والذى حضره ممثلوا طلاب الكليات والأزهر وكذلك المدارس الثانوية , وحاول الإخوان إفشاله بعمل اجتماع موازى قالوا أن حضره 600.عضو

ووجهوا نداءا باسم " أرض مصر الخضراء " إلا أنه بالرغم من ذلك فقد نجح اجتماع اليسار , وعملت اللجنة التحضيرية التى رأسها " مصطفى موسى " على تأسيس اللجنة التأسيسية للطلبة كما شكلت لجنة وطنية فى كل خلية ومنهم مندوبون يشكلون اللجنة التنفيذية للطلبة ولقد نجحت السيطرة على الطلبة .

واصدرت بيانا فى يناير سنة 1946 ظهر فيه مدى نفوذ اليسار على الطلبة فى تلك المرحلة , وأيضا أظهر بعد الإئتلاف مع الوفد تمايز الجناح اليسارى فى الطليعة الوفدية والتى كان لها دورا فى أحداث الطلبة الشهير فى فبراير سنة 1946 , أهم بنود البيان كانت :

أولا : رفض المفاوضات إلا بناء على تعهد الإنجليز بالجلاء .

ثانيا : وحدة كل القوى الوطنية المناهضة للإستعمار .

ثالثا : مناهضة الإستعمار وأعوانه فى الداخل من الرأسماليين والإقطاعيين أما فيما يخص السودان , فلقد كانت منظمة "ح. م " أولى المنظمات اليسارية عناية بشئون النوبيين من منطلق الإهتمام بالفقراء عامة.

ومن خلال رجلهم " عبده ذهب " بدأت سياستهم لإفشال مؤامرة حزب الأمة السودانى الداعية للإنفصال عن مصر وفصل النوبة أيضا عنها وضمها للسودان, مع تحريض النوبيين وإثارتهم بدعوى أنهم لا يعملون فى مصر إلا أعمالا قليلة الأهمية كبوابين وخلافه , سيظلون عديمة الأثر ,وإن استطاع اليساريون إفشال ذلك وتكون الحزب الشيوعى السودانى من تجمعات نوبية وكان لهم تجربة فى مصر . وعلى أثر ذلك كون السودانيون " حستو " على نمط " حدتو " .

أما عن الدافع الأول للإهتمام بالسودان فكما قال " هنرى كورييل " إن أحد ضباط الجيش وهو " محمد نجيب " أرسل يساله عن موقف الشيوعيون من قضية السودان ما جعله يعتكف على دراسة المشكلة وبالتالى رفع اليساريون شعار " الكفاح المشترك وحق تقرير المصير " على اعتبار أنها أقرب الوسائل للإتحاد , وأصدروا تبعا لذلك مجلتى " تحرير الشعوب " و " ام درمان" وكانوا أيضا يتعاطفون مع المجموعة المنادية بالوحدة مع مصر .

وركزوا هجومهم على حزب الأمة , بالإضافة إلى مناصرتهم للعناصر التقدمية " وللتدليل على تطبيق شعار " الكفاح المشترك وحق تقريرالمصير " فقد حرص اليساريون المصريون على محاربة الفاشية , وبالتالى معاداتهم لحزب " مصر الفتاة" وأيضا رفضهم التحالف مع الإنجليز

ولوكان من أجل النضال ضد الفاشية , ونادى اليساريون المصريون أيضا بالكفاح ضد الإنجليز والفاشية فى آن واحد وتأييد النضال الحبشى ضد الغزو الفاشى لها وأيضا التفريق بين شعار مصر الفتاة الكفاح المسلح المنادى والهادف إلى الإرهاب الفردى ضد الإحتلال , وبين شعارهم الجماهيرى الشامل للكفاح المسلح ضد الإستعمار ككل .

ثانيا : الحرص على التفريق من قبل اليساريون بين رفضهم للمفاوضات وذات الشعار الذى رفعه الحزب الوطني الذى أجل المفاوضات إلى ما عبد جلاء القوات وفى نفس الوقت اشترك فى وزارات قامت بالمفاوضات مع الإنجليز قبل الجلاء .

ثالثا : الدعوة إلى الكفاح المسلح وتعبئة الجماهير الشعبية وتسليحها على مختلف طوائفها ضد الإحتلال وأعوانه من المصريين المساعدين للإحتلال وتصنيفهم على أنهم " السراى " " الإقطاعيين " و " كبار الرأسمالية " على أن يكون الكفاح والجهاد ضد كل من الفئتين فى آن واحد وبذلك يتثنى تقليم أظافر المحتل داخليا والقضاء عليه .

إلغاء المعاهدة الإنجليزية المصرية

ارتبط دائما ابدا مطلب الإستقلال الكامل لمصر والسودان بضرورة إلغاء المعاهدة المصرية البريطانية , لا من قبل تيار بعينه بل من كل الأحزاب على مختلف هويتها وإنجازاتها وبصورة جادة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.

وبعد ان شعر المواطنون أن مصر قد وفت بكل التزاماتها وأدت دورها المساعد فى إنجاح حليفتها بريطانيا ودورها أيضا الإيجابى فى انتصار الديممقراطية العالمية ضد التيارات الفاشية والنازية على حد سواء.

وانطلق هذا النداء الجماعى للحرص على تحديد نوعية علاقة مصر بجيرانها فى إطارات الفكرة العربية أو الإسلامية أو وحدة وادى النيل و وكان إذن لابد من إعادة النظر فى معاهدة سنة 1936 وهى القاعدة التى أصبحت تنظم العلاقات بين مصر وبريطانيا على أساس أن الظروف التى عقدت فيها قد تغيرت تغيرا يجعل الإنقسام على هذه الظروف أمرا ملحا وطبيعيا و وكان هذا الإتجاه منشورا بطريقة تجعلنا نستطيع القول بأنه كان تيارا عاما حمل لوائه الحزب الوطني كمعارض للمعاهدة منذ البداية وشاركه فيه أفراد ينتمون إلى مختلف الهيئات والتجمعات الموجودة ولم يكونوا فى ذلك ينفذون سياسة حزبية مرسومة بقدر ولائها واحترامها للمعاهدة نصا وروحا .

فيما عدا الحزب الوطنى , وكان هذا الإتجاه أوضح ما يكون فى مناقشات أعضاء البرلمان لخطب العرش وسياسات الحكومة . على أن الملاحظ بصفة عامة أن التيار بدأ هامسا مع بداية الحرب ثم أخذ ينمو ويزداد قوة حتى إذا ما انتهت الحرب وأصبحت مصر على أعقاب مرحلة تاريخية جديدة من نضالها الوطنى علا الهمس وازدادت الأصوات المطالبة بإعادة النظر فى المعاهدة بصفة خاصة , وبالعلاقات مع بريطانيا بصفة عامة .

وكان أجرأ هذه الأصوات صوت النائب " زهير صبرى " الذى طالب الحكومة بإنكار المعاهدة المصرية البريطانية وإعلان بطلانها والتحرر من قيودها مع الإحتفاظ بصداقة بريطانيا والحق أن فكرة المطالبة بإلغائها لم تكن تعنى بالضرورة قطع كل الإرتباطات بين مصر وبريطانيا , وإنما كان أقصى ما كانوا يبغونه هو تنظيم العلاقات بين البلدين على أساس الصداقة والمشاركة فى بناء السلام العالمى وتحقيق مبادىء الحرية .

وكانت وجهة النظر المطالبة بالإلغاء تستند إلى سببين :

أولا : مخالفة بريطانيا لنصوص وروح المعاهدة من ذلك لم تستدع مصر للتشاور عندما اختلفت بريطانيا مع ألمانيا وإيطاليا , فى حين أن المعاهدة نصت على وجوب التشاور بين الطرفين فى حالة وقوع خلاف بين أحدهما ودولة أخرى, وكان هناك ما يشعر بوقوع الحرب أو قطع علاقات وأن حاكم السودان العان الانجليزى يرتكب مخالفات كثيرة دون علم الحكومة المصرية فى حين أن نص المعاهدة يذكر أن كل إجراء يجريه حاكم السودان يجب أن يكون باتفاق من الحكومة المصرية , هذا فضلا عن تدخل الحكومة الانجليزية فى السياسة بصورة تلغى اعترافها بأن مصر دولة مستقلة وذلك على نحو ما حدث فى 4 فبراير .

ثانيا : إن المعاهدة عقدت فى ظروف خاصة حيث كانت كل الدول تعقد معاهدات تأمين بضمان احتياطا للحرب التى كانت متوقعة , وبالفعل عقدت المعاهدةو على أثر هجوم إيطاليا على الحبشة , وبما أن الحرب قد أوشكت على الانتهاء وزاد خطرها فيتعين إسقاط هذه المعاهدة من الحسبان , وإذا كانت المعاهدة قد نصت على بقاء قوات بريطانيا فى مصر هو الاشتراك فى الدفاع عن قناة السويس فلن يكون لهذا النص أهمية , وقد نصت المادة السابقة من ميثاق الأطلنطى على حرية الملاحة فى البحار .

ثالثا : وإلى جانب اتجاه ضرورة إعادة النظر فى المعاهدة والعلاقات البريطانية المصرية فقد كان هناك من يرى أيضا أنه ليس من مصلحة مصر أن تتقيد مع بريطانيا بمعاهدة اقتصادية تربط حاضرها ومستبلها وإنما من مصلحتها الحيوية أن تقيم مع الولايات المتحدة روابط اقتصادية برية لا تؤثر على الإستقلال السياسى لأن أمريكا لم تظهر أطماعا سياسية فى المنطقة آنذاك

وكل ما كانت تفعله هو محاولة ترويج تجارتها وصناعتها ومعظم الكتاب الذين انساقوا بغير وعى بالصراعات الدولية واحتمال تغير نظرة الولايات المتحدة تجاه الشرق من الإهتمامات الإقتصادية إلى الإهتمامات السياسية وهو الإحتمال الذى أثبتته الأيام فيما بعد حيث حاولت الولايات المتحدة وقد قادت أوربا فى الإنتصار على الفاشية أن ترث مناطق النفوذ الأنجلو فرنسى فى منطقى الشرق الأوسط .

ومن أجل ذلك كله عندما أتى الوفد إلى الحكم على أثر الإنتخابات فى ديسمبر سنة 1949 وتوليه فى يناير سنة 195., أعيد فتح ملف النقاش حول المعاهدة ثانيا وأعيد للأذهان ما اجراه الوفد من استعدادات هائلة للقيام بذلك أثناء وجوده فى المعارضة.

وكان عليه إذن أن يقوم بالدور الذى كان ياتى على القيام به وفى لقاء شخصى لى مع سكرتير عام الوفد وعضو الهيئة الوفدية " سراج الدين باشا " ذكر كيف فشلت المفاوضات التى أجراها بصفته الشخصية مع السفير البريطانى فى مصر كذلك شرح وجهة نظر الوفد حول المعاهدة السياسية حكمها كأى عقد بين طرفين , فإذا أخل أحد الطرفين بأى الشروط يستحق للطرف الثانى التحلل منها ومعاهدة سنة 1936 ما هى إلا عقد مفصل بين مسائل بيننا , احتلت مناقشات لعشرات السنين . ولقد كنا نتصور أننا نصل بالاتفاق إلى أفضل الشروط لمصر .

وأستطيع القول أن معاهدة سنة 1936 تركت أفضل الآثار ولعل أهمها إلغاء الإمتيازات التى كانت عبارة عن دولة داخل دولة , فالقوانين الحالية ولا الآراء ولا النظام المطبق على الشعب المصرى وكانوا يمثلون لهيئات أجنبية ولقد كان هذا الإلغاء من مفاخر المعاهدة ومن أفضل آثارها عودة الجيش المصرى للسودان والحكم الثنائى إليها مرة أخرى.

ولم يكن إسميا بل كان عمليا وخاصة فى فترة وجود الحكم فى يد الوفد , وكان تعين الحاكم العام يأتى من قبل مصر و ولعل هناك مثلا يدل على ذلك إذ فى صيف سنة 195.سافر حاكم السودان العتم فى إجازته دون الحصول على إذن سبق من مصر , ولقد استدعاه " النحاس باشا."

وأنبه على هذا التصرف لأنه سمح لنفسه بالسفر والقيام بالإجازة دون الحصول على إذن من مصر وهو يخضع تماما لمصر , ولذلك لابد من الإستئذان منها لا من لندن ولقد اعتذر وتعهد ألا يأتى بمثلها "

كذلك كان مفتش الرى العام المصرى , وهو المسيطر على مياه الرى , ولقد كانت المسافة المحددة للزراعة فى السودان 30.ألف فدان ولا يمكن زيارتها إلا بإذن مصر , ولم يؤمل فى معاهدة السودان إلا إخضاع السودان تحت التاج المصرى والوحدة مع السودان إلى مفاوضات مستقلة والمعروف أن مشكلة السودان منذ " سعد باشا " وحتى سنة 1952 كانت الصخرة التى تنكسر ععندها وتعوق أية معاهدات نظرا لإصرار الوفد على التمسك بالسودان ورفض بريطانيا تحقيق هذا المطمع .

ومن آثار المعاهدات أيضا جلاء كل الجنود البريطانيين من القاهرة والأسكندرية إلى منطقة عرفت بالقاعدة البريطانية فى السويس , ولقد كانوا فى قصر النيل وأبى قير ومصطفى كامل بالاسكندرية فتجمعوا فى مناطق حددت بخرئط فى صحراء سيناء.

كذلك كان وجودهم بالسويس موقوتا لمدة عشرين سنة يقوى الجيش المصرى ويستطيع الدفاع عن القناة , كذلك خروج الموظفين الكبار والصغار الإنجليز من مصر , وخاصة المستعمرين الإنجليز فى الداخلية والأمن العام المصرية , وأصبح حماية الأجانب والأقليات الذى احتفظ به سنة 1922 من اختصاص المصريين وأخذت مصر شكل الدولة المستقلة ذات السيادة على كل من يقطن فيها مصريا كان أو أوربيا " .

" وفى الحقيقة أن أهم ما أخذ على المعاهدة كان مأخذا واحدا وهو أنها تضمنت تحالفا ابديا بين مصر وبريطانيا , وخاصة أن المعاهدة بالرغم من أنها نصت على انسحاب القوات البريطانية بعد عشرين سنة أى فى سنة 1956.

إلا أن بها نصا آخر يقضى بوجود تحالف بين مصر وبريطانيا غير محدد بزمن , والدليل على ذلك أن المعاهدة فى سنة 1956 انتهت بكل حيثياتها وفى فترة الإلغاء تغيرت الظروف الدولية ولم يكن قد ظهر بعد مبدأ الحياد الإيجابى , ومن الدليل على ذلك وضع سويسرا , فلقد كان هناك تعارف بين الدول على جعل سويسرا دولة محايدة , يتقابل عندها السفراء منطقة التقاء لوجهات النظر والتقاء المتخاصمين من الدول الأوربية "

" أما ما عدا ذلك فلقد كان العالم سنة 1936 عالم تحالفات وكتل دولية وبما أن مصر كانت دولة ضعيفة فكان لابد لها من وجود دولة قرية بجوارها وقت الحاجة ويكون هذا الحليف قويا وكان منطقيا فى ذلك الوقت , أما موضوع السودان الذى قيل أننا تناسيناه فكيف أننا وصلنا به إلى 5.% من المميزات ,وأرجأنا بحث موضوعها إلى وقت آخر تكون مصر أصبحت فى وضع أقوى ونستطيع بالتالى أن نطالب بالمزيد " .

" ولقد كان من مميزات المعاهدة أيضا هو استكمال شكل مصر كدولة مستقلة لأن استقلال عام سنة 1922 كان مجرد استقلال إسمى أما بعد المعاهدة فقد دخلت عضو فى عصبة الأمم وأصبح سفير بريطانيا مجرد سفير بعد أن كان مندوبا ساميا , باستثناء " لورد كيلرن " الذى أعطى بصفته الشخصية فقط أولوية لمجهوادته فى عقد المعاهدة أما فى أصول البرتوكول فكان كأى سفير آخر "

لذلك فعندما بدر المخالفات من بريطانيا لعقد الإتفاق الذى كان بيننا وبينها فى 1948 منها العراقيل التى وضعتها أمام الموظفين المصريين فى السودان , ثم موقفهم غير الودى بالإضافة إلى أحداث أخرى كانت متنافية مع نصوص وروح المعاهدة وخاصة وأنها ليست قران وإنما أحكام متفق عليها بين أفراد ,

ثم إن الأوضاع الدولية بعد الحرب العالمية الثانية كانت مختلفة عن عام 1936 وتغير الإستراتيجية العالمية , ولم يعد هناك مبرر وجود القاعدة البريطانية بعد التقدم التكنولوجى العالمى , ثم وجود قواعد عندهم فى مالطة وقبرص ثم فشل مفاوضات صدقى – بيفين وفشل التوصل إلى اتفاق فى مجلس الأمن ولم تكن إلا فرصة فقط للتشهير ببريطانيا فى وسط مجتمع دولة , منأجل ذلك تقدمت باستجواب لمجلس الشيوخ أقول فيه " أما وقد فشلت كل المفاوضات فلابد من إلغاء المعاهدة من جانب مصر , لعدم وفاء بريطانيا بالتزامها ولتغير الظروف الدولية"

إلا أن " النقراشى " باشا قد رفضه واعتبره إجراء عنيف واستمر الوضع حتى تولينا الحكم باشا قد رفضه واعتبره إجراء عنيف واستمر الوضع حتى تولينا الحكم فى يناير سنة 195., وجاءت الكورة فى أيدينا وبدأنا فى محادثات مع الجانب البريطانى , وقامت على نطاق ضيق مكونة من " صلاح الدين وإبراهيم فرج " باشا وأنا – فؤاد باشا – خاصة عندما كانت المسائل تشتد لتخفيف المدة أو إيجاد حلول وسط وكان ذلك تكتيكا وفديا إذ تقابلنا مع السفيرالبريطانيى وحاولت الوصول إلى اتفاق.

وبعد نقاش ودى بيننا اتفقنا على وضع تلك النقاط محل التنفيذ وقدمنا صورة مصغرة للمطالب المصرية وعرضها السفير البريطانى على حكومته ولم يمض أسبوع واحد حتى عاد السفير وقال أن الرد الإنجليزى قد وصله وأنه يعتذر عن مجرد عرض المناقشات , أو المباحثات لأن بريطانيا مقبلة على انتخابات ولأول مرة تصبح المسائل الخارجية عرضه للمناورات الحزبية بعد أن كانت المسائل التى لا تقبل المناورة الداخلية – وأن مجرد عرض المناقشات سيعطى أعدائنا الفرصة للإدعاء أنها انتقاص لحقوق الإمبراطورية – وأجلنا النقاش حتى بعد الإنتخابات

ولقد قلت لهم أنكم بذلك ستضيعون فرصة كبيرة وخاصة أن الوفد فى الحكم , عموما لقد كانت المباحثات فردية وعرضت ترك الباب مفتوحا بيننا للمداولات حتى تنتهى الإنتخابات وكان ذلك فى يوليو سنة 1951 , استدعانى " النحاس باشا " بعد عودتى من أوربا فى سبتمبر سنة 1951 و أنا وصلاح الدين خاصة بعد أن استجوب " صلاح الدين " فى مجلس النواب عن موقف الوفد من المعاهدة ولقد أجاب بأنه سيرد على المجلس فى موعد قريب أن ينفض المجلس من دورته وينفض الأعضاء " .

" اجتمع النحاس باشا بى – فؤاد باشا – وصلاح الدين " الذى أخذ يقص ما تم من مباحثات مع الجانب البريطانى , وخلاصته أن لا فائدة من المفاوضات التى استمرت عاما ونصف عام وكان من عادة النحاس باشا أن يترك لنا حرية الرأى ولا يقول رأيه إلا أخيرا ولقد قلت إن المسألة لا تحتاج إلى تراجع ولابد من عرض النصوص والتشريعات , ونكون جادين وتنفذ سياسة الوفد , ولقد سر النحاس باشا لدرجة أنه قبلنى وهذا معناه كان يعتمل فى نفسه القرار ذاته .

ومكثنا طوال الوقت نفكر أنا وإبراهيم فرج فيما كنا سنقوله لمجلس النواب , واستدعينا الدكتور " وحيد رأفت " باشا الوفدى والذى كان يعمل المستشار الملكى لرئاسة مجلس الوزراء بإعداد مواد الدستور اللازمة لهذا الإلغاء والقوانين.

ولابد من كتمان الأمر عن الملك , وعن أى شخص , وكان عند حسن الظن وتكتم الأمر وتم ذلك , وفى نفس الوقت كنا نضع البيان الذى سيقوله " النحاس " باشا فى البرلمان واذكر أننى صاحبت العبارة المشهورة " من أجل مصر عقدنا المعاهدة ومن أجل مصر أطالبكم اليوم بإلغائها " .

عرضنا الأمر على الوفد ويقصد بها القيادة الوفدية وهى تشبه اللجنة العليا للإتحاد الإشتراكى وكانت تتألف اللجنة من " عثمان محرم – عبد الفتاح الطويل – سيف النصر – مصطفى نصرت – محمود سليمان غنام – أحمد حمزة – السيد بهنس – عبد السلام فهمة جمعة – فؤاد سراج الدين – ونائب أسيوط " ولقد أقر الوفد هذه الخطوة وباركها , واجتمعنا فى مجلس الوزراء الإجتماع الأسبوعى العادى , وفى الجلسة عرض فى ختامها " النحاس باشا " وقال أنه سيكون إلغاء كاملا وليس إسميا وأوضح أنه سيكون هناك معارك تتعلق بهذا القرار قد تؤدى بالوفد .

ولقد عرض المشروع على الملك لأخذ موافقته وطلب من الملك ضرورة كتمانه خوفا من إجراء مضاد من قبل بريطانيا , ولقد استدعى " النحاس باشا " " حسن يوسف باشا " وقال له أننى أحمل الملك شخصا مسئولية تسرب هذه الأنباء إلى الإنجليز وإذا عرف اى شخص فى القصر سيعرف الإنجليز , وأنا سأحمل الملك أى نتائج تترتب على ذلك , وطلب أن يصله فى ظرف يوم , ولابد من تقديمها يوم الاثنين , وإذا لم يصلنى الرد فسأعرضها على المجلس وسأحيطه علما بأن الملك لم يرد على ..

ومن الطريف أنه فى نفس الأسبوع وقبل بدئها وصل " رياض بك اندراوس " والذى كان على صلة وطيدة بالملك والإنجليز , وسأله – فؤاد سراج الدين – عما إذا كانت ستلغى المعاهدة , وقال إنه وصلى برقية من لندن تقول " علنا أن الحكومة المصرية على وشك إعلان إلغاء المعاهدة " والسفير أحضر أندرواس وسأله وذهب " أندراوس " للملك يجد ردا وجاء إلى ونفيت الخبر بشدة وأخبرته بأننى سأقابل السفير بعد بضعة أيام لاستئناف المفاوضات . ورد السفير على لندن ينفى هذا الخبر ويؤكد عدم صحتها وبعد هذا النفى بأربع وعشرين ساعة فقط ألغيت المعاهدة .

ونقل السفير على أثرها إلى القاهرة لحضور جلسة النواب بعد الظهر , واستدعينا كل الهيئات الوفدية البرلمانية العليا ولقد حضروا جميعا , وتلاشت الشكوك فى أية مناقشات وفى البرلمان أعلن النحاس باشا إلغاء المعاهدة وتم الإلغاء عمليا ومن العجيب أن الملك قد استشار " نجيب الهلالى " باشا الذى كان قد خرج مؤخرا ولقد نصحه بضرورة التوقيع وهذا لا يخلو من ذكاء .

"اللجوء إلى الإيجابية فى حل القضية الوطنية "

وضع إلغاء المعاهدة موضع التنفيذ

استعرضنا فى الفصل السابق الأسالبيب السلمية فى حل القضية الوطنية , وقد وصلنا إلى حقيقة مؤداها أن المفاوضات مع المستعمر وأساليب عرض القضية على محفل دولى كبير كمجلس الأمن , لن تحل المشكلة إطلاقا وليس معنى ذلك هو أن كل القوى السياسية البرارزة فى مصر تلك الآونة كانت مؤمنة بهذا الأسلوب , إنما الذى أعنيه أنه بالرغم من كل شىء فلقد سلكت وفشلت كل الأساليب السلمية والمنطقية والهادئة فى جلب استقلال بلد محتل كمصر والسودان .

وكان إذن لابد بعد أن طال الهدوء ونفذ الصبر لابد أن يلجأ إلى الطريق الوحيد الذى لم يكن هناك سواه .ولم يكن هناك أيضا مفر من القدوم عليه , ولقد أدرك الوفد بحساسيته الشبابية الواضحة ذلك , وأعلن إلغاء المعاهدة المصرية البريطانية من جانب مصر فى 8 أكتوبر سنة 1951 , وكان عليه أيضا أن يضع هذا الإلغاء الذى تم من جانب واحد بالفعل محل التنفيذ , أعنى أن يبادر بعمل كل ما يثبت ذلك وأيضا عليهأن يتحمل أى رد فعل مهما كانت درجة قوته ومهما كانت نتائجه .

وكان أول مظاهر ههذ المواقف الإيجابية عدم التعاون المادى المباشر مع بريطانيا وتطلب ذلك تشجيع العمال على ترك أعمالهم بثكنات الجيش البريطانى وإيجاد عمل لهؤلاء العمال وأيضا عدم إرسال أية مؤن للجنود المقيمين بها.

ثم تطلب أيضا مساعدة العمل الفدائى فى القناة , وأيضا تطلب مواجهة التحرشات البريطانية بكل قوة , كذلك مجابهة الإحتكاك البريطانى بالبوليس عدة مرات بالإسماعيلية لعل كان أشهرها أحداث 25 يناير سنة 1952 , وكان على الفود أيضا مجابهة الملك وأعدائه بالإضافة للإنجليز فيما عرف تاريخيا بأحداث الحريق فى 26 يناير وما نتج عنه من إقالة إجبارية لوزراة الوفد عقب الحريق .

ويزعم فؤاد سراج الدين – وزير داخلية آخر وزارة وفدية – " لقد ظن الكثيرون أن إلغاء المعاهدة سيكون شكليا وليس له أى نتائج عملية أو فعلية نظرا للخوف من القوات الإنجليزية التى بالقنال وخاصة وأن عددها كان يصل إلى سبعين ألف جندى , ولقد أردنا أن نثبت للإنجليز أن القاعدة الإنجليزية والإستعداد الضخم الذى بها عديمة الجدوى إن لم يكن اتفاق مع مصر .

وبدأنا بسحب العمال المصريين وكان عددهم من ثلاثين إلى خمسة وثلاثين ألف عامل ولم يكن خروجهم برغبتهم نظرا للخوف من البطالة وأعلنا أن من يترك العمل فى القاعدة سنلحقه بالعمل فى الحكومة وبنفس الأجر , وبدأ ت العمال فى الإنقطاع التدريجى وبدأوا بعشرة فى المائة وبعد أيام قلائل وصل عدد المنقطعين عن العمل مائة فى المائة , وبدأوا فى الإستعاضة عن العمال المصريين بعمال من قبرص أو مالطة , وكان عليهم أن يجلبوهم بالطائرات , كما أن هؤلاء العمال كانوا يأنفون من العمل الذى كان يقوم به العمال المصريون .

واذكر أنهم كانوا قد احتجزوا بعض العمال المصريين داخل القاعدة واضطروا فى النهاية إلى السماح لهم بالخروج بعد أن أثرنا ضدهم كل القوى , وقد أبلغنا مكتب العمل الدولى وبذلك فى " جنيف " وقد منعنا عنهم جميع المواصلات من سكك حديدية وملاحية.

وطرق زراعية التى كانت تنقل لهم التموين والمعدات وكل متطلباتهم وسحبنا جميع القاطرات التى كانت لديهم وإن احتفظوا هم ببعض القاطرات ولكنهم فى النهاية لم يستطيعوا تشغيلها , ولقد فوجئت القوات الإنجليزية بتلك القرارات "

" وحتى الحياة الإجتماعية المريحة لقواتهم أيضا حرموا منها , وقد بدأنا بحرمانهم من ذلك عن طريق السماح للحركات الفدائية والتى عرفت بالكفاح المسلح فى مدن القناة ولذلك لم يعد الجنود يأمنون على أنفسهم السير فى الطرقات فى الليل , كذلك ما حدت لهم من تخريب فى منشآتهم وفى معسكراتهم وآلاتهم , أتعبناهم إلى أقصى حد ممكن وكان لدينا أدلة كثيرة فبالصدفة التقطنا موجه سرية بينهم وبين القاعدة الخاصة بهم فى قبرص , من فوق وزارة الداخلية , وقد عرفنا نسبة غياب العمال عن المعسكرات , ومن ضمن إشاراتهم أن الحياة أصبحت فى القاعدة جحيما ومستحلية , ويوم أن تلقينا الإشارة القائلة بأن غياب العمال أصبح 100% كان يوم عيد بالنسبة لنا "

" ولقد اشترك العديد من الرجال على مختلف نوعياتهم وهوياتهم السياسية فى هذه الأعمال الفادئية , وللإنصاف أقرر أن الأحزاب بالإجماع باركت هذا الغلغاء سواء فى مجلس النواب أو الشيوخ , وأيد ممثلوها هنأوا الحكومة وكانوا لا يستطيعون المعارضة نظرا لضغط الرأى العام وتأييده المطلق لذلك " .

" أما الملك ففى بداية الأمر لم يكن متوقعا أن يتطور الموقف إلى هذه الدرجة من الإنجليز إنما تطور الموقف وسير معركة القناة وكان قد أقلقه واذكر فى إحدى اجتماعات الهيئة الوفدية بالنادى السعدى , وكان ذلك أثناء اشتداد المعركة فى ديسمبر سنة 1951.

أن سأل بعض أعضاء الهيئة الوفدية عن نتيجة ونهاية هذه المعركة , وقلت إنها تتوقف على مقدرة أعصاب الملك , فإن احتملها وقاوم الضغط الإنجليزى للتخلص من حكومة الوفد , وإن تم ذلك فأنا متفائل بنتائج المعركة ويبدو أن توقعاتى قد تحققت نظرا لانتهاز الملك فرصة أحداث ما عرف بحريق القاهرة وأقال حكومة الوفد للتخلص منا ومن الحركة الفدائية فى القناة " وإنصافا للملك إنه أثناء المعركة لم يعرض فى التوقيع على أى مطالب أو أوراق تطلب موافقته , فمن هذه الناحية لم يكن هناك عقبات " ولقد أحسست أن هناك بعض المبالغة فى اقواله ولكن الكتابات التى ظهرت حول هذا الموضوع أكدت صحة هذه المواقف ومنها ما قاله .

وباختصار , فإن إعلان الحكومة عن عدم مشروعية وجود قوات الإحتلال إعلان الشعب بدء النضال المسلح لإجلاء هذه القوات فقد قوبل من الدول الإستعمارية مجتمعة بالتحدى السافر وتوجيه إنذار حربى بفرض الإحتلال بالقوة وإرغام الشعب بقبوله بحد السيف "

" وعهد إلى قوات بريطانيا بالتنفيذ وفى نفس اليوم 13 أكتوبر وفى الوقت الذى كان فيه الدكتور " محمد صلاح " يقرأ الإنذار كانت ناقلات جنود بريطانية قد وصلت إلى بور سعيد تحمل إمدادات لتشارك فى الغزو الخارجى " .

غير أن عنصرا جد فى الموقف قلب تقديرات المستعمرين وعرقل من سيرخطتهم وهى نضال الطبقة العاملة المصرية , فقد نجح العمال المصريون فى تجمع القوات البريطانية فى القتال منذ الأيام الأولى التى اعقبت إلغاء المعاهدة مباشرة إلى جثة هامدة وعبء على كاهل الامبراطورية وجيوشها وحلفائها , فمنذ اللحظة الأولى وبغير ضجة أو إبطاء وفى إجماع وشجاعة نادرين وبنظام وانضباط قل أن يوجد لهما مثيل وقعت الأحداث التالية .

  1. امتنع عمال السكة الحديد عن التعاون مع القوات البريطانية بأى صورة من الصور – فأصابت تحركات الجيوش وخطوط التموين البريطاينة بالإرتباك والشلل المفاجىء .
  2. امتنع عمال الشحن والتفريغ فى ثغور القناة عن تفريغ حمولة البواخر البريطانية , وفى الأيام القليلة التى أعقبت إلغاء المعاهدة ظل أكثر من سبع عشرة باخرة تهيم فى القنال دون أن تستطيع الإستمرار وانزال مساعديها من جنود وعتاد بعد أن تخلى عمال الشحن المصريون عن أداء المهمة "
  3. إضراب العمال المصريون فى المعسكرات البريطانية عن العمل بها وانسحبوا جميعا منها وضحوا بمرتباتهم وأجورهم التى هو مورد رزقهم وأرزاق عائلاتهم استجابة لنداء عدم التعاون مع المحتلين بعد إلغاء المعاهدة , وبلغ عدد العمال المنسحبين نيفا وستين ألف عامل كانوا يشتغلون فى المعسكرات البريطانية وورشها ومصايفها وإداراتها المختلفة , ولقد لقى هؤلاء العمال البواسل متاعب بالغة فى انسحابهم وانقطاع أجورهم .

وكان للمثل الرائع الذى ضربه العمال أثره فى الطبقات والفئات الأخرى فى منطقة القنال والشرقية فامتنع غالبية التجار والمتعهدين والحرفيين فى المنطقة عن التضامن مع قوات الإحتلال .

وإذا تتبعنا الأحداث التى تعاقبت بعد إلغاء المعاهدة فإننا نجدها لا تختلف عن خطة الإستعمار فى الأرض :

أولا : إحتلال القنال كنطقة كلها احتلالا تاما بما فى ذلك المدن التى كانت تعتبر قبل الإلغاء مناطق محرمة على القوات البريطانية وعزل المنطقة كلها عن بقية البلاد وإقامة حكم عسكرى بريطانى سافر , ومقاومة كل حرية بها بالعسف والتنكيل .

ثانيا  : إتخاذ منطقة القنال نقطة وثوب لإعادة احتلال أجزاء أخرى من البلاد , وواضح أن القاهرة كانت هدفا تاليا بعد القنال والشرقية.

ثالثا : وفى هذه الأثناء الدأب من جانب قوى الإحتلال والسراى على تحدى الحكومة الوفدية وإذلالها وتهديدها بهدف دفعها إلى الإستقالة أو تهيئة الجو لإقالتها والإتيان بحكومة تتولى تصفية الموجة الثوريى بالإرهاب السافر وتتعاون مع الإنجليز فى ربط البلاد بالحلف المقترح .

الحركة الفدائية المصرية فى القناة

يعد بيان " مصطفى النحاس" باشا فى مجلس النواب أى فى صباح 9 أكتوبر سنة 1951 , قامت المظاهرات الشعبية وبدأت فى المدن , ففى الإسماعيلية هاجمت مخازن البحرية والطيران للجيش الإنجليزى , وتبودلت إطلاق النيران .

ودخلت على أثرها المصفحات الحربية المدينة وهذه كانت إشارة للمقاومة الشعبية التى كانت تمتد على قناة السويس كلها من 9 أكتوبر وحتى 26 يناير سنة 1952 , ومن أول نداء من الحكومة 8 آلاف عامل مصرى وموظف حكومى تركوا وظائفهم وبذلك شلت حركة الجهاز الحكومى " .

وأما عن [[[القاهرة]] والأسكندرية فلقد شكلت اللجنة الطلابية لاختيار المتطوعين الأكفاء وسافروا بالفعل إلى الشرقية , أما عن أهم أعضاء تنظيمات المقاومة الشعبية فالجواب الطلبة والعمال والفلاحون المثقفون , وكانوا ينتمون إلى التنظيمات الشيوعية والشباب الوفدى , من الحزب الوطني القديم من مصر الفتاة ومعظمهم كانوا من p m أى الضباط والبوليس الصغار الذين دربوا المتطوعين بالسلاح , ولكن البوليس كان موجودا عند الحاجة , ولقد ذهب إلى القاعدة بالسويس وكان لهم أربعة أهداف واضحة :

أولا : تخريب المقدمة للجيش البريطانى .

ثانيا : قطع المواصلات للجيش البريطانى .

ثالثا : منع دخول الإمدادات .

رابعا : جعل الحياة مستحيلة فى القاعدة البريطانية بالسويس ولم يكن هناك سياسة موحدة إذ كل مجموعة تتبع قائدها , ولم يكن هناك اتصالات أو تنظيم لأن الإنذار يعطى بالهجوم وبعده محاولة عن قرب لمجموعة أخرى , ولم يكن جذور السكان المحلحين , إنما كانت مجموعات المتطوعين أصلا من المدن المجاورة وقد حضروا وأسلحتهم فى أيديهم ليحلوا مجموعة كانت أصلا محلقة باللجنة الطالبية العليا , ولم يكن لها أصالة من سكان المدينة أى لم يشترك معهم أحد من أهالى السويس ولم يكن يرى حتى تلك اللحظة إمكانية تحويل نشاطهم الثورى إلى ثورة فلاحية , لم تحدث لهما أو أوصلوا مشكلة الأرض بمشكلة الإستقلال , أما لماذا لم يشترك الأهالى على اختلافهم مع المقاومة فذلك لأن كل التنظيمات كانت مقسمة , ولم يكن هناك جهاز ثابت ومنفذ وموجه لحركة المقاومة الشعبية . "

" لقد انتشرت المقاومة الشعبية فى القرى وأنشأت فى كل أقسام الإسماعيلية وفى وسط الفلاحين ومن ضمن الفلاحين قرية " بركة أبو جاوس " و" عزبة عطوة " و" نفيسة " وبعض المعارك الصغيرة حدتت بين القوات البريطانية والفدائيين خصوصا عند "القرين , والتل الكبير " ولأول مرة فى " القرين " دخل جيش بريطانى ضد قرية بأسلحته واضطر للتراجع فى المعسكرات البريطانية " .

ولقد ذكرت جريدة " التايمز " فى لندن فى تعجب شديد أن أعصاب الجنود البريطانيين معرضه لأوامر قاسية ويتعجبون من الغرض من بقاء قاعدة بريطاينة حربية فقدت كل فوائدها بسبب الشعور الوطنى المعارض وهكذا إذ حوالى " 60." فدائى دخلوا فى معركة فى كل محافظة وكل مدينة كل الذين ماتوا منها أبطال على ساحة الشرف من الشرقية " مطصفى أحمد . محمود الأردينى . محمود رشاد . جرجس سلامة . إبراهيم أبو شيشة . محمد عبد الهادى . عباس القصاب " التى شرفتهم جامعة الأسكندرية بالجندى المجهول " عمر شاهين .أحمد المنيسى .

وأحمد عصمت الطيار من جامعة القاهرة , ونبيل منصور من بور سعيد " وفى القاهرة فى اليوم الذى تلا حرب الجيش الإنجليزى لقرية " كفر عبده " كان لابد للحكومة أن تتخذ قرارا وهو محاصرة نادى الجزيرة الرياضى وطرد الأعضاء الإنجليز وبدأنا نفكر جديا فى قطع العلاقات التجارية والدبلوماسية مع لندن واستدعاء سفيرنا من سان جيمسى " عبد الفتاح باشا "

وأيضا معاقبة أى شخص يتعاون مع القوات العسكرية المستعمرة , وفوق كل ذلك الحق لكافة المواطنين فى حمل السلاح من 15 [[ديسمبر] سنة 1951 , وكلفت الحكومة بدراسة إمكانيات استبدال علاقتها الإقتصادية التجارية مع بريطانيا باتصالات مع روسيا والأقطار الشيوعية , حتى أنها فكرت فى خلق مجتمع ضد الإمبريالية وسط الأقطار التى تتكلم اللغة العربية على المستوى الشعبى وتنظيم المقاومة الحربية فى سرعة فى أوائل سنة 1952 .

ولقد حرصت التنظيمات التى كانت مشغولة بتعويض النقص الذى وجد خلال المعارك والدماء الباهظة التى دفعت , وكانت مشكلتها وشاغلها الشاغل تحويل المقاومة الشعبية الفدائية إلى حرب فلاحين للتحرير القومى بتوزيع الأسلحة للفلاحين وإنشاء قيادة موحدة للكتائب , وأيضا جريدة سياسية عسكرية وضباط اتصال بين جميع الأقسام وكانت الجنة التحضيرية للإتحادات التجارية على مستوى القطر المصرى فى الطريق إلى بناء وتكوين المجموعة المؤثرة واتحدت بالفعل التنظيمات الشيوعية مع بعضها فى العمل .

من ذلك يتضح كيف أن العمل الفدائى قد وجد تشجيعا لا يمكن إغفاله من مختلف القوى السياسية المصرية وإن قادة الوفد على اعتبار أن السلطة فى يده " اشتدت حركة المقاومة الى يقوم بها الفدائيون فى ضفة القناة , وتميزت بالتنظيم الدقيق على أثر وصول الكتائب الجامعية إلى ميدان المعركة , وارتفعت تبعا لذلك نسبة الخسائر الإنجليزية فى الرجال والمهمات على السواء.

وإنزال الكتائب الجامعية تتزايد وقد سقط فى ميدان الشرف من كتبت لهم الشهادة ولقد بلغت الهمجية بالإنجليز فى مقاومة الحركات الفدائية حدا لم يبلغه كل ما نشر عن فظائع النازى فى الحرب الماضية , ومن ذلك إطلاق المدافع الضخمة على القرى الآمنة بدون تمييز وإلقاء القنابل الحارقة على بيوت القرويين ومزارعهم ثم وصلت الهمجية إلى ذروتها فى نهش قبور الوتى وانتهاك حرمات بيوت الله واستخدام مآذنها قلاعا يصوبون منها نيرانها على الناس , وصلب الأسرى و قتلهم بعد تسليط الكلاب المتوحشة عليهم تنهش أجسامهم وتأكل منها قطعا كاملة وهم أحياء وتقشعر لبشاعتها البشرية .

وقد ضاعفت هذه لوحشية من حماسة الفدائيين ونشطوا للإنتقام من هذه الوحوش البشرية التى لا تعرف قانونا ولا أخلاقا ولا دينا ولا إنسانية " هذا ولقد كان العمل الفدائى يدعم بالعلانية من الأحزاب المصرية والتحريض أيضا , ففى نداء صريح من" أحمد حسين " بالإشتراكية نادى قائلا " على كتاب التحرير والشباب المجاهد أن يجتمع فى حلقات ليطالع سويا هذه الدروس المنقولة عن كتاب " حرب العصابات " ترجمة اليوزباشى " أحمد حمروش " وعلى كل جماعة أن يستعينوا ببعض العسكريين ليشرحوا لهم بعض ما يصعب عليهم فهمه " .

ثم حددت الجريدة أغراض الحزب من الحركة الفدائية فى أعداد لاحقة على أنها مطالب ثمانية محدة :

أولا : توجيه إنذار رسمى للإنجليز عن البلاد .

ثانيا : قطع العلاقات السياسية والتجارية .

ثالثا : التوقف فورا عن شحن وتفريغ المراكب الإنجليزية والإقلاع عن تصدير القطن .

رابعا : جيشنا لابد أن يحارب .

خامسا: السلاح .

سادسا : عقد مواثيق الصداقة وتبادل المعونة مع روسيا ودول الكتلة الشرقية كلها .

سابعا : إصدار قانون عفو شامل والإفراج عن المسجونين السياسيين وتصحيح الأوضاع .

ثامنا : سياسة اشتراكية هدفها صالح الفلاحين والعمال وطوائف الشعب الأخرى .

ولقد أرسلت الحكومة البريطانية احتجاجها عن طريق سفيرها بالقاهرة إلى وزارة الخارجية المصرية تقول " إن السفارة علمت بمزيد الأحكام بالهجمات التى وقعت على القوات البريطانية فى منطقة القناة فى 3, 4 ديسمبر وتقيد التقارير التى تلقتها السفارة أن هناك عناصر خارجة على المقاومة من السكان ولا يسيطر عليها السلطات المصرية وتتمتع بالتأييد من بعض وحدات البوليس وأنهم جماعات مختلطة من البوليس والمدنيين مسلحة بالسلحة الأوتوماتيكية.

والبنادق والقنابل اليدوية , قد شددت هجمات متعمدة وبدون سبب يدفعها إلى ذلك على القوات البريطانية , وفى أثناء أدائها لواجباتها العادية مما جعل الأخيرة مضطرة إلى الرد بالمثل , وإن السفارة تطلب إلى الوزارة توجيه انتباه السلطات المصرية المختصة على الفور لهذا الأمر الخطير جدا , ولابد من القيام بعمل سريع لنزع سلاح السكان المدنيين والسيطرة عليهم ونقل وحدات البوليس الين يشتركون بالفعل فى خدمة السلام ".

وبالرغم من أن الشعب قد تحمس للحركة الفدائية وضغط بكل ثقله ليضع الإلغاء موضع التنفيذ و وبالرغم من استجابة الحكومة الوفدية لهذا كله , إلا إنه لم يكن بمقدورها إعلان الحرب أو إشعار السفارة الإنجليزية بمساعدتها إايجابية للحركة الفدائية وذلك على حد تعبير وزير الداخلية آنذاك " فؤاد سراج الدين باشا " " كنا حريصين ألا تبدو كصورة حرب لعدم تكافؤ القوى بين الدولتين , فلقد كان هناك سبعون ألف جندى بالمعسكرات البريطانية.

وكان الشعور الوطنى فى نفس الوقت وكنا نخشى النتائج التى قد تترتب عليه فيما لو هزمت الكتائب المصرية , إذ كان معناها ببساطة شديدة احتلال إنجليزى آخر واستسلام وفرض بريطانى لشروط استسلام , لذلك أعطينا المقاومة صورة فدائية , وأن الحكومة لا تستطيع حبس الشعور الوطنى الذى يدفع بهؤلاء الشباب إلى تلك الإجراءات وبذلك فالحكومة لا تتحمل أى نتائج , وأن واجب الحكومة هو حماية المواطنين من بطش القوات البريطانية التى كانت تتحرش بالمصريين كثيرا بعد إلغاء المعاهدة "

" اما حقيقة الموقف فهو أن الحكومة ووزارة الداخلية بالذات أمدتهم بالسلاح والمال والعتاد , بل وأكثر من ذلك اشتراك رجال البوليس المصرى وبعض رجال الجيش فى المقاومة وأن كانوا يحصلون على إجازات من عملهم بكل الطرق حت تعدد دفاتر الحضور بصورة لا تدع مجالا للشك أو تلقى أى ضوء على المهام التى كلفوا بالقيام بها وهى الكفاح مع إخوانهم فى القناة "

" كذلك كنا نرسل وفد الإذاعة المصرية ليسجل الأحداث ويذيعها على الجمهور المصرى فى المساء كل يوم بتفصيل المعارك الفدائية وإثارة الموطنين وتشجيعهم على الإستمرار فى ذلك والأكثر من ذلك تحريض وإثارة الشباب الذى لم تكن تنقصه تلك المشاعر وبالطبع لم نكن لتستطيع الإذاعة القيام بذلك بدون موافقة وزير الداخلية "

" كذلك كنت قد استدعيت عددا كبير من الصحفيين الأجانب ويبلغ عددهم مائة وخمسين صحفيا و وكنت أملى عليهم يوميا أحداث المعركة بعد الثامنة مساء مع بعض المبالغات حتى تثير عليهم الرأى العام العالمى وخصوصا أحداث "كفر عبده " لدرجة أن السفير البريطانى قال لى " لماذا كل تلك الضجة والقرية لم يكن بها إلابضعة منازل مبنية كلها بالطوب اللبن " ؟

كذلك مجابهة موقف الإنجليز بكل شدة وخاصة عندما حاولوا وصول البترول المصرى من معامل تكريره بالسويس إلى داخل القاهرة لكى يعيقوا العمل وسير القاطرات والسيارات المتحملة بالمؤن , ولكننا لم نيأس إذ أن الشخصيات الكبيرة التى كانت ممنوعة من التفتيش عند دخولها السويس كانت تحمل الأسلحة وللتدليل على ذلك فإن محافظ السويس فى تلك الآونة , كان يحمل فى عربته الخاصة أسلحة وذخيرة ومؤنا أثناء سفره اليومى بين القاهرة والسويس نظرا لتعرض السيارات المسافرة للتفتيش .

" وكنا نجمع الأسلحة من الأرياف والصعيد ونقوم بطرقنا الخاصة بتوزيعها طوال معارك القناة والتى استمرت على أثر إلغاء المعاهدة من نوفمبر سنة 1951 وحتى أحداث الحريق فى 26 يناير سنة 1952 ولقد أدرك الإنجليز أن وزارة الداخلية تشجع هذا العمل بل وفهموا أن البوليس ضمن العناصر المحاربة

وللتدليل على ذلك فإن رسالة شديدة اللجهة قد أتت إلى , من السفير البريطانى يقول فيها " إنه نما إلى علمه بالدليل القاطع اشتراك البوليس المصرى فى الأعمال الفدائية وإنه ليعجب من ذلك " فما كان منى باعتبارى وزيرا للداخلية إلا أن رفضت اللهجة المقدم بها وأبلغتهم أن الرسالة كان لابد أن تمر عن طريق وزير الخارجية إذا كانت مقدمة بصفة رسمية , أما إذا كانت مقدمة بصفة شخصية فإننى أيضا أرفض اللهجة التى قدمت بها "

كذلك حرصت الحكومة على زيادة أعداد البوليس من الرجال الموجودين بكل مدينة من مدن القناة إلى الف جندى وإمداد كل جندى بألف طلقة .

كانت إذا تلك المساعدات الإيجابية التى قدمت للفدائيين بالقناة وبالطبع لم يكن متوقعا إطلاقا أن يقف الجنود الإنجليز مكتوفى الأيدى بل قامت تحرشات عديدة لإثارة المصريين قوبلت بالمثل , ولقد اتيح لى الإطلاع على بعض وثائق وزارة الخارجية المملوءة بمثل تلك المحاولات فعلى سبيل المثال لا الحصر مذكرة قدمت من محكمة بور سعيد الكلية إلى مدير التفتيش القضائى بوزارة العدل يقول فيها "

أولا : أنه منذ إلغاء معاهدة سنة 1936 واتفاقيتى سنة 1899 , اخذت القوات الإنجليزية باتخاذ كافة السبل لاستفزاز أهالى المنطقة وذلك بمرور سياراتهم الحربية المصفحة وبها جنود حاملو السلاح فى جميع الطرق بغرض إدخال الرعب فى نفوس الأهلين.

ولقد لاقى أحد حضرات قضاة المحكمة وهو " عدلى عبده جرجس بك " صعوبات جمة عند انتقاله من القنطرة الشرقية بعد حضور جلسة محكمة العريش إذ منعه الجنود الإنجليز من العودة مع استعمال وسائل غير كريمة من شخصه رغم إخطارهم بشخصيته ولم يسمح له بالعبور للضفة الغربية إلابعد تركه منفردا زهاء ساعتين تحت أشعة الشمس المحرقة.

وفصلوا أغلب العمال الذين يحملون ترخيصات من السلطة البريطانية فضلا عما يتهدد القناة عند انتقالهم من المحكمة الكلية الكائنة مركزها فى مدينة " بور فؤاد " والتى يعسكر بها عدد وافر من جنودهم إلى بور سعيد ويمر القناة بالمعديات المعدة لهذا الغرض والتى تسير بهم قطع الأسطول البريطانى الرأسية بالتيار بحالة استفزازية على طول الخط .

ثانيا : انقطاع سبل المواصلات عند مدينة بور سعيد وذلك باستيلاء الإنجليز على خطوط السكة الحديد بمنطقة القناة , فضلا عن تفتيش السيارات التى تمر عبر الطريق الموصل إلى بور سعيد والإعتداء على ركاب هذه السيارات بسرقة أموالهم وأمتعتهم وإيذائهم بشتى الإعتداءات وغير ذلك من الحوادث التى تتحرج الصحف من نشرها , ولم يبق للوصول إلى مدينة بور سعيد سوى طريق السيارات الساحلى إلى دمياط , ومنها إلى مصر مع ملاحظة أن هذا الطريق سيصبح عسيرا بمروره فى غضون الشتاء لطغيان مياه البحر عليه فضلا عن كونه غير مرصوف .

ثالثا : عدم إمكان الفصل فى القضايا المعروفة لتعذر حضور المحامين القادمين من الجهات فضلا عن أن أقسام قضايا الحكومة ترسل تلغرافات تطلب تأجيل قضايا الحكومة لتعذر حضور مندوبهم .

رابعا : إن حالة الإضطراب المبينة بالبند الأول أدت إلى انقطاع الكثير من مواد التموين الضروية الضرورية كالغاز وخلافه وحتى أصبحت الإقامة بمنطقة القناة متعذرة على ذوى العائلات .

خامسا : إن الإنجليز يرغبون فى الحيلولة بين المنفذ الوحيد الباقى لإمكان السفر عن دمياط والسفر بالقطارات بأن هاجموا منطقة الجبل التى يقع جهاز القطار غير أن الإتصالات فيما بين المحافظة وبينهم حالت دون وقوع هذا البشر , ولا يستعبد إستيلاؤهم على هذا المنفذ الوحيد فى أى وقت مقبل .

" كذلك الحوادث التى وقعت بالإسماعيلية وبور سعيد يومى 16 , 17 أكتوبر سنة 1951 , احتجاجات أرسلت للسفارة البريطانية , ومظاهرات الإستفزاز الحربية التى قامت بها القوات البريطانية داخل مدن القناة فبدلا من الإبتعاد عن الأهالى أثناء قيامهم بمظاهرات للتعبير عن فرحتهم بمناسبة الغاء المعاهدة سنة 1936 وما انتهى إليه الأمر من احتلال القوات البريطانية للمرافق العامة والجمارك ومحطات السكك الحديدية وإطلاقهم النار جزافا على الأهالى بدوت تمييز "

كذلك قدمت مذكرة أخرى من الحكومة المصرية فى 27 أكتوبر سنة 1951 , بخصوص تدخل القوات البريطانية بحجة المحافظة على الأمن , وادعائها بوقوع بعض السرقات والإعتداءات على بعض الرعايا البريطانية , وقد تضمنت الإشارة إلى مذكرة الوزارة المؤرخة فى 16 أغسطس سنة 1951 التى احتجت على سير القوات البريطانية , فى استعراض داخل الإسماعيلية.

كما أشير فيها إلى منع العسكريين المصريين من دخول منطقة القناة لتأدية أعمالهم , ومحاولة القوات البريطانية تطويق وحدات الجيش المصرى الموجود فى هذه المنطقة , وفصل بعضها عن الآخر بالإضافة إلى ما يزيد فى استفزاز للإمدادات التى جاء بها الإنجليز إلى منطقة القناة , مما يزيد فى استفزاز الشعور الوطنى , ويعتبر اعتداء على الأراضى المصرية , كما احتج فيها على استمرار الإعتداء على رجال السلطة العامة والأهالى بالقتل والسرقة بحجة التفتيش "

ولقد كان من أهم الأعمال الإستفزازية التى قامت بها القوات المستعمرة فى مصر واستغلتها القوى الوطنية أفضل استغلال فى تشديد الحركة الفدائية من جهة , وفى إثارة الشعور العالمى على بريطانيا من جهة أخرى , هو هدم حى " كفر عبده " بالسويس فلقد أصدر مجلس الوزارء بجلسته المنعقدة فى يوم الثلاثاء 11 ديسمبر سنة 1951 القرارات الآتية :

أولا : استدعاء سعادة سفير مصر لدى المملكة المتحدة احتجاجا على اعتداءات القوات البريطانية فى منطقة القناة مع تكليف حضرة صاحب وزير الخارحية بالنيابة تنفيذ ذلك .

ثانيا : بناء مساكن جديدة على نفقة الحكومة وعلى أرض مملوكة لها تمنح بدون مقابل لأصحاب المساكن التى هدمت فى " كفرعبده " بمدينة السويس , على أن تطرح مناقصة بناء هذه المساكن فى خلال أسبوع واحد وعلى أن يتم البناء والتسليم لأصحاب المساكن فى خلال شهرين مع صرف إعانة من وزارة الشئون الإجتماعية لأصحاب كل مسكن هدم لتدبير مسكنه المؤقت فى فترة تشييد المساكن الجديدة .

ثالثا : استصدار تشريع بمعاقبة كل من يتعاون أو يتعامل مع أية قوة عسكرية أجنبية فى البلاد .

رابعا : الموافقة على تعديل قانون إحراز السلاح بحيث يكون الأصل هو إباحة إحراز السلاح , مع إخطار وزارة الداخلية بذلك . ما لم تعترض هذه الوزارة فى فترة معينة من تاريخ الاخطار .

خامسا : نقل المكتب الهندسى بلندن التابع لوزارة المواصلات إلى أواسط أوربا على أن يكون مقره سويسرا , وإعادة جميع الموظفين المصريين بالمكتب المذكور المتزوجين من أجنبيات للعمل بالوزارة أو فروعها " ولم تكتف الحكومة المصرية بذلك بل أرسلت خطابا عن طريق وزارة خارجيتها بالنيابة إلى السير " رالف اسكراين استيفنسون " السفير البريطانى فى القاهرة تتضمن الآتى " إيماء إلى تعليمات تلقيتها من حكومتى أتشرف بأن أحيط سيادتكم علما بالآتى :

" أنه منذ أكتوبر سنة 1951 الماضى لم تتوقف الحكومة المصرية عن الإحتجاج لدى حكومة لندن والسفارة البريطانية فى القاهرة على المذابح والأعمال العدوانية التى لا حصر لها , والتى تعتدى فيها القوات البريطانية كل يوم فى منطقة القناة وآخر عمل من هذا الشهر وذلك بالدبابات والمدافع والمصفحات والقوات البريطانية وقد أدى هذا العمل إلى تشريد ثلاثمائة أسرة وسيظل سم هذه القرية مثل قرية " دنشواى " محفورا لمدة طويلة فى قلب كل مصرى رمزا للفظائع والطغيان للإحتلال البريطانى " .

"ولقد طلبت الحكومة المصرية الإنسحاب الفورى للقوات البريطانية ومنعهم من دخول مدن بور سعيد والإسماعيلية والسويس من أجل تحاشى سفك الدماء وأسباب الصداقة , وفى 11 ديسمبر بدأت الحكومة البريطاينة وكأنها وافقت على هذا الطلب ولكن هذه الموافقة كانت لها تحفظات قاسية للغاية ولقد قررت الحكومة المصرية استدعاء سفيرها فى لندن الذى تسلم الأمر بسرعة للوصول إلى القاهرة.

وذلك من أجل الإشارة إلى احتياجها على هذا الحالة التى لازالت تهدد حياة عديد من المصريين إذا لم ينقل مئات من الجرحى بينهم مدنيين ورجال شرطة أو الدمار الذى لحق بالممتلكات وأن الحكومة المصرية تحتفظ بكل حقوقها فى التعويض عن الخسائر والدمار الذى لحق بمنطقة قناة السويس فى الأيام الأخيرة , بسبب العدوان البريطانى , كما أنها تحتفظ لنفسها بحق اتخاذ أى إجراء آخر مناسب يتطلبه التطور المستقبلى للحوادث "

كذلك أرسل سفير مصر فى لندن إلى وزارة الخارجية البريطانية مذكرة يحتج على حوادث كفر عبده " هذا ولقد سبق إرسال المذكرات إذا أرسل السفير البريطانى فى مصر إلى وزير الخارجية المصرى بالنيابة خطاب تضمن السبب فى تلك الحوادث قال فيه :

" أنه قد تم إنشاء طريق جديد بين المعسكر الحربى البريطانى فى السويس ومحطة ترشيح" أ " للمياه , دون أن تقع كارثة من أى نوع وأن الهدف من هذه العملية يتفق تماما وسياسة حكومة جلالته , وأنى انتهز هذه الفرصة لإعادة توضيح تلك السياسة من أجل العمل على تحاشى سوء فهم محتمل من جانب الحكومة المصرية " أما هدف حكومة جلالته.

هو عمل أى شىء ممكن ليقلل ما ينشأ من صدام مع السلطات المصرية , أو السكان المصريين أثناء تنفيذها للسياسة التى تمليها , وأن الهدف من إنشاء الطريق الجديد هو ضمان آمن إلى محطة ترشيح المياه التى كانت هدفا للهجوم من قبل وتحاشى وقوع أى حوادث أخرى تنشأ بين القوات البريطانية – وهى ذاهبة إلى هذه المحطة أو آتية منها – و المدنيين المصريين.

وأن حكومة جلالته على استعداد لدفع أى تعويض مناسب للمصريين الذين لابد لهم أن يتركوا منازلهم بسبب تنفيذ هذا المشروع ولقد صدرت إلى التعليمات لأحيط الحكومة المصرية علما عن أى صيغة أخرى , ومن أن القائد العام للقوات البريطانية فى مصر منذ أصدر تعليمات مشددة إلى القوات التى تعمل تحت قيادته بأن تكون مدن بور سعيد والإسماعيلية والسويس نقط ارتكاز للقوات البريطانية إذا ما اقتضت الضرورة حماية أرواح البريطانيين وذلك تنفيذا لسياستها الخاصة بتحاشى وقوع حوادث فى منطقة قناة السويس بقدر الإمكان مع تسوية إدارة هذه المدن كى تظل فى أيدى السلطات المصرية "

وبالإضافة إلى الحالات الإستفزازية التى قامت بهاالقوات البريطانية فإنها أيضا حاولت بكل الطرق ترغيب العمال فى البقاء وإغرائهم بشتى الطرق , من ذلك إعلانها الإستعداد لمنح الجنسية البريطانية للراغبين سواء من الموظفين أو العمال من مختلف الجنسيات الذين يشغلون لدى الجيش البريطانى.

مما دفع الحكومة المصرية أن ترسل مذكرة على يد " وحيد رأفت " مستشار الدولة فى إدارة الرأى عن موضوع منح الجنسية البريطانية لمن يرغب فى ذلك من الموظفين والعمال الذين يشغلون لدى الجيش البريطانى من مختلف الجنسيات وتضمنت المذكرة الآتى " أنه لا يمكننا الإعتراض بقوة فى منطقة القناة لأن هذه المسألة تعنى فى المقام الأول حكومات بلادهم والحكومة البريطانية ..

أما بالنسبة للمصريين فإنه لا يجوز لأى مصرى أن يتجنس بجنسية أجنبية قبل حصوله مقدما على هذا الإذن ويظل يعتبر مصريا فى جميع الوجوه إى إذا رأت الحكومة المصرية إسقاط الجنسية عنه , ولذلك لا نرى لما قيل فى هذا الشأن أهمية ما دام لن يكون لمنح الجنسية البريطانية للمصريين الذين يعاونوا القوات البريطانية فى القناة أى أثر فى نظر السلطات المصرية التى لها أن تعتبرهم مصريين فى جميع الوجوه وفى جميع الأحوال "

ولقد أرسلت الحكومة البريطانية احتجاجا لدى مكتب العمل الدولى على تسخير القوات البريطانية للعمال المصريين بمنطقة القناة , ففى 15 فبراير سنة 1952 صدر تقرير مندوب العمل الدولى الذى حقق شكوى الحكومة المصرية السلطات العسكرية البريطانية لفرضها إجراءات تعسفية على العمال المصريين كما استعرض التقرير

الأسباب التى أدت إلى ترك العمال المصريين لأعمالهم فى المنشآت البريطانية فى منطقة القناة ذكر فيه بنوع خاص الآتى :

أولا : خوف العمال المصريين من عدم العودة إلى ديارهم والإضطرار للبقاء فى منطقة القناة إذا نشبت حرب بين المصريين والبريطانين .

ثانيا : إظهاروطنيتهم وتضامنهم مع الحكومة المصرية .

ثالثا : خوفهم من عدوان الإخوان المسلمين عليهم إذا استمروا فى العمل .

رابعا : تشجيع الحكومة المصرية لهم على ترك أعمالهم لقاء إيجاد أعمال أخرى لهم فى وادى النيل .

وفى 12 مايو سنة 1952 أرسل تقرير من الوزير المفوض " ببون " إلى الخارجية المصرية عن محاضرة ألقاها ألبروفسور " جاك سكرتان " الأستاذ بكلية الحقوق بجامعة لوزان عن شكوى مصر من معاملة السلطات البريطانية للعمال المصريين فى منطقة قناة السويس .

وتتلخص اتهامات الحكومة المصرية فى الآتى :

أولا : قام معظم عمال منطقة القناة المدنيين عقب إعلان الحكومة المصرية فى 8 أكتوبر سنة 1951 إلغاء المعاهدة بإظهار رغبتهم فى ترك أعمالهم المرتبطين بها مع القوات البريطانية بموجب عقود عمل بسيطة , والعودة إلى مواطنهم الأصلية

فحالت السلطات الحربية البريطانية دون ذلك بابتزاز وسائل الاكراه التى قيدت حريات العمال الشخصية وحبستهم فى المعسكرات وأرغمتهم على العمل داخلها دون إرادتهم كما انتزعن عددا كبيرا منهم من مواطنهم للعمل معها بالقوة وقبضت على الضباط وجنود الجيش والبوليس وحبستهم أو نقلتهم إلى أمكنة نائية فى الصحراء حيث تركتهم لأنهم رفضوا مساعدة السلطات البريطانية .

إن كل هذه الأعمال منافية لمبادىء حقوق الإنسان وهى مجافية للمبادىء الدستورية وضد جميع المبادىء التى أقرتها منظمة العمل الدولية واستطرد المحاضر يقول ك " لقد اصطدمت البعثة عند قيامها بإجراء التحقيق بكثير من الصعوبات قبل اختفاء عدد كبير من الشهود فى المعسكرات فجأة بمجرد وصول اللجنة إلى منطقة القناة فلم تستطيع خلال المدة من 9 ديسمبر سنة 1951 إلى 13 يناير سنة 1952 القيام بعملية المسح المطلوب ومعاينة مختلف الأماكن على الوجه المطلوب ورغم الأهمية النسبية لسماع أقوال الشهود فقد تمكنت من استخلاص بعض النتائج العامة .

ثانيا : وقد تبين للجنة أن المزاعم المصرية لم تؤيدها الوقائع وما لا شك فيه أن نظام الاحتلال فى مصر سبب نتائج خطيرة , نظرا لاتخاذه وسائل الإكراه فلم يؤد ذلك إلا إلى شعور مرير من جانب المصريين , وعلى كل الأحوال فقد استطاعت بعثة منظمة العمل الدولية أن تستجمع الوقائع الصحيحة بالنسبة لهجرة الثمانية آلاف عامل مصرى ولتركهم لأعمالهم و ألقى المسيو " سكرتان " بيانه بسوء مغبة سياسة الدول الغربية تجاه بلاد الشرق الأوسط وونصح بوجوب التخلى عن سياسة القوة لو أرادت حقا تحقيق مبادىء ميثاق الأمم المتحدة , وبالتالى حصن على وجوب تضامنا عسكريا واقتصاديا مع الشعوب العربية مع كفالة الإعتبارات الإستراتيجية وذلك باتخاذ وسائل أخرى غير وسائل الإحتلال .

ثالثا : ولقد كان هناك أيضا العديد من التحرشات ولعل الحوادث التى ارتكبها الإنجليز بالإسماعيلية بعد أن اتخذوا إجراءات غير عادية على أثر تقير الحكومة المصرية إلغاء معاهدة سنة 1936 , فى 17, 18 [[نوفمبر[[ سنة 1951 يظهر أن حوادث الإسماعيلية التى تمت فى يوم 25 يناير سنة 1952 لم تكن محض مصادفة إنما كانت بترتيب مسب ولأسباب كثيرة لعل أهما :

الضيق الشديد من حكومة الوفد لتشجيعها الحركة الفدائية ومباركتها إياها , خصوصا وقد احتجت وزارة الخارجية المصرية لدى السفارة البريطانية بالقاهرة لاعتداءات القوات البريطانية على الإسماعيلية.

إذ قامت تلك القوات بهجوم مسلح ضد الأهالى المدنيين ورجال البوليس المصريين بدون سبب ولا مبرر مستعرضة قوتها لبث الرعب فى المنطقة كلها , وقد بدأت هذه الهجمات الوحشية فى الإسماعيلية فى 17 نوفمبر حوالى العاشرة مساء وقد احتلت فصائل من القوات البريطانية كل منها مكونة من حوالى العشرة جنود بأوامر من ضباطها عدة أحياء من المدينة , وقد اطلقت النار على السكان فلقوا حالة من الذعر لا يمكن وصفها وأجبروا كل المحلات والمنشآت العامة على إغلاق أبوابها .

رابعا : وفى نفس الوقت توجهت قوة بريطانية ناحية المحافظة وقشلاقات بلوك النظام وأحاطت بالمبانى الحكومية وكانت تهدف إلى خطف القائم بالحراسة وقد استيقظ عساكر البوليس المصرى على إشارة إنذار منه ولكنهم قوبلوا بنيران من القوات البريطانية المعتدية وقد أصيب وجرح كثير من عساكر البوليس , ولكى يدافعوا عن أنفسهم ضد هذا الإعتداء الغير متكافىء أطلقوا بعض الأعيرةالنارية وقد قتل بريطانى وجرح جندى انجليزى يعمل فى خدمة القوات البريطانية , وقد لوحظ أن الأخير كان يطلق النار على البوليس المصرى من شرفة منزله , وقد وجدوا السلاح الذى كان يستخدمه .

خامسا : ولقد حاول ضابط كبير من البوليس المصرى الهروع إلى المكان وحاول فى مرات عديدة ألا يصل إليه العسكريون البريطانييون الذين يحاصرون قشلاق بلوكات النظام , لمن عربته أطلقت عليهاا النار من القوات البريطانية المعتدية وأجبروه على العودة , وبهذا أرادت القوات البريطانية فى منطقة القناة أن تحول المدينة إلى ميدان قتال ضد عدد معين هو سكان المدينة والبوليس المكلف بحفظ الأمن والنظام وفى الساعة الثالثة بعد الظهر يوم الأحد 18 نوفمبر غزت مدينة الإسماعيلية قوة بريطانية كبيرة مكونة من عدد من الدبابات والعربات دون أدنى سبب أو مبرر من أى نوع وهددوا السلام والهدوء فى المدينة .

سادسا : ولقد أفادت الأنباء فى 17 نوفمبر رفعة رئيس الوزراء قد صرح إلى the nation paxt committee بقوله " ربما لا تعلمون إن الحكومة قد أنذرت البريطانيين بأنهم إذا لم يوقفوا هجماتهم على المدنيين المصريين فإن البوليس المصرى سيرد على ذلك باستعمال القوة , وفى نفس اليوم أفادت الأنباء أن سعادة وزيرالداخلية قد أبلغ تعليماته إلى محافظ منطقة القناة كى يحيط الجنرال "

أرسكين : علما بأن الحكومة لن تبقى مكتوفة الأيدى أمام الحوادث وأن البوليس سيتخذ كل الاجراءات الممكنة لوقفها ولقد وقعت حوادث 17 , 18 بعد هذه التصريحات بسرعة تجعل السفارة تعتقد أن الأول كانت نتيجته الثانى .

سابعا : ثم مع مستهل يناير 1952 ازدادت المقاومة الشعبية بشدة وفى 8 يناير سنة 1952 عقد اجتماع " هارى كرومر وتشرشل " فى بريطانيا وكان غرضهم إيقاف المد الحالى لمصر المرسل إلى مصر وإيران وأعلنت الحكومة الأمريكية إيقاف المعونة ل[[مصر] لفترة , وفى 25 يناير زحف الجيش البريطانى فى القناة على الحكومة فى الإسماعيلية وحصلت معركة كان يوم جمعة أيضا بين القوات البريطانية والبوليس وفقدت مصر يومها مائة وخمسين قتيلا .

على كل الأحوال لقد اشتدت الحركة الفدادئية وأقلقنا بال الإنجليز وشلت حركتهم منذ خريف سنة 1951 وأوائل سنة 1952 , حتى ضاق الأمر بالإنجليز رغم كل ما قيل من خصوم الوفد عن معركة القناة , فلا شك أنها كانت معركة ناجحة وحققت أهدافها إلى درجة أن الإنجليز قد اتصلوا بالحكومة العراقية واتصل بى – فؤاد سراج الدين – سفير العراق فى مصر " نجيب الراوى "

وقابلنى فى مكتبى بوزراة المالية وقال لى " نحن أصدقاء ولن نلف عليك فقد جائتنى رسالة من نورى السعيد أن الإنجليز اتصلوا به " وحطوا صباعهم فى الشق وعلى استعداد للإتفاق ولكن لهم شرط واحد هو وقف معركة القناة , ونورى السعيد قال " لا تقل هذا الكلام لفؤاد باشا " فقلت له " أود أن أقول لك يا نجيب بك إنه ليس هناك رئيس وزراء يجرؤ على إسكات الفدائيين على وعد رقم 74 من الإنجليز.

عليهم أن يبدءوا فى الجلاء وبعد ذلك نستطيع نحن من جانبنا أن نوقف الفدائيين , فقال نجيب الراوى " لك حق " هذا موضوع لا تنفع فيه " البرقيات " وبالفعل سافر نجيب الراوى بعد هذه المقابلة إلى بغداد , ثم عاد السفير العراقى من بغداد.

وقابلنى مباشرة وقال لى " لقد قابلت نورى السعيد واقتنع بوجهة نظركم , وقد اتفق مع الإنجليز على الجلاء والإنجليز يريدون فقط نوعا من تأمين ظهورهم " فقلت له هذه مسالة عسكرية غدا نطرحها فى مجلس الوزراء سأعرض الفكرة على المجلس.

وبالفعل شرحت لرئيس الوزراء الموضوع واتفقنا على أن نترك " لمصطفى نصرت " وزير الحربية وضع الترتيبات لتأمين ظهر القوات المنسحبة , وفى نفس الوقت تستمر المعركة , وفى اليوم التالى حدثت معركة الإسماعيلية المعروفة فى 25 يناير وكانت بالفعل معركة استفزازية بحتى من جانب الإنجليز لم يكن لها مبرر لكنها كانت مرسومة ونفذوها "

أما عن تفاصيل يوم الإسماعيلية فهوأن القوات البريطانية الموجودة بالمدينة قد قامت بحصار ثكنات البوليس المصرى بقوات كبيرة من دبابات ضخمة مجهزة بكافة الأسلحة فى الساعة الثانية صباح الخامس والعشرين من يناير سنة 1952 وتوجه قائد القوات " أرسكلين " نفسه على راس القوة ووجه إنذاره إلى قائد البوليس المصرى – مصطفى رفعت – قائلا له " إذا لم تسلم قوات البوليس أسلحتهم فى ظرف ساعة سأنسف الثكنات " .

ولقد اتصل بى أحد الضباط المصريين فى الساعة الثانية والنصف صباحا وأخبرنى بما حدث وطلب منى ما يجب عمله " وكان على أن أتخذ قرارى وحدى , وأحسست أنها إهانة لمصر وضياع أيضا للروح الوطنية العارمة إذا أمرت الجنود وهم ألف جندى بتسليم سلاحهم دون مبرر وفى نفس الوقت كنت مدركا لعدم تكافؤ القوات بين الطرفين ولقد قلت له " لو قلت لكم قاوموا لآخر طلقة معكم هل تستطيعون ذلك ؟ ورد الشاب فى الحال

" نعم يا افندم " وقالها بلهجة بها إصرار وثقة ورغبة فى المقاومة لذلك قلت " قاوموا لآخر طلقة والله معكم " وبعدها بكيت تألما على الشباب المصرى من النظرة الإنسانية وكنت متأثرا جدا ولكنى حمدت الله أن واجبى قد تغلب على عاطفتى وبالفعل بدأت المعركة واستطاعوا المقاومة حتى انتهت المليون طلقة التى كانت موجودة معهم.

ولقد أسفرت عن مقتل سبعين أو ثمانين جندى مصرى واسفرت أيضا عن مقتل نفس العدد تقريبا من العدو , ولقد احتمت الجنود بالجدر التى كانت موجودة فى الثكنات المصرية وبعد فراغ المؤن اقتحموا الثكنات ودخل القائد الإنجليزى وهنأ القائد المصرى معلنا اعترافه بشجاعته وبسالة الجنود المصريين ," وسمح لهم بالخروج حاملين أسلحتهم فى طوابير وهذا يدل على أنهم لم يخرجوا منكسين الرأس ورافعين الأيدى أو مسلوبى الأسلحة وهذا يكفى " .

سمح للجنود بالذهاب إلى القاهرة وفى صبيحة 21 يناير أذاعت الحكومة بيانا على الشعب وقامت مظاهرات طلابية متأثرة بهذا الحدث , ولقد حملت الجرائد الإنجليزية نفسها على هذه الحوادث وجرائد الحكومة البريطانية نفسها حملة شعواء وأنكرتها كذلك الجرائد الدولية .

وربما كانت ستترتب عليه نتائج مذهلة لصالح مصر لو لم يقبل الملك الحكومة المصرية , خصوصا أن الرأى العام العالمى كان قد أدانها وأيد موقف البوليس المصرى والفدائيين المصريين وكان بالإمكان اسغلاله لصالح القضية الوطنية أحسن استغلال لولا الإقالة .

ولقد شوهد رجال بلوكات النظام والبوليس وهم يهتفون ليسقط الإنجليز , الموت لهم , نريد السلاح وكانوا فى ثلاث دوريات تجوب شوارع القاهرة ولقد قال أحد موظفى مطار فاروق أنهم اضربوا عن تزويد الطائرات بالبنزين وعن خدمة الطائرات والركاب وكانت المظاهرات الصاخبة من كل نوع تكتسح أحياء القاهرة وشوارعها.

ثم انضم عساكر بلوك النظام المتظاهرون ومعهم طلبة الجامعة مؤلفين أكبر مظاهرة شهدتها البلاد وهى تهتف نريد السلاح إلى القنال " الموت للإنجليز , ضباط أحرار من الجيش والبوليس يقودون المظاهرات , العمال أضربوا عن العمل فى المصانع ويطالبون بالذهاب إلى الجمهور والموظفون فى دائرة الحكومة يمتنعون عن العمل , الشعب يطالب بتدخل الجيش لمحاربة الإنجليز , هتافات عدائية ضد الملك الفاسق وولى العهد .

الإطاحة بالوفد

" لم يكن الوفد فى يوم من الأيام خلال فترة حكمه الأخيرة بغافل عما يجرى فى الخفاء من تدبير المؤامرات للإطاحة به ولم يكن الوفد مقصودا بذاته ولكن كان الغرض القضاء على الديمقراطية والحريات فى مصر.

خلال الفترة التى شهد لها المواطنون أنها اخصب فترة فى تاريخ مصر سواء من ناحية دعائم الديمقراطية أو إطلاق الحريات بكافة مظاهرها أو العمل الدائب لخدمة الجماهير الكادحة وأنى استشهد فى تسجيل هذا المعنى بعبارة جامعة بالغة قالها الأستاذ نجيب محفوظ فى حديث له بمجلة المصور , حيث قال " إن تلك الفترة لم ترها مصر منذ عصر بناة الأهرام . "

لقد كانت الحكومة البريطانية غداة تشكيل وزارة الوفد تجرب كعادتها مدى استجابة الوفد لمطالبها , فلما أجهز الوفد على هذه الآمال بموافقة الوطنية الصلبة سواء فى المحادثات التى جرت بيننا وبين سفيرهم أو فى غيرها من الإجراءات التى كانت تتوخاها الحكومة فى كل أمريتصل بمصالح الوطن الكبرى , لم نكن غافلين وإنما نعد لكفاح طويل كيفما كانت النتائج سواء فى المحادثات أو فى علاقتنا بالقصر "

" ولقد أجمعت الدراسات والآراء على أن حريق القاهرة دبره الإنجليز مع القصر ولتوضيح ذلك نعتقد أن تلك الكارثة التى دبر لها خصوم الوفد , وبالرجوع إلى الملابسات التى سبقت هذا الحريق يمكن لمثلى كقاضى سابق – إبراهيم فرج باشا – ورجل اشتغل بالسياسة أن يقول مطمئنا أن الذى اشترك فى تدبير هذا الحريق جهات ثلاث :

  1. المخابرات الأمريكية .
  2. الإنجليز .
  3. القصر .

وكان الهدف الذى لا يختلف فيه اثنان هو التخلص مع الحكومة الوطنية التى تمثل شعب مصر , أما كيف اتحدت الأغراض لتلك الجهات الثلاث , فالأمريكان كانوا يخشون أشد الخشية من انتصارالجماهير ممثلة فى حكومة الوفد , أو تحقيق آمالها فى التقدم والديمقراطية.

ثم إنهم يئسوا من التهاون فى قضية فلسطين , ويئسوا من وقف المسيرة المطردة نحو التقريب بين الطبقات وتحقيق العدالة الإجتماعية , وكانت السياسة الأمريكية وقتئذ تعمل فى خطة متسقة لتدمير الديمقراطية فى البلاد النامية وتستبدل بها انقلابات عسكرية كما حدث فى أمريكا اللاتينية – ومن العجيب أن السفير الأمريكى فى القاهرة وقتئذ مستر " جيفرسون كافرى " وكان كثير التحدث معى إبراهيم فرج باشا – أشار إلى أنه شهد تدبير ستة عشر انقلابا عسكريا فى آسيا وأمريكا اللاتينية , وقلت له مازحا " لعلك جئت إلينا أخيرا تائبا من هذا الماضى الثقيل ؟

" فسكت الوزير السابق قليلا ثم عاد يتحدث بحماس " ولكى أعطيك صورة أخرى عن التآمر ضد الشعب المصرى وحكومته الوطنية بعد إلغاء المعاهدة واشتعال الكفاح المصرى المسلح اشتركت أمريكا مع انجلترا وساقتها معهما فرنسا وتركيا فى تقديم بيان مشترك سموه " بيان مشترك من الأربع عن قيادة الدفاع فى الشرق الأوسط " قدموه بعد أن تفاقم الكفاح المسلح فى منطقة القناة.

" ولقد رفضت حكومتنا فورا استلامها وكل ما جاء فيه جملة وتفصيلا , وابلغ قرارنا إلى ممثلى الدول الأربع , وعلى أثر هذا الرفض أسبق فى أيديهم وأخذوا يعملون على التعجيل بالإطاحة بحكومة الوفد العنيدة ,

واجتمع مجلس الوزراء فى جلسته المنعقدة فى 7 ديسمبر سنة 1951 ليتخذ القرارات السرية الآتية :

أولا : رفض الطلب الذى تقدمت به القيادة الإنجليزية فى منطقة السويس إلى محافظ المدينة بشأن إخلاء وإزالة 75 مسكنا قريبا من محطة المياه التى تغذى المعسكرات البريطانية .

ثانيا : استدعاء السفير البريطانى فورا لمقابلة وزير الخارجية بالنيابة برآسة مجلس الوزراء فبلاغه قرار المجلس برفض الطلب وأنه إذا نفذته السلطات البريطانية بالقوة فسوف تقاومه الحكومة بكل وسائلها بالقوة أيضا , مع إبلاغ السفير بأن الإستمرار فى سياسة القوة سيؤدى إلى عواقب وخيمة جدا .

ثالثا : تكليف قوات البوليس الموجودة بالسويس بحراسة هذه المساكن والمحافظة عليها وعلى أرواح الأهالى , ومقاومة كل اعتداء عليها بالقوة مهما كانت النتائج .

رابعا : إتخاذ الترتيبات اللازمة بأن يكون الجيش المصرى مستعدا للعمل فى الوقت الذى يطلب منه ذلك .

خامسا : إحلال قوات الجيش محل قوات البوليس عند الإقتضاء للمحافظة على مدن القناة واستتباب الأمن فيها .

سادسا : الإبراق إلى مجلس الأمن , وهيئة الأمم المتحدة بأن الإعتداءات الإنجليزية المتكررة واستفزازهم قد بلغت حدا لا يستطاع تحمله ويهدد السلام .

" ولقد استدعيت – ابراهيم فرج باشا – السفير البريطانى إلى قصر مجلس الوزاء فى الثانية بعد منتصف الليل وأبلغته بما كلفنى مجلس الوزراء بتبليغه إليه , وكان السفير شديد الإضطراب واستأذن فى الإتصال تليفونيا بالجنرال " ارسكين " قائد القوات البريطانية فى منطقة القناة ليرجوه العدول عن قراراته بهدم المساكن , وأخذ يلح عليه برجاء حار أن يوقف هذه الإجراءات , ولكن الجرال "ارسكين " يبدو أنه أجابه بأن هذا امرا يتصل بأمن القوات البريطانية اتصالا شديدا لا يقبل الرجاء وأنه لا يملك التوقف " .

" هل كان أحد يتوقع قرارات مجلس الوزراء أن يقف المستعمرون مكتوفى الأيدى ليتركوا حكومة الوفد تمارس نشاطها الوطنى المشرف , لقد عجلوا بحريق القاهرة للتخلص من الوفد , وتوافقت مصالح الثلاث , الأمريكان.الإنجليز . والقصر . فى هذا السبيل " .

وبعد إقالة الفود المبيتة نشرت " جريدة المصرى " بيان " فؤاد سراج الدين " باشا وزير الداخلية فى 1.فبراير سنة 1952 بعد إقالة وزير الوفد بأسبوعين وبعد أو وجهت صحيفة " أخبار اليوم " اتهاما لحكومة الوفد بالتقصير والإهمال فى حفظ الأمن والنظام وتدارك الموقف.

وهو ذلك الإتهام الذى وجهه الملط للحكومة فى مرسوم إقالتها الصادر فى 27 يناير سنة 1952 غداة يوم الحريق , وفى هذا البيان يقدم " فؤاد سراج الدين " عرضا لاتصالاته دقيقة بدقيقة مع معاونيه فى وزارة الداخلية يوم الحريق , ثم اتصالاته كذلك مع " محمد حيدر " باشا القائد العام للقوات المسلحة ,الذى كان موجودا بالقصر الملكى على غداء مع كبار رجال الجيش ورجال البوليس دعاه إليها الملك .

والبيان يشير بأصابع الإتهام إلى تواطؤ الجيش والقصر ذلك أن فؤاد باشا ألح فى نزول قوات الجيش إلى العاصمة لحفظ النظام , ولكن حيدر باشا وأركان حربه " عثمان المهدى " ظلا يسوفان حتى أن حيدر باشا " عبر " لفؤاد سراج الدين " عن مخاطر نزول الجيش بقوله " إن معظم الجيش موجود الآن بالقاهرة من الجنود حديثى العهد بالالتحاق بالخدمة وأن معظم ضباطهم من الضباط الشبان ..

ثم يضيف فؤاد باشا " ثم صارحنى معاليه بأنه يخشى إذا نزلت هذه القوات إلى المدينة أن تنضم إلى المتظاهرين وهنا تقع كارثة كبرى على البلد كله " وفى الحقيقة كان بيان " فؤاد باشا " يثير تساؤلا هل كان " حيدر باشا " قائد عام القوات المسلحة يشك فى ولاء الجيش إلى هذا الحد ؟

وإذا كان الأمر كذلك فلماذا لم يبلغ الملك ؟ ولمذا لم يتخذ الإجراءات الكفيلة بضمان ولاء هذا الجيش له أولا ثم للوزارة الدستورية ثانيا ؟ ثم للقطر ثالثا ؟ هذه تساؤلات تطرحها هذه النقطة , التى أغفلها بيان " حيدر باشا " الذى أصدره ردا على بيان " سراج الدين " ولم يذكر هذا الجزء من الإتصال بينهما , إن " حيدر باشا " فى هذا البيان الذى أذاعه فى نفس يوم صدور بيان فؤاد باشا لا يستطيع أن يقدم دليلا واحدا يبرئه من تهمة التاطؤ ويقدم تعليلا لا وزن له فى تبرير موقفه .

ومن هنا فإن موقف " سراج الدين باشا " كان واضحا فى طلبه نزول قوات الجيش قبل تفاقم الحالة , وانتقل بنفسه إلى قصر الملك وقد كان يسرد التعليمات إلى معاونيه من رجال الداخلية بالسيطرة على الموقف أثناء حريق القاهرة ثم أصدر بيانه مشيرا بالإتهام غمزا وتلميحا يصل إلى حد التصريح إلى القصر وقائد جيشه " حيدر باشا "

ثم يؤكد نفس المعانى ما قاله " عبد الفتاح حسن باشا " وزير الشئون الاجتماعية والعمل وقت الحريق وهو يعتبر صاحب الجهود المكثفة التى بذلتها حكومة الوفد عقب إلغاء المعاهدة لتشغيل عمال القناة المنسحبين.

وقد أشرف على هذه العملية كلها كما أنه صاحب فكرة إلغاء إشراف الإنجليز على نادى الجزيرة أو جعله ناديا خاصا لهم , ولقد اتهم صراحة الملك والإنجليز قائلا " إن التاريخ قد أعطانا علامة للطريق , كأن مذبحة الأسكندرية سنة 1882 قد رسم الإنجليز خطوطها الرئيسية ووقعت تلك المذبحة ظهرا , وتراخت القوات فى النزول لتتفاقم الحالة , وكان القصد تيسير الإحتلال الإنجليزى لمصر والقضاء على الوزارة الوطنية فى ذلك الوقت , وحدث فى 26 يناير سنة 1952 مثال لذلك توقيتا وتخطيطا , إذ نسق الملك الأمر مع الإنجليز أثناء وجوده بالخارج صيف سنة 1951

وحبذا لو اتجه المسئولون إلى إطلاع الشعب على الوثائق التى وجدت بالقصور الملكية فهى تكشف عن الكثير , ولا أدرى الحكمة فى حبس تلك الوثائق الهامة عن صاحب الحق وهو الشعب ليكون حكمه عن بعد وبصيره , وليس من شك فى أن من بين هذه الوثائق أن الملك " فاروق " أرسل وهو بالخارج يوصى بعدم اتخاذ إجراءات إلغاء المعاهدة قبل وصوله وقد نقل " عبد اللطيف طلعت " رئيس الديوان الملكى بالنيابة هذه الرغبة إلى "مصطفى النحاس "رئيس الوزراء

وعاد الملك من الخارج ليبتدع أشكالا يستهدف منه التخلص من الوزارة الوفدية قبل أن تتاح لها فرصة إلغاء المعاهدة , ولم يكن من قبيل المصادفة أن يقيم الملك مأدبة غداء يدعو إليها كبار رجال الجيش والبوليس , ولم ينس واحدا من مامورى جميع أقسام البوليس فى القاهرة حتى تأكل النار العاصمة فى غيبة رجال الأمن .

وهنا يتبادر إلى الذهن سؤال , ألم تكن وسيلة أخرى أمام القصر والإنجليز غير الحريق للإطاحة بالوفد وإيقاف الحركة الفدائية فى القناة ؟ .. ونحن نرى أنه قد تحالفت القوى الكارهة للوفد , فالإنجليز انتقاما لتصرف الوفد بإلغائه المعاهدة وبالمواقف التى سبق تفصيلها.

والتى اضطر فيها الملك إلى الموافقة على هذا الموقف بعد أن سدت أمامه السبل , ثم إن الكفاح الفدائى فى القناة قد آلمهم أشد الألم وأقلقهم , وأيضا اثبت لهم عمليا مدى حرص المصرى على الإستقلال ووحدة وادى النيل مصره وسودانه , وكان بديهيا أن يلجأ إلى سبب داخلى بعيد عن السبب الحقيقى لتبدو الوزارة فى صورة العاجز عن الحفاظ على الأمن , وهو السبب العزيز الذى علله الملك فى خطاب إقالة الوزارة , أما الملك فقد ظن أن مخالفته لما نسقه دل عليه ما جرى بعد ذلك فى 26 يوليو سنة 1952 .

وقد نتساءل فى دهشة أن القصر بتاريخه الطويل يؤكد أن فرض وتولية الوزارات لعبة قديمة كثيرا ما مارسها , فلماذا لم يتبع إذن نفس الأسلوب خصوصا وأنه دستوريا من حقه تعيين الوزارات وإقالتها ؟

وفى اعتقادنا أن إلغاء المعاهدة واتفاقيتى سنة 1899 الخاصة بالسودان ظل مطلب البلاد استجابت له الحكومة الوفدية وكان هذا برنامجها حتى قبل توليها الحكم إذ خطب النحاس بمناسبة عيد الجهاد الوطنى فى الثالث عشر من نوفمبر سنة 1948 أثناء وجود الوفد بالمعارض وصارح الشعب بنفس ما نفذه فعلا بعد ذلك عند توليه الوزارة.

وبناء على ذلك لم يستطيع الملك فى غمرة الأحداث المشار إليها بمستطيع دون مخاطرة أن يقيل الوزارة الوفدية وخاصة بعد أن اطمأن قلبه على أثر نصيحة من كان يثق بذكاء مشورتهم بأن الوزارة الوفدية تهدد بإلغاء المعاهدة ولم تنفد تهديدها , وأنها تريد إحراج مركز الملك بهذا التهديد , وأن نفذت ما تهدد به فعلا فإنها بذلك تكون قد قتلت حبلا لرقبتها تشنق به نفسها " ويمكن التخلص من الوزارة إن هى أقدمت على إلغاء المعاهدة لسبب داخلى فصدق الملك النصيحة .

وللإنصاف وتبيانا للحقيقة فإن الكفاح المسلح فى القناة لم يأت بقرار من حكومة الوفد أو بمعزل عن الشعب وإنما نبع من إرادة شعبية باركته كل طوائف الأمة بغير استثناء ومن الإنصاف أن نسجل للوفد أنه كان يشجع ويساند هذا العمل بكافة الوسائل المتاحة من مال وسلاح والدليل على ذلك التأكيدات التى قالتها العناصر التى كانت بالفعل مشتركة فى الحركة الفدائية مثل " الأستاذ عبد الوهاب حسنى المحامى " وكذلك ايضا ما قدمت به الإذاعة من تسجيل للاحداث ساعة بساعة وإذاعتها على الشعب , وإذا لم تكن الوزارة تود وتدعم مثل هذا العمل ما كان بالإمكان القيام به .

هذا وإننى أؤيد ما قاله " عبد الفتاح باشا " فى اتهامه " لإخوان الحرية " وهى الفرقة التى أنشاها الإنجليز بعد فشلهم فى الإتصال " بهنرى كورييل " كى يعمل فى مكافحة الفاشية ولقد أنشأوا تلك الجماعة لهذا السبب الظاهرى . أى لمقاومة النشاط الفاشى .. وفى رأيه أنها فرقة لا تعرف الحرية ولا تدركها وإنما تمارس الخيانة وتمولها الجهات الأجنبية مكما حمل السراى الملكية المسئولية أيضا "

واستكمالا لسرد الأحداث ولإثبات مدى استمرار المحتل فى تقوية اشتراكه فى أحداث يوم السادس والعشرين من يناير ترى المذكرة البريطانية المرسلة للحكومة المصرية للإحتجاج على ما سمته حوادث الشغب الأخيرة فى مدينة القاهرة فيها " تقدم سفارة صاحب الجلالة البريطانية بتقديم تحياتها إلى وزارة الشئون الخارجية للحكومة الملكية المصرية والإشارة إلى رسالة صاحب الجلالة البريطانى فى القاهرة فى السابع والعشرين من يناير سنة 1952 الموجهة إلى رفعة " النحاس باشا "

والتى أرسلت نسخة منها إلى وزير الخارجية المصرية بالنيابة فى ذلك الوقت تتشرف السفارة بأن تعبر عن أشد استنكار حكومة صاحب الجلالة البريطانية للحوادث التى وقعت فى القاهرة يوم 26 يناير سنة 1952 ومن الحوادث التى قتل خلالها عدد من الرعايا البريطانيين بطريقة وحشية والتى دمرت خلالها ممتلكات بريطانية وان البوليس المصرى لم يقم إلا بالقليل النادر إن لم يقم بأى شىء بالمرة ليمنع هذه الإعتداءات التى كان مقترفوها قد قامو بها بطريقة حسنة التنظيم والقيادة فى ظروف تدل والأدلة واضحة على اشتراك عناصر رسمية فيها . "

وتستطرد المذكرة شارحة أن سفارة صاحب الجلالة البريطانية لا ترغب في تكرار تفاصيل حوادث يوم السبت المذكور , أن الدمار الذي حل في ذلك اليوم عظيم جدا مما يمكن القول بأنه عرض الإخلال بالنظام والأمن الذي حدث في ذلك اليوم لم يسبق له مثيل في التاريخ المصري الحديث.

وخاصة تلك الأعمال المخزية والدنيئة التي وقعت في نادي التجديف والتي ينبغي أن تسبب صدمة واستنكار بين جميع الناس ذوي النفوس الطيبة , لقد كان هذا النادي البريطاني محاطا بجمهور من الدهماء تحت قيادة منظمة واقتحموا بناية النادي واضربوا فيه النار , وقتلوا من كان بالنادي ممن لم يتمكنوا من النجاة بأنفسهم بشكل وحشي.

وقد بلغ عدد البريطانيين الذين قتلوا عشرة أشخاص من بينهم أمرأة واحدة وقد قتل هؤلاء , أما في داخل النادي أو بينما كانوا يهربون للنجاة بأرواحهم , وبالإضافة إلى هؤلاء أصيب أربعة أشخاص آخرين بجراح بليغة , ومن بين الجثث التسع التي استرجعت بعدئذ من النادي المذكور عقب انتشالها من بين الجدران , وجدت أربعة من هذه الجثث مشوهة إلى درجة كبيرة نتيجة للعنف الذي استعمل في قتل هؤلاء الأشخاص , الأمر الذي جعل إثبات هوية هذه الجثث غير ممكن , ولقد قامت جماعات بإشعال النار وبالهجوم عمدا وبشكل طائش على البنايات التجارية البريطانية وعلى دور السينما والحوانيت والمكاتب والجراجات وغيرها .

والمذكرة طويلة وتحوي استنكارا شديدا لإصابة بعض الرعايا البريطانيين والمرأ – يتعجب كيف تثار كل تلك الهالة وترتفع كل تلك الأصوات لمجرد قتل بعض الرعايا البريطانيين وكيف الحال إذن للشعب الذي قتل منه الآلاف واحتل عشرات السنين وتأخر حضاريا بما يعادل مئات السنين , إنما هي أساليب استعمارية يسأم المرء من مجرد التفكير فيها .

وللحقيقة فلقد كانت إقالة حكومة الوفد صدمة كبرى للوطنيين المصريين وقوبلت باستهجان حتى من العناصر التي لم الوفد يوما , منها الإخوان المسلمين " وأقيلت وزارة " رفعة " النحاس " , وولى رفعة " علي ماهر " باشا الحكم على أثر الحوادث المؤسفة يوم 26 يناير سنة 1952.

ولسنا نشك في أن الذين تسببوا في هذه الحوادث إما بلهاء لا يدركون ماذا يفعلون , وإما مأجورون ليسوغوا للمستعمر الفرصة الذهبية التي ظنها أفلتت منه حين اتجهت الأمة كلها الإتجاه الصحيح الذي لا ينفع مع الغاصب سواه , وقد تم له ما أراد ولسنا في هذا المقام كله نقول إلى الحكومة الجديدة أننا نعتب عليها مبالغتها في مسايرة أعداء البلاد الذين اتخذوا من حوادث يوم 26 يناير سنة 1952 الأليمة " قميص عثمان "

وكان الأولى بها وهي تستنكر الذي حدث أن تستنكر ما حدث من الإنجليز في القناة , وأن تعلن بربرية الإنجليز التي لم يحدث مثلها في بلد متمدن , كانت هي سبب الحوادث التي لم تحدث من قبل في تاريخ مصر الطويل والتي اضطربت لها مصر المعروفة بإكرامها لضيوفها من كل جنس.

والكلمة الثاني لشعب وادي النيل فهي أن يعد نفسه لجهاد طويل وأن يدرك المجاهدون فيه أن خطر ما يعانيه الميدان هو خلوه من القاعدة الثابتة والخطة الواضحة وأن ما لم يفهم العاملون أين هم ومن معهم وماذا أمامهم أو ورائهم ويواجهوا الموقف بجرأة قد تؤلم " .

أما عن " اليساريين " فقد أشاروا بالإتهام إلى الإستعمار وأعوانه ويقصد بأعوانه الأحزاب التقليدية شارحين " أنه في 25 يناير سنة 1952 وبأمر "فؤاد سراج الدين " وزير الداخلية , وملك الإقطاع.

داخل البوليس الحكومي بالإسماعيلية وبدأت معركة مع القوات البريطانية لمدة 25 ساعة , هذه المأساة للبوليس آثارت مصر كلها , وجميع القوى قررت الدخول في المعركة , وفي فجر 26 يناير وكان يوم السبت قالت " أخبار اليوم " أنه من الإجراءات التي تمت بعد حادث الإسماعيلية الإقتراح بأن السفير البريطاني غير مرغوب فيه , وآخرون من حوله

وقطع العلاقات الدبلوماسية والإقتصادية مع بريطانيا وفي صفحة أخرى بالجريدة أرسل مراسل الصحافة في لندن يقول أن لندن تتوقع أن الجيش المصري سيدخل معركة القناة وفي اليوم الذي كان موعد انعقاد الإتحاد الدولي للتجارة " وكان في نفس اليوم نهاية إنذار استقالة بعض الضباط الجماعية لعدم اتخاذ إجراءات كافية للجيش والشعب ضد البريطانيين إذ حدث إضراب عام في صبيحة يوم السبت الموافق 26 يناير من جميع المصانع وطلاب جامعات القاهرة وجامعة " إبراهيم " و" الأزهر " توجهوا إلى أواسط العاصمة القاهرة حيث لحق بهم العمال من جميع الأقاليم , ومن شرفة وزير الدولة خاطب " عبد الفتاح حسن " الجمهور ووعد بقطع العلاقات الفورية مع بريطانيا , وبدأ اتصالات الصداقة مع روسيا

وقام الملك بعمل مأدبة غذاء دعى فيها كل ضباط الجيش والبوليس للاجتماع في قصر عابدين والبوليس السياسي وعلى رأسه البروجادير " إبراهيم إمام " في الوقت الذي كان فيه كثير من الضباط قد أغلقوا حساباتهم في البنوك .

وقبل الظهر حملت هذه الجماعات الثورية قوائم تشير إلى المبادىء التي آمن بها هؤلاء الثوار.ويشيرون بالإتهام إلى جماعة " أحمد حسين " التي تسمت" بالحزب الإشتراكي " وبعض جماعات من "شباب محمد "

الذين كانوا ينادون بالعودة إلى الصحراء , وبعض أعضاء" الإخوان المسلمين ".هؤلاء الذين كانوا محتجزين للسفر إلى القناة أي لمعركة القناة , بدءوا يخلقون من لا شيء اتجاه ضد اليهود غير الموجودين بمصر , بينما الوفديون والشيوعيون فى القناة , أما " الإخوان المسلمون " فلقد بدءوا حملة تخريب فى أماكن الترفيه فى القاهرة والأسكندرية وأطلقوا أناسا فى الشوارع الجانبية يجاهرون بالعقيدة الدينية والكراهية لليهود .

أما عند الظهر فالأحياء التجارية وأجزاء من مصر الجديدة كانت تحترق وانتشرت النيران فى الساعات الأولى من الظهر , المتظاهرون محاصرون أو محاطون بمئات من الشباب العاطلين والعجزة فى القاهرة , وكانوا يلاحظون أثناء قيامهم بهذه الأعمال أن العاصمة الضخمة لا تمت بصلة لهم ولكن للأغنياء والمحال التجارية فلابد أن تحترق .

وفى موضوع آخر من الكتاب يقدم الكاتب تحليلا سياسيا عن الحريق قائلا " الناس الذين أشعلوا القاهرة هم نفس الأشخاص الذين كانت الحرائق سببا فى إيجاد هذه القوى وهى الإمبريالية للطبقة الغنية حول الملك , الطبقة الصناعية البورحوازية.

ومنذ فترة طويلة هذه القوى شجعت وسلحت التنظيم , الذين زرعوا بذور الخوف لتحويل قوتها ضد الأعداء , وفى مساء اليوم 26 يناير حيث لا زالت القاهرة تحترق كان هناك منظر الحزن الذى لا يمكن نساينه لهؤلاء الذين عاشوا هذا اليوم فقد أمر " فؤاد سراج الدين " بالقبض على 26 فردا معظمهم من الوفديين والشيوعيين من الفدائيين.

وفى اليوم التالى 27 يناير أصدر " مصطفى النحاس " بيانا وبعدها أخرج الوفد من الحكم وأشارت صحيفة " أخبار اليوم " قائلة بعد أكثر من أى وقت مضى بسبب تغيير الحكومة وتولية فخامة " على ماهر " فلقد قال أنه يريد أن يخلق أحسن جو يمكن للمفاوضات وإعادة الهدوء والنظام , يجب أن يستعد العسكريين من الآن ليتخذوا طريقهم لمعسكراتهم والمحاكم العسكرية حبست بدون محاكمة عديدين فى أسابيع قليلة , ووجدت الكتائب نفسها فى المعسكرات وفقد الشعب المصرى ثورته ولهذا الغرض كان يجب أن تحترق القاهرة "

وفى الحقيقة وبعد سرد تلك الآراء وتحليلها والرد عليها أستطيع القول بوضوح كامل أن الوفد وحكومته بعيدان كل البعد بداهة عن الإتهام فى حريق القاهرة سواء كان هذا الإتهام مباشر أو غير مباشر كذلك نقدم أيضا وبكل تحديد إشارة صريحة إلى دور الإنجليز خصوصا بعد أن استبانت الأسباب التى تعتبر جوهرية من وجهة نظرهم للقيام بمثل هذا الدور السىء من أجل :

أولا : ضرب حكومة الوفد الوطنية , وإيجاد مبرر لذلك ألا وهو عدم قدرتها على السيطرة على الموقف وحماية الأرواح وممتلكات المصريين والأجانب وليس هناك سبب أقوى من ذلك لإقالة أية وزارة .

ثانيا : وهو الأهم فى نظرى إخماد الحركة الوطنية ضد القاعدة البريطانية فى منطقة القناة والتى تتمثل فى الكفاح المسلح من جانب الفدائيين المصريين " والتى كان يسميهم الإنجليز الإرهابيين المصريين " وهى الحركة التى اشتركت فيها بشكل بارز قوات البوليس المصرى.

كما يضاف إلى ذلك انسحاب العمال المصريين من العمل فى القاعدة البريطانية , وإيقاف منع تموين القاعدة بما تحتاجه من مؤن ولوزام بمعنى آخر إيقاف الحركة الوطنية المعادية للانجليز تماما وقد نجحوا فى ذلك , إن المتتبع لأحداث ذلك اليوم المشئوم يجد أنه كان من المتعزر تماما على الوفد مواجهة المؤامرات البريطانية المباغتة.

وموقف السراى ونشاط حزب " مصر الإشتراكى" بل وموقف بعض العناصر الموجودة بداخل جهاز البوليس المصرى وبالذات القلم السياسى , الذى لم يكن من المشكوك فى تبعيته للإنجليز و أقول كان من المتعذر على وزارة الوفد أن تبادر بسرعة بالتحكم فى الموقف يوم 26 يناير .

إن الإستعمار الإنجليزى وبه مخابراته النشطة أيضا معروف بالتجائه إلى مثل هذه الأساليب – كما سبق شرحه – من حرق وقتل واتخاذها ثورة مضادة وإخماد الحركة الوطنية ومن المسلم به تماما أن مصر عاشت فترة الثورة المضادة منذ 26 يناير إلى 23 يوليو سنة 1952 و جدير بالذكر أن بيانات الضباط الأحرار عقب حريق القاهرة فى 26 يناير كانت تتضمن فى تحليلها أن الإنجليز ومخابراتهم بصفة خاصة هى التى وقفت وراء الحريق ومن الشائع أن الجنرال " ارسكين " كما جاء فى كتاب " ادجوبى " عن " مصر المعاصرة " قد حذر كبار الإنجليز من أصدقائه ونصحهم بمغادرة القاهرة قبل 26 يناير ببضعة أيام قليلة " .

ولقد كان من المسلم به أن العقل المفكر والمنفذ لحريق القاهرة هو المخابرات البريطانية ,. فما هو دور الأطراف الأخرى فى حريق القاهرة .

أليس من المعقول أن الإحتلال الذى نزل مصر سنة 1882 :1952 ألا تكون له وبشكل قوى شبكة وعيون وعملاء ؟ وكان أن يقوموا بدور رسم لهم وإن كان من المحتمل أنهم لم يفهموا كثيرا أبعاد المؤامرة البريطانية ضد الحركة الوطنية , مثلا تعيين " حافظ عفيفى " و" عبد الفتاح عمرو " قبل الحادث له دلالة كبيرة فى إيجاد صلة بين السراى والسفارة البريطانية.

ومن المعروف أن " فؤاد سراج الدين " قد ذهب إلى السراى بعابدين للإستنجاد بقائد الجيش " محمد حيدر باشا " فانتظره فى غرفة رئيس الديوان الملكى " حافظ عفيفى " وظل فى انتظاره حتى استأذن " حيدر باشا " من مأدبة الملك وسأله رئيس الديوان عما إذا كانوا حقيقة ينوون قطع العلاقات الدبلوماسية بانجلترا والغريب أن ذلك كان يدور فى أذهان الكثير من وزراء الوفد فقال له " فؤاد سراج الدين " ليس صحيحا .

من الذى أبلغك بذلك ؟ فرد " حافظ عفيفى " السفير البريطانى إذن كان هناك صلة قائمة بين رئيس الديوان الملكى والسفارة البريطانية . وبكل تأكيد كان للملك دورا إيجابيا فى تلك المؤامرة للإطاحة بالوفد وحكومته العنيدة , التى نفذت فى الحكم ما كانت تنادى به فى المعارضة ولذلك كانت دعوة الملك لكبار ضباط الجيش والبوليس على مأدبة فى الغذاء .

أقول ليس مصادفة أن يتم ذلك بل والأدهى من ذلك أن يغبر الملك موعد المأدبة فبدلا من كونها تقام سنويا فى العشاء استبدلت بالغذاء ليترك الفرصة والوقت يسمح لتنفيذ المخطط الذى سيزيح من أمامه الوزراة الوفدية الوطنية . أما نصيب " جماعة إخوان الحرية " وهى الجماعة التى ألفها الإنجليز وجند لها بعض المصريين والأجانب إبان الحرب العالمية الثانية بدعوى مقاومة الخطر الفاشى ظاهريا والتى كان دورها أكثر من واضح .

ثم كان من باب المصادفة أن جماعة الحزب الإشتراكى كانت تكتب فى جريدة الإشتراكية تهاجم الأماكن التى احترقت بالفعل يوم 26 يناير , ومن الواضح أيضا أن أعضاء " الحزب الإشتراكى " كانوا يقودون الناس فى الشوارع وأن الكثير منهم قد قبض عليه للتحقيق فى هذه القضية , ولكنى أريد أن ابعد عن ذلك " الحزب " ورئيسه تهمة أنه المخطط والمنفذ وحده لهذا الحريق , وأن الذين اشتركوا فى الحريق لم يدركوا الأبعاد الحقيقية للمؤامرة .

لقد كانت عناصر تم استغلالها بدرجة أو بأخرى فى الموقف , كما كانت أداة مستغلة لكى تلعب دورا معينا فى الموقف وتظل المسئولية الحقيقية والعقل المفكر لسلسلة الأحداث ابتداء من حادثة الفتنة فى السويس بين عنصرى الأمة أو الوساطة الخادعة التى توجت بالحريق من المخابرات البريطانية فى مصر

أولا : وقبل كل شىء , وما عدا ذلك من أطراف فهى عناصر مساندة بما فى ذلك القلم السياسى فى وزارة الداخلية المصرية .

وإننى اضيف بكل وضوح أن دور الملك لم يكن اقل أهمية أو إيجابية من دور المخابرات البريطانية , وإننى أعتقد انه لم يكن مشاركا ومبعدا لضباط البوليس فى أقسام القاهرة كلها وكبار ضباط الجيش ولو لم يكن مفكرا ومنفذا أيضا , لما كان باستطاعة السفارة الإنجليزية أو المخابرات البريطانية أن تفعل شيئا فى مصر.

ولما استطاعت على أسوأ الفروض أن تنفذ بنجاح ما سمى بحريق القاهرة , ولما استطاعت استغلال الموقف أكثر داخليا وأطاحت بالحكومة الشعبية وأعنى حكومة الوفد التى استطاعت أن تغير من أسلوب الكفاح من مفاوضات سلبية تقودها فى البداية إلى كفاح مسلح إيجابى قادته فى النهاية , وإذا كانوا قد استطاعوا تحقيق مآربهم وهو التخلص من تلك الحكومة لكنهما بكل تأكيد لم يستطيعا تحقيق هدفهم بعد وهو إخماد الحركة الوطنية المصرية المطالبة بالاستقلال والحريصة على مصالح مصر القومية . .

الوضع الإجتماعى فى مصر فى أعقاب الحرب العالمية الثانية

لقد قدمت مصر المثير من التسهيلات للقوات البريطانية المحتلة إيفاء لما نصت عليه معاهدة سنة 1936 وأملا فى الحصول على استقلال سلمى من بريطانيى إذا ما انتصرت على أعدائها وهذه التسهيلات كانت متنوعة وشاملة الأمر الذى كان له أثر كبير فى تغيير مجرى الحرب لصالح الحلفاء

فقد أعطت مصر كل التسهيلات الممكنة من مواصلات وتموين للقوات البريطانية . وبالإضافة إلى السياسة الزراعية التى كانت متبعة حين ذلك من أجل إمداد القوات باحتياجاتها الغذائية . بالإضافة إلى موقع مصر كزعيمة للإسلام .

ولقد تطلب ذلك القيام بعمل احتياطات للحفاظ على القاهرة كما ذكر تشرشل فى مذكراته أنه من الإجراءات المتطرفة للدفاع عن القاهرة والخطوط المائية المتجهة شمالا أن أقمنا استحكامات للبنادق ومراكز للمدافع الرشاشة وقد قمنا ببث الألغام فى الجسور وأقمنا الأسلاك الشائكة على مداخلها وأطلقنا مياه السدود على الجبهة العريضة الواسعة وأعطينا كل الموظفين البريطانيية فى القاهرة بنادق وقد كانوا يفوقون الآلاف من ضباط الأركان والكتبة الذين يرتدون الملابس العسكرية واصدرنا إليهم الأوامر بأن يتخذوا مراكزهم حين يحدث أى طارىء عند خط النهر المحصن .

خاصة وقد دار شطر كبير من أحداث الحرب العالمية الثانية للدفاع عن الجسر البرى الذى يربط أسبانيا بأفريقيا والحفاظ على تمويناتنا من الزيت وحماية قناة السويس وكانت دول الشرق الأوسط ولا سيما مصر قد تمتعت بحرية الحماية التى أضفناها عليها من الغزو الألمانى والإيطالى دون أن تكلف نفسها عناء الإشتراك فى الدفاع عن نفسها .

خلاصة الموقف من الناحية الإقتصادية والإجتماعية هى أن المجتمع المصرى كان قد أصبح يعيش فى انقسام طبقى حاد فحوالى 5 % من ملاك الأراضى يملكون 34 % من مجموع الأراضى فى مقابل 94 % من الملاك يزيد مجموع ملكياتهم عن 35 % وفى مقابل 12 مليونا من العمال الزراعيين وفقراء الفلاحين .

وفى الوقت الذى حققت فيه الرأسمالية تطور كبير نسبيا خلال الحرب لسد احتياجات الجيوش الأجنبية الموجودة بمصر . فنشأ خلال الحرب مثلا " 375 " " شركة مساهمة بلغ مجموع مساهميها " 78 مليون جنيه وارتفعت قيمة الانتاج فى سنة 1945 إلى 135 % وزادت كثيرا بعد ذلك حتى أن بعض الشركات الكبرى كان قيمة أرباحها تزيد عن رأسمالها وفى مقابل ذلك ارتفعت أسعار السلع بالنسبة للطبقات الشعبية حتى ثلاثة أضعاف ما كانت عليه قبل الحرب .

ولقد ظهرت طبقة جديدة هى طبقة أثرياء الحرب وهى طبقة ليست منتجة وإنما أثرت من أعمال المضاربات والسمسرة واستغلال ظروف الحرب .كذلك نمت الرأسمالية الكبيرة خلال الحرب وتراكمت ارباحها وزادت ثقة فى مركزها المالى . وفى مستقبلها بعد الحرب . وكانت تأمل فى حل مشاكلها مع الإستعمار على أساس يرضيها ويرضى مساعيها .

فى أن يكون سداد الدين البريطانى مصدر خير وبركة عليها فى توسيع منشآتها وتصدير سلعها إلى البلاد المجاورة لها كلها . فنقوض بذلك نقص السوق . أما بعد انتهاء الحرب حيث نقص طلب القوات الأجنبية على سلعها وزاحمتها المنتجات الأجنبية وزادت الطبقة العاملة عددا .

ووعيا وكونت النقابات العمالية للدفاع عن حقوقها . وأن تعطل حوالى 10.ألف عامل بسبب إغلاق الكثير من المصانع . وترتب على المغالاة فى إصدار أوراق النقد من غير أن يكون هناك عرض متناسب مع السلع والخدمات أن ارتفعت الأسعار باستمرار , وأدى استمرار ارتفاع الأسعار إلى شقاء عدد كبير من السكان , بالرغم من ازدياد الدخل الأهلى وبلوغه رقما عاليا .

والسبب فى ذلك عدم نجاح سياسة التدخل الحكومى فى هذا البلد بمثل القدر الذى نجحت فيه معظم البلدان المحاربة على الأخص فى انجلترا .فاقتصاديات الحرب تتطلب تدخل الدولة فى الحياة الإقتصادية لتوزيع الدخل الأهلى بطريقة عادلة بين جميع الأفراد الذين اشتركوا فى تكوينه .

ويرجع الإخفاق إلى ضعف الإرادة الحكومية . كما أن الطبقات ذات الدخول العالية كانت بفضل مواردها الكبيرة أكبر عامل فى عدم نجاح سياسة تغيير الإستهلاك التى تكفل عدالة التوزيع والحد من ارتفاع الأسعار .والواقع أن أكبر اثر للحرب العالمية الثانية بالنسبة للطبقات الفقيرة والمتوسطة ازدياد حدة الغلاء .

هكذا أخذت الأسعار فى الارتفاع السريع المطرد حتى عجزت الموارد المحدودة عن اللحاق بها , واصبحت الحياة عبئا يصعب احتماله , إذا استثنينا كبار الأملاك الزراعية , وأصحاب رؤوس الأموال وكبار الموظفين وقد حاولت الحكومات تخفيف حدة الغلاء بالنسبة إلى بعض أصحاب الدخول الثابتة , وبعض أفراد الطبقة الفقيرة , فمنحت موظفيها إعانة الغلاء .

كما وضعت حدا أدنى لأجور عمال الزراعة , والتزمت بنظام التسعيرة الجبرى وتقييد الإستيراد ومنع تصدير السلع التى يحتاجها السكان بغير إذن خاص منها , ولكن تلك الأساليب كلها لم تؤد إلى أية نتيجة حاسمة .

  1. فالزيادة التى منحت للموظفين والحد الأدنى الذى تقرر للعمال الزراعيين كل هذا لم يساعد على تخفيف حدة الغلاء . ذلك أن الزيادة لم تتمشى مع مثيلتها فى أثمان السلع والخدمات .
  2. فرضت الحكومة التسعيرة الجبرية على معظم الضروريات وحددت ما يستهلكه الفرد منها ولكن هذه الوسيلة لم تصادف نجاحا يذكر تلاعب المنتجين والتجار وضعف أخلاق المشرفين على التموين.

وللحق لقد عانت مختلف طوائف الشعب من الغلاء واستمرت هذه الظاهرة فى السنوات التى أعقبت انتهاء الحرب , حدث ذلك بينما ذوى المصالح الكبيرة من زراعية وصناعية ومالية . كانوا يجنون الأرباح ويكدسون الأموال وينعمون بكل ما تصبوا إليه نفوسهم فالحرب بالنسبة إليهم نعمة وهم القلة أما بالنسبة إلى الجماهير الشعبية نقمة وهى الكثرة الغالبة .

وأكثر من هذا رأت الطبقة المتوسطة المصرية من رجال التجارة والصناعة أنها تستفيذ شيئا من ظروف الحرب .إذا كانت الأرباح تنساب إلى جيوب الأغنياء وخزائن الأجانب والشرقيين فازداد سخطها وهكذا قربت روح الثورة والتحرر فى نفوس الجماهير نتيجة العامل الإقتصادى فى الحرب الأخيرة .

خلاصة الموقف أن مصر قد قدمت كل ما أمكن تقديمه من مساعدات للحليفة . بالرغم من أن ذلك قد أرهق ماليتها وأجهد اقتصادها إلا أنه فى ذات الوقت , فقد أدى إلى تشجيع بعض الصناعات التى كانت قائمة , وأيضا ساعدت فى إقامة صناعات أخرى .

إلا أن معظم هذه الصناعات أقيمت منأجل الحرب وإمداد الجيوش المتحاربة بما كانت بحاجة إليه كم أدى إلى رواج نسبى سرعان ما انتهى بتوقف بعض المصانع .وتعطل العمال الذين كانوا بها وتعالت الصيحات المطالبة بضرورة حل مشاكل العمال المتعطلين , وخفض الأسعار الزائدة وتحسين الأحوال الإجتماعية .

وتقليل الهوة الواسعى بين الغنى الفاحش والفقر المدقع . ولم تكن الأصوات المطالبة بالإصلاح هذه تمثل تيار أو حزب بعينه بل شملت كل الأحزاب على اختلاف ميولها وأيديولوجاتها . اتضح للمثقفين فى مصر أن الإصلاح الإجتماعى والإقتصادى هو عماد الإصلاح السياسى ودعامته . وكان الفكر الثورى وقتها يؤمن بهذا الرأى السياسى ودعامته .

وكان الفكر الثورى وقتها يؤمن بهذا الرأى ولكنه يصل منها إلى نتيجة مؤداها " أن الإستقلال السياسى وحده لا يكفى لتحرير البلاد من الإستعمار وإذا كان الإستقلال السياسى الكامل هدف ضرورى ولكن يتعين مع انجازه تحقيق الإستقلال الإقتصادى أيضا .

أما المصالح الرأسمالية فقد فرغت إلى ذات المقدمة بنتيجة مغايرة تماما وهى أنه ما دام الإقتصاد العماد فيجب أن تكون له الأولوية على قضايا السياسة وللتدليل على ذلك فلقد كتب مريت على – وهو أحد المفكرين الإصلاحيين – " إن الإصلاح الداخلى ما هو إلا أساس الإستقلال الصحيح الإنتباه إلى الداخل .

وقال أيضا هذا عذر يتعذر به من لا يؤمن بالإصلاح .نحن فى حرب داخلية أخطر من اية حرب خارجية لأنها تصيبنا فى الصميم .وتفسد الدفاع فى قلب الحصن .ثم اضاف " أنا إن كنا فى شك فى أمر مصيرنا الإقتصادى والإجتماعى . لا سيما وأمره بيدنا ونحن المسئولون عنه وحدنا . وصدروا عن هذه النظرة , فإن أمل التطور الرأسمالى بعد نهاية الحرب أن تحل المسألة الوطنية حلا سريعا ثم يجرى التفرغ لمشاكل الإقتصاد .

ومما هو جدير بالذكر أن الأستاذان إبراهيم بيومى مدكورمريت غالى ومحمد خطاب ومحمد محمود كانوا من المفكرين الإصلاحيين . وكانوا أكثر جدية وشعورا بالمسئولية وشجاعة فى التعبير .

لهذا اصبحت كتاباتهم حجة فى الدلالة عن تيار معين . عند معرفة الفكر السياسى الرأسمالى فى مصر فى هذه الفترة . ولقد كانت المواقف العملية لكل منهم بعيدة عما تتصف به السياسة الرأسمالية ذاتها فى التطبيق من لين وتهاون سياسى . ولقد دعوا للعديد من الإصلاحات كاقتراح تحديد الملكية الذى سيرد ذكره تفصيلا فى نفس المكان وتحديد الإيجارات الزراعية وإلغاء الوقف .

وإصلاح الأداة الحكومية وتقييد سلطة الملك , كذلك موقف محمد محمود عندما استقال من رئاسة ديوان المحاسبة فى سنة 195., وأيضا دعوا إلى إصلاح مؤسسات السلطة والمجتمع وبناء أجهزة الدولة بأسلوب رشيد وعلى أسس موضوعية بعيدة عن النزعات الفردية , والتجمعات الشخصية والدليل على ذلك كتاب " الأداة الحكومية " لإبراهيم مدكور ومريت عالى " وهو يعتبر دعوة تقدمية بالمعيار الحضارى العام وكمعيار من معايير التطور الفكرى الناضج فى تلك الآونة .

إن ما كان يعنى الرأسمالية الكبيرة فى مصر فى المسألة الإقتصادية كونها أمحصورة فى مسألة الأرصدة الإسترلينية وإمكانيات التمويل من المصادر الأجنبية .

والقدرة على التسويق فى الداخل والخارج وتركيز اهتمامها فى مشكلة الأرصدة وبورصة العقود والأوراق المالية وفى مياه النيل للتوسع الزراعى , كما كانت تهتم بتنظيم أداة الحكم والتعايش الإجتماعى ولم يكن يعنيها أبدا دراسة الصراع الطقى الذى كان موجودا , وإذا لم يكن يعنيها أبدا دراسة الصراع الطبقى الذى كان موجودا , وإذا كانت تسعى لخفض النفقات المعيشية فإنها لم تصدر من اعتبارات خاصة بالعدالة الإجتماعية بقدر ما كانت حرصا على زيادة الطلب على المنتجات وخفضا لأجور العمال وتخفيضا لنفقات المنتجات .

وفى الحقيقة لقد واجه الإقتصاد المصرى نقصا كبيرا فى الدولارات مما أدى إلى عجز فى الميزان الحسابى المصرى مع أمريكا من 39: 1946 نحو خمسين مليون من الدولارات رغم ما دفع لمصر من دولارات مقابل نفقات الجيش الأمريكى فيها خلال الحرب وذلك حسبما ورد فى تقرير البنك الأهلى لشهر مارس سنة 1947.

وعندما أعلن عن مشروع مارشال الخاص بالمساعدات الأمريكية للدول الأوربية , صرح صدقى رئيس الوزراء المصرى لجريدة الأهرام بأن مصلحة مصر تقضى باشتراكها فى التعاون الإقتصادى الذى قدمه الجنرال مارشال وزير الخارجية الأمريكية .ولقد علقت جريدة الأهرام على ما ذكره صدقى.

أنه إذا ظهر من وجود بعض الفائدة من تسلل رأس المال الأجنبى , فيمكن البحث عن وسائل التيسرله دون تعريض الإقتصاد القومى لأدنى خطر من المنافسة لرؤوس الأموال المصرية أو الإضرار بالأيدى العاملة الوطنية , فضلا عن النفوذ الأجنبى فى أية ناحية من نواحى حياتنا العامة , وفى هذا دفاع عن قانون التمصير الجزئى للركات الجديدة وطالبت فى هذه الحالة بألا تستغل رؤوس الأموال الأجنبية طاقاتنا الإنشائية ولا تتفق فى أبواب المواد الإستهلاكية , أو السلع الكمالية لأن ذلك يكوننوعا من التبديد والإقتراض للترفيه .

وغذا كان ذلك تقييما لوجهات نظر الوفديين والإصلاحيين فإنه يتعين علينا أن تحلل بالتالى وجهات نظر التيارات الأخرى وأولها التيار الدينى الذى يمثله خير تمثيل الإخوان المسلمين ولقد كان للإخوان المسلمين نظرة خاصة بالقضية الإجتماعية قائمة على أساس أن الأمة مصدر السلطات فيجب أولا أن تكون الحريات والحقوق الدستورية موزعة بالسوية بين أفراد الأمة والواجبات بينهم جميعا متعادلة متكافئة كذلك يجب رفع المستوى الإجتماعى رفعا يحقق لكل فرد حاجاته الإنسانية الكريمة وتقوية روحه وحريته ولا أقصد بالحرية تلك الحرية المدمرة التى تترك الحبل على الغارب , ولكنى أعنى حرية التكوين الصالح.

فليست الديمقراطية أوضاعا شكلية ولكنها حياة تتغلل فيها قواعد المساواة ولا أعنى بالمساواة أن يظل الناس جميعا عيش واحد , يوفر لهم موارد متكافئة , فهذا وضع لا يستقيم به مجتمع سليم ولكنى أعنى بها أن يقدر القادر للعاجز بما عنده من فضل القدرة , ويكون لكل ضعيف أو محروم نصيب من الرعاية يكفل له الطمأنينة فى حياته "

وفى سبيل الدعوة للإصلاح يجب أن تحدد نوع المجتمع الذى تدعو غليه وأننا المختلفون عن هذا التحديد وإن كنا متفقين على الحاجة إلى المستشفيات والملاجىء والمدارس " .

وفى موضع آخر حدد الكاتب شكل المجتمع بأنه الذى يتمتع كل فرد فيه بكرامته وحريته وانتاجه بشرط ألا يسلمنا ذلك إلى فردية ممقوتة , فالذى نريده أن يعيش الفرد لنفسه وللمجتمع وأن يزيد فى ثروته ليرفع من شأن أمته ويقدم من ماله عونا لمن هم فى حاجة إلى العون .

هذا ولقد أضافت جريدة الاخوان منتقدة ميزانية وزارة المالية معلقة بأن نظام الضرائب القائم فى البلد لا يحقق العدالة بين الطبقات الثلاث بالمجتمع .

الأغنياء والمتوسطين والفقراء , وإذا كان الإخوان قد اعترفوا فى هذا الموضع بأن هناك طبقات في المجتنع , وفوارق بينها إلا أنهم لم يحددوا أسباب هذا التقسيم الطبقى ووسائل علاجه " ومن الحق علينا أن نطرح أن الميزانية المصرية فى عهدنا الحاضر لا تزال غير متوازنة فمن ناحية الدخل أن الإيرادات لا تزال الضرائب على اختلاف أنواعها موزعة توزيعا غير عادلا بين مختلف الطوائف كالملاك الزراعيين والتجار والصناع , وأصحاب المهن الحرة.

وبين المنتجين والمستهلكين عامة , كما لا يزال التوازن مفقودا إلى حد بعيد بين الطبقات الثلاثة فى الأمة من الموسرين والمتوسطين والمعوذين وبخاصة بين الطبقتين الأولى والثالثة ومن ناحية المصروفات فلعل أبرز وأفجع مثال على اختلاف التوازن هو الفارق الجسيم بين ما يصرف على سكان المدن وسكان القرى وكذلك هناك توازن نسبى بين ما يصرف على الموظفين فى مجموعهم والأهليين فى مجموعهم وبين كبار الموظفين وصغارهم , وبين بعض الأهليين وبعض .

وفى مضمار شرح الكاتب للأخطار التى تتعرض لها البلاد انتقل على خطر الصهيونية قائلا " أرى من واجبى أن أحذر البلاد العربية عامة ومصر خاصة مما انتظر وأخشى خطره من منافسة شديدة وظالمة للصناعات الوطنية منقبل الصناعات الأجنبية المستوطنة فى فلسطين " .

وفى مقال آخر أشار إلى أن دستور الإقتصاد أو العدل الإجتماعى ينحصر فى قول عمر بن الخطاب – رضوان الله عليه – حين قال " والله ما أحد أحق لمال الدولة من أحد , وما أنا أحق به من أحد و والله ما من الناس من احد إلا وله فى هذا المال نصيب , فالرجل وبلاؤه والرجل وقدمه والرجل وحاجته واله لئن بقيت لهم ليأتين الراعى بجبل صنعاء حظه من المال وهو فى مكانه يرعى "

وبالفعل وبالرغم من عدم التحديد الموضوعى لمطالب الإخوان المحددة الشكل للمجتمع وكيفية إصلاحه إلا أن الكاتب اكتفى بأن أفرد عنوانا فى بحثه عن متوسط دخل المصرى قائلا

" أن حوالى ثلاثة أرباع الزراع فى مصر يملكون فدانا واحدا فأقل وفى الموتوسط 4 و 15 من مائة من الفدان , هل من عجيب أن يكون متوسط دخل الفلاح المزارع أقل منه فى أى بلد آخر , فلا يبلغ أكار من 2.جنيها فى السنة , أما متوسط دخل المصرى أيا كان العمل الذى يقوم به أو الصفة التى يتصف بها فقد بلغ فبل الحرب فى سنة 1935 حوالى 12 جنيها وزاد إبان الحرب إلى حوالى 2.جنيها بسبب التضخم النقدى وليس هناك أقل منه إلا فى الهند , ولقد أشاد نادى الكاتب إلى ضرورة محاسبة كبار الموظفين فى الدولة وكان أول من نادى بمبدأ من ايم لك هذا " يتعين العمل على صيانة نزاهة الحكم , ولهذا أرى ضرورة محاسبة الموظفين جميعا وعلى رأسهم الوزراء على ما يقتنونه أبان قيامهم بوظائفهم "

ويقصد الإخوان من الإصلاح الإقتصادى تنمية الثروة القومية وحمايتها والعمل على رفع مستوى المعيشة والتقريب بين الطبقات وتوفير العدالة الإجتماعية والتأمين الكامل للمواطنين جميعا وإقرار الأوضاع التى جاء بها الإسلام فى ذلك كله .

ومن مبادىء الإخوان عدم التساوى فى الثروة حتى توقظ روح المنافسة والعمل بين المواطنين مستندين إلى قوله تعالى " نحن قسمنا بينهم معيشتهم فى الحياة الدنيا ورفعنا بعضهم فوق بعض درجا " وحكمة هذه الحكمة أن الإختلاف بين الناس فى الثروة يبعثهم على الجد ويوقظ بينهم روح التنافس والعمل مما يؤدى إلى خير الإنسانية ويغرس فيهم حب الخير والعطف على الفقير والبائس والمسكين وكافة الفضائل الأخلاقية بعكس ما إذا تساوى الكل فى الرزق والثروة مما يؤدى إلى انعدام وجود الفضائل الأخلاقية وانعدام روح العمل والتنافس.

والإسلام لم يؤخذ أيضا بنظام تحريم الملكية الفردية , وجعل الملكية للدولة , على أن يقوم بإعطاء كل فرد نصيبه فى الرزق كما تقوم بذلك مبادىء الشيوعية أو الإشتراكية ولكن الإسلام قد احترم حق الملكية الفردية حثا على العمل والجد فى تحصيل الأرزاق التى كلفها الله سبحانه وتعالى .

وأضاف شارحا أصول الديمقراطية الإجتماعية الإسلامية نظام فردة اشتراكى . يسعى فيه الفرد للرزق وله الحق فى امتلاك ما يحوزه لقاء عمله وسعيه فى حرمان الفرد من كل ملكية شخصية . وتركيز الثورة فى يد الجماعات يقضى على أبسط مبادىء الحرية الشخصية ولمحو الإستغلال الفردى .

أما تحريم الملكية الفردية وتحمل الدولة حق كل فرد فى الإسترزاق فإنه نظام عقيم لا يحل المشاكل الإجتماعية ويؤدى إلى نتائج وخيمة من نفورفى الهمم وتكاسل فى العمل إلى قلة فى الإنتاج .

وانصراف عن الإبتكار والإختراع وانصراف الشعب فى الرزق وكثرة النفقات بدون طائل من ورائها " وإذا كان الإخوان قد آمنوا بدون جهاره بوجود فوارق بين الطبقات إلا أنهم لم ينادوا بإلغائها مطلقا بل لعلهم أكدوا على بقائها على أساس أن تلك هى الديمقراطية الإسلامية الحقيقية.

وغنى عن البيان أن المساواة التى أتت بها الديمقراطية الإسلامية ليست مساواة مطلقة فى توزيع الثروة , فترمى إلى محو طبقات الرأسمالية وتحريم الملكية الفردية , ذلك لأنه يعتبر المساواة فى الرزق ضربا من ضروب الظلم .وقال تعالى " نحن قسمنا بينهم معيشتهم فى الحياة الدنيا " .

"هذه هى المساواة التى أتت بها الديمقراطية الإسلامية مساواة فى الحقوق وفى الواجبات أمام القانون , مساواة لم تصل إلى توزيع الثروة الطبيعية والصناعية لمخالفة ذلك للنظام الطبيعى , وإذا كان الإسلام يعترف بوجود فوارق بين طبقات الأمة من حيث الثروة إلا أنه سعى لتخفيف هذه الفوارق الإجتماعية تخفيفا واسعا لمساوىء الرأسمالية المفرطة , ففرض الزكاة على الأموال وجعل أموال الأغنياء حقا للسائل والمحروم وحث الأغنياء على التصدق فى سبيل الله على المساكين والفقراء والمعذورين .

ولقد حظت التشريعات ومنها التشريع المصرى فى سبيل تخفيف الفوارق الإجتماعية خطوات واسعة ففرضت ضرائب على الثروة الكبيرة ولكن فرضه ضريبة الزكاة من واجب الواجبات , فهى العامل المباشر لتخفيف البون الشاسع بين الطبقات الغنية المفطة فى الثراء والطبقات الفقيرة المفرطة فى الفقر " .

اهتمت جريدة الإخوان بمشاكل العمال وأفردت لها جزءا خاصا أسمته " جريدة الأهرام " خصت فيه العمال على إشناء وإقامة مصانع مساهمة يكون رأس مالها عماليا خالصا , وأوصت أن تسند إدارتها لنخبة منهم , وأوصت بتشجيع أصحاب رؤوس الأموال الصغيرة للمساهمة فى مثل هذه المشروعات حتى لا يضطروا لإيداع أموالهم فى البنوك الأجنبية , ورحبت بهذا التعاون الوليد على اعتبار أنه مظهر من مظاهر النهضة المصرية الجديدة .

وفى الحقيقة لقد اهتم قسم العمال هذا بتعليم العمال القراءة والكتابة لمحو الأمية بينهم وتثقيفهم صحيا واقتصاديا وصناعيا , وإيجاد المساكن الصحية لهم ونقلهم إليها مع تيسير أماكن العمل الصحيحة أيضا , والعناية بملابس العمال فى أعمالهم , " ويجرب الإخوان الآن فى محيط المجموعات الصغيرة العدد نظام التأمين الإسلامى ضد العجز والمرض والشيخويخة والحاجة والبطالة "

أما عن كيفية محاربة الإسلام للرأسمالية .

فلقد حصرها الإخوان فى مجرد التلويع أن الإسلام يحارب الإستغلال وأكل الحقوق وجعل من الثرى وكيلا لله على هذا المال أن ينفقه فى وجوهه وأن يستغله فيما فيما يعود على الناس جميعا بالسعادة ويتجرأ البعض بعد ذلك ويرمى الإسلام بالرأسمالية وأن نظامه الإقتصادى لا يصلح للقرن العشرين .

وفى دراسة إخوانية لأسباب الفقر وطرق علاجه ذكروا أن الفقر الذى ينتاب الفرد والمجتمع ينجم عن عاملين أولهما التعطل وفقد العمل , وثانيهم ينشأ عن العجز عن العمل و ففى الحالة الأولى يوجب الإسلام على أولياء الأمور أن يقوموا بإيجاد العمل لكل متعطل بتأسيس الشركات , واستخدام أموال الأغنياء المدخرة وهو ينظر إلى الصناعة نظرة تقدير مهنى عند الحاجة يجب أن تقوم به طائفة من المسلمين .

ويحرم فى سبيل ذلك على الأغنياء كنز اموالهم بل يجب أن تبذل فى المشروعات المفيدة , هذا الحل لو طبقناه لما تعطلت أموال الأمو ونهضت البلاد نهضة صناعية واقتصادية تحول دون التعطل والبطالة أما فى الحالة الثانية ,وهم الفقر الناشىء عن العجز لمرض أو شيخوخة أو ضعف فقد فرض الإسلام لهؤلاء الزكاة .

ويجدر بنا هنا أن نتساءل هل اعتنى الإخوان بالعمل والعمال إدراكا ووعيا لوجودهم كطبقة ذات مصالح معددة مميزة ؟ وبالطبع الإجابة على هذا التساؤل بالنفى لأن دافع الإخوان كان انطلاقا عن كونهم عناصر كبرى يمكن بانضمامها زيادة عدد الأعضاء وضمان مناصرتهم.

لذلك وضعت لائحة لقسم العمال , وفى مقدمتها " أنه من الأقسام الكثيرة بالمركز العام للإخوان التى وزعت عليها أعباء الدعوة حتى تتحقق السعادة للجميع فى ظل الحكم الربانى , وبذلك تزول جميع أمراضنا الإجتماعية والأخلاقية ومشاكلنا الإقتصادية والسياسية " كما دعوا إلى ضرورة العناية بالصناعة والعمال ودراسة الأفكار الواعية وأساليب الإنتاج الحديثة حتى لا يقل العامل المسلم عن مثيله صناعيا فى أية أمة من الأمم وإرشاد العمال العاطلين .

وضرورة القيام بالمشروعات الإقتصادية لتحقيق هدفين أولهما إنشاء وحدات اقتصادية لتتحقق معها معنى الإشتراكية الشعبية الصحيحة ,وتحقيق العدالة الإجتماعية الإسلامية على العمال القائمين بالعمل فى هذه الوحدات حتى تكون دليلا عمليا على صدق اتجاهاتنا , ولكى يقتدى العمال بالآخرون فى المطالبة بتطبيقها عليهم .

ثم تنظيم جميع الأسهم للمشروعات التى يتقرر تنفيذها ودعوة جميع عمال الإخوان للإشتراك فيها . ثم على كل مشروع أو منشأة اقتصادية إخوانية عمالية أن تأخذ رأى قسم العمال وموافقته وتسجل بالقسم .

ودراسة السبل المؤدية الى تأمين حياة العامل الإجتماعية , وإنشاء صناديق للإدخار للإنفاق منها عليهم كذلك وقايتهم من أخطارالبطالة بمحاولة تشغيل العاطلين كذلك تأمين العامل من المواجهة الصحيحة إلى جانب تيسير سبل العلاج وجعل الأدوية فى متناول أيديهم .

كما دعوا إلى الإهتمام بالمشاريع الصناعية المرتبطة بالزراعة فرأوا أن زيادة الثروة يكون بزيادة الأراضى الزراعية وحسن استغلالها وتنفيذ المشروعات الحيوية التى تحقق ذلك كمشروعات الرى وتعلية القناطر وكهربة اسوان .

والقناطر والخزانات الأخرى كل ذلك يوجد مجالا حيويا للنشاط الشعبى الذى يزيد الثروة ويوجه الرخاء فتفيد هذه المشروعات لتصلح الأراضى وتزداد الوسائل للانتفاع بها وحسن زراعتها وزيادة انتاجها .

وأن يغنى بالإكثار من الصناعات الصغيرة فى القرية .حتى تخلق موارد الرزق للفلاحين تعينهم على رفع مستواهم وعلينا أن نشجع الروح الصناعية بالوسائل المختلفة من سلفيات وزيادة الأجور وإقامة الرقابة والحواجز الجمركية على الموارد حتى تستطيع الصناعة أن تحيا وتزدهر .

كذلك لابد من " أن نسرع بتنفيذ مشروعاتنا الصناعية والزراعية كمشروع خزان أسوان وإصلاح الأراضى البور واستغلالها .والعناية بالبقاء على الأسواق الجديدة التى فتحت أمام المنتجات العربية فى أوربا وغيرها بمختلف الوسائل من رعاية وتسهيل التصدير .

كذلك علينا أن نقوى الصناعات التى نشأت فى القرية ولكن لها أن تنمو وتترعرع وتتخذ طريقها لأن تصبح صناعات ثابتة وتحديد الصناعات والمنشآت التى يقوم بها الأفراد والشركات بإنشاء البنك الصناعى وتشجيع الإنتاج الفردى .وأشار الكاتب إلى ضرورة استغلال الخامات الكثيرة والخامات التى تذخر بها البلاد .

من معادن مختلفة تستورد كثرا من الخارج فتحصل من وراء ذلك على فوائد كثيرة كتشغيل الأيدى العاطلة وتنمية الثروة الداخلية وقيام صناعات أخرى من هذه الخامات .

ثم تصدر ما يزيد منها عن حاجتنا .وفى دعوة إلى إنشاء النقابات لتحسين العلاقة بين صاحب الأرض والفلاح نادى الإخوان بضرورة أن تنشىء " فى القرى مثلا نقابات عمالية بين الأجراء الزراعيين . تؤازرها الحكومة وتمدها بالمال لتساعدها فى قرض حدود دنيا للأجور .

وعندئذ سيجد الفلاح الجر المجزى الذى يقوم بنفقاته ويعينه على مقاومة الجهل والمرض فى يسر وبساطة . ولو شرعت القوانين الجزئية تحد من عدد الأفدنة التى يمكن لصاحب الأرض أن يزرعها بنفسه وتحتم تأجير الباقى إلى صغار الزراع بقيم معقولة .مع توسيع اختصاص بنك التسليف الزراعى .

والعمل على زيادة رأس ماله بحيث يقوم بإمدادهم بكل ما يحتاجون إليه سيزيل بذلك نظام " الوصايا " الأسود المتخلف من عصور الظلام والإستبداد ولعاش الفلاح الصغير فى جو من الحرية .

وفى إحدى الرسائل الوثائقية التى أمكننى العثور عليها . والتى كتبها الإمام حسن البنا فى أعقاب الحرب العالمية الثانية رسالة طريقة تحوى مضمونا واسعا عن ما أسماه مشكلاتنا فى ضوء النظام الإسلامى " وما يعنينى سرده الآن هو نظرة هذا البحث للنظام الإقتصادى المصرى وقواعده فى الإسلام كما فصلها الكاتب ولخصها على أنها تحوى الآتى :

أولا : إعتبار المال الصالح قوام الحياة .ووجوب الحرص عليه وحسن تدبيره .

ثانيا : إيجاد العمل والكسب على كل قادر .

ثالثا : الكشف عن منابع الثروات الطبيعية .ووجوب الإستفادة من كل ما فى الوجود من قوى وموارد .

رابعا : تحريم موارد الكسب الخبيث .

خامسا : تقريب الثقة بين مختلف الطبقات .تقريبا يقضى على الثراء الفاحش والفقر المدقع .

سادسا : الضمان الإجتماعى لكل مواطن وتأمين حياته والعمل على راحته وأسعار.

سابعا : الحث على الإنفاق فى وجوه الخير وافتراض التكافل بين المواطنين ووجوب التعاون على السير والتقوى .

ثامنا: تقرير حرمة المال . واحترام الملكية الخاصة ما لم تتعارض مع المصلحة العامة .

تاسعا : تنظيم المعاملات المالية بتشريع عادل رحيم والتدقيق فى شئون القصر .

عاشرا : تقرير مسئولية الدول فى حماية هذا النظام .

هذا ما يخص النظام الإقتصادى كما اشتمل البحث على الآتى الكشف عن منابع الثروات وتحريم الكسب الخبيث .والدعوة إلى التقريب بين الطبقات وذلك بتحريم الكنز ومظاهر الترف على الأغنياء , والحث على رفع مستوى المعيشة بين الفقراء .

وتقدير حقهم فى مال الدولة .ومال الأغنياء ووصف طريق العمل لذلك .واكثر من الحث على الانفاق فى وجوه الخير .وتقرير التعاون .وأشار إلى احترام الملكيات والدعوة للضمان الإجتماعى .

وإذا كنا قد أسرفنا فى توضيح نظرة التيار الدينى للقضية الإجتماعية فلابد إذا من إعطاء ذات الفرصة للتيار الفاشى كى يوضحها أيضا ففى الواقع لقد اهتمت مصر الفتاة والتى عرفت بالحزب الإشتراكى فيما بعد منذ أنشائها بالقضية الإجتماعية وكان جل اهتماماتها المبكر ما قدمته من اقتراحات للعناية بشئون العمال والفلاحين وإن كانت فى مضمونها محاولة سطحية ولكنها على أية حال أدركت أهميتهم وفى برنامج حزب مصر الفتاة لعام 1938 أعلن أحمد حسين " أنه إذا ولى الحكم فسيجد عملا لكل عاطل "

كما اهتمت مصر الفتاة ايضا بقضايا الفلاحين فطالبت بترقية الفلاح اجتماعيا بإقامة المساكن الصحية له وهدم المساكن القيمة بالقرى على أن تدبير الأموال لهذا المشروع بتخفيض مرتبات الموظفين وفرض ضريبة على الدخل الذى يزيد على مائة جنيه " وظلت معظم برامج مصر الفتاة لا تتعدى مطلقا حدود النشر والكتابة فقط .

وفى برامج مصر الفتاة لعام 1945 والذى نشر فى نوفمبر سنة 1944 أشارت إلى أن الجهاد لابد أن يشمل الجانب الإقتصادى من حياتنا " يجب أن ترتقى بالزراعة التى تكون ثروة مصر الحقيقة فتحدد وسائلها وتنوع محاصيلها , وتزرع أراض جديدة وتشق الترع وننشىء المصارف ونعمل لمضاعفة الإنتاج.

ويجب أن يعم نظام التعاون ف كل مدينة وفى كل قرية بل وفى كل صيغة لإقراض الفلاحين , ولتوزيع البذور , واستخدام الآلات وبيع الحاصلات وتنظيم المعاملات , كذلك يجب أن تسترجع مصر مركزها القديم كدولة صناعية تمد الشرق القريب والبعيد بالمصنوعات والحاجيات المختلفة فيجب أن نشيد المصانع لنغزل كل قطننا وصوفنا وكتاننا.

ويجب أن نشيد المصانع للصناعات الكيماوية والزراعية والحديدية وتمهيدا لهذا الانقلاب يجب ان ينشأ بنك صناعة لتمويل المشاريع المختلفة , وأن تولد الكهرباء من خزان أسوان , ويجب ان توضع الحماية الجمركية اللازمة لحماية المصانع الوطنية و وأن نختم الحكومة على موظفيها وعلى طلبة مدارسها أن تكون ملابسهم من المصانع المصرية وأن تفضل الحكومة دائما المصنوعات المحلية ثم أنه يجب أيضا أن تحتكر تجارتنا الدخلية " .

كذلك دعا أحمد حسين إلى ضرورة العناية بالصناعة وعلى استخراج المعادن والإستعانة بالمواد الأولية للصناعة المتاحة لدينا " إن العنصر الأساسى لقيام كل صناعة هو الفحم وهو غير موجود , ونحن نسلم بذلك ولكن الكهرباء تقوم مقامه فهذه إيطاليا وغيرها قد استغلت شبكاتها لإقامة المصانع والمعامل فلم تسر فى الطريق الذى سارت فيه بعض الدول من قبل وبلغت فى الصناعة شأنا ليس بالقليل , إن قيام هذه الصناعة الهامة ليتوقف على كهربة خزان أسوان لا أنه كفيل يجعل مصر بلدا صناعيا من الطرازالأول " .

ولقد أشار أحمد حسين باهتمام الدولة بدراسة مشروعات استخراج كهربة أسوان ولكنه دعا إلى ضرورة تمصير الشركات وقصررأس المال على المصريين وحدهم بل وأيضا طرح أسهم الشركات على العمال حتى تستطيع أن توجد عندهم ادافع الشخصى على نجاح ههذ المشروعات والإخلاص لها والمعنى بذلك الربح الذى يعود عليهم وأما كيفية إنشاء هذه المشروعات لتوظيف العمال فلن يكون إلا عن طريق الشركات المساهمة الوطنية.

كما سبق أن أيدناه أى حتى يستطيع الجميع أن يشتركوا فى أسهمها ولابد من وضع بعض القيوم حتى لا يستأثر أفراد فيها بنصيب الأسد وتعلوا إرادتهم على بقية المساهمين سواء من حيث عدد الأسهم أو عدد الأصوات فى الجمعية العمومية , أو فى مجلس الإدارة , والقيد المهم فى نظرنا هو جعل الأسهم اسمية حتى لا تتسرب إلى أيدى غير مصرية , كذلك نرى أن من واجب الحكومة أن تقوم بإعداد هذه المشروعات بالإعانة المالية فى صورة هبات وتسهيلات كإعفائها من الضرائب لمدة معينة من بدء نشاطها , وكإعفاء الالآت التى تستوردها من الرسوم الجمركية " .

وفى موضع آخر أشار الكاتب إلى ضرورة الأخذ بوسيلة أخرى لإنشاء الصناعات الجديدة وهى حمعيات تعاونية صناعية .وفى بحث طريف قدمه الحزب لعلاج مشكلة الفقر قال أحد كتابه " أننا لا نستطيع أن نحل مشكلة الفقربتوزيع ثروة الأغنياء على الفقراء كما يتوهم البعض , ثروتنا الزراعية اليوم خمسة ملايين وخمسمائة ألف فدان من الأراضى المزروعة.

ولووزعت على المصريين بالتساوى لخص كل فرد ثل فدان , ولصار الشعب كله فقيرا وحكمنا على الجميع بالفقر ولكن الطريقة الناجحة لهدم صرح الفقر وتحطيم دعائم الفاقة فى مصر العمل على زيادة ثروة الأمة , ثروتها الصناعية وثروتها التجارية والمعدنية والصحية والعلمية وهذه هى الوسيلة الأولى التى يجب أن يسعى إليها المصلحون , حكومة وشعبا لمكافحة الفقر والقضاء عليه.

كما يجب ان نصلح الأرض القابلة للاصلاح ونوزعها على الفقراء من الفلاحين ومدهم فى بادىء الأمر بشىء من نفقات الإنتاج من بذور وأسمدة وغيرها وأن تشرف الحكومة إشرافا تاما على ما يقوم به هؤلاء الفلاحين وأن نوجههم التوجيه السليم الذى يسير بهم فى طريق النمو والانتاج , كما أن إدخال مشروعات صناعية ضخمة مثل كهربة البلاد وتشييد المصانع الثقيلة تفتح باب العمل أمام مئات الألوف من العمال والموظفين والفنيين والفلاحين لهذه الخطوة فتزيد الثروة القومية العامة وتزيد الدخل الفردى " .

كذلك دعى الحزب إلى ضرورة إمداد الفرحين بالمياه الصالحة للشرب .ورفع مستواهم ففى مصر ما يقرب من اثنى عشر مليونا من الفلاحين يشربون الماء الآتى من الترع والقنوات . ولقد بحت أصوات بطلب مد أنابيب المياه النقية إلى قرى هؤلاء الفلاحين .

وبعد أن تغير اسم الحزب إلى الحزب الإشتراكى أشاد زعيمه بدور الإشتراكية وقيمتها وعلى الفوائد القيمة التى ستعود على الوطن من تطبيقها " إنما يجب أن تعتبر النظم وأن تسود المبادىء الإشتراكية الديمقراطية فيكون الخير ة والنجاح فى ظلها .

ولا يجد السارق جدوى من سرقته لأنه لن يسمح له بزيادة ما يملكه عن حد معين .وفى ظل الإشتراكية لن يحتاج الموظف للرشوة لأنه سيكون آمنا على رزقه .ومعاشه بدرجة معينة .وسينعم الفلاحون بثمرات كدهم وجهادهم .فلا تمتلىء نفوسهم سخطا وغضبا وسيحصل كل عامل على نصيبه الحق الذى يعادل ما يبذل من مجهود .

ولن تكون هذه الفوارق التى تسمح للإنسان أنيمتلك عشرات الملايين وآخرين إلى جوارهم يتضورون جوعا .وواقع الأمر أن تلك الآمال الحسنة كانت ضربا من ضروب الخيال .التى ظل غارقا فيها زعيم التيار ودليلنا على ذلك أنه لك يكلف خاطره حق تفسير ما يعنيه بالإشتراكية ومفهومه لها .

بل وحتى كيفية إيصال المجتمع إلى تلك المرحلة المتقدمة من الوعى السياسى والإجتماعى .وفى مقال جرىء لسيد قطب عن الجبهة الداخلية وضرورة العمل على تقويتها قال " إن الشعب ليدرك أن قضية العدالة الإجتماعية .ليست فى معزل عن قضية الحرية .لقد انقض الوقت الذى كان يجدى الهتاف للقضية الوطنية يشغل الناس عن كل مطالب الحياة الضرورية .

فالناس لابد أن يعيشوا .لابد أن يعترف لهم بآدميتهم أنهم لن يسمحوا لتجار الوطنية أن يعيشوا على حسابهم فلتقوى الجبهة الداخلية ولتقربوا من الشعب ولتعطوا الشعب حقه .ولتنقذوه من الإقطاع الناجز والرأسمالية الطاغية وعندئذ سيهتف لكم الشعب حقا فى الجبهة الخارجية أما الدجل بالقضية الوطنية فلم يعد يسمعه أحد لأن الوعى الشعبى لم يعد يؤمن بالدجالين .

والآن لا تجنى إطلاقا فلقد خلت أهداف ومبادىء التيار الفاشى من الواقعية والمنطقية بل اتسمت مثلها مثل كل حزب فاشى فى أية دولة قام فيها بالرعونة والتردد والتناقض فى الشعارات واقتصارها على مجرد العمل الديماجوجى دون إيجاد حلول حاسمة أو حتى التفكي فى تطبيقها .أما " اليساريون" فلقد كانوا أكثر نضجا وفهما لحدود المشاكل التى نجمت عن الإستعمار وأفردوا لها حلولا جذرية .

ففى تحليل لمشكلة مأساة التموين وكيفية علاجها اقترح أحد كوادرهم ( صادق سعد ) " أنه على الحكومة أن تراقب الإنتاج الكبير ولا سيما انتاج الحاجيات الشعبية ثم أن تستولى ذاتها على الشركات الإحتكارية الكبرى لتحقيق مصلحة الجمهور وان تراقب الإنتاج الزراعى الكبير مراقبة دقيقة .

كذلك لابد أن يعفى المنتج المتوسط من الإستيلاء على جزء من انتاجه وأن يعفى المنتج الصغير إعفاء تاما وعلى أن تشترك الطبقات الشعبية فى مراقبة أمور التموين بتكوين لجان مستهلكين .

كذلك اعتنوا بدراسة سوء التغذية الذى تعرض له المواطنون المصريون فى أعقاب الحرب العالمية الثانية وبعد تحليل أسبابها ومظاهرها .لم ينسوا اذبدا ذكر وسيلة علاجها ." إن مظاهر النقص الغذائى فى مصر قد ألمحنا إلى دواعيها .

فهى لا تخرج عن حلقة محكمة الأطراف من عدوان الأقلية الحالية المسيطرة على جميع المرافق الحيوية للبلاد واستغلالها جهود الملايين الذين يعملون فى الحقول والمصانع , وتوجيه الإنتاج توجيها لا يستهدف صالح الشعب وانخفاض مستوى المعيشة بين عمالنا وفلاحينا والفئات السفلى من الطبقة الوسطى.

وهذا كله مرتبط بنظمنا الإقتصادية وغير العادلة , ونظمنا الإجتماعية المختلفى وإلى استبداد الإستعمار بأقواتنا , ولا تحل المشكلة بإنشاء مطاعم شعبية أو بتشجيع وسائل الإحسان , وأسابيع الفقر وإنما يجب أن يمس الحل جوهر أوضاعنا ونظمنا من وجوب استناد الحكومة إلى الشعب على أساس برنامج ديمقراطى صحيح وتنفذه جديا برنامج يهدف إلى رفع مستوى معيشة الجماهير وزيادة تقدمها وسعادتها وتوجيه الإنتاج إلى مصالحها " .

وفى بحث تحليلى عما إذا كان المطلوب جلاء اقتصاديا أو ديمقراطيا طالب اليساريون بضرورة استيلاء الحكومة على الممتلكات الكبرى " نحن التقدميين المصريين لا نقبل هذه الطريقة , بل نريد الطريقة الأخرى وهى الاستيلاء على الإحتكارات الأجنبية وغير الأجنبية , إذن فنحن لا نريد الجلاء الإقتصادى وإنما نريد تحكم الدولة فى الإحتكارات الكبرى ..

وواضح أن المطالبة باستيلاء الدولة على الإحتكارات الكبرى يجب أن يكون مرتبط أشد الارتباط بالعناصر الأخرى , التى يقضى تحقيقها بناء الديمقراطية المصرية منها رفع مستوى المعيشة , وتوسيع التمثيل الشعبى وإطلاق حرية التنظيم السياسى .

وفى أواخر عام 1947 وبعد انتشار وباء الكوليرا , وزيادة أعداد من أودى بحياتهم نتيجة له نادت الجماهير بأن العلاج الوحيد التخلص من الإستعمار " فالأوبئة والإضرابات وتزمر الطبقات الشعبية .. ثم الظلم الإجتماعى لذى عانت منه الجماهير ..

هى نتيجة حتمية لاستعمار غاشم يستعمرنا حربيا واقتصاديا وسياسيا , استعمار يؤدى إلى المجاعات والمجازر والأوبئة فى كل مكان فى الهند والعراق , وفلسطين واليونان , كذلك نتيجة حتمية لسياسة الحكومة المتجاهلة لصالح الطبقات الشعبية , والموالية لسياسة الشركات الإحتكارية الاستعمارية , إن علاج الأوبئة والفقر ليس فى الأمصال الواقية فقط بل فى طردنا للمستعمر ورفع مستوى الأجور والمرتبات ولخفض الأسعار ولنفرض الضرائب التصاعدية ولنخفض إيجارات الأرض والتزام سياسة اقتصادية ترمى إلى تحريرنا من رقة الإستعمار ولنتعاون مع الدول الصديقة المستعدة لإمدادنا بالمنتجات والالآت دون تدخل واستبعاد هذا هو الطريق الواضح بين , أما استقلال ورخاء وأما أوبئة ومجاعات .

الملكية الزراعية

لقد شغل الرأى العام المصرى على أثر انتهاء الحرب الزيادة الفظيعة فى أسعار السلع الغذائية , وما صاحب ذلك من تعطيل أعداد خفيرة من العمال نظرا لانغلاق بعض المصانع التى كان ظهورها من دواعى الحرب و وبالتالى توقفت بانتهائه والحقيقة أن الجماهير قد شغلتها قضية الفقروالذى كان بدون شك من مسبباته البون الشاسع بين الملكيات الضخمة والفتاتان الصغيرة التى تمتلكها أكثر من ثلاثة أرباع السكان ..

فليس عجيبا إذن أن نرى راكب الباركار وحفاة الأقدام فى شارع واحد , ولم يكن غريبا أن ترى من يقضى عطلاته فى أجمل المصايف العالمية ومن يحتمى من أشعة الشمس بالأشجار ثم الظلم الإجتماعى الذى عانت منه الجماهير .. ولم تكن تلك هى الصورة التى عاشها الشعب طوال عهد الإحتلال فقط , بل كانت وسط الضباب عقول تنادى بالإصلاح وتلح على ضرورة الحد من الملكيات الكبيرة ..

ولا يهمنى فقط تقييم نضج وصلاحية المشروعات المقدمة هذه بقدر ما يهمنى التلويح بتقديرها كمحاولات تقدمية بالمعيار المعقول أثناء تلك الحقبة الهامة من تاريخ مصر , ويكفيها ايضا أنها مست الذات التى لم يكن بالإمكان مساسها مما سهل على الثورة فيما بعد أن تطبق ما كانت تأمله الجماهير ..

مايهمنى الآن ايضا الإشارة إلى أنه نادى البعض بتحديد الملكية الزراعية لزيادة الإستثمار الرأسمالى فى الزراعة وكان من هؤلاء بمجلس النواب " على الشيشينى " و" سيد إجلال " وأكد ذات المعنى تقرير بنك التسليف الزراعى فى سنة 1947 إذ طالب باستكمال وسائل الرى والصرف وأشار بفائدة توزيع الملكيات الزراعية أيضا بحيث لا تكون متناهية فى السعة والضيق مع تنسيق العلاقة بين الملاك والمستأجرين .

ويجدر بنا الإشارة إلى منطق كل تيار فى المشكلة الإجتماعية ككل والملكية الزراعية خاصة قبل توضيح نقاط الخلاف بينهما , فالوفد مثلا رغم قصر فتة حكم حزب الأغلبية الجماهيرية و حتى لا تكاد تتجاوز سبع سنوات , وعلى الرغم مما لاقاه من كيد القصر وعنت الإستعمار فقد اقترنت عهوده بمعظم ما حققته البلاد من إصلاحات جوهرية ومشروعات حيوية فى المجالين الإجتماعى والإقتصادى ..

فقد كان الوفد هو الذى قرر مجانية التعليم الإبتدائى والتوسط والثانوى ووضع قانون استقلال الجامعة وأنشأ جامعة " عين شمس " و " الأسكندرية " وهو الذى اعترف للعمال لأول مرة بكيانهم النقابى واستصدر أهم قوانين العمل كقانون التعويض عن إصابات العمل والـتأمين الإجبارى ضدها وقانون العمل الفردى وقانون العمل المشترك.

كما استصدر أهم القوانين السياسية والدستورية كقانون الإجراءات الجنائية الذى يحمى الحرية الشخصية لأفراد الشعب وقانون إستقلال القضاء , وقانون التوظيف فضلا عما ت على يده من إنشاء ديوان المحاسبة وديوان الموظفين , والبنك المركزى ودعم النقد المصرى وإنشاء صندوق الدين وتمصير الدين العام.

وتسوية الأرصدة الإسترلينية , وإلغاء الإمتيازات الأجنبية وما ترتب عليها من استرداد مصر سيادتها المالية والقضائية , وإلغاء المحاكم المختلطة وجهات القضاء القنصلية وكان على يديه إنشاء جامعة الدول العربية , وهى الصيغة الباقية التى تجمع حولها الحكومات العربية فى طريق التضامن .

هذا ولقد أعلن الوفد سياسته الداخلية التى رأى أن يمض فيها عن طريق نظام اشتراكى اجتماعى تكون فيه العدالة الإجتماعية والإقتصادية والسياسية أساس كل مقوماتها الوطنية وأبدى التزامه بألا يؤدى النظام الإقتصادى إلى تركيز الثورة ووسائل الإنتاج على نحو ضار بالمصلحة العامة وأن يكون توزيع الموارد الأساسية للبلاد والسيطرة عليها بطريقة تحقيق الخبر العام للجميع.

كما أعلن التزامه بالعمل على استصدار قانون التأمين الإجتماعى للعمال وتعميمه فى أنحاء البلاد لمقاومة البطالة واستكمال للتشريعات العمالية الى تكفل المحافظة على حقوق العمال وتنظيم العلاقة بينهم وبين أصحاب الأعمال , وبالنسبة للفلاحين فرض حد أدنى لأجر العامل الزراعى وتعميم المجالس البلدية والقروية وتوسيع اختصاصها وتجديد القرية المصرية فى مدة أقصاها عشرون عاما .

كذلك أعلن الوفد التزامه بتأميم المرافق العامة بالتدريج وتعديل الضرائب تعديلا جوهريا بزيادة على الإيرادات والتركات الكبيرة مع التوسيع فى إعفاء ذوى الدخل المحدود والتخفيف عنهم , وكذا فرض ضريبة تصاعدية على المبالغ التى يصرح بتحويلها للمسافرين إلى الخارج مع حصرها فى أضيق الحدود الضرورية وزيادة الضرائب على الكماليات ووقف تيار البذخ فى مصروفات الدولة فى الخارج والداخل .

ثم قرر الوفد التزامه بإعادة تشكل المجلس الإقتصادى الأعلى وتزويده بالعناصر الفنية اللازمة والمضى فى سياسة دعم استقلال القضاء واستصدار قانون وجوب الحصول على إذن من البرلمان بكل مصروف غير وارد فى الميزانية أو زائد عن التقديرات الواردة بها وفرض عقوبة على الوزير أو الموظف الذى أمر بالصرف قبل الحصول على هذا الإذن كذلك استصدار قانون بمعاقبة كل وزير أو موظف يخالف التعليمات المالية أو يمتنع عن تقديم البيانات التى يطلبها ديوان المحاسبة .

كما أعلن الوفد موافقته على مشروع تحديد الملكية فى صراحة ودون أى غموض فقرر أن مشروع تحديد الملكية فى صراحة والإصلاح الزراعى يتفق مع ما يهدف إليه من إشاعة العدالة الإجتماعية والتقريب بين الطبقات وتشجيع رؤوس الأموال فى الصناعات والإتجاه نحوتصنيع البلاد والعمل على إيجاد الصناعات الكبرى فيها .

هذا ولقد ترك موضوع تحديد الملكية الزراعية ومناقشتها موضوعا غير مطروح للمناقشة الرسمية من قبل الوفد بل ترك للأعضاء حرية إبداء الرأى لكل منهم ويحضرنى الآن مثلين مختلفين للدليل على ذلك ففى الوقت الذى صار فيه رئيس المعارضة آنذاك " صبرى أبو علم " بمجلس الشيوخ قائلا " أذكر أنه لما تقدم الشيخ المحترم " محمد خطاب " بمشروعه المعروف لحضراتكم كنت أنا الذى اقترحت أن ننقله إلى لجنة وكان هذا النقل مفهوما بينى وبين رئيس المجلس

وقبل أن تحدد موقفنا منه جمعنا هيئتنا ولم تكن كلها مجمعة على هذا الموضوع ولا راضية عنه فى الحدود التى وضع فيها " وبهذا كان حديث السكرتير العام يوم عرضه المشروع موصيا بالعطف عليه من الوفد ولكن هو من اتفق مع رئيس المجلس الدكتور " هيكل " الذى كان مشتركا فى الوزارة والمعادى للوفد على وأد المشروع بإحالته إلى لجنة تشكيل بطريقة يستحيل بها أن تجتمع لترفض المشروع أو تجيزه .


ولقد كان هناك أيضا رأى السكرتير العام للوفد بعد ذلك والذى وضح المشروع علنا ودون ثورية منه بل أكثر من ذلك صرح بهذا من وجهة نظره لأعضاء ثورة 23 يوليو سنة 1952 فيما بعد وأعنى به " فؤاد سراج الدين " باشا وكان رفضه ليس المبدأ وإنما الوسيلة أو الطرق التى طرحت به سواء على يد " خطاب" أو على يد الثورة فيما بعد , ولقد قال بكل صراحة "

هناك خطأين شائعين الأول أنه عندما عرض الشيخ " محمد خطاب " فى البرلمان مشروعه الخاص بتحديد الملكية والذى ينسب إلى الوفد أنه حاربه وهذه فرية كبرى لأنه فى تلك الفترة التى تقدم بها لمشروع لم يكن الوفد فى الحكم وكانت حكومة ائتلافية من الأحرار والسعديين والمستقلين ولم يكن للوفد إلا حوالى عشرين شيخا من مجموع الشيوخ البالغ عددهم 148 " وبالتالى لم يكن للوفد أغلبية بالمجلس , وفيما بخص مجلس النواب نجح حوالى عشرة نواب وبالتالى لم يكن للوفد أغلبية بالمجلس يستطيع من خلالها التلويح برفض المشروع أو اتخاذ أى قرار فيه وهذه فرية كبرى "

" وفى الحقيقة أن هذا المشروع لم يعتبره الوفد مسألة أساسية وكانت المسألى مجرد آراء فردية وتنسب له زورا أنه رفض المبدأ , الوفد لم يرفض تحديد الملكية . كمبدأ .وإنما كان له بعض الملاحظات ولم يتوان عن شرحها للمسئولين "

ولقد حدث أنه فى منزل أحد الضباط الأحرار ممن تربطنى بهم صلة القراب- عيسى سراج الدين سفيرنا الآن فى الدنمارك – حدث اجتماع بينى وبين الضباط الأحرار منهم جمال عبد الناصر وصلاح سالم وكمال حسين وكان اجتماع استمر من الرابعة ظهرا وحتى الواحدة صباحا , إذ سألنى صلاح سالم عن رأيى فى مشروع تحديد الملكية ولما ضحكت وقلت له كويس.

فقال الكل بيقول هذه الكلمة عايزين رأيك فقلت لم أرى قانونا لتحديد الملكية فقال اعتبر ما نشرفى الصحف هو القانون فقلت أحب أقوال لك سواء أخذتم برأى أو ببعضه أو بكله فلن يكون ذلك موضع خلاف بيننا لأن المرحلة التى تمر بها البلاد أهم من أن يكون ذلك موضع خلاف مهما كانت هناك بالمشروع نواحى نقص وأذكرأن أحد الضباط كان بيكتب كل كلمة قلتها , وقلت لهم كمبدأ لا أعارض فى تحديد الملكية ولكن بهذا الشكل فهذا خطير جدا

وكان المشروع الذى عرض بالمصرى يحدد الملكية بخمسمائة فدان ( 50.) وقلت ليس عندى مانع على أن لا يسرى ذلك باثر رجعى أى أن الذى عنده أكثر فلدينا سبيلان , نظام الإرث الإسلامى كفيل بتفتيت الملكية الزراعية طبيعيا , وضربت لهم بذلك بداراوى باشا عاشور لكل منهم ألف فدان وكسور , مات منهم فردان وكان لدى كل منهم خمسة أو ستة أطفال وأصبح لكل واحد مئتان وخمسون فدانا أى أصغر من النسبة التى وضعوها .

" والسبيل الثانى والذى تمسكوا به وقالوا إن فؤاد باشا يريد ضرائب تصاعدية ووجهة نظرى أننى لا أنتظر موت فلا أى علان , على ان أضع ضرائب تصل فى شرائحها الكبرى إلى 9 % والباقى للمالك 1.% بالطبع ستدفع تلك الطريقة الملك إلى البيع .لأنه من غير المعقول أن يتعب فى أرض ويصل فى النهاية إلى 1.% إذن ستؤدى بتلك الطريقة إلى البيع .

وإذا كنت كويل البال فأستطيع القول أنه فى خلال الزائدة عن ال خمس سنوات إذا لم يبع الفرد فستضطر الدولة إلى الإستيلاء على تلك الأراضى الباقية الزائدة عن ال 50. فدان .أما لماذا ترك الخمس سنوات فلكى يتصرف كل فرد بهواء دون تسرع .ولا تقع عليه خسائر كثيرة نتيجة للبيع الإضطرارى وحتى لا أعمل اضطرابا اقتصاديا .وحتى أقضى على أداة الإئتمان الأولى فى مصر وحتى لا أقضى على الثورة الزراعية كما حدث الآن .

لأن الفلاح الذى لديه أفدنة قليلة لا يستطيع تربية كمية من الحيوانات , لأن كل مالك كبير يربى آلافا من الرؤوس والشركات أيضا تربى آلافا أخرى وتعرض فى السوق ز والحمد لله أننى عشت وسمعت من وزير التموين " رمزى استنو " عندما كان وزيرا أنه قال للمذيعة الصحفية التى أخذت منه الحديث لابد أن أكون صريحا معاك أن أزمة اللحوم لن تحل فالنقص الآن 5.% نتيجة للإصلاح الزراعى . "

" كذلك سنخسر ميزة رتب القطن العالية .ميزة نظافة القطن المصرى وذلك لأننى كمالك كبير أستطيع أن أجمع القطن عدة مرات وأحافظ على رواتبه أما الفلاح الذى عنده فدلدين قليلة فيسضطر لأن يجمعه كله دفعة واحدة وبمحتوياته وظللت أشرح بكل تفصيل المميزات والعيوب وفى نهاية الحديث قلت باسمى وباشم عائلتى وأهلى والوفد أقول أننى موافق على مبدأ تحديد الملكية وأود أن ترسلوا مستشاركم الإقتصادى فيناقشنى ويقنعنى أو أقنعه ولدى الشجاعة الأدبية إذا اقتنعت سأبلغكم ذلك وفى الأسكندرية وبعد اجتماع مع زعيم الوفد أعلنت على الصحفيين ان الوفد يوافق على مشروع تحديد الملكية ولكن له بعض الملاحظات على بعض التفصيلات ولقد أبلغها للمسئولين . إذن من الظلم أن يقال أن الوفد رفض تحديد الملكية لأننا لم نرفضه إنما كان لنا كما شرحت بعض الملاحظات والتى كانت ستوصلنا فى الآخر إلى ما نريده " .

ولقد كان أيضا للإخوان رأى فى تحديد الملكية الزراعية نابعة من روح الإسلام حيث قال " البنا " توجب علينا روح الإسلام الحنيف وقواعده الأساسية فى الإقتصاد القومى أن تعيد النظر فى نظام الملكيات فى مصر و فتحتكر الملكيات الكبيرة , وتعوض أصحابها عن حقهم بما هو أجدى عليهم وعلى المجتمع , وتشجيع الملكيات الصغيرة.

حتى يشعر الفقراء المعدمون بأن قد اصبح لهم فى هذا الوطن ما يعنيهم أمره , ويهمهم شأنه وأن توزع أملاك الحكومة حالا على هؤلاء السغار كذلك حتى يكبروا , توجب علينا روح الإسلام فى تشريعه الإقتصادى , أن ننادى بنظام الضرائب الغجتماعية وأمر لها ضريبة الزكاة " وليس فى الدنيا تشريع فرض الضريبة على رأس المال لا على الربح وحده كالإسلام وذلك بحكمة جليلة , منها محاربة الكنز , وحبس الأموال عن التداول , وما جعلت الأموال إلا وسيلة لهذا التداول ,فلابد من العناية بفرض ضرائب اجتماعية على النظام التصاعدى ويعفى منها الفقراء طبعا , وتجبى من الأغنياء الموسرين , وتتفق فى رفع مستوى المعيشة بكل الوسائل المستطاعة " .

أما برنامج الإخوان المسلمين فقد عبر بدوره عن فكر تقدمى يستحق التنويه فقد طالب بتحديد الملكية الزراعية فى عبارات قوية لا تكاد تقترن فى لغتها كثيرا عن لغة البرامج الماركسية فقد ذكر أن الملكيات الكبيرة قد أضرت أبلغ الضرر بالفلاحين والعمال وسدت فى وجوههم فرص تملك وصيرتهم إلى حال أشبه بحال الأرقاء فلا سبيل إلى إصلاح جدى فى هذا الميدان إلا بتقرير حد أعلى للملكية وبيع الزائد عنه إلى المصريين , وصغار الملاك بأسعار معقولة تؤدى على آجال طويلة , كما يتعين توزيع جميع الأطيان الأميرية المتصلة والتى تستصلح على صغار الملاك والمعدمين خاصة , كما طالب البرنامج باستكمال التشريعات العالمية الفاتحة لتشمل جميع فئات العمال ..

بما فيهم العمال الزراعيين , وجعل الإنتساب إلى النقابات إجباريا وإباحة تكوين الإتحادات النقابية ,كذلك طالب برنامج " الإخوان المسلمون " بتمصير البنك الأهلى وإلغاء بورصة العقود التى أد ت المضاربات فيها إلى زعزعة الإقتصاد القومى وتصنيع البلاد مع العناية بالصناعات المعتمدة على المواد الأولية المحلية والصناعات الحربية وقد عبر البرنامج عن فكر تقدمى حيث تناول مسالة التكافل الإجتماعى فقد قدر أنه لم تكف الزكاة لتوفير الحاجات الضروية للغذاء وجب على من عنده فضل مال أن يرد على الفقراء حتى يستوفوا حاجتهم فإن لم يفعلوا أجبرتهم الحكومة على ذلك واتخذت من التشريعات ما يكفل إصلاح حال المجتمع بقدر ظهور الحاجات وبروز الضرورات .

وقد تناول البرنامج الفساد الذى كان قائما فى البلاد قبل الثورة ورسم الطريق إلى القضاء عليه بالمطلبة بأن تمتد يد التطهير إلى الحكام فلنبادر إلى تنحيهم عن الحياة العامة وحرمانهم من مزاولة النشاط السياسى وأن تمتد يد التطهير حتى تشمل مؤاخذة كل عبث بمصلحة الدولة او إجرام فى حق البلاد فى عهود الحكومات المختلفة وضرورة تنفيذ قانون الكسب الحرام دون هوادة ولا محاباه وتقديم كل فرد أساء استخدام السلطة بمصادرة الحريات وتهديد الآمنين وتعذيب أبناء الأمة الأحرار بمحاكمتهم.

وضرورة إلغاء الأحكام العرفية وسائر القوانين الرجعية المنافية اللحريات ولم ينس برنامج الإخوان أن يندد بالتفاوت الإجتماعى الخطير الذى كان سائدا فى البلاد فقال " إن الأمة تعانى تفاوتا اجتماعيا خطيرا و فهى بين قلة أطغاها الغنى وكثرة أتلفها الفقر , وهذه حال لا يرضى عنها الإسلام فالإسلام يكره أن يكون المال دولة بين الأغنياء وحدهم "

أما عن " مصر الفتاة " فلقد أوضحت " أنه لعلاج المالية فى مصر عن طريق قانونى ودستورى وعلى سبيل التدرج تبتاع الدولة أطيان جميع الملاك الذين تزيد ملكيته عن خمسين فدانا أو الذين تزيد ملكيتهم عن هذا القدر ولا يعملون فيها وذلك فى مقابل سندات على الخزينة المصرية تستهلك فى 25 سنة وتخول حاملها ربحا سنويا وقابلة للتداول للتمكين من بيعها واستغلال أموالها فى نواح أخرى وتوزع الدولة الأرض المشتراه على الذين يرغبون من شرائها من صغار الملاك الذين يملكون أقل من خمسين فدان أو الزراعيين الذين اعتادوا العمل فيها أو استئجارها وذلك فى مقابل أقساط صغيرة وطويلة تدفع من محاصيل الأرض نفسها أو بالنقد على حسب اختيار المشترى على أن لا يزيد ما يمتلك بهذا الأسلوب على خمسة أفدنة

وعلى أن يتم الإنتاج الزراعى فى سائر أنحاء البلاد بصورة جماعية فيؤلف ملاك ومزارعوا كل بلد أو قرية يزيد زمامها عن الف فدان جمعية تعاونية للإنتاج على صورة اتحاد زراعى ليتسنى للدولة التعامل معهم وإحاطتهم بخططها فى الإنتاج ولتمدهم من ناحية أخرى بالآللات والأموال والفنيين اللازمين لجعل الإنتاج الزراعى على أساس علمى حديث والإنتفاع بثمرة الإنتاج الكبير ثمرة الخطط الموضوعية وتتولى اتحادات الملاك والزراع بمعاونة الدولة إعادة اخطيط وبناء القرية المصرية على صورة إنسانية كريمة على أن يوضع لذلك برنامج شامل يتم فى خمس سنوات تؤول الضرائب التصاعدية وضرائب التركات والضرائب على الكماليات وإعادة توزيع الثروة فى مصر توزيعا عادلا فلا يسمح بزيادة دخل الشخص على حد معين يكفل حياة طيبة فى غير بطءولا تأخير "

وتمسك الحزب " الإشتراكى " برأيه هذا فى قرارات الجمعية العامة للحزب الإشتراكى وطالب " بأن الحكومة يجب أن تنفذ مشروع الإصلاح الزراعى الذى تقدم به إلى البرلمان النائب الإشتراكى " إبراهيم شكرى " والذى يقضى بجعل الحد الأعلى للملكية الزراعية خمسين فدانا هلى أن تنتقل للدولة ملكية ما زاد عن خمسين فدانا من الأرض التى يملكها الأشخاص الطبيعيون أو المعنويون فى سائر أنحاء المملكة المصرية من تاريخ العمل بهذا القانون مقابل الحصول على سندات الخزينة العامة بقيمة هذه الأطيان وفقا لأحكام هذا القانون "

" نحن نريد أن توزع الأراضى على الفلاحين العاملين ثم عليهم أن يوزعوها متعاونين فى مساحات كبيرة مستخدمين أحدث الآلات التى تقدمها لهم الدولة , والفرق بيننا وبين الشيوعيين أن الآخرين يريدون مصادرة أراضى الأغنياء بدون تعويض , أما نحن فلكى يكون أجرائنا عدلا كله لا تشوبه شائبة من ظلم أو استبداد فنحن نعطى أصحاب الأراضى ثمنا لأراضيهم مقسطا على عشرين عاما .

" اما اليساريون" فلقد قابلوا مشروع " مريت غالى " باستعراض ناقد فقالوا " الضرورة للإصلاح الزراعى أو حتى نشر الملكية الصغيرة والمحافظ عليها وتقييد الملكية وإصلاح الإيجار والعمل وعنده أن نشر الملكية الصغيرة يجب أن يأتى فى المقام الأول بتوزيع الأراضى وتمنع استغلالها ثم بإلغاء الوقف الأهلى وهذا كله يمكن الحكومة من توزيع ما يزيد عن مليون فدان على ثلاثين ألف أسرة فلاحية صغيرة لتكون طبقة ثابتة من صغار الملاك فى بحر خمسة ةوعشرين سنة وتكون نتيجة اقتراح " مريت غالى " أن نسبة صغيرة من الفلاحين الفقراء ستحصل على 3 فدان بعد خمسة وعشرون سنة وواضح أن هذا لا يمكن أن يحل المشكلة حلا مرضيا ولا سيما أن عدد الفلاحين سيزداد فى خمسة وعشرون سنة وتصل أزمة الأرض الحاضرة إلى قيمة أعلى .

ونحن نرى أن العيب الأساسى للبحث أنه فى خوضه لأمور سياية فاشلة وفى امتناعه عن الوقوف موقف واضحا من تطورنا الإجتماعى قد صرف نظره عن عناصر فى غاية الأهمية تلعب فى المشكلة الفلاحية دورا جوهريا فقد نظر إلى الحالة الحاضرة لتوزيع الأرض على أنها توزيع للملكية وليس احتكار لوسيلة من وسائل الإنتاج فكانت النتيجة أنه أراد تحسين التوزيع بالتصديق على الفلاحين الفقراء ببعض القتات بدلا من أن يتبين دور هذا الإحتكار فى منح كبار الملاك نفوذا اجتماعيا وسياسيا يلعب الدول الأول فى إبقاء الطبقة الفلاحية فى مستواها المنحط وقد تعرض المؤلف لتحديد الملكية الكبرى عن طريق نزع الزيادة عن حد معين فاستبعد المبدأ ببعض الجمل لا تخلو من الغموض "

لقد تقدم " محمد خطاب بك ط أحد الشيوخ السابقين فى فبراير سنة 1944 بمشروع إلى مجلس الشيوخ لوضع حد لزيادة الملكيات الكبيرة فقضى المشروع بأن كل شخص يملك أكثر من خمسين فدانا لا يجوز له ان يضم ملكية أطيانا جديدة وقد تكونت لجنة خاصة بمجلس الشيوخ سموها لجنة دراسة الملكيات الصغيرة " وبعد أن بقى المشروع لديها أكثر من سنتين أصدرت قرارها بإجماع الآراء فى 24 مارس سنة 1947 بأن رأت اللجنة رفض المشروع لأن فيه ظلما لكبار الملاك أى والله لقد ورد اللجنة ما نصه هذا بالحرف الواحد " .

" إن وضع حد أعلى للملكية الزراعية فيه اجحاف ظاهر لكبار الملاك ولا يتفق مع مبادىء المساواة والحرية الفردية " .فإذا لاحظنا أن المشروع لا يتعرض للملكيات الكبيرة القائمة فعلا ولا يحددها تبين لنا ما فى قرار اللجنة من مغالطة , ولقد سارع مجلس الشيوخ بتأييد قراراللجنة برفض المشروع وذلك بجلسة 16-6-1947 ولا عجب فى ذلك .

إن مشروع ال 5.فدان لا يضع حلا لمشكلة فقر الفلاحين وهؤلاء يعرض للملكيات الكبيرة القائمة فعلا ولم يحاول تحديدها كما أنه يضع قيد على الملكيات الكبيرة التى تنتقل بطريقة الإرث ولا يهم الفلاح ولا يعالج مشكلته فى شىء أن يحرم القانون على شخص واحد أن يشترى أكثر من خمسين فدانا , أن رفع مستوى معيشة الفلاح لا يمكن أن يتم إلا بالحد من الملكيات القائمة وبتوزيع الأراضى الزراعية توزيعا عادلا وهو من الأراضى المستصلحة على صغار الفلاحين وليست هذه بدعة فقد قامت الحكومات الشعبية فى الدول الديمقراطية بالحد من الملكيات وبتوزيع الأراضى على المعدمين وصغار الفلاحين وأن إبقاء الأوضاع فى مصر كما هى عليه معناه أن يبقى افراد قلائل يرتعون على حساب الشعب وأرزاق الشعب فى الوقت الذى يتشدق فيه ههذ القلة بالعدالة الإجتماعية "


وبالنسبة لبرنامج " الحركة الديمقراطية للتحرر الوطنى " فتلاحظ أنه يقضى على ضرورة طرد القوات الإمبريالية جميعها من مصر , وتأميم كافة الإحتكارات وحماية الرأسمالية الوطنية المتوسطة والصغيرة لكسب مؤازرتها للنضال الشعبى ضد الإمبريالية مع وضعها تحت الرقابة الشعبية لمنح العمال الضمانات الأساسية بخصوص الأجور المناسبة ولضمان تحقيق أرباح معقولة من المشروعات المتوسطة والصغيرة كذلك يعنى البرنامج بالمطالبة بضرورة مصادرة الملكيات الزراعية الكبيرة وإلغاء الإمتيازات الإقطاعية ولكنه نص فى الوقت نفسه على حماية الملكيات المتوسطة والصغيرة للفلاحي , كذلك نص البرنامج على مجانية التعليم والعلاج الطبى والأخذ بنظام التأمين الإجتماعى الخ ..

وقرر ضرورة تكوين جبهة شعبية وإقامة تحالف بين جماهير العمال والفلاحين وبين الطبقة المتوسطة والصغيرة والمثقفين تحت قيادة الطبقة العاملة وتكون هذه هى دكتاتورية الشعب ضد الإمبريالية وحلفائها وأتباعها وتعطى هذه الحكومة الشعب حرياته الديمقراطية كاملة .

وأهم ما نلاحظه فى هذا البرنامج الأكبرتنظيم " حديتو " فى ذلك الحين هو مطالبته بحماية الرأسمالية الوطنية المتوسطة والصغيرة الأمر الذى يهدم أوهام البعض فى هذه الأيام الذى يعتقد أن " الماركسيين المصريين" يريدون القضاء على الرأسمالية الوطنية غير المستقلة , ولكننا نلاحظ فى الوقت نفسه أن البرنامج يدعو إلى حماية الطبقة العاملة من الطبقة الرأسمالية لتوفير الضمانات الأساسية لها وخاصة الأجور ولضمان تحقيق أرباح معقولة من المشروعات المتوسطة والصغيرة كذلك نلاحظ أن البرنامج يطرح فكرة التحالف بين جماهير العمال والفلاحين والمثقفين والرأسمالية الوطنية وهى الفكرة التى أخذت بها ثورة 23 يوليو ولكن على أساس وجود أحزاب وضمان الحريات .

وبعد هذا الإستعراض التفصيلى للمشكلة الإجتماعية عامة والملكية الزراعية خاصة يجدر بنا توضيح مفهوم " محمد خطاب " لمشروعه الذى تقدم به إلى مجلس الشيوخ فى أكتوبر من عام 1944 وهو من " السعديين " وقد ذكر فى سرده لدواعى إعداد هذا المشروع " أن روح الإستقلال الإجتماعى والإقتصادى التى تتحقق بها كرامة الأفراد والتى تتألف من مجموعها كرامة الوطن ويقاس مبلغ الكرامة فى الدولة الحية الآن بأكبر عدد من سكان الدولة الذين يحيون فيها حياة كريمة خالية من التعطيل مزداته بالعمل الشريف المثمر الذى يستند بالعلم والصحة ويتوجه الآمال من الفاقة لأنه كلما ارتفع مستوى المعيشة للأفراد زادت تبعا لذلك قوة الأمة وحيويتها.

ثم استطرد قائلا أن الحكومات المتعاقبة لم تفكر فى العمل على جعل توزيع الأراضى أكثر عدالة ولهذا ناديت وقدمت مشروعا للبرلمان بتحديد الملكية الزراعية فى مصر لكى أتفادى ما تنبأ به سعادة " الشمس باشا " من أنه ستلجأ الحكومة يوما الى نزع الملكية الزراعية لتقسيمها بين صغار الملاك وما سيصاحب هذا الوضع عند حدوثه من ضجة وعنت " .

ولقد انهى قوله " أننى أقصد من مشروع الحد من الملكية أن لا تزيد الأفدنة التى يمتلكها الإنسان على خمسين فدانا بدون أنيكون لها أثر رجعى وأننى لم أحدد العدد إلا بعد دراستى للإحصاءات عن الملاك الزراعيين وماتمتلكه كل طائفة منهم ولقد اعتقد الناس خطأ أن هذا القانون لا ينتزع ملكية ما ولا يحرم إرثا مما يؤول إليه الميراث ولكن له فوائد كثيرة لها اتصال وثيق بالإصلاح الإجتماعى والإقتصادى أهمها :

أولا : أن الحروب الكبيرة يتبعها دائما نشاط كبير فى السعى إلى أعادة توزيع الثروات على أساس أكثر عدالة وأدعى إلى إلغاء الفوارق بين الطبقات والأفراد ومن الواجب أن نسعى بكل ما فى طاقتنا للوصول إلى هذه العدالة فى أمن وسلامة.

ثانيا : أصبح العمل على تحقيق الإصلاح الإجتماعى أمر لا مندوحة عنه إذا أردنا أن نعيش فى العالم عيشة حرة وهذا العمل يقتضى مالا لإنشاء الصناعات الكبيرة التى لا تتحقق إلا عن طريقين :

إما استخدام رأس مال أجنبى ولقد أجمع كل الأحرار الإقتصاديين السياسيين فى بحوثهم ومؤلفاتهم على أن هذا النوع من المال إذا دخل بلد أفسدها وصار وسيلة قوية لضياع استقلالها وجميع المؤلفات تضرب بمصر على ذلك .

وأما باستخدام رأس مال وطنى وهذا لا يتحقق إلا عن طريقين أولهما زيادة الضرائب وجعلها تصاعدية وهذه الضرائب قد تصل على 9.% من الإيراد كما هو الحال فى أمريكا وانجلترا غيرأن هذا الوضع لا يألفه المصريون من ناحية ولا سيما وأن المال المتجمد منها لا يصرف فى إنشاء الصناعات الكبيرة بدليل زيادة الميزاينة المصرية من مليون إلى 86 مليون جنيه فى أقل من ثلاثين سنة وعدم القيام بالإصلاح الواجب , وثانيا عن طريق تحديد الملكية الزراعية فستتجمد المبالغ التى يحصل عليها كبا الزراع من بيع محصولاتهم فى كل عام والتى كانوا يخصوصونها للإستزادة من شراء الأراضى فيزيدون

غنى ويزداد جبرانهم فقرا فلا يكون لاصاحبها من سبيل لاستثمارها إلا بشراء السندات التى تصدرها الحكومة للقيام بالمشروعات الضخمة .

ثالثا : إن تحديد الملكية الزراعية سيمنح بتحديد مشكلة التسويات العقارية التى تنشأ من التوسع فى الملكيات الكبيرة.

رابعا : إن هذا المشروع هو السبيل الوحيد لانتشار التعاون الزراعى لأن هذا التعاون لا يثمر إلا فى بلاد مكونة من ملكيات صغيرة وهذه هى الدانمرك وسكانها لا يبلغون ربع سكان مصر يتعاون أهلها على تصدير ثلاثة أرباع الزبد التى تنقلها البواخر فى العالم .

لم يكن مشروع " خطاب " هو الوحيد بل أن" مريت غالى " قد أصدر فى سنة 1945 باسم " جماعة النهضة القومية " التى تتألف منه ومن " محمد زكى عبد القادر والدكتور إبراهيم مدكور كتابا معروفا عن الإصلاح الزراعى وقد طالب فيه بوضع حد أعلى للملكية لا يزيد عن مائة فدان .

وفى نفس العام أيضا القى الدكتور " أحمد حسين " الذى تولى وزارة الشئون الإجتماعية فى وزارة الوفد سنة 195.وألف جمعية الفلاح بحثا طالب فيه بفرض الضرائب التصاعدية على الملكيات الكبيرة على نحو يجعل من شراء ما يزيد على مائة فدان مثلا عملا غير مثمر وكان من أنصار هذا الرأى أيضا " مصطفى نصرت " الوزير الوفدى المعروف .

وفى عام 1946 أثيرت مشكلة الملكيات الزراعية الكبيرة فى مؤتمر اقتصادى عقدته البرجوازية المصرية بعد الحرب وقد قرر هذا المؤتمر القيام بدراسات لتحديد الوحدة الزراعية المصرية الإنتاجية بحيث لا تكون هناك ملكية زراعية ممعنة فى السعة ولا ممعنة فى الضيق .

وفى سنة 1948 قدمت وزارة الشئون الإجتماعية عندما كان يتولى وكالتها الدكتور " أحمد حسين " اقتراحا للمجلس الأعلى لشئون العمال والفلاحين يقضى بفرض ضريبة تصاعدية على الأطيان توزاى بعد حد معين كل دخل الأرض وذلك حتى يتجه كبار الملاك بجزء من أموالهم على تدعيم الصناعة والتجارة وتمصيرها .

فى سنة 1949 فى خلال المعركة الإنتخابية أعلن 72 مرشحا مستقلا تأييدهم لأفكار اتحاد الصناعات المصرى مطالبين فى برنامج موحد بتحديد الملكية الزراعية وزيادة الضرائب على الأملاك الكبيرة تحمل كبار الملاك العقاريين على توظيف رؤوس اموالهم فى الصناعة .

من ذلك نستخلص أن الإتفاق كان تاما بين البرجوازيين والصناعيين بعد الحرب العالمية الثانية على ضرورة تحديد الملكية الزراعية على أن الخلاف كان يدور حول نقاط ثلاث :

أولا : درجة تقييد الملكية فبينما كان " محمد خطاب " يتفق على أن يكون النصاب خمسين فدانا رأى " مريت غالى " ضرورة رفعه إلى 10.فدان على اعتبار أنه لا يترك مجالا كافيا لنشاط الطبقة المتوسطة من أعيان الريف التى تعتقد أن أمامها دورا هاما فى انعاش وإعادة الحياة والحركة إليه, وكان يتفق معه فى هذا النصاب الدكتور " أحمد حسين" ولجنتى " الشئون الإجتماعية" بمجلس الشيوخ التى قامت بدراسة مشروع " خطاب "

ثانيا : وسيلة تقييد الملكية : فقد كان الخلاف يدور حول ثلاثة اتجاهات , الإتجاه الأول ويرى أن يكون التغيير بواسطة فرض ضرائب تصاعدية والثانى يرى وضع حدا أعلى للملكية والثالث يرى الجمع بين الوسيلتين , بينما كان " مريت غالى " من أنصار الاتجاه الثالث كان" محمد خطاب " يعارض فرض الضرائب التصاعدية معارضة تامة على اعتبار أن هذا المبدأ ليس من السهل أن يلقى ترحيبا من دافعى الضرائب إلا إذا مارسته الحكومة بطريقة متدرجة تكاد تكون غير ملموسة ,وفى هذا الحال لا يمكن الحصول على رأس المال المطلوب للصناعة بالسرعة المرغوبة ,على أن الجناح الإصلاحى فى الوفد ويمثله بصفة خاصة الدكتور " أحمد حسين " , " مصطفى نصرت " كان يحبذ مبدأ الرائب التصاعدية .

ثالثا : تدور حول معاملة الملكيات الزائدة على النصاب : فالإصلاحيون يرون ضرورة تعويض المستولى على أراضيهم مقابل سندات تستهلك على عدد من السنين وبفائدة سنوية , بينما كان مشروع " خطاب ومريت غالى " يتصور أن المشروع خاص بالمستقبل ولا يمس الملكيات القائمة بالفعل .

على أن البرجوازية المصرية الحاكمة أعلنت رفضها التام لأى تقييد للملكية كوسيلة من وسائل الإصلاح الزراعى ويتضح موقفها حين عرض " خطاب " مشروعه فى البرلمان , فقد ووجه بمعارضة شديدة فى مجلس الشيوخ ومن الحكومة ومن الأحزاب ومن مفتى الديار المصرية وانتهى مجلس الشيوخ بعد مناقشة عاصفة علت فيها الأصوات وانقلبت إلى هدير والهدير إلى زئير إلى إحالة المشروع إلى لجنة الوأدة .

وقد قامت اللجنة بوأده فعلا حين قدمت تقريرها فى 24 مارس سنة 1947 برفض المشروع.

الفصل السادس

مقدمات الثورة

مساوىء الجيش

لم يولد تنظيم الضباط الأحرار من سراب .

ولم يوجد فجأة بل كانت هناك عوامل كثيرة دفعت هذه المجموعة من الشباب إلى تكوين تنظيم عرف باسمهم مطالبين فيه بإصلاح الأوضاع السياسية والإجتماعية الموجودة , ولكونهم ضباطا فأول ما اثر فيهم كان ناجما عن المساوىء الكثيرة التى كان يعيش فيها الجيش .

والتى بدأت منذ بداية الإهتمام بتكوين جيش مصرى لمواجهة الإحتلال بناء على مطالب المصريين فى اتفاقية سنة 1936 التى عقدت مع الدولة المحتلة .

وكان أيضا من المساوىء , الحدث الجلل الذى أثر فى الضباط وأعنى به حادث 4 فبراير سنة 1942 , وكيف هز كيان الملك , كأعلى سلطة فى الدولة , وأظهر القوات المسلحة بعجزها عن الدفاع عن رأس الدولة وحمايته .

وفى الحقيقة وللإنصاف فإن الأحزاب المصرية عامة قد اعتنت بالدعوة إلى زيادة عدد القوات المسلحة , وإمدادها بالسلاح والعتاد اللازمين لها , بل إن حزب " كمصر الفتاة : ظل يتابع أحداث الجيش ويحض دائما على ضرورة التخلص من المساوىء التى تردى فيها الجيش بتحسين أوضاع العاملين وإقالة الشخصيات الغير صالحة فيه و " الفجر الجديد " أيضا طالبت بنفس الأهداف فى المدة الوجيزة التى صدرت فيها ..

ففى أوائل عام 1946 نادت الجريدة بأنه على الحكومة أن تتمسك بمبادىء أساسية كخطوة فى سبيل العناية بأحوال الجيش وتقويته منها على سبيل المثال لا الحصر " جعل الخدمة العسكرية إجبارية وإلغاء البداية وشروط الإعفاء مع ضرورة تخفيض مدة الخدمة العسكرية , والدعوة لرفع مستوى معيشة الجنود وضباط الصف وتسهيل الترقية من الجندية إلى رتب الضباط , ثم ضرورة إلغاء البعثة العسكرية البريطانية , كذا تطهير هيئة أركان الحرب وكبار الضباط من العناصر الفاشية "

" ولا ريب أن إصلاح الجيش بهذا الشكل سيحولنا من أمة ضعيفة مغلوبة على أمرها إلى أمة قوية تستطيع أن تنهض وتطرد الغزاة المستعمرين , إصلاح الجيش إصلاحا وطنيا ديمقراطيا يقتضى أن يرتبط بإصلاح حياته القومية بأكملها إصلاحا وطنيا ديمقراطيا أيضا " .

ومما يؤكد الروح التى كانت سارية فى الوطن من إحساس بجسامة المفاسد والعيوب التى بالجيش ما كتبته جريدة " الايكونومست " من أن التعيين فى الجيش المصرى يتم بعوامل شخصية وأن المفروض أن تكون قوة الجيش المصرى يحسب لها ألف حساب وأن يعتبر معقلا من أهم معاقل الدفاع فى الشرق الأوسط , ولكن القوة العملية لهذا الجيش يضيعها إلى حد كبير تسلط العوامل الشخصية فى أموره.

وأن تعيين الضباط يتم على أساس اللون الحزبى " بدأت حملة " مصر الفتاة " على الجيش المصرى بدعوتها إلى تطهيره من الشخصيات الكبيرة والغير موغوب فيها بالجيش , وكان أولها وزير الحربية نفسه " حيدر باشا " ففى مقال تحت عنوان " منشور فى الجيش " كتب " أحمد حسين " مشيرا إلى الحركة الوطنية بالجيش والتى أصدرت منشورات تنم عن أهدافها ومراميها قائلا " إن هناك منشورات قد انتشرت باسم الضباط لدرجة أن عدد من الجرائد والمجلات أصدرت نصوصا كاملة من تلك المنشورات التى تبرز عيوب القادة ومفاسد الجيش وهى إن دلت على شىء فإنما تدل على الدعوة إلى الإصلاح التى انبثقت من

هؤلاء الضباط بالجيش ومشيرة أيضا إلى قوة ودور تنظيم الضباط الأحرار " ولق أشار الجريدة إلى أحد المنشورات قائلة "وقع فى يدينا منشور على صورة رسالة موجهة على جلالة الملك فإذا بالروح التى تسيطر على عبارات المنشور روح جريئة وثابتة وطنية مخلصة وليس ينافع أن يقال إن كتاب هذا المنشور حفنة يعدون على الأصابع أو أنهم اثنان أو ثلاثة من صغار الضباط , ليس ينافع هذا القول فى التقليل من قيمة هذه النشرة , ودلائلها فنحن نعلم وحيدر يعلم أن نشرة كهذه صدرت من قبل وطلبت تنحية "إبراهيم عطا الله " الذى أفسد سمعة الجيش والذى حول نادى الضباط إلى ماخورة فساد .

قاوم الضباط هذا الفساد فلم يلبث " إبراهيم عطا الله " أن اقتلع وراح كما يروح كل إنسان يتصور أنه قادر على استدامة المناصب الكبرى .بالتماس الحظوة والرياء والنفاق, لا بالكفاءة والعمل الصالح من أجل الوطن والشعب ولا شىء غيرهما "

ثم أشار أن الجريدة منوهة إلى أنه وراء تلك المنشورات لابد من وجود تنظيم يجب ألا يستهان به , فعندما يصدر الضباط هذه النشرة مرة أخرى وينجحون فى توزيعها إلى هذا الحد الذى جعل إدارات الصحف تعمد إلى نشره فى كل الأوساط فهذه هى الحركة , فالجيش اليوم كسائر أفراد الشعب يئن من الفساد الذى أصبح يسود الحياة المصرية ومن ورائه باقى الشعب والذى يتلخص فى الدرجة الأولى فى ضرورة تنحية هذا النفر الذين تصورا بجلالهم أن هذا الشعب وهذه الأمة هى عزبة والدهم المرحوم وأنهم يستطيعون أن يفعلوا ما يشاءون دون أن يجدوا معقبا على ما يفعلون "

وتيقظت الجريدة إلى خطورة الحال بل أنها اشارت فى موضع آخر مباشر بأنها وراء ذلك ثورة إن لم يتم تغير الأوضاع إلى الأفضل " , لقد كتبنا فى العدد الماضى نحذر الحكام والأغنياء والوزراء من اندلاع نيران الثورة إذا لم يبادروا إلى إصلاح الموقف " بل إن الجريدة ذهبت إلى أبعد من ذلك مهددة بأن الجيش نفسه حينما يطلب العون منه لن تجده القيادة إذا استمرت الأحوال على ما هى عليه من فساد " قلنا فى تحذيرنا أن هؤلاء الذين يظنون أنهم قادرون على إطفاء الثورة بالجيش قد يبحثون عن الجيش فى الوقت المناسب فلا يجدونه فى صفوفهم , بل فى الصف الآخر وها هو هذا المنشور الذى وزع بين صفوف الجيش هو تأييد لإنذارنا وتحذرنا ببذور الثورة الكامنة فى الجيش كما هو فى أى طبقة أخرى من طبقات الأمة "

وفى ختام المقال المحلل لوضع الجيش من الأوضاع السياسية عامة وداخل الجيش خاصة حددت الخطوات التى لابد من عملها كمحاولة لتهدئة الوضع أن " حيدر " يجب أن يستقيل فهو المسئول عن هذا الذى وصلت إليه إدارة الجيش فى عهده .

ولابد من تكوين لجنة برلمانية قومية تضم ممثلين لمختلف الأحزاب ويشترك فيها بعض القضاء وممثلون لمختلف وحدات الجيش وتتولى هذه اللجنة مهمة انشائية بعد ذلك وهى وضع دستور الجيش وتحديد رسالته التى تتلخص فى شىء واحد وهى الإخلاص للوطن والشعب والحدود التى رسمها وبينها الدستور .

وعليها فوق ذلك أن تضع البرنامج الإنشائى الذى من شأنه أن يهىء لهذا الجيش السلاح الكافى غيرلا معتمد على الإنجليز والأمريكان بأى حال من الأحوال " .

كانت أوضاع الجيش الداخلية من جهة وأحداث فبراير من جهة أخرى دخول حرب فلسطين وما منيت به القوات المسلحة من هزيمة رغم أن الجنود المصريين كانوا على مشارف تل أبيب , أقول الهزيمة فى حد ذاتها لم تكن ناجمة عن قصور الجنود المصريين بقدر ما كانت الأسلحة الفاسدة والقيادة المتعفنة هى السبب المباشر.

وبين أيدينا رسالة هامة أرسلها أحد ضباط الجيش إلى وزير الحربية ونشرتها جريدة " الإشتراكية " قال فيه "إن الفريق محمد حيدر باشا تولى أكبر المناصب العسكرية فى مصر عقب المحاولة التى قام بها ضباط الجيش سنة 1947 لإخراج الفريق " عطا الله " باشا رئيس أركان حرب الجيش السابق وبطانته الموجودة الآن فى سجن الأجانب لاتهامهم بالسرقة وبالخيانة العظمى موضوعا.

ولم يكن عرض ضباط الجيش الذين اتهموا فى هذه المحاولة الذى ذهب المغرضون بعيدا فى تفسير أغراضها هى إخراج " عطا الله " فقط بل ومعاونيه ومستشاريه الذين تسلموا أمور الجيش بعد معاهدة 1936 وبمعنى أوضح الرجال الذين عهد إليهم الإنجليز بالإشراف على الجيش وإفساده والحيلولة دون تقدمه , ثم تولى " حيدر باشا " منصب وزير الحربية ولكنه لم يغير مستشارى "عطا الله " بل تركهم جميعا فى مراكزهم والأدهى من ذلك أنه ركن إليهم وحكم فى رقاب الجيش أولا ثم مصير حرب فلسطين بعد ذلك , وبالرغم من معرفة معالى " حيدر باشا " بنفوس هؤلاء الرجال وإلمامه إلماما تاما بأخلاقهم فقد وسع اختصاصاتهم وركز على السلطات فى أيديهم

وقد يتعذر معاليه بأنهم خانوا الأمانة وانتهزوا فرصة ثقته بهم للتلاعب بأرواح أبناء مصر ولكن أقول لمعاليه أنه صدر منشور بإمضاء ضباط الجيش قبل الحرب الفلسطينية مباشرة جاء فيه ذكر كل هؤلاء المقبوض عليهم الآن , ومعلومات واضحة حقيقية عن سلوكهم وقد وجد معى يوم القبض على يوم 15 يناير سنة 1949 بعض المنشورات جاء بها ذكر أعمال مشينة ارتكبتها لجنة مشترواته وقد صرح معاليه بأنه يثق فيهم رغم كل ما يقال.

ولهذا يمكن اعتبار " حيدر باشا " المتمم لجهود الفريق " عطا الله " باشا للوصول للهزيمة التى منيت بها مصر فى حرب فلسطين , ورغم توخى النيابة العمومية الحكمة والحذر فى القبض على كبارالمسئولين عن هذه الفضائح وكلهم رجاله – حيدر باشا – ومعاليه ولم يزل إلى الآن يشرف على الجيش . " إن أرواح الجنود والضباط المصريين لتهيب الآن بأول الأمر لإبعاد "حيدر باشا " واعتباره المسئول عما حدث , لأن رجال جميعا دون استثناء تقريبا هم المتهمون "

الأسلحة الفاسدة

بعد إعلان الحرب وإرسال الجيوش المصرية إلى فلسطين كان الملك يلعب بدوره فى الأسلحة الفاسدة ويعترف من الثراء بلا حساب وكانت الإشاعات حول الأسلحة قد بدأت تتسرب من الميدان على ألسنة الضباط الذين كانوا يعودون بالإجازات .

" وقد كتبت مقالا فى " جريدة الزمان " طالبت بالبحث عن هؤلاء وكنت متحفظا فيما كتبت لأنه لم يكن تحت يدى دليل أو شبه دليل . وفى اليوم التالى اتصل بى الدكتور " يوسف رشاد " أحد حاشية الملك وطلب منى أن أعطيه أسماء هؤلاء الذين لهم دور فى الأسلحة الفاسدة ولكنى لم يكن لدى أسماء بل إشاعات فاعتذرت وبذلك خف خوف الملك "

" هذه الحادثة العرضية تذكرتها عندما بدأ الإشاعات تتحول إلى حقائق , وتكشف عن دور الملك وحاشيته فى الأسلحة الفاسدة وكان فى ذاتها دليلا على أن الملك عندما قرر دخول حرب فلسطين كان يهدف إلى فتح باب عريض من أبواب الثراء وأن فلسطين العربية كانت آخر ما يفكر فيه .

هذه الأسلحة الفاسدة وهذا التهافت على الثراء كان قد بدا يقويان الجيش خلايا " الضباط الأحرار " فقد أزعجهم أن يصل الفساد بالبلاد إلى هذا الحد . فبدأ البعض يهمس فى آذان البعض ثم أخذوا يعقدون الإجتماعات السرية ويوزعون المنشورات القوية حتى إذا ما يئسوا من قيام الساسة المدنيين بواجبهم ضربوا ضربتهم القوية وبدلوا العهود القديمة بعهد جديد " .

وهنا تبرز الحكمة القائلة " رب ضارة نافعة" فلو لم تقع حرب فلسطين ما وقف طغيان الملك عند حد , إذ أن الطغيان والفساد بدا يأخذان صورة وأضحة أثناء هذه الحرب ولعله ظن أنه بعد أن قضى على الساسة يستطيع أن يقضى على الجيش بهذه الهزيمة التى منى بها فى فلسطين ومن ثم يستطيع أن يحكم ويفخر ويمعن فى استهتاره .

يبدو أن هذا الملك الذى ظن فى البداية فى أنه يفشل قد وجد نفسه واجه قوى خفية كثيرة .وكانت منشورات الضباط الأحرار ترفع إليه فيقرأها ويجد بين سطورها الحكم عليه فى المستقبل , وبهذا كان كثيرا ما يردد أما خاصته أنه واثق من أنه لن يموت وهو على العرش .

وعندما تركزت الفكرة فى ذهنه بدأ يسافر إلى أوربا ولم يكن الغرض من رحلاته المشهورة إليها العبث بقدر ما كان التهريب , أى تهريب ثروته إلى الخارج , غير أنه لم يكن يتوقع أن تتطور الأمور إلى نهايته بالسرعة التى قامت بها ولا شك أنه فوجىء بحركة الجيش فى 23 يوليو سنة 1952 , إذ لم يتوقع أن يكون الجيش هو منبع الثورة وإنما كان يعتقد أن " الشيوعية " ستغزوا مصر وأنه سيذهب " .

ولقد عقب أيضا " الرافعى " على حادث الأسلحة الفاسدة وما دار حولها من استقالات , غذ قال فى عرض حديثه الذى انتقد فيه حكومة الوفد الأخيرة قائلا :

" تجدد اعتداء الوزراء على استقلال القضاء فى سنة 1951 بإقصاء النائب " محمد محمود عزمى"بك من منصبه جزاء له على مسلكه فى تحقيقات قضية الأسلحة الفاسدة للجيش إذ تناول التحقيق الذى قد انتهى بحفظ القضية بالنسبة لهؤلاء الأشخاص , فإن هذا لم يمنع الوزارة من إقصاء النائب العام عن منصبه لمجرد أن أوقفهم موف الاتهام وقرر مجلس الوزراء فصل النائب العام إلى منصب آخر دون منصبه منزلة ومكانة.

فأخطر إلى طلب إحالته إلى المعاش وسرعان ما أجيب إلى طلبه , وما من شك أن إقصاء النائب العام عن منصبه فى تحقيقات كان يمر بها فى قضية هامة كقضية أسلحة الجيش هو إرهاب لهذه الهيئة جميعا وتأثير على سير العدالة لأنه جاء بمناسبة عقاب النائب العام على مسلكه , فى عمل ينطوى فى حد ذاته على تلميح للقضاء فى قضية كبرى لم يفصل فيها بعد .

وفى مايو سنة 195.قدم الأستاذ " مصطفى مرعى " سؤالا بمجلس الشيوخ عن أسبابا استقالة " محمود محمد محمود " رئيس ديوان المحاسبة من منصبه ولما لم يتضمن جواب الوزارة ما يوضح غامضا أحاله إلى استجواب أثار مسألتين هامتين :

أولهما : أن مدير مستشفى المواساة بالأسكندرية الدكتور " أحمد محمد النقيب " أمر بصرف مبلغ خمسة آلاف جنيه إلى "كريم ثابت " المستشار الصحفى السابق للديوان الملكى من أموال التبرعات والإعانات التى جمعت لمستشفى المواساة , وذكر النقيب تسويغا لصرف هذا المبلغ أنه مقابل دعاية ونشر خاصين باليانصيب والإعانات .

ثانيهما : أن صفقات من الأسلحة والذخائر الفاسدة حصل التعاقد عليها بمناسبة حملة فلسطين وتسلمت إدارة احتياطات الجيش هذه الصفقات برغم لفت نظرها إلى ذلك , وأن مخالفات ارتكبت فى إجراء بعض إصلاحات فى بحرية جلالة الملك وأن رئيس ديوان المحاسبة المستقيل أبدى فى تقريره بعض الملاحظات عن هاتين المسألتين وعلى نفقات حرب فلسطين عامة ومكان من نتائج إبائه هذه الملاحظات أن أخطر إلى تقديم استقالته فى عهد وزارة " النحاس باشا " وقد شرح الأستاذ " مصطفى مرعى " هذا الإستجواب بمجلس الشيوخ ولقى تأييدا كثيرا من المعارضين ومن الرأى العام وانتهى إلى اقتراح تأليف لجنة برلمانية لتحقيق استقالة رئيس ديوان المحاسبة ".

وفى الواقع لم تترك " مصر الفتاة " موضوع استقالة رئيس ديوان المحاسبة وموقفه من قضية الأسلحة الفاسدة بل علقت عليه قائلة أنه " ثابت من قرار الإتهام أن هناك ملايين الجنيهات دفعت لشراء صفقات من الأسلحة التى أثبت الإستعمال أنها كانت تالفة وأنها غير صالحة وأنها هى التى أدت إلى هزيمة الجيش المصرى فى فلسطين , وثابت من قرار الإتهام أن هذه الحقائق كلها لم تكن كجهولة ولا منكورة بل كانت معروفة ومشهورة ومسجلة بحيث أن ديوان المحاسبة بمجرد أن وضع يده على أوراق وزارة الحربية اكتشف كل هذه الحقائق فى غير عناء ولا جهد ويريد الشعب أن يعرف من هو المجرم الذى تستر على هذه الجرائم .

إن هذه الجرائم التى يثبتها الإتهام كانت تشير فى صفحات مجلة " روز اليوسف " مشفوعة بالمستندات والأدلة فلم يتحرك أحد لوضع حد لهذه الجرائم لولا ان استقال رئيس ديوان المحاسبة وأثار الموضوع " مصطفى مرعى " فى مجلس الشيوخ فتطورت الأمور حتى وصلت إلى النائب العام الذى أوصلها لهذه النتيجة .

وتتسائل الجريدة عن الدوافع التى تدفع بالحكومة إلى الصمت المطبق وعدم اتخاذ عقاب رادع لمن قاموا بتلك الأعمال الضارة بمصلحة الوطن يستنكره اللامبالاة التى تميزت بها اجراءات الدولة تجاه تلك المفاسد قائلة :

" إن تقارير كتبت عن ذخائر فاسدة وأنها لا تصلح , ثم لا يحاسب الذين قالوا وكتبوا عنها أنها صالحة , ملايين من الدولارات تدفع لهذه الشركات أو تلك ثم لا يقدم فى مقابل ذلك شىء دون فائدة قنابل تقتل جنودنا وضباطنا ويرتفع الصراخ من كل جانب فلا يكون تحقيق أو شبه تحقيق و ضباط عظام يسرقون ويمثلون ويثرون على حساب هذا الشعب المسكين "

لم يكتف" أحمد حسين " بتوضيح هذه المفاسد في الجيش بل أشار إلى أنها أنما هي جزء من الفساد العام الذي استحفل في كل قطاعات الدولة , فالمسألة إذن ليست مسألة هذا الضابط أو ذاك أو هذا الكبير أو ذاك , وإنما هي مسألة النظام كله والعهد كله الذي أصبح يتلخص في هذه الكلمة فساد فساد "

استبداد فاروق

لا يمكن لأي دارس مهما كانت لديه من معلومات بقادرعلى تحليل دوافع تكوين الضباط لخلاياهم دون الإشارة إلى الحال الذي وصل إليه تصرفات الملك الشخصية منها أو الرسمية , فلقد كانت على كل لسان حتى ان سمعة مصر في الخارج تعرضت للكثير من النقد تبعا لما كان يدور حوله.

كذلك بالنسبة لتصرفته الرسمية كانت كلها ترمي إلى زيادة سلطانه ونفوذه بكل طريقة لا من لا أجل مصلحة مصر , لأنه كان يعادي الحركات الوطنية بكل طريقة ولا من أجل الإحتلال لأنه كان يعاديه وينافس كل منهما الآخر بل من أجل مصلحته الفردية فقط وكان لذلك مظاهر عديدة يجدر بنا هنا أن نشير إلى جزء منها .

أولا : اتجه فاروق بعد انتهاء الحرب في أوروبا وفي الشرق الأقصى إلى توطيد سلطانه المطلق فأنشأ منصب المستشار الصحفي للديوان الملكي "كريم ثابت " بغير علم الوزارة ولا رأيها ثم أنه اتجه بتفكيره إلى أن يتولى بنفسه زعامة الدول العربية من غير أن يكون لوزرائه رأي في الأمر أو كلمة ولهذا الغرض جمع ملوك الدول العربية ورؤساء الجمهوريات بمزارعه الخاصة بإنشاص , وتداول معهم الرأي في شأن هذه الدولة ومصيرها وحضر الإجتماع " عبد الرحمن عزام " باشا الأمين العام لجامعة الدول العربية .

ثانيا : كان " النقراشي " في 11 مايو سنة 1948 يرفض إدخال مصر في حرب فلسطين وعين " محمد حيدر باشا " رجل الملك وياوره الخاص وزير الحربية , تلقى أمرا ملكيا بذلك فأمر فرق الجيش بإجتياز الحدود والدخول إلى فلسطين دون أن يعلم رئيس الوزراء ودون أن ينتظر قرار البرلمان أو قرار مجلس الوزراء , ولما كان " حيدر " جنديا فقد كان يفهم أن نص الدستور بأن الملك هو القائد الأعلى للقوات المسلحة قد لا يقيد بأن الملك لا يستعمل سلطته بواسطة وزرائه وكان ينفذ أوامره من غير انتظار لرأي رئيس الوزراء أو مجلس الوزراء

ثالثا : استغلال الملك للخلافات التي كانت قائمة بين الأحزاب إذ بلغ الخلاف بين الأحزاب المصرية مبلغا استعصى معه جمع كلمة الأمة , حين كان الخطر الذي يقتضي التقائه جمع الكلمة ماثلا أمام كل عين ,آمن الملك بأن الأحزاب التي تأبى أن تجتمع لمصلحة وطنية عليا لا سبيل إلى اجتماع كلمتها ضد ما يكسبه لنفسه من سلطان مطلق وكان قد آمن من قبل بأنه يستطيع أن يفعل ما يشاء دون أن تدخل انجلترا في شئونه .

رابعا : أما تدخل القصر لدا الوزراء ففيما يتصل برغبات الملك ومطالبه فكان متصلا لأن رغبات الملك .

ومطالبه كانت متصلة فقد أراد الملك أن ينتزع أطيان الأوقاف الخيرية من وزارة الأوقاف لتتولى الخاصة الملكية إدارتها وتستولي على أجر نظيرها .وكان على عبد الرزاق باشا قد خلف أخاه مصطفى باشا وزيرا للأوقاف . فلما أبلغ هذه الرغبة الملكية اعترض عليها لما في قرارها من معنى الإعتراف بأن وزارة الأوقاف سيئة الإدارة .

ولا يملك وزير أن يوقع إقرار ينطوي على مثل هذا المعنى .لكن اعتراضه لم يقف دون تنفيذ إدارة الملك .وكان ذلك يسير فوزير الأوقاف وكيل في إدارة هذه الأوقاف بتوكيل يوقعه الملك عن تأليف كل وزارة وهو الأمين أن يعهد إلى غير الوزارة بإدراته ليسقط التوكيل وكذلك فعل فقد أصدر أوامر ملكية بضم الأوقاف التي يزيد ضمها إلى الخاصة الملكية واحد بعد الآخر .ولم يستطع وزيرالأوقاف إلا أن يبلغ رئيس الوزراء ما حدث ولم يرد رئيس الوزراء أن يجعل من هذه المسألة سبب أزمة تنتهي إلى إقالته أو استقالته .

خامسا: حدث غير مرة أن وقف بعض الوزراء فلم ينفذوا ما علموا انها رغبة الملك أو أن أمره متجه إلى تنفيذه وكانت مثل هذه المواقف تحسب الوزراء الذين يقفونها وحسابها عليهم كان يميل بوزراء آخرين إلى المسارعة لإجابة ما يطلب إليهم .بل أن اقترح ما يحسبونه يرضي الملك .وإن لم يطلبه وكان هذا الطراز من الوزراء يلتمس الزلفى لدى القصر بالتقرب إلى هذا أو ذاك من رجال الحاشية يظنونهم مقربين من الملك وكان كريم ثابت في مقدمة هؤلاء المقربين .

ثم كان محمد حسين السلباني شماشرجي الملك أيضا يلتمس بعض الكبراء الزلفى إليهم .ولقد سرت عدوي هذه الزلفى من الوزراء الملي الموظفين كبارا وصغارا .وكان طبيعيا أن يتجه فاروق للسلطان المطلق وقد وجد ما يدفعه إليه ويشجعه عليه .بعد أن وصل موقف أبيه فؤاد الأول الذي حاول بكل طريقة أن يوسع حقوق الملك في الدستور وأن يمدها إلى ما وراء نص الدستور ولذا ظلت صلاته بالساسة المصريين قائمة على الحيطة والحذر .

الواقع أن سلطان القصر تجاوز رسم السياسة العامة إلى التدخل في شئون الحكم جليلها ودقيقها .وكان أشد تدخله فيما يتصل برغبات الملك ومطالبه وكان سلاح إقالة الوزارة أو رفعها كارهة للإستقالة هو ما تخشاه بعض الوزارات وما ترتعد منه فرائض بعضها .

سادسا: حاول القصر التدخل في شئون الهيئة التشريعية مع أنه لا سلطان له عليها إلا في حدود ضيقة وأوقات محددة .حدث التجديد النصفي بمجلس الشيوخ في سنة 1946 .وانتهت مدة محمود شكري ولم يعين من جديد وكان محمود شكري باشا رئيسا للجنة العليا بالمجلس مشهودا بالكفاية والمهارة والدقة .

أما ولم يبق عضوا بالمجلس فقد وجب أن تنتخب اللجنة رئيسا لها مكانه .وتداولت مع أعضاء اللجنة في الأمر واستقر رأيها على اختيار حسن صادق باشا وزير المالية الأسبق رئيسا للجنة وفي اليوم الذي تحدد لانتخاب الرئيس دق جرس التيلفون وحدثني حسن بك يوسف رئيس الديوان بالنيابة وقال في تلطف زائد " أيسمح معالي الرئيس أن نقترح عليه رئيسا للجنة المالية فكان شكري باشا وأجبته على الفور .

" لقد تم اختيار حسن باشا صادق " عند ذلك قال حسن باشا رجل عظيم وانتهت المحادثة ولم يخاطب أحد شخصيا من بعد في أمر ما يجري للمجلس العام بل كان بعض رجال القضاء يرون أن من أسباب ولائهم للقصر أن يتجاوزوا رؤسائهم وأن يتجاوزوا وزيرهم وأن يذهبوا إلى القصر يعرضون عليه ما يحسبونه ينال الرضا السامي .وما يترتب عليه من رقي وطمأنينة إلى نعم الحياة .

سابعا : وبالنسبة للتصرفات الشخصية فهناك العديد من الأمثلة فمثلا استقالة كل من اللواء أحمد عطية وزير الدفاع والمهندس عبد المجيد باشا وزير المالية وكان سبب استقالتهم أنهما كانا مع وزيرين آخرين فى ملهى " حلمية بالاس " وكان الملك فاروق يرتاد هذا الملهى .

فلما رآهما مع زميلهما وقد خرجا من الملهى بعد دخول لملك , طلب الملك من النقراشي إخراجهما من الملهى وربما كان لديه أسبابا تتعلق برغباته الخاصة ولم ينفذاها فرأى وجودهما فى الملهى حجة لخروجهما من الوزارة لا يستطيعان دفعها أمام الرأى العام .

ثامنا : عموما لقد كان جمهرة المطلعين على هذه التصرفات أكثر اهتماما بما يتعلق بشخص وعلاقته بالملك وسهراته . " فى نادى السيارات أو حلمية بالاس " أو " برج الأهرام أو سكاريه " من الإهتمام بنزعته الى الحكم المطلق أهم من اجتماع إنشاص ومن اتجاه الملك الشخصى لزعامة الدول العربية وكان معظمهم يلتمس للملك العذر عن سهراته ومغامراته بشبابه الباكر وبما للشباب من سلطان على الناس.

لكن المؤلم أن صحف العالم أخذت فى إرجاء العالم تنشر من أنباء الملايين التى يكسبها فاروق أو يخسرها على مائدة القمار ومن أنباء الحفلات التى تقام لمسراته ومن أنباء مغامراته ففتح العيون فى العالمين القديم والجديد على هذا الملك الشاب الذى أعاد فى القرن العشرين وفى قلب أوربا صورا أعجب مئات المرات من صور ألف ليلة وليلة وانتشرت الدعاية للتشهير بملك مصر ولم تكتف بأنباء الصحف بل لجأت إلى حياته الزوجية وجعلت منها مادة زادت بها استهتار الملك بروزا .

هذا ولقد أرسل رؤساء الأحزاب وبعض الوزراء كتاب إلى الملك سنة 195.توضيح له بعض الأخطاء التى يقوم بها القصر وموظفى الدولة ويطالبون بالإصلاح فى كل النواحى والعناية بتطبيق الدستور , ولقد غضب الملك من ذلك وسجل أسماء الموقعين فى نوتة خاصة به , وقد أبلغ النحاس باشا أن ذلك عمل إجرامى سافر ومنع نشر هذ الكتاب .

خلاصة الموقف أنه بالرغم من العيوب الكبيرة التى كان يتميز بها ملك مصر إلا أنه يجب ألا يغفل وجود عوامل لو لم تكن موجودة لما وصل به السوء إلى تلك الدرجة . وما أعنيه عنصران أولهما أحزاب الأقليات التى ارتمت فى أحضانه بغية البقاء , فطبيعة الأمور أن تلك الآحزاب كانت تجد نفسها فى موقف المؤيد للحكم الفردى الملكى عقب كل تعطيل للبرلمان , وهكذا لم يبق برلمان واحد فى دورته لخمس سنوات المحددة فى دستور سنة 1923 .

كما وجدت هذه الأحزاب الصغيرة نفسها فى خدمة الإنجليز بشكل غير مباشر من خلال الملك بتأييدها لمصالحه الشخصية الفردية خصوصا فى علاقته بالوفد . ولم ير الملك فى السلطات التى يمكنها له الدستور مجرد نوازع للسيطرة الفردية فحسب كما حدث فيما حاول أن يفرضه لنفسه بتعيين خمس مجلس الشيوخ ولكنه كان يرى فيها أهم من ذلك سلاح يقضى به كل حكومة متطرفة فأصدر عدة قرارات بتعيين شخصيات معادية للحكومة وأسند إليهم وظائف القصر بمجرد رغبته فى ذلك وبدون الرجوع إلى أصول الدستور ليكونوا على أهبة الإستعداد لخدمة أغراضه فى طرد الوزراء أو تعطيل أو حل البرلمانات .

كان ذلك هو السبب الأول أما السبب الآخر فهو دور الحاشية الملكية الفاسدة . والغير مصرية و التى لم يكن يعنيها إطلاقا مصلحة البلد التى يعيش فيها . ولقد أوضح ذلك جلال المحمصى " أوؤمن إيمانا لا تطرقه أى شك أن الذين أحاطوا بالملك فى السنوات الأخيرة من حكمة كانت لهم سياسة استعمارية مرسومة يعلمون على تنفيذها وعلى هدم سمعة الملك كوطنى فهذه الحاشية لم تكن مصرية خالصة المصرية .

ولم تكن بأحاسيس الوطنيين الذين يكافحون ويناضلون ويجاهدون هذا أن تاريخهم يدل دلالة واضحة على أنهم من أدوات الإستعمار وأذنابه فى كل عهد .ولقد لعب الإستعمار دوره واستطاع أن يقضى فى فترة صغيرة من الزمن على زعامة الملك الشعبية "

واعتقد أن العيب المباشر كان فى الدستور ذاته فبدل أن يضع الملك كرأس للدولة ولا يحكم إلا من خلال وزرائه نجده أعطاه الحق فى حل البرلمان وإسقاط الوزارات مماجعل الملك يلعب بتلك الورقة طوال تاريخه الغير مجيد , وظلت ورقته هذه سيف مسلط على كل من لا ينفذ إرادته , وعقبة بالتالى أمام رغبات الجماهير.

ولقد أشار إلى ذلك توفيق الحكيم بقوله" ويظهر أن الدستور الذى كان أحسن الدساتير يعنى دستور سنة 1923 أو غيره لا أعرف لأى سبب هى تغرة كان سيكون لها تأثير كبير فى تاريخ مصر وهى الحد من سلطة الملك أنه لا يكون له حق اسقاط الوزارات وأن يكون إسقاط الوزارات ليس فى يد الملك بل فى يد الشعب أو الهيئة الممثلة للشعب فى البرلمان هذا أهو الخطأ منح اللك حق اسقاط الوزارات وإحالتها وله سلطة حل البرلمان.

وحصل الملك على سلطة استطاع أن يلعب بها فى التاريخ المصرى كله , البرلمان الذى لا يعجبه يسقطه وإذا قام الشعب بمطالب معينة والبرلمان أيدها بروح البرلمان لوكان الملك مجرد من سلطة الشعب وهذا الخطأ أدى إلى التلاعب بالدستور والتلاعب بسلطة الشعب فى ذلك الوقت ووضع سلطة قوية جدا فى يد الملك .

" تنظيم الضباط الأحرار"

بدون أدنى شك لقد فجرت الحرب الفلسطينية الطاقات المكبوتة والرغبات الملحة لدى الضباط الأحرار , فى التخلص نهائيا من النظم الموجود ة كليا بالتخلص من الإستعمار وأعوانه من المصريين المنتفعين بوجوده فى البلد والمتناسين لحقوق ومصالح وطنهم مصر , ولعل الفشل الذريع الذى منى به هؤلاء الضباط فى فلسطين , والبساطة والتساهل الذى أخذت بهالحملة خاصة وأن الضباط كانوا يشعرون بالإنتماء العربى والإسلامى فى الوقت الذى سيطرعليهم دون شك مصالح وطنهم الأم وما وصلت بها الحال من فساد وتعفن فى النظام .

" أيمكن أن نتجاهل أن هناك دائرة عربية تحيط بنا وأن هذه الدائرة منا ونحن منها امتزج تاريخنا وارتبطت مصالحنا بمصالحها حقيقيا وفعلا وليس مجرد كلام .

أيمكن أن نتجاهل أن هناك عالما إسلاميا تجمعنا وإياه روابط لا تقر بها العقيدة الدينية فحسب وإنما تشتهدها حقائق التاريخ وأنا أذكر فيما يتعلق بنفسى أن طلائع الوعى العربى بداأت تسلل إلى تفكيرى وأنا طالب فى المدرسة الثانوية أخرج مع زملائى فى إضراب عام فى الثانى من نوفمبر من كل سنة احتجاجا على وعد بلفور الذى منحته بريطانيا لليهود ومنحتهم به موطنا قوميا لهم فى فلسطين المغتصب ظلما من أصحابه الشرعيين .

ثم بدأ نوع من الفهم يتأجج تفكيرى حول هذا الموضوع عندما أصبحت طالبا فى الكلية الحربية أدرس تاريخ حملات فلسطين بصفة عامة تاريخ المنطقة وظروفها التى جعلت منها فى القرن الأخير فريسة سهلة لتتخطفها أنياب مجموعة من الوحوش الجائعة .

ولما بدأت أزمة فلسطين كنت مقتنعا فى أعماقى بأن القتال فى فلسطين ليس قتالا فى أرض غريبة وهو ليس انسياقا وراء عاطفة وإنما هو واجب يحتمه الدفاع عن النفس .

وأذكر يوما عقب صدور قرار تقسيم فلسطين فى سبتمبر سنة 1947 عقد فيه الضباط الأحرار اجتماعا واستقر رأيهم على مساعدة المقاومة فى فلسطين وذهبت فى اليوم التالى أطرق باب بيت الحاج أمين الحسينى مفتى فلسطين , وكان لا يزال فى الزيتون .

وأقول له " أنكم فى حاجة إلى ضباط يقودون المعارك ويدربون المتطوعين . وفى الجيش المصرى عدد كبير من الضباط يرديد أن يتطوع . قال لى الحاج أمين الحسينى أنه سعيد بهذه الروح ولكنه يرى أن يستأذن الحكومة المصرية قبل أن يقول شيئا ثم قال سوف أعطيك ردى بعد أن أستأذن الحكومة المصرية . وتحدثت إليه بعد ايام . وكان رده الذى حصل عليه من الحكومة هو الرفض .

ولم تسكت بعد أن كانت قوات أحمد عبد العزيز تدك المستعمرات اليهودية جنوبى القدس وكان قائد المدفعية هو كمال الدين حسين عضو اللجنة التأسيسية للضباط الأحرار .. التى تحولت إلى مجلس قياد الثورة . وأذكر سرا آخر كان ذات يوم أعلى أسرار الضباط الأحرار .

إذ كان حسن ابراهيم قد سافر إلى دمشق واتصل ببعض ضباط فوزى القاوجى . وكان يقود قوات التحرير وكانت الخطوط البارزة فى تلك الخطة هى أن قوات التحرير العربية لا تملك طيانا يساعدها فى المعركة ويرجع النصر فى كفتها . ولو أنها حصلت على معونة من الجو بضرب مركز فوق ميدان العملية لكان ذلك عاملا فاصلا .

ولكن من اين القوات تحرير الطيران لتحقيق هذا الحلم ؟ .. ولم يتردد حسن والبغدادى وأنا قررنا أن يقوم سلاح الطيان المصرى بهذه المهمة ولكن كيف ؟ لم تكن مصر قد دخلت حرب فلسطين وكان جو الرقابة على القوات المسلحة بما فيها سلاح الطيران هذا ومع ذلك لم يجد الياس ثغرة ينفذ منها إلى تفاصيل الخطة .

بدأت فى مطار سلاح الطيران حركة عجيبة . وبرز فيها نشاط واسع لاصلاح طائرا وإعدادهها وجهود واضحة فى التدريب سرت كالحمصى فى نفوس عدد من الطيارين فلم يكن هناك إلا قلائل يعرفون السر .

يغرفون أن الطائرات وقوادها قد أعدوا ليوم تجىء فيه من سوريا إشارة سرية ينطلقون بعدها إلى الجو ليشتركوا بكل قوتهم فى معركة حاسمة على الأرض المقدسة ثم يتجهون بعد ذلك إلى مطار قرب دمشق ينزلون فيه ويترقبون الأحوال فى مصر ..

هذه الحركة التى أقدموا عليها ثم يقررون كيف يتصرفون بعدها , وكان شعورنا فى اللجنة التنفيذية للضباط الأحرار والمؤكد أنه نفس الشعور كان يراود خواطر الطيارين المشتركين فى السر الكبير , إن هذه المخاطرة لم تكن حبا فى المغامرة ولا كانت رد فعل للعاطفة فى نفوسنا وإنما كانت وعيا ظاهرا لإيماننا بأن " رفح " ليست آخر حدود بلادنا , وأن نطاق سلامتنا يقضى علينا أن ندافع عن حدود إخواننا الذين شاءت لنا أحكام القدر أن نعيش معهم فى منطقة واحدة .

ولم تتم الخطة يومه لأننا لم نتلق الإشارة السرية من سوريا , وقضت الظروف أيضا أن تدخل الجيوش العربية كلها للحرب فى فلسطين ولما انتهت المعارك فى فلسطين وعدت إلى الوطن كانت النطقة كلها فى تصورى قد أصبحت كلها واحدا "

كانت تلك إذن من لمحات مشاعر أحس أبناء النيل من الضباط ولعل قائد التنظيم جمال عبد الناصر قد أشار إلى بداية الإحساس بخطورة الحال منذ أن كان يحارب فى فلسطين " كنا نحارب فى فلسطين ولكن أحلامنا كلها كانت فى مصر كان رصاصنا يتجه إلى العدو الرابض أمامنا فى الخنادق ولكن قلوبنا كانت تحوم حول وطننا البعيد الذى تركناه للذئاب ترعاه .

وفى فلسطين كانت خلايا الضباط الأحرار تدرس وتبحث وتجتمع فى الخنادق والمراكز , وفى فلسطين جلس بجوارى مرة كمال الدين حسين وقال لى وهو ساهد الفكر , شارد النظرات " هل تعلم ماذا قال لى أحمد عبد العزيز : قبل أن يموت – قائد الفدائيين المصريين – قلت له ماذا قال ؟ قال : اسمع يا كمال إن ميدان الجهاد الأكبر هو فى مصر .

"ولم ألتق فى فلسطين بالأصدقاء الذين شاركونى فى العمل من أجل مصر وإنما التقيت أيضا بالأفكار التى أثارت أمامى السبيل , وأنا أذكر أيام كنت أجلس فى الخنادق وأسرح بذهنى إلى مشاكلنا , كانت الفالوجة محاصرة وكان تركيز العدو عليها ضرب بالمدافع والطيران تركيزا هائلا مروعا , وكثيرا ما قلت لنفسى " هذا هو وطنا هناك إنه " فالوجة أخرى على نطاق كبير إن الذى يحدث هنا صورة من الذى يحدث هناك , صورة مصغرة , وطننا هو الآخر حاصرته المشاكل والأعداء , وغرر به ودفع إلى معركة لم يعد لها .

ولعبت بأقداره مطامع ومؤامرات وشهوات وترك هناك تحت النيران بغري سلاح " ثم يعود عبد الناصر بذاكرته شارحا بداية بذور الثورة فى نفسه وبدايتها على أن هذا اليوم الذى اكتشفت فيه بذور الثورة فى نفسى أبعد من حادث فبراير سنة 1942 الذى كتبت فيه خطابا إلى صديقى قلت له فيه :

" ما العمل بعد أن وقعت الواقعة. وقبلناها مستسلمين خاكعين خائفين ؟ الحقيقة التى أعتقد أن الإستعمار يلعب بورقة واحدة فى يده بقصد التهديد فقط ولكن لو أنه أحس أن بعض المصريين ينوون التضحية بدمائهم وفيما يلون القوة بالقوة لأنسحب كأى امراة عاهرة " .

أما بالنسبة للجيش فقد كان لهذا الحادث تاثير جديد على الروح والإحساس فيه فبعد أن كانت ترى الضباط لا يتكلمون إلى عن الفساد واللهو أصبحوا يتكلمون عن التضحية والإستعداد لبذل النفوس فى سبيل الكرامة .

وأصبحت تراهم وكلهم ندم لأنهم لم يتدخلوا ويردوا للبلاد كرامتها . ويغسلوها بالدماء ولكن إن غدا لناظره قريب .. والواقع أن هذه الحركة وهذه الطعنة ردت الروح إلى بعض الأجساد . وعرفته أن هناك كرامة .

يجب أن يستعدوا للدفاع عنها . وكان هذا درسا قاسيا .. كذلك فإن هذا اليوم أبعد فى حياتى من الفوارق الذى عشت فيه . أيام كنت طالبا أمشى مع المظاهرات الهاتفة بعودة دستور سنة 1923 .

وقد عاد الدستور بالفعل سنة 1935 , وأيا كنت أسعى من وفود الطلبة إلى بيوت الزعماء نطلب منهم أن يتحدوا من أجل مصر وتألفت الجبهة الوطنية سنة 1936 بالفعل على أثر هذه الجهود .

فلو أضيف إلى هذا كله أن تلك البذور لم تكن كامنة فى أعماقى وحدى وإنما وجدتها أيضا فى أعماق كثيرين غيرى هم الآخرون بدورهم لا يستطيع الواحد منهم أن يتعقب بداية وجودها داخل كيانه لا تضع إذا أن هذه البذور ولدت فى أعماقنا , وإنها كانت أملا مكبوتا خلفه فى وجداننا جيل سبقنا .

أما السبب الثانى فهو أننى كنت بنفسى داخل الدولمة العنيفة للثورة والذين يعيشون فى أعماق الدوامة , قد تمضى عليهم بعض التفاصيل البعيدة عنها وكذلك كنت بإيمانى وعقلى وراء كل ما حدث أو بنفس الطريقة التى حدث فيها , وإذا فهل أستطيع أن أتجرد من نفسى حين أتكلم عنه وعن المعانى المستقرة وراءه ؟ .

الواقع أن الذى أملكه فى هذا الصدد شيئان :

أولهما : مشاعر اتخذت شكل الأمل المبهم , ثم شكل الفكرة المحددة , ثم شكل التدبير حتى نفذت ليلة 23 يوليو .

ثانيهما : تجارب وضعت ههذ المشاعر بأكملها المبهم وفكرتها المحددة , وتدبيرها العملى موضع التنفيذ العملى فى منتصف 23 يوليو حتى لآن " .

وهنا يجدر أن نتساءل هل كان يجب أن يقوم الجيش بما قام به فى 23 يوليو سنة 1952 ؟ إذا كان الأمر كذلك ولم يكن الذى حدث فى 23 يوليو تمردا عسكريا وليس ثورة شعبية فلماذا قدرللجيش دون غيره من القوى أن يحقق هذه الثورة ؟

فيرد عبد الناصر قائلا " لقد آمنت بالجندية طول عمرى والجندية تجعل للجيش واجبا واحدا , هو أن يموت على حدود وطنه , فلماذا وجد جيشا نفسه مضطرا للعمل فى عاصمة الوطن وليس على حدوده ؟ كنا نقول إذا لم يقم الجيش بهذا العمل فمن يقوم به ؟ وكنا نقول نحن الشبح الذى يؤرق به الطاغية أحلام الشعب وقد آن لهذا الشبح أن يتحول إلى الطاغية فيبدد أحلامه هو .. وكنا نقول غير هذا الكثير , ولكن الأهم من كل ما كنا نقوله أننا كنا نشعر شعورا يمتد على أعماق وجودنا بأن هذا الواجب واجبنا وأننا إذا لم نقدم فإننا نكون كأننا قد تخلينا عن أمانة مقدسة يناط بنا حملها " .

" كنت أتصور قبل 23 يوليو أن الأمة كلها متحفزة متأهبة وأنها لا تنتظر إلا طليعة تقتحم أمامها السور فتندفع آلامه وراءها صفوفا متراصة منظمة تزحف زحفا مقدسا إلى الهدف الكبير, وكنت أتصور دورنا على أنه دور طليعة الفدائيين وكنت أظن أن دورنا هذا لا يستغرق أكثر من بضع ساعات ويأتى بعدها الزحف المقدس للصفوف المتراصة إلى الهدف الكبير " .

" إننا نعيش فى ثورتين وليس ثورة واحدة ولكل شعب من شعوب الأرض ثورتان :

ثورة سياسية : يستمد بها حقه فى حكم نفسه بنفسه من يد طاغية عليه أو من جيش معتد أقام فى أرضه دون رضاه .

ثورة اجتماعية : تتصارع فيها طبقات يستقر الأمر فيها على ما يحقق العدالة لأبناء الوطن الواحد , كان الموقف يتطلب أن تقوم قوة تقرب ما بين أفرادها إطار واحد يبعد عنهم إلى حد ما صراع الأفراد والطبقات وأن تكون ههذ القوة من صميم الشعب وأن يكون فى استطاعة أفرادها أن يثق بعضهم فى بعض وأن يكون فى يدهم من عناصر القوة المادية ما يكفل لها عملا سريعا حاسما ولم تكن ههذ الشروط تنطبق إلا على الجيش .

وهكذا لم يكن الجيش هو الذى حدد دوره فىالحوادث وإنما العكس كان أقرب إلى الصحة وكانت الحوادث وتطوراتها هى التى حددت للجيش دوره فى الصراع لتحرير الوطن وكان لابد أن تسير فى طريق الثورتين " .

لقد كان مع عبد الناصر أنور السادات الذى ربطت بينه وبين قائد التنظيم – عبد الناصر – صداق من نوع خاص لا ترجع فقط إلى بداية العمل المشترك بينهما قبل الثورة بمدة كبيرة بقدر ما ترجع إلى المراحل الأخيرة من الثورة فيقول عنها السادات " أما صداقتى به – عبد الناصر.

فتعتمد على قيمة إنسانية كبرى من القيم التى شكلت حياتى منذ الطفولة هذه القيمة هى الوفاء الذى تعلمته فى القرية والذى كان النبع الرئيسى الذى أمدنى بالسلاح الروحى وبدونه لا يمكن أن يكون الغنسان منطقيا سواء مع نفسه أو معه الآخرين ولا أستطيع أن أشعر الآن بالوفاء لجمال عبد الناصر وذكراه وهذا الدين الذى فى عنقى تجاهه يرجع إلى بداية العمل من أجل الثورة .

فقد انغمست فى الكفاح السياسى حتى أذنى بعد تخرجى من الكلية الحربية بعام واحد , ولم أكن قد تجاوزت العشرين من عمرى , بعدها بدأت المخابرات البريطانية تتعقبنى وتطاردنى فى كل مكان أصل فيه .. وفى ليلة القدر سنة 1942 أعلنت بالطرد من الخدمة العسكرية وتسلمنى البوليس السياسى الذى كان يديره " محمد إبراهيم إمام " وأودعت سجن الأجانب وكانت أول مرة فى حياتى أتناول إفطار فى السجن , إذ كنت صائما كعادتى منذ طفولتى المبكرة بعد ذلك نقلت من سجن الأجانب إلى معتقل " فاقوس " ومن " فاقوس " رحلونى إلى معتقل " الزيتون " الذى هربت منه فى أكتوبر سنة 1944 ..

وبعد ذلك سقطت الأحكام العرفية أثناء هروبى متخفيا فى سبتمبر سنة 1945 فعدت إلى الحياة العامة مرة أخرى باسمى الحقيقى , وفى سبتمبر سنة 1945 قمت بتشكيل الجمعية السرية التى اتهمت فيها فى يناير سنة 1946 باغتيال " أمين عثمان " وبذلك عدت مرة أخرى إلى السجن 31 شهر , وبذلك أكون قد قضيت الفترة من 1942 :

1948 بين المعتقلات والسجون وعند خروجى من السجن سنة 1948 كانت حرب فلسطين وقد هدأت بالهدنة الأولى الشهيرة , وطلبت أن أعود إلى القوات المسلحة ولكن طلبى رفض لأن النيابة قد استانفت الحكم وتحتم على الإنتظار حتى يتأكد الحكم " .

" مضيت بقية 48 : 1949 فى الأعمال الحرة ولكنى تمكنت من العودة على الجيش مرة أخرى فى يناير سنة 195.وبفضل الله عز وجل وكنت قد اختلفت مع شريكى فى الأعمال الحرة وافترقنا وأصبحت مفلسا , لا أملك شيئا على الإطلاق لكن الله لم يتخلى عنى والتحقت بالجيش , هنا فقط عادت الصداقة بينى وبين عبد الناصر إلى ما كانت عليه بعد أن كنا قد افترقنا منذ عام 194.

فعندما ذهب مع وحدته إلى السودان الذى عاد منه فى أواخر سنة 1942 بعد القبض على فى أوائل الثورة كتبت عن حياة عبد الناصر ولقت أنه لم يبدأ معنا الكفاح السياسى سنة 1939 وكان الزميل رقم اثنين بعدى هو " عبد المنعم عبد الرؤوف " وفى الطيران كان هناك " بغدادى وحسن عزت وحسن إبراهيم وسعودى " وفى الفرسان كان هناك " خالد محيى الدين "

وقد انضم عبد المنعم عبد الرؤوف " بجمال وبذلك نستطيع القول بأنه منذ نهاية سنة 1942 وأوائل سنة 1943 تولى جمال الإشراف الكامل على التنظيم حتى قامت الثورة فى أثناء الفترة التى قضيتها بين المعتقلات والسجون من عام 42 : 1948 ثم إلى قيام ثورة سنة 1952 .

عدت إلى الجيش سنة 195.وكان التنظيم الذى أضرف عليه عبد الناصر منذ أواخر سنة 1942 قد تبلور وبدأ ياخذ شكله المميز ووضعه المحدد وكان جمال قد أنشأ قيادة للتنظيم تحت اسم " الهيئة التأسيسية للضباط الأحرار " ومن المعروف أن جمال كان قد حارب فى فلسطين وخرج من الحرب بعقيدة ثابتة وهى أن الإصلاح لابد أن يبدأ من داخل مصر نفسها.

أثناء الحرب بدأ يفكر فى إدخال الأعضاء الذين يمكن اختيارهم للقيام بهذه المهمة فاختار أولا زملاء ممن شاركوا معه فى الحرب " كصلاح سالم " و"كمال الدين حسين " و" زكريا محيى الدين " و" عبد الحكيم عامر " وبدأت بعد ذلك " الهيئة التأسيسية للضباط الأحرار " ب " جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر وصلاح سالم وكمال الدين حسين " ثم انضم لهم بعد ذلك " جمال سالم وبغدادى وحسن إبراهيم وخالد محيى الدين وأنا – أنور السادات – " .

" ولقد تمثل دين جمال فى عنقى فى إصراره على ضمى إلى الهيئة التأسيسية بعد عودتى إلى الجيش سنة 195., فقد اصر أعضاء " الهيئة التأسيسية" أن تاريخى فى الكفاح السياسى لا يمكن التغاضى عنه بل على العكس يمكن الاستفادة منه ومن خبرتى وقد طلب جمال أيضا ضم " عبد المعنم عبد الرؤوف " إلى " الهيئة التأسيسية " بحكم أنه كان رقم 2 بعدى فى التنظيم.

كما قلت من قبل وتم ضم " عبد المعنم عبد الرؤوف " بالفعل وقد أخبرنى جمال عبد الناصر أن عضوا واحدا من "الهيئة التأسيسية " عارض فى ضمى إلى الهيئة التأسيسية ولكن جمال عبد الناصر لم يأبه لهذه المعارضة متمسكا باحترام المعانى والقيم والمثل التى اضطهدت من أجلها سواء كنت معتقلا أومشردا أو سجينا وبالفعل انضممت إلى الهية التأسيسية للضباط الأحرار بفضل إصرار جمال على رأيه وتقديره.

وعندما أقول أننى لم ولن أنسى دين عبد الناصر فى عنقى فهذا لأنه كان من الممكن ألا يتمسك بانضمامى إلى " الهيئة التأسيسية " وله الحق فى هذا فقد كان يكافح منذ سنة 43 وحتى سنة 195.مع أعضاء التنظيم وكنت قد انفصلت عنه تماما , فكان من الممكن ألا أنضم إليهم ولم يكن هذا يسبب لى أى حزن أو حقد لأننى سأكون عندئذ ضابطا من ضباط التنظيم العادى " .

نستخلص مما سبق أن كلا من جمال وأنور السادات يرجعان بذور الثورة وبداية الإعداد لها منذ أحداث فبراير سنة 42 وأن لم يتخذ الهيكل شكله التنظيمى المتكامل إلا بعد حوادث حرب فلسطين وما أثارتها من جراح , بل أن أنور السادات يذهب إلى أبعد من ذلك حين يقول أن مرده يرجع على اثر معاهدة سنة 1936 فى الجيش المصرى والتى سمحت لأبناء الطبقات الوسطى أن تدخل الجيش.

وبذلك دخلت محملة لأبناء الطبقات الوسطى أن تدخل الجيش , وبذلك دخلت محملة بأمانى وأهداف وتطلعات الطبقة الوسطى المنتمين إليها ولعل كان أبرز آمالها وأعز أهدافها هو التخلص من الإستعمار والحد من الفوارق بين طبقات الشعب والتى يتمتع فيها أعداد قليلة بخيرات البلاد فى الوقت الذى يشق فيه ويكدح الملايين دون العثور على القوت الضرورى .

مع مطلع سنة 1949 وبعد المحنة الكبرى وبعد أن عاد جيش البلاد من فلسطين ومعه مأساته الكبرى كان تنظيم الضباط الأحرار فى ذلك الوقت قد لحقته خسائر شديدة أثناء المعركة فى فلسطين وكان حتما بعد المحنة أن يعوض التنظيم تلك الخسائر التى قد بلغت إلى حد أن الضباط الأحرار قد فقدوا الإتصال بعضهم ببعض وقد بدأ الضباط على الفور لإعادة الإتصال من جديد فى هذه المرة إلى تكوين هيئة تأسيسية للضباط الأحرار ثم السيطرة على الجيش تماما بتنظيم ضخم متماسك يمكن أن يبعد شبح اليأس عن الجيش والشعب وتكونت الهيئة التاسيسية فعلا

وكانت تضم فى البداية " جمال عبد الناصر وكمال الدين حسين وحسن إبراهيم وخالد محيى الدين وعبد المعنم عبد الرؤوف " ثم تضاعف نشاط الضباط الأحرار بعد تلك الخطوة مما حتم زيادة أعضاء الهيئة التأسيسية فانضم إليها " عبد الحكيم عامر وصلاح سالم وجمال سالم وعبد اللطيف البغدادى وأنور السيادات " وفى يناير سنة 195.أجريت انتخابات رئاسة الهيئة التأسيسية وانتخب جمال عبد الناصر رئيسا لها بالإجماع و وقد تكونت فعلا قيادة للثورة المصرية داخل الجيش وكان تنظيم الضباط الأحرار كما قلت قد كبر وأصبح نشاطه مضاعفا .

وفى سنة 195.بدأت " الهيئة التأسيسية للضباط الأحرار " تعد العدة للضربة الكبرى , كان كل فرد فى تنظيم الضباط الأحرار يؤمن بأنه إما النصر وإما الموت وكان كل فرد فيهم يستمد القوة والدم بل والشجاعة من الشعب نفسه من مشاعر الجماهير وآمالها ورغباتها وسخطها الصارم على الحكام ورغبتها الصادقة فى التحرر .

خرجت المنشورات السرية لتقض مضاجع قادة الجيش ورجال القصر والحكام , وكانت منشورات ثورية " حددنا فيها أهداف الشعب بصراحة لم تحدد فيها مطلبا للجيش أولضباطه وجنوده .. كل كلمة فى تلك المنشورات مكانت مستمدة من اتجاهات الرأى العام فى البلاد .

الشعب يريد العدالة الإجتماعية ونحن ننادى بها و والشعب يريد القضاء على المستعمر وأذنابه ونحن نسجل إراداته , والشعب يلعن الأحلاف العسكرية والدفاع المشترك ونحن نطبع مئات المنشورات لتؤيد وجهة نظر الشعب ومضى كل منا يكتل ضباط الجيش فى جميع الوحدات استعدادا لبدء الحركة الشعبية "

قدر الموقف فعلا على أساس قلب نظام الحكم القائم وإحلال نظام جديد مكانه وحددت المدة لتنفيذ الخطة كاملة فى عام سنة 195.بخمس سنوات أى أن الثورة كانت ستبدأ فى سنة 1955 وليس فى يوليو سنة 1952 , وفى يناير 1951 أجريت انتخابات جديدة للهيئة التأسيسية للضباط الأحرار وأعيد انتخابات جمال عبد الناصر رئيسا للمرة الثانية .

أصر " عبد المنعم عبد الرؤوف " على إخضاع الضباط الأحرار لجماعة الإخوان المسلمين وقال وهو يحول إقناعنا بوجهة نظره أن جميع أعضاء تنظيم الضباط الأحرار يمكن ان يقبض عليهم قبل أن يتمكنوا من عمل شىء .

من يرعى أطفالهم واهلهم ؟ قلنا له نحن نعد ثورة لا مؤامرة ومصير أولادنا وزوجاتنا لا يعنينا لأن الذى نعمل من أجله هو مصير الشعب لا أطفال الضباط الأحرار وقلنا له أن ارتباط الجيش بهيئة ما يعرض البلاد للفوضى ,فالجيش يجب ان يكون خاضعا للشعب ككل وإلا جعلت منه الهيئة المذكورة أداة لتنفيذ أغراضها هى وأهدافها هى وخططه هى , وقلنا له نحن لا نستطيع أن نبيع أفكارنا ومبادئنا من أجل أطفالنا وأصر الضباط جميعا على رأيهم فى الجيش وليس جيش " الهضيبي أو الوفد أو أى جماعة معينة " .

وكان نجاح فكرة تكوين تشكيل داخل الجيش أكثر مما قدرنا ففى كل وحدة من وحدات الجيش أصبح لتنظيم الضباط الأحرار أفراد منها .

فمنذ ظهر مدى إيمان قيادة الوفد بالكفاح المسلح كانت مهزلة القنال التى كان فؤاد سراج الدين يتولاها من مكتبه بالداخلية , نعم بدأ القصر يتآمر وبدأ الوفد يتراجع لكن الرأى العام كان فى حالة من اليقظة يصعب معها خداعه وكان لابد من ضربة قاصمة تنهى المسألة قبل استفحالها فالضباط الأحرار كانوا قد بدءوا يساهمون فى معركة القنال رغم إرادة القصر وحكومة الوفد , واجتمعنا وتبين لنا أننا قد نضطر إلى تنفيذ خطتنا قبل موعدها أى قبل سنة 1955 .

وكان نجاح تكوين تشكيلات [[الضباط الأحرار] فى جميع وحدات الجيش هو أحد عاملين عملا بتقديم موعد تنفيذ الخطة , أما العامل الثانى فهو الأحداث السياسية التى طرأت على الموقف فى البلاد بعد حريق القاهرة وكان لابد من اختيار قائد للثورة لكى تبدأ الثورة معاركها مع أعداء الشعب .

كان من رأى عبد الناصر أن يكون قائد الثورة حاملا لرتبة كبيرة من رتب الجيش واقترح جمال ثلاثة اسماء :

  1. عزيز المصرى .
  2. محمد نجيب .
  3. فؤاد صادق .

وبدأت الإتصالات ب " عزيز المصرى " ولكن الرجل اصر على أن يظل أبا روحيا للثورة واقتنعنا برأيه .. ذهب " صلاح سالم " لمقابلة " فؤاد صادق " ليعرف نواياه وكان " عثمان المهدى " رئيس هيئة أركان الحرب قد استقال من منصبه ولم يكن معقولا أن يفاتح " صلاح سالم " " فؤاد صادق " فى أمر قيادة الثورة فهو لا يدرى أن هناك تنظيما للضباط الأحرار.

فكل ما يعرفه أن بعض ضباط الجيش الصغار لهم رأى معين فى الحالة وأن هؤلاء الضباط الصغار لا يتعدى نشاطهم إعلان السخط والغضب والأسى ذهب " صلاح سالم " إليه فى بيته وقال له أن الرأى العام بين الضباط في الجيش وقال له صلاح أن هؤء الضباط يمكنهم أن يساعدوه لكى يتولى هذا المنصب لهم قوة ولهم نفوذ كبير حتى اقتنع " فؤاد صادق " وآمن بأنه سيعين رئيسا لهيئة أركان حرب الجيش .

واثناء الحديث دق التليفون وتكلم اليوزباشى " مصطفى كمال صدقى " الذى كان على صلة بالقصرفى ذلك الوقت وقال " مصطفى كمال " " لفؤاد صادق " أن مرسوم تعيينه رئيسا لأركان حرب الجيش سيرفعه لمولانا فى الصباح وهنا كشف " فؤاد صادق " عن شخصيته أمام " صلاح سالم " فجأة فبعد أن أبدى استعداده لتحقيق كل رغبات الضباط وحماية مصالحهم والوقوف إلى جانبهم انقلب فجأة وقال بالحرف الواحد " إذا كنت بقيت رئيس لأركان حرب الجيش فذلك بمجهودى الشخصى أنا وبذراعى أنا ثم قال أنه سيعمل على إقامة النظام الكامل فى الجيش وأنه لن يسمح بأى نشاط ضد نظام الجيش وقال لازم تفهم أنت والضباط اللى معاك أننى سأنفذ القانون وأنصحك أنت واللى معاك تدوروا على مصالحكم ومستقبلكم ومستقبل أولادكم أحسن " .

أما " محمد نجيب " فقد كان ذلك فى الوقت قائد سلاح الحدود لم تكن له صلة بالحركة ولم يكن يدرى أن هناك فى الجيش تنظيما ضخما يعمل تحت الأرض ويعد العدة للقيام بثورة لقلب نظام الحكم , وكنا فى أواخر سنة 1951 فقد صدر الأمر بنقل " نجيب " من سلاح الحدود إلى سلاح المشاة وعين " حسين سرى عامر " مكانه ولم يكن لهذا النقل من مبرر.

وتردد فى صفوف الجيش أن " محمد نجيب " قد يستقيل بعد اللطمة التى وجهت إليه , وكان الشعور العام فى الجيش ضد " حسين سرى عامر " ذنب السراى ومن هنا كان العطف على " نجيب " حدث عقب أن سرى نبأ اعتزام نجيب استقالته أن اتصل به جمال عبد الناصر" إن الضباط يطلبون منك أن تبقى كما أنت فى سلاح المشاه ولا داعى لتقديم استقالتك " .

وقال له جمال أيضا "إن اللطمة التى وجهت إليه إنما هى موجهة للجيش ولهذا فالجيش يعتزم رد اللطمة باشد منها ومن هنا جاء ترشيحه لتولى قيادة الثورة و ومن هنا بدأ القدر يفتح أبواب التاريخ بعد اتصال جمال باللواء نجيب استعد الضباط الأحرار لرد اللطمة فعلا واجتمعنا وقررنا أن تكون اللطمة عن طريق نادى الضباط " .

بدأت الأزمة عندما رشح الملك ورجاله أعضاء مجلس إدارة نادى الضباط ورشح الضباط الأحرار فى الجيش فريقا وفاز مرشحو الضباط الأحرار بالإجماع وسقط مرشحو الملك , وعندما أراد الملك تعيين مندوب عن مصلحة الحدود فى مجلس الإدارة رفض الضباط كذلك .

هاج الملك وماج وأصدر قراره بحل مجلس إدارة النادى ثم أغلق النادى , فقرر الضباط الأحرار الطعن فى قرار الإلغاء أمام مجلس الدولة وقرروا تعيين عضو فى مجلس إدارة نادى الضباط عن قدماء المحاربين .

أما كيف انضم أحد رجال الثورة " خالد محيى الدين " ففى لقاء شخصى لى بمكتبه ذكر أن تنظيم الضباط الأحرار لم يبدأ بصورة جدية متكاملة إلا مع مطلع سنة 1949 إذ أنه عندما كان له رغبة فى منع كارثة أخرى كالتى وقعت سنة 1948 وكان لدينا شعورأن البلد هزمت سنة 48 نظرا لأن الملك دفعها إلى الحرب وكان هذا نتيجة للصراع الأنجلو أمريكى الرامى لإجهاض الحركة الوطنية المصرية " .

" ولقد كتبت أنا أحمد فؤاد عضو اللجنة المركزية " لحديتو " أول برنامج للضباط الأحرار وكان ذلك فى سنة 1951 ثم عرضناه على عبد الناصر الذى أدخل عليه بعض التعديلات , وهذا البرنامج لايوجد منه أية نسخة , ولكننى أتذكر ما احتواه من مطالب إذ كان تحليلا لواقع الحياة السياسية فى مصر ويتكلم عن سوء توزيع الثروة , ودور الإستعمار واستخدامه للإقطاع والرأسمالية الكبيرة .

كذلك حوى تحليلا لأحزاب القصر ووصل الرنامج إلى قرار فى النهاية وهو ضرورة التخلص من الإستعمار وأعوانه من الخونة المصريين وبناء جيش قوى وديمقراطية سليمة , عدالة اجتماعية , ولتحقيق ذلك لابد من بناء جبهة وطنية تضم كافة القوى والتيارات التى تؤمن بالإستقلال والديمقراطية , وفى الحقيقة فى تلك الفترة لم نكن نعارض إطلاقا فى وجود الأحزاب وهذه حقيقة تاريخية ولقد كان بسبب وجود الإخوان كأكبر قوة سياسية منظمة فى تلك الآونة .

ولقد كنت أنا وعبد الناصر وكمال حسين من الإخوان ولقد استطعنا الوصول إلى على المصحف ولكنا اختلفنا مع الإخوان وكان " عبد المنعم عبد الرؤوف " الإخوانى معنا " .

" وفى الحقيقة لم يكن عبد الناصر يمانع إطلاقا فى أن يكون لكل فرد فكره الخاص به ولكنه كان يعارض بشد أن يكون منتميا إلى تنظيم معين حتى لا يكون للتنظيمات الخارجية السياسية أية قوة على تنظيم الضباط وحتى لا يؤدى ذلك بالتالى إلى تفكك التنظيم ولذلك رفض وجود " عبد المنعم عبد الرؤوف وأخرجه " .

" اما عن وضعى أنا فقد كنت على علاقة وثيقة " بحديتو " ولكننى لم أكن عضوا بها ولقد درست النظرية فى " ايسكرا " وهى حركة فكرية ودست المبادىء , ولقد تربيت فكريا فيها وكان معى " على الشلقانى وأحمد فؤاد "وهناك أثيرت قضية الدين وقلت لهم " هل من الضرورى لكى أكون ماركسيا أن أكون ملحدا ؟

فقالوا : أننا نثير قضية الدين فقط خوفا من تأثير الدين عليك فى اتخاذك لقراراتك من ناحية وسبب موقف الدين من الفكر الجديد أننا نريد إنسانا عاملا بغض النظر عن دينه , وهذا هو المطلوب ولقد اقتنعوا فى النهاية لرأيى وأيدوه.

وفى الواقع لقد بهرنى التفكير العلمى للنظرية الماركسية المهم أننى أطلعت أحمد فؤاد على أنه هناك بالجيش تنظيم للضباط الأحرار وطلب منى أن يرى قائد التنظيم فرتبت له لقاء مع عبد الناصر وكأنه صدفة ولكن عبد الناصر أحس فيما بعد وأخبرنى بأنه شعر أن هذا اللقاء مرتب ولكنه عموما مسرورا من لقائه بأحمد فؤاد وظللنا نحن الثلاثة انا وعبد الناصر وأحمد فؤاد نلتقى منذ سنة 1949 .

" ولقد سألنى عبد الناصر عن موقفى من " حديتو " وقلت له أننى أنتمى فكريا للإشتراكية العلمية ولكننى فى الواقع لست منضما لحديتو ولذلك تعامل معى على هذا الأساس وتعامل مع أحمد فؤاد على أساس أنه ممثل لحديتو.

وكان لأحمد فؤاد مجموعة من الضباط وخاصة فى سلاح الفرسان مثل " محمد المناسترلى , والسحرتى , ومهندس جمال علام نصار ابن الشيخ نصار علام مفتى الديار الصمرية البسابق وآخرين " وكانت مهمة المجموعة كتابة العناوين على الظروف التى بداخلها المنشورات الخاصة بالضباط الأحرار وهى عملية خطيرة ولقد أشرت على عبد الناصر أن نظل محتفظين بتلك المجموعة التى تراوح عددها من ستة إلى يبعة أفراد لم أحاول أن أعرفهم كلهم وإن كنت أعرف بعضهم قلت لعبد الناصر سنظل محتفظين بهم بعاد بره التنظيم بمعنى أنهم لا يعلمون القيادات ولا الخطوات.

لقد كانت أهم عملية هى توزيع المنشورات , وكان المشرف عليها كما قلت المهندس " جمال علام " واشترك معه فى ليلة الثورة " جمال الحسينى " فى عملية السيطرة على الإذاعة المصرية ,عموما لقد قبل عبد الناصر انضمامهم بصفتهم الشخصية لا الحزبية ولذلك فقد اخذوا معاش الضباط ولقد ظلوا بعيدا وظلوا فى سلام ولم يضيروا وظلوا يعملون معنا حتى بعد الثورة ولما انضرب الشيوعيون أبعدناهم وبالتالى كما قلت ظلوا فى سلام وهم كبار السن الآن " .

" كان أول تنظيم للضباط فى سلاح الفرسان الذى قمت بتكوينه أنا وحسن إبراهيم وكمال حسين سنة 1949 و بعد لقاء عبد الناصر وإبراهيم عد الهادى , واتفقنا وقتها نحن الثلاثة وعثمان فوزى وثروت عكاشة وحسين الشافعى الذى كان آلاى وكان انضمامه دون شك قد عمال على ضم دفعة كبيرة من الضباط الموجودين تحت قيادته كنت أنا المسئول عن طبع المنشورات وكتابتها وتكوين الخلايا فى سلاح المدفعية والفرسان وللحقيقة والتاريخ لم يكتب عبد الناصر من منشورات الضباط الأحرار رسوى منشورين "أول " منشور كان قد كتبه " جمال منصور " وكيل أول وزارة الخارجية الآن ويرجع إليه الفضل فى إطلاق اسم " الضباط الأحرار " على التشكيل الناشىء فى الجيش ولقد اشترى على نفقته الخاصة ويخفى المنشورات تحت بلاط فى " سندرة منزله "

ولقد اشترك خالد فى كتابة المنشور الأول سنة 195.السابق ذكره بعد قضية الأسلحة الفاسدة ولقد استغللناها سياسيا وفى صيف هذه العام انضم إلينا " عبد اللطيف بغدادى وحسن ابراهيم وأنور السادات وحسن عزت " لقد عرفت عبد الناصر عن قرب منذ سنة 1944 وكانت فيه صفات القائد إذ كان ضابطا ناجحا وكان يربط السياسة بالإستراتيجية العسكرية عقليته منظمة لكن لم يكن لديه ثقافة اقتصادية " .

ولقد كانت مطيعتنا تطبع المنشورات وتقوم " حديتو " بتوزيع تلك المنشورات إلى أن قامت أحداث حريق القاهرة سنة 1952 ماكينة " الرينيو والتايبريتر " وكنا نداول كتابة المنشورات وكانوا إذ فى خوف من المواقبة الشديدة قمنا بنقل المعدات الى حديتو .

وفى حديتو يطبعونها ويوزعون كمية كبيرة منها , مع منشورات حديتو ويعطوننا مجموعة نوزعها وكنا لا نوزعها كلها فى يوم واحد ولا فى بوستة واحدة خوفا من المراقبة والشك , بل كنا نوزعها على أيام ومن مناطق متفرقة وكما قلت سابقا لم أكن اعرف عدد موزعى المنشورات حتى أن عبد الناصر عندما حاول معرفة أسمائهم والاسم الحقيقى لسكرتير عام " حديتو " رفضت اعطاءه الاسماء وكان ذلك سببا فى تعكير الجو بيننا لفترة من الزمن " .

دون أدنى شك كانت علاقتى وعلاقة عبد الناصر باليسار قد أدت إلى تغيير فكره إلى حد كبير فبالرغم أن عبد الناصر ابن تجربة وبالرغم أنه رفض فى البداية فكرة الصراع الطبقى وكان يشير إليها على أنه صراع حول السلطة إلا أنه بعد أن درس سنوات طويلة تلك الأفكار اقتنع بالإشتراكية العلمية وتحمس لها.

وهو لا شك تأثر بى وبأفكارى إذ كان دائم الإتصال بى فمثلا عندما طرحت مسألة الديمقراطية وموقف الجيش ومصيره بعد الثورة قلت له وجهة نظرى التى تتلخص فى أنه ما دام الجيش دخل السياسة فلن يخرج منها ولك لابد أن يوضع فى الإعتبار ألا يندمج فيها وعل جزء من الجيش أن يكون خاصا به والآخرون يعودون إلى أماكنهم بالجيش ليؤدوا دورهم التقليدى هناك " .

" إلا أن عبد الناصر رفض ذلك بعد الثورة وبعد انتصاراته المتلاحقة فى البداية ويكفى لذلك مثالا أن عبد الناصر قد اخذ بالمنهج الإشتراكى اليدمقراطى على أساس أنه أقرب إلى مصالح الجماهير وقد قبل اقتراح كل من " أحمد فؤاد وراشد البراوى " فى مشروع الإصلاح الزراعى بعد الثورة وكانت تلك أول خطوة تصوب إلى جدار النظام الراسمالى الصمرى ولذلك كان " على ماهر " يرفض مبدأ المصادرة " .

خلاصة الموقف إذن إنه لا يمكن بحال من الأحوال أن نتجاهل دور اليسار المصرى على الثورة والذى ظهر كذلك جليا على قيادتها سواء فى البرنامج السياسى للضباط الأحرار قبل تولى السلطة , موجود على المبادىء الخمسة , موجود على قوانين الإصلاح الزراعى , موجود على مبادىء باندونج , موجود فى الـتأميمات ابتداء من " تأميم قناة السويس وتأمين المصانع الرأسمالية الكبرى والميثاق وبيان 3.مارس "

والأهم من ذلك ما قاله " يوسف صبرى " من انه واليساريون قد شاركوا فى حركة الكفاح المسلح فى منطقة القناة سنة 1951 " حيث مررت بتجربة تاريخية خرجت منها مؤمنا أن لا سبيل إلى تحقيق الجلاء إلا بالقتال وأن النكسة التى أصابت الكفاح المسلح فى ذلك الوقت كان سببها تعدد القوى المشاركة فيه دون تخطيط ودون قيادة مركزية تؤمن باستمرار القتال , بل أن الإعتداء البريطانى على محافظة الإسماعيلية فى 25 يناير سنة 1952 .

ومن حريق القاهرة كان يهدف إجهاض هذا الكفاح عندما بدأت بوادر تنظيمه والتقت الآراء فى ذلك الوقت على ضرورة العمل لبدء الكفاح المسلح من جديد , واتفقت مجموعة من الأصدقاء مختلفة الإنتماءات على ضرورة اللقاء مع " يوسف صبرى " فاتجهنا فى ليلة مقمرة إلى قرية " زواية المصلوب "

وهى بلدة " يوسف صديق " عضو قيادة الثورة عبر الحقول حيث التقينا ببعض أقاربه الذين أحضروا جلاليب لبسناها وتسللنا إلى المنزل وهناك التقينا به لول مرة ودار نقاش طويل انتهى بتشكيل سمى فى ذلك الوقت " اللجنة التحضيرية للكفاح المسلح " بدأت تمارس نشاطها فى الدعوة لرأيها والاتصال ببقية الأحزاب والقوى الوطنية المختلفة وما لبث هذا النشاط أن تطور إلى تشكيل " جبهة وطنية " عريضة كان لها دور فى أحداث سنة 1954 . كان ذلك تطور الضباط الأحرار .

هذا فى الوقت الذى أراد فيه الملك أن يستغل مشاعر الضباط المصريين ليقوى الصلة بينه وبينهم اثر حادث 4 فبراير سنة 1942 وليس أدل على ذلك من أنه كان يتوجه إلى نادى ضباط الجيش سنويا فى زيادة له منذ هذا التاريخ وفى سنة 195.ولم يكن يصطحب معه أحد من المدنيين من رجال القصر فى تلك الزيارات .

ولعله لا يفوتنا فى تلك الآونة أن نسجل أنه كان هناك تناقض صارخ بين ضباط الجيش المصرى التى زادت إبان الحرب العالمية الثانية ذلك التوسع الذى أتاح لعدد ممن ينتمون إلى ابناء الأسر المتوسطة والمتوسطة الصغيرة دخول الجيش كضباط , أم الضباط الكبار فى الجيش المصرى فى ذلك الوقت فكانوا من أعوان الإنجليز فى جملتهم.

وكان الإنجليز يحسنون الرأى فيهم فويلسون فى كتابه " ثمانية أعوام عبر البحار " أشاد بالخدمات الجليلة التى أداها " إبراهيم عطا الله " رئيس هيئة أركان حرب الجيش والذى خلف " عزيز المصرى " ويرى أنه لولاه لحدثت أحداث كبيرة وخطيرة داخل الجيش المصرى نتيجة 4 فبراير والميجور " سانسوم " من جانبه يذكر أن " حجازى " مدير المخابرات العسكرية المصرية يتعاون مع السلطات البريطانية إلى أكبر حد .

لكن ماذا بالنسبة لصغار ضباط الجيش هؤلاء الذين خرجوا من صفوف الشعب حول هؤلاء لابد من ذكر حقيقتين :

الأولى : أنهم بحكم أصولهم الإجتماعية كانوا عناصر وطنية وشعبية شديدة الحماس لقضية تحرير بلادهم والإدراك بمسئوليتهم فى هذا الوقت وبالتالى فهى عناصر كارهة للإحتلال البريطانى .

الثانى : أن هذه العناصر كانت تحت تأثير معلمها الكبير " عزيز المصرى " الذى تولى منصب رئاسة أركان حرب الجيش إبان وزارة " على ماهر " سنة 1939 : 194.والمعروف بميوله القوية نحو الألمان , وكراهيته ليست فقط للإحتلال البريطانى بل وللبريطانيين .

والحقيقة أن وجود " عزيز المصرى " فى منصبه هذا فى الجيش المصرى يرتبط بالسمة العامة الغالبة على وزارة " على ماهر " . موقف " على ماهر " العاطف على المحور وكذلك موقف وزير حربيته " صالح حرب " و " عبد الرحمن عزام " وزير الأوقاف المسئول عن الجيش المرابط , الذى اعتبر القوة الإحتياطية ضد الإنجليز .

لقد ذكر " ويلسون" أن " عزيز المصرى " كان يقف بالمرصاد للبعثة العسكرية البريطانية فى مصر بمقتضى معاهدة سنة 1936 وكان فى جولاته بين وحدات الجيش المصرى يشيد أما الضباط المصريين بالعسكريين الألمان ويقلل من شأن العسكريين الإنجليز والفرنسيين .

ولا شك والوضع على هذاالنحو أن تتضارب آراء مجموعة الضباط الصغار الوطنيين مما أوقع هؤلاء الضباط فى بلبلة شديدة حول طبيعة الصراع الذى كان يدور بين المحور والحلفاء وجذب بعضهم إلى التعاطف مع المحور لاجئا ولكن كراهية وشماتة فى المحتلين الإنجليز ولابد أن تقرر للحقيقة وللتاريخ هنا أن هذا موقف غالبية الشعب المصرى .

أما عن صلة " عزيز المصرى " بالألمان فأمر لا ريب فيه فلماذا كان هدفه ذلك ؟ .على وجه الحقيقة لم يكن " عزيز المصرى " يعمل لحساب الألمان لكنه كان يعتقد – وهذه سذاجة سياسية منه – أن الألمان يستطيعون مساعدته فى تحرير مصر من الإحتلال الإنجليزى وكانت هذه هى الفكرة من وراء كافة محاولاته للهرب من مصر والإلتجاء إلى الألمان فقد كانت تراوده فكرة إنشاء جيش للتحرير على غرار ما فعله ديجول بعد سقوط فرنسا .

إن الميجور " سانسوم " لا يدع مجالا للشك بأن ثمة تنظيما سريا كان موجودا داخل الجيش المصرى وأنه كان مقسما إلى خلايا ويدعى أنه استطاع أن يتعرف على احدى هذه الخلايا بالضغط والتأثير على أحد الضباط الذى يذك اسمه كان موسى " وأن هذا الضباط كان يبلغه أنباء هذا التنظيم ومع ذلك فى حديث بين " سانسوم " و " حجازى " مدير المخابرات المصرية بالجيش المصرى كان " حجازى " يسخر بشدة من مبالغات " سانسوم " فى شأن هذا التنظيم .

ويرجعنا ذلك على القول أن تشكيل الضباط بخطة السياسى الواعى بدأ بنشاط عبد الناصر سنة 1949 أما وقت وقوع هذه الأحداث التى نحن بصددها فكان عبد الناصر فى السودان من ديسمبر سنة 39 إلى مارس سنة 1942

ومع ذلك فقد كان هناك اتجاه بين ضباط الجيش أشار إليه أنور السادات ومع ذلك فقد كان هناك اتجاه بين ضباط سنة 1938 لم يكن تشكيلا بالمعنى المفهوم بقدر ما كان تيار بين ضباط الجيش الصغار يعبر عن قلقهم بالنسبة لأوضاع وطنهم وأوضاع جيشهم ويذكر أنور السادات أن هذا التيار تحول إبان الحرب العالمية الثانية إلى تنظيم يتألف من خلايا فى عدد وحدات الجيش وكان أنور السادات حلقة الإتصال بين هذا التنظيم وبين جماعة الاخوان المسلمين , وفى هذه الأثناء حاول المرشد العام أن يتعرف على قوة التنظيم من أنور السادات وعدد اسماء افراده ولكن أنور السادات رفض باستثناء تقديمه " عبد المنعم عبد الرؤوف " لحسن البنا . .

ويجدر بنا أن نتساءل ماذا كان اتجاهات هذه المجموعة من الضباط :

أولا : بالتأكيد هى عناصر وطنية ينطلق تفكيها وسلوكها من كراهيتها الشديدة للإحتلال البريطانى وإحساسها بمسئوليتها نحو محاربة الإحتلال .

ثانيا : يزيد من توحدها مع جماهير الشعب المصرى خروج هذه المجموعة فى جملتها من أصول اجتماعية شعبية .

ثالثا : كانت هذه المجموعة تحت تأثير معلمها الأول " عزيز المصرى " المعروف بميله الشديد نحو ألمانيا وبالتالى لابد أن تضاف هذه الحقيقة الشىء الكثير على تفكيرها ومسلكها .

ولقد كان عزيز المصرى شخصية ديناميكية ووطنية فى المقام الأول وهو القطب الذى يمثل النقيض لمجموعة الضباط المصريين الكبار الذين كانوا يقفون فى جانب الإحتلال ويأتمرون بأمره .

لكن تلك الميول نحو الألمان من جانب مجموعة الضباط الصغار تختلف فيما يبدو وميول " عزيز المصرى " نحو الألمان فربما كانت القضية الساسية عند " عزيز المصرى" إعجابه المفرط بالعسكرية الألمانية.

أما بالنسبة لمجموعة أخرى من الضباط فهى فى الأساس تعبر عن كراهية للإحتلال الإنجليزى مصحوبة بإغفال غير واعى بطبيعة الصراع الدولى فى الحرب العالمية الثانية ,وبما فعلته النازية فى شعوب أوربا و فعدوهم الرئيسى هو الإحتلال البريطانى وهدفهم الرئيسى هو الإحتلال البريطانى وهدفهم الرئيسى كان إخراج البريطانيين من مصر وهم فى سبيل ذلك يرحبون بكافة القوى الأوربية التى تستطيع مساعدتهم حتى ولو كانت ألمانيا النازية .

رابعا : هذه المجموعة بحكم خروجها من صفوف الطبقة المتوسطة الصغيرة وبحكم تربيتها العسكرية شديدة التمسك بالقيم الدينية وقد أغواها هذا العامل بالإتصال بجماعة الإخوان المسلمين التى كانت بدورها قد نشطت نشاطا ملحوظا فى سنة 1941 باقتراب الألمان من الحدود المصرية فى عهد وزارة "حسين صبرى " .

كان ذلك إذن مجمل أحوال الجيش المصرى وقت حادث فبراير , ولكن الجيش أخذ فجأة بالحادث فلم يتمكن تنظيمه الصغير من الضباط الوطنيين المتحمسين من ان تعمل شيئا وقت وقوع الحادث وأن كان بعض ضباط الطيران قد ذهبوا إلى القصر بعد ذلك مباشرة وقابلوا " أحمد حسنين " فهدأ من ثورتهم ورجاهم ألا يزيدوا من تأزم الملك ومما هو جدير بالذكر أنه حتى ذلك الوقت لم تكن هذه المجموعة تحمل للملك تقديرا كبيرا فكما ذكر " سانسوم " أنهم كانوا يكرهون فاروق ولكنهم كانوا يكرهوننا بدرجة أكبر " .

خلاصة الموقف أن تنظيم الضباط الأحرار الذى تكون رسميا فى سنة 1949 , وإن كانت بذوره قد بدأت مع احداث فبراير وأحداث فلسطين , لا يمكن إغفال أهمكية الفئات الإجتماعية التى انتمت إليها الضباط الأحرار والتى كانت تحمل شعاراتها وحماسها أمانى طبقاتها وإحساسهم بالظلم الإجتماعى الكبير والمفاسد التى تفشت فى البلد ككل سواء فى الجيش أو خارجه , ولعل كل همهم الأول هو التخلص من الإستعمار وأعوانه فى الداخل ولقد تطلب ذلك التخلص من رأس الفساد وأعنى به الملك .

الفصل السابع

الثورة المصرية بين الفكر والتطبيق

مقدمات الثورة

عرفنا فى الفصل السابق أن تنظيم الضباط الأحرار الذى بدء بمجموعة من الضباط المتمردين على الأوضاع الفاسدة فى مصر , إلى تنظيم متكامل يقوده " جمال عبد الناصر " وبهيئة تأسيسية تكونت من عضوية بعض الضباط الأحرار ممن أصبحوا فيما بعد اعضاء قيادة مجلس الثورة .

ولقد اتضح أن جمال عبد الناصر كان عقل الثورة وملهمها .. فيذكر لنا أنورالسادات : " أنه إلى هذه اللحظة مثلا وبعد مضى تسع سنوات على الثورة من أحد منا سواء الذين كانوا فى مجلس قيادة الثورة أو خارجها يعلم بالضبك عدد الضباط الأحرار , ومن هم الذين خرجوا يوم 23 يوليو سنة 1952 ومن هم الذين لم يخرجوا إلا فردا واحدا هو جمال " .

وما زلنا بين الحين والآخر نسمع أسماء ضباط لا نعرفهم فيقول عمل جمال أن فلان هذا خرج يوم 23 يوليو وكان يقود الوحدة الفلانية , وفلان تأخر ساعتين عن موعد وصوله إلى المنطقة الفلانية , ولكن جمال يرفض إلى يومنا هذا وسيظل يرفض أن يصرح بأسماء بعض الضباط ممن خانتهم شجاعتهم فى اللحظة الأخيرة فلم يشتركوا فى الثورة ساعة قيامها , إيمانا منه بالمبادىء التى اختارها لنفسه , نفس المبادىء التى جعلت من الثورة 23 يوليو عملا جديد ونهجا مستقيما يقوم على الخلق والتمسك بالمبادىء .

" لقد كان جمال عبد الناصر يعتقد أن أسباب الثورة المصرية لم يقتصر على دوافعها التى سبق شرحها كحرب فلسطين وأحداث فبراير , أو الفساد الذى عانت منه البلاد إنما كان كل الأسباب مجتمعة وليس صحيحا أن ثورة 23 يوليو قامت بسبب النتائج التى اسفرت عنها حرب فلسطين.

وليس صحيحا كذلك أنها قامت بسبب الأسلحة الفاسدة التى راح ضحيتها جنود وضباط وأبعد من ذلك عن الصحة ما يقال من أن السبب كان أزمة انتخابات نادى ضباط الجيش و إنما الأمر فى رأيى أنه كان أبعد من هذا وأعمق ولو كان لضباط الجيش أن يثورا لأنفسهم لأنه قد غرر بهم فى فلسطين.

أو أن فضيحة الأسلحة الفاسدة أرهقت أعصابهم أو لأن اعتداء وقع على كرامتهم فى انتخابات نادى ضباط الجيش , لما كان الأمر يستحق أن يكون ثورة ولكن أقرب الأشياء إلى وضعه أنه مجرد عذر حتى وأن كانت الأسبابا التى أدت إليه منصفة عادلة فى حد ذاتها لقد كانت هذه كلها أسباب عارضة وربما كان اكبر تاثير تستحثنا إلى الإسراع فى طريق الثورة ولكننا كنا من غيرها نسير على هذه الطريق " .

ولقد كان الضباط الأحرار وجمال عبد الناصر التخلص من الإستعمار فى المنطقة العربية ككل ومصر خاصة إيمانا منهم بأنه العدو الأول " إن الإستعمار هو القوة الكبرى التى تفرض على المنطقة كلها حصارا قاتلا غير مرىء أقوى وأقسى مائة مرة من الحصار الذى يحيط بخنادقنا فى "الفالوجا" وبجيوشنا جميعا وبحكوماتنا فى العواصم التى كنا نتلقى منها الأوامر , ولقد بدأت بعد أن استقرت كل هذه الحقائق فى نفسى أوؤمن بكفاح واحد مشترك وأقول لنفسى ما دامت المنطقة واحدة وأحوالها واحدة ومشكلاتها واحدة ومستقبلها واحد والعدو واحد – ومهما يحاول أن يضع على وجهه من أقنعة مختلفة – فلما تشتت جهودنا , ثم زادنى تجربة إيمانا بهذا الكفاح الواحد وضرورته "

الشىء الذى لا يمكن إغفاله أن مراحل الاعداد للثورة بعد تكوين مجموعة الضباط أنه قد تخللتها محاولات غير منطقية أو بمعنى أدق محاولات لتحسس الطريق الصحيح وإن لم تكن بالإيجابية المطلوبة , كالإلتجاء مثلا للإغتيالات السياسية إذ أشار عبد الناصر فى معرض حديثه إلى تلك المحاولات فقال " لقد أحسست منذ انبثق الوعى فى وجدانى أن العمل الإيجابى يجب أن يكون طريقنا ولكن أى عمل

وأعترف ولعل النائب العام لا يؤاخذنى بهذا الإعتراف أن الإغتيالات السياسية توجهت فى خيالى المشتعل فى تلك الفترة على أنها العمل الإيجابى الذى لا مفر من الإقدام عليه إذ كان يجب أن ننفذ مستقبل وطننا ولم أكن وحدى فى هذا التفكير و ولما جلست مع غيرى انتقل بنا التفكير إلى التدبير , وما أكثر الخطط التى رسمتها فى تلك الأيام , وما أكثر الليالى التى سهرتها أعد العدة للأعمال الإيجابية المنتظرة , كانت لنا أسرار هائلة وكانت لنا رموز , وكنا نسهر بالظلام وكنا نرص المسدسات بجوار القنابل وكانت طلقات الرصاص هى الأمل الذى نحلم به ..

وقمنا بمحاولات كثيرة على هذا الإتجاه وما زلت أذكرحتى اليوم انفعالاتنا ومشاعرنا ونحن نندفع فى الطريق إلى النهاية .. والحق أننى لم أكن فى أعماقى مستريحا إلى تصور العنف على أنه العمل الإيجابى الذى يتعين علينا أن ننقذ به مستقبل وطننا , ورويدا رويدا وجدت الفكرة

– أى فكرة الإغتيالات السياسية التى توهجت فى خيالى

– تخبو جذوتها وتفقد قيمتها فى قلبى لتحقيق العمل الإيجابى المنتظر " .

عموما لقد كان تطور الأحداث يدفع بأعضاء التنظيم إلى الإسراع بالقيام بالثورة هذا فى الوقت الذى لم يكن لديهم ايديولوجية معينة باستثناء المبادىء الستة التى اعتبروها الأهداف الأولى لهم واعتقدوا أن بالممارسة ستتبلور النظرية ..

والإنصاف يجعلنا نذكر أنه أيضا لم يكن من أهداف أعضاء التنظيم ممارسة الحكم بمعنى القيام بثورة من أجل الوصول إلى الحكم .. ولقد ذكر عبد الناصر فى خطابه الذى القاه فى 25 نوفمبر سنة 1961 أمام اللجنة التحضيرية للمؤتمر الوطنى " ذلك حيث قال " يوم 23 يوليو لم يكن فى خاطرنا بأى حال من الأحوال أن نستولى على الحكومة ولكن كنا نعبر عن أمل الشعب فى القضاء عل الملكية الفاسد والقضاء على حكم أعوان الإستعمار , وكنا نعتقد أننا قد نستطيع أن نضع المبدأ السادس أو الهدف السادس من أهداف الثورة وهو " حياة ديمقراطية " نطمئن إليها ويطمئن لها الشعب

ولكن كان لنا طلب واحد هو أننا حين ننفذ الهدف السادس لم يكن لنا بأى حال من الأحوال أن نهمل الأهداف الخمسة الأخرى وكنا نرى أن تتعهد الأحزاب وأن يتعهد الوفد بالذات بوضع هذه الأهداف موضع التنفيذ على أن الظروف قد تغيرت بعد ذلك بما حول مسار الثورة لتبقى فى الحكم وتمارس التغيير الثورى " .

لم تكن الثورة إذن تنوى البقاء فى الحكم ولكنها أيضا لم تكن لديها أيديولوجية محددة ولقد اتضح ذلك من حديث عبد الناصر للتليفزيون الأمريكى ايضا فى 26 أغسطس سنة 1961 حيث قال :

" منذ تسع سنوات لم تكن هناك خطة ولكن كان هناك ستة مبادىء أساسية " .

وفى خطابه فى الإجتماع الأول " للجنة التحضيرية للمؤتمر الوطنى " قال " إحنا ظروفنا جت فى التطبيق الثورى تطبيقنا الثورى يمكن سابق النظرية " , وفى نفس الخطبة قال " ما كنشى مطلوب منى أبدا فى يوم 23 يوليو أنى أطلع معايا كتاب مطبوع وأقول إن هذا الكتاب هو النظرية مستحيل لو كنا قصدنا نعمل الكتاب ده قبل 23 يوليو ما كناش عملنا 23 يوليو لأن مكاناش نقدر نعمل العملين مع بعض " .

والواقع يجعلنا نذكر أن الاعداد للثورة فى تلك المرحلة كان يدفع برجالها إلى البحث عن قائد يوجهها إلى الطريق الذى كانت تعلمه ويعلمه الجماهير ..

حتى الكتاب البارزين أنفسهم كانوا ينادون يضا بضرورة وجود مثل هذا القائد , ولعل أحد هؤلاء الكتاب وأعنى به " توفيق الحكيم " فى كتابه " عودة الروح " ذكر تلك الحقيقة غذ قال " مصر فى حاجة إلى زعيم معبود يلهمها الكل فى واحد " هذه رنت فى ذهب عبد الناصر رنينا قويا وأيضا إلغاء الأحزاب واحكم بنفسك وبمفردك , ولكن بمضامين , جاء عبد الناصر ولم يباشر الثورة فى إطار شكلى , " فلم يكن يهمه الشكل فترك الشكل ودخل فى المضمون , كما كنت أتمنى وإلا لما كنت تحمست له بهذه القوة " مقدمات الثورة :

كان من المتفق عليه فى اجتماعات الهيئة التأسيسية للضباط الأحرار التى تشكلت سنة 1951 أن يكون سنة 1955 هو العام الذى تقوم فيه الثورة .

وأنا أقول " يا بنى كان من المتفق عليه لأن قرارا بذلك لم يصد وإنما كان ذلك تقديرا مبنيا على الحساب الدقيق الذى كان يحسبه جمال كعادته يوما بيوم منذ أن تولى أمر ههذ الثورة سنة 1943 أى قرابة تسع سنوات .

وفى خلال هذه السنوات التسع استطاع عمك جمال أن يطور الفكر من عمل حماسى لا يرتكز على تنظيم أو يقوم على مبادىء ثابتة إلى عمل ثورى متكامل يقوم على الوعى بدلا من الحماس ويرتكز على تنظيم محكم له أهداف وحددة واضحة .

وكانت نظرية عمك جمال أن الثورة من غير تنظيم قزى يسندها ويشد من أزرها لن تكون لها ثمرة ولن يكتب لها البقاء شأنها شأن أية معركة حربية لن يكتب لك الفوز فيها إلا إذا كانت مؤمنة تستند بظهرها إلى ما يسمى فى الفن العسكرى " بالقاعدة الثابتة " وهى القاعدة التى تؤمن لك احتياجاتك من قبل المعركة , وفى أثنائها بحيث تستطيع أن تضمن تدفق الثورة وتجددها فى شرايين قواتك فى كل الظروف ومهما كانت الظروف .

وكان عمك جمال يطلق تعبير " القاعدة الثابتة " على تنظيم الضباط الأحرار بعد أن فقد الشعب ثقته فى القادة والأحزاب وأخذ يتطلع إلى قواته المسلحة فى أمل مكبوت أمله الوحيد الباقى فى الصراع من اجل حريته , لذلك كان عمك جمال يصر على أن يستكمل تنظيم الضباط قوته كاملة قبل أن تنطلق منه الثورة ومن أجل ذلك تحدد مبدئيا سنة 1955 لبدء الثورة ولكن الأقدار كانت قد أعدت تاريخا غير ذلك التاريخ ومهدت لذلك سلسلة من الأحداث وقع أولها فى نهاية سنة 1951 حينما ألغيت مصر معاهدة التحالف مع بريطانيا .

وأذكر يا ابنى أن الهيئة التأسيسية اجتمعت فى الأسبوع الأول من يناير سنة 1952 فى منزل عمك : حسن إبراهيم : برآسة عمك جمال عبد الناصر ولكى نبحث الموقف الذى كان يتدهور بسرعة ويسوء يوما بعد يوم فبالرغم من أن تشكيل الضباط الأحرار كان يمد حركة المقاومة التى قامت فى منطقة القناة ضد جنود بريطانيا عقب إلغاء المعاهدة بألسلحة والذخائر والضباط.

إلا أن الصورة قائمة لأن الوزارة الحزبية كانت فى الحكم وقتئذ لم تكن تعنى المكسب الحزبى , هذا فضلا عن أنها لم تكن تستطيع المضى حتى فى هذه المقاومة الكسيحة لأنها ككل وزارة حزبية أخرى عبارة عن باشاوات كل همهم هو أن يؤثروا السلامة مع الجاه والمنصب وجمع المال , يضلف على ذلك أيضا أن ملك البلاد الذى يقاوم شعبها جنود بريطانيا , وجنارالاته فى الجيش المصرى .

فالشعب كان يحقد على الملك , ويحقد على الأحزاب وأصبح الحكم والحكومة هما أعدى اعداء الشعب ولن يستفيد من كل ذلك إلا العدو الأجنبى الذى يتربص ببلادنا من داخلها وهما بريطانيا التى عرفها العالم وعرفناها نحن سيدة المؤامرات والدسائس واقتناص الفرص للسيطرة على الشعوب من داخلها وفى هذا الإجتماع وبعد دراسة شاملة أصدرت أول قرار يا بنى بتحديد موعد الثورة وكان شهر نوفمبر سنة 1952 على أن يبدأ فى الحال بتعبئة كل قوى الضباط الأحرار داخل القوات المسلحة لمواجهة أية أحداث قد تطرأ , لقد كان لأعضاء التشكيل أسباب منطقية دعتهم إلى اختيار وتحديد هذا التاريخ بالذات .

أولا : الاستفادة من تنقلات القواتالتى تتم فى شهر يوليو كل سنة لكى تحشد فى القاهرة وحدات كاملة من وحدات الجيش وكان ضباط أركان الحرب الذين ينظمون هذه التحركات من الضباط الأحرار.

ثانيا : أن يكون الملك والوزراء قد عادوا من مصيفهم على القاهرة لكى تكون الضربة واحدة وكاملة وسريعة من غير حاجة إلى معارك أو دماء وفى نفس هذا الإجتماع كلف عمك عبد الحكيم عامر بعمل تقرير كامل للموقف , وهو العمل الذى يتم دائما قبل إعداد أية خطة لأنه عبارة عن دراسة دقيقة لكل شىء من وجهة نظر الأعداء الذين كان مفروضا أن نواجههم .

ثم بدأ عبد الناصر يحضر الإجتماعات المستمرة لجان الضباط الأحرار فى مختلف أنحاء القاهرة إلى أن كان يوم 25 يناير التى ضربت فيه قوات بريطانيا المسلحة الأسلحة والمدافع دار محافظة الإسماعيلية , حيث توجد قوات البوليس المصرى المجردة من كل سلاح اللهم إلا من بنادق الحراسة القديمة وهدفها قتل الضباط وجنود البوليس البواسل الذين أبوا أن يسلموا كما طلب منهم قائد الإمبراطورية المظفر .

وكان رد الفعل مفاجئا ومذهلا فى اليوم التالى وخاصة بعد أن فقد الشعب ثقته فى الحكم , إذ احترقت مدينة القاهرة , وعاشت العاصمة الجميلة فى فوضى مروعة لعدة ساعات كلف العاصمة كثيرا من العناء .

" وصلتنا هذه الأنباء وبدأنا نفكر فى تقديم موعد قيام الثورة لكى يكون يوليو 1952 بدلا من نوفمبر لأن أمورا بدأت تعود إلى شبه الستقرار مما إدعا الملك لأن يعدل عن فكرته , وفى بحر خمسة أشهر سقطت وقامت خمس وزارات , كل وزارة منها تدنس أرضها وتسب عرضها والملك لاه فى القمار والسهرات والشعب يعانى من هذا العبث الذى شمل مصيره ومقدراته , وبريطانيا تقف من هذا المشهد المنتظر الذى خرج من المعركة بكل الأساليب وجاء شهر يوليو سنة 1952 ..

وصمم جمال أن يجرب قوة التنظيم أو القاعدة الثابتة فى معركة حقيقة لكى يعرف مدى صلابته وكانت معركة انتخابات مجلس إدارة نادى الضباط الذى خاضها التنظيم بقائمة قد نجحت بكاملها , وكان أول عمل لهذا المجلس هو تحدى الملك علانية برفضه ضم عضو ما إليه وسقط رغم تزكية الملك.

ثم جاء النصف الأول من يوليو سنة 1952 وميعاد الثورة لا يزال كما هو فى نوفمبر ولكن الأقدار عادت فتغير هذا الحساب أيضا إذ ما لبثت الوزارة الخامسة أن استقالت فى 19 يوليو وباستقالتها بدأت الأحداث تتلاحق فتخلق موقفا جديدا إذ جاءت أنباء من الأسكندرية بأن الملك سيعهد بوزارة الحربية إلى جل من رجاله هو نفس الرجل الذى سقط فى الإنتخابات بالنادى رغم تزكية الملك له , وكان معنى هذا أن صراعا لابد أن ينشأ بين تنظيم الضباط وبين الوزير الجديد من أجل البقاء , وكان قرار بدء الثورة .

" لم يكن غرض التنظيم من خوض معركة نادى الضباط الإنتقام من " حسين سرى عامر " ورد اللطمة للقصر فقط , بل إن انتصارنا فيها سيكون بداية عظيمة للمعركة الكبرى القادمة معركة قلب نظام الحكم , فمعركة الإنتخابات إذا خضناها تكون أول معركة علنية يخوضها الضباط الأحرار ضد القصر , كذلك فإن الجيش بعد انتصارنا فى معركة النادى سوف تسرى فيه روح جديدة , ويكون الانتصار اختبارا لروح التضامن بين القوات المسلحة كمجموعة واحدة تقف خلف تنظيم الضباط الأحرار " .

" كذلك فالملك سوف يشعر بهزيمة عملائه فى تلك الإنتخابات ومضينا نستعد للمعركة الأولى بيننا وبين القصر , وشعر القصر بأن فى الجيش نشاطا مريبا فأصدر أمرا بتأجيل انتخابات نادى الضباط , صدرت الأوامر لجميع الضباط الأحرار بأن يتوجه عدد منهم فى 31 ديسمبر 1951.

وهناك أعلنوا على الفور احتجاجهم على أمر تأجيل الإنتخابات ثم طلبوا دعوة الجمعية العمومية للإجتماع بعد ثلاثة أيام بواسطة رياسة الجيش لتقرير ما تشاء ولم نكن نتوقع أن تستجيب رياسة الجيش لهذا التحدى فاستجابت للطلب وتمت عملية الإنتخابات , وهنا وزع الضباط الأحرار كشف مرشحيهم للإنتخابات ومن ضمن هؤلاء اللواء " محمد نجيب " .

ونجحت خطة التنظيم فكل الذى سجلنا أسماؤهم فى قائمة الإنتخابات نجحوا بأغلبية ساحقة وليس هذا فقط بل رفض تعيين مندوب من سلاح الحدود فى مجلس إدارة النادى كذلك كسبنا المعركة حسب الخطة الموضوعة فقدارتفعت الروح المعنوية بين جميع أفراد القوات المسلحة وازددنا ثقة فى معركتنا وفى أعمالنا .

وفى يناير سنة 1952 وقع حريق القاهرة واجتمعنا على الفور لنغير خططنا كلها وكان الإجتماع فى منزل " حسن إبراهيم " وقررنا أن نكون مستعدين على استعداد خلال شهر واحد وبذلك تغيرت الخطة .. وأثناء الحريق صدرت الأوامر لجميع الضباط الأحرار الذين فى القاهرة لمقاومة أعمال التخريب ".

كانت وزارة " على ماهر " التى تكونت عقب حريق القاهرة عبارة عن خدمة أراد القصر والإستعمار لها التمهيد لحكم البلاد بالحديد والنار ثم تصفية الحركة الوطنية نهائيا على أيدى الخونة والأذناب وأصحاب المصالح المتناقضة مع مصالح الشعب " .

وفى شهر مايو سنة 1952 طلب " محمد نجيب " عقد الجمعية العمومية لنادى الضباط بناء على رغبة سامية وهو موضوع قبول عضو من سلاح الحدود ورفض الطلب بالإجماع أن آخر شىء كان يتوقعه " محمد نجيب " هو أن يقلب نظام الحكم بواسطة الجيش , وكان يعلم أن فى الجيش تنظيما سريا ولم يعرف اى شىء عن الضباط الأحرار وأن كان تصرف جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر وصلاح سالم .

على أساس أن لهم رأيا عاما فى الجيش فقط , ولم يكن يخطر على باله أن " جمال عبد الناصر وعبد الحكيم وصلاح سالم " الذين يراهم أحيانا كما يرى عشرات غيرهم من الضباط كل يوم يعدون العدة لكى يفتحوا أمامه أبواب التاريخ ليوقولوا له تفضل أنت زعيم , هذا هو وضع محمد نجيب سنة 1952 " .

وإذا كان هذا هو رأى أحد رجال الثورة وأعنى به أنور السادات فى دور " محمد نجيب " فالعدالة تقتضى أيضا أن نحاط علما أيضا برأى " محمد نجيب " نفسه ووجهة نظره ..

ولعل فرصتنا قد أتيحت عندما أصدر " محمد نجيب " كتابه كلمتى للتاريخ " فلقد ذكر " أنه تولى قيادة اللواء العاشر الضارب بالإضافة إلى الواء الرابع " وكانت عودتى لجبهة القتال تمثل عندى انتصارا شخصيا كبيرا , وكانت فى نفس الوقت دافعا لى على اتخاذ موقف إيجابى ضد هؤلاء الذين يعبثون بقدراتنا فى الخلف , وكنت لا أتردد فى التصريح " بأن عدونا الرئيسى ليس هو اليهود بقدر ما هم هؤلاء الرجال الذين يرتكبون خلف ظهورنا الآثام والموبقات ويطعنون شرفنا بما يرتكبون من حماقات وانحرافات ولم أترك يوما واحدا يمض دون الإتصال بمن اثق فى رجولتهم من الضباط , احرضهم على إجادة القتال وأحرضهم فى الوقت نفسه على الإهتمام بما يدور فى العاصمة " .

" وكان الصاغ أ- ح عبد الحكيم عامر قد عين أركان حرب للوائى , ولقد وجدت فيه ضابطا ذكيا دقيقا وعندما سمعنى أردد هذه الآراء ذهب إلى صديقه البكباشى أ . ح جمال عبد الناصر وقال له كما أخبرنى فيما بعد " لقد عثرت فى اللواء محمد نجيب على كنز عظيم " هذا ولقد قابلت فى هذه الفترة النشطة عدد كبير من الضباط ولم يكن حديثنا يخرج عن إطار ضرورة تغيير الأوضاع فى مصر " .

" صحيح أن رؤيتنا فى هذه المرحلة لم تكن قد وصلت إلى حد عزل الملك وإقامة الجمهورية ولكن اهتمامنا تركز على الأخطاء المباشرة التى تعانى منها , مثل ضعف القيادات الكبيرة وعدم قدرتها على تحوي الجيش إلى قوة محاربة , وفساد رجال الحاشية وما يحيط بهم من مباذل صارخة والعمولات الهائلة التى أحاطت بصفقات الأسلحة " .

وخلال حلقات الحديث تعرفت بالبكباشى أ . ح . جمال عبد الناصر والصاغ أ . ح . كمال الدين حسين والبكباشى أنور السادات والصاغ أ. ح . صلاح سالم الذين ضمهم مجلس الثورة فيما بعد , وتعرفت إلى عدد كبير من الضباط الذين كانوا يتحدثون بنفس اللغة .. ولقد عرف جميع المقاتلين فى فلسطين لأنى كنت أتولى قيادة القوة الضاربة أولا ولأن المشادة بينى وبين " المواوى " كانت أحد الأسباب الرئيسية التى أدت إلى استبداله فى القيادة ثانيا " .

" ورغم أنى كنت محسوبا من ناحية السن والرتبة من كبار الضباط إلا أننى كنت منجذبا دائما إلى صغار الضباط أجد فيهم الوهج الذى كان يخبو فى صدور أبناء جيلنا , ولكن المناقشات المتصلة جعلتنا نصل إلى قرار تنظيمى هو أن يكون اتصالى بعدد محدود حتى لا تثير شبهة لجهة المراقبة المعادية باعتبارى ضابطا كبيرا أصبحت له – رغم أنفه – شهرة واسعة فى صفوف الجيش " .

ويذكر اللواء " محمد نجيب " أنه كان له دور فى حركة الضباط بل وأنه كان على علم بالتنظيم وحجمه وأن كان دائما يتلاشى الإحتكاك بالضباط لكونه معروفا من جهة وبعد أن قام بتقديم مذكرة للوزارة الوفدية شارحا فيها أسباب شكوى وتذمر الضباط بالجيش فلقد كتب " بادرت فكتبت مذكرة من تسع صفحات وذهبت لمقابلة " فؤاد سراج الدين " عن طريق عضو برلمانى وفدى وصديق مشترك ونافشت معه ما ورد فى المذكرة من أسباب تذمر الجيش وهزيمة فلسطين .

فطلب منى " فؤاد بااش " شطب توقيعى على المذكرة ولكنى رفضت قائلا أنى متحمل كل التبعات والمسئوليات المترتبة على ما ورد بها , وطلبت منه رفعها إلى الملك وإلى " النحاس باشا " قائلا له بالمثل البلدى " اللى يزمر ما يغطيش دقنه " ولم استلم ردا على المذكرة ولم أكن فى الحقيقة اتوقع ردا " .

كذلك يذكر " محمد نجيب " أنه كان مشاركا فى مرحلة الإعداد للثورة خاصة بعد أحداث حريق القاهرة سرعان ما دبرت بعض الأيدى الأثيمة حريق القاهرة فى 26 يناير سنة 1952 فمزقت معه كفاح الشعب فى القناة وأضعف الأمل فى التحرر والإستقلال وأقيلت حكومة الوفد وبدأنا تشاور بطريقة جدية لتغيير الأوضاع جذريا وكنت ألاحظ أن جهاز الحكم قد ضعف إلى حد كبير فبدأت في اتخاذ أسلوب المواجهة الفعلية .

نعود مرة أخرى إلى أحداث انتخابات نادي الضباط التي اعتبرها التشكيل اختيار لمدى صلابتهم في مواجهة أعدائهم فيذكر "محمد نجيب " أن انتخابات نادي الضباط كانت المظهر العلني لحركتنا السرية والإختيار الديمقراطي لإدارة ضباط الجيش والكلمة الأولى في حركتنا ليلة 23 يوليو سنة 1952 " .

وانتخابات النادي كانت تتم في هدوء خلال السنوات السابقة لا يكاد أحد من المهتمين بالسياسة يلقى بالا إليها لأن المرشحين كانوا يتبارون على خدمة زملائهم وتوفير أفضل الوسائل تم بإرادتنا والبعض فرض علينا فرض.

"استقراري على أن أرشح نفسي رئيسا لمجلس إدارة النادي لجس نبض الحالة في الجيش وتحديا للملك الذي نقلني من سلاح الحدود , وأشعل معركة الإنتخابات إصرار الملك على ترشيح اللواء " حسين سري عامر " رئيسا للنادي , وكأنه هو الذي يلقي القفاز في وجهي .

واجتمعت الجمعية العمومية للضباط وقررت أنه لا يجوز ترشيح اللواء " حسين سري عامر " لأنه من الحدود وهي لا تعتبر سلاحا لأنها تضم ضباطا من مختلف الأسلحة .

قررت ذلك وأعلنت عن موعد الإنتخابات دون استجابة لرأي الملك , وكانت فترة الإنتخابات فرصة هائلة للإلتقاء مع الضباط في ناديهم بالزمالك الذي كان قد ضم إليه مبنى " الإتحاد المصري الإنجليزي " الذي لعب دورا رئيسيا في توجيه السياسة المصرية خلال الحرب العالمية الثانية "

لم أكن المرشح الوحيد للرئاسة كان ينافسني ثلاثة ضباط أخرين أحدهم اللواء " حافظ بكري " مدير سلاح المدفعية واللواء " إبراهيم الأرناؤوطي " مدير المهمات واللواء "سيد محمد" مدير الصيانة , ولم تكن النتيجة غريبة لأنها نابعة من إدراك الضباط لحقيقة هامة وهي أنهم لا يجوز أن يعطوا أصواتهم لقيادة تقليدية تسير في ركب السراي والسلطة بلا وعي ولا إدارة.

حصلت على عدة مئات من الأصوات وحصل الثلاثة الآخرون جميعا على 58 صوتا فقط , ونجح في مجلس الإدارة أيضا عدد من الضباط المرتبطين بنا والذين كنت أعرف ذلك عنهم نجح القائم مقام " رشاد مهنا " سكرتيراللنادي , ونجح في عضوية مجلس الإدارة كل من البكباشي " زكريا محي الدين " وقائد الجناح " حسن إبراهيم " والصاغ " جمال حماد ".

ولكن الملك لم يقبل هذه النتيجة أو هذه الهزيمة .استدعاني الفريق " محمد حيدر " إلى مكتبه ومعي " رشاد مهنا " وقال لنا " في صراحة أن أوامر " مولانا " أن يدخل " حسين سري عامر " مجلس إدارة النادي.هكذا بدون لف ولا مواريه .

وقلت لحيدر : أن هذا ليس من حق مجلس الإدارة .بل هو من صميم اختصاص حقوق الجمعية العمومية فإذا أصر مولانا فسأعقد الجمعية العمومية وأعرض الأمر عليها.واستمرت الجاسة سبع ساعات حتى الثانية صباحا في حوار ونحن لا نتزحزح عن موقفنا شعرة رغم ظهور نبرة تهديد صريحة في حديث "حيدر" وعندما أعيته الحيل.

وحاول الملك محاولة أخيرة لتعديل لائحة النادي عن طريق الجمعية العمومية بما يسمح بإدخال " حسين سري عامر " ممثلا للحدود ولكنه منى بالفشل أيضا " " وهنا كان صبره فيما يبدو قد نفد فأصدر أمرا بحل مجلس بحل مجلس إدارة النادى وتعيين مجلس مؤقت يرأسه شقيقى " على نجيب " ولم تكن هذه الحركة تدل على أى إسقاط من الذكاء لأنها أشعلت غضب الضباط كالنار فى الهشيم " .

وفكرنا فى القيام بتحريك القوات فى الأيام التى أعقبت حريق القاهرة ولكن الموقف فيما يبدو ولم يكن ناضجا لذلك , وأصبحت أمامنا بعد حل مجلس إدارة النادى ثلاث طرق مفتوحة :

أولا : إرسال برقيات احتجاج من الضباط إلى الملك , ولكنى كنت ضد هذا الرأى لأنه كان سيكشف أسمائنا أولا ولن يستجيب الملك له ثانيا .

ثانيا : كان متطرفا إلى حد ما وهو احتلال النادى بالقوات المسلحة وهو ما تحاشيناه دائما حرصا على ألا يقتل مصرى إبنا من أبناء وطنه .

ثالثا : تجميع كبار الضباط واعتقالهم وفرض شروطنا على الملك وكان هذا الحل هو ما وافقت عليه وقررنا الأخذ به .

" وكنت على ثقة تامة من أن الشعب والجيش ما ينتظران حركة تغيير الأوضاع القائمة وكان عجز الوزارات التى شكلت بعد حريق القاهرة حافزا علنيا على تحقيق خطتنا كنا نلعب لعبة مكشوفة الكل يلمس أن شيئا ما يحدث فى صفوف الجيش يعبر عن ذلك انتظام منشورا الضباط الأحرار ولكن التفاصيل والأسماء كانت إلى حد ما مجهولة وفوجئت يوما باللواء " أحمد فؤاد صادق " يزورنى فى مكتبى ويروى لى همسا أنه كان فى منزل الدكتور " يوسف رشاد " سوف يقبض على اللواء " محمد نجيب " لاتهامه بتزعم حركة ثورية داخل الجيش ..

واستطرد " أحمد فؤاد صادق " قائلا أنه قد نفى نفيا قاطعا وأن " يوسف رشاد" قال إن المسألة خطيرة لأنها تتعلق بحياة الملك , ورغم ذلك فإنه يبدو قد اقتنع على حد تعبيره وأصبحنا فى سباق مع الزمن وكانت وزارة نجيب الهلالى قد استقالت وتولى " حسين سرى " رئاسة الوزارة الثالثة خلال ستة شهور بعد حريق القاهرة "

" وفى يوم 18 يوليو حضر إلى بعد الغروب بقليل رجل أعرفه وطلب منى الذهاب لمقابلة " محمد هاشم باشا " وزير الداخلية وزوج بنت " حسين سرى " والرجل القوى فى وزارته .

وهناك أدار هاشم الحديث وعرض على محمد نجيب منصب وزيرالحربية إلا أن محمد نجيب رفضها لاعتقاده بأنه محاولة ما لإبعاده بأية طريقة عن الجيش ثم أدار هاشم الحديث فجأة ليسألنى عما إذا كان تعيين وزير حربية ترضى عنه ويعتبر كافيا لإزالة أسباب التزمر وخلق حالة من الرضا بين الضباط , واستطرد متسائلا عما إذا كنت أنا شخصيا أقبل هذا المنصب ؟ وكان الاقتراح مفاجئا ولكنى أجبت بالرفض مباشرة متعللا بأن وكالة وزارة الحربية عرضت على ورفضتها وإنى لا أفضل عن مكانى فى الجيش شيئا " .

بعد أن أحس الضباط بأن الحكومة والملك على علم تام بأن هناك تنظيما قويا ويستعدون للقضاء عليه " عقد الضباط اجتماعا فى 16 يوليو سنة 1952 سريعا حضره " جمال وحسن إبراهيم وكمال حسين وعبد الحكيم عامر وخالد محيى الدين وبغدادى " وكان ذلك الاجتماع هو أخطر اجتماعات الهيئة التأسيسية الذى كان بعض أفرادها فى فلسطين ورفح فى ذلك الوقت وفى ذلك الإجتماع تقرر بدء المعركة الكبرى ..

النهائية وكان يجب علينا أن نأخذ بمبدأ المساواة حتى لا نؤخذ على غرة ويتوصل جواسيس القصر إلى معرفة اشخاص الضباط الأحرار وتشكيلاتهم فى أسلحة الجيش المختلفى, وكان هناك خطتان نواجه بهما الموقف :

الأولى : هى تنفيذ الخطة الأساسية فى القيام بقلب نظام الحكم وإقامة نظام جديد فإذا لم يكن ممكنا أى إذا جاءتنا أحداث جديدة أو ظروف طارئة تؤجل الخطة الأولى وتنفذ الخطة الثانية وهى كانت تقضى بالقيام بحركة اغتيالات على نطاق واسع ..

كنا فى 18 يوليو شهرالثورة وعندما استعرضنا الخطة اعترض عليها جمال عبد الناصر " وقال إن الإغتيالات لن تحقق أهدافنا لأن النظام سيبقى كما هو لو نجحت خطة الإغتيالات وأضاف أيضا أن هذه الخطة سوف تعطى القوى الرجعية مجتمعة تنقض فيها على جميع الضباط الأحرار وبهذا تكون قد ضيعنا الفرصة الكبرى على الشعب فرصة قيام القوات المسلحة وهى أمل البلاد الوحيد لقلب نظام الحكم " .

" وفى 19 يوليو كانت الهيئة التأسيسية للضباط الأحرار توالى اجتماعاتها فى تلك الأيام التاريخية الرهيبة بالأحداث , وأبلغ جمال أنه يمكن تنفيذ الخطة الأساسية بالقوات الموجودة , وقال إن ذلك يمكن أن يتم ليلة 21, 22 يوليو " .

" قلت أنا كنا فى 19 يوليو وكانت الأوامر قد صدرت إلى مجموعات الضباط الأحرار وكان على كل مجموعة أن تنفذ دورا معينا فى الخطة .. وكان جمال هو الذى وضع الخطة العامة وعاونه فيها عبد الحكيم عامر وكمال حسين , وكان عبد الحكيم عامر فى أجازة مرضية وتم وضع الخطة العامة ثم كلف عبد الحكيم بوضع الخطة التفصيلية , واستعان عبد الحكيم بزكريا محيى الدين .. وفى 2.يوليو أى قبل الثورة بثلاثة أيام توجه جمال وعبد الحكيم إلى بيت " محمد نجيب " لإبلاغه بأنه الزعيم والقائد ومحرر البلاد الذى سيقلب نظام الحكم .


" وطرق جمال باب البيت وكان عند نجيب البكباشى " جلال ندا والصحفى محمد حسنين هيكل " وكان الأنظار قد اتجهت إلى نجيب فى ذلك الوقت بعد أزمة مجلس إدارة – نادى الضباط – وأقول مرة ثانية وثالثة ورابعة وألف أن نجيب لم يكن يعلم لماذا جاء جمال وعبد الحكيم وربما ظن أن اثنين جاءا لمواساته بعد حل مجلس إدارة النادى وتشجيعه كالعاد وتظاهر جمال وعبد الحكيم أنهما جاءا للإستفسار عن صحة اللواء وبدأ الحديث فى موضوع آخر غير مشروع الثورة , فلا أحد فى الحجرة كان يعلم ماذا فى رأس جمال وعبد الحكيم " .

دار الحديث إذن حول موضوع نادى الضباط فقد كان ذلك هو حديث الناس فى ذلك الحين , وقال عبد الناصر " إحنا عاوزين نرفع قضية أمام مجلس الدولة ومحتارين مين اللى يرفعها وقال " جلال ندا "

أنه مستعد أن يرفع القضية باعتباره ضابطا على المعاش وعضو فى النادى ومضى جمال فى نهاية الشوط فأخرج ستة جنيهات وأعطاها لجلال ندا كمصاريف القضية ولم يتكمن جمال وعبد الحكيم من الإنفراف بنجيب وظلا فترة طويلة وأخيرا لم يجدا بدا من الإنصراف دون أن يفاتحاه فى مسألة الثورة وهو لم يكن يدرى ماذا فى رأسيهما وبعد تلك الزيارة فى 2.يوليو لمس عبد الناصر أنه ربما يكون من الخطر على الثورة الإتصال بنجيب مرة ثانية

أو ربما كان فى ذلك موضوعا تحت المراقبة وأمام هذا الخطر قرر جمال الإتصال بنجيب بعد نجاح الخطة أى بعد القيام بالثورة وجاء يوم 21 يوليو ولم تكن الخطة التفصيلية قد فرغ منها وأجلت العملية من ليلة 21 , 22 يوليو إلى 22 – 23 يوليو حتى يمكن استدعاء جميع الضباط الأحرار الذين لا يزالون فى أجازة , وكان " كمال حسين " هو حلقة الاتصال بهم ليبلغهم تطورات الموقف أولا بأول فماذا حدث بعد 21 يوليو ؟ أى قبل الثورة بيومين اثنين أن نجيب لم يعرف , كان لا يزال ينتظر فى منزله حل أزمة نادى الضباط , أما نحن فكنا ننتظر حل أزمة الحكم " .

كانت تلك أحاسيس الضباط الأحرار عند بداية الثورة وبالتحديد حتى قبل القيام بيومين , والتى اشار فيها [[محمد أنور السادات|السادات] إلى أن " نجيب " لم يكن لديه إطلاقا أية معلومات عن موعد الثورة , فى الوقت الذى ينفى ذلك " محمد نجيب " ويعلن فيه أنه كان على دراية بكل شىء ويذكر أيضا أن المقابلة التى اشار إليها السادات والتى قال فيها أن عبد الناصر وعبد الحكيم لم يفاتحا محمد نجيب فى أسباب حضورهما.

يؤكد فيها نجيب أنها تمت وأنهما تكلما فى كل شىء تفصيليا .. " كنت أعرف محمد حسنين هيكل فقد كان مراسلا حربيا أثناء معركة فلسطين حضر لتغطية الموقف عقب معركة أشدود " كما أنى عرفته بالمحامى " عبدالحميد صادق " الذى كان يصرف من جيبه الخاص على كتائب الفدائيين فى معركة الكفاح المسلح ضد الإنجليز بالقناة سنة 1951 وذلك ليعمل تحقيقا صحفيا عن الفدائيين ..

وأثناء جلستنا فوجئت بحضور البكباشى جمال عبد الناصر والصاغ عبد الحكيم عامر على غير موعد , ولكا وضح من حركتهما أنهما يريدان أن يسرا إلى بشىء ما أخذتهما من الصالون إلى غرفة الطعام المجاورة .. ولكن بعد أن طلب هيكل أن أقدمه لهما وكان اللقاء الأول معهما .. وفى هذه الجلسة تحدد موعد الثورة .

كان جمال وعبد الحكيم يرغبان أن تكون يوم 4 أغسطس لسببين :

أولهما : اكتمال وصول الكتيبة 4 مشاه إلى القاهرة فى معركة التنقلات العادية .

ثانيهما : هو أن يكون الضباط قد حصلوا على مرتباتهم فى أول الشهر .

ورفضت السببين فإن القوات التى كانت معنا تعتبر كافية لإنجاز مهمتنا وليس هناك مبرر للتأجيل منأجل استلام المرتبات . وحسمت الأمر بتوضيح الخطر الذى يهددنا جميعا والذى لمح له وزير الداخلية . وفى جلستى معه الليلة الماضية واتفقنا على أن تحركاتنا يجب أن تتم خلال أيام محددة حتى تحقق عنصر المفاجأة . سباق رهيب من الزمن .

الإجتماعات التنظيمية لا تنقطع مع الضباط الأحرار الذين فوجىء أغلبيتهم بتحديد الموعد. وكنا قد قررنا ألا تعطى للسلطات فرصة للشك بتقليل اتصالاتى الشخصية .

حيث كانت الأضواء كلها مسلطة على , وكنت مركز اهتمام أجهزة الأمن التى لم يكن ينقصها الشك فى وإن كان ينقصها المعرفة نظرا لاعتقال المتصلين بى , ولقد علمت من بعض الأصدقاء أن الملك قد وجه لوما إلى " حيدر باشا " لأنه لا يعرف القائمين بهذا النشاط الثورى قائلا له " يجب عليك ان تطرد من الجيش اللواء محمد نجيب والإثنى عشر ضابطا الذين يعملون معه وأنت تعرفهم " كما أكدت هذه الحقيقة رسالة تليفونية من الأسكندرية تلقاها البكباشى ثروت عكاشة بسلاح الفرسان يوم 2.يوليو من زوج شقيقته أحمد أبو الفتح رئيس تحرير المصرى .

" وكان مضمونها أن هناك معلومات بأن حركة اعتقالات قد تقررت لعدد من الضباط " ." ولقد تأيد ذلك فيما بعد عندما وجدنا فى مفكرة اللواء حسين فريد رئيس هيئة أركان الحرب أسماء عدد من ضباط الثورة وقد تقرر نقلهم خارج القاهرة وكان مقدرا إلى أن أصبح قائدا للمنطقة الجنوبية فى منقباد بمديرية أسيوط .. وتقرر أن تكون الحركة ليلة21-22 يوليو .

ثم أجلت يوما واحدا لإبلاغ أكبر عدد من الضباط الأحرار وتجهيز الوحدات وإبلاغ المناطق الخارجية .وفكرنا فى تضليل أجهزة الأمن بسفرى خارج القاهرة إلى قريتى " النحارية " مركز كفر الزيات على ان أرجع عائدا ليلة الحركة .

ولكنا صرفنا النظر عن ذلك حيث وجدنا أنه لن يكون صعبا على قوات البوليس السياسى أن تتبعنى كما أن وجودى بالقاهرة اعتبر ضروريا للرجوع إلى عند أية مفاجأة .. وكانت دهشتى بالغة عندما أذيعت أنباء استقالة وزارة " حسين سرى " وعودة نجيب الهلالى ولم أكن أعتقد أن أمور السلطة قد وصلت إلى هذا الحد من الإهتزاز .

ووصلتنى أخبار مؤكدة بأن الملك أراد أن يفرض " حسين سرى عامر " وزيرا للحربية ولكن نجيب لم يوافق فقرر تعيين صهره زوج الأميرة فوزية الأميرالاى " إسماعيل شيرين " وكان يعمل مديرا لشئون فلسطين تحت رئاستى بسلاح الحدود وكان يعاونه البكباشى " محمود رياض " أمين الجامعة العربية الحالى .. وتأكدت أن هذه الخطوات الغير متوقعة سوف تكون سندا لحركتنا وتخلق لها رأيا عاما مؤيدا فى صفوف الجيش والشعب معا " .

أحداث الثورة المصرية

بعد أن تقرر القيام بثورة يوليو وتحدد مبدئيا موعدها , كان على الضباط البحث عن قيادة جديدة , وقوية تقود حركتهم كما قلت وسأقول دائما أن الثورة المصرية كان عليها فى سنة 1952 أن تجد قيادة لها , قيادة غير وفدية لأن الوفد انسلخ من الشعب عندما ضمت قيادته الإقطاعيين , وغير قيادة السعديين والأحرار الدستوريين , الذين يمثلون مصالح الصفوة هؤلاء اذين خلقهم الإستعمار والقصر والرجعية المصرية , وغير قيادة الإخوان لأن الإخوان أهدافهم هى استغلال الدين لمصالح الرجعية .

أين إذن كان يمكن أن تظهر قيادة شعبية للثورة المصرية , وفى أى الصفوف بين هذه الملايين المصرية المستفيدة , يمكن أن يخرج زعماء يوليون وجوههم شطر الشعب ويعطون ظهورهم للإستعمار والقصر , ليس هناك سوى القوات المسلحة كما قلت فهى الصفوف التى تضم ألوف المصريين المسلمين.

والضباط والجنود الذين تضمهم تلك القوات وليسوا مربوطين بأية مصالح مع القصر وحاميهما الإستعمار , فقيادة الثورة المصرية تكون فى هذه الحالة خاضعة لمصالح الشعب ويمكن أن تقف صلبة فى الطريق الذى يخدم تلك المصالح .. وكانت منشورات الضباط الأحرار تعلن أهداف التنظيم الضخم الذى قلب نظام الحكم فى البلاد والمنشورات كانت تحدد اتجاهات الشعب تماما السياسية والإجتماعية وكانت صدى لما يعتمل فى صدور الملايين من المصريين .

" وفى كل صباح كانت تلك المشورات تحمل اهداف القيادات الجديدة إلى الشعب من الجنود والضباط , الضباط الأحرار كانوا منذ انتشروا بالعشرات فى جميع وحدات الجيش حتى أن إدارة المخابرات , وهى أخطر أجهزة الجيش , وامنها كان للضباط الأحرار رجالا فيها وتحددت ليلة 22 , 23 يوليو للبدء فى العملية , لقد ظهرت القيادة الجديدة .

" وفى الطائرة التى تسافر إلى العريش فى كل يوم اثنين كان " حسن ابراهيم " يحضر فيها وقد أرسله " جمال عبد الناصر " إلينا , " صلاح سالم " " جمال سالم " وأنا , جاء ليبلغنا أن الخطة الأساسية ستنفذ ما بين 23 يوليو , 5 أغسطس , وطلب حسن أن يسافر فورا لمقابلة " جمال " وقال " جمال سالم " أنه مادامت الخطة ستنفذ خلال هذه الفترة فإنه سيبقى فى العريش لينهى بعض الأعمال العاجلة ثم يطير إلى القاهرة يوم الخميس وتركت " حسن إبراهيم " لأعود إلى رفح سريعا وأعددت حقائبى على الفور ثم استأذنت من قائدى فى السفر بعد أن أخبرته أن والدتى مريضة جدا , وفى صباح 22 يوليو كنت جالس فى قطار القاهرة .

" وفى نفس اليوم كان " جمال " قد ذهب إلى منزلى بسيارته الأوستن المشهورة , ولميجدنى ولم يعرف البواب دار السينما التى ذهبت إليها وعاد " جمال " ليسأل مرة أخرى بعد ساعة فلما لم يجدنى ترك لى بطاقة مع البواب متب عليها المشروع ينفذ الليلة , المقابلة فى بين " عبد الحكيم " الساعة 11 وجمال فى تلك الليلة كان يلف بسيارته فى جميع أنحاء القاهرة كالنحلة تماما ليوزع الأوامر عل الزملاء .

" بعد عودتى ارتديت ثيابى العسكرية , ولم أجد بدا من التوجيه إلى مبنى الرياسة بالجيش وهناك وعند قشلاق العباسية , أوقف أحد الضباط سيارتى , ولما رأى رتبتى خاطبنى بلهجة حاسمة مليئة بالحزم بالرغم أنه كان يوزباشي لكنه كان من الضباط الأحرار , قال لى أن لا أذهب إلى وحدتى فى لصباح وأن أكون فى انتظار أوامرجديدة.

وعلمت أن تلك كانت صيغة الأمر الذى بلغه الضباط الأحرار إلى جميع الضباط منرتبة بكباشى فما فوق , وتابعت سيرى فوصل إلى قشلاق السوارى وكان الطريق هناك مقفلا , وتأكدت أن العملية بدأت فعلا خاصة بعد أن سمعت أصوات مئات الطلقات , وهى صادرة من ناحية مبنى القيادة وأردت أن أمر من " الكوردون " الذى وضعته قواتنا ولكن الضابط المسئول منعنى وكان صارما جدا معى لأنى لا أعرف كلمة السر ." كان موقفى رهيبا فعلا لعدم معرفتى بكلمة السر وعليه لن يسمح لى الضابط الصغير أن أمر من " الكوردون " إلا على جثته .

وعدت بسيارتى ثم اضطررت إلى اللف من فوق كوبرى القبة لأمر من المدخل الثانى للكوبرى الذى يواجه مستشفى الجيش , وهناك وجدت الطريق مغلقا أيضا , ولكن أول كان يعمل معى فى رفح , وهو يعرفنى شخصيا فقد قضينا معا وقتا طويلا فى مكان واحد , وما كدت أقترب منه حتى سمعت صوت الملازم صديقى وهو يمنعنى من الإقتراب , ثم وه يقترب منى نظر لوجهى وعلى وجهه علامة لا تبشر بالخير , فبالرغم من أنه عرفنى إلا أنه كان يعلم أنى من الضباط الأحرار.

فألق القبض على فى الحال , وفجأة أضاء الأمل مرة ثانية فى صدرى وكنت مع الملازم صديقى الذى قبض على فوق الكوبرى , فسمعت صوتا من بعيد يشبه صوت " عبد الحكيم عامر " واجتاحنى شعور بالخلاص , كان الصوت القريب إلى نفسى , يصدر التعليمات إلى قوات كثيرة ويحدد لها أماكنها, وفى هذه اللحظة كانت العربات المحملة بالجنود والضباط تمر من أمامى أنه قواتنا بدأت تقلب نظام الحكم , ووجدت نفسى أنادى بأعلى صوتى يا حكيم أنا أنور , ورأيت شبح عبد الحكيم يقترب منا , وهنا فقط أفرج عنى صديقى الضابط .

" ومضيت مع عبد الحكيم لم يكن معى سلاح وناولنى عبد الحكيم طبنجة وهو فى تلك الليلة كان يحمل كل أنواع الأسلحة الصغيرة ,وبدأت أسأل " عبدالحكيم " فى لهفة عن الموقف وكان صوته لا يزال يدوى كالرعد من حولنا وقال عبد الحكيم رئاسة الجيش سقطت وصمت ثم عاد يرد على أسئلتى فى هدوء عجيب ,قال لى الطلقات التى أنت سامعها دى عملية تطهير بمبنى الرئاسة ولم يقل " عبد الحكيم " فى تلك اللحظة أنه هو الذى قاد الجنود فى تقدمهم , واقتحم بهم المبنى وهو يحمل طبنجة تماما مثلما فعل ذات يوم فى فلسطين , عندما تقدم وفى يده مسدس ومن خلفه عساكر واقتحم مستعمرة نيتالية " وكان تصرفه ذاك اليوم أشبه بالأساطير التى يرويها لنا أجدادنا ..

وفى مساء الحادية عشر مساء 22 يوليو توجه آخر ضباط المخابرات وهو اليوزباشى " سعد توفيق " وقد كان من الضباط الأحرار , وأبلغ " عبد الناصر " أن الخطة اكتشفتها رئاسة الجيش , وأنه " حسين فريد " رئيس هيئة أركان حرب الجيش قد دعا قوات الوحدات الى مؤتمر عاجل فى مبنى الرئاسة , وكان معنى ذلك أن الثورة لن تقوم بعد أن عرفت قيادة الجيش خطة الضباط الأحرار .

.. أقول لم يتراجع " جمال " بل قرر القبض على هؤلاء القواد الذين دعاهم " حسين فريد " للإجتماع فى مبنى الرئاسة وفى منزل الوقت وبعد كل التطورات كان اللواء " نجيب " لا يزال فى منزله , لا يى شيئا ولا يسمع شيئا .

ولكن " محمد نجيب " يذكر أنه كان بالطبع على علم بكل شيء إلا أنه هو الذي أخبر " عبد الحكيم عامر " بموعد اجتماع اللواء "حسين فريد " وحذره قائلا " علمت من شقيقي اللواء " علي نجيب " أن مؤتمرا سوف يعقد في القيادة العامة يحضره اللواء " حسين فريد " " وقادة الأسلحة لا تثير الشبهات " لأنه من أركان حربي السابقين , وقررت أن يتم اعتقالهم أثناء وجودهم في المؤتمر حقنا للدماء , وأعطيت تعليمات بذلك " لعبد الحكيم عامر " " وكانت خطة التعليمات التي وضعها " زكريا محي الدين " المدرس بكلية أركان الحرب في ذلك الوقت تقض بأن أبقى في المنزل حتى تتم الحركات العسكرية ثم أذهب إلى رئاسة أركان الحرب لتولى القيادة لأن اعتقالي أو إثارة الشبهات حولي يفسد الخطة".

وبقيت ساهرا في المنزل لأضلل المراقبين وأطمنئهم , وكان بعد منزلي في الزيتون عن طريق تحركات الجيش باعثا على قلقي وشغفي لمعرفة ما يحدث , ولكني في سبيل السرية وانتصار الحركة قاومت عواطفي وظللت طوال اليوم أنفث الدخان في غليوني الصغير , وبعد دقائق طلبني على تليفونيا وكأنما يستوثق من وجودي أولا , ثم أبلغني أن بعض ضباط البوليس قد أبلغوه أن قوات من الجيش تتحرك إلى قصر عابدين , ولكني طمأنته طالبا منه ألا يثق بهم وأن عليه أن يتحرك بنفسه إلى للتأكد من صحة ذلك , وكنت أعرف أن قصر عابدين خارج خطة التحركات في هذه الليلة ".

" ثم فكرت في إرتداء ملابسي وأخرج , وليكن ما يكون ولكن الإلتزام بالخطط العسكرية شرط من شروط نجاحها , ونحن قد قتلنا هذا الموضوع بحثا , وانتهى الرأي على ألا أتحرك إلا إذا تاقيت مكالمة تليفونية بنجاح الهجوم على القيادة العامة لأني إذ كنت مراقبا فسوف يتبعونني وقد يقبضون علي وتتعرض الخطة كلها للفشل .

" تحرك الجهاز الصامت فجأة وعلا صوته ورفعت السماعة فإذا المتحدث مرتضي المراغي وزير الداخلية , و" فريد زغلول " وزير الدولة وهما يقولان لي أن بعض أولادك قائمون بإضطراب في كوبري القبة ورجاؤنا أن تمنعهم حرصا على مصلحة الوطن وقلت لهم أني لا أعرف شيئا عن ذلك , ولما ألحوا في الرجاء وعدتهم خيرا , وأغلقت السماعة وقد بدأ الأمل في النجاح ينعش نفسي.

" لم تمض دقائق حتى علا رنين التليفون واستبدت بي الإثارة فقد خامرني يقين بأن اللحظة الحاسمة التي كنت أترقبها قد حانت وأمست التليفون بلهفة شديدة وسرعان ما دب الإطمئنان إلى قلبي فقد طرق سمعي صوت الصاغ " جمال حماد " وقتئذ أنه سيرسل إلى ثلاثة عربات مصفحة لإحضاري من المنزل ولكني أخبرته بأن لا داعي لذلك , فإنني سأركب فورا عربتي الأوبل الصغيرة التي يقودها سائقي الخاص توفيرا للوقت.

" وصلت كوبري القبة وهناك تلقاني بعض ضباط الثورة وانتقلت من عربتي إلى عربة جيب دخلت بها مركز قيادة الجيش , ولم أجد " حسين فريد " في مكتبه وإنما وجدت ضباط الثورة ينصتون وقوفا للبكباش " يوسف صديق ".

الذي كانت قواته القادمة من " هايكستب " في ضواحي القاهرة البعيدة , هي أول قوات تحتل القيادة وتعتقل اللواء " حسين فريد " وتنقله إلى معسكر الإعتقال في الكلية الحربية المواجهة لها , والتف حولي الضباط كلهم أولادي الخمسين وهم بعدما زالوا في ربيع العمر لم يتجاوز أكبرهم الخامسة والثلاثين , وبدأنا نتلقى البلاغات من الوحدات المختلفة , وقد نفذت الخطة في القاهرة تماما , واعتقل معظم قادة الأسلحة والخدمات , وتم اعتقال الباقين في الصباح , ولم يكن هناك لواء عامل في الجيش يوم 23 يوليو 1952 ينعم بحريته سواي حتى شقيقي " علي " دخل المعتقل مع زملائه.

وما إن أشرق الصباح حتى تلقيت مكالمة من رئيس الوزراء " أحمد نجيب الهلالي " يدعوني فيها للذهاب إلى الأسكندرية ولكني اعتذرت عن عدم إمكانية تلبية هذا الطلب ولما استفسر مني عن طلباتنا قلت له أننا نطالب بالآتي :

  1. تكليف علي ماهر بتشكيل الوزارة.
  2. تعييني قائدا عاما للقوات المسلحة.
  3. طرد "محمد حسن " و"حلمي حسين " و" أنطن بوللي " من حاشية الملك .

وقد رأيت تقديم هذه الطلبات للملك , حتى إذا رضخ وقبلها عرفت أنه في مركز ضعيف وأنه لا يستند إلى قوات الاحتلال , كما نمى إلى علمي.

انتهت المحادثة لأتلقى محادثة آخرى من " مرتضى المراغي " وزير الداخلية الذي كان قد وصل إلى القاهرة بالطائرة وهو يدعوني لمقابلته ولكني قلت له إذا كان يطلب أن ألتقي به فليحضر إلى قصر القيادة وسأرسل له حرسي الخاص لإحضاره ولكنه بدلا من الحضور عاد على الطائرة نفسها إلى الأسكندرية

" كان البيان الأول للثورة قد بإسمي في السابعة صباحا – بصوت " أنور السادات " – وأردت أن ألمس أثر هذا البيان في نفوس الجماهير , وقررت أن أخرج إلى الشارع." وعدت إلى مقر القيادة وفي عيني صورة الشعب المبتهج , وفي أذني أصوات التأييد ومنحني ذلك قوة أنستني الجهد والتعب وعدم النوم.

بالرغم من التسلسل الذي أورده " محمد نجيب " عن أحداث هذا اليوم العظيم غير أن " أنور السادات " يعترض على ذلك ويدعي أن أول اتصال بنجيب قد تم بعد القيام الثورة , حيث ذكر : " أنه تم في الساعة الثالثة من صباح يوم 23 يوليو بعد أن سيطر الضباط الأحرار على جميع قوات مصر المسلحة في القاهرة وخارج القاهرة.

بدأت في الثالثة صباح 23 يوليو أول اتصالات بين قادة الجيش الجديد أعني الضباط الأحرار وبين " محمد نجيب " وكان يتكلم من منزله , وقد قال بالحرف الواحد , " المراغي اتصل بي من الأسكندرية وقال لي روح هدي الحالة في رئاسة الجيش هيه إيه الحالة يا جمال " قال جمال " " لنجيب " بالحرف الواحد في الثالثة من صباح 23 يوليو الضباط الأحرار قاموا بالثورة الليلة والثورة نجحت والمنطقة العسكرية محاصرة , وإحنا عيزينك تيجي , حنبعتلك عربية تجيبك , وهكذا عرف نجيب لأول مرة حكاية الضباط الأحرار .

وفي الساعة الخامسة صباحا وصل نجيب إلى رئاسة الجيش , وفي هذا الوقت كان " عبد الحكيم عامر " جالسا بعد البيان الذي أذاعه على الشعب في الصباح من محطة الإذاعة "

وكان معنى البيان الذي استهل بنداء يا أيها المواطنون :

" اجتازت مصر فترة عصيبة في تاريخها الأخير من الرشوة والفساد , وعدم استقرار الحكم , وقد كان لكل هذه العوامل تأثيرا كبيرا على الجيش , وتسبب المرتشون والمغرضون في هزيمتنا في حرب فلسطين.وأما فترة ما بعد الحرب فقد تطافرت فيها عوامل الفساد , وتأمر الخونة على الجيش.وتولى أمره أما جاهل أوفاسد حتى تصبح مصر بلا جيش يحميها.

وعلى هذا فقد قمنا بتطهير أنفسنا , وتولى أمرنا في داخل الجيش رجال نثق في قدرتهم وخلقهم , ولابد أن مصر كلها ستتلقى هذا الخبر بالابتهاج والترحيب , وأما من رأينا اعتقالهم من رجال الجيش السابقين فهؤلاء لن ينالهم ضرر , وسيطلق سراحهم في الوقت المناسب , وأني أؤكد للشعب المصري أن الجيش اليوم كله أصبح يعمل لصالح الوطن ,في ظل الدستور مجردا من أي غاية .

" وأنتهز هذه الفرصة فأطلب من الشعب ألا يسمح لأحد من الخونة , أن يلجأ إلى أعمال التخريب أو العنف لأن هذا ليس في صالح مصر , وأن أي عمل من هذا القبيل سيقابل بشدة , لم يسبق لها مثيل , وسيلقى فاعله جزاء الخائن في الحال , وسيقوم الجيش بواجبه هذا تعاونا مع البوليس , وأني اطمئن إخواننا الأجانب على مصالحهم وأرواحهم وأعمالهم , ويعتبر الجيش نفسه مسئولا عنهم والله ولي التوفيق " .

ولقد كانت خطة الثورة الأساسية تعتمد على مراحل ثلاثة :

أولا :السيطرة على القوات المسلحة .

ثانيا : السيطرة على البلد.

ثالثا : طرد الملك.

" وفي الأسكندرية كانت حكومة البلاد والملك يرقبان ما سوف يجري بعد ذلك في حيرة وربما كانت الحكومة والملك بل وكل أعداء الشعب كانوا لا يتوقعون أن يمض الجيش إلى أبعد من هذا , لقد ظنوا أن المسألة لا تعدوا طلبات يريد هؤلاء الضباط تحقيقها , ثم ينتهي أن الأشكال , وكنا نعتقد أن تنفيذ المراحل الثلاث للخطة الأساسية ربما استغرق وقتا طويلا بدء العملية , ولكن ما أن انقضى نهار 23 يوليو حتى كانت السيطرة على الجيش قد أصبحت مطلقة , بل أن الذي كان يرى حال البلد في منتصف نهار ذلك اليوم كان يقطع بأن الجيش قد سيطر عليها أيضا.

تمت إذن مرحلتان من الخطة الأساسية في أقل من أربعة وعشرين ساعة لقد كانت معجزة لم نتوقع أن تتم على الإطلاق , في كل هذا الوقت القصير جدا ولم يبق أمامنا إلا المرحلة الثالثة , طرد الملك ثم بعد ذلك تمضي في تحقيق أهداف الثورة المصرية "أما عن المرحلة الثالثة , وأعني بها طرد الملك , فلقد ذكر " محمد نجيب" أنها بدأت بأن توجهت مع " أنورالسادات " إلى منزل " علي ماهر " بالجيزة.

وعرضت عليه تولي رئاسة الوزراء , التي أبلغتها " لنجيب الهلالي " والتي أبلغت إلى الطيار " مصطفى صادق " عم الملكة "ناريمان" الذي رابط هذا الصباح على سور القيادة العامة في كوبري القبة

وافق " علي ماهر " بشرط أن يصدر أمر التكليف من الملك صاحب السلطة التشريعية وافقت طبعا فقد كنا في هذه اللحظة لم نحدد موقفنا تحديدا نهائيا من الملك , رغم أننا قدرنا احتمال عزلة بالقوة إذا اعترض على مطالبنا الخاصة بتحسين حال الجيش وكان اتفاقنا السريع على اختيار " علي ماهر " مبنيا على أساس أن علاقته الوثيقة بالملك تسهل عمليتنا , وأنه غير مرتبط بحزب من الأحزاب مما قد يورط الثورة بعلاقتها في الأيام الأولى , إن الكثيرين يثقون به فوق أنه له خبرة قديمة.

هذا إلى أن لي به معرفة شخصية , وعلاقات منذ زمن طويل , نظرا لاهتمامه بموضوع السودان واتصل بي " علي ماهر " في الساعة الثانية والنصف ليبلغني أن الملك قد كلفه بتشكيل الوزارة , وطلب مني زيارته فتوجهت إليه وكان مشرق الوجه شديد الحيوية , أخذ يحاورني طوال الجلسة لمعرفة موقف الجيش من الملك شخصيا , ولكني طمأنته تماما , وأبديت له أن مجرد الإستجابة لمطالبنا ينتهى كل شىء ..

ويبدو أنه اقتنع لأنه صارحنى بأنه يود تشكيل وزارته من نفس الوزارء الذين ألفوا معه الوزارة بعد الحريق . " وقابلت على ماهر مرة ثالثة فى الصباح الباكر من يوم الخميس 24 يوليو قبل سفره إلى الأسكندرية لمقابلة الملك .. وتمت المقابلة ظهر اليوم .. وصرح بعدها على ماهر بأن الملك قد قبل كل مطالب الجيش .. وأنه وقع مرسوما بتعيينى قائدا عاما وترقيتى إلى رتبة الفريق .. كتحصيل لأمر واقع بعد أن وقعت البيان الأول بصفتى قائدا عاما .

" وصل الملك متأخرا فى سباقه مع الزمن .. إذ كنا قد قررنا فى اجتماع طويل استمر ليلة 23 , 24 يوليو أن نعزل الملك .. وقررنا ألا يعرف على ماهر هذه الحقيقة .. وفى هذا الإجتماع أيضا قررنا إرسال بعض المدرعات والمدفعية لدعم قواتنا بالأسكندرية استعدادا لعزل الملك .. وكنت قد اتصلت بالأسكندرية عصر يوم 23 يوليو ورد على اليوزباشى " أحمد حمروش " مبلغا بأن كل قوات الأسكندرية موالية للحركة وكلفته أن يراقب الغرب إلى مرسى مطروح لأننى علمت أن " حسين سرى عامر" قد هرب ولم يقبض عليه وأن هناك احتمال فراره إلى ليبيا .

" وكانت قوات الأسكندرية فى ذلك الوقت . لا تتجاوز لواء مشاه . وبعض وحدات مدجفعية السواحل والمدفعية المضادة للطائرات . وقد لا تكون كافية لحصار الملك وإخراجه فى هدوء .. وكلفت البكباش " زكريا محيى الدين " بإعداد خطة تحريك القوات إلى الأسكندرية وحصار الملك .. وذلك امتداد للخطة التى وضعتها لتحريك القوات بالقاهرة ..

وكان حضور أعضاء مجلس القيادة قد اكتمل لأن بعضهم لم يشارك فى خطة العمليات ليلة الحركة حيث كان جمال سالم فى العريش .وصلاح سالم فى رفح وعبد اللطيف البغدادى وحسن إبراهيم فى المنزل أيضا فى انتظار احتلال القيادة للتحرك مع بعض القوات لاحتلال المطارات .وقد نفذ فعلا فى صباح 23 يوليو .

" وبدأ تحرك القوا بالأسكندرية القائم مقام " أحمد شوقى " قائد الكتيبة 13 مشاه التى أد دورا بارزا ليلة الحركة .ليقود المشاه .. والبكباش يوسف صديق قائدا لمدفعية الميكانيكية والبكباش عبد المنعم أمين قائدا للمدفعية .. وسافرت بالطائرة صباح يوم 25 ومعى يوسف صديق وجمال سالم وأنور السادات وحسين الشافعى وزكريا محيى الدين إلى الأسكدنرية .

كانت الخطة للتنفيذ فى نفس اليوم ولكن البكباش زكريا محيى الدين طلب التأجيل يوما واحدا لعدة اعتبارات أهمها أن الجنود لم يناموا منذ قام الحركة . وأن الطابور المدرع تنقصه بعض التجهيزات الإدارية وحاول جمال سالم الإعتراض . بدعوى أننا أيضا لم ننم منذ بدأت المعركة .

ولكنى حسمت الموقف بتأجيل العملية إلى السبت 26 يوليو حتى يستريح الجنود . " وكان هناك أمام أعضاء قيادة الثورة مشكلة وهى تحديد مصير فاروق .هل يقبض عليه ويحاكم ؟ هل يعدم ؟ هل يكتفى بخلعه من العرش ؟ وبدأنا نبحث مصير فاروق , وكان جمال سالم أكثر الموجودين حماسة لإعدام فاروق .

أو محاكمته مستندا فى ذلك إلى أخطائه التى ارتكبها .والضحايا الذين سقطوا نتيجة لها .وتأثر كلا من جمال سالم وعبد المنعم أمين وزكريا محيى الدين فوافقا على الإعدام بينما وقفت ضد هذا الرأى ومعى يوسف صديق .وحسين الشافعى .

وهكذا انقسم الرأى إلى مجموعتين متساويتين وامتد النقاش إلى الثانية بعد منتصف الليل دون الوصول إلى قرار موحد أو بالأغلبية , وفجأة لاح لى خاطر .

سرعان ما أعلنته وهو أننا نشكل نصف أعضاء مجلس القيادة وأنه فى مثل هذا القرار الخطير يجب أن نأخذ رأى الجميع ولما كان ذلك مستحيلا بالتليفون لظروف الأمن فقد كلف جمال سالم بأن يركب الطائرة فورا إلى القاهرة ويعرض الأمر على جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر وخالد محيى الدين وعبد اللطيف بغدادى وكمال الدين حسين ويعود برأيهم .

" وعاد جمال سالم فى الصباح الباكر برأى الزملاء فى القاهرة متفقا مع رايى وهو أن نترك فاروق حيا . ونترك الحكم عليه للتاريخ . " توجهت لمقابلة على ماهر فى رئاسة الوزارء ببولكلى لتسليمه الإقرار ليحمله إلى الملك فى التاسعة صباحا حتى يجد فسحه من الوقت يتدبرفيها الأمر .

" لم أجد " على ماهر " كان قد توجه إلى قصر رأس التين بعد أن أبلغه سليمان حافظ فى منزله بأنه يكفى مخابرة تفيد بأن قوات من الجيش تحاصر القصر وتطلق عليه الرصاص .على أن يعود بعد مقابلة الملك إلى بولكلى .. وصل على ماهر بعد لحظات من قصر رأس التين حيث كان يقابل الملك . الذى استدعاه من منزله للإطمئنان على الموقف .

وقدمت له إنذار الجيش للملك بضرورة توقيع وثيقة التنازل عن العرش قبل الثانية عشر ظهرا . وتغادر البلاد بعد السادسة مساء . وارتجفت شفتا على ماهر وهو يسمع حديثى وشحب وجهه ولكنه جلد وقال لى زى ما تشوفوا ثم غادر بولكلى إلى القصر مرة ثانية فى نفس الصباح .

غادرت بولكلى إلى ثكنات مصطفى كامل ترقبا لما يمكن أن يحدث من الملك وتحدثت مع زكريا محيى الدين لتأكد من استعداد قواتنا لفرض إرادتها بالقوة إذا احتاج الأمر واطمأننت عندما سمعت منه وأطمأننت أكثر بعد أن سمعت أزير الطائرات فى سماء الأسكدنرية يلفت نظر الناس ويصل بالـكيد إلأى سمع فاروق فى قصره .

وقبل الظهر توجهت إلى بولكلى مرة ثانية ومعى جمال سالم وأنور السادات واطلعنا على الوثيقة التى أعدها الدكتور عبد الرازق السنهورى رئيس مجلس الدولة وسليمان حافظ وكيل هذا المجلس .والتى كانت فى صيغة أمر ملكى . تستلهم ديباجته من الدستور , وافقت على الصيغة بعد إضافة عبارة اقترحها جمال سالم وايده فيها الدكتور عبد الرازق السنهور .

وتفيد بأن النزول عن العرش كان استجابة لرغبة الأمة وكلف على ماهر المستشار سليمان حافظ بحمل الوثيقة إلى الملك لتوقيعها قبل الساعة الثانية عشرة حسب إقرارانا له .قال لى على ماهر أنه أبلغه الإنذار شفاهة مشفعا برأيه ونصيحته فى النزول عن العرش لابنه أحمد فؤاد الثانى استبقاء للعرش فى زريته .ولكن الملك قال له أنه ليس جبانا .

وأن عنده قوات موالية له أكثر مما عند الثائرين ولكن على ماهر اعترض على ذلك قائلا أنه لا يوافق على تعريض مصر لحرب أهلية لا يعلم مداها إلا الله وما قد تجلبه على الوطن من ويلات ودمار . واقتنع الملك دون نقاش طويل . ولما سأله على ماهر عما إذا كان يفضل السفر جوا .أجاب بأنه يفضل السفر بحرا على الباخرة " المحروسة " وهى يخت الملك الخاص .

ومشترطا عدة شروط :

أولهما : أن يستصحب معه زوجته ناريمان وابنه الطفل أحمد فؤاد وسائر أولاده .

ثانيا : أن يودع فى الصورة التى تليق بملك ينزل عن العرش باختياره .

ثالثا : أن تشترك الحكومة فى وداعه ممثلة فى رئيسها وكذلك القوات المسلحة ممثلة فى قائدها محمد نجيب .

رابعا :أن يمكن من مقابلة السفير الأمريكى جيفرسون كافرى قبل سفره .

خامسا : أن تقوم قطع الأسطول المصرى بحراسة الباخرة التى يستقلها حتى وصوله إلى إيطاليا .

وافقت على الفور على كل الطلبات .

عدا الطلب الأخير الذى عدلته ليكون حراسة الأسطول المصر للمحروسة حتى نهاية المياه الإقليمية المصرية فقط . وقد أيقنت فى هذه اللحظة أن اختيارى لعلى ماهر رئيسا للوزارء فى هذه الفترة كان موفقا تماما , لصلته القديمة بالملك .ولأنه موضع ثقته مما جعل عملية النزول عن العرش تتم فى سهولة مطلقة .

كان هناك على ورقة التنازل توقيعان . وعلل ذلك " سليمان حافظ" بأن الملك قد ارتجفت يده وهو يوقع أسفل الصفحة فى المكان الطبيعى للتوقيع . فقال وهو يقاوم مشاعره سأوقع توقيعا آخر على الصفحة بيد ثابتة ..

وسألنى على ماهر عما أنوى عمله الآن فقلت له أنى سأذهب إليه فى المحروسة لأودعه وفاء بوعدى وأخذ لنشا عسكريا دار بنا حول اليخت دورة كاملة بما يعتبر تحية فى تقاليد البحر ولكنى قلت لقائد النش لأن أحدا من أتباع الملك ربما يطلق علينا النار .وتتعقد الأمور ولكنى رفضت وكانت الجماهير تشعر أن هناك شيئا ما يحلق فى الجو ولكنه لن تعرف أسرار هذه الساعة الأخيرة فى حياة مصر .

وكانت الإذاعة قد مهدت لذلك منذ الخامسة مساء بإذاعة بيانات تدعو الناس إلى الهدوء والنظام وضبط الأعصاب والكياسة فى التصرفات دون أن تشتط فى الفرح أو تثور فى الغضب .

وفى الساعة السادسة والنصف أذيع البيان التاريخى مسجلا بصوتى :

" بنو وطنى إيمانا للعمل الذى قام به جيشكم الباسل فى سبيل قضيتكم قمت فى الساعة التاسعة منصباح السبت 26 يوليو سنة 1952 الموافق 4 ذى القعدة سنة 1371 لمقابلة حضرة صاحب المقام الرفيع على ماهر باشا .

رئيس مجلس الوزراء وسلمته عريضة إلى مقام حضرة صاحب الجلالة الملك فاروق الأول تحمل مطلبين على لسان الشعب :

الأول : أن يتنازل جلالته عن العرش لسمو وولى عهده قبل ظهر اليوم .

الثانى : أن يغادر جلالته البلاد قبل الساعة السادسة مساء.

وقد تفضل جلالته فوافق على المطلبين .

وتم التنفيذ فى المواعيد المحددة دون حدوث ما يعكر الصدور وأن نجاحنا على الآن فى قضية البلاد يعود إلى تضافركم معنا بقلوبكم وتنفيذكم لتعليماتنا وأخلادكم إلى الهدوء والسكينة .

وأنى أعلن أن الفرح قد يفيض على صدوركم لهذا النبأ . غير أننى أتوسل إليكم قد يفيض على صدوركم لهذا النبأ .غير أننى أتوسل إليكم أن تستمروا فى التزام الهدوء حتى تستطيع مواصلة السير بقضيتكم فى أمان ولى كبير الأمل فى أنكم ستلبون ندائى فى سبيل الوطن . وفقنا الله لما فيه خيركم ورفاهيتكم والسلام .

غادرت الأسكندرية ظهر اليوم التالى 27 يوليو إلى القاهرة بالطائرة التى حملت فيها أنطوان بوللى بعد عدم قبولنا لسفره مع الملك . وأصبح جمال عبد الناصر مديرا لمكتبى ." قضى الأمر إذا وبدأنا نحدد أسماء أعضاء مجلس الوصاية وبرز إسمان لا أعترض عليهما هما الأمير محمد عبد المنعم .

بهى الدين بركات باشا وعندما اقترح اسم رشاد مهنا اعترضت على أساس أننا لا نريد أن نزج بالجيش فيما لم يخلق له . كما أن موقف رشاد مهنا من ناحية طلبه النقل إلى العريش وهو سكرتير نادى الضباط فى وقت الأزمة مع الملك كان ما زال عالقا بنفسى .. ولكن زملائى فى المجلس ألحوا على فى القبول .

فقبلت حتى لا يبدو أن موقفى نشازا .وعين يومها رشاد مهنا وزيرا للمواصلات بصفة شكلية ليستحق عضوية مجلس الوصاية دستوريا . " لقد تلا تلك الخطوات الثلاث التى بادرت بها الثورة لترسى قواعدها فى البلاد وفى أعقاب ذلك قام رجال الثورة بإلغاء الدستور وفى تعليل ذلك ذكر " أنور السادات " بعد أن درست المسائل برمتها وجدنا وقد قررنا العمل بمفردنا .

أن بقاء دستور سنة 1923 ليس فى مضمون الثورة على الإطلاق فهى ثورة اجتماعية قبل كل شىء ثورة تستهدف تغيير الوضع الإقتصادى .وهذا امر لا يجيزه الدستور فكيف إذا نبقى على مواده الباقية تحمى الأحزاب ورجالها الذين هم أعداء للثورة والذين يتآمرون عليها .

" وكان لابد للثورة المصرية بعد يوليو أن تسقط الدستور ثم بعد ذلك تضع الثورة دستورا ينبع من حاجات الشعب لا من مصالح الحكام أو الطبقات المسيطرة على الإقتصاد .وكل شىء فقد كان من أسس ثورتنا القضاء على سيطرة رأس المال وعلى جهاز الحكم وأعلن عن هذ المبدأ فى منشورات الضباط الأحرار قبل الثورة بزمن طويل ."

ثم أعلن الرئيس جمال ضمن مبادىء الثورة الستى .فكيف كان إذن يمكننا الإبقاء على الدستور ؟ وكثير جدا من مواده يتعارض مع أهداف الثورة المصرية النابعة من مصالح الطبقات الكادحة . والعاملة والمتوسطة . وأعود إلى الدستور كنا نعنى كما قلت إن الثورة تحمى الدستور والدستور الذى وضع للبلاد فى إبريل سنة 1923 يتكون من 17 مادة .

وتنص المادة الأولى على أن " مصر دولة مستقلة ذات سيادة وهى حرة مستقلة وملكها لا يتجزأ ولا ينزل عن شىء منه .وحكومتها ملكية وراثية وشكلها نيابى " .هذا ولقد كان اللواء محمد نجيب يعارض فى إسقاط الدستور .مثل باقى الأحزاب والهيئات التى كانت تريد الحكم ولا تريد أبدا أية ثورة ثم ما لبث نجيب أن وافق على رأينا .

تماما مثلما حدث عندما قررنا إلغاء النظام الملكى .فقد عارض اللواء نجيب فى هذا ايضا . ثم ما لبث أن عدل عن رأيه وأذكر أننى ذهبت إليه يومها فى منزله ثم خرجت وعقدت مؤتمرا صحفيا فى صحبة الحرس أمام المنزل وأذعت هناك البيان . تلك كانت قصة إسقاط الدستور .

والآن وعلى ضوء ما قد سبق شرحه وأيضا وفق أهداف الثورة الستى التالية يجدر بنا أن نقيم نوع الحكم والحكومة التى جاءت بها الثورة .

أما أهداف الثورة المشهورة الستة فكانت :

أولا : القضاء على الإستعمار وأعوانه من الخونة .

ثانيا : القضاء على الإقطاع .

ثالثا : القضاء على سيطرة رأس المال على الحكم .

رابعا : إقامة جيش وطنى قوى .

خامسا : إقامة حياة ديمقراطية سليمة .

ولعل أول تساؤل يتبادر على الذهن هو تفسير الثورة المصرية الجديدة للديمقراطية خاصة وبعد أن أعلن الثوار أنه هدف الثورة الأخير وأملها الضخم هو إرساء النظام الديمقراطى الذى يجعل الشعب يحكم نفسه بنفسه .

" أعود فأقول أن الثورة تفسر الديمقراطية بأعمالها وخطواتها التى تتم فى العلن . الثورة تفسر الديمقراطية بالكفاح العملى من أجلها .فهى عندما تقضى على النظام الملكى العفن وترسى قواعد النظام الجمهورى فتلك خطوة نحو الديمقراطية كان الشعب حتما سيخطوها .لو لم تقم الثورة فى 23 يوليو .

وكان سيخوض معركة دموية حتى يتهادى ذلك النظام العفن ولكن جمال عبد الناصر ورفاقه حقنوا تلك الدماء باعتمادهم على الجيش فى هدم ذلك النظام سليما أو بالقوة إن كان الأمر قد استدعى قوة . كذلك تفسير الديمقراطية بالقضاء على الإستعمار .

ففى تحطيمه خطوة كبرى نحو الديمقراطية يخطوها الشعب .وقد كان الشعيب سيخطوها ذات سوم .وكان سيضحى بالآف من أبنائه فى ساحة المعركة المجيدة لو كانت نشبت .. لكن عبد الناصر ورفاقه وفروا على الشعب أرواح شبابه وأطفاله ونساؤه فالثورة تفسر الديمقراطية بالقضاء على الإستغلال والنظام الإجتماعى والإقطاع والثورة تفسر الديمقراطية بالوقوف فى وجه الأرستقراطية .. والثورة تفسر الديمقراطية بالقضاء على التعصب وحكم السمع والطاعة أى على الجماعات التى تريد أن تحكم باسم الدين لا باسم أى شىء آخر .

وقد حدث وتمت الخطوة الكبرى فى سبيل الديمقراطية تلك هى خطوات الثورة التى فسرت بها الديمقراطية .ولقد حرص أنور السادات على استعراض الفرق بين الثورة المصرية والثورة الصينية ولعل ابرز فرق يرجع إلى أن " الثورة المصرية كانت ثورة سلمية فى الوقت الذى كانت فيه الثورة الصينية ثورة دموية ."

ففى الصين كانت الثورة دموية مسلحة ضد جميع القوى الإستعمارية والاقطاعية والرجعية . وفى مصر كانت الثورة سلمية بيضاء . لأنها كانت مؤيدة بوقوف القوا المسلحة معها .فإذا قررت الثورة المصرية تحقيق الهدف سلميا كانت القوات المسلحة فى حل من استعمال القوة بتأييد من الشعب . " وفى موضع آخر أشار السادات إلى أن الثورة قامت للتخلص من كل الأوضاع السابقة " .

إذ قال : كيف تعيد الثورة الأوضاع القديمة والثورة لم تقم ولن تعرض رجالها للموت إلا من أجل البقاء على تلك الأوضاع ؟

هذا ولقد أوضحت موقف الثورة من الديمقراطية . فقلت أن الثورة تفسر الديمقراطية بأعمالها .تفسرها بالقضاء على الحكام الأغراب عن هذا الشعب .والأرستقراطية المصرية الممثلة فى الباشوات والبكوات . والأساتذة السماسرة .وتفسرها بإقامة أسس صحيحة لنظام جمهورى سليم .وتفسرها بالقضاء على العصابات الفاشية . مثل جماعة الإخوان المسلمين .وتفسرها برفع مستوى الفلاحين المصريين .

وهم الذين قامت الثورة من أجلهم بالتحرير لأنهم أغلبية الشعب . ثم أخيرا تفسرها بإعداد العدة لتصنيع البلاد وهى بلاد زراعية .خلاصة الموقف أنه إذا كانت الثورة قد قامت من أجل إرساء الديمقراطية والتخلص منمفاسد العهد السابق .

فهل كانت فى ذلك متأثرة بفكر معين .أو هل كانت لقيادتها فرصة الإطلاع والتأثير بالأفكار الإشتراكية .وغذا كان صحيحا .فما هى حدود هذا التأثير وأثره فى مستقبل التخطيط السياسى لمصر .هذا ولقد أشرنا سابقا أن قيادة الثورة المصرية لم تكن لديها أيديولوجية للعمل بها عند قيامها . ولكن هذا ليس معناه أنها كانت تجهل هذه الأيديولويجية ولا تعرف شيئا عنها .

كما أن هذا ليس معناه أنها لم تتأثر بالفكر الإشتراكى العلمى .الذى برز بعد الحرب العالمية الثانية .كتيار فكرى أصيل .

فقد صرح الرئيس عبد الناصر للصحفى " مورجان " مندوب صحيفة " الصنداى تايمز الإنجليزى " بأنه درس قبل الثورة المذهب الماركسى وكتابات لينين ولكن صرفه عنها أمران :

أولهما : أن الماركسية فى جوهرها ملحدة .

ثانيهما : ضرورة وجود سيطرة من نوع ما من الأحزاب الشيوعية العالمية ولقد كتب خالد محيى الدين الذى كان عضوا فى اول هيئة تأسيسية كونها الرئيس عبد الناصر بعد معركة فلسطين .يقول أن إصدار قانون الإصلاح الزراعى فى سبتمبر سنة 1952 ثم قانون تعديل الضريبة .

على الإيراد العام برفع فئاتها على الشرائح الكبيرة ليدل بوضوح على مدى تأثير الضباط الأحرار بالفكر الإشتراكى وعلى وجود جنينات فى المحتوى لفكرى لهذه المجموعة.. ولا جدال إذن فى ذلك .. ولكن تأثر مجموعة الضباط الأحرار بالفكرالإشراكى بعد الحرب العالمية الثانية .

شىء ودراسة المذهب الماركسى بغرض تطبيق شىء آخر وقد عبر أنور السادات عن هذه النقطة بقوله " لم نعرف ما هى معتقدات اتباع ماركس ولينين بالتحديد " على أن معركة الثورة مع الأحزاب البورجوازية .تصادمها مع الديمقراطية الليبرالية المتفق عليها الأحزاب .

ثم صدامها مع المركسيين المصريين كل ذلك قد دفع قادتها إلى استكشاف موقفهن الثورى النظرى من خلال النظرية الماركسية وعن طريق المقارنة مع التجارب الثورية الأخرى .وحوار أنور السادات مع الماركسيين والليبراليين فى " قصة الثورة كاملة " أوضح خط الثورة بين هذه الأفكار المختلفة .

موقف الثوار من القوى الداخلية والخارجية على السواء

من المعلوم جيدا أن الذين قاموا بالثورة ضباط من الجيش وضباط الجيش كلهم مصريون لا يوجد بينه شركسى أو أجنبى بمعنى أنها مصرية لحما ودما قيادة وأعضاء ومصر وقتها كانت محتلة والمحتلون بريطانيون لهم مخابراتهم اليقظة , لهم ماضيهم التليد فى الإستعمار , لهم خططهم المتجددة دائما لاستبعاد مصر ولإذلال شعبها , فإذا كان موقفها خاصة والغرب عامة من تلك الثورة والوليدة .

لقد ذكر السادات " أنهم قد وضعوا فى اعتبارهم احتمالات تدخل تلك القوة " أما المعسكر الغربى وهو ما كان يهمنا عند بدء هذه الثورة لاحتمال تدخله فقد أذهلته الضربة السريعة التى تمت فى سرية مطلقة وأقلام مخابراته تملأ شوارع القاهرة وأجواءها فى تلك الأوقات " ..

وكان الإنجليز مسرورين جدا لمخابراتهم إلى جانب شىء آخر أهم من مخابراتهم وجيوشهم وهو ما كان يسمى " بالهيئة البريطاينة " لذلك كانت الضربة مذهلة حينما قامت الثورة وليس لدى مخابراتهم علم سابق كما تعودوا فى كل الأحداث , وأكثر من ذلك طعنت هيبتهم فى الصميم من أول لحظة حينما تجاهل القائمون بالثورة السفارة البريطانية تجاهلا تاما , وهى السفارة التى كانت منذ ساعات سابقة تصدر السلطات فى مصر , وسيد القصر الذى يحكم البلاد , وقبله الأحزاب ومنتهى أمل القادة والزعماء " .

وكان هذا موقف بريطانيا وسفارتها بالقاهرة أما موقف أمريكا منها وخاصة فى الأيام الأولى فلقد أشار إلى ذلك " خالد محيى الدين " فى كلمة له بمجلة " الطليعة " حيث قال " أن الأمريكان فى الأيام الأولى من ثورة يوليو لم يكونوا يريدون الوفد ولا الأحزاب الشعبية لأنهم عرفوا أنه سوف ينبت من هذه الليبرالية مبدأ الثورة سينبت اتجاه إلى توفير الحريات للشعب وفى هذه الحالة كان لابد وأن يكون هذا الاتجاه فى نظره – اتجاه يسارى اشتراكى – وكان من الممكن فى هذه الحالة أن يحصل تضارب بينها وبين الشرق الأوسط.

وبينها وبين مصر والعرب بمعنى آخر كان هدفهم إبعاد مصر عن الديمقراطية الليبرالية بل وإبعادها عن كل نوع من أنواع الليبرالية السياسية وكانوا يظنون أن هذا سيبقى المصرين فى قبضة واحدة يستطيعون أن يتفاهموا معها ولذلك كانت أهم الكلمات التى قيلت كلمة الأستاذ " خالد محيى الدين " لأنها حددت بصراحة وضع مصر فى الأيام الأولى من الثورة وعندما كانت تريد أمريكا منع الإشتراكية بواسطة قوة أو سلطة علوية تكون ملامحها محدودة وعندما تكون الإشتراكية على هذا الوضع تفقد كثيرا من مقوماتها لأنها تصبح محكومة تصبح باختصار اشتراكية قومية " .

كانت بريطانيا إذن وأمريكا القوتان الكبيرتان التان كانت تخشاهما الثورة وشخشاهما قيادتها فى الفترة الأولى على الأقل وقبل أن تحدد خطواتها وملامحها , أما باقى الدول الأخرى فلم تعارض أو حتى لم تعادى الثورة أو الثوار .

يدفعنا هذا الموقف إذن لدراسة موقف الأحزاب المصرية من الثورة الوليدة .. وأن كان كمقدمة لذلك علينا أن لا ننسى الإتهام الخطير الذى كثيرا ما وجه للثورة وهو الفاشية .

ويبدو أن متهموها بذلك قد استندوا فى اتهامهم هذا على كونها ثورة القائمين بها عسكريون من جهة .. ثم ما تلا قيامها من إجراءات استثنائية تتطلبها المرحلة الحرجة التى مرت بها الثورة من إلغاء للدستور وعزل الملك , وإيقاف للحياة النيابية ثم إلغائها للأحزاب , عموما لقد كان هناك رد هذا الإتهام أعلنه أنور السادات شارحا " أن الشيوعيون قد وجهوا اتهام للثورة بالفاشية وطالبوها بعودة الحياة النيابية والدستور والحريات "

وأخذ أنورالسادات يسوق المثل بالثورة الصينية التى اختارها بالذات لاعتقاده أنها كانت تشبه بلادنا عندما قامت ثورتها , " مستعمرة فيها حكام خونة وإقطاع وذل وحفاه وعراه وجياع " وقال " على الرغم من أن الذين قاموا بالثورة الصينية تختلف معتقداتهم عن معتقداتنا إلا أنهم لم يصنعوا أكثر مما صنعنا حتى الآن فزعيمهم يقول " إن الإصلاح فى الصين قضى على الإقطاع ولم يفعل أكثر مما فعلنا نحن بذلك العدو الحليف للمستعمر ..

فقال إن قادة الصين وجدوا أيضا من يقول عنهم أنهم طغاة ويريدون دكتاتورية ولكن " ماوتسى تونج " رد بالحرف الواحد قائلا " يقال لنا يقيمون دكتاتورية نعم يا حضرات السادة أنتم على حق فنحن بالفعل نقيم دكتاتروية أن الخبرة التى تكونت للشعب الصينى خلال عشرات السنين تبين لنا ضرورة إقامة دكتاتورية تحرم على الرجعيين حق التعبير عن آرائهم .

فاللشعب وحدة حرية التعبير وحق التصويت .عن هذا الشعب وفى المرحلة يتكون الشعب من الطبقة العاملة وطبقة الفلاحين والبورجوازية الصغيرة.والبورجوازية الوطنية . وباتحاد هذه الطبقات تكونت حكومة لهم من أجل إقامة دكتاتورية على خدام الإستعمار .

" ومن أجل سحق الإستعمار وأعوانه الذين ارتبطوا بمصلحته .فلا يسمح لهم بالتصرف إلا فى داخل حدود معينة .فإذا تجاوزوا تلك الحدود بالقول أو بالفعل فسيسحقون وسيعاقبون فى الحال فلابد من تأسيس النظام اليدمقراطى بين الشعب .

فيمنح حرية الكلام والاحتجاج والتنظيم . ولا يعطى حق التصويت إلا للشعب . دون الرجعيين فالديمقراطية للشعب والدكتاتورية على الرجعيين . وإذا لم تفعل هذا تنهتى الثورة وتقع الكارثة على الشعب وتفنى الدولة . ولقد علق أنور السادات على كلمات ماوتسى تونج بقوله " هذا ما حدث فى الصين والذى حدث فى [[مصر يوم 23 يوليو . هو أن مجلس قيادة الثورة كان حتما عليه أن يحمى الثورة .

أو بمعنى أكثر وضوحا يحمى الشعب من الرجعيين وكان أول إجراء قام به مجلس قيادة الثورة بعد 23 يوليو هو عزل الحاكم فاروق , فإذا كان طرد فاروق دكتاتورية فنحن نفخر بها .ومن قال أن مجلس الثورة قرر إسقاط النظام الملكى وإقامة نظام جمهورى .

فإذا كان ذلك دكتاتورية فما أروع ذلك . وما أعظمه وما أتعس الديمقراطية إذا لم تقف إلى جانب الذين أسقطوا ذلك النظام . وإذا كان التضامن على الإقطاع دكتاتورية فما هى الديمقراطية إذن ؟ واستطرد قائلا : " لو أن الثورة اكتفت بخلع فاروق وتركت الأمور كما هى بعد ذلك فكان حتما أن تقوم ثورة أخرى لتحقيق العدالة الإجتماعية إلا إذا كان أدعياء الديمقراطية يرون أن العدالة الإجتماعية يمكن أن تتحقق على أيدى الباشوات والهضيبى وعبد العزيز البدراوى " .

نعود مرة أخرى إلى الأحزاب وموقفها من الثورة , شرح أنور السادات تلك المرحلة حيث ذكر " أنه عندما كنا نتصل بكل الهيئات ونحن نستعد لإشعال نار الثورة ولقد فكرنا فى تلك الفترة أن نطلق شرارة الثورة الأولى بأن نفرض حزب الأغلبية وقتذاك – الوفد – على الملك واعتبرنا هذه بداية للمناورة واتصلنا فعلا بفؤاد سراج الدين وأخذنا إليه البكباشى أحمد أنور أحد الضباط الأحرار وقائد البوليس الحربى.

وذهب أحمد أنور ليسأل فؤاد سراج الدين عن موقف حزب الوفد فى حالة ما إذا فرض الجيش على الملك ؟ وقد طلب مهلة ليرد على ذلك السؤال حددها بشهر , وبعد شهر جاءنا رد سراج الدين وهو الرفض , وفهمنا يومها مدى إيمان قيادة الوفد بالشعب.

فتلك القيادة لا تؤمن على الإطلاق بالكفاح العملى ضد أعداء الشعب " الفقر " بل تنتظر حتى يستدعيها الملك للحكم , فهمنا يومها أيضا أن قيادة الوفد قد انسلخت نهائيا من طبقات الشعب المكافحة المتطلعة إلى المستقبل , انسلخت عنها فى اللحظة التى ضمت فيها طبقة الإقطاعيين التى اتحدت مصالحها مع مصالح الفقر والإستعمار أيضا ..التى لولاها لما كان فى البلاد فقر ولا استعمار ولا جوع ولا عرى ولا مرض فى الطبقة التى تشرب الدم البشرى وتريد أن تظل ممعنة فى هذه الجريمة إلى الأبد " .

هذا التردى المؤسف فى سياسة الوفد ظهر واضحا للعيان بعد أن أجريت الإنتخابات على يد حسين سرى , وفاز الوفد بأغلبية ساحقة وأصبح على الملك أن يدعو الحزب الفائز لولى الحكم , وفاز الوفد وتربع أقطابه على مقاعد الحكم بعد أن ظلوا خمسة أعوام بعيدون عنه فى انتظار الفرج " .

لماذا لم ينضم الضباط الأحرار للوفد ؟

لأن الضباط لم يتجنبوا العدو الأول المعارض لأحزاب الأقليات والذى لم يطلق خلال تاريخه رصاصة واحدة على المتظاهرين والذين كانت مشاعرهم تلتهب لمقالات الإثارة بقلم الدكتور " عزيز فهمي ؟ وغيره من شباب الوفد ويرجع ذلك أساسا إلى الأسباب الآتية :

أولا : كانت فرصة الوفد فى التسلل إلى صفوف الجيش عن طريق مؤيديه محدد جدا لقلة الوقت الذى بقى فيه الوفد متوليا الحكم بالمقارنة بحكم أحزاب الأقلية .

ثانيا : تشبس القادة الوفديين دائما بمبدأ فصل السلطات وإبعاد الجيش عن السياسة وحرصهم على تنفيذ ذلك لإدراكهم أن الجيش كان فى هذه المرحلة يتحرك بأوامر السراى الخاضعة لنفوذ الإستعمار البريطانى وهى العدو التقليدى للوفد , ولذا لم تكن هناك صلات أو محاولات لعقد الصداقة بين الوفد ورجال الجيش .

ثالثا : كانت الدعية المضادة التى صاحبت حادث 4 فبراير قوية إلى الدرجة التى أثرت فعلا فى سمعة الوفد داخل صفوف الجيش وأظهرته بمظهر الحزب المتعاون مع البريطانيين فى وقت كان فيه الإرتباط بالنازيين هو الصورة البراقة للوطنية .

رابعا : ظهور تنظيمات سياسية ذات اتجاهات فكرية واجتماعية مختلفة مصر الفتاةالإخوان المسلمينالحزب الوطنى – التنظيمات الشيوعية – قيادتها أقرب من ناحية السن والتكوين الإجتماعى لصغار ضباط الجيش ..

وحركتها التنظيمية أكثر انضباطا من الوفد الذى كان يعتمد على رصيد زعامته وجماهيريه أهدافه وقدراته المالية وبالتالى كانوا أكثر جاذبية للضباط الذين اعتادوا الإنضباط والضبط والربط – على حد التعبير العسكرى – فى حياتهم اليومية .

خامسا : كان تكوين القيادة الوفدية متنافرا إلى حد بعيد مع طبيعة الجماهير المؤيدة له فمعظم القيادات كانت من الإقطاعيين , ومعظم الجماهير كانت من العمال والفلاحين والمثقفين , ولذا كان الضباط لم يجدو فى تكوين القيادة الوفدية ما يجذبهم إليها باعتبارهم أبناء للطبقة الوسطى , فتولدت فى صفوفهم أفكار وطنية وثورية ..

أكسبتها الروح العسكرية طابعا حادا يميل إلى التغير السريع أجذب الضباط بعد هزيمة النازى , وفى مواجهة الموقف الذى انسحبوا إليه لمواجة جماهير الشعب بطلقات الرصاص إلى أحزاب وتنظيمات أخرى فتعددت , الإتجاهات وتنوعت قوى الجذب المختلفة .

ويمكن بلورة الإتجاهات داخل الجيش فى ذلك الوقت فى ثلاث اتجاهات رئيسية :

  1. اتجاه جذبه الإرهاب واغتيال جنود الإحتلال وامتد حتى وصل إلى بعض السياسيين المصريين .
  2. التنظيمات اليسارية التى كانت تنمو فى سرية مطلقة مستفيدة من المد الثورى , ووضوح موقف الدول الإشتراكية فى تأييد قضيتنا .

أما بقية القوى والأحزاب السياسية فإن فرصتها للعمل والنشاط داخل الجيش كانت محدودة بل معدومة تقريبا . " ظروف الوفد سبق توضيحها " .

" مصر الفتاة " أتاحت لها الحرب العالمية الثانية فرصة النشاط مع الضباط وخاصة الذين تأثروا بمبادئها خلال الدراسة الثانوية لأنها كانت مطاردة من السلطات لاتجاهاتها الفاشية فى هذه المرحلة , أما أحزاب الأقلية فإن قدراتها كانت أضعف من التأثير على شباب الضباط لاتجاهاتها الرجعية المحافظة .وهكذا انفردت هذه الإتجاهات الثلاثة لتنمو داخل صفوف الجيش .

أما عن موقف اليساريين من الثورة فلقد سبق شرح موقف " حديتو " أما موقف الحزب الشيوعى المصرى فقد كان معاديا للثورة , ولقد ذكر خالد محيى الدين " أن الحزب الشيوعى المصرى كان من رأيه أنه انقلاب فاشى وحكم عسكرى ومرتبط بالإستعمار الأمريكى اليسارى الغير شيوعى كان ضد الحكم العسكرى , أما ميزة " حديتو " أنها قد اعتبرت أن الثورة المصرية تطور للقضية الوطنية , وانعكاس لها وذلك لأنهم كانوا على علاقة من البداية مع حركة الجيش وأخذت على الحركة الدستورية , ولم نختلف مع الثورة إلا بعد التطبيق للنظام الديمقراطى وابتعاد الثورة عن البرنامج الذى كنا قد اتفقنا عليه , ولقد نقلت برنامج الثورة الأولى بعد أن أعطيت النسخة لعبد الناصر لأنه كان يهوى الحياة النيابية وكان نشر البرنامج وتوزيعه بعد ثلاثة شهور من الثورة لإحراج عبد الناصر نظرا لرغبته التى ظهرت فى التعاون مع أمريكا "

أما عن موقف الإخوان المسلمين من الثورة وحتى من قبل القيام بها فيرجع كما يوضحها " ريتشرد ميتشل " بأنها ترجع إلى نهاية سنة 195.وبالتحديد فى ديسمبر اكتشف أمر الضباط الأحرار والقى القبض عليهم فى أعقاب الإعترافات الرسمية على تدخلهم فى الشئون السياسية.

وكان القائد الأول لقوات فلسطين " فؤاد صادق " الذى كان مقرر أن يكون فى مقدمة الثورة , هو الشخص الذى دارت حوله الإتهامات وكان هناك رغبة فى محاكمته أما لماذا لم يقدم للمحاكمة فمن المحتمل أن السبب فى ذلك هو تعمد الوفد تخويف القصر بالتهديد بقيام ثورة إذا جرت هذه المحاكمة.

ويقال أن الملك قد تلقى فى أواخر سنة 195.تقريرا مفاده أن "13" من الضباط ازدادت الجماعية تقاربا , وتوقعا لأسوأ العواقب وقام عبد الناصر باتخاذ الترتيبات لنقل مخازن السلاح لإخفائها فى عزبة " محمد عشماوى " وكان حسن العشماوى – وهو غير صالح عشماوى صاحب مجلة الدعوة – واحدا من المؤيدين المتحمسين لاختيار الهضيبى والذى أصبح فيما بعد واحدا من محاميه .

وفى النهاية , وقبل وقت قصير من الثورة , وقام الضباط مرة أخرى بتسليح وتدريب متطوعى " كتائب التحرير " الذين أرسلوا إلى منطقة القتال والذين كان معظمهم من الإخوان المسلمين وكانت الإسماعيلية هى المركز الرئيسى لهذه النشاطات , وكان رجل الإتصال الرئيسى هو رئيس الفرع المحلى لجماعة الإخوان فى هذه المنطقة الشيخ محمد فرغلى .

ولقد كانت نيران 26 يناير سنة 1952 نقطة تحول تخطيط الضباط الأحرار , فقد ارجىء يوم 25 مارس سنة 1952 الذى كان محددا للقيام بالثورة إلى موعد آخر فى 23 يوليو فى أعقاب محاولة القصر فرض إرادته على نادى الضباط أما عن دور الإخوان فى تلك الأيام المثيرة.

فإن معظم المراقبين الذين علقوا على هذه الأيام الأولى للثورة أكدوا على أنه كان هناك ارتباط واضح بين مجموعة الضباط والإخوان المسلمين , وطبقا لما أورده أحد هؤلاء المراقبين , الذى استقى معلوماته من داخل جماعة الإخوان لولا التأييد المتحمس من الإخوان المسلمين لمواجهة حركة " محمد نجيب " نفس المصير الذى واجهته منه حكومات مصرية سبقتها سنة 1952 , لقد كان الإخوان القاسم المشترك الأعظم فى ثوة " نجيب " كما أن الكثير مما حققته من نجاح منذ 23 يوليو يمكن إرجاعه إل تأييدهم .

وبالنسبة لمسألة تأييد الإخوان المسلمين فإن هناك بعض من الشكوك لأن كل المصريين تقريبا أيدوا الثورة أما " المشاركة " فى الثورة فذلك أمرا آخر ولقد أذيع الكثير من المعلومات عن الإتصال المستمر , وأحيانا المكثف لضباط الجيش مع جماعة الإخوان إلا أن هذه المعلومات تقل فيما يتعلق بخطط يوم الثورة نفسه.

ولقد أنكرت حكومة الثورة أنه كان هناك أى شىء أكثر فعالية وإيجابية فى اتصالات الضباط مع جماعة الإخوان عما حدث من نفس الإتصالات مع باقى الجماعات المصرية , وبالنسبة للإخوان المسلمين فقد أشار الضباط إلى حقيقة أن "عبد المنعم عبد الرؤوف " قد قيد كعضو فى اللجنة التنفيذية لمجلس قيادة الثورة سنة 195., ولكنه طرد فى سنة 1951 " .

" إلا أنه خلال هذه الفترة وعلى مدى بضعة سنوات بدأ نوع من عدم الإرتياح نحو حلفائهم الجدد , فإن مسألة عابدين أثارت التساؤلات حول خلو النبأ من وجود دافع لهذا التحالف كما أن ما تبع ذلك من استقالة " إبراهيم حسن " قد أكد هذه الشبهات , وبالمثل كانت عملية طرد " السكرى " بما انطوت عليه من تحالف مع القصر والحكومة وبخاصة حكومة " صدقى باشا " مما نتج عنه حدوث بعض الفتنة فى الصفوف وحدوث بعض الإستقالات " .

" ولقد تعرضنا سابقا لمرحلة العلاقات بين الضباط والإخوان وبخاصة ما يتعلق منها بعمليات تدريب المتطوعين وإمدادهم بالسلاح , ومرة أخرى كان " عبد الناصر" هو الشخصية الرئيسية فى العملية , مثل " كمال الدين حسين " الذىكان من المتطوعين فى الجبهة وتعالت بعض الشكاوى حول تهو الاخوان الأول فى لقتال متجاهلين أوامر الجيش وخطط العمليات.

وهى شكوى أحدثت صدى مبكرا للشكوك حول إمكانية التعاون , إلا أنه لم ينظر إليها فى ذلك الوقت كشكاوى بقدر ما نظر إليها على أنها تتاح للحماس الوطنى ويبدو صحيحا أن الإخوان قد نجحوا فى التأثير فى الضباط على الجبهة , بما فى ذلك قادة الأسلحة وتواجدهم الكثيف فى فلسطين.

واستعدادهم للقتال حتى الموت , فقد بدأ الإخوان أمام الضباط كتناقض واضح مع مظهرى العزلة والتضليل الذين مارستها , وأدت تجاربهم المشتركة فى المعركة وخاصة فى حصار الفالوجا أن نشأة مواقف مشتركة للبعض , وتدعيم هذه المواقف لدى البعض الآخر , حول مختلف الأمور بصفة خاصة ما يتعلق منها بإقامة نصب تذكارى فى بقاء فلسطين أدرجت فيه أسماء المتطوعين من الإخوان الذين خاضوا حرب فلسطين .

وقد كادت قوات الضباط الأحرار بفلسطين أن تعمل بإلقاء القبض على قائدهم " عبد الناصر " فى مايو سنة 1949 خلال عملي التطهير التى كانت بها حكومة " إبراهيم عبد الهادى " فبعد عودته من جيب " الفالوجا" بفلسطين , واثناء وجوده فى إجازة بالقاهرة , قام القائد الأعلى للقوات المسلحة ..

" عثمان المهدى باشا " باستدعاء " عبد الناصر" ورافقه لزيارة قصر رئيس الوزراء , وهناك وجه " عبد الناصر" بالإتهام الذى أنكره بأنه قد قام بتدريب مجموعات من رجال الإخوان بفلسطين على استخدام الأسلحة , وفة الاجابة على سؤال رئيس الوزراء عن علاقته بجماعة الإخوان المسلمين أجاب عبد الناصر قائلا " تماما مثل علاقات عشرين مليون مصرى بجميع الأحزاب " وعندما طلب إليه تفسير ذلك.

استطرد قائلا :

إن بعض المصريين يحبون السعديين والبعض يحبون الوفديين والبعض الآخر يحبون الإخوان المسلمين , ثم قال " وإننى واحدا ممن يحبون الحزب الأخير , وانتهت المقابلة باستياء من " عبد الهادى " دون الإدانة بأية اتهامات , ولقد كان ذلك واحدا من خيوط العلامات التى أبيحت بعد الثورة , حول موقف الضباط الأحرار من حل جماعة الإخوان المسلمين وقيامهم بطريقة غير مباشرة بتوجيه أعمال العنف التى ألهبت المشاعر ضد "

النقراشي وعبد الهادى والقصر " , بعدإلقاء القبض على السادات سنة 1942 وكانيبدوا أيضا أن عبد الرؤوف كان واحدا من أول وأكثر الأعضاء نشاطا فى المجموعة التى أصبح يطلق عليها " الضباط الأحرار " وظل الداعية والسفير الرئيسى فى اعلى مستوى لمجالس الإخوان المسلمين " .

وقد كان هناك ضابط آخر ساعد " عبد الرؤوف" فى مهمة تجنيد عناصر من الجيش للجماعة وهو الصاغ " محمود لبيب " وكان لبيب قد تقاعد من الجيش سنة 1936 , كما كان مميزا عن غيره من الضباط لما قام به من عمليات مصرية فى السودان , وبدأ معرفته " للبنا " والعمل فى مصر فى أوائل سنة 1941.

وقد كان مستشارا غير رسميا للبنا للنشاطات " الكثيفة " حتى عام 1947 عندما اختبر كتائب الجماعة " للشئون العسكرية " وأوفد إلى فلسطين للمساعدة فى تدريب وتجنيد المتطوعين هناك , وفى حرب فلسطين كان هو العقل الفنى لفرق المتطوعين والمثل الشخصى للبنا فى الشئون المتعلقة بهذه الحرب وتوفى فى 18 ديسمبر سنة 1951 وفى سنة 1944 قام لبيب بأهم اتصال مع الضباط الأحرار ولم تكن شخصيته تقل بأى حال عن شخصية " جمال عبد الناصر" .

وجرى اللقاء الذى تم بين " لبيب وعد الناصر " بترتيب من صديق للإثنين وذلك بناء على طلب " لبيب " وكانت جزيرة الشاى بحديقة الحيوان بالقاهرة مكان هذا اللقاء ..

ودار بين الاثنين حوال , كان معظمه من "لبيب "الذى تحدث عن الحرية والحاجة لأن يقوم الجيش بدور فعال فى أمور الأمة وأن يساعد على إنقاذها , وأدخل فى مناقشاته مشكلات البلاد مع ملاحظاته حول الحاجة إلى الإخلاص وحول تنظيمنا وعندما سأل " "ناصر" عما يعنى ذلك من الناحية العملية , أجاب " لبيب " البدء فى تنظيم مجموعات فى صف واحد يجعل من المستحيل على أعدائنا أن يسحقوننا , وكانت نتيجة هذا اللقاء أن بدأ " عبد الناصر " والذى تأثر تأثيرا عميقا به فى وضع الخطة .

وسواء أكان ذلك صحيحا أم لا فسوف يظهر منذ ذلك الوقت فصاعدا أن الرجل الذى جاء ليقود ثورة الجيش كان على صلة بالإخوان المسلمين , وقد انضم إلى " عبد الناصر " بعض من معارفه هو ورفاقه آخرين من الجيش كان بعضهم يقوده " رشاد مهنا " الذى برزت مجموعته مع مجموعة " عبد الناصر " ليصبحا نواة الضباط الأحرار , وأظهر " مهنا " الذى اختير فيما بعد الضابط العضو فى مجلس الوصاية , تعاطفا نحو جماعة الإخوان من حيث الفكرة وإن لم يكن من الأعضاء , وكان من بين أهم من جند لحظة الثورة " كمال الدين حسين وحسين الشافعى"

وفى فبراير سنة 1946 وفى اجتماع لمجموعة " عبد الناصر " حيث جرت مناقشة لأوضاع ما بعد الحرب مع إشارة خاصة إلى الزعماء والأحزاب , وجه إليه سؤال .. هل تستطيع أن تأمل خيرا من الإخوان المسلمين ؟ وأجاب " عبد الناصر " نعم خيرا كثيرا " بالنسبة لمخططى الثورة فإن الإخوان المسلمين خرجوا من الحرب بهيبة عالية , وأصبحوا بالتالى رفاقا منطقيين فى التخطيط للتحالف بين الجيش وحزبا شعبيا يعملان معدون ارتباط صريح حتى يحل الوقت المناسب العقبات الحادة من جانب كل من القصر والوفد ..

ولقد كان عجزه عن استيعاب المعنى الحقيقى فى هذا المجال بالإضافة إلى إخفاقه فى إقناع الإنجليز بالحاجة إلى إظهار شىء من موافقتهم على إعادة فتح المفاوضات من الأسباب التى أدت به إلى تقديم استقالته فى 28 يونيو , وفى 29 يونيو كلف " حسين سرى" بتشكيل حكومة جديدة إلا أنه قدم استقالته هو الآخر فى 2.يوليو بسبب مسألة إبعاد اللواء " محمد نجيب " إلى منطقة الحدود.

كان " نجيب " قد انتخب فى أوائل العام رئيسا لنادى ضباط الجيش دون اعتبار للرغبة الملكية فى اختيار " حسين سرى عامر" لهذا المنصب , وأعيد تكليف " الهلالى باشا " بتشكيل الإدارة وأعلن أسمائها فى 22 يوليو وكانت تضم بناءا على رغبة الملك " إسماعيل شيرين " كوزير للحربية والبحرية – وبهدذا التصرف فإن الملك , بتصميمه على تأكيد تمتعه بسلطة الإختيار بعد هزيمته فى مسألة نادى الضباط ..

قد عجل بالقرار المفاجىء لليوم الذى طال تخطيطه وطال انتظاره , ففى صباح 23 يوليو قام الضباط الأحرار , وعلى رأسهم محمد نجيب باحتلال القاهرة وكل النقاط الإستراتيجية , واضعين النهاية فى حكم سلالة محمد على .

إن خليفة ثورة يوليو ترتبط بشكل سطحى بقصة الاخوان المسلمين فيما عدا التيارات الثورية من الجيش التى سمعت للتأييد العاطفى والمعنوى وتلقته من الجماعة وبمعنى أدق من شخصيات معينة من قادة الجماعة , ولا زالت المعلومات اللازمة لإعادة بناء هذه القصة غير كافية والتى أصابها الآن لسوء الحظ قدرا كبيرا من التحريف , وهى حقيقة نابعة من انهيار العلاقات بين الجماعات قبل وأوائل أيام الثورة البالغة الأهمية ,

وقد كانت ثورة سنة 1952 تمثل فى تاريخ الإخوان المسلمين أول تحدى بارز للفكرة التى أعطت طاقة لحركة الإخوان والتى أظهرت أزمة تنظيم الإخوان للجماعة , ففى الثالث والعشرين من يوليو شارك الإخوان المسلمين بقية المصريين فى احتفال بروح فجر عهد جديد .

وبعدها بتسعة وعشرين شهرا مات ستة من اعضاء الجماعة على أعواد المشانق , وتحولت الجماعة إلى حطام لا يرجى له إصلاح .. وقبل الإستطراد فى هذه الأحداث فإن أولى الإتصالات التى قام بها" البنا" مع الجيش .. تمت على يد السادات الذى كان على اتصال بالمجموعة أو المجموعات التى انضمت فيما بعد لتصبح " الضباط الأحرار " .

وترجع الأهمية لهذه الإتصالات إلى أنها قد جعلت السادات , على صلة مع " عزيز المصرى" القائد العام للقوات المسلحة .. الوطنى المتقاعد , وأنها شجعت البنا على أن يستمر فى مخططاته للنشاط الثورى السرى.

وبعد هؤلاء يأتى العهد الطويل من الإخلاص للجماعة ممثلا فى " عبد المنعم عبد الرؤوف صديق السادات والذى اعتقل مع " عزيز المصرى " إبان محاولة الهرب من مصر سنة 1941 والذى حل محل " السادات " كرجل الإتصال بين ضباط الجيش والإخوان المسلمين توقعوا أن يقوم " الهلالى " بالعمل من أجل إخراج الإنجليز من مصر فى وقت معقول وبعد حل البرلمان فى 23 مارس وتحديد يوم 18 مايو موعد الإنتخابات جديدة ..

بدأ واضحا أن الهضيبى أكثر اقتناعا الآن بإخلاص وجدية رئيس الوزراء ويعبر عن حرارة هذا الإقتناع خطاب طويل مفصل يحوى بين آراء الجماعة فى التشكيلات الوطنية وتضمن الخطابات مرة أخرى المطالبة بإلغاء القانون العسكرى كما أعلن أن الجماعة لن تشترك من الجماعة.

ونتلخص كما يلى من عدم الرضا عن قوانين الإنتخابات وأعطيت لذلك أسبابا عديدة أعلنها الهضيبى ومتحدثون وعدم الرضا عن توقيت إجراء الإنتخابات الذى سيتسبب فى الشتات والكره وعدم الإستعداد للإشتراك فى الإنتخابات بالطريقة التى تدار بها فى مصر وما يتريب على ذلك من إساءة لاسم الجماعة وعدم الغبة فى الوصول إلى كرسى الحكم فى مجتمع طعن فيه الفساد مثل مصر وأخيرا عدم استعداد الجماعة للدخول فى معركة انتخابية .

وفى 25 يناير تحطم الجدار الذى كان يسد الطريق أمام انطلاق الحركة الوطنية ففى ذلك اليوم كانت القوات البريطانية فى منطقة القنال, خلال محاولته نزع سلاح بعض من قوات البوليس المصرى الإحتياطات فى المنطقة ,.

والمكلفة بالدفاع عن الإسماعيلية حتى آخر رجل بناءا على تعلميات وزير الداخلية .. قامت بتوجيه هجوم كبير ضد نقطة بوليس الإسماعيلية ولقى بوليس الإسماعيلية , ولقى قرابة الأربعين من جنود البوليس حتفهم خلال المعركة , وفى اليوم التالى 26 يناير سنة 1952 كان قلب القاهرة قد تحول إلى كتلة ممزقة فى أعقاب أكبر مظاهرة مدمرة شهدها تاريخ مصر الحديث.

ففى الصباح الباكر سارت قوات البوليس الإحتياطية للقاهرة عبر الكبارى متجهة إلى الجامعة بالجيزة أو بعدها عادت مرة أخرى إلى القاهرة بعد أن انضمت إليها جموع الطلبة والجنود على طول الطريق , واتجه الجميع صوب البرلمان حيث تعالت الصيحات مطالبة بإعلان الحرب فورا على بريطانيا وفى نفس ذلك الوقت بدأت جماعات أخرى فى إضرام النيران فى مركز المدينة , واندلعت النيران لتلتهم المتاجر الكبرى ودور السينما والبارات والملاهى الليلية والنوادى الإجتماعية ومؤسسات بيع الأطعمة والملابس الفاخرة ومعارض وجراجات السيارات ومكاتب الطيران .

بالنسبة لمسألة مشاركة الإخوان فى الثورة تتضح بشكل غير مباشر بالاشارة إلى أنه من 23 يوليو حتى 26 يوليو , يوم عزل الملك فإنه لم يكن هناك أى بيان رسمى أتى من جانب الإخوان , وبقى الهضيبى فى الأسكندرية صامتا , وقد رزت ثلاثة أسماء من داخل الجماعة يرجح أنه رسلا للأنباء أن هناك ضابط فى الجيش على وشك القيام بثورة.

وأن هذه الثورة تسعى للحصول على تأييد الإخوان المسلمين , الأول والمرجح كان أهمهم هو " صلاح شادى " العضو القيادى فى الجماعة والصديق المقرب أيضا لكل من " عبد الناصر" و" الهضيبى" والذى كان يتسلم الأسلحة لإخفائها فى عربة والده عندما لاح اكتشاف أمر الثورة فى 1952.

أما الثالث صديق " عبد الناصر أيضا فقد كان " عبد الرحمن السندى " رئيس الجهاز السرى وهناك أيضا إجماع بوجود شخص رابع " رشاد مهنا " الذى أوفد من قبل مجلس الثورة للحصول على عون الهضيبى والإخوان المسلمين , ولم يظهر بشىء يوضح الذى حدث بعد ذلك خاصة ما يتعلق بموقف " الهضيبى " وفى الوقت الذى اتسم فيه رد فعل " الهضيبى " بالحرص فقد حرز رفاقه من أن المشاركة تعنى المسئولية وأن السلطة تفسد الروح , وقد ظل هذا السلوك من الهضيبى شوكة فى علاقاته داخل جماعة الإخوان وخارجها .

ومهما كان الدور الشخصى الذى قام به الهضيبى , ومن المحتمل جدا ان الأمر برمته قد بحث دون علمه فإن هناك اتفاقا ثم حول الأساليب بين الجماعتين بخصوص الجانب الذى سوف يلعبه الإخوان المسلمين يوم الثورة وبعدها .

المقام الأول : فقد أخذ أعضاء الإخوان على عاتقهم طبقا للخطة حماية الأجانب والمؤسسات الأجنبية بما فى ذلك أماكن الأعمال والأماكن الدبلوماسية والأقليات ( المنازل – الكنائس – معابد الإخوان ) وكذا المراكز الإستراتيجية للإتصالات فى المدينة وكان الغرض من ذلك هو تفويت الفرصة على أى جماعة تحاول استغلال حالة الإضرابات المتوقعة بهذا اليوم , وإلى جانب ذلك فقد كان على الإخوان أن ينشأوا شبكة مخابرات تتبع تحركات المشتبه فيهم والخونة المصريين .

ثانيا : فى حالة ما إذا خف الحماس الشعبى للحركة يتدفق الإخوان إلى الشوارع , ويبدأون إشعال الحماس الشعبى مرة أخرى ويقومون بتأمين تقبل الجماهير للإنقلاب .

ثالثا : فى حالة اخناق البوليس فى التعاون مع الجيش , يتولى الإخوان إرسال فرقهم من الجوالة للإشتراك فيما يمكن أن يتبع ذلك من قتل وأيضا للمساعدة على استتباب النظام والأمن .

رابعا : إذا فشلت الحركة رغم كل هذه الإحتياطات يقدم الإخوان المسلمين بالمعاونة على حماية الضباط الأحرار ومساعدتهم على الهرب .

وقد كانت مسئولية ذلك الإحتمال الأخير تقع على عاتق " حسن العشماوى "ر وقد كان هناك احتمال خامس بالرغم من أنه لم يكن مؤكدا يتعلق باحتمال تدخل " برمائى " وأمام هذا الإحتمال فقد زود " شادى " بالسلاح وطلب منه توزيع رجال من الأعضاء فى النقاط الإستراتيجية على الطريق الخارج من السويس فى ثياب مدنيين حتى لا يثيروا الشبهات وإعطائهم المعدات والأوامر لتعطيل ومضايقة أى تحرك انجليزى من منطقة القنال وهى داخل كل هذا النظام لم يكن هناك سوى عدد ضئيل جدا من الأعضاء الذين احتاج الأمر الحذر منهم , والذين وضعوا فعلا تحت المراقبة .

وبعد 23 يوليو فإن أعضاءالإخوان ذكروا بالفخر وفى وقت لاحق مشاركتهم فى الأيام الثلاثة الأولى للثورة حيث ساعدوا على الحفاظ على النظام والأمن .. وفى إعطاء الثورة بدايتها الأولى الناجحة , إلا أن حقيقة الأمر لم يستلزم تنفيذ كل بنود الإتفاق بين جماعة الإخوان والضباط الأحرار كانت وراء إبقاء أمر هذه الاتفاقية سرا حتى بين صفوف جماعة الإخوان نفسهم.

كما أن هناك سببا آخر لهذه السرية وهو أنه لو كانت المشاركة فى الثورة قد فتحت على مصراعيها أمام جماعة الإخوان لأدى ذلك بشكل آخر إلى تدخل الغرب فى الثورة وتدميرها – وذلك هو السبب فى أن الحكومة حاولت فيما بعد الإنفصال عن جماعة الإخوان.

بالإضافة إلى أسباب أخرى لعل كان منها المحاولة التى اعتبرت من جانب الإخوان إذعانا زليلا للسفارات الأجنبية وأصبحت حجر الأساس فى حائط العدوان الذى علا سريعا بين الجماعتين وبدأ الإخوان ينظرون إلى أحداث 23 يوليو على أنها ثورتهم ومن هذه البداية برزت الأحداث التى قادت إلى المرحلة الثانية لجماعة الإخوان ,المرحلة التى شهدت نهاية قوة الإخوان المسلمين .

كان ذلك دور الإخوان المسلمين من الضباط الأحرار وقد سبق ذكر كل من اليساريين والوفد ويبقى موقف مصر الفتاة ففى الوقت الذى كان " أحمد حسين " لا يكف عن ذكر مفاسد الجيش ويلح فى ضرورة تحسين أحواله إلا أنه لم يكن له علاقة بالتنظيم ولم تكن له دور خاص وأنه اعتقل فى أعقاب حوادث الحريق كما سبق شرحه.

والآن نعود مرة أخرى إلى " أنور السادات" والثورة , ففى نهاية الشوط أحس القواد أنه لابد من أن يعمل الثوار وحدهم دون القوى السياسية التى كانت بالبلدة خاصة وان الثقة كانت قد فقدت بينهم فيقول السادات " قررنا عدم التعاون إطلاقا مع الهيئات والأحزاب فى مصر لأن العقلية التى تسيطر على قادتهم تختلف تماما عن عقليتنا فهم يريدون حكما ونحن تريد ثورة كانت المسألة فى برنامجنا هى كفاح من أجل الشعب أما المسألة التى فى برنامجهم فهى كانت كفاحا من أجل الحكم , قررنا فى نفس الوقت الإعتماد على أنفسنا , فكل الضباط الأحرار من عائلات متوسطة وليسوا أبناء باشوات وليسوا من صلب الأرستقراطية المصرية الخائنة المتعاونة مع القصر أعداءالشعب "

وكان هناك رأيان يتصارعان :

الرأى الأول : يقول أننا كنا ننوى أن نبدأ الثورة الأولى بفرض حزب الأغلبية على الملك فماذا يمنع لو استدعينا برلمان الوفد ليسير الأمور ونجلس نحن نرقب الأحوال والخطوات وتنفيذ أهداف الثورة .

الرأى الثانى : يقول لا يصح أن يحدث هذا , وكل الأحزاب والهيئات والإخوان قد تخلفوا عن التعاون معنا قبل الثورة واعتقدوا عندما اتصلت بهم أن المسألة خيال فى خيال وتخلفهم هذا معناه أنهم ليسوا ذوى نوايا حسنة بالنسبة للشعب ومعناه أيضا أنهم لا يؤمنون بما ينادى به الشعب وكفاحهم من أجل مصالحهم هم لا مصالح الشعب , وقيادة كل حزب أصبحت معزولة عن الشعب تماما ومصالحها متناقضة مع مصالح الشعب فهى سوف تكون حربا على أهداف الثورة لومددنا أيدينا إليها .

وكان أنصار الرأى الثانى يعددون مفاسد الهيئات والأحزاب ويقارنونها بأهداف الشعب ثم قالوا أن الثورة تحتم إلغاء كل تلك الأحزاب والهيئات التى تآمر على مصالحه حتى بعد خروج فاروق فلن يعدموا طاغية آخر , وفى هذه الحالة ما عساه يحدث , كأننا لم نقم بثورة , وكأننا لم نطرد صاحب العرش وكأن كفاحنا وإصرارنا على الكفاح من أجل أن تسلم البلد لهذا القطيع المتآمر والخاضع للإستبداد المتطلع إلى لاظوغلى لا إلى الشعب .

كانت إذن تلك قصة الثورة وأحداثها ولعلى أكون قد أضفت نقطة من المعرفة إلى بحر العلم والتاريخ الواسعين .

خلاصة الموقف

أنه لا يمكن لأى باحث فى تاريخ مصر الحديث والمتتبع لأهم أحداثه أن يتجاهل أهمية الفترة التى أعقبت الحرب العالمية الثانية وحتى قيام الثورة المصرية .

وهى الفترة التى عنى بها البحث وليس ذلك لكونها البوتقة التى انصهر فيها تنظيم الضباط الأحرار فحسب بل لأنها دون جدال من أخصب فترات تاريخ هذا الوطن وأعظمها أثر لأسباب عديدة نوجز منها الآتى :

أولا : أن تلك الفترة لم تتعرض للدارسة قط .

وبذلك نقدم هذا الكتاب كدراسة أكاديمية للمرة ألأولى كتحليل لأهم التيارات الفكرية والسياسية التى تميزت بها تلك الحقبة .

ثانيا : أن ذات الفترة قد تميزت بسمات بارزة لعل أهمها هو تبلور خصائص واتجاه كل تيار .

بحيث كان من السهولة إبراز أوجه الخلاف والتشابه بين كل منها سواء من جهة مواقفها تجاه الإحتلال , أو من جهة أحاسيسها بقوة وتأثير القضية الإجتماعية .وتميزت أيضا بالنضج وتجسد معالم الصراع الطبقى .

ثالثا : أن المعاناة التى أحست بها جماهير الشعب وطبقته الوسطى على وجه الخصوص تلك التى دفعت التنظيم الثورى الناشىء فى الجيش إلى الظهور ومحاولة فرض حل للمشاكل التى استعصى حلها على يد التيارات السياسية المختلفة والتى أجهزتا الصراعات والمنافسة الداخلية بينها .

بالرغم من إدراكها التام لحجم المشاكل وأيضا إدراكها لوسائل العلاج لكنها كانت بحاجة إلى دماء جديد .

وجوه جديدة وأيضا وسائل جديدة.

خامسا : إن المشكلة الإجتماعية قد ألحت إلحاحا شديدا لا يمكن لأى مراقب للأحداث أن يتجاهلها وأصبحت موضع نقاش حاد فى داخل التنظيمات السياسية .

سادسا : أن الأحزاب السياسية رغم إدراكها لأنواع المشاكل إلا أنهم فشلوا فى فرض الحل المناسب الذى نادت به الجماهير .

سابعا : أن تنظيم الضباط الأحرار لم يولد من ثراب ولم ينبت شيطانيا .بل أنهم كعناصر من الطبقة المتوسطة أحست بما تحس به الجماهير من معاناة وكانت لها نفس المطالب وإن زادت عليها بأحساسها بمدى عمق الفساد الذى تطرق إلى الجيش وفى الإدارة التى لابد من بقائها قوية نظيفة حتى تحافظ على الوطن .

ثامنا : أن الضباط الأحرار لم ينشئوا شعارات غريبة عن التربة المصرية بل تمثلت قدرتهم فى فرض الحلول والبعد عن الشعارات والكلمات التى ملها الشعب وبدأ الناس تحس بالتغيير منذ الأيام الأولى للثورة .