لماذا حرم الإمام حسن البنا الحزبية والتجنس لدولة أخرى؟
مقدمة
ولد الإمام حسن البنا في وقت كانت البلاد الإسلامية قابعة تحت اضطهاد المحتل الغربي الذي اجتاحت أركان العالم الإسلامي من أجل السيطرة على ثرواته، وفرض لغته ومناهجه على الأمة الإسلامية في محاولة منه لطمس هويتها وتغيير مفاهيمها عن الإسلام، أو التشكيك فيها، وهو ما جعله يسلك في سبيل ذلك كل مسلك حتى ولو بلغ به الأمر لإبادة الملايين من أجل تثبيت نفوذه وتحقيق أهدافه.
لم يعر ساسة الغرب يوما ما أى إنسانية للشعوب العربية والإسلامية أو غيرها من الشعوب الضعيفة، فقد كان نظرتهم إلى كونهم شعب الله المختار وما دونهم عبيد لديهم. في هذه البيئة ولد حسن البنا، ومع جهد والده الجهيد في تربيته على معاني الإسلام الحقيقية، وترجمته ترجمة عملية وواقعية أعادت في نفسه سيرة الصحابة والسلف الصالح، غير أن الواقع الذي يعيش فيه كان يفرض عليه تساؤلات كثيرة وملحة في كيفية الخلاص والتحرر والتنعم بخيرات بلاده.
كان تفكير حسن البنا في التغيير والإصلاح منذ صغيرة حيث خط أول ما خط في كراسته قوله:
- "أن أكون مرشدًا معلمًا أقضي سحابة النهار في تعليم الأبناء، وأقضي ليلي في تعليم الآباء هدف دينهم، ومنابع سعادتهم تارة بالخطابة والمحاورة، وأخرى بالتأليف والكتابة، وثالثة بالتجول والسياحة".
منذ اللحظات الأولى – والتي برزت فيها خصال البنا القيادية- وهو يعمل بمفرده أو يتعاون مع غيره على تصحيح مفاهيم الإسلام الصحيحة فكون جمعية الأخلاق الأدبية ومنع المنكرات، واستمر هذا المنهج معه حتى وهو في كلية دار العلوم حيث كان يخرج مع بقية من زملائه لدعوة الناس على المقاهي في القاهرة والتي كان لها أثرها العابر، لكنها كان مفيدة له في معرفة سبل الوصول للناس بالطرق الصحيحة وهي التي ساعدته على التغلل في قلوب المجتمع الإسماعيلاوي حينما انتقل له مدرسا عام 1927م.
كان حسن البنا يكره الفرقة والتحزب وكان يرى أنها سبب بلاء البلاد العربية حينما تفرقت الشعوب حول معاني القومية المقيتة والتي نجح الغرب في غرسها فكانت القومية العربية والقومية الطورانية بتركيا، والقومية السورية الكبرى وغيرها من القوميات التي مزقت شمل ووحدة الأمة الإسلامية وأضعفتها أمام المحتل الغربي والذي هدف ونجح في تحقيق ذلك.
حقيقة دعوة الإخوان
بدأ الإمام الشهيد حسن البنا دعوته لإحياء مجد الإسلام وترسيخ معانيه الحقيقية في نفوس الشعوب الإسلامية، بمعناه الشامل الكامل، الذي يتضمن معاني الإصلاح جميعًا، والذي يشمل كل مسلم دون تمييز في مشارق الأرض ومغاربها.
وهو ما دفعه لتأسيس جماعة الإخوان المسلمين عام 1928م من مدينة الإسماعيلية ووضع أسس ومنهجية هذه الجماعة بالتشاورية مع كثيرا من العلماء والمفكرين ومختلف الفئات التي انضمت تحت لواء هذه الجماعة التي فهمت الإسلام بشموله، ولم تقتصر على كونها جماعة تهتم بأمور الدين أو حزب لا يعنيه إلا السياسة والتنافسية على السلطة، بل هي جماعة شملت وفهمت وعملت من اجل كل هذه المعني
التي لخصها الإمام البنا في منشوره الأول في رسالة التعاليم بقوله:
- "الإسلام نظام شامل، يتناول مظاهر الحياة جميعا. فهو: دولة ووطن أو حكومة وأمة، وهو خلق وقوة أو رحمة وعدالة، وهو ثقافة وقانون أو علم وقضاء، وهو مادة وثروة أو كسب وغنى، وهو جهاد ودعوة أو جيش وفكرة، كما هو عقيدة صادقة وعبادة صحيحة، سواء بسواء" (1)
لم يكتف البنا بالخطب أو المقالات لكنه سعى لتكوين نواة صُلبة من الأفراد الذين يفهمون الإسلام حق الفهم، ويستطيعون أن يدعوا إليه غيرهم، وأن يكونوا على استعداد للتضحية بكل غالٍ ونفيس في سبيل تبليغ دعوتهم وتربية الناس عليها، ولذا اعتمد مبدأ تربيتهم ومتابعة شئونهم وأحوالهم.
وحاول قدر المستطاع تجنُّب الدخول في مهاترات سياسية مما كانت معروفة وشائعة في تلك الفترة؛ وحتى لا تعد جماعته حزبًا من الأحزاب القائمة فينصرف عنها الناس، وقد كتب الإمام البنا خطته في النهوض بالأمة
فقال تحت عنوان "في سبيل النهوض":
- "يجب أن تكون دعامة النهضة "التربية" فتُربَّى الأمة أولاً وتفهم حقوقها تمامًا، وتتعلم الوسائل التي تنال بها هذه الحقوق، وتُربى على الإيمان بها، ويُبَثُّ في نفسها هذا الإيمان بقوة، أو بعبارة أخرى تدرس نهضتها درسًا نظريًا وعمليًا وروحيًا.
- ورغم أن بعض المبتورين أشاعوا أن الإخوان بدأوا بالدعوة إلى الدين ولمَّا زاد أنصارهم وقويت شوكتهم أغراهم ذلك بالولوج إلى ميدان السياسة . وهم ينفذون أجندة المحتل الغربي الذي يريد أن يفصل الدين الإسلامي بتعاليمه السامية والمتصدية لكل معتدي عن مفهوم السياسة الكلية التي تتشارك في الدستور والحكم واختيار الحاكم، وأرادوا بذلك حصر الإسلام في العبادات والخزعبلات التي نشرها عمدا بل واختلق من أجلها جماعات وهيئات تدعوا إليها ونصب عليها زعماء من صنيعه. (2)
البنا ومعاداة الحزبية
نشأت بعض الأحزاب السياسية مع ميلاد البنا، وبعضها مارس مفهوم السياسة من أجل القضية الوطنية وحرية البلاد من الإستعمار وكانت لدى زعماءه نزعة إسلامية كالحزب الوطني الذي أسسه مصطفى كامل باشا، ثم أفسح الإنجليز المجال للبعض بتشكيل أحزاب سياسية على عينه كحزب الأمة والوفد والأحرار الدستوريين والكتلة والسعديين وغيرهم من الأحزاب التي نشأت فقط للصراع على السلطة ولم تقدم للقضية الوطنية أى شيء.
وعلى الرغم من أن في بريطانيا حزبين يتبادلان السلطة والمعارضة من أجل أقرار مصالح بريطانيا إلا أنها أفسحت المجال لتشكيل الأحزاب في مصر وغيرها من الدول المحتلة حتى تزيد الشقاق والتوتر بين الساسة وأنصارهم في البلاد المحتلة وليعمل كل حزب ما ترضديه بريطانيا حتى تسمح له بالقاء في السلطة ولقد رأينا ذلك حينما اندلعت الحرب العالمية الثانية وأجبرت بريطانيا الملك فاروق على عزل حكومة علي ماهر باشا لأنها كانت ضد سياسة المحتل البريطاني
كما أنها هددت العرش الملكي نفسه ومحاصرة قصر عابدين من أجل تولية الوفد مقاليد الحكم بعد الحادثة المشهور في 4 فبراير 1942م حيث رفض النحاس باشا كل المقترحات التي اقترحها الملك فاروق والساسة المصريين بتأليف حكومة قومية برئاسة النحاس لكنه رفض إلا أن تكون وزارة وفدية خالصة، والتي عبر أحمد ماهر باشا زعيم السعديين بقوله لقد جاءت حكومة الوفد على فوهات الدبابات البريطانية. (3)
وقبل الملك فاروق الإنذار البريطاني المهين بسبب التشبث الحزبي من قبل النحاس باشا بتأليف حكومة وفدية خالصة حيث اجتمع بالملك بالساسة بعدما حاصرت الدبابات القصر وقال للنحاس: إنني أكلفك يا نحاس باشا بتأليف الوزارة وأطلب إليك أن يكون حكمكا قوميا لا حزبيا، كما أطلب إليك حين إنصرافك من هنا أن تمر على السفارة البريطانية فتبلغ السفير بأنني عهدت إليك بتأليف الوزارة (4). في صورة تعد من أذل صورة الحزبية البغيضة التي أودت بالبلاد إلى الضياع، والتي أكدت كره الإمام حسن البنا للأحزاب وما نتج عنهم من ضياع للبلاد.
لم يبدأ الإمام البنا ولا الإخوان في أية فترة من فترات تاريخهم خصومة مع حزب من الأحزاب على الرغم من وضوح مبدئهم في رفضهم للأحزاب والتحزُّب، والذي فتت الأمة المصرية، وصرفها عن خطتها في محاربة الاستعمار، حتى أن صحيفة صوت الأمة التابعة لحزب صوت الأمة بزعامة أحمد لطفي السيد كتبت عام 1907م: "مصر تريد الاستقلال فإذا لم يكن السبيل إليه ميسورًا، وكان لابد من أن تحكمها أمة أخرى، فإنجلترا خير أمة ترضاها مصر" (5)
ولقد عبر الإمام حسن البنا عن بغضه على تصرفات الأحزاب وضياع القضية الوطنية بينهم بقوله:
- "وإن كانوا يريدون بالوطنية تقسيم الأمة إلى طوائف تتناحر، وتتضاغن، وتتراشق بالسباب، وتترامى بالتهم، ويكيد بعضها لبعض، وتتشيع لمناهج وضعية أملتها الأهواء، وشكلتها الغايات والأغراض، وفسرتها الأفهام وفق المصالح الشخصية، والعدو يستغل كل ذلك لمصلحته، ويزيد وقود هذه النار اشتعالاً، يفرُّقهم في الحق ويجمعهم على الباطل، ويحرِّم عليهم اتصال بعضهم ببعض، وتعاون بعضهم مع بعض، ويحلُّ لهم هذه الصلة به والالتفاف حوله، فلا يقصدون إلا داره، ولا يجتمعون إلا زواره؛ فتلك وطنية زائفة لا خير فيها لدعاتها ولا للناس" (6)
كان رفض الإمام البنا للحزبية والأحزاب في عهده يعود إلى ما نتج عن هذه الحزبية من تناحر وفرقة وضياع للقضية الوطنية واستغلال المحتل ذلك ليظل قابع ومحتل لأرض الوطن.
يقول الدكتور القرضاوي:
- وإذا أردنا أن نقوِّم آراء الأستاذ البنا تقويمًا عادلاً: أن نضعها في إطار زمنها وبيئتها وظروفها، فقد يتشدَّد الأستاذ في أمور، نحن نتساهل فيها اليوم بمقتضى التطور العالمي، واقتراب الناس بعضهم من بعض، وحاجة العالم بعضه إلى بعض، وتغيُّر صفة بعض الدول من دول استعمارية ظالمة للمسلمين، إلى دول حليفة أو شريكة للمسلمين، كما أن الأستاذ في بعض ما كتبه كان في عنفوان الشباب، بما فيه من حماس للحق، وثورة على الباطل، واندفاع في المواجهة. (7)
ويوضح الإمام البنا بمفهوم شامل ضرر الحزبية خاصة في مصر في ذلك الوقت الذي كتب فيه يطالب حل الأحزاب فيقول:
- أعتقد - أيها السادة - أن الحزبية السياسية إن جازت في بعض الظروف في بعض البلدان، فهي لا تجوز فيها كلها، وهى لا تجوز في مصر أبدًا، وبخاصة في هذا الوقت الذي تستفتح فيه عهدًا جديدًا، ونريد أن نبني أمتنا بناء قويًا يستلزم تعاون الجهود، وتوافر القوى، والانتفاع بكل المواهب، والاستقرار الكامل، والتفرغ التام لنواحي الإصلاح. (8)
الإمام البنا وقضية التجنس بجنسية أجنبية
كان البلاد الإسلام محتلة من قبل العديد من الدول الأوربية كبريطانيا وفرنسا وألمانيا وأسبانيا وهولندا وغيرها من الدول الأجنبية، والتي كانت تعاني من نقص في الجنود كثيرا ولذا كانت تغرى أبناء الوطن المحتل ليتعاونوا معاها بل والتجنس بنجسيتها، وهو ما رأه الإمام البنا في ذلك الوقت حرام شراعا، كون المتجنس سيكون ولاءه للدولة الغربية التي تجنس بجنسيتها، وسينضم لجيشها بل وسيحارب أبناء وطنه، بل وسيفرض بقوة سلطة المحتل على أرض وطنه.
وهو ما وضح جليا في رسالة السيد حسين السقاف الطالب بالأزهر الشريف والذي ورد له خطاب من بعض أصدقائه اليمنيين المقيمين بإنجلترا، يسأل فيه عن حكم التجنس بالجنسية الإنجليزية شرعًا
حيث يقول:
- "سنت الحكومة الإنجليزية قانونًا لمن أحب الإقامة فى ديارها أو فى ممتلكات التاج البريطانى، ومن بنود هذا القانون: أن راغب الإقامة عليه أن يتجنس بالجنسية الإنجليزية، وإذا تجنس بهذه الجنسية فإن من واجباته حينئذ أن يحلف يمين الولاء للحكومة الإنجليزية، وأن يطيع أوامرها أيًّا كانت، وأن يحارب من حاربها ولو كان من جنسه أو من دينه، أو لا يبرح أرضها إلا بأمر منها، وأن يعرض صورته فى جريدتين سيارتين ليكون ذلك بمثابة تصديق على شخصيته.
- فإلى معشر العلماء الأجلاء نرفع هذا البيان رجاء إفادتنا بحكم هذا التجنس شرعًا، مع العلم بأن من لم يقبل هذا التجنس لا يمكن أن يعمل داخل البلاد، وربما أخرج منها" (9)
حيث اتضح من رسالة الإخوان اليمنيين أن بريطانيا سنت هذه الجنسية لتستغل أبناء الأوطان الإسلامية في نصرتها ومحاربة إخوانهم من أبناء وطنهم ودينهم، وهو ما عتبره الإمام البنا في ذلك الوقت جريمة كبرى، بل من المحرمات في الدين، ومن الأمور التي تخرج المسلم من دينه.
وإن كان التجنيس ليس مشكلة في الظروف العادية لكن في الوقت الذي تواجد فيه حسن البنا، ووقع البلاد تحت الاحتلال رأه البنا وغيره أنه حرام، وهو الأمر المشابه الذي ورد عن الإمام بن عباس حينما سأله سائل: هل للقاتل توبة فقال لا، قال ابو بكر ابن ابي شيبة قال حدثنا يزيد بن هارون قال أخبرنا أبو مالك الأشجعي عن سعد بن عبيدة قال:"جاء رجل إلى بن عباس فقال لمن قتل مؤمنا توبة قال لا إلا النار فلما ذهب قال له جلساؤه ما هكذا كنت تفتينا كنت تفتينا أن لمن قتل مؤمنا توبة مقبولة فما بال اليوم قال إني أحسبه رجل مغضب يريد أن يقتل مؤمنا قال فبعثوا في أثره فوجدوه كذلك".
ومن ثم جاءت إجابة الإمام البنا ردا على هذا السؤال بقوله:
بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله، وصلى الله على سيدنا محمد، وعلى أهله وصحبه وعترته إلى يوم الدين، وبعد.. فقد قرأت خطاب الإخوان اليمنيين الخاص بالتجنس بالجنسية الإنجليزية، وبيانًا لذلك أقول والله المستعان:
مجرد تجنس المسلم بأية جنسية أخرى لدولة غير إسلامية كبيرة من الكبائر توجب مقت الله وشديد عقابه، والدليل على ذلك ما رواه أبو داود عن أنس قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ادعى لغير أبيه أو انتمى لغير مواليه؛ فعليه لعنة الله المتتابعة إلى يوم القيامة"، والآية الكريمة تشير إلى هذا المعنى، وهى قول الله - تبارك وتعالى: "لاَ يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِن دُونِ الْمُؤْمِنِينَ "آل عمران: 28"؛
فكيف إذا صحبه بعد ذلك واجبات وحقوق تبطل الولاء بين المسلمين، وتمزق روابطهم، وتؤدى إلى أن يكون المؤمن فى صف الكافر أمام أخيه المؤمن، وأن خيرًا للمسلم الحق أن يدع هذه الديار وأمثالها إن تعذرت عليه الإقامة فيها إلا بمثل هذه الوسيلة وأرض الله واسعة "وَمَن يُهَاجِرْ فى سَبِيلِ اللهِ يَجِدْ فى الأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً" "النساء: 100"، والله أعلم." (10)
وحينما أرادت إيطاليا تجنيس الطرابلسيين بليبيا واستفتوا العلماء كان رد الإمام البنا بتحريم التجنس حيث جاء في السؤال:
- "سادتنا أهل الفضل علماءنا الأعلام، بارك الله فى حياتكم ونفع المسلمين بعلمكم.. أما بعد.. فإنه لا يخفى على حضراتكم أن دول الاستعمار قد اشتد تكالبها على استعباد المسلمين وإذلالهم، وكان فى مقدمة هذه الدول دولة إيطاليا؛ فقد احتلت طرابلس الغرب فى سنة 1329هـ، وكان من جورها على الطرابلسيين وإذلالها إياهم أن جنستهم بالجنسية الإيطالية فى أول ديسمبر سنة 1938م، والآن تريد أن تجبرهم على الموافقة على هذا الأمر؛
- فتهدد الموظف بعزله إن لم يتجنس، وتهدد التاجر بسحب الرخصة منه ومنعه من مزاولة التجارة، وتكلف بعض أذنابها ليهددوا الناس بانتقام الحكومة من كل من يمتنع من التجنس، وهكذا تسعى لإرغام الناس على الموافقة على قانون التجنيس بكل طريق.
- وقد شرح الله صدور فريق من الطرابلسيين، فرفض الموافقة رفضًا باتًا غير ناظر لما يترتب عليه من العواقب الوخيمة، ووافق فريق من المتزلفين لإيطاليا ممن أضلهم الله على علم لخبث فى نفوسهم وجبن صوره لهم خور عزائمهم، جاعلين بما تبديه إيطاليا من وعيد وتهديد مسوغًا لما ارتكبوه من جريمة.
- وقد أخذ هذا الفريق الموافق يشيع فى الناس أنه لا يوجد فى الشريعة الإسلامية ما يمنع المسلم من التجنس بالجنسية الإيطالية، وقد استفحل شر هذا الفريق، ووجدت دعوته الخبيثة منفذًا من طريق قسوة الإيطاليين وصرامة أحكامهم إلى بعض العقول الضعيفة.
- والمسلمون فى طرابلس ينتظرون من علماء المسلمين بفارغ الصبر بيان حكم تجنيس المسلم بالجنسية الإيطالية، وما يجب على المسلم عمله إذا دعى إلى التجنس بهذه الجنسية، وما يترتب على هذا التجنس من أحكام النكاح والمعاملات والتوارث والدفن، وما يجب على المسلمين عامة إزاء المسلم الذى يدعى إلى التجنس بهذه الجنسية ولا يقدر الدفع عن نفسه. والطرابلسيون فى انتظار جوابكم السديد؛ ليكون عونًا لهم على المضى فى خير الطرق، جزاكم الله خير الجزاء" (11)
فجاء جواب الإمام حسن البنا عاما بخصوص التجنس بنجنسية دولة محتلة فقال:
- "فالذى نعلمه من دين الله - تبارك وتعالى - أن التجنس بجنسية غير إسلامية لا يجوز فى دين الله - تبارك وتعالى، وقد قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "من ادعى إلى غير أبيه أو تولى غير مواليه؛ فعليه لعنة الله لا يقبل منه صرفًا ولا عدلا" ( )، والتجنس بجنسية غير إسلامية يدخل تحت الشطر الثانى من الحديث الشريف؛ فإن رضى المتجنس بالدخول فى جنس الكفار، ورأى أن ذلك أفضل من قوميته الإسلامية.. فهو كفر صراح وخروج عن الدين، وإن لم يرض بذلك، ولكنه قبله وهو يستطيع الخلاص منه؛ فهى كبيرة من أفظع الكبائر.
- وعلى هذا تترتب بقية الأحكام الواردة فى السؤال؛ فالقسم الأول لا يزوج ولا يتزوج المسلمون منه، ولا يرثهم ولا يرثونه، ولا يصلى عليه ولا يدفن فى مقابرهم، ويفرق بينه وبين زوجه، وهكذا من بقية الأحكام التى تلحق الثروة، والقسم الثانى يعاقب على قبوله عقوبة شديدة، ويكون جزاؤه جزاء مرتكب الكبيرة، وكفى به إثمًا.
- ولقد عرض علينا مثل هذا السؤال بالنسبة لتجنس بعض التونسيين بالجنسية الفرنسية فذكرنا نحوًا من هذا، وقد أفتى بنحوه علماء الإسلام، والكفر ملة واحدة، مَنَّ الله على المسلمين بالحرية وقرب يوم الإنقاذ"(12)
كما أثنى على موقف الطرابلسيين والتونسيين في رفض التجنس بجنسية دولة المحتل فيقول:
- "لقد حاول هؤلاء الغاصبون خلال هذه السنوات الطوال أن ينالوا من وطنية هؤلاء العرب المجاهدين بالتجنيس وبالإرهاب والضغط الشديد، وأن ينالوا من عروبتهم بالثقافة الأجنبية ومحاربة اللغة العربية والغزو الاجتماعى، وأن ينالوا من دينهم بالتبشير ومقاومة الأوضاع الإسلامية فلم يجدهم كل ذلك نفعا، وما زال شمال إفريقية وسيظل عربيا مسلما" (13)
كما اعترض الإخوان عمليا على طلينة الطرابلسيين حيث يقول الإمام البنا:
- "استقبل الإخوان المسلمون الماريشال بالبو لأول زيارته لمصر ببرقية احتجاج شديدة على طلينة طرابلس العربية المسلمة بالتجنس والهجرة وعلى فظائع الحكم الإيطالى فيها وشفعوها ببرقية إلى وزير الخارجية يطلبون إليه رفع هذا الاحتجاج رسميا بمناسبة زيارة الماريشال" (14)
وإن كان الدكتور يوسف القرضاوي أيد موقف الإمام البنا في تحريم التجنس بجنسية دولة تحارب المسلمين حيث قال:
- "أخذ الجنسية من بلد غير إسلامى يعتبر أحيانا خيانة لله ورسوله وللمؤمنين، وذلك فى حالة الحرب بين المسلمين وغيرهم ممن يحاربون الإسلام؛ ولذا أفتى علماء تونس وقت الاحتلال الفرنسى أن أخذ الجنسية الفرنسية يعد خروجًا وردة عن الإسلام؛ لأن هذا سبيل من سبل المقاومة والاحتلال، وسلاح من أسلحة الجهاد"(15)
لكنه مع ذلك اعترض على بعض أجزاء فتوى الإمام حسن البنا حيث قال:
- ومن الواضح أن السؤال في هذه الصورة، غير السؤال في الصورة السابقة، ولكن الإمام رحمه الله أجاب إجابةً عامةً بتحريم التجنس بأي جنسية أجنبية.
- وفتوى الأستاذ هنا في تحريم التجنُّس في الحالة المسؤول عنها: صحيحة بلا ريب، ولكن التعميم في التحريم هو الذي نتوقف فيه، ولا نوافق عليه. وقد بني ذلك على أساس قد لا نسلِّم له، وهو تأويل حديث: "أو انتمى إلى غير مواليه"، حيث اعتبر التجنُّس انتماء إلى غير مواليه. والمراد به في الحديث: انتماء المعتق إلى غير مَن أعتقه، وهذا يترتب عليه حقوق في الميراث وغيره.
ويضيف:
- ولكن فى الأوقات العادية فالمسلم الذى يحتاج للسفر إلى بلاد غير إسلامية تعطيه الجنسية قوة ومنعة؛ فلا يحق للسلطات طرده، ويكون له الحق فى الانتخاب، مما يعطى قوة للمسلمين فى هذه البلاد؛ حيث يخطب المرشحون ودهم، ولذا فحمل الجنسية ليس فى ذاته شرًا ولا خيرًا، وإنما تأخذ الحكم حسب ما يترتب على أخذ هذه الجنسية من النفع للمسلمين أو الإضرار بهم، مثل أخذ الفلسطينيين خاصة الجنسية الإسرائيلية؛ فإن هذا يعد اعترافًا ضمنيًا بدولة إسرائيل، ولكن أخذ الجنسية فى دولة من دول الغرب بغرض تقوية شوكة المسلمين هناك فلا حرمة فى هذا" (16)
ومن ثم يجب أن نفهم الظروف والأحداث التي عاصرها الإمام البنا لكي يفتى بمثل هذه الفتوى – مع العلم بأن الفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان- وهو ما أكده الأستاذ جمعة أمين في تعليقه على فتوى الإمام البنا بقوله: يجب على القارئ هنا أن يستحضر الظروف التاريخية والسياسية التى زامنت صدور هذه الفتوى، وإلا فالفتوى تتغير بتغير الزمان والمكان والشخص والحال كما قرر المحققون من علماء الأمة.
وفى تلك الفترة كانت إنجلترا والدول الأجنبية تحتل معظم العالم الإسلامى، وكانت تجند من يتجنس بجنسيتها فى جيوشها وتستخدمهم فى إحكام قبضتها على تلك الدول ومحاربة المسلمين فيها وإخضاعهم لسلطانها. (17)
أخيرا
لم يعارض الإمام البنا الأحزاب لذاتها لكن النتائج التي ترتبت عليها وهو ما جعل الإخوان يغيرون موقفهم من الأحزاب فيما بعد بل ويتشاركون معهم في المنافسة على السلطة التشريعية. كما أن الإمام البنا حينما حرم التجنس كان بسبب ما تنطوي عليه فكرة التجنس في الولاء للدولة المستعمرة ومحاربة أبناء وطنهم.
المصادر
- رسالة التعالم: مجموعة رسائل الإمام حسن البنا، دار التوزيع والنشر الإسلامية، 2008م.
- محمد حسن إسماعيل: البابية والبهائية (تاريخا وعقيدة)، دار الكتب العلمية، بيروت، لبنان، 2009، صـ521.
- محمد صابر عرب: 4 فبراير 1942م يوم في تاريخ مصر، دار الشروق، القاهرة، مصر، طـ1، 2013م.
- محمد حسين هيكل: مذكرات في السياسة المصرية، جـ2، دار المعارف، القاهرة، مصر، 1990م، صـ196.
- لطيفة محمد سالم: مصر في الحرب العالمية الأولى، الهيئة المصرية العامة للكتاب، طـ1، 1984م، صـ 291: وأيضا مذكرات محمد حسين هيكل، صـ65.
- رسالة دعوتنا: مجموعة رسائل الإمام البنا.
- يوسف القرضاوي: التربية السياسية عند الإمام حسن البنا، مكتبة وهبة، القاهرة، مصر، 2007م، ص114.
- رسالة مؤتمر طلبة الإخوان المسلمين: |مجموعة رسائل الإمام البنا.
- جمعة أمين عبد العزيز: سلسلة تراث الإمام البنا، الكتاب الرابع، الفقه والفتوى، دار التوزيع والنشر الإسلامية، صـ228. نقلا عن مجلة الإخوان سنة 1936م.
- حكم التجنس بجنسية أجنبية: مجلة الإخوان المسلمين، السنة الرابعة، العدد 4، 14 صفر 1355هـ / 5 مايو 1936م، صـ11.
- حكم المتجنس بجنسية أجنبية شرعًا: مجلة النذير، السنة الثانية، العدد 8، 20 صفر 1358هـ / 11 أبريل 1939م، صـ19.
- المرجع السابق: صـ20.
- حسن البنا: جامعة شعوب عربية ، جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (421)، السنة الثانية، 1 ذو القعدة 1366ه - 16 سبتمبر 1947م، ص(5-6).
- أيها الماريشال بالبو: مجلة النذير، العدد 13، السنة الثانية، 25 ربيع الأول 1358ه- 16 مايو 1939م، صـ10.
- يوسف القرضاوي: التربية السياسية عند الإمام حسن البنا، صـ118.
- بحوث مؤتمر مئوية الإمام البنا : المشروع الإصلاحى للامام حسن البنا: مركز الاعلام العربي للابحاث والمعلومات والنشر، الجيزة، مصر، 2007، صـ176.
- جمعة أمين عبد العزيز: سلسلة تراث الإمام البنا، الكتاب الرابع، مرجع سابق، صـ229.