القانون الأساسي لحركة النهضة
النهضة: مشروع حضاري
لقد آلت الصيرورة التاريخية الحديثة لبلاد العرب والمسلمين إلى صياغة أنماط من الاجتماع لئن اختلفت أشكالها من بلد إلى آخر، فإنها تبقى في معظمها محافظة على سمات أساسية مشتركة أبرزها المفاصلة مع الهوية الثقافية للأمة، وسلب إرادة الشعوب وحرمانها من حق التمتع المشروع بثرواتها في كنف العدالة، والتفريط في وحدة الأمة وعزها واستقلالها عن دوائر النفوذ الأجنبية.
وإذا كان لهذه الأوضاع أسبابها التاريخية داخليا وخارجيا فإن لأنظمة الحكم الأحادية ـ باختلاف أشكالها ـ أثرا كبيرا في ترسيخ هذه الأوضاع نتيجة استلابها الثقافي واستهتارها بقيمة الحرية وانتهاكها لحقوق الإنسان... بيد أن تراكم تجارب الفكر والواقع في سياق تدافع التيارات والقوى على امتداد الزمن قد أثمر وعيا شعبيا بحقيقة أزمتنا الحضارية في مختلف أبعادها الاجتماعية والسياسية. وكان قوام هذا الوعي الجديد إصرار على إعادة الاعتبار للهوية العربية الإسلامية في الضمير وفي الواقع، واعتماد منهاج سياسي يكفل الحريات العامة وحقوق المواطنة المادية والمعنوية. وقد جاءت مساندة الشعب التونسي لمبادئ 7 نوفمبر 1987 معبرة عن أحد مظاهر هذا الوعي في بلادنا، على اعتبار أن المبادئ الديمقراطية والحضارية التي تضمنها ذلك البيان هي حصيلة سياق من الوعي جسدته نضالات شعبية ووطنية استمرت عقودا وعرفت أوجها بالتصدي لطغيان الحكم الفردي سنة 1987.
ويتنزل الإعلان عن "حركة النهضة" ضمن هذا الإطار العام حيث أن مناضلي هذه الحركة ليسو نكرات في تاريخ بلادهم المعاصر، فلقد انسلكوا في تيار الصحوة الثقافية والنضال منذ سنين فكانت حركة الاتجاه الإسلامي التي شكلوها سنة 1981 كتطور للجماعة الإسلامية التي ظهرت في السبعينات إضافة نوعية في المجتمع التونسي ودعما لقوى الحرية والنهضة والتوحد في الأمة. وظل المشروع الذي يحملونه يتشكل في صيغ تدريجية بتفاعل بنّاء مع مكونات واقعنا مستجيبا لمستلزمات أصالة الروح وحداثة الفكر وفعالية الوسائلز وبناء على القناعة المبدئية بقداسة قيمة الحرية في ذاتها، على اعتبار أنها مناط تكريم الإنسان، فضلا عن كون مناخ الحريات العامة والتعددية السياسية هو أفضل إطار لحل مشاكلنا الاجتماعية والتصدي لكل التحديات التي تواجهنا، وحرصا على ترسيخ دورة التحول الديمقراطي الذي تشهد بدايته بلادنا في هذه المرحلة، آثرنا التفاعل الإيجابي مع معطيات الواقع السياسي الجديد ما يستتبع من تكيف مع قانون الأحزاب، علما بأننا بقدر ما نحرص على أن يكون القانون هو أساس الدولة والحكم العدل بين أبناء البلد الواحد بقدر ما نلح على ضرورة تطويره بما يستجيب لمصلحة البلاد العليا، ولطموحات شعبنا المشروع في الحرية والعدالة والكرامة.
إن إقدامنا على تغيير الاسم وما يستتبعه على بقية المستويات لا يعني أن اسم حركة الاتجاه الإسلامي قاصر عن تحقيق المراد وأن المطالبة بتقنين وجودنا ليست نابعة من رغبة في إضافة رقم جديد إلى قائمة الأحزاب السياسية المسموح بها بل إن كل ذلك ينبع من تقدير واع لمصلحة البلاد العليا وتضحية كبيرة لدعم التمشي الفعلي نحو ترسيخ قواعد الاجتماع المدني عن طريق هيكلة التشكيلات الاجتماعية والسياسية ضمن أطر القانون، حتى تستفيد بلادنا من آراء وجهود كل أبنائها ويتحصن مجتمعنا من أسباب التفكك المخل ومن الهزات التي قد تنشأ عن احتكار السلطة وإقصاء المخالفين أو استثناء البعض منهم والدفع بهم نحو العمل السري واستنباط الحلول اليائسة.
وإذن، فإن الإعلان عن "حركة النهضة" هو ترجمان لشعور كل مناضليها بمسؤوليتهم الوطنية إزاء مشروع التغيير، وحرصهم على نجاحه في ترسيخ أسس المجتمع المدني وقواعد العمل الديمقراطي والقسط بين الناس. وسيتجلى تجسيد هذه المسؤولية في دعم كل مبادرة ديمقراطية وكل .خطوة يتمكن الشعب عبرها من التعبير الحر عن إرادته وتحديد مصيره وحياته.
وإن إدراكنا لحقيقة الأوضاع الاجتماعية والاقتصادية التي تعيشها بلادنا يجعلنا نلح على ضرورة تلازم الحل السياسي مع الحل الاجتماعي والاقتصادي إذ لا معنى للديمقراطية في تصورنا ما لم تكن ذات مضمون اجتماعي عماده تمكين جميع المواطنين من حقهم في الصحة والتعليم والشغل والعيش الكريم والحياة ضمن بيئة تضبطها قيمنا الأصيلة بما يحرر الإنسان عامة من عبودية الفاقة ومآسي الجهالة والمرض والرذيلة، وبما يحرر المرأة بشكل خاص من العوائق التي تعطل فعلها الاجتماعي والحضاري.
ولما كانت التشكيلات السياسية القائمة، رغم تقديرنا لها، لا تسع برامجنا ولا تنسجم بالضرورة مع خصوصيتنا الفكرية، رأينا الانتظام ضمن حركة نأمل أن توفر الإطار المناسب لاستيعاب دائرة أوسع ممن يشاركوننا التوجه الفكري السياسي، واخترنا لها عنوانا لا يخلو من خلفية فكرية: حيث أن تقويما مركزا لطبيعة المرحلة التي نعيشها ينتهي بنا إلى اعتبار أن الإشكالية الأساسية التي تواجهنا هي إشكالية نهضوية تتجاوز حدود الحسابات السياسية ورسم برامج التنمية الاقتصادية والاجتماعية وإن قصور عديد خطط التنمية عن صياغة مجتمع جديد قوي ومتقدم مرده إلى عدم استناد تلك الخطط إلى أساس نظري وإلى واقع حضاري يجمعان شروط النهضة الشاملة على الصعيد الفكري والإنساني.
وإننا على تمام الاقتناع بأن مشروع النهضة في أمتنا الذي بدأ يتبلور على يد علمائها ومجاهديها في أعقاب عصور الانحطاط معبرا عن آمالها في استعادة عزتها ومتفاعلا مع همومها وتحديات العصر، إن هذا المشروع لم يتحقق بعد، بمعنى أنه لم يفلح في صياغة كيان وطني يحقق ذاته ويحفظ مصالحه ويتميز بقيمه ويشع في العالم المعاصر ورغم إيماننا بأن إنجاز مشروع النهضة هو مهمة كل الأمة بكافة قواها الاجتماعية وتياراتها الفكرية والسياسية، فإننا نعتبر أنفسنا قوة أساسية للإسهام في تحقيق هذا المشروع الذي لنا في شأنه مقاربة نظرية وعملية متميزة تضع نفسها ضمن مقاربات أخرى مختلفة وأحيانا متصارعة، سبق أن عبرت عن نفسها، وأخرى قد تكون في طور التشكيل، وإن ما يميز مقاربتنا لمشروع النهضة قناعتنا بأنه لن يمتلك مقومات الفعالية إلا إذا انطلق من الذات الثقافية عبر قراءة جادة للتراث، وإذا ما توفرت له القاعدة الاجتماعية والإطار السياسي.
إننا باختصار حركة سياسية تحرص على إبراز العمق الحضاري للفعل السياسي بالتواصل مع ثمارات النهضة والإصلاح في أمتنا وباعتماد الحوار داخل محيطنا الثقافي والوطني وبالتفاعل مع الحضارات الأخرى إيمانا منا بوحدة المصير الإنساني.
هذه حركة النهضة في أبعادها تشق طريقها متكلة على ربها عز وجل، واثقة في دينها وفي أمتها على العطاء والإبداع آملة أن تقدم إسهاماتها في تحقيق دنيا سعيدة وآخرة أسعد للناس كل الناس، في الأرض كل الأرض والله من وراء القصد وهو يهدي السبيل.