رسالة الى المناضلة الحقوقية ليز قارون
الشيخ راشد الغنوشي
الى الباحثة المقتدرة والمناضلة الحقوقية الجريئة الأستاذة الكبيرة السيدة ليز قارون تحية امتنان وإكبار.وبعد :
فقد كنت منذ سنوات أحدث نفسي بالكتابة إليك ولا سيما بعد قراءتي لكتابك الشهير حول الأوضاع الحقوقية والسياسية في المغرب العرب وكشفك الغطاء على ما تمارسه الأنظمة الدكتاتورية في هذه المنطقة ضد شعوبها من قمع وتنكيل ولا سيما القوى الاسلامية.
ومع ذلك لا تزال تلك الانظمة مثل النظام البوليسي في تونس تتمتع بدعم غير محدود من الديمقراطيات الغربية.
لقد رأيت أن من واجبي بعد قراءتي لكتابك مرات وتنويهي به في أكثر من مقالة من مقالاتي ولا سيما مقالتي التحليلية حول انتخابات أبريل 1989 التي ستصدر ضمن كتاب لي قريبا يتناول عددا من القضايا السياسية التونسية بالتحليل،أن أكتب اليك لأعبر لك عن تقديري الكبير للجهد البحثي والروح العلمية والصفاء الخلقي الذي ساد الكتاب.
وهو التقدير والامتنان اللذان يستشعرهما كل المناضلين التونسيين من أجل الحرية على اختلاف اتجاهاتهم ولا سيما مناضلي حركة النهضة الذين اعتبروا الكتاب وثيقة مهمة جدا ساعدتهم في الدفاع عن قضيتهم ومحاصرة النظام البوليسي في تونس من خلال هذه الشهادة القوية المخلصة من باحثة غربية مقتدرة جاءت لتؤكد مرة أخرى أن الغرب ليس فقط هو شركات النهب العولمي ومراكز القرار السياسي والعسكري وشبكات الاعلام الموظفة كلها لصالح استراتجيات الهيمنة الأمريكية وحلفائها الرأسماليين الذين لم يبق لسياساتهم من خلفية قيمية غير النهب المنظم والتوسل من أجل ذلك بكل السبل بما في ذلك دعم أحط وأبشع الدكتاتوريات في العالم.
إن كتابك أيتها السيدة المكرمة يعزز الفكرة التي طالما أكدتها من أن الغرب ليس فقط تلك القوى العولمية وأدواتها التدميرية بل هو لا يزال يتوفر على وجه آخر هو مضاد للوجه السابق إنه الوجه الانساني الذي بشرت الديانات كما بشر به التنوير وما انبثق عنه من قيم تحررية ومواثيق انسانية وقيم ديمقراطية.فهذا الوجه رغم ليس هو الأبرز ولا هو صاحب القرار الأعلى لا يزال حاضرا وله مواريثه الممتدة وقواه المكافحة في حقول كثيرة أكادمية وحقوقية ودينية وسياسية ضد ما دعاه الفيلسوف روجي غارودي ديانة السوق .
ونحن الاسلاميين نجد أنفسنا من دون أي تحفظ في خندق واحد مع هذه القوى الغربية الانسانية التحررية في مواجهة العدو المشترك دكتاتورية رأس المال وديانة السوق سواء أكانت في العواصم الغربية أم في الأطراف المتذيلة لها.
وهو ما يجعلنا أمام أكثر من وجه لعالم الغرب وأكثر من وجه كذلك لعالم الاسلام .
ولقد زاد من امتناني بأعمالك البحثية الأكادمية ما تعززت به تلك البحوث من روح نضالية لم تسجن صاحبتها في صومعة البحث العلمي الباردة بل خرجت الى ميادين القتال ضد الدكتاتوريات ومناصرة ضحاياها.
وهو ما عبر عنه بجلاء وشجاعة قيادتك الحملة المنظمة القوية ضد دائرة الهجرة في كندا شجبا لتواطؤها مع النظام البوليسي القابض على اعناق أحرار تونس بدعم غربي مشهود.
وكان تسليم أحد أبناء النهضة اللاجئ في كندا الطالب هارون مبارك للسلطات التونسية ضمن عملية بوليسية خسيسة دليلا قاطعا وفاضحا على حقيقة ما تمارسه الديمقراطيات الغربية من ازدواجية ونفاق وتواطؤ مع أنظمة القمع.
نحن هنا أمام صورة مصغرة لما فعلته وتفعله الولايات المتحدة وحلفاؤها من دعم غير مشروط للأقليات الفاسدة التي تحكم العالم بالرغم من شعوبها ولأبشع صور النازية المعاصرة كما هو الحال في فلسطين المحتلة.
ولقد أثمرت تلك الجملة لصالح الطالب مبارك خطوة مهمة على طريق استعادة حقه في الدراسة وذلك لمّا أضطرت سلطات القمع في تونس الى إخراجه من السجن الصغير تاركا وراءه أكثر من ألف من المناضلين الاسلاميين مضت عليهم أكثر من عشر سنوات تطبق عليهم خطة موت بطيئة أمام سمع العالم وبصره.
لكنه لم يتمكن بعد من العودة لجامعته ليستأنف دراسته إذ الخروج من السجن الكبير الذي هو البلد كله ليس بالأمر اليسير،فهناك عشرات الآلأف من المساجين السايقين لا يزالون بعد نغادرتهم السجن الصغير محورومين من كل الحقوق حتى في الشغل الخاص إذ يفرض عليهم إثبات حضورهم أمام مراكز البوليس المرة وأحيانا المرات يوميا بما يجعل الواحد منهم يضيق بوجوده إذ يتحول عالة على محيطه وهو ما يؤزم علاقته حتى مع أسرته:
ولكم من قضية طلاق حدثت بسبب ذلك،بما يجعل ذلك المناضل يفضل العود الى السجن مادام محروما حتى من مغادرة البلاد.
وهو ما حدث فعلا في بعض الحالات.
والحقيقة أن ما ارتكبته إدارة الهجرة الكندية ضد هارون مبارك لم يكن عملا معزولا فقد ارتكبت مع مناضلين آخرين مثل السيد محمد زريق مظالم من نوع آخر...وأنا نفسي فشلت كل محاولاتي لزيارة كندا حتى من أجل رؤية ابنتي الطالبة تسنيم بدعوى أنني "ارهابي" كما ظل مطلبها هي للحصول على حق اللجوء متعثرا طيلة خمس سنوات ما حرمها طيلة تلك السنوات وهي الشابة الصغيرة من زيارة أسرتها اللاجئة في لندن.
والحقيقة أن جهد المناضلة الحقوقية الأستاذة ليز لم يتوقف عند مناصرة قضية هارون مبارك وإنما تعداها نحو مساعدة مناضلين إسلاميين آخرين في الوصول الى حقوقهم كما هي حالة الشاب الطالب مراد الذي كان لتدخل الأستاذة ليز لدى الدوائر المعنية دور مهم في جمع شمله مع عروسه ابنتنا الطالبة تسنيم.
الأمر الذي ترك عند زوجتي وأبنائي وأنا ذاتي شعورا عميقا من التقدير والامتنان لهذه السيدة النبيلة.
وأنا كمسلم أجد نفسي مدفوعا الى التعبير لك عن خالص الشكر والقدير سواء باسم أسرة النهضة الكبيرة أم باسم أسرتي الصغيرة مبتهلا الى الله رب العالمين الرحمن الرحيم أن يجزيك أفضل الجزاء وأن يحفظك من كل مكروه وأن يحيطك برعايته وأن يوفقك الى أفضل الخيارات للسعادة في الدنيا والأخرى.
إنه قدير كريم رحيم.
ولقد ورد على لسان آخر مبعوث للعناية الربانية النبي محمد عليه السلام:"الراحمون يرحمهم الرحمن"
وتفضلي أخيرا أيها المناضلة النبيلة ذات القلب الرحيم والفكر القويم بقبول خالص التحية والتقدير:
راشد الغنوشي: رئيس حركة النهضة
للمزيد عن الشيخ راشد الغنوشي
.