الإخوان المسلمون والجمعية الشرعية وأنصار السنة
الإخوان والجمعية الشرعية
أدرك الإمام الشهيد حسن البنا الشيخ محمود خطاب السبكي في آخر حياته، وكانت تربطه به علاقة طيبة، رغم اختلافه معه في أمور حول بعض البدع وكيفية إزالتها، حتى إنه كتب عند وفاته مقالاً ضافيًا في جريدة الإخوان المسلمين تحت عنوان: "عزاء آل خطاب" قال فيه: "قضى العالم الجليل والمربي الكبير الأستاذ الشيخ محمود خطاب السبكي، ونُعِيَ إلى مريديه وأحبائه وأتباعه وأبنائه، فانهد بفقده ركن من أركان الدعوة، وانطفأ بفقده سراج من سروج الإرشاد".
فلقد شغل الشيخ رحمه الله أوقاته مجدًا في دعوته، سائرًا إلى غايته، لا يسأم ولا يمل، مهما أوذي في سبيلها أو وقفت في طريقه العوائق والعقبات.
لم أتعرف إلى الشيخ رحمه الله إلا في أخريات أيامه، ولم أكن معه في كل آرائه، وإن اتحدت الغاية من مناصرة السنة، ومقاومة البدعة، وكنت أرى أن من الأمور التي يعتبرها بدعًا أمورًا اعتبرها خلافيات فقهية؛ يُترَك لكلٍّ رأيه فيها ولا يصح الإنكار عليها، وكنت أرى كذلك أن من البدع ما تجب إزالته على التراخي لا على الفور؛ لأن محاولة إزالته بالطريقة الفورية تنتج عكس المقصود، وتؤدي إلى شرٍّ مستطيرٍ تتضاءل معه البدعة الأصلية، وكان- رحمه الله- يرى إزالة البدعة واجبةً على الفور، وكان بيننا في ذلك وفي غيره مما ينحو منحاه نقاش ومكاتبة.
على أن هذا الخلاف في فروع الدعوة ووجوهها لم يَحُلْ دون إعجابي بعزيمة الشيخ رحمه الله وثباته، وتقديري لقوة إرادته وتحريه السنة ما أمكنه ذلك وجمعه بين الفكرة الدينية والاقتصادية في القرآن؛ فبينا تراه واعظًا دينيًّا يأمر بطاعة الله وعبادته إذا بك تراه مرشدًا اقتصاديًّا يفكِّر في وسائل تدبير المال اللازم لتقوية دعوته وإمدادها، ويرشد أبناءه إلى الكسب والعمل والجد في طلب الرزق، فكنت عظيم الشعور بتقديره وحبه والإعجاب بعمله وجده.
ولو لم يكن له من المناقب إلا أنه جعل محور دعوته "إحياء السنة" وأهاب بالناس إلى التمسك بها، وترك في ذلك أثرًا واضحًا وصوتًا قويًّا داويًا، وأنه تمكَّن بقوة تأثيره من طبع نفوس مريديه على هذا المبدأ وشيَّعهم به وحبَّب إليهم العمل عليه والتفقه فيه لكان في ذلك الكفاية.
فعليك رحمة الله ورضوانه أيها الإمام الجليل والمربي الفاضل، وإلى أبنائك الكرام ومريديك الكثيرين عزاءً جميلاً من هيئات الإخوان المسلمين ومن كل مسلم يقدِّر للعاملين عملهم ويعرف للمجاهدين جهادهم.
وفي أنجال الشيخ الكرام من يسد الثغرة ويرأب الصدع ويملأ الفراغ، ويخفِّف الأسى بفراقه واللوعة بفقده، آجرهم الله في مصيبتهم، وعوَّضهم خيرًا منها، وسلام الله على الشيخ ورحمته وبركاته.
وقد رافق الإمام الشهيد خليفة الشيخ محمود خطاب السبكي، وهو ابنه الشيخ أمين محمود خطاب، وكان على قدر من العلم، لكنه كان- عليه رحمة الله- يختلف عن شخصية أبيه كثيرًا؛ حيث جنح إلى شيء من الجمود في آرائه وفتواه بدعوى التمسك بالسنة، وكان الإمام الشهيد يتألم لذلك، وقد أراه الله رؤيا في منامه أن الشيخ محمود خطاب السبكي يسلمه ساعته ويقول له: "يا حسن يا ابني ساعتي معطلة، خذها وأصلحها لي"، فتناولها منه الإمام الشهيد وأصلحها له، وقد تأوَّل الإمام الشهيد تلك الرؤيا بأن من واجبه أن يعمل على استصلاح الميراث الذي تركه الشيخ محمود خطاب السبكي، فصار يزور الشيخ أمين خطاب ويكلِّف الإخوان بزياراته وسماع دروسه وإنشاء علاقة طيبة معه والوقوف بجانبه وبجانب جماعته، حتى إن الإمام الشهيد أمر بغلق إحدى شعب الإخوان التي أنشئت في مسقط رأس الشيخ محمود السبكي ومعقل دعوته الأولى؛ وذلك احترامًا للرجل وزيادةً في توثيق أواصر المحبة معه ومع جماعته.
ولقد رأى الإخوان أن أفراد الجمعية الشرعية هم قومٌ تمسَّكوا بسنة خاتم الأنبياء، فأتقنوا ناحية العبادة، وكانوا في زيهم وفي معاملاتهم وفي صلاتهم أقرب الناس إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، لكن هؤلاء العابدون الراكعون الساجدون إذا علموا أن الإسلام عبادة وقيادة، مصحف وسيف، وأن القرآن الكريم إذا كان فيه ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ﴾ ففيه أيضًا ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ﴾ (البقرة: من الآية 216) ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ﴾ (الحج: من الآية 78)، وأن الواحد من أصحاب رسول الله كان يقف في صفوف الصلاة فيذكر مكانه في صفوف القتال، هؤلاء المسلمون الكرام إذا أدركوا هذه الحقيقة وعقلوها فماذا يفصلهم عن الإخوان المسلمين؟!
الإخوان وأنصار السنة
أنصار السنة هي جماعة انشقت عن الجمعية الشرعية التي أسَّسها الشيخ محمود خطاب السبكي، وكان على رأسهم الشيخ محمد حامد الفقي، ورغم جهوده في خدمة العلم إلا أنه كان كثيرًا ما يعتبر بعض الفرعيات الفقهية من أصل العقيدة، ويقف عندها؛ مما جعله لا يقبل أي تقارب أو اتفاق مع الجمعيات الأخرى.
ومع ذلك فلم يكن الإمام الشهيد- رحمه الله عليه- يسمح لأحدٍ من الإخوان قط بمهاجمة الشيخ محمد حامد الفقي أو جماعته، ولا يسمح أن يجلس في مجلس يسمع فيه نقدًا له؛ حرصًا على بقاء العلاقة الطيبة بينهما، رغم أن الإمام الشهيد نفسه حاول أن يتقارب مع الشيخ محمد حامد الفقي تحت مظلة "نتعاون فيما اتفقنا عليه، ويعذر بعضنا بعضًا فيما اختلفنا فيه"، إلا أنه- رحمه الله- رفض ذلك.
في سبيل الوحدة
رغم إيمان الإخوان المسلمين منذ نشأتهم بأن الاختلافات في الفروع أمرٌ لا بد منه؛ لاختلاف العقول في الفهم والاستنباط، وللاختلاف في تحصيل العلم ومعرفة الأدلة، ولاختلاف البيئات والظروف، وللاختلاف في تقدير الدليل، إلا أنهم يتمنَّون أن يتوحَّد المسلمون جميعًا تحت راية واحدة؛ متفقين على الأصول الثابتة للإسلام، وأن الجماعات الإسلامية العاملة إن اختلفت أساليبها في الدعوة فإن غايتها وأهدافها واحدة.
وقد أفصح الأستاذ صالح عشماوي في مقال له (بمجلة النذير) عن ضرورة اتحاد الهيئات الإسلامية من أجل تحقيق الغايات المشتركة فقال:
- "إننا نعيب على الأحزاب تعددها، وندعوهم جميعًا إلى الوحدة نزولاً على إرادة الله؛ فما لنا نحن الداعين إلى هذا ونحن أقرب إلى الله من هذه الأحزاب، ونحن أعلم بكتاب الله وتعاليم الإسلام من هؤلاء الزعماء، وقد تعددت هيئاتنا وتوزعت جهودنا؟!
- إننا ننكر على الأحزاب السياسية أنها جميعًا تعمل لغاية واحدة وبوسيلة واحدة؛ فليس بينها خلاف على مبدأ ولا نزاع على مسلك، وكان وما زال من برنامجها جميعًا "السعي إلى استقلال مصر والسودان"؛ فما لنا لا ننكر على أنفسنا أن يكون هناك: الجمعية الشرعية، وجمعية أنصار السنة، وجمعية الشبان المسلمين، والإخوان المسلمون، وجمعية الهداية ومكارم الأخلاق ونشر الفضائل، وجماعة إحياء مجد الإسلام، وغير ذلك من الهيئات والجمعيات مما بلغ عدده ستًّا وستين جمعية، وكلها تسعى إلى غرض واحد، وهو العمل بكتاب الله وسنة رسوله وإعادة مجد الإسلام.
- خذ مثلاً أعضاء الجمعية الشرعية؛ فهم قوم تمسكوا بسنة خاتم الأنبياء وسيد الزعماء محمد صلوات الله عليه وسلامه، فأتقنوا ناحية العبادات، وكانوا في زيهم وفي معاملاتهم، وفي صلاتهم أقرب الناس إلى أصحاب رسول الله.
- هؤلاء العابدون الراكعون الساجدون إذا علموا أن الإسلام عبادة وقيادة ومصحف وسيف، والقرآن الكريم إذا كان فيه ﴿وَأَقِيمُوا الصَّلاةَ﴾ ففيه أيضًا ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمْ الْقِتَالُ﴾ (البقرة: من الآية 216) ﴿وَجَاهِدُوا فِي اللهِ حَقَّ جِهَادِهِ﴾ (الحج: من الآية 78)، وأن الواحد من أصحاب رسول الله كان يقف في صفوف الصلاة فيذكر مكانه في صفوف القتال.
- هؤلاء المسلمون الكرام إذا أدركوا هذه الحقيقة فماذا يفضلهم عن الإخوان المسلمين؟! والإخوان المسلمون أيضًا الذين يتهمهم خصومهم بأنهم "دراويش" وقوم يكثرون من الصلاة، ويتمسكون بأهداب الدين، إذا استكملوا ثقافتهم الإسلامية وتفقهوا في الدين، وأخذوا أنفسهم بسنة زعيمهم وقدوتهم محمد بن عبد الله فماذا يفرقهم عن إخوانهم في الله والدين أعضاء الجمعية الشرعية؟!
- وهذا الخلاف القائم بين أعضاء الجمعية الشرعية وجمعية أنصار السنة المحمدية مداره آية واحدة من آيات الله وهي ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ (طه: 5) هل انحصر القرآن في هذه الآية الواحدة التي اختلفتم في تفسيرها؟! أليس في كتاب الله آيات وآيات ولا جدال فيها؟! ألا تؤمنون طبعًا بهذه الآية الكريمة ﴿فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا﴾ (النساء: 65)؟! ألا تؤمنون كلكم بقول الحق تبارك وتعالى: ﴿وَمَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِمَا أَنزَلَ اللهُ فَأُوْلَئِكَ هُمْ الْكَافِرُونَ (44)..... الظَّالِمُونَ (45).... الْفَاسِقُونَ (47)﴾ (المائدة)؟!
- وأنتم يا أكثر الناس تحريًا للسنة وأقرب المؤمنين شبهًا برسول الله.. يا أعضاء الجمعية الشرعية.. ويا أنصار السنة المحمدية.. هل بينكم خلاف أو شبه خلاف على قول الرسول الكريم والنبي الأمين: "من رأى منكم منكرًا فليغيره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، وإن لم يستطع فبقلبه، وذلك أضعف الإيمان"؟! فما لكم لا تتعاونون مع الإخوان المسلمين على الجهاد في سبيل الحكم بما أنزل الله، وعلى تغيير المنكر باليد قبل اللسان والقلب؟
- وهؤلاء الشبان المسلمون أتقنوا ناحية الرياضة البدنية، فكانوا شبَّانًا أقوياء، ولكنهم لم يكونوا حتى اليوم مسلمين أقوياء؛ فلو أنهم فهموا أن هذا الشباب المملوء حيويةً، وهذه الأجسام القوية، والسواعد المفتولة لم تخلق ليمشوا في الأرض مرحًا ﴿إِنَّ اللهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ (لقمان: من الآية 18)، وإنما يجب أن يبيعوا هذه الحياة على ما فيها من متاع وإغراء ويهبوا ذلك الشباب على ما فيه من أمان وآمال لله وحده، فيفنوا في سبيل إعلاء كلمته ورفع رايته ونشر دينه، لأصبحوا نموذجًا ساميًا لما يريده الإخوان المسلمون في شباب محمد صلى الله عليه وسلم.
- وأيضًا شباب جماعة إحياء مجد الإسلام نريد أن نقول لهم أنه جميل منهم أن يحتفلوا بالأيام اللامعة في تاريخ الإسلام، وأن يُحيوا ذكراها، ولكن أجمل من هذا أن نستخلص من هذه الذكريات العِبَر فنقارن بين حال المسلمين بالأمس وحالنا اليوم، وندرك أن السر في هذا التدهور هو في ترك الدين ونبذ تعاليمه، وعندئذٍ فلنجاهد جميعًا للرجوع بهذه الأمة إلى تعاليم الإسلام القويم، وليكن إحياؤنا لذكرى موقعة بدر قتالاً لا كلامًا.
- والجمعيات الإسلامية من هداية، ومكارم، ونشر فضائل وغيرها، وغيرها ما يمنع من أن تتعاون مع بقية الهيئات الأخرى حتى يُتمِّم بعضها بعضًا.
- وإذا كان زعماء الأحزاب السياسية- وهم يعملون لدنيا يصيبونها، وقد تحكمت فيهم الأهواء والمطامع والأغراض- قد اتحدوا، بل واندمجوا، فأولى برجال الإسلام وهم يعملون لله ورسوله لا يبتغون عرض الحياة الدنيا أن يأتلفوا ويعتصموا بحبل الله جميعًا.
المراجع
1- محمود عبد الحليم: الإخوان المسلمون أحداث صنعت التاريخ، دار الدعوة، الجزء الأول، 1999م.
2- جمعة أمين عبد العزيز: أوراق من تاريخ الإخوان المسلمين، دار التوزيع والنشر الإسلامية.