أمثلة من التربية الحضارية عند الإمام البنا
بقلم: د. سيد دسوقي
مقـدمــة
فى امتحان الليسانس فى دار العلوم سأل أحد الممتحنين الأستاذ البنا عن حصيلته من الشعر العربى، فأجابه ثمانية عشر ألف بيت من الشعر. فسأله الرجل هل تحفظ قصيدة طرفة ابن العبد؟ قال البنا: نعم، استطرد الشيخ وسأل: هل أعجبك فيها بيت معين، فقال البنا: نعم، «إذا القوم قالوا من فتى.. خلت أننى عنيت فلم أكسل ولم أتبلد».
فطرب الأستاذ لإجابة البنا طربًا عظيمًا، فسأله ممتحن آخر: (وأظنه كان الشاعر الكبير علي الجارم) عن سر سروره البالغ بهذه الإجابة، فقال له الشيخ الممتحن: لقد وقفت نفس الموقف أمام الإمام محمد عبده، وسألنى نفس السؤال فظللت أقول بيتًا من هنا وبيتًا من هناك، فضاق الإمام محمد عبده بإجاباتى، وقال لى: هل تذكر قصيدة طرفة ولا يذكر قوله: «إذا القوم قالوا من فتى، خلت أننى عنيت فلم أكسل ولم أتبلد»، وهذا الفتى البنا قالها من أول مرة، وبدون تردد.
نعم لقد كان أهم ما يميز الإمام البنا هو هذه الهمة الحضارية العظيمة، والتى تدفعه دفعًا إلى البحث فى خريطة المهام الحضارية وإعداد نفسه لتحمل هذه المهام بما حباه الله من فضل، وأفاض عليه من علم، ومن قدرات متعددة، ولعل هذه الخاصية «الهمة الحضارية» و«البحث عن الواجبات الحضارية» هما أهم ما يميز حركة الإخوان المسلمين.
فى 1950 - 1951م انتقل الفلاحون والعمال فى قريتى بالمرج من جسد هامد متخلف إلى جسد حى ينشئ مدرسة ومستوصفًا، ويسعى فى حركة تحارب العادات السيئة من تدخين الحشيش إلى التحلل الاجتماعى، كل هذا فى عام واحد، بل بدأ هؤلاء الفلاحون يضطلعون بحفظ الأمن والضغط على عصابات القتل والسرقة حتى أقلعوا عن جرائمهم.
لقد كانت دعوة البنا دعوة إحيائية تحيى موات الأمة، وتعيدها إلى النبع الصافى من القرآن والسنة متجاوزة عمليات الإحياء الضيقة التى كانت تقوم على نُتَفٍ مذهبية أو نتفٍ تاريخية، أو نتف عرقية. وهذا الإحياء لم يكن نظريًا، وإنما كان إحياءً عمليًا، فهذا الجسد الذى تريد إحيائه محتلة أرضه، منهوبة موارده، وتحيط به أمراض حضارية كثيرة. فهذا إذن إحياء تحت صليل السيوف الممشوقة فوق رقابنا تحرس ما تراكم فى وعائنا من تخلف حضارى.
وفى هذه الوريقات سوف أتذكر مع القارئ مجموعة من مواقف الأستاذ البنا فى التربية الحضارية ومعظمها سمعتها ممن شاهدوها بأنفسهم، فأنا هنا أروى عن شهود.
ولن أعلق كثيرًا على هذه المواقف حتى أتيح للقارئ حرية التأمل، واستخراج العبر.
1- تقوية النسيج القومى
فى أوائل التسعينيات جاءنى زميل مهندس إلى اللجنة العلمية فى نقابة المهندسين، وقدم لى شابًا لا أعرفه: أقدم لك المهندس أخنوخ فانوس - رئيس المركز الثقافى الأمريكى بالقاهرة - فسألت الشابا على الفور: أنت ابن المجاهد العظيم لويس فانوس، فأجابنى: نعم، المستشار السياسى للإمام الشهيد حسن البنا، استغرب زميلنا الأول، حيث جاء ليعرفنى بالرجل فوجدنا قد تعارفنا بظهر الغيب، وهنا حكيت لهم قصة أعرفها عن البنا وفانوس.
القصة رواها لى الأستاذ عبد الحليم أبوشقة الناشر الشهير، كان ذلك فى منتصف الأربعينيات من القرن الماضى عندما تقدم شابان مسيحيان يعيشان فى طنطا للانضمام لشعبة الإخوان المسلمين هناك.
وهنا انقسم الإخوان إلى رأيين، رأى يرى أنه لا مانع من ذلك، ورأى يعارض هذا الانضمام، أرسلوا رسالة للإمام البنا يطلبون منه الرأى، مضى شهر أو أكثر، ولم يصل الرد، ولكن فاجأهم الأستاذ البنا عندما دعوه فى المولد النبوى أن حضر وأحضر معه صديقه ومستشاره السياسى الأستاذ لويس فانوس، وتحدث يومها فى الحفل الأستاذ لويس من روح مصرية تؤمن بأن مصر تملك حضارة عربية إسلامية تدعو المسلم والمسيحى أن يستمسك بها ويعيش فى رحابها، ويعمل على رفعة بلده فى ظلها، بعد الحفل اجتمع الإخوان بمرشدهم وسألوه الرأى فى المشكلة القديمة، فقال لهم: إنه أرسل الرد بالموافقة من قبل، ولكن يبدو أن الرد وقع فى أيدى المعارضين فخافوا أن يكون فى الأمر لبس فانتظروا، والأستاذ البنا لم يكن له مستشار مسيحى واحد، وإنما كانت له مجموعة من القيادات المسيحية تعينه على اتخاذ المواقف الوطنية السديدة، فالبنا يريد أن ينهض بالوطن كله لا بجزء منه، وهو فى حاجة إلى كل يد تبنى معه، مع احترام عقائد الجميع.
2- التعاون التام مع كل القوى الوطنية فى العمل الوطنى المشترك
يحضرنى فى هذا ما رواه الرئيس السادات فى مذكراته (البحث عن الذات) عن رغبته فى العمل مع شباب الإخوان المنخرطين فى الإعداد السرى لمقاومة الاحتلال الإنجليزى فى مصر، والعصابات الصهيونية فى فلسطين، يذكر السادات أن الأستاذ البنا أرشده أن يذهب إلى عيادة طبيب فى باب اللوق، ويدخل إلى الطبيب كمريض، وهناك سيجد من يوجهه.
وفعل السادات ذلك، وفوجئ بالفريق عزيز المصري فى حجرة الطبيب، حيث ضمه معهم فى فصائل المجاهدين، والتى ضمت فيما بعد أسماء لامعة مثل: عبد المنعم عبد الرءوف، وجمال عبد الناصر وغيرهما. كان الأستاذ البنا يسعى إلى تحرير وطنه من الاحتلال الإنجليزى، وكان يرى تدفق اليهود فى هجرات جماعية إلى فلسطين، من أجل ذلك سعى عند كل القوى الوطنية فى مصر والعالم العربى من أجل جمع الجهود وتنظيم القوى لمواجهة هذا الخطر فى بلاد العرب والمسلمين، وكان يرحمه الله على صلة بكل الزعماء الوطنيين فى العالم العربى والإسلامى.
يحكى الدكتور توفيق الشاوي فى مذكراته الذاتية أن بعثته الدراسية كانت فى الولايات المتحدة الأمريكية، وبعد أن استعد للبعثة ذهب يزور أستاذه البنا، وأخبره بشأن ابتعاثه، فاقترح عليه الأستاذ البنا أن يغير اتجاه البعثة من أمريكا إلى فرنسا، وأخبره أننا نحتاجك فى فرنسا لمساعدة مجتمعات المجاهدين هناك، والذين يحاولون أن ينظموا أنفسهم، ثم طلب منه بعد ذلك أن يلتقى هناك بالمجاهد الكبير شكيب أرسلان، وكان هذا ما تم وذهب الشاوى إلى فرنسا، وقام بدور متميز فى الإعداد لتحرير الشمال الأفريقى.
وعندما عاد الشاوى إلى مصر ودخل السجن عام 54 لم يخرجه من السجن إلا رجاء الإخوة المجاهدين الجزائريين والمغاربة إلى الرئيس عبد الناصر بالإفراج عنه لحاجتهم الماسة إلى جهوده، وخرج الشاوى من السجن إلى المغرب، حيث ظل يكافح مع إخوانه، حتى تحررت الجزائر، وكان يسكن فى بيت واحد مع بن بيلا، ومحمد خيضر، وآخرين.
انظر إلى رؤية البنا وانفتاحه على كل القوى الوطنية فى عالمنا العربى والإسلامى، وتوجيه تلميذه الشاوى لتغيير وجهة بعثته من أجل الإعداد والمساهمة فى معارك التحرير، بل يحكى لى المستشار عثمان حسين - رئيس المحكمة الدستورية الأسبق - أن الأستاذ البنا أرسله هو وأخوين آخرين برسالة إلى رجل من الهند سيمر بمطار القاهرة، ولم يكن هذا الرجل إلا القائد محمد علي جناح - مؤسس باكستان فيما بعد - والعجيب أنهم عندما التقوا بالرجل فى المطار طلب منهم أن يحملوا إلى الأستاذ سلامًا عطرًا، ويبلغوه أنهم استفادوا كثيرًا من نصائحه الغالية، متى وأين كان يلتقى البنا الشهيد بإخوانه من قادة الجهاد فى الهند وأندونيسيا وكافة أنحاء العالم الإسلامى، وانظر كيف يربى تلاميذه على أن دار الإسلام دار لنا جميعًا.
3- قيمة الوقت
يروى أستاذنا فريد عبد الخالق أن الأستاذ البنا اصطحبه ومجموعة صغيرة من شباب الإخوان لزيارة بهى الدين بركات باشا فى عوامته فى النيل. ذهب الأستاذ قبل الموعد بنصف ساعة، وانتظر هو وأصحابه على الشاطئ، ولما بقى من الوقت خمس دقائق نزل وحده، وظل ينتظر حتى حان الوقت تمامًا، فدق جرس العوامة فخرج الباشا لاستقباله، ونظر إلى ساعته، وقال مستغربًا شيخ ومنضبط كل هذا الانضباط، استأذن الأستاذ أن يدخل معه أصحابه، فأذن الباشا وانتهزها الأستاذ فرصة ليتحدث عن قيمة الوقت فى الإسلام، حتى أن الله أقسم به فى آيات كثيرة من القرآن الكريم، كان هذا درسًا عمليًا ونظريًا لتلاميذه ولمعالى الباشا، ثم أضاف الأستاذ درسًا آخر لتلاميذه ولصاحب الدار عندما عرض عليهم الباشا أن يقدم لهم طعام الغداء.
قال الأستاذ الإمام: إننا صائمون، وإنه لصيام تطوع، فإن كان يسعدك أن نفطر فإن الإسلام يعطينا رخصة الإفطار من أجل إدخال السعادة على المضيف. سأل الباشا فى استغراب وإعجاب: هل يقول الإسلام ذلك؟
وهكذا استطاع الأستاذ الإمام أن يعلِّم تلاميذه ومضيفه الباشا بطريقة عملية درسين فى منتهى الأهمية الحضارية: قيمة الوقت، وقيمة إفشاء المودة والسعادة بين الناس.
4- التدرج فى دعوة الناس
فى إحدى زياراته للصعيد اقترح أحد إخوان الصعيد (الأخ حسين عبدالرازق، وهو الأخ الأصغر للشيخ مصطفى عبد الرازق) أن يزور الأستاذ المرشد أحد الباشوات فى المنطقة، واسمه لملوم باشا.
استأذنوه فى الزيارة فأذن، وذهبوا فى الموعد المحدد، وانتظروا فى قاعة الانتظار بالقصر قرب الساعة، وهنا نزل الباشا إليهم يرفل فى روب من الحرير وتنبعث منه روائح العطور الفاخرة. وبدأ الأستاذ البنا بالحديث عن عائلة لملوم ومكانتها فى المجتمع، وأنها أعطتنا كثيرًا من العلماء النجباء، وأثنى ثناءً طيبًا على الخير الذى تقدمه عائلة لملوم لمجتمعها. كان الباشا يستمع إلى الشيخ سعيداومنتعشاً .
ولما انتهى الشيخ من حديثه التفت إليه لملوم باشا قائلاً: إننى أحب أن أصلى، ولكن أشعر بضيق من هذا الوضوء الذى يسبق الصلاة، لقد انتظرتمونى حتى نزلت، وكنت أثناء ذلك فى حمامى الخاص الصباحى، فأنا أستحم مرتين فى اليوم: مرة فى الصباح ومرة فى المساء، فما هو ضرورة أن أتوضأ ما دمت نظيفًا؟
فقال له الأستاذ المرشد: لا تثريب عليك أن تصلى على هذا الحال، ولا تشغل نفسك بالوضوء، فزع الإخوان الذين كانوا فى صحبة الأستاذ من هذا الرأى العجيب (ومنهم الأستاذ فريد عبد الخالق راوى القصة)، ولكن الأستاذ أشار إشارة لهم ألا يخوضوا فى الأمر، وانتظروا على مضض حتى خرجوا.
وصاح الأستاذ فريد: ما هذا يا فضيلة المرشد، صلاة بغير وضوء!
قال له الأستاذ: يا فريد هذه ليست فتوى هذا علاج مؤقت.
يقول الأستاذ فريد: وبعد شهر من هذا اللقاء وصل الأستاذ حسين عبد الرازق للقاهرة، واجتمعنا حوله، فسأله: ما أخبار الباشا لملوم؟ قال: ما شاء الله أصبح يتوضأ لكل صلاة ويسبغ الوضوء، ويقيم معظم صلواته فى المسجد القريب من قصره، لقد تغير الباشا تمامًا، وأصبح إنسانًا غير الذى كنا نعرف، وهو دائمًا يذكر زيارة الأستاذ البنا له، ويثنى عليه كثيرًا.
انظر - رحمك الله - إلى هذا الداعية الموفق عندما يقول: هذه ليست فتوى، وإنما هو علاج. والعلاج يحتاج إلى طبيب حاذق، ولا يحتاج إلى متحذلق يحمل فوق ظهره أسفارًا.
5- لين الجانب والتبسط الراشد
فى الأربعينيات كان الأستاذ فؤاد الخطيب يدرس فى الجامعة فى القاهرة، وكان أبوه يعمل سفيرًا للسعودية فى مصر. تعلق الأستاذ فؤاد بالأستاذ البنا وأصبح من الناشطين فى الجامعة، وأراد الأستاذ فؤاد أن لا يحرم من هذا الخير زملاءه من الطلبة السعوديين، فدعاهم يومًا للغداء، ودعا الأستاذ البنا معهم. وقبل أن يصل الأستاذ البنا ظل هؤلاء الطلاب يمزحون مع فؤاد حول شيخه القادم، ويطلقون النكات على المشايخ عمومًا، ومنهم شيخنا البنا، ويبدو أنهم لم يكونوا قد رأوه من قبل فتصوروه شيخًا كبيرًا، وعلى رأسه عمامة ضخمة، وتحيط به جبة واسعة، وقفطان مزركش.
ثم بدا لفؤاد أن ينزل لشراء بعض الأغراض، وللمصادفة يصل الأستاذ البنا فى غياب فؤاد، وكان يلبس بنطلونًا وقميصًا، وتبدو عليه الفتوة والنشاط، فلم يظنوا للحظة واحدة أن هذا الرجل هو الشيخ الذى ينتظرونه، واستمروا يمطرون المشايخ بوابل من النكات المضحكة، والشيخ يضحك معهم ويشاركهم فى مزاحهم، وبينما هم كذلك إذ وصل فؤاد. وقال: أستاذنا فضيلة المرشد.
فصمت الضاحكون فجأة، وقالوا فى صوت واحد: الأستاذ البنا.. معذرة يا أستاذ تصورناك غير ذلك، ولكن الأستاذ طمأنهم بكلام جميل عن فوائد الفكاهة البريئة، وأن الضحك ليس جريمة. المهم خرج من الموقف بسلاسة حضارية غريبة، ثم بدأ بعد ذلك طريقه إلى قلوبهم وعقولهم ليحملوا معه هَمَّ العمل الحضارى عندما يعودون إلى بلادهم. يقول الأستاذ فؤاد الخطيب (عليه رحمة الله): إن هذه المجموعة أصبحت فيما بعد أعمدة بناء الدولة الحديثة فى السعودية، بما فيهم الأستاذ فؤاد الذى تعرفت عليه بعد أن أصبح سفيرًا لبلاده فى بلدان كثيرة.
الملاحظة هنا أنه بدأ من واقع الناس، وبمهارة فائقة قادهم إلى الهَمِّ العام وحمَّلهم مسئولياته، سواء انضموا إلى تنظيمه، أو عملوا موازيًا لهذا التنظييم.
وتحضرنى فى نفس الاتجاه قصة رواها الدكتور سعيد رمضان فى إحدى خواطره فى مجلة «المسلمون». يقول الدكتور سعيد: إن الأستاذ البنا ذهب فى رحلة دعوية إلى قرية العزيزية بالشرقية، وكان القوم يحتفلون بذكرى القطب الصوفى الكبير الحسن الشاذلى، ودعوه للمشاركة. وفى كلمته ظل يتحدث عن الإمام الشاذلى، ويردد أذكاره وأوراده حتى وصل إلى دعاء الشاذلى الذى يقول: «اللهم ارزقنا الموتة المطهرة».
وهنا سأل الأستاذ البنا سامعيه: أتدرون ما الموتة المطهرة؟ ثم صمت دقيقة، والناس معلقة أبصارهم صاغية قلوبهم إلى إجابة البنا، ومن هنا بدأ يصوغ قلوبهم فى طريق دعوته، وظل يحدثهم عن الموتة المطهرة دفاعًا عن العرض والمال والمقدسات، وقتالاً فى سبيل الله.. وخرج بهم من الآفاق الضيقة التى كانوا يعيشون فيها إلى آفاق حضارية متعددة، يقول الدكتور سعيد (عليه رحمة الله): وما غادر البنا العزيزية حتى بايعته عن بكرة أبيها.
مرة أخرى تتجلى عبقرية البنا فى الخروج بالناس من مواقعهم إلى مواقع المسئولية الحضارية ببساطة مذهلة.. رحم الله الأستاذ الإمام.
6- الرفق بالعاملين معه لتكثير خيرهم
كنت و أنا صبى صغير أصطحب الدعاة الزائرين لقريتنا لزيارة قرى أخرى لا نصل إليها إلا مشيًا، أو ركوبًا للدواب. وكان حظى أن أصطحب دعاة لا أنسى أثرهم فى حياتى بما ألقوا فى قلبى من المواعظ وفى عقلى من الذكر.
وكان من هؤلاء الشيخ عبداللطيف الشعشاعي (عليه رحمة الله)، وكان الشيخ ضريرًا، ويحتاج إلى صحبة ترافقه فى تنقلاته البعيدة، وفى إحدى هذه التنقلات سألته أن يحكى لى عن الإمام البنا، وتجلياته الروحية والحضارية.
قال (يرحمه الله): أرسلنى الأستاذ البنا أنا والأخ أحمد السكرى فى مهمة إلى الإسكندرية، كان الأستاذ السكرى يحب رغد العيش، فلا يركب إلا الدرجة الأولى، وكنت أركب أنا الدرجة العادية. المهم أن الأستاذ البنا أوصانى بأخى أحمد خيرًا وأعطانى مبلغًا من المال، وقال لى: إذا طلب منك أخوك السكرى مالاً فأعطه ولا تجادله. وبينما نحن فى رحلتنا إلى الإسكندرية، وأنا فى الدرجة العادية أبصرت (وهو الضرير) كأن الأخ السكرى مقبل عليّ من الدرجة الأولى، وهو يتخطى القفف والغلقان التى تمتلئ بهم العربة التى أركبها حتى وصل إليَّ ووضع يده فوق كتفى وسألنى: إن كان معى نقودًا؛ لأن محفظته قد سرقت منه وليس معه أى نقود. دمعت عيناى وقلت له صدق البنا.. خذ يا سيدى هذا المبلغ الذى أعطاه لى الأستاذ مخافة أن نحتاج فى الطريق.
أقول مع الشيخ الشعشاعى: من أخبر حسن البنا بهذا؟ وما هذا الرفق بأتباعه، لو كان غيره لقال: الذى يريد أن يزهو فليزهو من جيبه وجيب أبيه . ولكنه البنا يرفق بالعاملين معه ويحملهم معه بتكويناتهم المختلفة، ويعينه ربه بكشاف ربانى يراهم فى ضعفهم فيقيل عثراتهم (رحم الله الأستاذ والإمام).
7- الجنود والمواقع
فى عام 1966م وكنت ما زلت فى أمريكا جاءتنا الأنباء المفزعة بإعدام أستاذنا العظيم سيد قطب، وكنت أنا خطيب الجمعة فى تجمع لطلاب جامعة ستانفرد بكاليفورنيا، كنت فى ثورة أحرجت بعض المصريين الذين كانوا سيعودون فى نفس العام لمصر، فكانت هناك مشادة بينى وبين هؤلاء الإخوة بعد الصلاة. كان من بين المصلين الأخ الكريم الدكتور وهبى محمود الذى كان وكيلاً لوزارة التخطيط، وجاء إلى جامعة ستانفرد فى برنامج تقدمه ستانفرد فى الإدارة العليا لمدة عام. وفى المساء اتصل بى الأخ الدكتور وهبى وسألنى أن ألتقى معه فى شقته، حيث كان يسكن مع الأخ الدكتور عبد الله عمر نصيف الذى كان يدرس لدرجة الماجستير فى الجامعة. المهم التقينا وتحدث الأخ الدكتور وهبى وعيناه مغرورقتان بالدموع: إيه يا عم سيد لقد أبكيتنى وغالبت البكاء حتى لا ينفضح أمرى، ثم حكى: فى النصف الثانى من الأربعينيات كنت أستعد للتخرج من الجامعة. وكنت عصبيًا جدًا، وكل يوم يذهب زملائى فى الجامعة من الإخوان ويشتكون للأستاذ البنا: محرم تشاجر اليوم مع الشيوعيين.. محرم تشاجر اليوم مع الوفديين. كل يوم أورط إخوانى فى خناقة مع آخرين.
وفى إحدى هذه المرات انفرد بى الأستاذ البنا، وقال لى: يا محرم اختفى من الحركة. قلت: تفصلنى يا أستاذ؟ قال: لا، ولكن أريد أن أضعك فى عمل آخر. ثم قال لى: أنت ستتخرج هذا العام؛ ففى أى مجال تنوى العمل؟ قلت: فى ميدان التدريس. فقال لى: أريدك أن تختفى فى وزارة المعارف، حتى تصل إلى أعلى المناصب وتخدم دينك وأمتك فى صمت.. وتعاهدنا على ذلك، وبدأت رحلتى فى وزارة المعارف، ثم وزارة التربية والتعليم حتى وجدتنى مديرًا لمكتب الوزير كمال الدين حسين فى الستينيات.
ثم فوجئت برجل آخر كنت أعرف صلته القديمة بالأستاذ البنا، وهو أيضًا يعمل مستشارًا للوزير.. إنه الأستاذ الأديب فريد أبو حديد، وتصارحنا؛ فإذا قصته مثل قصتى، ولم ينكشف أمرنا إلا عندما كتب الدكتور نظمى لوقا كتابه الشهير «محمد الرسالة والرسول»، والذى يقول فى آخر صفحة فيه: «لا خيرة فى الأمر ما نطق هذا الرسول عن الهوى، لا خيرة فى الأمر ما ضل هذا الرسول وما غوى، لا خيرة فى الأمر ما صدق بشر إن لم يكن هذا الرسول بالصادق الأمين، فسلام عليه بما هدى، وسلام عليه فى الخالدين».
المهم أننا قررنا هذا الكتاب على طلبة الإعدادية فى مادة النصوص، وبدأت اعتراضات محلية وغير محلية، وانكشف أمر الجنديين الذين أرسلهما حسن البنا ليحفظا لمصر نصوصها الدراسية فى وقت تطاولت فيه الأيدى العلمانية.
المهم أنه فى عز سطوة الشيوعيين والعلمانيين كانت المواد الدراسية فى حفظ أمين بفضل هذين الجنديين العظيمين (رحمهما الله).
والدرس المستفاد أنه ينبغى أن لا يركب كل الجنود مركبة واحدة، أو دابة واحدة بقرنين كبيرين يسهل مسكها منهما.. إنما نكثر سواد الدواب ، و نوزع الجنود فى المواقع، ونسترهم بكل ستر متاح، والحمد لله رب العالمين.