عبد الفتاح مورو
بقلم: صلاح الدين الجورشي .. كاتب تونسي
هذا الرجل الذي يتمتع بذكاء حاد، وبشخصية مرحة، اختفى تماما من المشهد التونسي والعربي، وتحوّل إلى شبح أو يكاد، وقد زرته مؤخرا في بيته...
عبد الفتاح مورو.. هذا الرجل أخـرجُـوه من عزلته الإجبارية
لديّ رغبة جامحة في الحديث عن عدد من الشخصيات التي عرفتها عن قرب، وأرى أنها في حاجة إلى إنصاف أو تعريف وتسليط بعض الأضواء. فأخطر ما تعانيه بعض الشعوب أو الأمم هو قِصر الذاكرة أو نكران الجميل.
أريد التوقف هذه المرة عند شخصية معروفة جدا في تونس ، وفي الآنِ نفسه لا يجهلها كثيرون في العالم العربي، خاصة الذين واكبوا نشوء الحركة الإسلامية التونسية وتطورها. إنه شخصية طريفة تحمل اسم الشيخ «عبدالفتاح مورو».
هذا المحامي الوحيد الذي لا يتخلى عن «الجبة» التونسية خارج أوقات العمل، وهو زيّ لازمه منذ أن كان يدرس بكلية الحقوق حين كان اليسار الراديكالي يقود الحركة الطلابية، إذ كان الطالب الوحيد الذي يخترق الحرم الجامعي بزي وطني كاد أن ينقرض من البلاد، لولا القرار التاريخي الذي اتخذه الرئيس بن علي الخاص بإنقاذ الصناعات التقليدية من الانهيار الكامل.
كان عبدالفتاح مورو الرافد التونسي ضمن المجموعة التأسيسية للحركة الإسلامية. فأستاذ الفلسفة راشد الغنوشي، عاد من سوريا حاملا معه فكر الإخوان المسلمين ، وأستاذ العربية احميده النيفر كان في تلك المرحلة من مطلع السبعينيات لم يمض على انتقاله من الناصرية إلى الإسلام الحركي سوى فترة وجيزة، أما نحن شباب تلك الفترة، فالأفكار مختلطة تماما في أذهاننا، مع تعلق عاطفي قوي بنموذج الإخوان ، أما مورو فمساره كان مختلفا تماما.
بدأ صوفيا، ثم تم احتضانه من قبل بعض المتبقين من شيوخ الزيتونة الذين كانوا ينشطون بحذر خوفا من سطوة الرئيس بورقيبة الذي كان لا يطيق الزيتونيين، حتى خطابه في المساجد لم يكن أيديولوجيا على الطريقة المشرقية مثل البقية، ولهذا كان يتفاعل معه بالخصوص عموم المواطنين الذين يحسن مخاطبتهم بيسر وبساطة.
كان قاضيا، وعندما ارتأت قيادة الحركة في أواسط السبعينيات أن يستقيل من القضاء بحجة أن ممارسته غير جائزة لأن القوانين المعمول بها في تونس «غير إسلامية»، رفض القرار وتمسك بوظيفته. وقد كان محقا، لأن ما صدر عن القيادة يومها يعكس مرحلة فكرية متشددة وغير ناضجة.
ثم دخل مورو السجن في أول محاكمة تعقد للإسلاميين في تونس عام 1981 . وتعلم الكثير من مدرسة يوسف التي وجد نفسه ضيفا عليها عن طريق الخطأ ودون تمهيد. ورغم أننا اختلفنا بعد ذلك، لكن بقيت بيني وبينه وشائج صداقة نسجتها أيام مرت كلمح البصر.
ثم كانت له وقفة شهيرة مع عدد من قيادات الحركة عندما قرروا الانسحاب من التنظيم، رفضا لمنهج التصعيد الذي تم انتهاجه في مطلع التسعينيات من القرن الماضي، مختلفا في ذلك مع صديقه القديم راشد الغنوشي .
واتجهت نيته نحو تأسيس حزب إسلامي مغاير، غير أن المحاولة فشلت، لأن شروطها الذاتية والموضوعية لم تكن متوفرة.
هذا الرجل الذي يتمتع بذكاء حاد، وبشخصية مرحة، اختفى تماما من المشهد التونسي والعربي، وتحوّل إلى شبح أو يكاد، وقد زرته مؤخرا في بيته، فوجدت أن الأيام لم تزده إلا نضجا، لكنه بدا لي وكأنه حبيس إطار ضيق لا يليق بمكانته وتجربته وثقافته الدينية والقانونية الواسعة، فتفكيره حديث، ويمكن اعتباره من التيار الوسطي الذي يستطيع أن يسهم بقوة في الحد من تصاعد خطوط السلفية المتشددة.
هذا الرجل الذي كان كثير الترحال، لم يغادر تونس منذ أن عاد إليها من السعودية في مطلع (سبتمبر تحديدا التحرير) سنة 1988 ، بسبب فقدانه لجواز سفره. وبما أن علاقته بأوساط الحركة الإسلامية قد انقطعت، وليس له نشاط سياسي أو جمعياتي، ولا يسمح له بأن يخطب في المساجد أو أن يكون له نشاط عام، فإنه قد اضطر إلى تأثيث حياته بشكل قد يبدو غريبا، لكنه لا يخلو من طرائف.
وعلى ذكر المساجد، فإنه بمناسبة عقد قران ابنه، قام الساهرون على تنظيم شؤون المسجد بغلق أبوابه، مما جعل الشيخ مورو وضيوفه يقرؤون فاتحة العريس والعروسة في الشارع وأمام الجامع الموصد في وجوههم.
إنه يقضي كامل يومه في الشغل، كأن الشغل قد تحول بالنسبة إليه إلى الفضاء الوحيد المتبقي له، الذي لا يزال يربطه بالناس وبالمجتمع. أعلَمني بأنه يقاوم الملل بجمع الطوابع البريدية، وهو يملك مجموعة نادرة جدا؛
كما شغلَ نفسه أيضا بإعداد قاموس لمفردات اللهجة التونسية، وضبط دلالات الألفاظ وأصولها، وقد عالج حتى الآن أكثر من ألفي كلمة. في بيته أيضا مجموعة متنوعة من البرادات (جمع براد المخصص لشرب الشاي)، وهي تبدأ من الحجم الصغير الذي لا يتجاوز الواحد سنتيمتر، وصولا إلى أضخم براد رأيته في حياتي.
إلى جانب ذلك، بدأ مورو في إعداد تفسير لعدد من آيات القرآن الكريم، وقد اطلعت على بعض الأمثلة التي تكشف عن قدرة عالية في تأويل النص القرآني.
والسؤال الذي شغلني بعد زيارته:
- كيف تُهدر مثل هذه الطاقة؟ ولماذا يُترك هذا الرجل الذي جاوز الستين يدور في حلقة مفرغة، لا مردود لها على مجتمع يحتاج لكل أبنائه؟ بل كيف يترك هذا الشخص في ثلاجة الإهمال في مرحلة تشهد جنوحا دينيا متزايدا في أوساط الشباب، في حين أنه يملك القدرة على الجدل الديني، ويستطيع أن يساهم من موقعه في ترشيد الآلف من هؤلاء؟
لا نريد الدخول في التفاصيل، فمهما كان حجم المؤاخذات أو التبريرات التي تقدمها الأجهزة الإدارية والأمنية لاستمرار حرمان عبدالفتاح مورو من جواز سفره لفترة تتجاوز العشرين عاما، فإن ما قدمه هذا الرجل لتونس، ولكثير من أبنائها، يفرض إعادة النظر في التعامل معه، وعلى الأقل تمكينه من حق السفر، ليشاهد العالم، ويحج إلى بيت الله الحرام، ويلتقي بالعلماء والمثقفين، وبذلك يتواصل عطاؤه إلى أن يلقى ربه العالِم وحده بقلوب الناس وأقدارهم وأفعالهم. فخطوة مثل هذه سيقدّرها الكثيرون.