أمسية إمانية لجمعية الزيتونة بسويسرا
في جو إيماني بهيج اجتمع عدد من أبناء جمعية الزيتونة بسويسرا، نساء ورجالا، مساء السبت 21 مارس في مدينة لشودفون بنيوشاتال، لإحياء ليلة إيمانية مفعمة بالرقائق الروحية والمعاني التربوية رفقة ضيفين أشعا على الحضور بمعاني جليلة في تزكية النفس واشعاعها على محيطها . وكان الافتتاح من خلال مداخلتين:
معاني الربانية وشروطها : استهل الأستاذ حديثه بسؤال حول الهدف من العمل التربوي في المشروع الإسلامي، ليجيب بإيجاز نحن نريد فردا ربانيا ومجتمعا ربانيا. وهذا من طبيعة هدف دعوتنا، إذ هي دعوة ربانية. تقوم لله وبالله وفي الله.
وإذا حدث خلل في مستوى من مستويات العمل فان ذلك يخل بمقومات الربانية باعتبارها إخلاص لله.
نجد من معاني الربانية في اللغة ما قاله ابن كثير أنها تنتمي الى الرب وما زاد من الحروف هو للمبالغة. ونقول كذلك ربان السفينة وهو قائدها. أما عن الرباني اصطلاحا فهو العالم المعلم العامل. فنحن نتعلم علما تكوينيا، نتعلم لنتزكى ولنرتقي. يقول المولى سبحانه " كونوا ربانيين بما كنتم تعلّمون الكتاب و بما كنتم تدرسون" أي كونوا علماء حكماء. ويقول علي ابن أبي طالب " الربانيون هم الذين يربون الناس بالحكمة".
لقد تم تناول الربانية في القرآن الكريم في أربعة مواضع تحمل كلها معاني التعلق بالله سبحانه. ورسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم هو خير معلم ومربي. فقد عاش لدعوته فعمل على نشرها وحمل أعبائها دون ملل ولا كلل.
فحتى في أعسر لحظاتها كان لسان حاله يقول" اللهم ان لم يكن بك غضب علي فلا أبالي".
ونحن مأمورون باتباع هذا الرسول الكريم عليه أفضل الصلاة وازكى التسليم، يقول المولى سبحانه " لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة لمن كان يرجو الله واليوم الآخر و ذكر الله كثيرا".
ان المسلم دائم العلم والتعلم .
يقول الإمام أحمد ابن حنبل " مع المحبرة حتى المقبرة".
يطلب المسلم العلم ليترقى معرفة وعملا. اذ أن من صفات الربانية أنها قائمة على الشريعة على منهج الهي مما يستوجب علما ودراية. والمسلم صاحب أمانة ، صاحب رسالة بها يعيش وعليها يموت وليس مجرد موظف في إدارة. انه حامل دعوة وليس عاملا فيها. لذلك فان من صفات الربانية أيضا أن يكون صاحبها قدوة ونموذجا يحتذى به.
هذا ما نلحظه في الخطاب القرآني في سورة المزمل التي أتت لإعداد وتهيئة الرسول صلى الله عليه وسلم لأمر جلل ستفصح عنه سورة المدثر بعد ذلك. يقول المولى سبحانه في السورة الأولى:" يا ايها المزمل (١ ) قم الليل الا قليلا (٢) نصفه أو انقص منه قليلا (٣) أو زد عليه ورتل القرآن ترتيلا (٤) انا سنلقي عليك قولا ثقيلا (٥) إِنَّ نَاشِئَةَ هِىَ أَشَدُّوطأ وأقوم قِيلاً (٦) إِنَّ لَكَ فِى النهارسبحا طويلا(٧) واذكر اسم ربك وتبتل اليه تبتيلا(۸)رب المشرق والمغرب لااله الا هو فاتخذه وكيلا(٩) واصبر على ما يقولون واهجرهم هجرا جميلا (١٠)" ان تواتر الأفعال قم، رتل، أذكر، اصبر واهجرهم أتت لإصلاح الذات وإعدادها لمهمة تعلن عنها سورة المدثر. يقول الله عز وجل "يا أيها المدثر(1) قم فأنذر(2)".
ان للدعوة لسانان ، لسان الحال ولسان المقال، فصدق القول لا يزكي الشخص انما هو صدق الفعال. فالله سبحانه لايريد فصاحة أقوال بل فصاحة أفعال أي تطابق القول مع العمل وقد كان التحذير الرباني شديدا من هذا الفصام " يا ايها الذين آمنوا لم تقولون ما تفعلون (2) كبر مقتا عند الله ان تقولوا ما لا تفعلون(3)". فالرباني قدوة يشهد على هذا المنهج. واذا كان الوجود عيانا فلا حاجة لكثير كلام.
انه صاحب همة وعزم وأنفة على صغائر الأمور. يقول الامام الشافعي " نفسي نفس حر ترى المذلة كفرا". ان الرباني غيور على دينه على اسلامه على مشروعه على حركته. وهذا الأمر يتطلب مصابرة ومكابدة لكل أذى، فالصبر هو طريق التمكين.
لكن كيف نصل الى الربانية؟
شروط الربانية : لنصل الى الربانية يجب أن تتحقق في النفس عدة خصال يمكن ان نوجزها فيما يلي:
ـ أن تصلح نفسك عقائديا وذلك بأن تجعل فهمك للإسلام شموليا لكل مناحي حياتك.
ـ أن تصلح نفسك روحيا بتصحيح عباداتك اسحضارا للعلاقة مع الخالق، عبر الخشوع والخشية.
ـ أن تصلح نفسك جهاديا بالقرب الى الله بالطاعات ومكابدة أهواء النفس مصداقا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم " لقد عدنا من الجهاد الأصغر الى الجهاد الأكبر".
ـ أن تصلح نفسك خلقيا بان تكون متين الخلق دمث المعشر.
ـ أن تكون مثقف الفكر، تلاوة وتدبرا لكتاب الله، اطلاعا على سنة المصطفى واقتداء به، ومطالعة لانتاج الفكر وابداعه.
أن تكون نافعا لغيرك من خلال العبادات الاجتماعية ومساعدة الناس.
ـ أن تكون سليما صحيا قوي الجسم معافى البدن ساعيا للكسب. فالمؤمن القوي خير واقرب إلى الله من المؤمن الضعيف كما ورد في حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم.
ـ أن تكون حريصا على الوقت مرتبا في أولوياتك من خلال فقه الأولويات.
الفاعلية و الأمل:
صدر الشيخ راشد مداخلته بأسئلة إنكارية بقوله : هل لدينا أزمة تربوية وأتينا اليوم لنحلها؟ هل العالم الاسلامي اليوم يعيش في أزمة؟ هل اجتماعنا اليوم هو دليل أزمة؟
ثم استرسل بالقول : ان حياة المسلم كدح مستمر نحوالله " يا ايها الانسان انك كادح الى ربك كدحا فملاقيه". حياة المؤمن مكابدة، فيما بين الانسان ونفسه ومكابدة في المجال العام. ان نصرة الله مبدؤها في النفس " يا أيها الذين آمنوا ان تنصروا الله ينصركم ويثبت اقدامكم".
لذلك فان التربية هي عمل استراتيجي دائم دوام الانسان وليس عملا ظرفيا مؤقتا. لقد قصر الله هدايته على الذين يجاهدون فيه " والذين جاهدوا فينا لهدينهم سبلنا".
لذلك فنحن نحتاج الى انتاج انسان رباني. والربانية هي خلق فردي وجماعي يستهدف تغيير الحال نحو الأفضل.
ان الربانية مجاهدة على كل المستويات وكدح مستمر نحو المطلق (الله).
ان الناظر الى الاسلام في وضعه العام يلاحظ أنه يزداد عددا وعدة. فالمسلمون اليوم يصيبون خيرا في دينهم. عقائد المسلمين اليوم أصفي و أعداد المساجد غير مسبوقة. لذلك فان الأمة لاتعيش ازمة ، اذ أن هناك صحوة تجتاح العالم و الاسلام يجتذب خيرة العقول. فأين تكمن الأزمة اذن؟
الأصل أن تكون هذه الأمة سيدة في العالم. لكن القوى المؤثرة في العالم كقمة الدول خمسة زائد خمسة ليس فيها مسلم. مليار ونصف غير ممثلين في هذه الهيآت. اذن حين ننظر الى مجموع الأمة نرى أن هناك خللا.
ولنا في تكالب العالم على أمة الاسلام خير دليل. لكن في المقابل من خلال حرب غزة الأخيرة رأينا فئة قليلة استطاعت أن تقف في وجه القوة الصهيونية الغاشمة المدعومة دوليا. فغزة تعطينا نموذجا في التربية.
ان التربية لا تكون في معزل عن الحياة وحركة التاريخ. وهذا ما مثل رهان الحركة الاسلامية منذ انطلاقتها، حيث كان الاسلام منسحبا من التاريخ فأرادت أن تعيده لمسرح الحياة ثانية في زمن سيطر عليه الفكر الجبري و الصوفي الأغنوصي حتى أن ابن عربي استوت عنده الأحوال، كما صرح بذلك، بين أن يكون على حال المسلم في مسجده أوالمسيحي في كنيسته والبوذي في معبده مادام يجمع بينهم "دين الحب".
لقد ارادت الحركة الاسلامية ان تعيد الفعالية للأمة من خلال التربية حتى يصبح المسلم فاعلا في واقعه، وقد مكنت هذه الفاعلية الأمة الاسلامية من دحر المستعمرعن أراضيها.
فما هي التربية في ديننا اذن؟
انها البوتقة او العملية التي تنقل الأفكار والأهداف الى منجز وتاريخ.
وقد كان محور عمل الحركة الاصلاحية التغيير الداخلي فكانت آية التغيير في القرآن الكريم مرتكزا لها" ان الله لايغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم".
فنجد أدبيات المودودي وسيد قطب تتمحور حول فكرة الانسان خليفة الله في الأرض ثم فكرة الحاكمية لله من خلال عملية تربوية دؤوبة.
لذلك فان التربية هي عملية دائمة ومستمرة خاصة في مثل هذه المجتمعات (الأروبية) التي نُسي فيها الله.
ان من أهم القيم التي ركز عليها الاسلام التقوى. الحضور الالهي الدائم مع المسلم استحضار معية ومراقبة. ولقد وردت التقوى في سورة الطلاق سبع مرات للدلالة على حاجة القانون خاصة في الحياة الأسرية الى تريبة وتقوى، اذ قد يتحايل الفرد على القانون لكن لايستطيع التحايل على خالقه.
ان القرآن الكريم هو كتاب تربية أوضح لناالمنهاج والقدوة (الرسول صلى الله عليه وسلم). والانبياء هم بخلاف الفلاسفة حولوا الايمان الى فعل وحركة تاريخ. فهل هذا حال المسلمين اليوم؟
واقع الحال يقول أن المسلمين لا يصنعون مصائرهم بل غيرهم من يحددها.
لكن بتراكم الأحداث أصبح الاسلام يرتحل من الهامش الى القلب، الى قلب التاريخ. ونقطة الضعف عند المسلمين هي قضية الحكم. لأن الاسلام في عمقه نظام حكم.
كما ان العملية التربوية تحتاج الى اطار، الى مناخ أهم مقوماته الحرية التي توفر محاضن للتربية.
واذا تحدثنا عن أزمة في العملية التربوية فمن خلال غياب الحرية. في أوروبا تجد العملية التربوية محاضنا لتوفر مناخ الحرية.
ان انطلاقة الحركة الاسلامية في تونس كانت تربوية في اطارها الضيق لكن الحصار السياسي الذي ضرب عليها أدخلها في عملية تدافع. لكن في تركيا مثلا هناك محاضن كثيرة للعملية التربوية بتوفر مجال كبير من الحرية. أستطيع أن ألخص أزمة التربية في العالم الاسلامي في غياب الحرية.
فالسياسة تفرض نفسها في غياب الحرية. لكن في كل الأحوال تظل التربية محور عمل الحركة الاسلامية. ان العملية التربوية الضمانة الأساسية للحركة الاسلامية لكي لا تتحول الى تيار سياسي او فكري.
هناك في البيئة الاسلامية خلل بين السياسي والتربوي وضروري اعادة التوازن بينهما حتى تظل التربية السياسية منشدة الى أحكام الشريعة. فالمطلوب اعادة ترتيب الأولويات بربط السياسي بالعقدي، الربط بين الأرض والسماء، بين مراقبة السلوك الفردي والجماعي.
ولقد جاءت الحركة الاسلامية لاصلاح هذا الفصام النكد، بلغة سيد قطب، بين الديني والدنيوي. نحن في عالم تسود فيه العلمانية وقد طردت المقدس من حياة الناس. ومهمة الحركة الاسلامية أن تجعل المقدس في قلب العالم.
فانما خلقنا لعبادة الله، يقول الله تعالى " وما خلقت الجن والانس الا ليعبدون". وجوهرالمشروع الاسلامي هو أن نعبد الله من خلال الكدح في الدنيا.
لإن الله قد تعبدنا بالفتن في الدنيا( المال، النساء، السياسة...) و رسالة الحركة الاسلامية هي اعادة ربط الدنيوي بالآخروي.
والاتجاه الأكبر للمسلم هو الاتجاه نحو الآخرة لكن دون هجر الدنيا " وابتغ فيما أتاك الله الدار الآخرة ولا تنس نصيبك من الدنيا".
وهذا يتطلب منا العيش مع القرآن فهو فلسفة التربية ومنهاج تطبيقها تلاوة وفهما وتدبرا.
كذلك لابد من احياء المسجد خاصة في صلاة الصبح.
فمن بين الثلاثة الذين يظلهم الله يوم لاظل الا ظله رجل علق قلبه في المساجد كما ورد في حديث المصطفى صلى الله عليه وسلم.
واننا نحتاج في أوروبا الى مناخات ايمانية جماعية مطولة بعض الشيء حتى نشحن من معينها لندرة الفرص الجامعة.
كما يمكن أن نزكي النفس بتذكر الموت وعيادة المرضى وتشييع الجنائز والتدبر في الأمم الزائلة و تذكر ايام الشباب لاشتياق ايام الاقبال على الله. كذلك يجب أن نعمل على خدمة الاخوان و التواضع للناس واكرام الضيف.
فالبيت الذي يكثر فيه الضيوف هو بيت خير وبركة. كذلك هي فرصة للأبناء لاكسابهم القابلية الاجتماعية، اذ أن من أمراض الغرب حيث نعيش طغيان الفردانية والانكفاء على الذات.
لكن في المقابل وفر الغرب آلية لحل الخلافات عن طريق الحوار، ونحن نحتاج الى أن نربي أنفسنا على ممارسة الشورى فنربي أنفسنا في الأسرة وفي الجماعة وفي المؤسسة على ذلك، اذ أن الربانية والتقوى تحتاج الى آلية ومنهاج.
كذلك لابد من الاحسان الى الأهل وصلة الرحم والنصح للمسلمين.
الثابت أن أمة الاسلام الى صعود وأعداؤها يتراجعون، وما هذه الدعاوي للحوار مع الاسلاميين اليوم الا دلائل على فشل محاولة محوهم. الاسلام تتعزز مكانته يوما بعد يوم.
ان ألية استنهاض هذا المشروع تستوجب اعادة تمحيص للمشروع ذاته للتثبت واستعادة ةالثقة به. فاذا كان القرآن الكريم أتى مثبتا ومؤازرا للرسول صلى الله عليه وسلم من خلال قوله عز وجل " يس (1)والقرآن الحكيم(2) انك لمن المرسلين (3)على صراط مستقيم(4) تنزيل العزيز الرحيم(5)" فنحن أحوج الى ذلك.
لذلك فاذا كانت الحرية ضرورية أو واجب وجود بلغة المناطقة فانها تبقى غير كافية. فالحرية في الغرب قد استفاد منها الاسلام لكن المطلوب هو البحث عن الحكمة.
ولسائل أن يسأل لماذا انطلقت رسالة الاسلام من أرض الحجاز؟ يمكن أن نقول ببساطة لأن هناك حرية. ليست هناك دولة تصدها بل فضاء حركتها كبير.
أما بعد ما تمكن، فقد أصبح الاسلام كسار الامبراطوريات حتى في مراحل ضعفه.
أما عن جماعات الهوامش فيه فهي ابتلاء وتبقى مجرد هوامش بالنسبة للخط الوسطي العام.
ان السبيل لاستعادة الحياة الايمانية في انفسنا يكون عبر جملة من السلوكات المتنوعة (ورد، ذكر، تزاور...) وهو ما يسميه الامام الغزالي بـ"المعجون" أي هذا اللفيف المتنوع من العبادات والاخلاقيات.
وبعد قيام الليل غسقا والدعاء جماعة حتى طلوع الفجر ثم الصلاة فالفطور وقراءة الورد القرآني تجمع الاخوة صبيحة اليوم الثاني في ندوة جمعت الاستاذ الدسوقي والشيخ راشد الغنوشي. حيث تناول الاستاذ الدسوقي مسألة الاستمرار في العملية التربوية. فاشار الى تعرض القرآن الكريم الى موضوع التغيير فبدأ بالانسان لكأن ارادة البشر في التغيير هي شرط ارادة الله : إنّ الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم. وهذا دليل على أهمية الفرد في تغيير ما بنفسه وعظمة هذا الأمر.
يقول الامام حسن البنا رحمه الله" ان تجفيف البحار ونقل الجبال أسهل من تربية الرجال". فعملية تذليل النفس ومكابدتها مسيرة دائمة دوام الحرب مع العدو الأبدي ابليس.
يقول المولى سبحانه " ان الشيطان للانسان عدو مبين".
وفرق بين ان تكسب معه معركة أو تكسب حربه. فقد روي عن الامام أحمد ابن حنبل أنه لما كان في سكرات الموت واخوانه يلقنونه الشهادة كان يردد مازال بعد فلما افاق قليلا سأله أحدهم لقد كنا يا امام نلقنك الشهادة فكنت تجيب مازال بعد فقال "كنت أخشى العجب فيغلبني الشيطان".
لذلك كانت الآية الكريمة صريحة " الم أعهد اليكم يا بني آدم أن لا تعبدوا الشيطان انه لكم عدو مبين".
لقد طرد الشيطان من الجنة لأجل الانسان حيث طلب منه السجود له فأبى، فهل يعقل أن يتبع الانسان شيطانا؟
لقد تحدث القرآن الكريم عن بيعة بين الله وعباده المؤمنين. وهذه البيعة التي في رقابنا ليست مشروطة بل حرة. ولما نعدد اركان البيوع نجدها خمسة(البائع، المشتري، السلعة، الثمن وتحول الملكية).
يقول الله سبحانه " ان الله اشترى من المؤمنين أنفسهم بان لهم الجنة" بهذه البيعة أنت أخي المسلم ملك لله، أنت سهم من سهام الله يضعك حيث يشاء ولا يستطيع أحد أن يشترط على الله شيئا. فمن كرمه سبحانه أن هذه النفس البشرية ملك له لكن هو يشتريها ويعرض لها ثمنا " الا ان سلعة الله غالية الا ان سلعة الله الجنة".
فأكرم وأنعم بها من بيعة يكون الطرف الثاني فيها الله. اذن فضروري أن نفهم عملية انتقال الملكية لله. فالله هو المتصرف في النفس والمال والولد.
لماذا اذن الاستمرار في التربية؟ لكن هل نضمن حياتنا في هذه الدنيا؟ لماذا استدبرنا محاضن التربية؟ هل وجدنا بديلا عنها؟
لايجب أن نكون مثل ذلك الأعرابي الذي أضاع راحلته في صحراء قاحلة فلما لم يجدها استسلم لقدره وبينما هو على هذه الحال اذ رأى قافلة من بعيد فتوجه اليها مهرولا ينشد النجاة لكن في طريقه أصابته أشواك فجلس ينتفشها. لكن القافلة مرت في طريقها حتى توارت. لذلك فان تأخر لحظة قد يؤدي الى الهلاك. فهذا عبد الله بن رواحة تردد لحظة في خروجه للجهاد فأصاب سريره اعوجاجا في الجنة وقد استشهد في المعركة كما روى الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم.
ان استمرارنا في تربية مرده كذلك أن حياتنا كلها لله. فحياتنا ليست كحياة غيرنا وكذلك موتنا وكما يقول سيد قطب " غيرنا يموت ونحن نستشهد". ان حياتنا كد وجد يقول المولى سبحانه"فإذا فرغت فانصب والى ربك فارغب".
إن الزمن يفعل فينا فالنفعل فيه. يقول الإمام الشافعي " لم أندم كندمي على يوم يمر ولم يزد فيه عملي".
إن الزمن يمكن أن يتحول إلى شيء آخر لكن لاشيء يمكن أن يتحول إلى زمن. أيها المؤمن ان حياتك ليست إلا ساعة فادخر منها لنفسك .
إن الله يأمرنا في حديثه عن الآخرة حاثا على المسارعة بقوله تعالى :" فاستبقوا الخيرات " و يقول أيضا:" وسارعوا إلى مغفرة من ربكم و جنة عرضها السماوات و الأرض أعدت للمتقين ".
أما في أمور الدنيا فيقول :"فامشوا في مناكبها " ... إذا هناك تؤدة في أمور الدنيا ومسارعة في أمور الآخرة .
و بالرجوع إلى موضوع الاستمرار في تربية النفس و تزكيتها فنقول : أليس رسول الله صلى الله عليه و سلم قدوتنا ؟ هل كان عمله منقطعا أم مستمرا ؟. لقد كان عمله ديمة , روت عنه أمنا عائشة رضي الله عنها انه فاته مرة قيام ليلة فصلى الضحى 8 ركعات ، و فاته اعتكاف في رمضان فاعتكف في شوال . شج رأسه في احد وكسرت رباعيته كما غاب عن الوعي في الطائف لما رجم لكن بقي صابرا محتسبا شاكرا لله وبلسان يلهج بالدعاء مستعيذا به من غضبه وعذابه.
إن مقتضى العقل يقول بالاستمرار، أتغزل غزلا ثم تفكه، بل اجعل منه لباسا للتقوى. كما أن هدى الصالحين هو الاستمرار في تربية النفس وتزكيتها. يصف القرآن حالهم " ان الذين هم من خشية ربهم مشفقون" وردت الحالة على صيغة الدوام " أولائك يسارعون في الخيرات و هم لها سابقون ..." هناك سرعة في الفعل مع الدوام.
فهم في بحر الطاعات يسبحون ما خرجوا من بحر الدعوة إلى شاطئ الفردية. نحن، كما تعلمون، نبعث على الخواتيم.
فلا يجب أن نغتر بالعمل " إنما يتقبل الله من المتقين" ويقول الرسول صلى الله عليه وسلم " إن الله إذا أحب عبدا استعمله".
إن من أراد الراحة ترك الراحة وراحتنا مع أول قدم في الجنة.
إذن التربية ليست مرحلة فتنتهي وإنما هي حياة مستمرة،فالله خير وأبقى. نحن نموت ونحن نتربى حتى نقول" هاؤم اقرؤوا كتابيه إني ظننت أني ملاق حسابيه".
بعد أن أتم الأستاذ الدسوقي مداخلته أحيلت الكلمة الي الشيخ راشد الغنوشي حيث شدد على ضرورة التسلح بالأمل. فأمر المسلم دائما خير ان أصابته نعمة شكرفكان خيرا له وان اصابته فتنة صبرفكان خيرا له.
كذلك يجب أن يستشعر الانسان معيته الدائمة مع ربه فمتى ماكان الله مع عبد الا وصغرت في عينه الدنيا مهما تعاظم أمرها.
كما أن المسلم دائم التعلق بالله، همته منشدة الى ما عنده لا الى ما عند البشر. انه دائم البشر والفرحة ينشر السرور والبهجة في نفسه، في بيته مع اخوانه والناس. لايستقر في قلبه نكد ولا جزع. هذا الأمل هو وقود فاعليته وعطائه.
وفي أجواء هذه العبر واللطائف التي غمرت قلوب الحاضرين فانهمرت العيون طربا وانفعالا وفرحة باستعادة نفحات إيمانية تغشاها نسق الحياة بأوروبا تعانق الاخوان وداعا على أمل الاستزادة من عبق هذه اللقاءات مستقبلا.
المصدر
- مقال:إمانية لجمعية الزيتونة بسويسرانقلا عن منتدى تونسويس للحوار
للمزيد عن الشيخ راشد الغنوشي
.