رسالة الى الشاب زهير اليحياوى
الشيخ راشد الغنوشي
بسم الله الرحمن الرحيم
الى الابن العزيز والمناضل الأبيّ، والمواطن الغيور السيد زهير اليحياوي السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد: تأملت طويلا في رسالتك، وحمدت لك عمق مشاعرك الانسانية والوطنية وحملك بصدق وإخلاص هموم فئة من خيرة أبناء تونس دفنوا أحياء في مقابر الظلم والتوحش، بفعل قصدي الى الانفراد من قبل البعض وتواطئ وانتهازمن البعض الآخر، فآليت على نفسك وقد منّ الله عليك بالخروج من تلك المقابر،حتى وإن يكن الى سجن موسع هو الوطن على اتساعه وقد حوله الطغيان الى معتقل كبير وساحة للرعب والتسلط والعدوان على كرامة الناس وأموالهم وأعراضهم، آليت على نفسك كما يفعل كل حر كريم وقد لمست عن قرب ما ماز تلك الصفوة- وعلى الضد من كل ما ألصق بها- من سمو أرواح وشموخ أخلاق ورجاحة عقول،
أن لا تدخر وسعا في نصرة قضيتهم وهتك استار التعتيم عن مظلمتهم غير المسبوقة في تاريخ البلاد حتى في أحلك ظلمات الاستعمار، ولكنك ألفيت نفسك بعد بضعة أشهر من مغادرة ذلك القبر عاجزا أن تفعل شيئا كثيرا مجديا، وهو ما قادك الى محاولة خرق جدار المعتاد من التفكير والأساليب التي لم تجد حتى الآن نفعا في لفت الانظار بقوة الى هذه المظلمة ووضعها تحت الاضواء الساطعة باعتبارها وصمة عار في تاريخ تونس الحديث وأنشوطة تخنق رقبة كل حر كريم وشهادة إدانة للشياطين الخرس الذين أسهموا ولا يزالون على نحو أو آخر في استمرارها حتى بالصمت أو بخطابات المجاملة من طرف اللسان، فيحتل مسعى استرجاع وثيقة - في جدول أعمال منظمات محلية ودولية نذرت نفسها للدفاع عن حقوق الانسان- حجما يفوق مظلمة ألف سجين، فقط لأنهم إسلاميون وكأن الاسلاميين صنف آخر من الكائنات.
من هنا اتجه تفكيرك الى خرق المألوف ابتغاء وضع هذه المظلمة في قلب اهتمام الرأي العام المحلي والدولي حتى تتحول جمرة حارقة لا تقوى معها قبضة الطغيان على تواصل نهجها في الخنق والقتل البطيئ.
والفكرة باختصارتتمثل في اقتراحك عودتي في بحر هذه السنة الى أرض الوطن على اعتبارخصوصية هذه السنة من حيث توفرها على محطة "مهمة" هي الانتخابات التي ستكفل لفت نظر الرأي العام الدولي الى "الحالة التونسية" بما قد يحد من شبق السلطة الى البطش ويفرض عليها بعض القيام ببعض التحسينات.
غير أنك إذ اقترحت ذلك لم تكن حالما، فترجّح احتمال أن تسلك السلطة إزاء هذه المبادرة مسلك التعقل، والتحسب لعواقب الامور، فما بالطبع- كما يقال- لا يتخلف،إذ العنف هو كل ما تتقن في التعامل مع التحديات الداخلية باعتباره صناعتها المفضلة، بما يكاد يقطع بأن ما ستفعله هو إضافة سجين آخر، وكأن النهضة ينقصها تمثيل في السجن الصغير أو الكبير.ولكن ذلك – حسب تقديرك- رغم ما يحمله من أخطار على هذا السجين الاضافي فإنه سيفضي بعد حين ولا بد الى حل المشكل برمته،إذ أن تجميع خيوط الضوء حول هذه المظلمة سيفضي لا محالة الى تكثيف الضغط على السلطة بما لا تقوى على مقاومته، فتقدم على إصدار عفو عام، وهو المطلوب! فتكون الخطة هي من قبيل "اشتدي ياأزمة تنفرجي"أي حل المشاكل من طريق زيادة تعفينها. فما الموقف من هذا المقترح الجريئ؟
1- هذا المقترح الجريئ لا ريب عندي في صدوره عن دوافع انسانية وطنية نزيهة قد تلجلجت في كثير من نفوس شباب تونس وسبق أن عبر عنها الكثير منهم خلال بعض الحوارات المباشرة التي أجروها معي على شبكة الانترنات(إسلام أون لاين وشبكة محيط..ربما كان ذلك خلال وجودك بالسجن) وأنا عظيم التقديرلغيرتهم وعاطفتهم وإخلاصهم وحرصهم على المصلحة الوطنية العامة.وأؤكد لهم أنه لا يشغلني هم مثل هم العودة الى الوطن الحبيب ولثم تراب الخضراء من بنزرت الى برج الخضراء،وأنا أتحين حالا مناسبا،"قل عسى أن يكون قريبا" وأنا مستيقن أن مرحلة الهجرة في أيامها الاخيرة وأن البلد الحبيب يستشرف طورا جديدا تحتاج معه البلاد الى جمع شمل كل أبنائها للاسهام في مرحلة التحول وإعادة البناء.
2- غير أن صدور هذا المقترح الجريئ من قبل شاب ذكي زكي مثلك يزيده أهمية ويفرض عليّ أخذه بما يستحق من البحث الجاد وتبادل الشورى مع الاخوان والاصدقاء داخل الوطن العزيز وخارجه، باعتباره مقترحا ثوريا جادا قد يفتح ثغرة في الجدار المسدود.
والشعوب تحتاج في حالات الانسداد كالتي يمر بها البلد العزيزالى أن تصيخ السمع لحكمائها ولشبابها، فكثيرا ما يكون الفكر الجديد المبدع شابا بينما الاجيال المتقدمة كثيرا ما يحبسها المعتاد المألوف ويهيمن عليها الحذر، فتنكص عن الاستجابة لنداء الوقت، فيكون ذلك إيذانا بانقراض جيل وولادة آخر.أنا أعدك وجيلك يازهيربإيلاء هذا المقترح الجاد ما يستحق من المدارسة الجادة.
ولن أتردد إن شاء الله في المضي قدما الى ما تفضي اليه الشورى بعون الله عز وجل.وذلك رغم قناعتي الثابتةخلال تجربة الصراع المستمرة والمريرة مع سلطة القمع منذ ربع قرن أنه محظور على المناضل الجدير بهذا الاسم أن يسلم نفسه لأعدائه طائعا مختارا..المناضل يواصل مسيرته مكافحا حتى ينتصر أو يسقط في الميدان. وفي حال نضالنا السلمي يستمرحتى ينتصر أو يضفر به العدو فيأسره،فيصبر ويصمد.
المرة الوحيدة التي سلّمت فيها نفسي للبوليس كانت يوم9 مارس 1987 ولم تكن تنازلا عن قناعتي السابقة والدائمة، وإنما كانت نزولا عند قرار المؤسسة القيادية التي قدّرت أن اختفائي سيسعّر نيران الغضب عند السلطة فتضرب في كل اتجاه..ومع أني أذعنت لقرار المؤسسة وسلّمت نفسي فقد ضرب القمع في كل اتجاه..وفي الايام العصيبة التي كان شبح الموت يخيم فوق رأسي خلال أشهر الاعتقال الستة التي كانت دهرا بأهوالها وخلال انعقاد محكمة أمن الدولة لم تغادرني قط فكرة أن دمي إذا أزهق فهو في عنق المؤسسة القيادية.
رغم كل ذلك فمقترح زهير والابناء الاعزاء لا يمكن إلا أن أتعامل معه وإخواني بكل جد ومسؤولية.
3- المؤكد بل البدهي أنك يازهير لا تقصد الرهان على نزاهة أو عقلانية السلطة إذ اعتبرت أنها ستجد نفسها مضطرة الى إصدار عفو تشريعي لتلافي أو لتنفيس الضغط الذي ستتعرض له عند سجني، لا سيما وقد غدت براءة النهضة من تهمة الارهاب التي فشل نظام القمع فشلا ذريعا في الصاقها بها، غدت عارية من كل مصادقية وإلا "ما تركتني بريطانيا أتحرك بحرية"- حسب تعبيرك- في زمن غدا موضوع الارهاب تحت أقوى المجاهر وبيد أقوى وأدق الاجهزة الدولية المختصة.والحقيقة أن سلوك السلطة لو كان به قدر من العقلانية والنزاهة ما وصلت البلاد الى هذا المأزق والانسداد ولما حوكمت النهضة أصلا وهي المعروفة لدى كل من له إلمام بالفكر الاسلامي الحديث وبالحركات الاسلاميةإن لم تكن الرائدة فهي من أبرزالرواد في التأسيس داخل الثقافة السياسية الاسلامية المعاصرة لقيم الحداثة من ديمقراطية وحقوق الانسان وتعددية، فلماذا تكاد تونس من بين دول عالم الاسلام التي اعترفت بحركة اسلامية أو أكثر- وكثير منها في مواقع السلطة- تنفرد بالاصرار على الربط الاعمى بين الاسلام والارهاب كالاصرار على اتخاذ تجريم اسلامييها وملاحقتهم محليا ودوليا بتهمة الارهاب عقيدة ودينا للدولة ؟
هل من دارس منصف يقدر على الزعم أن النهضة هي الاشد تطرفا بين حركات الاسلام المعاصر، بينما هي من بين الأكثرمن نظّر لفكر الاعتدال والوسطية وطورهما في الحقل الاسلامي الحديث وكانت لها علاقات متطورة مع كل حركات المعارضة على اختلاف توجهاتها على قاعدة الدفاع عن الحريات فأنجزت أعمال مشتركة: بيانات وندوات صحفية، وحتى مسيرات؟
وهل هناك إمكان لتوجيه تهمة الانحياز للنهضة من طرف كل الديمقراطيات الغربية التي استقبلت لاجئين نهضويين وخولت للكثير منهم جنسيات بلادها واتخذت من شهادات العضوية التي تقدمها إدارة النهضة لأعضائها طالبي اللجوء، وثيقة أساسية لا غنى عنها لقبول مطالبهم من طرف تلك الإدارات في كل الديمقراطيات الغربية( لاجئوا النهضة موجودون في حوالي خمسين دولة)؟
هل يمكن اتهام تلك الدول بالتواطئ مع اسلاميي النهضة والتستر على إرهابهم!!وكيف يمكن تفسيرصدورأكثر من سبعة أحكام قضائية عن محاكم غربية ضد صحف- غررت بها السلطة التونسية لإلصاق تهمة الارهاب بالنهضة من مثل تنظيم محاولات انقلابية في تونس والقيام بأعمال عنف، وهي نفس التهم التي ألصقت بنا في البلاد لتسويغ إقصاء منافس سياسي رئيسي، فلم تجد المحاكم الغربية بدا من تغريم تلك الصحف بغرامات مالية- هي أحد أهم مصادر تمويلنا- وحملها على الاعتذار لنا؟.
من يصدق أن القضاء التونسي أكثر مصداقية من المحاكم الغربية؟وهل لو عرضت قضيتنا على واحدة منها هل كان لملف الاتهام من مكان لائق به غير سلة المهملات؟ أعلم أن مثلك ممن اكتوى بالنار أبعد ما يكون عن الرهان على نزاهة أو عقلانية السلطة إذ دعوتني الى العودة.فأنت على وعي كامل بثقل المسؤولية وأمانة الناصح
4- هل يصح تقدير ابنتنا العزيزة أم فاروق أن "سلطة ابن علي هي آخر من يرغب في عودة الشيخ" لأن هذا بحسبها سيربك حساباتها؟( تونس نيوز27-2-04) نعم قد يربك حساباتها.
أما كونها لا ترغب في ذلك فمشكوك فيه.
إذ ليس في تقاليد النظام التونسي منذ الاستقلال القبول بوجود للآخرإلا في القبر أو ما يشبهه في غياهب السجن الثابت أو السجن المتحرك في البلاد.فلم يحصل أن نفي معارض من البلاد، بل المطلوب السعي بكل سبيل الى استدراجه الى الحضيرة أو تصفيته.
السياسة الثابتة مع الآخر هي خنقه وإحكام القبضة حول رقبته داخل البلاد في صورة من الصور وضرب الحصار من حوله لمنعه من مغادرتها، فإذا احتال ونجح في الافلات،فإما أن يغتال كما حصل مع الزعيم صالح ابن يوسف وآخرين، عندما كان ذلك ممكنا،أما إذا منعت الظروف الدولية من ذلك- كما هو الحال اليوم- فالسياسة الثابتة هي توظيف كل نفوذ الدولة وأذرعها الدبلوماسية والامنية والاقتصادية والاعلامية لاستلام ذلك المتمرد وإرجاعه الى المعتقل الكبير أو الصغير، كما حصل مع عشرات من المعارضين.
ويكفي أن تعلموا أن النظام التونسي هو أكثر نظام عربي تعاملا مع منظمة انتربول المختصة في متابعة الاجرام البحت مثل عصابات الاجرام عديمة الصلة بالسياسة،فتتولى هذه المنظمة الدولية مطاردتهم بناء على تقارير مقدمة لها من دولهم التي ارتكبوا فيها جرائم ثم أفلتوا، فتعمل على اعتقالهم عبر نشر أسمائهم في كل موانئ العالم لتعيدهم الى بلدانهم لينالوا ما يستحقون من العقاب.ولكم أن تدخلوا موقع انتربول على شبكة الانترنيت(www......... لتقفوا بأنفسكم على هذه الحقيقة: أن قوائم طلبات التسليم المقدمة من قبل الامن التونسي الى هذه المنظمة هي أطول القوائم العربية وأنها تضم أكثر من خمسين من المعارضين السياسيين والصحفيين منهم الصحفي سليم بقة صاحب دورية الجرأة.
وإن كان معظمهم مثل المساجين اسلاميين من بينهم العبد الضعيف وأبرز وجوه حركة النهضة الذين تولى نظام القمع تلفيق ملفات إجرام ضدهم"من قتل وسرقة بنوك وسيارات ..الخ
لتيسير اعتقالهم واستلامهم.
ورغم أن الديمقراطيات الغربية لم تصدق تلك الاتهامات السافلة،فكفت يد البوليس الدولي عن اعتقالهم، بل عاملتهم معاملة المعارضين السياسيين وما يستحقونه من حماية وفق معاهدة جوناف الدولية، إلا أن ذلك لم يردع سلطة القمع في تونس بل واصلت الكيد لمعارضيها عبردول غربية حديثة العهد بتراث حقوق الانسان وللمافيا فيها نفوذ كبير فنجحت في التسلل عبر اتفاقيات اتحاد دول اروبا الامنية"شينغان"القاضي بأن من يمنع من دخول دولة منها يحظر عليه دخولها جميعها.
ورغم أنه بسبب وجود مؤسسة قضائية غربية مستقلة نجحنا في كسر كثير من تلك الحواجز وبعضها الآخر مثل حظر انتربول معروض على المحاكم اليوم فإن سلطة القمع لا تدخر مالا ولا جهدا ولا علاقة لتوظيفها في دأب لا يكل ولا يمل لتحقيق أحد هدفين في التعامل مع معارضيها الذين نجحوا في الافلات:
إما استرجاعهم الى السجن المضيق أو الموسع،وإما في صورة الفشل فالخطة تتمثل في نقل السجن الى حيث هم تشويها لصورتهم ووضعا للعراقيل في طريق تحركهم وسعيهم في الارض لاسماع أصواتهم والتعريف بقضيتهم وكشف الغطاء عن جولاق تونس الصامت.
ولأنها عاجزة عن مواجهة خطابنا الصادع بالحق، بخطاب مماثل، فما يبقى لها من حيلة غيرتسخير نفوذ الدولة لمنع أصواتنا أن تسمع، على غرار نهج أسلافهم" وقالوا لاتسمعوا لهذا القرآن والغوا فيه لعلكم تغلبون"خطاب فرعون الثابت"ما أريكم إلا ما أرى" أي لا حق لكم في أن تستمعوا الى الرأي الآخر.
ومع أن هذغا المنطق قد أخنت عليه الفضائيات والانترنات فقد واصلوا السبح ضد أمواج التطور الكاسح، لا سيما وقد نجحوا من خلال نفوذ الدولة في منعي من دخول دول عديدة لإلقاء محاضرات في ملتقيات دولية عديدة،ونجحوا في منع خطابي أن يصل الى الناس عبر ققنوات عديدة سلطوا عليها أو على الدول الراجعة لها بالنظر ضغوطا هائلة بلغت حد التهديد بقطع العلاقات للحيلولة دون نشر حديث معي، بل قطعوا علاقات مع دول بسبب زيارتي لها ولم يعيدوها إلا بشرط صد الباب في وجهي مثلما فعلوا مع ايران ..
كما قاطعوا دور نشر مدة تزيد عن عشر سنوات بسبب نشرها كتب لي، ولم يسمحوا بدخولها مجددا إلا بعد تعهدها بالامتناع إتيان ذلك مرة أخرى وهو ما فعلوه مع مركز دراسات الوحدة العربية بسبب طبعه لكتابي"الحريات العامة في الدولة الاسلامية" وفي السنة الموالية لهذا الاتفاق منع المركز من المشاركة في معرض الكتاب في تونس فقط بسبب أن أحد كتبه المعروضة ورد في هامش مراجعه اسمي.
وهو ما جعل الصحافة العربية تتحرج من الحديث عن أي أمر يخصني أو النهضة تجنبا للتدخلات التي لا توفر جهة لا تلجأ اليها بما فيها أعلى سلطة في البلاد تعود لها الصحيفة بالنظر.ولكم تعرضت علاقة تونس مع دولة للتأزم فقط بسبب مشاركتي في ندوة انعقدت في تلك الدولة.
إنه منطق السجن والسجان في كل الاحوال الذي لا يملك علاجا للتعامل مع الآخر غيرالسجن في صورة من صوره والهدف خنق الصوت المعارض داخل البلاد،وخارجها .
المهم إلغاء الآخ بتغييبه في القبرأو في داموس أو وضعه في اللجام.
ولقد بلغ التنسيق الامني والضغوط على الدول الصديقة للسلطة حد فرض الاقامة الجبرية التعسفية على أخوة لمدة طويلة واعتقال آخرين.
وإنها لكلمة صادقة تنضح بتجربة مرة تلك التي يخوضها الاخوان الطبيبان عياد وعيد اللطيف بعد قضاء اثني عشرة سنة ليجدا نفسهما في سجن أشد وطأة، أنطق عبد اللطيف بهذه الحقيقة المرة"ليس السجين من كان في السجن إنما السجين من كان خارج السجن سجينا" ولقد جربت- أنا بنفسي- تلك المعاناة أشهرا طويلة قبل دخولي السجن منذصائفة 1986 وحتى 9 مارس 1987 تاريخ اعتقالي ثم بعد خروجي من السجن في ماي 1988 وحتى خروجي من البلاد بعد سنة تقريبا،- كما جربه الدكتور المرزوقي، حيث كان السجن يتنقل معي حيثما اتجهت حتى جفاني الناس خوفا وجفوتهم اشفاقا عليهم، وضاقت بي الدنيا.
لقد طعمت من الأصناف السجنية الثلاثة التي أعدها نظام القمع لمعارضيه المضيق والموسع والاوسع حيث أنا الآن.
والمقترح المعروض في ساعة الضيق هذه والمأزق الحاد الذي تمر به البلاد أن أنحدر من سجن أوسع الى سجن أضيق على أمل خروج البلاد كلها من حكم السجن والسجان من طريق دفع الأمور الى نهاياتها.
قد يكون ذلك محتملا ولكن ما ينبغي أن يحتفظ أحد منا بوهم أننا نتعامل في موضوع نظام الحكم القائم مع حالة سياسية أي مع وضع معقول، نحن للاسف إزاء أحوال نفسية مرضية"بارانويا سياسية تدفع البلاد دفعا الى أشد الكوارث وحالات الدمار.
وما ينبغي لأصحاب العقول أن يتوقعوا منها إلا كل سلوك أهوج غير معقول يعود بالضرر حتى على فاعله ومن حوله فضلا عن عامة الخلق حرثا ونسلا.
5-ولأن المقترح يندرج ضمن السياسات الكبرى فالتعامل معه بالقبول أو الرفض إنما يتأسس على تقدير موضوعي ودقيق لجملة عناصر المعادلة السياسية في تطورها وما يؤثر فيها من عوامل داخلية وخارجية من أجل الاجابة الدقيقة عن هذا السؤال :الى أي مدى يمكن أن تمضي السلطة في التعامل مع هذه المبادرة في صورة تحققها؟واضح بالقطع أن التعامل السياسي معها غير وارد،وإلا لتعاملت مع شخصيات نهضوية كبرى سواء أكانوا في غياهب السجون المضيقة: رؤساء سابقين للنهضة مثل الشيخ الحبيب اللوز والدكتور صادق شورو والمهندسين حمادي الجبالي أو علي العريض أم كانوا في السجن الكبيرمثل القاضي صالح بن عبد الله أو البرفسور المنصف بن سالم أو الدكتور عبد اللطيف أو الدكتور بن نجمة..الخ.
هي بلا شك لا تبحث بحال عمن تتفاوض معه- والحقيقة أن السلطة التونسية لم تجد نفسها منذ أن تتأسست مضطرة للتفاوض مع جهة في المجتمع التونسي –اللاهم إلا مع اتحاد الشغل أيام عزه.
هي تبحث عمن تلتهم أو تستعمل.وليس لها من عرض للمخالف غير ذلك:الاحتواء أو الإفناء.
وإذن فلا أوهام في توقع التعامل السياسي مع المبادرة.فما يبقى غير التعامل الامني: وهذا يمكن أن يتخذ عدة مستويات:أدناها الاقامة الجبرية:اي السجن البيتي، أو السجن المتحرك عبر الرقابة اللصيقة.
وهو وإن بدا هينا لكن تكاليفه النفسية خاصة باهظة جدا لا يدرك مرارتها إلا من ابتلي بها.
أما المستوى الثاني للتعامل الامني فقد يتخذ شكل القضاء تطبيقا لثلاثة أحكام "قضائية"بالسجن المؤبد- واحد منها يكفي- فتكون النتيجة المباشرة إضافة سجين الى القائمة حتى وإن قدر أن النوعية مختلفة بعض الشيء.
وهو ما يراهن عليه المقترح بسبب ما قد يفجره الحدث - ولو بعد حين- من من إشكاليات للسلطة ويلفت أنظار الراي العام المحلي والدولي لفداحة" الحالة التونسية- وبالخصوص لهذه المظلمة، مما قد يدفع الى حلها.
ولربما تأتي النتائج بأكثر من ذلك خدمة لقضية الحرية في البلاد بما يقدمه حدث إعادة نصب المحكمة العسكرية- في ظرف محلي ودولي دقيق- من دفع لحركة التحول الديمقراطي المعطلة بالبلاد، غير أن الحل الامني قد لا يقف عند هذا الحد مكتوف اليدين يشاهد كرة الثلج تكبر يوما بعد يوم فيعمد الى وسائل أخرى من الضغط على المعني، قد تبلغ حد التخلص منه بطريقة سافرة، أو- ربما أفضل- خفيّة، تواري الجريمة، ولا تكشف عنها، حسما للداء من جذوره ..
نحن مومنون أن الموت والحياة بيد الله"إذا جاء أجلهم لا يستأخرون ساعة ولا يستقدمون" ولكننا مدعوون دعوات متواترة في الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه" الى التفكر والتعقل والتدبر والاخذ بالاسباب ولزوم الحذر ثم المضيّ الى التنفيذ متوكلين على الله.فإذا عزمت فتوكل"
وفي الخلاصة وقبل أن أودعك وأم فاروق وكل من تفضل بتقديم هذا المقترح، شاكرااهتمامكم وثقتكم،فإني أؤكد مجدا أن المقترح جاد، جدير بالتفكر، وبذل الوسع في الحساب والتقديرالدقيق للوقت المناسب حتى تكون عودة المهاجرين ليست جزء من المشكل ومفاقمة له، وإنما جزء من الحل.
ولأن التقدير الدقيق للموقف، للوقت المناسب هوما يتأسس عليه قرار العودة،الذي هو رغم متعلقاته الشخصية يصب نهاية في الشأن الوطني العام، ما يجعله مستحقا من كل من يهمه هذا الشأن أن يدلي فيه بالرأي والنصيحة.
والله الهادي الى سواء السبيل"إن أريد إلا الاصلاح ما استطعت .وما توفيقي إلا بالله عليه توكلت واليه أنيب" لندن في 9محرم1425 الموافقل29-2-
للمزيد عن الشيخ راشد الغنوشي
.