كيف كانت جنازة الإمام حسن البنا؟
مقدمة
لم يكن حسن البنا إلا رجلا أراد الخير لوطنه، والعزة لدينه وهو ما جعله يعمل من أجل تحقيق ذلك بالتعاون مع كل من أحب وطنه الصغير والكبير وأراد به الخير.
انطلق حسن البنا من قاعدة إسلامية تربى عليها منذ الصغر مع ما وهبه الله من ملكات استطاع أن يسخرها للصدع بالحق دون خوف أو وجل من أحد أو الاغترار بالدنيا وزينتها فجاءت دعوته صادقة تجمع حولها الشباب والكبار والصغار، بل شهد له الخصوم بنقاء دعوته، وهمته العالية التي مكنتها من البلوغ بدعوته كل مكان على أرض الكوكب، ويحفظ أسمه كل من عليه.
لم يأت حسن البنا بدين جديد، ولم يدع لدين غير الدين الإسلامي الوسيط، لكنه أظهر الدين على حقيقته التي جاء بها النبي الكريم محمد صلى الله عليه وسلم، وهو ما واجهه المحتل وأعوانه والمغترين بحضارة الغرب والكارهين لكل مظهر من مظاهر الإسلام الحقيقي حيث أرادوا حصر الدين فقط داخل الزاويا والمساجد
وهو ما رفضه البنا ونادى بأن الإسلام نظام شامل يتناول كل مظاهر الحياة ولا فرق بين صلاة وسياسة ولا جيش وفكرة ولا اقتصاد واجتماع. وهذا الفهم والدعوة لمحاربة المحتل وإخراجه بالقوة والانتشار السريع لدعوته وعدم موافقة السياسيين على انبطاح الوطن لأى محتل السبب الرئيسي في التخلص من الإمام حسن البنا.
كان مقبولا لو تخلص المحتل من حسن البنا كما كان مخططا له عام 1941م حينما جهز لوري لاغتيال البنا وبعض رفاقه لكن كان لانكشاف الخطة السبب في تراجع المحتل الانجليزي عن فعل ذلك، فبحث أن يكون الاغتيال بأيدي أتباعه من المصريين.
لقد قتل حسن البنا على أيدي بعض الموظفين الحكومين المصريين بتأييد بعض السياسيين المصريين بإيعاز من المحتل الغربي وبحصار من الشرطة المصرية لمنع تشيع جنازته – رغم أن الرجل مات- وهو ما جعل الألم شديد أن يحدث كل ذلك على أرض وطننا، بل ويقيد الحادث ضد مجهول بأيدي قضاة مصريين حتى تشرق شمس الثورة على فساد المحتل والسياسيين فيعاد التحقيق ويقدم الجناة الحقيقيين للمحاكمة قبل أن يعفوا عنهم نظام عبد الناصر نكاية في الإخوان المسلمين.
مات حسن البنا وما ماتت دعوته التي صدح بها في الناس جميعا بالعودة لدين الله الإسلام وفق المفهوم الحقيقي دون إعطاء الدنية فيه. مات حسن البنا وحرم من أن يشيعه الناس مع ما أكرمه الله من صلاة جميع الناس عليه في بقاع الأرض. مات حسن البنا كما مات من قتله ومن أوعز بقتله وما زالت ذكرى الإمام البنا تتجدد كلما حانت ذكرى وفاته يوم 12 فبراير 1949م.
6 محاولات اغتيال الإمام البنا
نعود إلى حسن البنا واغتياله والذى لم يكن قتله فى 12 فبراير 1949 أول محاولة، بل كانت هناك عدة محاولات كما يقول كتاب من قتل حسن البنا.
المحاولة الأولى كانت فى مظاهرة سلمية سمحت بها السلطات، ثم تم إطلاق النار فيها على البنا ورفاقه واصيب فيها بطلق فى يده واقتيد بعدها البنا مصابا إلى قسم الموسكى، واعتدى رجال الشرطة على اتباعه وهدده أحد الضباط بمسدس فى صدره وحفظ الحادث والتهدئة بين الطرفين.
والثانية عندما ذهب المرشد يتحدث فى الشركة العربية للمناجم والمحاجر لتوديع كتيبة اخوانية ترحل للحرب فى فلسطين، ولكن قبل وصوله بدقائق وقع انفجار وتبين أن قنبلة زمنية وضعت فى نفس مكان إلقاء الخطبة.
والثالثة عندما تم منعه من السفر وسمح له بالسفر للسعودية فقط للحج، وبعد ذهابه ابرقت وزارة الداخلية إلى القنصل المصرى بجدة بعدم السماح للبنا للسفر إلى أى مكان، فقال أخوه عبدالباسط إن الحكومة قررت قتله هناك ونسب الجريمة إلى يمنيين، ولكن حكومة السعودية شعرت بما يدبر، فانزلت المرشد ضيفا عليها وأحاطت مقره بحراسة شديدة ومنحته سيارة بحارس خاص.
كان الاعداد لاغتياله قد أعد، وكانت البداية بحل فروع الجماعة ثم الجماعة في 8 ديسمبر 1948م، وتعليقا على ذلك قال البنا "إنكم تقتلوننى بعدم اعتقالى".
ثم تم بعدها سحب رخصة سلاحه بعدم تجديدها له، وسحب سيارته التى اشتراها بالتقسيط بعيدا عن اموال الجماعة، إلى ان شعر أنه مهدد بالقتل فكتب إلى فؤاد شيرين محافظ القاهرة يقول له "أشعر أنى مهدد بالقتل وأرجو تعيين حارس على نفقتى الخاصة" فلم يلق أى رد.. إلى أن سحب منه خط التليفون وحتى سيارة عبدالحكيم عابدين سكرتير عام الجماعة وهى سيارة خاصة عندما استعارها البنا تم مصادرتها.
وتم القبض على كل من لهم صلة به ولم يتبق له إلا شقيقه عبدالباسط اليوزباشى ولكنهم قبضوا عليه فى 13 يناير. ذلك فضلا عن 3 محاولات تم التخطيط لها من قبل نفس الرجال الذين قتلوه، فمرة تم التخطيط لايهامه بالقبض عليه ثم قتله وإلقائه فى حفرة على طريق الفيوم بالهرم، ولكن تلك رفضها اللواء احمد طلعت، والثانية عندما وقف الامباشى احمد حسين جاد امام بيت المرشد لاغتياله ولكن الخفير الخاص بالبنا اشتبه به وقاده إلى قسم الدرب الاحمر وافرجوا عنه وقالوا انه تاجر مواش لا علاقة له بشىء.
والثالثة عندما استقل احمد حسين جاد سيارة المقدم محمد وصفى وكان مقررا أن يطلقا عليه الرصاص وكان المقدم عبدالرءوف عاصم واليوزباشى مصطفى علوان مستعدين للتدخل عند الضرورة ولكن منع الرائد حسين كامل أحمد حسين وصرخ فيه وخشى أن يتجمع الناس على القاتل..
.. ونجحت الخطة السابعة
التدبير لقتل البنا كما جاء بالتفصيل فى كتاب محسن محمد بدأ منذ قيام عبدالرحمن عمار وكيل وزارة الداخلية باستدعاء حكمدار شرطة جرجا محمود عبدالمجيد وعينه مديرا لادارة المباحث الجنائية بوزارة الداخلية فى اول أغسطس 48.. وكان عبدالمجيد معروفا أنه لا يتورع عن تعذيب وقتل المجرمين، ويواجه الجريمة بالجريمة.. فقد قتل 15 متهما من اصل 18 قام بضبطهم فى عدة جرائم، وكان يضع المتهمين فى عربات الكلاب لتطوف بهم فى القرى ليقذفهم الناس بالقاذورات قبل اقتيادهم للسجن.
وبعد مقتل النقراشي أخذ عبدالمجيد فى نقل واستدعاء رجاله من شرطة سوهاج واحدا تلو الآخر. وفى تلك الأثناء كان البنا فى قمه يأسه خصوصا بعد محاولة تفجير مكتب النائب العام والتى راح ضحيتها 25 فردا والتى وضعت البنا فى أصعب حالاته، وكان يطرق كل الابواب لمحاولة وقف قرار الحل والافراج عن المعتقلين ولكن لا احد يلتفت اليه
إلى ان ظهر فى الوساطة شخص يدعى محمد الناغى وكان ابن خالة إبراهيم عبدالهادى وعلى علاقة قديمة بالبنا، وكان قد وصل للناغى من زكى على باشا وزير الدولة الذى وسطه البنا أن المرشد يريد الإرشاد عن أماكن الأسلحة والمفرقعات إذا عاونته الحكومة فى الافراج عن المعتقلين، وقام الناغى بابلاغ رئيس الوزراء الذى وافق على ان يقابل البنا اعضاء مجلس الإرشاد يوم 14 فبراير.
وذهب الناغى إلى جمعية الشبان المسلمين فى الثانى عشر من فبراير 1949 فلم يجد البنا فارسل اليه محمد الليثى ليستدعيه، ورفض البنا فى البداية الذهاب مع الليثى للجمعية بسبب يأسه ولكنه رضخ فى النهاية. وقال إن البنا سرد للباقورى ومحمد الليثى أنه سيقتل اليوم بعدما رأى فى منامه انه يمسك بناقة يركبها أبوبكر الصديق ويمد شخص يده ليأخذ الزمام منه، وتكرر الحلم 3 مرات فى نفس الليلة وانه رأى أبابكر الصديق يقول له ستقتل اليوم!
وصحب البنا عبدالكريم منصور إلى الجمعية بعد محاولات لثنيه البنا من أبنائه وأبيه ومنصور نفسه لمنعه من الخروج، وفى الطريق لاحظا سيارة تراقبهما ولكن البنا قال إنها المراقبة الملازمة له منذ فترة، وعند وصل البنا للجمعية، سأله الناغى عن تسليم الأسلحة والمحطة السرية فقال البنا أنا لا أعرف شيئا عن مكانها وكيف لى أن أعرف والجميع معتقلون.. وانتهت المقابلة دون الوصول لأى حل ورحل الناغى ومن بعده البنا ومنصور.
طلب البنا سيارة تاكسى وأتى بها الساعى صالح عوض والذى سأله سائقها من سيركب السيارة، فاخبره ان مرشد الإخوان هو من سيفعل.. وعند خروج البنا مع عبدالكريم منصور ومعهما محمد الليثى لاحظ الأخير ظلمة وهدوءا غريبين على الشارع رغم كونهم فى الثامنة مساء وحاول لفت انتباه البنا لذلك ولكنه قال له "أنت تعلق على كل شىء يا أستاذ".
واستقلوا السيارة وقبل أن تتحرك أتى شخص ملثم من اتجاه البنا وأطلق النار ثم فتح الباب واستأنف اطلاق الرصاص على جسده.. ثم اتى شخص آخر من جهة منصور ومنعه من الخروج من السيارة وبعد شد وجذب اخرج الرجل مسدسا واطلق النار على السيارة وعبدالكريم..
خرج الليثى صارخا فاطلق أحد الرجلين النار عليه ولم تصبه ورآهما يجريان يستقلان سيارة عبدالمجيد فألتقط ارقامها وكان هؤلاء هم المخبران احمد حسين جاد وآخر يدعى مصطفى فى حين أتى الضابطان حسين كامل وعبده ارمانيوس يصرخان "قنابل... قنابل" فتفرق من احتشد من الناس.
ومات البنا فى مستشفى قصر العينى بعدما لم يجدوا أحدا يسعفه فى البداية واتصلوا بعدد من الاطباء ولكن الموت كان الاقرب للبنا فى تلك اللحظات من ايدى المنقذين. وشوهد رجل أتى للمستشفى ويقول: جئت من قبل الحكمدار للاستفسار عن حالة الشيخ..
فهرع إليه الليثى وأخبره برقم السيارة الذى التقطه ولكن تركه الرجل وانصرف، وكان الرجل هو محمد وصفى قائد حرس الوزارات الذى قال محمد حسن الامين الخاص بالملك فاروق فى التحقيقات التى جرت بعد الثورة: "سمعت محمد وصفى يتحدث إلى احمد كامل قائد شرطة القصر ويقول له إنه ذهب للمستشفى ليقضى على البنا إذا كان لا يزال حيا".
وفى تلك التحقيقات ايضا قال يوسف رشاد كبير اطباء اليخوت الملكية: "سمعت من زميلى الدكتور احمد شكيب الطبيب الشرعى أن البنا ترك ليموت بالنزيف من الشريان وكان يمكن إنقاذ حياته بمبضع بسيط لو أسعف فى حينه" (1)
ومات حسن البنا
ولد حسن البنا في 14 أكتوبر 1906م واغتيل في 12 فبراير 1949م أى مات حسن البنا قبل أن يكمل عامه الثالث والأربعون وهي المدة التي عاشها صغير ثم داعيا إلى الإسلام بشموله والتي تقدر بـ22 عاما من حياته وهي عمر جماعة الإخوان المسلمين في عهده والتي استطاع أن يغير بها تاريخ مصر الحديث، كما أنها المدة التي كانت كفيلة أن لا يتحملها المستعمر الغربي ولا العصابات الصهيونية في فلسطين ولا أي محتل على أرض المسلمين بسبب دعوات البنا لمحاربة المحتلين والتصدي لهم بالجهاد في سبيل الله، فكان التخطيط لاغتياله.
يقول محمد حسنين هيكل فى كتابه "سقوط نظام" عن اكتشاف القاتل الحقيقى قائلا:
- "فى اليوم الثانى عشر من فبراير دوى الرصاص للمرة السابعة فى القاهرة وسقط الشيخ حسن البنا غارقا فى دمائه على حافة سيارة تاكسى أمام جمعية الشبان المسلمين حيث كانت ستقله إلى بيته ولكن هرعت به إلى قصر العينى وهناك تبين أنه لم يفارق الحياة، ولكن المشرف على عملية الاغتيال القائمقام محمد وصفى بك قائد حرس الوزارات امر بتعقبه والتخليص عليه تنفيذا لأوامر "الملك فاروق، ورئيس الوزراء ابراهيم عبدالهادى".
ثم أضاف الاستاذ هيكل فى سطور قليلة
- "وقد آثر القائمقام محمد وصفى أن يطلق النار على رأسه وينتحر عندما عرف فيما بعد أعقاب ثورة يوليو ان سره انكشف وأن هناك أمرا صدر بالتحقيق معه على أساس وثائق تم ضبطها فى أوراق القسم المخصوص للبوليس السياسى" (2)
جنازة الإمام البنا من المستشفى للبيت لمسجد قيسون للقبر
لم يكن مسجد قيسون هو من احتضن جثمان الإمام البنا فحسب، لكنه كان مسرحا معدا لاغتيال الإمام البنا قبل اغتياله في شارع رمسيس، حيث لا حظ الشيخ أن كامل الدماطي (شاب سعدي هدد بقتل الإمام البنا) يتابعه بصحبة رجل أسود ورجل آخر وأن الشيخ البنا أخبر عبد الفتاح بك حسن أيضا أن شابا سعديا أبلغه بما كان يخطط له الدماطي لاغتيال البنا قرب جامع قيسون في شارع محمد على بالقاهرة حيث كان الشيخ يذهب عادة للصلاة وتبع هذا التحذير أن البنا – كما أخبر الفتاح بك – لم يعد يذهب إلى الجامع.
وحينما استشهد الإمام البنا وحمل إلى القصر العيني حيث فارضت روحه إلى بارئها، أرادت الداخلية دفنه من المستشفى مباشرة إلا أن إلحاح والده بنقله وتغسيله في بيته دفعهم للموافقة والاشتراط عليه بأن لا يحضر الغسل أو الدفن أحد، فوافق والده، والذي يصف المشهد قبل الانتقال لمسجد قيسون للصلاة على جثمان الشهيد الوحيد
بقوله:
- "أبلغت نبأ موته في الساعة الواحدة، وقيل إنهم لن يسلموا إلي جثته إلا إذا وعدتهم بأن تدفن في الساعة التاسعة صباحًا بدون أي احتفال، وإلا فإنهم سيضطرون إلى حمل الجثة من مستشفى القصر العيني إلى القبر، واضطررت إزاء هذه الأوامر إلى أن أعدهم بتنفيذ كل ما تطلبه الحكومة، رغبة مني أن تصل جثة ولدي إلى بيته فألقي عليه نظرة أخيرة، وقبيل الفجر حملوا الجثة إلى البيت متسللين، فلم يشهدها أحد من الجيران ولم يعلم بوصولها سواي.
- وظل حصار البوليس مضروبًا حول البيت وحده، بل حول الجثة نفسها، لا يسمحون لإنسان بالاقتراب منها مهما كانت صلته بالفقيد. وقمت بنفسي بإعداد جثة ولدي للدفن، فإن أحدًا من الرجال المختصين بهذا لم يسمح له بالدخول، ثم أنزلت الجثة حيث وضعت في النعش، وبقيت مشكلة من يحملها إلى مقرها الأخير.
- طلبت إلي رجال البوليس أن يحضروا رجالا يحملوا النعش فرفضوا، قلت لهم ليس في البيت رجال، فأجابوا فليحمله النساء! وخرج نعش الفقيد محمولا على أكتاف النساء. ومشت الجنازة الفريدة في الطريق، فإذا بالشارع كله قد رصف برجال البوليس، وإذا بعيون الناس من النوافذ والأبواب تصرخ ببريق الحزن والألم والسخط على الظلم الذي احتل جانبي الطريق!.
- وعندما وصلنا إلى جامع "قيسون" للصلاة على جثمان الفقيد، كان المسجد خاليًا حتى من الخدم، وفهمت بعد ذلك أن رجال البوليس قدموا إلى بيت الله وأمروا من فيه بالانصراف ريثما تتم الصلاة على جثمان ولدي.ووقفت أمام النعش أصلي فانهمرت دموعي، لم تكن دموعًا بل كانت ابتهالات إلى السماء أن يدرك الله الناس برحمته.
- ومضى النعش إلى مدافن الإمام، فوارينا التراب هذا الأمل الغالي، وعندما عدنا إلى البيت الباكي الحزين، ومضى النهار وجاء الليل لم يحضر أحد من المعزين، لأن الجنود منعوا الناس من الدخول، أما الذين استطاعوا الوصول إلينا للعزاء، فلم يستطيعوا العودة إلى بيوتهم، فقد قبض عليهم، وأودعوا المعتقلات، إلا شخصًا واحدًا هو مكرم عبيد باشا" (3)
جنازة البنا للنساء فقط
لاشك أن جنازة حسن البنا كانت من أصعب المشاهد على ذويه وأهله، لما تم مع أهله من تعسف وإذلال، حسب وصف صحيفة الكتلة الناطقة باسم حزب الكتلة الذى يرأسه مكرم عبيد، حيث وصل الجثمان الذى شيع على أكتاف النساء إلى مسجد قيسون الذى أخلاه البوليس قبل وصوله من المصلين وحتى الخدم كى لا يصلى على الجثمان. وفى المساء منع أفراد الأسرة من إقامة العزاء ومُنع المعزون من الدخول، ومن استطاع قادوه إلى المعتقل إلا شخص واحد فقط استطاع الوصول وتقديم واجب العزاء، وهو مكرم عبيد. (4)
جنازة تحت الحصار
يصور محسن محمد المشهد بقوله:
- غادر اللواء أحمد عبد الهادى حكمدار شرطة القاهرة منزله عندما سمع بالجريمة إلى مقر جمعية الشبان المسلمين ثم توجه إلى مكتبه ليستمع إلى تقارير كثيرة من رجاله فى كل مكان. قالت هذه التقارير على حد تعبير الحكمدار إن الجريمة افزعت كثيرا من الزعماء والأجانب وأنه خشى رد فعل الإخوان فينتهزون الفرصة لإحداث اضطرابات خطيرة او ثورة فيفلت الزمام.
- ظل فى مكتبه حتى الفجر يوزع قوات الشرطة على أنحاء المدينة لتأمين حالة الأمن العام وعمل الإجراءات اللازمة فى مثل هذه الظروف.وربما كان فى استطاعة الإخوان إحداث اضطراب ولكن كان واضحا أن معظم أعضاء النظام الخاص قد اعتقلوا كما أن اغتيال المرشد العام جعل باقى الإخوان فى حالة يمكن أن يطلق عليها التعبير الحديث الشائع " انعدم الوزن"!
- رأى عبد الرحمن عمار وكيل وزارة الداخلية أن تشيع الجنازة مباشرة من مشرحة القصر العينى خشية أن ينتهز الإخوان المسلمون الفرصة وأعدادهم كثيرة وانتشارهم واسع بالقاهرة وضواحيها، لإحداث خلل بالأمن العام يؤدى إلى نتائج خطيرة.
- ولكن والد الشيخ البنا توجه إلى مكتب اللواء أحمد طلعت وطالب بالحاح أن تشيع الجنازة من منزله.لم يوافق الحكمدار إلا بعد استئذان وكيل الداخلية والمسئولين فى الوزارة وكان الشرط الوحيد المعلن أن تشيع الجنازة فى هدوء... بلا مظاهرات أو هتفات
فى مذكراته قال الدكتور محمد حسين هيكل رئيس مجلس الشيوخ..
- نقلت جثة الشيخ حسن من مستشفى قصر العينى إلى منزل والده فى سر من الناس .. ثم أمرت بألا يشيعه إلى مقره الأخير إلا عدد محدود من أهله المقربين وألا يقام له مأتم يقصد المعزون.وكانت المحافظة على الأمن ، سند الحكومة فى تصرفها".
وصفت صحيفة "الكتلة" الناطقة باسم حزب الكتلة الذى يرأسه مكرم عبيد باشا جنازة البنا فقالت:
- نقل جثمان البنا إلى بيته فى سيارة ، تحرسها سيارة مملوءة بفريق من رجال البوليس المسلحين..
وفى أحد الشوارع الحلمية وقفت القافلة ونزل الجند فاحاطوا ببيت الفقيد ولم يتركوا ثقبا إليه الشك إلا وسدوه بجندى وسلاح!
- وقف والد الشيخ البنا ، ذلك الرجل الهرم الذى جاوز التسعين عاما ولم تبد عليه عوامل السنين.عرف بخبر وفاة ولده من أحد الضباط فى الساعة الواحدة بعد منتصف الليل. وقيل له أنهم لن يسلموا إليه جثته إلا إذا وعدهم بأن يدفن فى الساعة التاسعة لا احتفال . وإلا فإنهم سيضطرون إلى حمل الجثة من مستشفى القصر العينى إلى القبر.
- واضطر إزاء هذه الأوامر إلى أن يعدهم بتنفيذ كل ما تطلبه الحكومة رغبة منه فى أن تصل جثة ولده إلى بيته ليلقى عليه نظرة أخيرة.ظل الرجل ساهرا تطحنه الأحزان وقبيل الفجر تتابعت على باب المسكن طرقات كان صداها يطحن قلب الشيخ.
- كان وحده الذى يعلم وينتظر فإن اشقاء الفقيد جميعا كانوا داخل المعتقلات. فتحوا الباب وأدخلوا لجثة متسليين فلم يشهدها أحد من الجيران . ولم يعلم بوصولها سواه.وظل حصار رجال البوليس مضروبا لاحول البيت وحده بل حول الجثمان نفسه، لا يسمحون لإنسان بالإقتراب منها مهما كانت صلته بالفقيد.
- وقام الأب نفسه بإعداد جثة زلده وتجهيزها للدفن. فإن أحد من الرجال المختصين بذلك لم يسمح له بالدخول..ثم نزلت لاجثة حيث وضعت فى النعش وبقيت مشكلة من يحملها إلى مقرها الأخير.
- طلب إلى رجال البوليس أن يحضروا يحملون النعش فرفضوا قال لهم:ليس فى البيت رجال :أجابوا فلتحملها النساء!وخرج نعش الفقيد محمولا على أكتاف النساء وفى مقدمتهن فتاة قوية صبور تهتف بأبيها:قر عينا يا ابتاه. فلن نتخلف عن رسالتك . ولئن منعت الحكومة من يشيع جنازتك وأسفاه لنذالة الحكام فحسبنا عزاء وجزاء أن أرواح الشهداء تمشى معنا وتشيع عن أهل السماء ، ما عجز عن تشييعه أهل الأرض.
- وسارت الجنازة الفريدة فى الطريق فإذا بالشارع كله قد رصف برجال البوليس.وإذا بعيون الناس من النوافذ والأبواب تصرخ ببريق الحزن والألم والسخط . على الظلم المسلح الذى احتل جانبى الطريق!
- وعندما وصل الموكب الحزين إلى جامع قيسون للصلاة على جثمان الفقيد كان المسجد خاليا من الناس حتى من الخدم.. فإن رجال البوليس قدموا إلى بيت الله. وأمروا من فيه بالإنصراف . كى لا تتم الصلاة على الجثمان.
- ووقف الأب أمام النعش يصلى فانهمرت دموعه... فى ابتهالات إلى السماء .ومضى النعش إلى مدافن الإمام الشافعى فوورى البنا التراب وعادالجميع القليل إلى البيت الباكى الحزين...وعادت النساء الثلاث اللائى حملن النعش على أكتفهن وعاد الوالد الواله الحزين.
- وهكذا فى اثنتى عشرة ساعة قتل الشيخ البنا، وشرح، وغسل، ودفن وانطوت صفحة حياته!ومضى النهار وجاء الليل فحرم على أفراد الأسرة أقامة العزاء وتلاوة القرآن ولم يحضر أحد من المعزين لأن الجنود منعوا الناس من الدخول ... أما الذين استطاعوا الوصول للعزاء فلم يستطعيوا العودة إلي بيوتهم.
وفى كتابه "معتقلات هاكستب" كتب المناضل العربى الذى اتخذ القاهرة دارا له بعد ضياع وطنه محمد على الطاهر:
- اقترحت على الحاضرين فى مكتبى أن نقوم جميعا ونذهب إلى سرادق التعزية المعتاد فى مثل هذه الظروف، فقالوا منعت الحكومة إقامة سرادق العزاء ولذلك جئنا لنتبادل العزاء عندك وقبيل منتصف الليل لم يبق عندى إلا الكاتب الأديب وكيل وزارة التعليم محمد سعيد العريان، وكان من زملاء الفقيد فى الدراسة فكان يبكى صديقه بكاء شديدا.
- قلت له:
- ما رأيك فى أن نذهب الآن إلى منزل الفقيد لتعزية والده وأهله قال : هيا بنا.ركبنا سيارة الأستاذ العريان فإذا بحى الحلمية الذى فيه دار المرحوم البنا مظلم الجنبات مطفأ الأضواء. وكانت الدكاكين كلها مغلقة.
- أطلقنا الأنوار فإذا بالجنود بألبستهم السوداء يلوحون فى ذلك الظلام كالأشباح وبأيديهم البنادق مشرعة، وإذا بهم يقفون لنا فى عرض الطريق سدا ويشيرون إلى السائق بالإتجاه إلى غير اتجاهنا.
- وتعجبنا من هذه الاحتياطات .وأوعزنا إلى السائق أن يدور ويدخل المنطقة من شارع آخر وليكن ما يكون.ولكن الشرطة لم تسمح بالحركة إل إذا عادت السيارة من حيث أتت وإلا!.... وإلا فإنهم يطلقون علينا النار . وعند ذلك رجعنا ونحن نحمد الله على أنهم اكتفوا منا بالرجوع"!.
وأحاطت حراسة الشرطة المشددة بالنعش من المشرحة إلى المسجد.وأعلنت حالة الطورئ بين قوات الشرطة فى أنحاء البلاد ووضعت قوات الأمن فى حالة تأهب". فى مذكراته قال الماجور سانسوم ضابط الأمن بالسفارة البريطانية :" إن كل الإجراءات التى اتخذت لمنع المظاهرات بعد اغتيال البنا وفى الجنازة ثم تخطيطها قبل عدة أسابيع"! (5)
وهو ما يؤكد أن الإعداد للتخلص من الإمام حسن البنا كان في وقت مبكر بالاتفاق بين المحتل الغربي والحكومة المصرية وليس كما يزعم البعض أن الاغتيال بأيدي بعض الإخوان أو ردا على اغتيال النقراشي باشا. وهو المعنى الذي أكده ريتشارد ميتشل بقوله: إن عملية الاغتيال كانت مخططة أو على الأقل تم التغاضى عنها من جانب رئيس الوزراء ، ربما بدعم من القصر ، ونفذت عن طريق البوليس السياسى. (6)
المراجع
- محسن محمد: من قتل حسن البنا، دار الشروق للنشر والتوزيع، 1987م.
- محمد حسين هيكل: سقوط نظام، لماذا كانت ثورة يوليو 1952م لازمة؟، دار الشروق، القاهرة، 2003، صـ214.
- أنور الجندي: حسن البنا .. الداعية الإمام والمجدد الشهيد، دار القلم، دمشق، 2000م، صـ288- 290.
- مجلة الكتلة – العدد (1526) – 20 محرم 1368هـ - 11 نوفمبر 1949.
- محسن محمد: من قتل حسن البنا، مرجع سابق.
- ريتشارد ميتشل: الإخوان المسلمون، بد السلام رضوان ؛ مراجعة: فاروق عفيفى ؛ تقديم: صلاح عيسى، مكتبة مدبولى، 1977م