في الإصلاح الأزهري
بقلم / الإمام حسن البنا
مقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم... الحمد لله الذى بنعمته تتم الصالحات، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
حضرة صاحب الفضيلة الأستاذ الأكبر الشيخ محمد مصطفى المراغي شيخ الجامع الأزهر.. السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
"وبعد" فأشرف بأن أرفع إلى فضيلتكم مقترحات بشأن الإصلاح الأزهرى الذى عقدت عليكم الآمال فى إنفاذه بطريقة تحفظ للأزهر صبغته وتعيد ل الإسلام مجده، وعلم الله أنه ما حدا بى إلى ذلك إلا اعتقادى أن من واجب كل مسلم أن يتقدم بالنصح فى هذا الأمر الخطير الذى يؤثر أبلغ الأثر فى مستقبل الشرق و الإسلام، والله أسأل أن يسدد فى الإصلاح خطاكم، وأن يؤيد الإسلام بجهودكم، وأن ينهض مصر ومن ورائها العالم الإسلامى على أيديكم وهو ولى التوفيق.
(1) مقترحات إدارية
أ- تعمل مشيخة الأزهر على ضم مراقبة التعليم الأولى بكل اختصاصاتها إلى الناحية الأزهرية، على أن يتبع ذلك إلغاء مدارس المعلمين الأولية والاستعاضة عنها بقسم إعدادى بعد شهادة (الكفاءة – أو البكالوريا الأزهرية) لتخريج المدرسين بالمدارس الأولية.
ب- ضم شعبة البلاغة والأدب الحالية للتخصص الأزهرى إلى دار العلوم، والمطالبة بضم قسم اللغة العربية بكلية الآداب بالجامعة المصرية إليهما، ثم يضم الجميع إلى ناحية الأزهر حتى يتوحد المعهد الذى يتخرج فيه أساتذة الدين واللغة العربية بالمدارس المصرية.
ج- المطالبة بتقرير تدريس الدين فى كل مراحل التعليم، وبأن يكون مادة أساسية فى كل المدارس المصرية.
د- العمل الدائب على إعادة التشريع الإسلامى وجعله القضاء السائد فى الأمة، وتبعًا لذلك يضم قسم التخصص الأزهرى الحالى فى كلية الشريعة إلى كلية الحقوق بالجامعة المصرية، ثم يضمان معًا إلى الأزهر.
(2) مقترحات فنية
أ- العناية باختيار مواد الدروس الدينية وجعلها أساسًا فى المناهج الأزهرية، مع جعل حفظ القرآن الكريم مادة أساسية يمتحن فيها الطلبة امتحانًا صحيحًا فى كل مرحلة من مراحل التعليم الأزهرى بحيث يتوقف نيل الطالب الشهادة على إجادة الحفظ.
ب- تحرير المناهج الأزهرية من تقليد غيرها من المناهج، والاقتصار فى العلوم الرياضية والحديثة مما لابد منه للأزهرى، مع الإلمام بها جميعًا على طريقة التوزيع بين الأقسام والفرق.
ج- العناية باختيار المدرسين وترك الحرية للطلاب فى الأقسام العالية وفى التخصص فى الحضور على من يريدون من الشيوخ.
د- ملاحظة أن يكون مدرسو الرياضة والعلوم الحديثة ممن يميلون بفطرتهم إلى البيئة الأزهرية، مع إنشاء قسم إعدادى يلتحقون به مدة معينة يلمون فيها بما لابد منه من المعلومات الدينية التى تتصل بدروسهم، والتى تحفظ كرامة المدرس وعقيدة الطالب.
ه- العناية باختيار الكتب المدرسية.
و- الاقتصار فى اللغات الأجنبية فى الأزهر على ما لابد منه، وذلك بأن تكون فى مناهج الكلية المخصصة بنشر الدعوة فى البلاد الأجنبية بقسميها العالى والتخصص فقط لا فى كل الكليات ولا فى الأقسام الأولية والثانوية، وجعلها بقدر الإمكان فى أماكن غير أماكن الدراسة الأزهرية، ويجب أن يقوم بتدريسها على أية حال مدرسون مسلمون.
ز- مراعاة القصد فى البعوث الأزهرية إلا أن يكون ذلك بين الشعوب الإسلامية التى يريد أهلها أن يتعلموا الإسلام عن طريق الأزهر.
ح- العناية بالتربية والإصلاح الخلقى الذى يقوى فى الأزهرى خلق الرجولة الكاملة، وذلك بأن تكون دراسة الدين فى الأزهر علمية وعملية.
ط- الزى الأزهرى يجب أن يبقى كما هو، أو يتقرب أكثر من ذلك إلى الشكل العربى، أما إدخال الأزياء الإفرنجية بالأزهر فجريرة لا يعلم مدى سوء أثرها إلا الله.
ذلك بعض ما أردنا أن نتقدم به من مقترحات فنية وإدارية، وفيما يلى كلمة تفسيرية نلم فيها بالغاية من ذلك والله ولى التوفيق.
(3) مذكرة تفسيرية لهذه المقترحات
مهمة الأزهر ومنزلته
الأزهر أقدم جامعة فى العالم الإسلامى بل فى العالم كله، وقد أكسبته الحوادث صبغة جعلت منزلته فى القلوب سامية، وأثره فى توجيه الفكر الشرقى بالغًا، ينفر الطلاب إليه من كل فرقة ليتفقهوا فى الدين ولينذروا قومهم إذا رجعوا إليهم لعلهم يحذرون.
وهو لهذا أصبح مظهرًا من مظاهر الإسلام وشعيرة من شعائر الله، لها من الأثر والقداسة ما يجعل رفعتها وصلاحها رفعة ل الإسلام وصلاحًا له، كما أن تدهورها واندحارها تدهورًا له كذلك، فنحن حين نغار على الأزهر ونعمل فى سبيله نعتقد أننا نعمل ل الإسلام فى شخص الأزهر، وقد أدرك خصوم الإسلام هذه الحقيقة فجعلوا فى برامجهم النيل من الأزهر والكيد له بقدر ما جعلوا فيها من النيل من القرآن الكريم ومكة المشرفة وتعاليم الإسلام وشرائعه والكيد لها؛ إذ إنها جميعًا شعائر الله ومقدسات المسلمين الغالية.
ومهما قال الناس عن المهمة التى وكل إلى الأزهر أداؤها والقيام بها فى مختلف الأعصار والحوادث، فقد انتهت هذه المهمة فى العرف وفى الحقيقة الواقعة إلى أمرين لا نزاع فى أنهما مهمة الأزهر.
(أولهما): تعليم المسلمين أحكام الإسلام ونشرها بينهم.
(وثانيهما): تعميم الدعوة الإسلامية بين غير المسلمين.
لهذا يجب أن يكون الإصلاح فى الأزهر قائمًا على أساس الوصول إلى أداء هذه المهمة حق الأداء، وإنما يكون ذلك بتقوية الطلبة إلى أقصى حد فى علوم الدين الغايات منها والوسائل، وتجهيزهم بكل المعدات اللازمة للمعلم الداعية، مع إيجاد الميادين اللازمة لأداء هذه الوظيفة.
التنافس بين الأزهر وبين بقية المعاهد
ولقد أتى على الشرق حين من الدهر كان الأزهر هو المعهد الوحيد لتخريج رجال العلم الدينيين والمدنيين، ليس فى مصر وحدها بل فى الشرق كله، ثم اقتضت الحوادث أن تنشأ مدرسة الحقوق حين عدلت مصر عن التحاكم إلى الشريعة الإسلامية -وهى بضاعة الأزهر- إلى القوانين الوضعية، وحينئذ وجد معهد ينافس الأزهر ويقوم ببعض مهمته، وجاءت دار العلوم على أنها جزء من الأزهر يتخصص طلبته بتدريس اللغة العربية فى المدارس، وبعد حين صارت مدرسة برأسها لها صبغتها وحقوقها وامتيازاتها، وتبعتها مدرسة القضاء الشرعى على هذا الغرار، فصار الأزهر بين معاهد ثلاثة تجاذبه مهمته الأولى وتضيق من اختصاصه.
ونشأت بعد ذلك مدارس ومعاهد تختلف مهمتها وتبعيتها باختلاف الغايات التى أنشئت من أجلها، ومنها المكاتب الأولية التى يستمد الأزهر منها طلبته وتكاد تكون هى المعين الأول لتغذيته بما يحتاج إليه من الطلاب.
وكل هذه المعاهد صغيرها وكبيرها، لم تحدد صلتها بالأزهر حتى هذا النوع الوحيد الذى هو أمس أنواع التعليم به، ونعنى به التعليم الأولى، فإنها جميعًا تابعة فى كل شئونها لوزارة المعارف.
وانتهى الأمر بإنشاء الجامعة المصرية التى أخذت تجاذب الأزهر حبل قيادة الفكر والسيطرة على شئون التعليم والثقافة، وكل ذلك جعل الميادين الخالية للأزهر محصورة فى الإمامة والخطابة والتدريس فى الأزهر خاصة والمأذونية والقضاء الشرعى (ولا ننسى تلك الدعوة الجريئة التى ينادى بها قوم من مرضى القلوب بين الفينة والفينة يريدون بها تعديل نظم القضاء الشرعى، بحيث يندمج فى القضاء الأهلى، وحينئذ يقفل باب القضاء جملة فى وجه الأزهر والأزهريين، وتنقطع صلة الأمة بالبقية الباقية من تشريعها السماوى).
بهذا التصوير نرى أنفسنا أمام أنواع كثيرة مختلفة متضاربة من أنواع التعليم فى مصر، فهناك:
أ- التعليم الأزهرى بفروعه وكلياته، وتمده أقسامه من: ثانوية وابتدائية، وتنتهى إلى غير أساس يتبعها وتهيمن عليه من المدارس الأولية.
ب- والتعليم الأولى الذى تنقطع الطريق بسالكه بعد فترة قصيرة ولا يتاح له أن يتم تعليمه وإن ساعدته الظروف على ذلك؛ إذ ينتهى هذا الطريق إلى غير نهاية يحسن الوقوف عندها.
ج- التعليم الجامعى الذى يستمد من المدارس الثانوية والابتدائية ومن دار العلوم ومن الأزهر أحيانًا كما فى كلية الآداب فى الجامعة.
د- التعليم العالى ويلحق به معهد التربية ويستمد كذلك من المدارس الابتدائية والثانوية.
ه- التعليم الخصوصى والفنى ويستمد من المدارس الثانوية والابتدائية على اختلاف فى تقدير المؤهلات بحسب مطالب كل مدرسة.
و- دار العلوم التى ينتهى قسمها التجهيزى فى هذا العام فتظل واقفة فى مفترق الطرق.
وسواء صح ما يشاع من ضم المدارس العالية إلى الجامعة وضم دار العلوم إليها أو إلى الأزهر أو لم يصح، فإن الذى نقصد إليه فى كلمتنا هذه هو توطيد طريق التعليم الأزهرى توطيدًا يصل حلقات سلسلته بعضها ببعض اتصالاً وثيقًا، أما النظر فيما عدا ذلك -وإن كان يمت إليه بأقوى صلة- فلسنا نعرض له هنا وإن اضطرنا البحث إلى الإلمام ببعضه.
كيف يكون الارتباط بين حلقات السلسلة الأزهرية
أولاً: يجب أن يضم التعليم الأولى بكل فروعه إلى ناحية الأزهر، وتجهز مناهجه بكيفية تجعلها وثيقة الرابطة بالمناهج الأزهرية، فتضم المكاتب الإلزامية إن بقيت والأولية إن عادت إلى ناحية الأزهر، وتلغى مدارس المعلمين الأولية وتحضيريتها ويستعاض عنها بحملة شهادة الدراسة الثانوية القسم الأول أو الثانى بالأزهر، بعد أن تكون هناك فترة يعدون فيها للقيام بمهمة التدريس بالمدارس الأولية، ويمنحون بعدها إجازة تخولهم هذا الحق وتقوم مقام كفاءة التعليم الأولى الحالى، وبذلك تتحول كل اختصاصات مراقبة التعليم الأولى إلى الناحية الأزهرية، ونكون قد استكملنا بذلك النقص الحالى فى كل منهما، فجعلنا للتعليم الأزهرى أساسًا متينًا من هذه المدارس الأولية، وجعلنا للتعليم الأولى نهاية طيبة لمن شاء أن يتم دروسه من التعليم الأزهرى.
ثانيًا: تعتبر كل كلية فى الأزهر إعدادًا للمرحلة التى تليها من مراحل الأزهر، فكلية اللغة العربية تجهز للتخصص الذى يقوم بدراسة اللغة العربية فى كل المعاهد المصرية بعد أن تضم دار العلوم إلى هذه الشعبة، وتقتصر كلية الآداب بالجامعة المصرية على الأقسام الحالية بها غير قسم اللغة العربية حتى لا يكون هناك تضارب بين نظام الجامعتين الأزهرية والمصرية، وتكون كلية الشريعة إعدادية لشعبة التخصص الذى يوكل إليه أمر القضاء، وعلى الأزهر أن يسعى سعيًا حثيثًا فى إقناع السلطات المختصة بوجوب العودة إلى التشريع الإسلامى، وحينئذ تضم إليه كلية الحقوق وتمتزج بكلية الشريعة، وتحديد مهمة كل جامعة من الجامعتين تحديدًا دقيقًا، وتكون كلية أصول الدين إعدادية لقسم التخصص، وهو القسم الخاص بالإمامة والخطابة والوعظ والإرشاد فى البلاد الإسلامية وبالدعوة الإسلامية خارج البلاد.
وتتميمًا لهذا الوضع يجب أن ينادى الأزهر بتعميم تدريس الدين فى المدارس المصرية، وجعله مادة أساسية فى كل مراحل التعليم يقوم بتدريسها مدرسو اللغة العربية.
وقد يبدو هذا الوضع بعيدًا أمام الذين يتناسون الحقائق ويغفلون صالح الأمة، أما الذين يضعون نصب أعينهم أن دين الدولة الرسمى هو الإسلام كما ينص عليه دستور الأمة، وأن الواقع يؤيد هذا النص، فمصر بلد مسلم، بل هو زعيم الشرق الإسلامى كله، والمصريون أمة تعتز بدينها وتحافظ عليه، وأن الأزهر هو محط آمال المسلمين فى الإصلاح الإسلامى، الذى يعتقد هذا يرى هذا الوضع هو ما يجب أن يعمل له كل مسلم غيور.
ذلك إلى ما فيه من توحيد الثقافات وتقريبها، وتحديد الاختصاصات والقضاء على التضارب الذى أوجده الاضطراب فى سياسة التعليم، والذى من أمثلته أن الوزارة تكل التعليم الأولى إلى المتخرجين فى مدارس المعلمين الأولية، وتجيز مزاولته للذين نالوا شهادة الدراسة الثانوية الأزهرية، وهنا يقع التضارب والتفاضل، وكذلك تدريس اللغة العربية فى المدارس المصرية مهمة يتنازعها رجال دار العلوم وهم أساتذتها الأصليون، ورجال كلية اللغة العربية بالأزهر لما لهم من قدم فى دراسة العربية، ورجال كلية الآداب لما يدلون به من نظام جامعى، وكل ما تراه من جدل بين هذه الطوائف فمحوره التنازع حول هذه الغاية، وإذن فالخير كل الخير فى وضع حد لذلك، وتحديد الاختصاص على النحو الذى أسلفناه.
إصلاح المناهج فى الأزهر
ننتقل بعد ذلك إلى ناحية إصلاح المناهج فى الأزهر الشريف، وذلك إنما يكون بحسن اختيار المواد الدراسية، وبحسن اختيار المدرسين وإعدادهم، وحسن اختيار الكتب الدراسية.
فأما من الناحية الأولى فقد أجمع المربون على أن أول أساس يجب أن ينظر إليه فى اختيار المواد الدراسية الغاية التى يجهز لها الطالب.
والغاية التى يجهز لها الطالب فى الأزهر لا مشاحة فى أنها تعليم الناس الدين ونشر دعوة الإسلام بينهم، وعلى هذا يجب أن يلاحظ فى مواد الدراسة الأزهرية هذه الملاحظات:
أ- العناية بالدروس الدينية عناية تجعل الطالب الأزهرى ضليعًا فيها، ملمًا بأصولها، جيد الملكة فى تذوقها، وبذلك نحرص على كرامة الأزهر وصبغته الإسلامية التى يجب أن تظل خالدة فيه.
ب- تحرير مناهج الأزهر من تقليد المدارس المدنية الذى خضعت له فى العهد الأخير، والذى نجم عنه شحن المناهج بالعلوم المدنية على طريقة تحول بين الطالب وبين هضم إحدى الناحيتين، بل يجب أن يكون تدريس هذه العلوم فى الأزهر بقدر وكيفية تجعلها لا تطغى على الصبغة الأزهرية، ولا تعوق الطلبة عن التضلع فى الناحية الدينية، مع الإلمام بأكبر قدر ممكن منها، ليس الأزهر مدرسة للهندسة ولا للزراعة ولا للتجارة ولا للطب ولا للرياضيات، ولكنه مدرسة التعليم الدينى قبل كل شىء ولا نمانع فى أن يدرس الأزهريون كل المواد، وأن يأخذوا من المعارف العامة بالنصيب الأوفى الذى يؤهلهم لفهم بيئتهم، ودراسة العصر الذى يعيشون فيه دراسة تمكنهم من حسن الاتصال بالناس وإفادتهم، وتقرب بين ثقافتهم والثقافات الأخرى، ولكن الذى نمانع فيه أن تحول هذه الدراسة دون المقصد الأول وتصبغ الأزهر بصبغة غير صبغته ولون غير لونه.
وإنما نصل إلى الجمع بين تدريس العلوم الرياضية فى الأزهر وعدم طغيانها على صبغته الصحيحة بأن تكون هذه العلوم فى المناهج على سبيل التوزيع، ففى الأقسام الأولى مثلاً تدرس مبادئ الرياضة من حساب وهندسة ورسم وما إليه، وفى الثانوى يزاد عليها ما يمت إليها بصلة كالطبيعة والكيمياء والجبر، ويضاف إلى ذلك مبادئ التربية وعلم النفس، وكل ذلك بقدر شامل موجز، وفى الإعدادى لإجازة التعليم الأولى يتوسع فى دراسة المواد التى تتصل بصناعة التعليم كالتربية علمًا وعملاً، والمنطق وعلم النفس، وتدبير الصحة وهكذا، وفى كل كلية يتوسع فى دراسة ما يمت إلى مهمة هذه الكلية بصلة، وبذلك نجمع بين التعميم والاختصاص.
وإذا كنا لمسنا ناحية حاجة الأزهرى وهو طالب الإسلام إلى هذه العلوم، فأحر بنا أن نلمس حاجة غيره من طلبة المعاهد الأخرى المدنية إلى تعلم الإسلام، فمما لا شك فيه أن حاجة الأزهرى إلى هذه العلوم المدنية أقل من حاجة طالب الطب وطالب الهندسة وطالب الزراعة وطالب التجارة وطالب الرياضة إلى الدين، ولهذا كان من أوضح العدل أن يلح الأزهر فى وجوب تعميم دراسة الدين فى كل هذه المعاهد.
جـ- الاقتصار فى اللغات الأجنبية على الضرورى: إن إدخال اللغات الأجنبية فى مناهج الأزهر ضرورة اقتضتها مهمة الأزهرى فى تعميم دعوة الإسلام، فنحن لا ننكر على المناهج الأزهرية اشتمالها على هذه اللغات، ولكن الذى نريد أن نحرص عليه الاقتصار فى دراستها على القدر الضرورى الذى دعت إليه الحاجة، بحيث لا تكون هذه اللغات فى أقسام الأزهر كلها، إذ لا ضرورة تدعو إلى ذلك، ولكن تكون فى القسم الذى يخصص للدعوة وهو كلية أصول الدين، وبذلك نحفظ للأزهر صبغته الإسلامية الشرقية، أما إذا عممت فى أقسام الأزهر فستزاحم قطعًا المواد الأساسية التى هى مهمة الأزهر الأولى، وتصبغه بصبغة ليست منه فى شىء، وتكون وسيلة إلى أن يتسرب إلى الأزهر مدرسون أجانب عن بيئته حقيقة أو مجازًا، فيكون لذلك فى نفوس أبنائه أسوأ الآثار.
وحبذا لو كانت دروس اللغات فى ناحية غير الناحية الأزهرية، بأن ينشأ قسم خاص يلتحق به من توكل إليه مهمة الدعوة، ويتفرغ فيه لدراسة اللغة التى سيقوم بالدعوة بين أبنائها، أو بأن يكون ذلك فى فصول ليلية، وكل ذلك حرصًا على الصبغة التى لزمت الأزهر منذ أكثر من ألف سنة.
وأما عن الناحية الثانية وهى إعداد المدرسين وحسن اختيارهم فأمامنا لذلك عدة وسائل، فأما من حيث المدرسين الحاليين فإن إصلاح شأنهم يكون فى ترك الحرية للطلاب فى الكليات وأقسام التخصص فى الحضور على الشيخ الذى يريدون حضور درسه، وإذن فسيكون هناك تنافس بين الشيوخ فى الإجادة والإفادة ويكون البقاء للأصلح، وأما من حيث المدرسين فى المستقبل فإن إصلاح المناهج كفيل بإصلاح شأنهم بعد الوقت المناسب.
وأما مدرسو المدنية: الرياضة والعلوم، فمن واجب إدارة الأزهر الاهتمام بشأنهم فقد لوحظ أن كثيرًا منهم لا يتصل بالبيئة الأزهرية إلا بصلة الارتزاق فقط، وهو مع ذلك متبرم بها، ولذلك أثره بالغ فى التقصير فى أداء مهمته، كما لوحظ أن كثيرًا منهم يجهل البسائط فى الدين، ويجيب على ما يوجه إليه من أسئلة فى الموضوعات الدينية التى قد يكون لها مساس ببعض موضوعات فنية إجابة مضحكة أو مشككة، مما يجعل منزلته فى نفس الطالب الذى يتلقى عنه ضئيلة هزيلة. ولإصلاحهم يجب أن تعنى الإدارة باختيارهم ممن يميلون بفطرتهم إلى بيئة الأزهر، ثم ينشأ قسم إعدادى يلتحقون به فترة قبل مزاولتهم التدريس يلمون فيه بما لابد منه للمدرس من المسائل الدينية، على أن يكون هذا نظامًا مؤقتًا حتى تثوب المدارس المدنية إلى الرشد وتعنى بشأن الدين.
أما الناحية الثالثة وهى العناية باختيار الكتب، فقد ألم بها باحثون كثير على أثر ما لوحظ من عناية الكتب المتداولة بالألفاظ والجدل أكثر من عنايتها بالعلم والملكات، وإنما يكون إصلاح هذا النقص بالعودة إلى بعض كتب المتقدمين الدسمة المليئة بالعلم فى سهولة ودقة بحث، وبأن تؤلف لجان فنية مهمتها الانتقاء والاختيار وإمداد الأقسام الأزهرية بالمصنفات التى تنتج دراستها غزارة العلم وقوة الملكة.
ملاحظات عامة
أ- البعوث الأزهرية التى يقصد منها تثقيف أبناء الأزهر يجب أن تضيق دائرتها وتقتصر فيها على قدر الحاجة، على حين يجب الاهتمام كل الاهتمام بتوسيع دائرة المبعوثين إلى الشعوب الإسلامية لتعليم أبنائها الإسلام.
ب- هناك بوادر خلقية ونفسية تنتاب الأزهريين فى هذا العصر يجب أن يبادر بعلاجها علاجًا سريعًا حاسمًا، من أمثلتها: انتشار فكرة التحرر من قيود البحث الصحيح إلى ما تمليه الأهواء ويمت إلى الزراية على السلف تحت عنوان حرية الفكر أو الانتصار للاجتهاد أو غير ذلك من المزاعم، ومنها:
التهالك فى حب الدنيا والخنوع للمادة والاستهانة بكرامة العلم.
ومنها: التهاون فى أداء الفرائض وعدم الاحتفاظ بالمظاهر الإسلامية أخذًا بالرخص الفقهية وجريًا وراء التيار، وإنما كان منشأ ذلك فى الأزهر أن نظمه الجديدة جعلت منه مدرسة علمية فقط الغرض منها تدريس المواد ومعرفة العلوم بعد أن كان دارًا للتربية والعلم معًا، ففقدان روح التربية الصحيحة بالأزهر جر إلى نفوس أبنائه كثيرًا من الضعف، وعلاج ذلك إنما يكون بالقدوة الحسنة، وبأن يؤخذ الطلبة بأداء الفرائض والاستمساك بحبل الدين عمليًا، وبأن يستعان على ذلك بدراسة كتب التربية الإسلامية التى تمت إلى التصوف الصحيح بصلة كإحياء الغزالى دراسة عملية لا علمية فقط.
ج- الزى الأزهرى يجب أن يبقى عربيًا، وإن كان ولابد من تعديله فإلى ما يقربه من ناحية العروبة أقرب مما هو الآن، فكلما تعمق الزى الأزهرى فى عروبته كلما زادت مهابة أبنائه وصلحت بذلك نفوسهم، أما أن يصرح للأزهريين بارتداء الملابس الإفرنجية أو خلع العمائم فتلك جناية كبرى على الشرق وعلى الإسلام وعلى الأزهر تعقب أسوأ الآثار.
د- مما يشرف الأزهر ويرفع من شأنه فى العالم الإسلامى أن يعنى بشأن ضيوفه من الطلبة غير المصريين عناية تسهل عليهم الاستفادة منه من جهة، وتجعل الأزهر يجنى من وجودهم بمصر أطيب الثمرات من حيث الارتباط المنشود بين مصر وبقية الأقطار.
بقيت بعد ذلك مسألة تبعية الأزهر، وكل ما نرجو أن يلاحظه أولو الأمر فيها وجوب استقلال الأزهر استقلالاً تامًا عن مهاب الزوابع والأعاصير، وإبعاده كل الإبعاد عن التورط فى الشئون السياسية والحزبية التى ليست من مهمته.
ولعلى بذلك أكون قد أديت أمانتى وقدمت نصيحتى، والدين النصيحة، وصلى الله على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم، والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
المصدر: جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية، العدد (13)، السنة الثالثة، 8ربيع الآخر 1354ه/ 9 يوليو 1935م