شخصية الإمام حسن الهضيبي في الشعر الإسلامي المعاصر

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
شخصية الإمام حسن الهضيبي في الشعر الإسلامي المعاصر


  • عمر العبسو

توطئة

المستشار حسن الهضيبي

يقول الحق - تبارك وتعالى : (وَجَعَلْنَا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنَا لَمَّا صَبَرُوا وَكَانُوا بِآياتِنَا يُوقِنُونَ) (السجدة:24) هذه الآية إيحاء للمؤمنين في كل زمان ومكان أن يصبروا كما صبر المختارون من عباد الله؛ ليكون منهم أئمة، كما تقرر الآية طريق الإمامة والقيادة، وهو الصبر واليقين.

ولقد كان إمامنا حسن إسماعيل الهضيبي ترجمة عملية لهذه الآية، وكان يقول ما يقول، ويفعل ما يفعل، بدافع حب الحق لذاته، ويوقن بأن الدنيا لا يستقيم أمرها إلا بالحق والخير، وأن المسلم لا يستقيم أمره إلا إذا رصد نفسه للحق والخير (وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ، وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ) (العصر: من الآية3).

لقد آثر رحمه الله كما آثر الصالحون من عباد الله أن يتجردوا للغايات العليا، وأن يتخلصوا من جميع العوائق في هذه الحياة. وكانت له مواقف، ليست شرفًا للإسلام وحده ـ وإن كان الإسلام أحق بها ـ ولكنها شرف للرجولة، وللإنسانية وللمبادئ والأخلاق، لقد تحمل وصمد لأقسى ألوان العنت، والعذاب، والضيق، صمود الرجال الأبرار العظام، وكأنه جعل من نفسه مثلاً على أن التقدم في السن والمرض، لا ينالون من عظمة الروح، إذا وجدت إيمانها، واعتصمت بربها، وتشبثت بحقها. ولقد أعطى -رحمه الله- درسًا بليغًا لكل من حوله، مفاده أن حرية الضمير، وسيادة العقيدة، لا يباعان بملء الأرض ذهبًا، ولا بملئها عذابًا، وإعناتًا.

ولادته ونشأته

ولد الإمام أبو إسماعيل حسن إسماعيل الهضيبي في "عرب الصوالحة" مركز "شبين القناطر" سنة 1309 هجرية/ الموافق لشهر ديسمبر 1891 ميلادية.

لأسرة ذات أصول عربية عريقة .. محافظة ومتدينة عرف عن رجالها أنهم أصحاب نجدة وكرم، وكان والده شخصية كبيرة مشهورة ووالدته من عائلة كريمة متعلمون وعرب أصلاء ... وكان الأستاذ الهضيبي أكبر ثلاثة من الأبناء الذكور بالإضافة إلى أربع شقيقات .

دراسته

قرأ القرآن في كتاب القرية، ثم التحق بالأزهر لما كان يلوح فيه من روح دينية، وتقى مبكر، ثم تحول إلى الدراسة المدنية، حيث حصل على الشهادة الابتدائية عام 1907م.

ثم التحق بالمدرسة الخديوية الثانوية، وحصل على شهادة البكالوريا عام 1911م، ثم التحق بمدرسة الحقوق، وتخرج منها عام 1915م.

وقد ذكر الأستاذ الهضيبي أنه لم يكن طالباً متفوقاً خلال دراسته، وكان يتجنب المشاركة في أية مظاهرة باستثناء مشاركته في تشيع جنازة الزعيم مصطفي كامل .

وقد انضم الأستاذ الهضيبي إلى جمعية سرية كان قد كونها الزعيم محمد فريد خليفة الزعيم مصطفي كامل للاغتيالات السياسية.

وقد انفرط عقد هذه الجمعية بعد اغتيال إبراهيم الورداني بطرس غالي باشا رئيس وزراء مصر إلا أنه ( كان واضحاً أنه يمج العنف واستخدام القوة، وقد ظل هذا الجانب في شخصيته واضحاً خلال حياته داخل الجماعة )، وكان يعتقد أن من حق الشعب عندما يحتله جيش أجنبي أن يقاومه بالرصاص، ولكنه لا يوافق على أن يقتل الناس خصومهم في الرأي.

أثناء دراسته في مدرسة الحقوق الخديوية كان من بين الطلاب الذين صدرت ضدهم قرارات بالفصل لمدة عام واحد بسبب عدم حضورهم إلى مدرسة الحقوق لاستقبال السلطان حسين كامل, كما أنه رافق وفد الطلاب الذين ذهبوا لمقابلة سعد باشا زغلول وكيل الجمعية التشريعية وقتئذ ليطالبوه بالتدخل لإلغاء قرارات الفصل التي صدرت ضد الطلاب الذين لم يحضروا لاستقبال السلطان حسين كامل احتجاجاً منهم عليه؛ لقبوله الحكم تحت حماية المستعمرين الإنجليز.

أعماله والوظائف التي تقلدها

عمل الأستاذ حسن الهضيبي بعد تخرجه من مدرسة الحقوق الخديوية بالمحاماة، وقضي سنوات التمرين في مكتب الأستاذ كامل حسين - رحمه الله -، وكان من كبار المحامين في ذلك الوقت،ِوفي مكتب الأستاذ حافظ رمضان المحامي الشهير.

بعد فترة التمرين فتح مكتباً له في مدينة القناطر، ولكن لم يحالفه النجاح في هذه المدينة، فانتقل إلى مدينة سوهاج، ولم يكن يعرف فيها أحداً، وقد حقق نجاحاً كبيراً في هذه المدينة النائية عن قريته، فحقد عليه أحد المحامين، فاستأجر أحد الأشقياء ليقتل الأستاذ الهضيبي, وتربص الشقي بالأستاذ الهضيبي، فضربه ضربة بالسيف تلقاها عنه وكيله المسيحي مفتديه بنفسه, وقد أصيب الوكيل المسيحي فعلاً .

تردد الأستاذ الهضيبي في قبول الوظيفة القضائية التي جاءته دون سعي منه في أول الأمر، ولكن أحد زملائه المحامين أشار عليه بقوله :

أنت لست محامياً عاطلاً... ,تستطيع أن تترك الوظيفة في أي وقت تشاء إذا لم تعجبك، وتعود محامياً ناجحاً مرة ثانية ..

  • فقبل الوظيفة عام 1924م ، وكان أول عمله بالقضاء في "قنا" .
  • وانتقل إلى "نجع حمادي" عام 1925م.
  • تدرج في مناصب القضاء ، فكان مديراً إدارة النيابات، فرئيس التفتيش القضائي فمستشاراً بمحكمة الاستئناف، فمستشاراً بمحكمة النقض .

ومما يروي عن الأستاذ الهضيبي رحمه الله رحمة واسعة أنه كان أول من كسر تقاليد الانحناء بين يدي الملك عند حلف اليمين القانونية التي يؤديها القضاة أمامه قبل تولي مناصب المستشار إذ كانت دفعته حوالي عشرة سبقه منهم خمسة لم يترددوا في الانحناء عند حلف اليمين رغم تهامسهم بالتذمر من هذا التقليد المهين, حتي إذا جاء دور الأستاذ الهضيبي الواهن البنية الصامت اللسان فاجأ الجميع بأن مدَّ يده لمصافحة الملك، وأقسم اليمين منتصب القامة مرفوع الجبين بصورة أنعشت الإباء فيمن بعده، فأدى يمينه قائماً عالي الرأس، وهو يقول لنفسه :

- إذا شنقوا الهضيبي، فليشنقوني بعده!

وتبعها سائر المستشارين، فصافحوا الملك، وأقسموا اليمين دون خضوع أو انحناء، ثم حدث بعد ذلك أن جاء محمد صبري باشا أبو علم وزيراً للعدل، وذكر لبعض المقربين إليه أنه يريد أن يعاونه في الوزارة رجل محايد يستطيع أن يصحح أي اتجاه يصدر من وزير العدل متأثراً بحزبيته كسكرتير لحزب الوفد . وقد أجمع من استشارهم في هذا الأمر على اختيار الأستاذ الهضيبي كرجل محايد ومستقل الرأي لا تأخذه في الحق لومة لائم، ولا يخش أحداً إلا الله.

تدرج في مناصب القضاء، فكان مدير إدارة النيابات، فرئيس التفتيش القضائي، فمستشار بمحكمة النقض.

استقال من سلك القضاء بعد اختياره مرشدًا عام للإخوان عامًا 1951م.

اعتقاله للمرة الأولى

تولى منصب المرشد العام للإخوان، ورياح الظلم والاستبداد تعصف بالجماعة، فحاول التهدئة وتجاوز الأزمة، ولكن الطغاة أصروا على استئصال شأفة الإسلام، فاعتقل للمرة الأولى مع إخوانه في 13 يناير 1953م، وأفرج عنه في شهر مارس من نفس العام، حيث زاره كبار ضباط الثورة معتذرين.

اعتقاله للمرة الثانية

اعتقل للمرة الثانية أواخر عام 1954م حيث حوكم، وصدر عليه الحكم بالإعدام، ثم خفف إلى المؤبد.

نقل بعد عام من السجن إلى الإقامة الجبرية، لإصابته بالذبحة ولكبر سنه.

رفعت عنه الإقامة الجبرية عام 1961م.

أعيد اعتقاله يوم 23 / 8 / 1965م في الإسكندرية، وحوكم بتهمة إحياء التنظيم، وصدر عليه الحكم بالسجن ثلاث سنوات، على الرغم من أنه جاوز السبعين، وأخرج لمدة خمسة عشر يومًا إلى المستشفى، ثم إلى داره، ثم أعيد لإتمام مدة سجنه.

مددت مدة السجن - بعد انتهاء المدة - حتى تاريخ 15 أكتوبر 1971م، حيث تم الإفراج عنه.

تعرُّف الأستاذ الهضيبي على الإخوان المسلمين

ويذكر الهضيبي - رحمه الله - أن علاقته بالإخوان قد بدأت منذ عام 1942م، وقد اقتنع بهذه الدعوة بالطريق العملي قبل الطريق النظري، وذلك حين لمس من بعض أقاربه الفلاحين إدراكًا لمسائل كثيرة في الدين والسياسة ليس من عادة أمثالهم الإلمام بها، وخاصة أنهم كانوا شبه أميين، ولما علم أن ذلك يعود إلى الإخوان، أعجب بهذه الدعوة أيما إعجاب، وأخذ يحرص على حضور خطب الجمعة في المساجد التي كان يخطب فيها الأستاذ البنا - رحمه الله. فمن هذا العام 1942م بدأت صلته بالدعوة، فقد كان بمدينة الزقازيق وكانت المدينة على موعد مع الإمام الشهيد "حسن البنا" حيث يقوم بزيارتها، وكان الإخوان يحتشدون، ويهتمون بهذه الزيارات، ويوسعون نطاق الدعوة إلى هذا الاجتماع، فلا يتركون طائفة ولا هيئة، ولا جماعة إلا وجهوا إليها الدعوة بشهود الحفل الجامع الذي يحاضر فيه الإمام رحمه الله.

من أجل ذلك وصلت بطاقة الدعوة كل باب، غشيت كل مجلس ونادٍ، وطرقت باب محكمة الزقازيق لتدعو رجال القضاء ليستمعوا إلى ما يقرره "حسن البنا" عن عظمة الإسلام، وكفالة النظام الإسلامي، والمبادئ القرآنية لإقامة مجتمع عالمي، وإحياء أمة، وبنا ء دولة على أساس القواعد، وأعظم الأسس. وكان بين الذين تلقوا الدعوة رجلان من كبار المستشارين يتميزان بخلق، واستقامة، ونزاهة، وأدب كبير.

أما أحدهما فقد سبق إلى جوار الله، وهو المرحوم "محمد بك العوارجي" وأما الآخر، فهو رائد الدعوة، وقدوة العاملين، وحارس الحق، وعنوان الصابرين المحتسبين الأستاذ حسن الهضيبي. ولا أحدثك عما وراء الاستماع إلى "حسن البنا" حين تصفو النفوس، وتتفتح المشاعر، وتهفو الأرواح، حين يتم هذا يشعر المستمع بتيار جارف من روح الرجل، يغمر روحه، وعقله، وقلبه، ومشاعره، فلا يحتاج إلى جهد وعناء، بل يندفع إلى الانقياد لدعوة الحق، والعمل بها، والتعلق بها، والالتزام بالجهاد في سبيلها، ولقد كان الإمام الهضيبي تتملكه الحسرة على مصير أمة الإسلام، ويتقد غيره على إنقاذها، وكانت غيرة الرجل في صدره، يعرفها كل من سمعه يتحدث، من الأصفياء والجلساء.

لقد حمله التأثر هذه الليلية - بعد أن استمع للإمام البنا - على تقديم نفسه له، وبعد حديث قصير كان العهد والميثاق، والبيعة. نعم كانت بيعة ربطت حياته إلى الأبد بمصير هذه الدعوة، ومستقبلها، وهذا شأن الصادقين من أصحاب الدعوات. إنهم يربطون ماضيهم، حاضرهم، ومستقبلهم بهذا الحق، ولقد حفلت شخصية الإمام الهضيبي بنفاذ البصيرة، وقوة النفس، وصفاء الروح، لقد كشفت بصيرته بمجرد سماعه للإمام البنا حرارة الصدق، وقوة الإخلاص، وعمق التجرد، أيقن في لحظات أنها الدعوة التي أضنى الظمأ إليها قلبه، ومشاعره، ومواهبه أكثر من ثلاثين سنة.

الهضيبي في نفس البنا

كان البنا - رحمه الله - ينزل الناس منازلهم، ويختار الأسلوب المناسب لعرض الدعوة عليهم، وكسبهم لطرفها. ومثل هذا الأسلوب كان يتبعه مع كبار الموظفين أمثال الأستاذ الهضيبي، فقد كان حريصًا على سرية ارتباطه بالدعوة ولهذا كان الهضيبي يحضر مع البنا - رحمهما الله - الكثير من الأسر والجلسات الخاصة، كما كان يستشيره في كثير من الأمور، بل كان يرى فيه أخًا أكبر يستشيره، في الأزمات والمعضلات، ويدخره ليوم عصيب، ووقت رهيب، ويحدث إخوانه عنه في جلساته الخاصة بكثير من الإعجاب والتقدير.

ملامح شخصية الأستاذ "حسن الهضيبي"

حسن الهضيبي هو المسلم الذي يحفظ القرآن منذ الحداثة، والذي نشأ في طاعة الله، فلم يفتر يومًا عن أداء الفرائض والواجبات الدينية. وهو الإنسان الكريم الذي لم يُرَ قط في موطن ريبة منذ كان تلميذًا إلى أن صار مستشارًا. وهو المثل المضروب بين زملائه، وعارفيه على الاستقامة، ومتانة الخلق، وقوة الشخصية، وإباء المجاملة في الحق أو الخشية إلا من الله. وقد طبع بيته بطابع الإسلام في آدابه، عاداته، وأزيائه بصورة قل أن تراها في بيوت الذين يتصدرون دعوة الدين، بل الذين تقلدوا باسم الدين أرفع المناصب والألقاب. وحسن الهضيبي هو الذي استنفر كبار المستشارين للانقضاض على القانون المدني الجديد، لمخالفته أصول المشروع القانوني المدني المصري قال فيه "إن أحسن تعديل في نظري هو سن قانون من مادة واحدة، يقضي بتطبيق الشريعة الإسلامية في الأحوال الجنائية والمدنية" وقال :"لقد أعلنت عن رأيي أمام لجنة تعديل القانون المدني في مجلس الشيوخ فقلت : يجب أن يكون قانوننا هو القرآن والسنة في جميع شؤون حياتنا، وليس في الشؤون التشريعية وحدها.

إن الإسلام دين متماسك متكامل غير قابل للتجزئة، فيجب تطبيق جميع أحكامه في كل أمة تدين به" "هذا هو الرأي الذي جاهرت به، وأود أن أؤكد أنني قد انتهيت من مراجعة الشريعة، ودراستها إلى أنه ليس في تشريعات الأجانب، وقوانينهم ما لا يتضمنه القرآن الكريم، والحلال بين والحرام بين، وكلاهما واضح المعالم والحدود إلى يوم الدين" "وهذا ما قلته أمام اللجنة، وإنني على يقين أنهم لن يأخذوا به، ولكن لا حرج عليَّ في ذلك ما دمت مؤمنًا بما أقول، ولكن ظني أنه بعد فترة قد تمتد إلى عشرين أو ثلاثين سنة سيتجه الرأي إلى الأخذ بما أقول، كلما شرح الله صدور الناس بالقرآن قرب اليوم الذي يسود فيه هذا الرأي".

لقد رأينا أن جميع القوانين التي أخذناها عن الأجانب لم تصلح من حال بلادنا، ولم تحقق ما كان يرجى منها، فهذه السجون ملأى بالسجناء، والجرائم تزداد، والفقر ينتشر، والحالة الخلقية، والاجتماعية تسوء كل يوم عن سابقه، ولن يصلح الحال إلا إذا نظمنا علاقتنا بالسنن الكونية التي تنزّل الوحي بجملة أسرارها، ومعالمها في القرآن، وإلا إذا عشنا في بيوتنا، وبين أهلينا، وأولادنا، ومع الناس أجمعين عيشة قرآنية", "وفي العاشر من ديسمبر 1952م أعلن الدستور المصري القديم، وبعد يومين عُيِّن مائة عضو لوضع دستور جديد كان بينهم ثلاثة من الإخوان، ونشرت مجلة "الدعوة" مقالاً تدعو إلى وضع الدستور على أسس إسلامية، طالب الهضيبي بالاستفتاء ليتبين : أتختار مصر شرائع الإسلام أم شرائع الغرب؟ فإذا رأت أن تحكم بالإسلام كان على لجنة الدستور أن تنفذ ذلك، وإذا أرادت الأخذ بشرائع الغرب ـ وهو رأي لا يمكن أن يقول به مسلم - عرفنا أنفسنا وعلمنا الأمة أمر ربها، وما يجب عليها".

بيعة الأستاذ "حسن الهضيبي"

في الثاني عشر من شهر فبراير 1949م اغتال زبانية "فاروق" الشهيد "حسن البنا" - رحمه الله - فشغر بذلك مركز المرشد العام للدعوة، ولما كانت القيادة ركنًا من أركان هذه الدعوة، وخاصة في الظروف العصيبة التي كان الإخوان يمرون بها في ذلك الوقت، فقد أخذ الإخوان يبحثون عن قائد آخر يقود سفينة الدعوة إلى شاطئ السلام، وفي هذه الأثناء العصيبة في تاريخ الجماعة جرت عدة محاولات منها :

- دعا الأستاذ منير الدلة – رحمه الله – الإخوان الأربعة : الأستاذ عبد الرحمن البنا, والأستاذ صالح عشماوي، والأستاذ عبد الحكيم عابدين , والشيخ أحمد حسن الباقوري للقاء في منزله، وطلب منهم أن يختاروا واحداً منهم أو من غيرهم لكي يقدموه إلى الإخوان مرشداً جديداً خلفاً للإمام الشهيد حسن البنا حتى لا يكون هناك مجال للاختلاف وسط الإخوان .

وفى نهاية اللقاء ظهر بوضوح أنهم لم يتفقوا على واحد منهم وعلى أثر ذلك اقترح عليهم الأستاذ منير الأستاذ المستشار حسن الهضيبي، وعرفهم بعلاقته بالدعوة من قديم وصلته الوثيقة بالإمام الشهيد، وأوضح لهم أسباب عدم ظهوره في تنظيمات الإخوان .

لم يرفض الإخوان الأربعة اقتراح الأستاذ منير الدلة، ولكنهم أرجئوا البت وإبداء الرأي حتى يلتقوا بالأستاذ الهضيبي، ويتعرفوا عليه، ويدرسوه من قرب, وانتهي اللقاء عند هذا الحد، وتمت عدة مقابلات بين هؤلاء الإخوان الأربعة وبين الأستاذ الهضيبي مجتمعين في صحبة الأستاذ منير الدلة، ثم منفردين للتعرف عليه ومعرفة علاقته بالدعوة دون أن يفاتحوه في الغرض من هذه الزيارات والمقابلات.

ورشح الأخوة في مكتب الإرشاد لهذا المنصب أكثر من أخ من الإخوان العاملين إلا أن الأغلبية في الهيئة التأسيسية أجمعت على انتخاب "حسن الهضيبي" مرشداً عامًا.

وبقي الهضيبي - رحمه الله - يؤدى عمله سرًّا نحو ستة شهور، كما أنه لم يترك العمل في القضاء خلالها.

ولما سمحت حكومة النحاس باشا للهيئة التأسيسية للإخوان بالاجتماع، طلب أعضاؤها من الهضيبي أن يرأس اجتماع الهيئة بصفته مرشدًا للجماعة، ولكنه رفض طلبهم إذ اعتبر انتخابه من قبل الهيئة التأسيسية في المرحلة السرية من الدعوة لا يمثل رأى جمهور الإخوان، وطلب منهم أن ينتخبوا مرشداً آخر غيره، ولكن الإخوان رفضوا طلبه، وقصدت وفود الإخوان من جميع مصر بيته، وألحت عليه بالبقاء كمرشد عام للجماعة، وبعد أخذ ورد وافق على مطالب وفود الإخوان، وقدم استقالته من القضاء ليتفرغ للعمل لدعوة الله.

وفي 17 أكتوبر 1951م أُعلن "حسن الهضيبي" مرشدًا عامًا لجماعة الإخوان المسلمين.

و مع ذلك قام -رحمه الله - بجولة على جميع شُعب الإخوان ليتأكد أن الوفود التي حضرت إليه تمثل رأي جميع الإخوان في الشُعب، وفعلاً كان....، فبايعه كل من التقى به من الإخوان. وحين قبل البيعة كان يقول : "إني أعلم أنني أقدم على قيادة دعوة استشهد قائدها الأول قتلاً، واغتيالاً، وعذب أبناؤها، وشردوا، وأوذوا في سبيل الله، وقد ألقى ما لاقوا، وإني على ما اعتقده في نفسي من عدم جدارة بأن أخلف إمامًا مصلحًا مثل حسن البنا رحمه الله، لأقدم، وأنزل عند رغبة الإخوان، أداء لحق الله جل وعلا، لا أبتغي إلا وجه الله، ولا أستعين إلا بقدرته وقوته"

باكورة نشاطات الهضيبي بعد انتخابه مرشدًا

كان أول نشاط رسمي عملي بدأه بإقامة حفل بدار المركز العام المؤقت، وهو منزل الأستاذ "صالح عشماوي" 22ش صبري بالظاهر. وكان الحفل بناء على اقتراح قدمه الأستاذ "أحمد حسين" المسجون على ذمة قضية السيارة الجيب بأن يقام حفل لتكريم أولياء أمور المسجونين من الإخوان المسلمين، وهيئة الدفاع عن القضايا المنظورة ومندوبي الصحافة والأنباء لتقديم هدية المسجونين إلى المركز العام الجديد... و هي عبارة عن علم الإخوان الذي تم نسجه داخل سجن مصر، بيد المسجونين. ولقد أشارت مجلة السيدات المسلمات إلى عملية تهريب العلم من داخل السجن إلى الخارج، وكان أول علم يرفع بعد المحنة. ولقد نقلت جميع الصحف، ووكالات الأنباء وأخبار هذا الحفل الكبير، ودعوته النشاط الرسمي لجماعة الإخوان المسلمين.

ماذا قدم الهضيبي للجماعة؟

  1. أما عن دعمه للجماعة، ودفاعه عنها فإن للرجل جهدًا مشكورًا، ومساهمة طيبة في شراء دار المركز العام.
  2. وأنه أدى مثل هذه المؤازرة للدعوة أثناء غضبتها لنجدة فلسطين.
  3. وأوعز إلى عشيرته، وهم أفاضل كثر، بإنشاء شعبة للإخوان في قريتهم في "عرب الصواحة"، وفيما يجاورها من القرى.
  4. وأنه وفق أسلوبه الخاص، وتوجيهه الهادئ إلى إحياء الدعوة في منطقة شبين القناطر.
  5. الأستاذ الهضيبي لم تفتر صلته بالإمام الشهيد، ولم يقصر يومًا في إمداده بالرأي، والعون المثمر في كل موقف يقتضي ذلك قبل المحنة الأولى وبعدها على السواء، بل كان يشارك في جلسات خلصاء الإخوان المسؤولين التي ترسم فيها سياسة الجماعة قبل استشهاد المرشد رحمه الله، وبعد استشهاده.
  6. ولقد بادر عقب قرار الحل بلقاء المرشد الشهيد حيث وضع نفسه وبيته وأولاده، ومنصبه، وماله جميعاً تحت تصرف الدعوة، ورهن إشارة المرشد بصفة خاصة. - وكان وحده الصدوق للدعوة في محيطه القضائي حتى لا جزم بأنه العامل الأول والأوحد في تنظيف سُمعة الجماعة، وإلحاق مسؤولية الحوادث بأشخاص فاعليها، وتحرير دائرة القضاء من التأثر بحملة الأكاذيب والمفتريات التي عمدت الحكومة إلى تحويل القضاء بها عن جادة العدل، وإغوائه بإصدار أحكام جائرة ظالمة فيما لفقت الحكومة من اتهامات.
  7. وكان الهضيبي يتابع نشرات الإخوان المؤقتة بعد استشهاد الإمام، ويزودها بالنصائح التي تجعلها بمنأى عن إثارة الحفيظة، وسلطان القانون، وأكثر إصابة للهدف الواجب، وهو إحكام تنظيم الصفوف، وتدعيم الثبات، والثقة بالله بين الإخوان العاملين. - وكان له في العناية بأسر المعتقلين، والسجناء جهود لا يستحب الكشف عنها بأكثر من هذه الإشارة.

الهضيبي في رحاب السجون

بدأ المرشد العام حياته الجديدة في مكابدة لا تهدأ، ومعاناة لا تنقطع، وقد امتحنت الجماعة، وهو على رأسها مرات، وسجن هو، وعذب، وحكم عليه بالإعدام، ثم بُدل ذلك بالأشغال الشاقة، وكان يقول : "أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم تقم على أرضكم" ، وكان في موقف العواصف الهوج - وهو سجين أعزل، وإخوانه، وأبناؤه من حوله يعذبون، ويجلدون - يشد من أزرهم، ويدعوهم إلى الاستعلاء بإيمانهم.

يقول الدكتور "أحمد العسال " عنه :

"كان يتقدمهم جميعًا بقلب ثابت، وأعصاب هادئة ليقول كلمته في وجه السفاح : إن هؤلاء خيرة شباب مصر، فاحفظوهم ذخيرة لها، وخذوا مني ما تريدون". وما أكثر ما مرت به أزمات صحية، ونقل في بعضها إلى المستشفى، فما تزول الأزمة إلا وطلب بنفسه أن يعود إلى حيث كان ليظل مشاركًا إخوانه، وأبناءه ويقول : "إن السجن حالة نفسية، وليس هو الجدران والأسلاك".

ويقول عنه أيضًا :

وسوف لا أنس ما حييت ما قصه علينا، وقد فاضت عيناه تأثرًا من قصة ذلك الأخ الفقير الذي وجد ساعة ثمينة لأحد الباشاوات بينما كان ينظف دورة المياه في أحد المعتقلات، وذهب الأخ ليردها، فاقترح أحد زملائه أن يدفع له شيئًا من المال جزاء أمانته، ورده للساعة. فقال الأخ في نفس عالية : "إنني ما زدت أن رددت أمانتك إليك، ولا أريد بذلك إلا وجه الله، ولا حاجة لي في ذلك" ثم قال الأستاذ رحمه الله : "ولقد كنت أعلم أنه في أمس الحاجة، ولكنها العفة والطهارة" ثم فاضت عيناه .

ويقول عنه الأستاذ "أحمد حسين" زعيم مصر الفتاة - رحمه الله -"لقد ضمنا السجن الحربي في مارس 1954م، وأشهد أنه كان معي كريمًا، وبي عطوفًا، وأحسب أن أعظم تكريم له هو في تكريم الإخوان المسلمين، ولقد سألني صحفي ما رأيك في الإخوان في معركة فلسطين؟ فأجبته بأنه كان أعظم الأدوار حتى لقد كانوا هم الذين أنقذوا الجيش المصري من الوقوع في كارثة، عندما حموا مؤخرته وهو يتراجع، ويجب أن تعرف الدنيا كلها مني أنا، أن من حارب الفقيد، وحارب الإخوان بالحديد والنار، إنما كان يفعل ذلك لحساب الشيطان، ولا تظنوا يا أحبائي أنني أقول هذا الكلام الآن فقط، فقد غادرت مصر عام 1955م احتجاجًا على ما حل بالإخوان، وكان آخر لقاء بيني وبين عبد الناصر يدور حول هذا الموضوع، ثم يقول : "إن شهيدكم، وشهيد الإسلام إذ ينعم الآن بالحياة إلى جوار ربه، فسوف يسجل له التاريخ أنه كان كابن حنبل، رفض أن يساوم، أو يتزحزح عما يتصوره حقَّاً "

مواقف شامخة للإمام المستشار حسن الهضيبي

  • – الدعوات لا تقوم على الرُخَص :

أرسل أحد الإخوان رسالة إلى الأستاذ الهضيبي يستقتيه فيها عن أمر هام .

فقال : هناك عدد من الإخوان يريدون أن يترخصوا ، ويؤيدوا جمال عبد الناصر بُغية الخروج من السجن ودرءاً للتعذيب وحفظاً للدعوة . فأجاب الأستاذ بقوله :

" إن الدعوات لا تقوم على الرخص ، وعلى أصحاب الدعوات أن يأخذوا بالعزائم . والرخص يأخذ بها صغار الرجال. وأنا لا أقول بالأخذ بالرخص ولكن أقول لكم : خذوا بالعزائم، وتشبثوا بالعزائم "

في ليلة (ليلاء) من ليالي جهنم الحمراء في السجن الحربي عام 1954م أيقظ "صلاح الشيشتاوي" محافظ القاهرة و"علي نور الدين" المدعي العام مجموعةً من (الإخوان)، حوالي 25 أخًا، وصفّونا صفين، على رأسنا الأخ الضابط اليوزباشي شرطة "إبراهيم الشاذلي"، ووراءه الأستاذ الإمام المرشد "حسن الهضيبي" رحمه الله رحمة واسعة وجزاه الله عنَّا وعن المسلمين خيرَ الجزاء وأسكنه الله مع حبيبه وصاحبه محمد- صلى الله عليه وسلم- فسيحَ جناته- ونحن من ورائهما صفان، والعسكر من حولنا؛ حيث الجو مشحون بالهول من شدة التعذيب.

ثم تحدث "علي نور الدين" وقال مقولة "الحجاج بن يوسف الثقفي": "أرى رؤوسًا قد أينعت وحان قطافها.. وأنا حجاجها"، ثم أمر "إبراهيم الشاذلي" بأن يقول: يحيا "جمال عبد الناصر"، وبعد التردد قال الأخ "إبراهيم الشاذلي" ما أُملي عليه!

ثم أتبع "علي نور الدين" الأوامر طالبًا منه القول: "يسقط حسن الهضيبي" فقالها! ثم طلب من الأستاذ المرشد العام الإمام "الهضيبي" نفس ما طلبه من الأخ "الشاذلي"! موقف رهيب في لهيب نار السجن الحربي ، فقال إمامنا: "يحيا أو يسقط جمال عبد الناصر ماذا تساوي؟".

انظر إلى توفيق الله.. ما قال ما يريدون.. ثم ثنَّى بقوله "لقد قال الأخ سابقًا "إبراهيم الشاذلي": يسقط "حسن الهضيبي"؛ أي أنه لا زال مرشدًا عامًّا، فصل عضوًا، وأراد أن يثبت مَنْ وراءه، فلم يتزلزل ولم نزلزل: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾ (آل عمران: 146).

فهو رجلٌ والرجال قليل، وسيرته عطرة حسنة، مملوءة بمواقف الرجولة والحزم في أشد المواقف التي مرت بها الدعوة المباركة.

– أنا المرشد العام عالمياً

دخل الأستاذ الهضيبي السجن ، فسأله شمس بدران ليملأ استمارة السجن .

ما اسمك ؟

قال : حسن الهضيبي..

شمس : ماذا تشتغل ؟

قال : المرشد العام للإخوان المسلمين .

فهب شمس بدران غاضباً وصاح : ألم تحل الدولة جماعة الإخوان المسلمين .

قال : لقد حلت الدولة جماعة الإخوان المسلمين في مصر . أما أنا فالمرشد العام للإخوان في العالم . فبُهت شمس بدران. – أرواح الإخوان في يد الله :

كان زبانية السجن الحربي يأخذون الإخوان يومياً، ويصفونهم صفوفاً، ويجبرونهم على أن يغنوا أغنية أم كلثوم :

يا جمال يا مثال الوطنية

أجمل أعيادنا الوطنية

بنجاتك يوم المنشية

..........................

وكان المحكوم عليهم بالإعدام عام 1954 يقومون بدور ( المايسترو ) وكان منهم الأستاذ الهضيبي .

وفي ذات مرة مر جلاد السجن الحربي حمزة البسيوني وكلابه الثلاثة الشرسة وفي يده ( كرباج ) يلهب به ظهور الإخوان .

حتى وصل إلى الأستاذ الهضيبي ووقف أمامه وقال : عجبك هذا يا هضيبي ؟!

مبسوط من صوت الإخوان يا هضيبي ؟! النغمة منتظمة يا هضيبي ؟!

فنظر إليه الأستاذ المرشد بجنب عينه، وقال له : اسمع ... اذهب إلى عبد الناصر بتاعك وقل له : إن كل هؤلاء الإخوان أرواحهم في يد من خلقهم وليست في يده

وأنهم برءاء من دمه براءة الذئب من دم ابن يعقوب ..!!

إمش ... فانسحب حمزة وكلابه الثلاثة دون أن ينبس بكلمة.

وعاد الأستاذ إلى العمل ( المايسترو ) كأن لم يكن شيء .

– هل اشتكى أحد لك ؟

كان من عادة الأستاذ الهضيبي أن يجلس في الزنزانة واضعاً رجلاً على الأخرى.

وفي أحد الأيام دخل عليه صلاح الدسوقي الششتاوي أركان حرب وزارة الداخلية ( وكان يومئذ عبد الناصر وزيراً للداخلية ) ومحافظ القاهرة فيما بعد .

فبقي الأستاذ الهضيبي كما هو ... ولم يقم ، ولم يغير جلسته .

فاشتاط الششتاوي غضباً .

ثم قال : أيُعجبُك ما أنت فيه يا هضيبي ؟

فأجاب المرشد : نعم ... يُعجبني ما أنا فيه .

الششتاوي : هل يُعجبك وضع هؤلاء ؟ وأشار إلى الإخوان .. لقد جئت بهم إلى السجن.. وجررت عليهم البلاء والتشريد، وتسببت في ألم أهليهم وأسرهم

فقال المرشد : هل اشتكى أحد منهم لك ؟

عندما يشتكي أحد منهم لك تعال، وأخبرني ..

اذهب إلى أي أحد منهم، واسأله ( هو بيلعن مين ؟ )، فبهت الششتاوي وأُفحم.

  • – حرب أعصاب الظالم :

كنت في سجن مصر ، ودخل علينا شخصية كبيرة من الحكومة إلى الزنزانة .

فقمت تلبية لـ ( شخطة ) العسكري : انتباه .

أما الأستاذ الهضيبي – رحمه الله – فلم يتحرك من مكانه، وكأنه لم ير أحداً ولم يسمع صيحة الشاويش .

فقال له رجل الحكومة : لو كنت على حق لنصرك الله علينا !!

فرد عليه، وهو في جلسته الهادئة : إن المسلمين هزموا في موقعة أُحُد ، وهم على الحق. فلم يرد رجل الحكومة، وانصرف ساكتاً.

وبعد خروج هذا الشخص لامني فضيلته على قيامي، وعلمني أن الظالم لا يحرق أعصابه إلا عدم اهتمام الناس بمظهره وقوته الجوفاء .

  • – تمرينات رياضية :

كان الأستاذ حسن الهضيبي- على كبر سنه- يقضي وقت فسحته في الحديقة المواجهة لمدير السجن، ويقوم بأداء تمرينات رياضية بملابس زاهية. فأراد أن يعرف أحد الإخوان سر ذلك.

فقال الأستاذ : دعهم لا يرون منا إلا البشاشة، وارتفاع المعنويات، حتى يتحققوا أن سهامهم طاشت، ولم يبلغوا منا ما يريدون. ألم يبلغك قول رسول الله صلى الله عليه وسلم : "رحم الله امرأ أراهم من نفسه قوة".

  • – العودة لمصر لمواجهة المحنة

اعتقل الإخوان في يناير 1954 م ثم أفرج عنهم في مارس 1954 م ثم أعيد اعتقالهم بعنف وقسوة بعد شهور قليلة ...وشاءت أقدار الله أن يكون الأستاذ الهضيبي خارج مصر في زيارة للسعودية، وسوريا، لبنان.

فما أن سمع بالمحنة حتى أمر بالتجهيز للعودة إلى مصر، وسارع بالرحلة إلى مصر ليكون مع إخوانه وجنوده في محنتهم يثبت بعضهم بعضاً بعون الله، ووفاءً بتبعة القيادة.

  • – الكرامة قبل الإفراج

بعد اعتقال الإخوان في يناير 1954 م دب شقاق بين رجال الحكم العسكري ... وأصدروا قراراً بالإفراج عن الإخوان المعتقلين ... وأرسلوا اثنين لحمل هذه البشرى، وللحصول على تعهدات من الإخوان لتأييد الثورة في مقابل ذلك.

فجاء البشيران، وعمت موجة من الفرح والسرور بين الإخوان.

ولكن الأستاذ الهضيبي أعلن أمرين :

1-أنه لن يقبل الإفراج.
2-أنه لن يتعهد بأي شيء في مقابله.

واشترط أن تعلن قيادة الثورة بطلان التهم الملفقة، وأن تعتذر عن الاعتقال.

حينئذ يمكن قبول الإفراج.

وعاد المبعوثان بعد يومين يحملان الاعتذار مع الإفراج، وتبع ذلك زيارة قيادة الثورة للمرشد العام في بيته يعتذرون عما صدر، ويطلبون العفو والصفح عما بدر.

  • – الشعور عند حكم الإعدام

سئل الأستاذ الهضيبي : ما شعورك عندما حكم عليك بالإعدام؟

فأجاب : كأني أنتقل من غرفة الجلوس إلى غرفة النوم.

  • – لا تغتروا بشهرة الأشخاص :

تقول الحاجة زينب الغزالي : رأيت أنا والشهيد عبد الفتاح إسماعيل مواقف ضعف وخذلان من كبار الإخوان في عام 1965 م فذهبت إلى الأستاذ الهضيبي لأشكو له.

فقال لي : قولي لعبد الفتاح عبده إسماعيل : لا تغتروا برسوم الرجال، ولا بشهرتهم، ولا بأسمائهم. ولا تنظروا إلى الخلف، بل انظروا إلى الأمام ... إلى المستقبل ...

ثم قال : لا تتحدثي معي مرة أخرى في مثل هذه الأمور.

  • – صورة الملك في دورة المياه :

بعد مقابلة الملك فاروق للأستاذ المرشد حسن الهضيبي بيوم حضر مبعوث القصر إلى المركز العام يحمل صورة فاخرة للملك في إطار فاخر جداً مهداة إلى حضرة صاحب العزة الأستاذ حسن إسماعيل الهضيبي بك المرشد العام للإخوان المسلمين وموقعة بتوقيع الملك. واقترح المبعوث أن تعلق الصورة بمكتب المرشد.

وبهر الإخوان بالصورة لفخامتها...وطلب الأستاذ المرشد أن يتركوا له اختيار مكان تعليقها. ومرت أيام، ولم تعلق بالمركز العام.

فسئل الأستاذ : أين الصورة ؟

قال : أخذتها إلى بيتي ؟

وزاره بعض الإخوان ليروها فلم يجدوا لها أثراً.. وكانت المفاجأة عندما دخل دورة المياه فإذا بها ملقاة على الأرض.

فحدث الأستاذ بذلك، فقال الأستاذ : هذا هو مكانها اللائق بها.

  • – لم أقصد الملك بزيارة رئيس الديوان :

عامل الأستاذ المرشد الهضيبي الملك فاروق بكل عزة وإباء عندما كان فاروق في أوج سطوته وسلطانه...

فلما خلع فاروق وطرد تبارت ألسنة وأقلام السلطة في الشتم والهجاء بعد أن كانت تكيل المدح والثناء.

أما الأستاذ الهضيبي فقد عف لسانه، ولم يسمح للإخوان في المحافل أو الصحف أن ينزلقوا لحظة إلى مهاجمة شخص جرى القضاء على سلطانه بالزوال.

ثم قال : (( ليس من المروءة ولا من الهدي النبوي اتباع المدبر، والإجهاز على الجريح !!.

في أثناء حرب القنال عام 1951 م حاول الإنجليز الإيقاع بين الإخوان والأقباط بشتى الوسائل.

فما كان من الأستاذ الهضيبي إلا أن التقى ببابا الأقباط وتفاهم معه على كل شيء حتى يفوت الفرصة على أعداء الله.

وظهر المرشد العام للإخوان المسلمين في اليوم التالي في الجرائد المصرية يصافح زعيم الأقباط ويعلن اتفاقهما على مصلحة مصر.

  • – أحب أن أذهب للمعتقل

يقول الأستاذ أحمد البس : (( التقيت بالأستاذ الهضيبي عام 1968 م، وكان قد بقي له على انقضاء مدة الحكم ثلاثة أيام أو أربعة. فقلت له : أتحب أن تذهب إلى بيتك بعد انقضاء مدة السجن أم إلى المعتقل بمزرعة طرة.

فقال : أحب أن أذهب إلى المعتقل حيث الإخوان أشاركهم أحوالهم.

  • – أمرنا أن نحكم بما أنزل الله

سأل رئيس محكمة النقض الأستاذ المرشد حسن الهضيبي فقال :

- يا حسن، ألست معي في أن أكثر أحكام التشريع المدني الحديث تقابل أحكاماً مماثلة في الفقه الإسلامي ؟

قال الأستاذ المرشد : بلى.

قال الرئيس : فما هو إذاً الأساس الكبير و المطالبة الملحة من جانبك بالرجوع إلى الشريعة الإسلامية وتطبيق أحكامها ؟.

قال المرشد : هو أن الله تعالى قال :﴿وأن احكم بينهم بما أنزل الله﴾ ولم يقل : احكم بينهم بمثل ما أنزل الله.

وإن تحكيم شريعة الله في عقيدة المسلم عبادة تؤدى امتثالاً لأمر الله، وذلك هو مصدر بركتها، وسر قوتها في نفوس المؤمنين بها وفي كيان الجماعة المؤمنة.

  • – نصرة شريعة الله :

دعي الأستاذ الهضيبي عام 1945 م إلى البرلمان للمشاركة في مناقشة مشروع تنقيح القانون المدني، فلبى الدعوة، ونصر شريعة الله. فسجل كتابة أنه يرفض مناقشة هذا المشروع من حيث المبدأ لأنه لم يقم أساساً على الكتاب والسنة.

عرض على الهيئة التأسيسية فصل خمسة من أعضائها وصدر القرار بالفصل.

فقال الأستاذ الهضيبي : إنهم لم يفصلوا لطعن في دينهم، فقد يكونون خيراً منا. ولكن للجماعة نظم يجب أن تراعى وأن تنفذ. وقد خالفوها، ففصلوا حتى يأخذ الصف استقراره واستقامته.

  • – الباقوري والوزارة :

قبل الشيخ أحمد حسن الباقوري الوزارة في عهد عبد الناصر دون إذن من فضيلة المرشد حسن الهضيبي.

فقال له المرشد : ما الموقف ؟

قال الباقوري : أستقيل من مكتب الإرشاد.

قال المرشد : ثم ماذا ؟

قال : أستقيل من جماعة الإخوان المسلمين.

فقال له المرشد : هذا هو الحل.

ثم ذهب فضيلة المرشد إليه في وزارة الأوقاف، وهنأه.

  • – فتنة التكفير :

عندما هبت ريح فتنة التكفير إثر محنة 1965 م استبشر البعض بهذا الفكر لأنهم وجدوا فيه ضالتهم المنشودة.

وقالت شياطينهم : هذا الفكر سيمزق صفوف الإخوان في الداخل، وسينفر منهم الناس في الخارج.

فكان القرار هو عزل أصحاب هذا الفكر ليتعمق في نفوسهم ولئلا يناقشهم الآخرون فيعودوا إلى صوابهم.

ثم صدر قرار بتشديد العقوبة الوالتعذيب لكل من يتحرك بين الإخوان يحذرهم من فكر التكفير ويفنده.

فكانت المحنة...واشتد التعذيب... فقال الأستاذ المرشد :

  • - لا بد من مناقشة هذا الفكر المعوج وتفنيده.

فقال بعض الإخوان : لو أرجأنا ذلك خصوصاً والظروف صعبة.

فقال الأستاذ : إن هذا الفكر أشد خطورة على الدعوة من سياط وتعذيب عبد الناصر. فلنناقشه ولنفنده مهما كانت التكاليف.

  • – ابحثوا عن لافتة أخرى :

عندما ثارت فتنة التكفير إثر محنة 1965 م انزلق العديد من السجناء في هذا المنعطف تحت وطأة التعذيب الوحشي والإضطهاد للدعوة الإسلامية... وغيرها من الأسباب.

حينئذ بادر الأستاذ الهضيبي وعلماء الإخوان لإخماد الفتنة، وكانت مناقشات ومحاضرات... فرجع الكثير عن هذا الفكر. ولم يبق إلا قلة شاذة.

وجددت البيعة.. فقال بعض الشواذ :

-نبايع على كل شيء في الجماعة ما عدا (مسألة التكفير) فتترك للاجتهاد الشخصي. فأجاب الأستاذ بحسم : بل كل شيء حتى مسألة التكفير.

ومن لم يبايع فليبحث له عن لافتة أخرى غير (الإخوان المسلمين).

  • – ذكاء في حرب القنال :

كانت قوات الإخوان تضرب القاعدة البريطانية في القنال عام 1951 م، وكانت الأحزاب الأخرى تدعي لنفسها ما يعمله الإخوان.

حينئذ كان الأستاذ الهضيبي يقف في المركز العام ليقول للإخوان :

"أيها الإخوان، أوصيكم بتقوى الله، وقراءة القرآن، وعدم التدخل في السياسة" مع انه في الحقيقة كان خلف جميع تنظيمات الإخوان في القنال، ويطلع بنفسه على كل صغيرة وكبيرة من أعمالهم.
  • – حذاري أن تعطوا الفرصة للطغاة :

كان كثير من الإخوان المتحمسين يقولون وهم في السجن يعذبون :

- نحن آلاف.. ألا نستطيع أن نميل على الحراس ونخلص عليهم ونخلص أنفسنا من هذا الجحيم الذي نحن فيه ؟!

وبلغ الأستاذ الهضيبي هذا الكلام...

فكان رده : (( الذي يقوم بهذا العمل لا يكون من الإخوان، إن ظفر أي واحد من هؤلاء الآلاف أغلى علي من رقبة عبد الناصر نفسه.

حذاري أن يعطي واحد منكم الفرصة لهؤلاء الكلاب ليتخذوها فرصة للقضاء على هذه الفئة المؤمنة.

احرصوا على أنفسكم... واصبروا وصابروا واثبتوا حتى يأتي الله بأمره.

  • – تعفف عن الهدايا :

في السنة التي حج فيها الأستاذ الهضيبي منحه الملك سعود هدية.

قال لرجال القصر : لا أستطيع قبول مثل هذه المنح.

فألحوا عليه، وذكروا محاسن القبول، ومساوئ الرد.

فقبل أخيراً ، ولكنه أودع الهدية في خزانة الجماعة.

  • – احذروا الغيبة :

يقول الشيخ عبد البديع صقر رحمه الله: كان الأستاذ الهضيبي لا يصرح برأيه في جمال عبد الناصر. وكان يحسب للغيبة ألف حساب.

وكان يحذرنا من الخوض في أعراض الناس، ويقول: هل نسيتم أن الغيبة من الكبائر

يقول الأستاذ عمر التلمساني- رحمه الله :

خرجنا مع فضيلة المرشد الهضيبي مرة في رحلة إلى صحراء حلوان ووادي حوف. وأدركنا وقت الغذاء، فأكلنا على الأرض والرمل. وبعد الغذاء اضطجع كما هو ببدلته على الرمل فنام قليلاً. وحرصت على أن أصوره على هذه الحالة الفريدة في عالم الزعماء. ولما أطلعته على الصورة، واستأذنته في نشرها، أبى قائلاً :

-ما بالمسلمين من حاجة إلى دعاية، وحسبهم أن يعرفهم ربهم، وفي ذلك سعادتهم.

– في كم تختم القرآن ؟

يقول الشيخ عبد البديع صقر رحمه الله : لقيني الأستاذ الهضيبي في السجن الحربي ذات مرة أما دورة المياه.

فقال لي : في كم تختم القرآن ؟

قلت : كل 15 يوماً.

قال : وما يمنعك أن تختم كل ثلاثة أيام ؟ اقرأ جزئين بعد كل صلاة وأنت على وضوء، هذه فرصة لن تتكرر. !!!

– كيف تصلحان غيركما:

يقول الأستاذ الهضيبي رحمه الله صارم المظهر يحملك على ترك اللجاج في حضرته.

فإذا تخاصم لديه أخوان، بادرهما بعبارته المعروفة عنه :

-إذا كنتما عاجزان عن إصلاح ذات بينكما فكيف تصلحان ذات بين الآخرين.

  • – انضباط في المواعيد:

في عام 1953 م زار الأستاذ الهضيبي طهطا بسوهاج وكان في البرنامج زيارة المعهد الديني. وكان موعد حضور السيارة الساعة الثامنة صباحاً، وفي تمام الثامنة كان الأستاذ المرشد على البوابة.

فقال الإخوان : إن السيارة لم تأت يا إستاذ.

فأجاب : هيا إلى المعهد وسار على قدمه مع كبر سنه ليحضر في موعده.

وبعد زيارة المعهد اقترح بعض الإخوان زيارة النصارى في مقرهم.

فسأل : هل حضروا الحفل بالأمس ؟

قالوا : لا.

قال: فلم نزورهم إذاً ؟.

– ويل للإسلام من هذا الأصفر الكذاب :

لما التقى الأستاذ الهضيبي بجمال عبد الناصر بعد قيام الثورة وتحدث الأستاذ مذكراً بوعود الضباط بالحكم بالشريعة... وتحدث عبد الناصر باللف والدوران...

خرج الأستاذ من اللقاء وهو يقول : ويل للإسلام من هذا الأصفر الكذاب.

وصدقت فراسة الأستاذ المرشد الهضيبي.

  • – لا نعرف الغدر والخيانة :

أخلص الإخوان في نصحهم للثورة، ولكن رجالها خانوا الأمانة وغدروا وفجروا وبطشوا بالإخوان.

في هذه الظروف سارع أحد الإخوان المقربين من الأستاذ المرشد وفي الوقت ذاته يحظى بثقة رجال الثورة. سارع إلى الأستاذ المرشد، وأخبره أن رجال الثورة مجتمعون في مقر كذا، وأنه يريد الإجهاز عليهم والتخلص منهم، انتصاراً للدعوة، وكفاً للأذى عن الجماعة.

فاكفهر وجه المرشد غضباً، وقال له :

-لأن يهلك الإخوان عن آخرهم – وللدعوة رب يحميها – خير من أن نبلغ قمة النصر عن طريق الغدر والخيانة.

إننا مسلمون قبل كل شيء، ولو ملكان الدنيا بإهدار الخلق الإسلامي فنحن خاسرون. وهذه الدماء من يتحملها يوم القيامة أمام الله ؟.

  • – آمالنا أكبر من الدنيا :

تقول الحاجة زينب الغزالي : (( عندما اشتريت المنزل الذي أقيم فيه، ذهبت إلى الأستاذ الهضيبي لأخبره لأدخل السرور على قلبه. فقال لي : نحن الآن يجب ألا نشتري بيتاً، ولا ننشغل بمثل هذه الأمور لأن آمالنا أكبر من هذا. تقول الحاجة زينب الغزالي : (( لقد كانت القضية الإسلامية هي شغله الشاغل ورجاءه وأمله، وكان يعتز بكل من يجد فيه عزماً وثباتاً... – أين أُسر الإخوان ؟

في عام 1953 م قام الأستاذ الهضيبي بجولة في أنحاء مصر، وفي أثناء زيارته للوجه القبلي (سوهاج- طهطا) جعلت الجموع تحتشد، والوفود تتدفق....

وفي وسط هذه الأضواء الزاهية كان الأستاذ المرشد يقول :

-أين الإخوان ؟ كيف حال الأسر ؟ أريد اللقاء بالإخوان العاملين.

آثار الأستاذ "حسن الهضيبي" :

(1) دعاة لا قضاة.
(2) إن هذا القرآن.
(3) الإسلام والداعية "مجموعة كتابات جمعها أسعد سيد أحمد"

وفاته

وبعد تولي السادات الرئاسة في مصر أفرج عن الإمام حسن الهضيبي، فاعتزل في بيته، ثم أدى فريضة الحج في عام 1972م .

وبعدها انتقل إلى رحمة ربه تعالى في الساعة السابعة صباح يوم الخميس 14 شوال 1393 هجرية / الموافق11نوفمبر سنة 1973 عن عمر يناهز الثانية والثمانين عاماً .. رحمه الله رحمة واسعة .. وأسكنه فسيح جناته ..

يحدثونك عن الإمام حسن الهضيبي

حسن إسماعيل الهضيبي مرشد الإخوان المسلمون :

كتب الأستاذ المرشد ( عمر التلمساني ) يقول :

على مشارف الزمن, رجال اصطفاهم ربهم, فأتاهم من فضله ما لم يؤت غيرهم ومن البشر خلق ينساهم الناس قبل أن يواروهم التراب ... وثمة رجال هم والزمن صنوان فى الخلود, لن ينساهم الناس أجمعون . ومن هؤلاء فضيلة مرشدنا السابق الأستاذ حسن إسماعيل الهضيبي , رضي الله عنه , وصلي عليه ( هو الذى يصلي عليكم وملائكته ).

زاول مهنة المحاماة حينا فكان مثال الشرف والصدق والأمانة والتحرز لدينه واستأثر به القضاء فكان المعلم المشرق فى جنباته , معتزا بدينه وخلقه وكرامته اختاروه مستشارا وذهب إلى السراى الملكية ليحلف اليمين المعهودة فكان أول مستشار يحلف اليمين ثم يخرج مواليا الملك ظهره , وكانت مفاجأة ما كان للملك ولا لرجاله عهد بها من قبل . إذ كان الذى يؤدي اليمين يخرج متراجعا حتي يصل إلى الباب, وكادت تحدث أزمة ... لولا معرفة الجميع بصلابة الرجل واعتداده – بعد الله- بنفسه.

ثم شاء القدر أن ينتخبه الإخوان المسلمون مرشدا لهم فصادف الاختيار صاحبه وملأ الرجل مكانته .. لأنه كان إخواني النزعة منذ معرفته للإمام الشهيد حسن العام مرشد الإخوان المسلمين وكان يحضر بعضه أحفالهم , واذكر أنني كنت أتحدث فى محفل إخواني . وكانت فاتحة كلامي أننا فى أحفالنا هذه نطهر ألسنتنا من مهاجمة أحد أو النيل منه . واسترسلت فى الكلام , وجرفني حماس الموقف , وبدرت مني عبارة رآها فضيلته ماسة ببعض الناس فأهاب بي من مكانة أن أفي بما بدأت به كلامي , فأكبرته لأنه أهدي إلى عيوبي .... فجزاه الله عن الحق خيراً .. وكان بقبوله لمركز المرشد شهادة قضائية لحقيقة الإخوان المسلمين وإلا لما قبل مكان الإرشادية, لو رأي في الإخوان أو في دعوتهم وأسلوبهم مأخذا.

ودعاه الملك فاروق لمقابلته في قصر عابدين , دون أن يطلب هو المقابلة فلما خرج سأله الصحفيون عن المقابلة فكان الرد المهذب الصادق لمثل ذلك الموقف وفى تلك الملابسات ... قال رحمه الله ورضي الله عنه وأرضاه " مقابلة كريمة لملك كريم" ولكل كلمة مدلولها ومؤداها .

لم يقل تشرفت أو سعدت بالمثول بين يدي الملك الكريم، ولكن قال إنها مقابلة , وكلمة مقابلة وفى هذا المجال تدل على المجادلة في اللقاء والمساواة بين الرجلين , وما كان ليقول غير ذلك .... ووصفها بأنها مقابلة كريمة لأنها تمت في جو من المحافظة على العزة والكرامة وليست سامية ولا ملكية ولكنها كريمة لأنه هو المدعو للقاء . وما كان لمواطن أن يرفض مقابلة الحاكم إذا دعاه لا إذا استدعاه ووصف الملك ب أنه كريم , لأن الحفاوة التي استقبله بها الملك ,والمكانة التي أحلها إياه مستطلعاً ومستبشراً . لا تصدر إلا موصونة بهذا الوصف السليم , مهما كانت أخلاق الدعي في غير ذلك الموقف فالوصف كان متسقاً تمام الاتساق مع ما يجب أن يقال في مثل ذاك المقام .

حل عيد الأضحى مرة وهو في أزمة مالية , حكي لي حكايتها فقال : جاء العيد وليس عندي من مظاهره ما احتفل به وفى مساء يوم الوقفة جاءه أحد أقاربه وذكر الاسم وكان يعمل في المجال القضائي – جاء ليستقرض من قريبه – فابتسم الأستاذ الهضيبي، وكانت بسمة أوضح من مئات الدلالات، وأدرك قريبه حقيقة الموقف فخرج متجها إلى بلدة المرشد وقال لوالده . وكان ميسور الحال . أتترك ابنك على هذه الحال وفي أيام العيد!!... وقال فضيلته, وما أدهشني بعد صلاة فجر العيد إلا قرعا على الباب, ورجل يسحب خروفا ومعه العديد من الجنيهات . وموضع الاستشهاد بهذه الحادثة وقوله لي أن الذى كان يشغل باله ويحضه أن خادمته لن تفرح بالضحية والعيدية كمثيلاتها في تلك الضاحية أي أن حاله وحال أولاده وزوجته, لم تكن ذات بال يشغله , ولكنها الخادمة البعيدة عن والديها وأترابها ... والتي لم تكن لتجد ما يعوضها عن ملهاتها في الريف البعيد المشاعر القريب المسافة , وتلك ناحية من نواحي النبل الأخلاقية التي تهتم بالغير أكثر من اهتمامها بنفسها , وهكذا كان مرشدنا الراحل رضوان الله عليه في كل مناحي حياته الحافلة بشتي المشاعر والأحاسيس المحببة إلى القلوب .

وكانت زوجة الفاضلة رحمها الله صورة من الصور الرائعة فيوم أن أذاع المذياع نبأ الحكم بالإعدام على فضيلته من المحكمة العسكرية التي شكلها عبد الناصر, الذي رضي لنفسه أن يكون الخصم والحكم ... في تلك اللحظة صرخت الخادمة وولولت فنهرتها السيدة الكريمة قائلة لها لا تصرخي فهو شهيد , والشهداء يهنأ أهلوهم وذووهم , لأنهم نالوا مالم يحظ به الكثيرون .... أنهم يغبطون ولا يناح عليهم وجاءت المحن , وسأتبدل الإعدام بالسجن المؤبد , ودخل فضيلته السجن رغم تقدم سنه وحالته الصحية ... كانت منحة فى مظاهر محنة وقديماً قال علماء اللغة العربية أن الكلمات المركبة من حروف واحدة كثيراً ما تتفق فى المعني فأنت إذا قلت نيل فهو النهر يروي الأرض ويمدها بالنماء بإذن الله , وإذا قلت نيل فقد ضمنت الأماني ونلتها .

وكان الله سبحانه وتعالي قد أعده لقيادة الإخوان المسلمين لما علمه فيه من حكمة وجلد واحتمال وصبر على المكاره ؛ ليكون الأسوة المثلي لم بايعوه على الوفاء والتضحية والسمع والطاعة في غير معصية .

المتمكن من حقه يركن إلى الحجة قبل القوة , ولكن من خلا وفاضه من الحق يعلم تماماً إلا برهان لديه . ولكن القوة المادية بين يديه فيصول ويجول كما كان يفعل دون كيشوت مع طواحين الهواء .

وكان فضيلته موضع الدهشة والإعجاب من كل من في السجن .. ضباط, وأطباء .... ونزلاء ... الكل كان يعجب كيف يتسم هذا الرجل وفى وجه تلك المحنة !! كيف كان ينام قرير العين من بعد صلاة العشاء حتى أوقات السحر ليتهجد . كيف كان يأكل العدس بالحصا ... أو الحصا بالعدس... عدس محصول أم حصا معدس, وقل هذا عن الفول المسوس أو السوس المفول, وقل هذا عن اللحم الذى تأنف نه قطاط السجن .

كل هذا كان سهل هين, وما كان يطلب إلا رضاء الله , وأسأله تعالي أن يكون قد وهبه إياه فقد كان من دعائه يا صاحب الفضل أهلني لرضاك .

كان صلب أسارير الوجه لا تعرف أراض هو أم غاضب لا تستطيع أن تستشف دخيلته مما كان يبدو على أسارير وجهه من لا يعرفه يظنه غاضبا وهو راض ومن يعرفه يظنه راض وهو غاضب , فهو متعال عن المحنة , لم يضعف أمامها ولم يخف استعلاؤه عليه .

كان يتعامل مع الجميع وكأنه مستو على منصة القضاء بكل ما فيها من هيبة ووقار , ينزل الكل على احترامه , حتي إذا ما احتوته جوانب الزنزانة مع زملائه فيها انطلق الرجل كأظرف ما يكون جناسا في العبارات مع محدثيه, يسري عنهم جميعا وكأنه واحد من الجنود . وليس قائد الرايات والبنود يروي لنا شذرات من المحاماة ومواقف القضاء ومحاورات مع العامة ممن لا يعرفون حقيقته ومكانته وكأنه واحد منهم لا يفضلهم في شيء، وهو الذكي الأريب اللماح .

اتهمه عبد الناصر بالعمالة في يناير 1954 ، ثم أفرج عنه في مارس من السنة نفسها، وذهب إلى داره مهنئا ومعتذراً وهكذا يرغم الحق المبطلين على النزول عند حكمه مهما كان منصبهم واستعانتهم بالقوة الزائفة الزائلة, لقد كان مجلس الثورة كله على وجه التقريب زوارا في داره , وكانوا جميعا أشبه شيء بالتلاميذ في حضرة أستاذ عظيم كانوا مسلحين بقوتهم المادية وكان مسلحاً بقوته الروحية المعنوية، وكان الله معه، وكان خير الناصرين لأن من ركن إلى الله فقد أوي إلى ركن شديد معترفين بفضله وبعد نظره لقد كان هو ورجل أخر ما يزال على قيد الحياة الوحيدين اللذين لم يتوقعا خيراً من جمال عبد الناصر من أوائل أيام الانقلاب، وأثبتت الأيام والأحداث أنهما كانا على حق دون غيرهما من الناس أجمعين .

إن أكبر ما كان يستثير عبد الناصر أنه كان يخاطبه بغير الأسلوب الذى شوه مواقف عبد الناصر نتيجة للبطانة التي أوحت إليه أنه فريد عصره وأوانه, ولو أن الناس عرفوا أن الله قد خلقهم أعزة أحرارا , لما استطاع الظالمون أن يبطشوا أن يتألهوا , ولكن الناس معادن لا تظهر جواهر كيانهم إلا أذا صهرتها نيران المحن ..

ولما ضاق بعض الشباب بألوان العذاب التي أوقعها بهم زبانية عبد الناصر تحت سمعه وبصره وقدروا أن هذه الأفعال لا يرتكبها مسلم وحكموا بكفرهم لما حصل هذا أباه عليهم ولم يرضه لدينهم وأقنعهم بالحجة والدليل أن الحكم بالتكفير شئ غير يسير ورجع البعض منهم وبقي البعض على ما هم عليه ولو كان يعمل لنفسه ويرضي لها صغار الانتقام لوافقهم على رأيهم .... ولكنه كان فوق ذلك وأكبر ..

بعض الذكريات التي هومت بالخاطر , وأن أكتب عن شخصية من أكبر الشخصيات التي ظهرت على مسرح الأحداث التاريخية في القرن العشرين.

إن الإحاطة بالرجل ومواقفه الباهرة وصبره العجيب ورجولته النادرة تستوعب صفحات مجلدات ولكن من لي بعلم عالم أو ذكاء كاتب حتي أوفي هذه الشخصية الباهرة حقها من الإجلال والإكبار وعلى فهو في غير حاجة إلى مديح أو ثناء فحسبه ربه أولاً, وحسبه إثارة ومواقفه التي حفظت لدعوة الله استمرارها . لقد أديت ووفيت يا فضيلة المرشد[ إن الله لا يضيع أجر من أحسن عملاً ]..

حسن الهضيبي .. الإمام الأمين والمرشد الحارس

وكتب الأستاذ الإمام محمد حامد أبو النصر يقول :

(( وهكذا يدور الزمان دورته، ويقلِّب الله الليل والنهار، ويغيب الإمام الشهيد حسن البنا عن ساحة العمل الإسلامي والحركة المباركة التي وضع بذورَها، ويترك لمن خلفه الشدائد والصعاب والدعايات الكاذبة للنَّيل من جماعة الإخوان المسلمين، فيختار الله بسابق علمه المرشد الرجل الحارس الشجاع الذي يبدد هذه الأقاويل ويضرب على يد الفتنة في مهدها، ويواجه عمالقة الظلم والطغيان في العصر الحديث.

كل هذه الصعاب انبرى لها ذلك المستشار العظيم، قمة العدالة وشرف النزاهة، فبدَّد ما قيل وما يقال مما يشوه صفحة الإخوان المسلمين الناصعة والتي كانت مثلاً أعلى للحركة التي تبتغي من ورائها رفعة الإسلام والمسلمين.

وكانت هذه الصورة طبق الأصل لصورة الرجل القانوني العادل الذي يعيش للعدل وللعدل فقط، وبدأت الصورة القاتمة التي صوَّرها الاستعمار وأعوانه تنقشع، وبدأ جمال الحق وجلاله يعود إلى النفوس، ولكنَّ القدر المحتوم والقضاء المبرم يُنبت في أرض الإخوان المسلمين نبتةً فاسدةً حملت لواء التمرد والعصيان كذبًا منها وافتراءً لتنال من عظمة هذا الرجل وهيبته، ولكن ذهبت أصواتهم أدراج الرياح وسقطت أوراق الخريف، ولم يبق إلا الصادقون، والذين كانوا مع الصادقين، منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلاً.

استطاع المرشد الحازم أن يقضي على هذه النبتة بل ويسحقها، رغم ما أحدثت من دوي، ﴿فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الأرْضِ﴾ (الرعد: من الآية 17)، وكانت أقاويل، وكانت افتراءات، وكانت اتهامات، وأخيرًا لم يصح إلا الصحيح، وسارت الدعوة في رعاية الله محصنةً من الداخل ومن الخارج.

ومن ثم جاء القضاء الذي لا مفرَّ منه، وقُضي الأمر الذي لا بد منه، وجاءت حركة الضباط في سنة 1952 وترعرعت شجرتهم، وشربت من ماء المستعمر، الذي يهمه في المقام الأول تحطيم كل الحركات التي تُعيد للمسلمين والعرب قدرتَهم ومكانتَهم وأمجادَهم، وكان كل ذلك يعبر عنه الإخوان المسلمين أصدقَ تعبير في أجلِّ صورةٍ وأكرم مظهرٍ، فاتجه هؤلاء الضباط اتجاهًا كاملاً بوحي من الاستعمارِ للقضاء على هذه الروح التي تُحييها مبادئ الإخوان المسلمين بل مبادئ الإسلام، ورسموا لذلك الخطط، مشتركين مع المستعمر لإطفاء نور الحق الذي تجلَّى في شجب الإخوان لبعض بنود المعاهدة الإنجليزية ومطالبتهم بإعادة الحياة البرلمانية تحكم البلاد في جوٍّ من الشورى والطمأنينة.

فواجه المرشدُ الحارسُ الأمينُ على دعوة الله في هذا القرن الحديث والقائدُ الشجاعُ الذي يحرص على حرية الشعب المصري وحقوقه.. واجه الحديد والنار بغير ضعفٍ أو خذلان، ومن ورائه جماعته الحبيبة المخلصة، التي دفعت الثمن الغالي بسخاء، ونصب أعداء الشعب المشانق، وفتحوا غياهب السجون، ومارسوا الاعتداءات على الأرواح والأجساد، ففاقوا بذلك طغاة التعذيب وامتهان كرامة الإنسان على مدى التاريخ.

وحمل المرشد الحارس الرايةَ في استعلاءٍ وقدرةٍ مستمَدةٍ من عظمة جبار السموات والأرض جل وعلا، ودخلت الجماعة وربانها نار إبراهيم فكانت بردًا وسلامًا، ووقع القدر ﴿مَا أَصَابَ مِن مُّصِيْبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلاَ فِيْ أَنْفُسِكُمْ إِلا فِيْ كِتَابٍ مِّن قَبْلَ أَنْ نَبْرَأَهَا إِنَّ ذَلِكَ عَلَى اللهِ يَسِيْرٌ* لِكَيْلا تَأْسَوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلاَ تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ وَاللهُ لاَ يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ﴾ (الحديد: 22، 23).

وعلى لهيب نار التعذيب نشأت داخل السجون عند أفراد قلائل فكرةٌ تصوِّر الحكام الذين حملوا لواء التعذيب والتنكيل والاعتداء على كرامة الإنسان، وكذلك المجتمع الذي يتقبل هؤلاء العتاة الطغاة دون أن يقاومهم أو يقومهم، تصورهم وتحكم عليهم بأحكام مختلفة متباينة لا تستند أصلاً إلى الأسس التي وضعها الإمام الشهيد حسن البنا لقيام جماعته على الكتاب والسنة والإجماع.

وهنا انبرى الإمام الأمين والحارس الشجاع يواجه هذه الأفكار الدخيلة على جماعته ويصحِّح مسيرة الدعوة الإسلامية، وألَّف تحقيقه المعروف "دعاة لا قضاة" وبذلك تبدَّدت هذه المفاهيم وتحصنت الجماعة من الفكر الدخيل وأخذت السفينة تشقُّ عباب البحر وسط العواصف والأنواء في قوة، حتى رست على برِّ السلامة ومرفأ الأمان.

وقُضي الأمر واستوت على الجودي وظهرت جماعة الإخوان مرةً أخرى تفتح الطريق للإسلام وتدعو الناس جميعًا إلى الحب والتعارف وإنكار الذات والتعاون الأكيد فيما يعود على البشرية بالسخاء والرخاء، مصداقًا لقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوْبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ﴾ (الحجرات: من الآية 13).

وهكذا كانت حياة الإمام الأمين والمرشد الحارس حياةً هي الجهاد بعينه وهي النصر الأكيد، بفضل وقفاته الحازمة ونظراته الثاقبة، رحمه الله رحمةً واسعة.

فكان ما كان وأصبحنا ملء السمع والبصر والفؤاد، نسأل الله أن يثبِّت الخُطا وأن يمنحَنا القدرةَ والقوةَ لاستقبال ما يأتي به القدَر، وهو على أي حال ﴿نَصْرٌ مِّنَ اللهِ وَفَتْحٌ قَرِيْبٌ﴾ (الصف: من الآية 13).

مواقف وذكريات مع الإمام الهضيبي

يروي الأستاذ أبو النصر في السطور التالية بعضًا من الذكريات والمواقف التي عاشها مع فضيلة المرشد العام الأستاذ حسن الهضيبي، فيقول:

"بعد استشهاد الإمام البنا أخذ الإخوان يبحثون عمن يخلُف الإمام حسن البنا ويتولَّى منصب المرشد العام، ولمَّا كنت أقيم في الصعيد (في منفلوط محافظة أسيوط) فلا أعرف تفاصيل الأحداث التي انتهت إلى اختيار الأستاذ الهضيبي رحمه الله.

ولكن جاءني أحد الإخوان، وقال لي: نحن نأخذ بيعةً من الإخوان للأستاذ الهضيبي مرشدًا وخلفًا للإمام حسن البنا، ولم تكن لي أية صلة بالأستاذ الهضيبي قبل اختيار الإخوان له مرشدًا عامًّا، ولكني عرفت أنه كان على اتصالٍ وثيقٍ بالإمام الشهيد حسن البنا

فقد كان الإمام الشهيد حسن البنا على صلةٍ بشخصياتٍ كبيرةٍ، ولم يكن أغلبنا يعرف هذه الشخصيات، وكان الإمام الشهيد حسن البنا لا يذكر أسماء هذه الشخصيات الكبيرة، خاصةً التي تتولَّى مراكز حساسة في الدولة لحكمةٍ يراها، وكان الأستاذ الهضيبي أحد هذه الشخصيات غير المعروفة لدى الإخوان.

عندما عُرض عليَّ أمر اختيار الأستاذ الهضيبي توقفت قليلاً ، وقلت:

"إنني لا أعرفه حتى أبايعه.. لا بد أن أعرفه أولاً ثم أبايعه، وفعلاً تمت المعرفة، وتمَّت البيعة مني له، وإن كنت واحدًا من أواخر الإخوان الذين بايعوا الأستاذ الهضيبي، وقد علم الأستاذ الهضيبي بموقفي هذا، ووافق على ضرورة التعرف والتثبت من حقيقة الشخص الذي سيبايَع حتى تكون البيعة صحيحة".
"أعتقد أن اختيار الأستاذ الهضيبي مرشدًا للإخوان في هذه الفترة كان من تدبير الله وحكمته ورحمته، فقد اختار الله الإمام حسن البنا ليضع الأساس ويربِّي جيلاً من الإخوان يُقيم صرح الجماعة على أكتافه، ثم اختار الله الأستاذ الهضيبي لهذه الفترة العصيبة لصلابته وثباته وحكمته واتزانه ونزاهته، ولو قدِّر أن يختار الإخوان شخصيةً أخرى لكانت الجماعة قد انتهت وعفا عليها الزمن.

لقد كان الأستاذ الهضيبي رجلاً مؤمنًا غاية الإيمان، فلم يتزحزح عن الموقف الإسلامي قيد أنملة، وهذه أكبر نعمة أنعمها الله على الإخوان المسلمين أن مرشدهم قويٌّ وحازم وصُلب أمام الأحداث، لا يتضعضع، ولا يلين، ولا يضعُف، رحمه الله وتقبله في الصالحين.

"عندما حدث الاعتقال الأول في يناير عام 1954م اعتقل نصف أعضاء مكتب الإرشاد مع الأستاذ الهضيبي، وبقي النصف الآخر لم يعتقَل، وكنت واحدًا منهم.. وكذلك لم يعتقَل الشهيد عبد القادر عودة، وسعى الشهيد عبد القادر عودة في الاتصال بجمال عبد الناصر للتعرف على أسباب الاعتقال، وحدَّد جمال عبد الناصر موعدًا للشهيد عبد القادر، وقال له: "أحضر معك أبو النصر".

صاحبت الشهيد عبد القادر عودة في ذهابه للقاء جمال عبد الناصر باعتبار أنني "بلدياته"، وخرجنا من لقاء عبد الناصر ونحن على يقين من نقمة جمال عبد الناصر على الأستاذ الهضيبي ورغبته الشديدة في تغييره..

قلت لجمال عبد الناصر:

"تغيير المرشد أمرٌ مستحيلٌ؛ لأن المرشد ليس مرشدًا للإخوان المسلمين في مصر وحدها، ولكنه مرشد الإخوان المسلمين في العالم كله، وإذا تأكدنا أن مرشدَنا ليس أهلاً ليكون مرشدًا لنا فسوف نحل مشكلاتنا بأيدينا نحن، ولكننا على يقينٍ من أن الأستاذ الهضيبي رجلٌ طاهرٌ وعظيمٌ، وشخصية ليست بالسهولة التي تستطيع أن تغيِّرها؛ لأنه ليس رئيس مصلحة حكومية تستطيع أن تغيره بقرار تصدره".

أنا سأحاكمه وأحاكم الإخوان.

حاكم مَن تريد، لكن أن نترك الرجل ونتخلَّى عنه بدون وجه حق فلن يحدث هذا أبدًا؛ لأن الرجل نظيف ويسلك بنا المسلك الطيب، وسلوكه معكم أنتم أيضًا، وربما وصلتك معلوماتٌ غيرٌ دقيقة ولا تمثِّل الواقع، فتطلب منا أن نغيِّر المرشد، وإذا غيَّرنا المرشد تصبح الجماعة في يدك، نحن مستمسكون بالمرشد إلى أقصى مدى.

وقلت لعبد الناصر:

إن أي اعتداء على المرشد لن نسكت عليه، وإذا أصيبت فيه شعرةٌ لن نسكت.. فابتسم عبد الناصر ابتسامته الصفراء المشهور بها، ثم أخذ يتحدث عن بعض الشخصيات الكبيرة في الجماعة ويجرحها، وكان يهدف من حديثه هذا إلى تشويه صورة هذه الشخصيات في أذهاننا بهدف التشكيك في الجماعة ذاتها.

ثم قلت لعبد الناصر: الأفضل أن نتعاون معًا ونسير.

-لن نتعاون إلا إذا خلعتم الهضيبي.

مستحيل أن نخلع المرشد، هل سيحُوْل المرشد بينك وبين تنفيذ مشاريعك؟! إننا يمكن أن نبحث عن صورة للتعاون، خصوصًا أن الإخوان قد أدوا واجبهم تجاه الحركة.

-هل لك اقتراحات معينة؟

-يمكن أن تشكَّل لجنةٌ من ثلاثة، أنت تختارهم من أعضاء مكتب الإرشاد، بشرط أن يوافق عليهم المرشد، ويكون هؤلاء الثلاثة حلقةَ الاتصال بينك وبين الجماعة، وطبعًا المشاريع التي لا تتعارض مع الإسلام سوف يوافقون عليها، وتترك الإخوان يربُّون الأجيال الصاعدة من أبناء الشعب ويبشرون بالدعوة.

أوافق على هذا الاقتراح ولكن بشرط إقالة المرشد.

لماذا إقالة المرشد؟! هذا غير ممكن.. المرشد هو التاج الذي نضعه على رؤوسنا، والرجل لم يقل فيه أحدٌ شيئًا، إنك تتهم المرشد فما هو دليلك على هذا الاتهام؟!

إن رجال السفارة البريطانية جلسوا يضحكون، ويقولون إن الهضيبي بكرة يأتي للوزارة.

ما لنا نحن ورجال السفارة.. وقولهم إن الهضيبي سيشكِّل الوزارة؟! نحن لسنا طلاب حكم.. نحن نريد أن نربي الشعب، وأن نرجعه إلى الالتزام بالإسلام، والشعب قادر على أن يختار حكامه، والحكم ليس بغيتنا".

"في ذلك الوقت علمت أن بعض قادة الجيش أرادوا القيام بحركة ضد جمال عبد الناصر، ولكنَّ الأستاذ الهضيبي قال: "نحن لا نريد أن نساهم في إقامة مجزرة نتحمل فيها المسئولية، وكل أملنا أن يحفظ الله هذا البلد"، وكان الأستاذ المرشد يؤكد دائمًا على مسامع كل المحيطين به هذه العبارة: "أنا بريء من دم جمال عبد الناصر".

وعن الأستاذ الهضيبي داخل السجن يقول السيد محمد حامد أبو النصر: التقيت به في ليمان طره بعد المحاكمات، فكان مثالاً رائعًا للثبات وعدم الاكتراث بالأحداث، وكان الإخوان يترسَّمون خطاه ويقتدون به في الكلام وتعففه عن طلب أي شيء من إدارة السجن، كان كالجبل الأشمِّ شامخًا عالي النفس مرفوع الرأس..

كان بعض الإخوان يطلبون منه أن يقول كذا أو أن يطلب كذا، لكنه كان يقول: "خلينا بعدين، نحن دخلنا السجن في سبيل الله، وعلينا أن نصبر ونتحمَّل كل ما نُصاب به في سبيل الله"، فكان مثلاً عاليًا لجميع الإخوان.

الأستاذ مصطفى مشهور متحدثا عن الإمام حسن الهضيبي

( في الشدائد تعرف معادن الرجال , وهكذا كانت حياة الإمام حسن الهضيبي رحمة الله – مع دعوة الإخوان المسلمين , قاد السفينة بحكمة وثبات وسط صخور متشابكة من داخل الصف ومن خارجه , أكثر من عشرين عام بقليل تعرضت خلالها الجماعة إلى محنتين قاسيتين متتابعتين أو متداخلتين على يد عبد الناصر الذى جرأ غيره من حكام بلادنا الإسلامية على البطش والتنكيل بالإسلاميين عموما والإخوان المسلمين بصفة خاصة أمثال حكام سوريا وليبيا والعراق وتونس والصومال وغيرها.

لقد كان توفيق الله حليف الجماعة حين وقع الاختيار على الإمام الهضيبي كمرشد عاملها بعد اغتيال الإمام الشهيد حسن البنا . لم يكن معروفا بين الإخوان ولكن أقدار الله كانت وراء اجتماع الكلمة عليه , وما أن مر عام أو يزيد قليلاً بعد اختياره حتى حدث انقلاب 23 يوليو وظن الناس وكثير من الإخوان خيراً ولكن الإمام بنظرته الثاقبة كان على غير ذلك. وحاول عبد الناصر إثارة الفتنة في صف الإخوان ضد مرشدها ولكنه فشل ثم كانت تمثيلية المنشية وما أعقبها من اعتقالات وتعذيب ومحاكمات صورية وإعدامات تحت التعذيب وعلى أعواد المشانق وحكم على الإمام الهضيبي بالإعدام ولكن خفف الحكم إلى المؤبد ودخل معنا ليمان طره ولبس سلسلة الحديد في رجليه , وكان رمزا شامخاً للثبات والاستخفاف بالمحنة رغم قسوتها ثم نقل من الليمان إلى سجن مصر، ثم أفرج عنه , وكانت توجيهاته للإخوان بالسجون تصلهم بانتظام وتوصيهم بالصبر والثبات وما أن أتم الإخوة المحكوم عليهم بعشر سنوات وبدؤوا في الخروج من السجون حتي بدأ عبد الناصر المحنة الثانية في عام 56، وأعتقل فيها الإمام الهضيبي مرة ثانية، وتعرض للمحاكمة وحكم عليه بثلاث سنوات قضاها في ليمان طره ثم نقل إلى المعتقل مع الإخوان فكان قدوة للإخوان في الصبر والثبات رغم تقدمه في السن وضعف صحته.

ثم كان له دور هام في حسم قضية التكفير التي اعتنقته بعض الإخوة وكان للبحث الذى أعده الإمام الهضيبي الأثر الكبير في عدول الكثير ممن تلبس عليهم هذا الفكر عنه والتزام الفكر الصحيح للإخوان المسلمين . وهذا البحث هو الذى طبع فيما بعد تحت عنوان " دعاة لا قضاة " ثم فاصل المصرين على هذا الفكر مفاصله واضحة بأن يبحثوا لهمعن لافتة غير لافتة الإخوان ليعملوا تحتها وبعد موت عبد الناصر الذي كان يصر على استمرار المعتقلين والمحكوم عليهم وراء الأسوار إلى البد ولكن السادات بدأ في الإفراج التدريجي للأخوة جميعا واستمر الإمام الهضيبي يقود الجماعة ويتحرك بها داخل مصر وخارجها حتي لقي الله في عام 73 وكان الجو العام الذى تعيشه الجماعة فيه من التضييق ما جعل الإمام الهضيبي يلقي الله دون جو من الإعلام اللائق به وهكذا قضي الإمام الهضيبي بقيادة أهم مرحلة من مراحل الدعوة , مرحلة الامتحان والابتلاء حيث خرجت الجماعة من تلك المحن أصلب عوداً مرحلة وأكثر تماسكاً وامتدت رقعتها رغم المحن خارج مصر في دول عربية وغير عربية و ويرجع الفضل بعد الله سبحانه وتعالى في ذلك إلى التربية التي اهتم بها كلا من الإمامين البنا والهضيبي ثم إلى الحكمة والصبر والثبات التي تميز بها الإمام الهضيبي خلال فترته التي اشتدت فيها المحن على الإخوان .

هجوم شرس

في البداية يقول المفكر الإسلامي الدكتور عبد الصبور شاهين الأستاذ بكلية دار العلوم-:

إنَّ المرشد الثاني لجماعة الإخوان المستشار حسن الهضيبي كان من أكثر المرشدين الذين لاقوا هجومًا ونقدًا وتجريحًا رغم أنه الشخصية التي تكاد تكون الوحيدة التي استطاعت أن تحل محل الإمام حسن البنا في هذا التوقيت بما كان يمثله من عظمةٍ في شخصيته وقدرته على القيادةِ والاقتراب من قلوبِ الناس فكانت شخصيته متكاملة الخصائص والصفات فلم يكن أنسب منه لهذا الموقع.

ويضيف: (( إنَّ شخصيةَ المرشدِ الثاني كانت تتميز بأنه يعمل من ضميرِ قاض إذا أصدر حكمًا كان بمثابةِ أمر يجب الالتزام به وتنفيذه، وورث عن الإمام البنا تركة مثقلة لم تكن بالأمر الهين، ولذلك اختلفت الأقوال والتقديرات في موافقه مع أنه كان في واقع الأمر الشخصية القادرة على تحمل المسئولية وقيادة الجماعة في هذا التوقيت.

ويرى الدكتور شاهين أن كتابه "دعاة لا قضاة" يعتبر خلاصةً لتجاربه المريرة التي مرَّ بها سواء في مجال القيادة أو في السجن؛ فهو من أنفس الكتب التي ترسم للحركة الإسلامية طريقَ دعوتها، ومن هنا يدعو الذين يخوضون في سيرة المستشار حسن الهضيبي أن يراجعوا الظروف التي تم فيها اختياره مرشدًا عامًا للإخوان بعد استشهاد الإمام البنا والصعوبات التي كانت تكتنف مهمته وكيف ضحَّى بحياته من أجل دعوته.

"حسن الهضيبي"... الرجل والموقف

كما كتب الأستاذ/ محمد عبد الله السمان .. الداعية والكاتب الإسلامي المشهور يقول :

عندما بدأت الإرهاصات تسري أواخر عام1950م تذكر أن الأستاذ المستشار الهضيبي هو المرشد القادم لجماعة الإخوان المسلمين.. كتبت مجلة (روز اليوسف) تقول: "كان الأستاذ المستشار الهضيبي المرشح ليكون المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين رئيسًا لمحكمة جنايات سوهاج, وفي إحدى القضايا الجنائية كان المحامي فيها شقيق وزير العدل قادمًا من القاهرة, وكان العُرف يسمح لرئيس المحكمة أن يستقبل في الاستراحة كبار المحامين الوافدين من القاهرة أو غيرها.. قال المحامي للأستاذ "الهضيبي": هل سيادتكم مستريحون في سوهاج؟

فرد عليه: تحقيق العدل هو الراحة التي لا ترتبط بزمان أو مكان.

قال: غدًا سأتناول الغداء مع أخي (وزير العدل) فإن رأيتم أن أرجوه لينقلكم إلى القاهرة.. فثار الأستاذ "الهضيبي", وقال له: تفضل يا أستاذ, أجئت تساومني؟

كان الساعي يهم بالدخول بالقهوة, فقال له: ارجع, وأُسقط في يد المحامي الكبير شقيق وزير العدل.

كان حسبي أن أذكر هذه القصة؛ ليعرف القارئ من هو الأستاذ "الهضيبي"، ولكني رأيت المزيد في ذكرى وفاته التي مضى عليها ثلاثة عقود, وأنا واثق من أن وسائل الإعلام لن تذكره, لا لأنها مشغولةٌ دائمًا بذكرى الراحلين والراحلات من أهل الفن, بل لأن هذه الوسائل الإعلامية غير الحرة لا تجرؤ أن تتجاوز الخطوط الحمراء, وإلا ذُهِب بمن يتجاوزها وراء الشمس.

وهذه شهادة أخرى من رجل كانت داره الصحفية في العهد الناصري حربًا شرسة على جماعة الإخوان المسلمين ..، إنه الأستاذ الراحل "مصطفى أمين"

ففي الخامس من يونيه عام 1982م كتب في فكرته.. نلتقط منها بعض السطور:

"أعجبت بصموده.. انهالت على رأسه الضربات فلم يركع, حاصرته المصائب فلم ييأس.. تلقى الطعنات من الخلف والأمام, فلم يسقط على الأرض!"
"رأيته في محنته أقوى منه في مجده.. سقط من المقعد واقفًا, وغيره يجلس فوق المقعد راكعًا, رأيته يستعذب الحرمان وغيره لا يستعذب إلا بالسلطان".
"رأيته يستقبل المحنة بابتسامة كأنه يستقبل النعمة, ينام على (الأسفلت), وكأنه ينام على مرتبة من ريش النعام، ويأكل الخبز الممزوج بالتراب, ويحمد الله كأنه تناول الطعام على مائدة ملكية".
"عشت معه سنوات طويلة, كان بين زنزانته وزنزانتي زنزانة واحدة, وكانت بينه وبين المسجونين السياسيين مناقشات طويلة, كان عدد من المسجونين الذين عُذبوا وصُلبوا وضُربوا وأُهينوا وانتُهكت أعراضهم يصرون على الثأر والانتقام من معذبيهم, بعد أن يخرجوا إلى الحرية.. فكان يعارضهم ويقول لهم: هذه مهمة الله, وليست مهمتنا.. نحن دعاة ولسنا قضاة".!

أقُول: هذه هي النفس العالية التي ترتفع فوق مستوى التدني قولاً وعملاً, وتؤمن بالحق كائنًا حيًا لا يعتريه الموت, وبالباطل كائنًا ميتًا مهما تظاهر بالحياة, وكأنه رحمه الله يتمثل كلمات للإمام علي رضي الله عنه-: "والله ما ذل ذو حق ولو قامت الدنيا عليه, ووالله ما عزَّ ذو باطل ولو طلع القمر بين عينيه".

كان يسره دحر الباطل وانتصار الحق بلا شماتة, كنا بالمركز العام حين أذيع نبأ الحكم بالإعدام على "إبراهيم عبد الهادي باشا"- خصم الجماعة- فارتفعت الأصوات: "الله أكبر ولله الحمد"، فاعترض في غضب وقال: مهلاً أيها الإخوة, حسبنا أن نَحمَد الله بلا شماتة, ومن يدري فقد تدور الدائرة عليكم".

وكان ابنه المستشار "مأمون" على نفس المستوى.., ففي 28 سبتمبر عام 1970م كنا نشاهد في معتقل مزرعة طرة برنامج "نور على نور" الذي كان يُعده الأخ "أحمد فراج" وتوقف البرنامج فجأةً, وبدأت تلاوة القرآن, وأخذنا نضرب أخماسًا في أسداس: ماذا حدث؟

وقطع صمتَنا ظُهورُ "أنور السادات" على الشاشة ودموع التماسيح في عينيه, يقول: رحل الساعة أعظم الرجال.. وما إن قال: الرئيس "جمال عبد الناصر"؛.. حتى ارتفعت الأصوات: "الله أكبر ولله الحمد"...!! ووقف الأستاذ "مأمون"- في غضب- يقول: عيب أيها الإخوة، فلا شماتة في الموت..!! كان درسًا في الأدب لم يعِه كثيرٌ من الناس.

وكان الأستاذ "الهضيبي" رحمه الله ذا رؤية بصيرة في فنِّ السياسة، فحين وقع الانقلاب العسكري 23 يوليو 1952م كتبت مقالاً في مجلة (الرسالة) التي كان يصدرها الأستاذ "الزيات" تحت عنوان "الوثبة المباركة"، وكان مقالي افتتاحية العدد.

علمت أن الأستاذ "الزيات" طلب من الأستاذ "الهضيبي" أن يرشح له بعض الإخوان للكتابة لـ(الرسالة) بعد أن أصبحت هدفًا للأقلام الماركسية، فأشار عليه بالأستاذ "سيد قطب" وبي، والحقُّ أنني بدأت الكتابة بـ(الرسالة) قبل ذلك، ولكنني سعِدت برأي الأستاذ في النهاية..

فقد استدعاني الأستاذ، وقال لي: "إن أصحاب الدعوات يوجَّهون ولا يُمدحون".. فهمت, وبدأت أكتب مقالات بجريدة (اللواء) التي كان يصدرها الحزب الوطني أيام الأستاذ "فتحي رضوان" تحمل المقالات عنوان: "ماذا تريدون من رجال الثورة؟"...

في فبراير عام 1952م والملكية كانت ولم تزل ألفت كتابًا يحمل عنوان: "الإسلام والأمن الدولي", وفيه أنكرت أن يكون في الإسلام ما يسمي بـ(النظام الملكي المتوارث)، واستدعاني الأستاذ المرشد, وأنا في الطريق إليه لقيت الشهيد "سيد قطب".

وقال لي "الحق وارفع كتابك من المكتبة؛ فقد سمعت لغطًا بالقلم السياسي أثناء التحقيق معي بشأن كتابي "السلام العالمي والإسلام" أي كان الغلط بشأن كتابي، وكان مع الأستاذ المرشد في مكتبته الشيخ "أحمد شريت" مفتش الوعظ, الذي حُكم عليه عام 1954 بالسجن خمسة عشر عامًا، وفي عام 1969م حول من السجن إلى معتقل مزرعة طرة معنا.. ثم لقيَ ربه بمستشفى القصر العيني قبل أن يُفرَج عنه.

قال لي الأستاذ المرشد: ما هذا يا رجل؟ لقد سهرت الليلة على كتابك (240) صفحة، لم أنَم حتى انتهيت منه، بعد أن اتصل بي ناظر الخاصة الملكية يعتب علينا بسبب كتابك.. قلت: هل رأى فضيلتكم فيه غير الحق? قال: لا.. قال الشيخ "أحمد شريت": يا فضيلة المرشد، هذا الكتاب مفخرةٌ لنا.. قال: يا شيخ "أحمد", لقد رفعنا التماسات نطلب الإفراج عن إخواننا بالسجون...، ألا ترى أن من شأن هذا الكتاب أن يؤثر في التماسنا؟

والمهم أنني اتفقت على مصادرة الكتاب، شريطةَ ألا يمس المؤلف بأدنى أذى, واتخذنا قرارًا شكليًا, وفي نفس الوقت أرسلنا منشورًا دوريًا إلى المكاتب الإدارية لتوضيح المسألة حتى لا يُساء إلى فكر المؤلف.

وفي عام 1954م ونحن بالسجن الحربي وفد إلينا معتقل جديد, يحمل معه صحيفة قاهرية, وفي صفحتها الأولي بالبنط الكبير: "المرشد العام يصادر كتابًا لأحد كبار الإخوان ينتقد النظام الملكي الوراثي" أستغفر الله! لم أكن من كبار الإخوان, بل كنتُ وما زِلت من عامَّتهم, وفي لقاء مع الأستاذ "عبد العزيز كامل" الدكتور فيما بعد ووزير الأوقاف ما رأيك؟

قال: "انج سعد فقد هلك سعيد، احتفظ بالجريدة لعل الخبر يفيدك حين يحقق معك" قلت: أتراني أرجم بيتي بالحجارة؟ قال: "أنت حر"، وحتى لا أضعف قمت بتمزيق الجريدة, وشاء الله ألا يُحقَّق معي حتى أُفرج عني!

ومن الغريب مصادرة الطبعة الثانية من الكتاب في عام 1960م في العهد الناصري؛ لأني تناولت (تيتو) و(نهرو) بشيء من النقد, وفي نفس الوقت اختارت إدارة الثقافة بوزارة التربية والتعليم الكتاب لمكتبات المدارس الإعدادية والثانوية, وما في مستواهما, وكذلك فعلت إدارة المعاهد الدينية بالأزهر.

وفي عام 1953م- وكنت مدرسًا بمدرسة الوحدة العربية بالمنيرة بالقاهرة اتصل بي الأستاذ "محمود المهدي" المحرر بالأهرام, وقال لي: إن الممثل "حسين صدقي" في مكتبي يريد أن يلقاك, كان الأستاذ "حسين صدقي" أنتج فيلمًا سينمائيًا بعنوان: (الشيخ حسن) كان هو البطل..، ويمثل دور طالب أزهري دُعي لإعطاء درس خصوصي لطالبة يونانية الممثلة ليلي فوزي في اللغة العربية، وأثناء الحصة كانت الطالبة تثير شبهات حول الإسلام.

وكان يتولَّى الدفاع عنه, وانتهت المحاورة إلى الإسلام في كتمان, ولاحظت الأسرة تحولاً في حياة الفتاة، وأدركت أن الشيخ حسن وراء هذا التحول, فقررت الاستغناء عنه, وزعموا أن المدرس هو الذي انقطع؛ لأنه مشغول بالمذاكرة والامتحان على الأبواب, فلزمت الفراش, وكان الشيخ (حسن) قد تردد أكثر من مرة, وكانوا يعتذرون له بأنها مريضة, وفي آخر مرة سمعت صوته يُنذر بعدم العودة، فغادرت سريرها؛ وبسبب سرعتها وقعت، وتدحرجت على السلالم, وفقدَت حياتها...، واحتج إخوانُنا الأقباط على الفيلم بشكوى قُدمت إلى الرئيس "محمد نجيب"، الذي طلب مشاهدة الفيلم, وصرَّح بأن لا شيء في الفيلم, وبرغم ذلك صادره منعًا للمشاكل.

ونصح الأستاذ "مهدي" الممثل باللجوء إلى الإخوان, ورشحني لأكون حلقة الاتصال بينه وبين المرشد العام، فقلت: إن مهمتي أن أجمع بين الأستاذ وفضيلة المرشد, وزرته في مسكنه بـ(الروضة), وعرضت عليه المسألة, وقلت له: أرى أن يتدخل الإخوان حتى يقتنع رجال الثورة بأننا موجودن، وفي لقاء الأستاذ "حسين صدقي" مع المرشد، قال له: لا أستطيع أن أُصدر حكمًا إلا بعد مشاهدة الفيلم, واستجاب.

وتقرر مشاهدة الفيلم بـ(سينما كايرو) في عرض خاص بالطبع، وشاهدنا مع فضيلته الفيلم, ومعنا الشيخ شلتوت شيخ الأزهر فيما بعد وبعض أعضاء مكتب الإرشاد، واقتنع الأستاذ المرشد أن في مصادرة الفيلم تعسفًا، وأجرى اتصالات مع الرئيس "محمد نجيب" الذي وافق على رفع المصادرة، شريطة اختيار عنوان آخر, واختير له عنوان: "ليلة القدر".

وُفِّقت الجماعة في اختيار الأستاذ "الهضيبي" خلفًا للإمام الشهيد "حسن البنا" مؤسس الجماعة..، كان الإمام الشهيد قبل اغتياله قد أوصى "الباقوري" بتعهد الجماعة إذا حدث له ما هو متوقع, على أن تنتهي مهمته عندما يسترد الإخوان اعتبارهم بعد انتهاء المحنة؛ ليكون الأمر شورى، وفَّى الشيخ بالعهد, وكان الإمام الشهيد بعيدَ النظر, واثقًا من أن الشيخ لن تمسَّه المحنة, وهو صهر للشيخ "عبد اللطيف دراز" وكيل الأزهر, وعضو مجلس النواب عن الحزب السعدي الخصم العنيد للجماعة.

والأستاذ "الهضيبي" لم يكن غريبًا على الجماعة, بل كان من خاصة الإمام الشهيد ومن ذوي مشورته, تعرَّف عليه عام 1942م، وكان للبنا خاصةٌ من وجوه القوم يرى من الحكمة عدم ظهورهم على المسرح, على أمل أن يكون لأيٍّ منهم في المستقبل القريب أو البعيد دور مهم, ومن الأسباب التي دعت إلى اختيار الأستاذ "الهضيبي" كونه من رجال القضاء, وهذا مما قد يُزيل الجفوة بين الجماعة والقضاء التي سببها مصرع القاضي "الخازندار" بيد الإخوان.

ولا يجادل أحد في أن الأستاذ "الهضيبي" كان يتمتع بحزم في سلوكه, وبُعٍد نظر رشيد في أمور السياسة, فحين عرض ضباط الانقلاب على الجماعة ترشيح البعض منهم لبعض الوزارات, كان رفضه للفكرة مفاجأة, وسرعان ما اضمحلت المفاجأة حين عرض وجهة نظره في الرفض, قال للجماعة: إن للدعوة هدفًا أساسيًا هو رد الاعتبار للإسلام وشريعته, فإذا اشتركوا في الحكم دون تحقيق الهدف, ثبتت التهمة الملصقة بهم بأنهم جماعة استغلوا الإسلام، وجعلوا منه ستارًا يُخفي هدفهم الأساسي, وهو الوصول إلى كراسي الحكم.

وكانت هناك محاولة بعد محنة 1954م؛ للتصالُح مع النظام, على أن تمارِس الجماعة نشاطها، بعيدًا عن السياسة مع تعويض سخيٍّ عما لحقها وأتباعها من ضرر فادح ماديًا وأدبيًا, ورفض الفكرة, وكانت وجهة نظره في الرفض أن لا تعود الجماعة إلا بحكم قضائي, وليس عن طريق منحة بلا ضمان، وتكررت المسألة في السنوات الثلاث الأولى من حكم "السادات" بلا جدوى, وكذلك بعد أن تولى الأستاذ "عمر التلمساني" الجماعة بعد رحيل الأستاذ "الهضيبي".

وكان "عمر التلمساني|التلمساني" على نفس الطريق, ولقد قال لي الشيخ "سيد سابق" رحمه الله وكان على صلة بالمسألة: إن "السادات" عرض على الجماعة استرداد المركز العام, وخمسة ملايين من الجنيهات على سبيل التعويض، ومما لا يعلمه كثير من الناس أن بعض النفوس أصيبت بالرعب لتقارب "السادات" مع الإخوان، وفكَّر "موسى صبري" والسيدة "جيهان السادات" مع الإفادة من رأي قداسة "البابا" أن لابد من الاستعانة بأجهزة الأمن لافتعال متفجرات في بعض كنائس الإسكندرية، وتسليط الاتهام على جماعة الإخوان، وضلت المؤامرة طريقها.

في أواخر الستينيات انعقد مؤتمر إخواني بالمغرب, واتخذوا قرارًا باختيار الأستاذ "الهضيبي" مرشدًا للجماعة مدى الحياة, واتصلت المخابرات بالأستاذ في سجنه لمساومته على الإفراج عنه مقابل كتابته سطورًا يعتذر فيها عن عدم قبول قرار الجماعة لظروفه الصحية، ورفض في إباء, وأكثر من مرة رفض الحوار مع المسئولين, وأقام رفضه على أساس أنه سجين يخضع لسلطة القضاء وحده!

ثم ماذا بعد هذا؟ فإننا أمام شخصية فذة، لا تكفي صفحات معدودة للوفاء بحقها في الدراسة، وحسبنا هنا ما قاله الأستاذ "مصطفى أمين" في آخر فكرته:

"كان متمسكًا بدينه بغير تعصب، مؤمنًا بالعدل كارهًا للظلم، يرفض العنف، ويقول: "ما حاجتنا للمسدس ولنا لسان، ما حاجتنا للقنبلة ودوي صوت المظلومين أعلى من انفجار الديناميت"! كان اسم الرجل هو: حسن الهضيبي"!!

الهضيبي بك ينصر الله

هذه صفحةٌ من أروع صفحات الفخار، سطَّرها مرشدنا الراشد: حسن الهضيبي، منذ أكثر من 60 عامًا، نصر فيها شرعَ الله ومنهجَه، ونادَى بوجوب تطبيق الشريعة الإسلامية في جميع مجالات الحياة، وصرَّح بأنها الحل الوحيد لكل مشكلاتنا وأمراضنا، وكان هذا في وقت ندر فيه مَن يتحدَّث عن منهج الله وشريعته من رجال القانون والتشريع، فكانت صيحة مدوية لها أثرها الخطير، أثلجت صدور الدعاة والمجاهدين، وأدهشت المتابعين والمراقبين.

وكان لصحيفة أخبار اليوم اهتمامٌ ومتابعةٌ لهذا الحدث (الخطير) كما سمته فعقبت عليه قائلةً:

"اتصل بنا أنه حينما عرض مشروع تعديل القانون المدني على الأستاذ حسن الهضيبي بك المستشار في محكمة النقض لاستطلاع رأيه فيه فقال:
"إن أحسن تعديل في نظري هو سَن قانون من مادة واحدة يقضي بتطبيقِ الشريعةِ الإسلاميةِ في الأحوال الجنائية والمدنية".

ولقد رأينا إزاء هذا الرأي الخطير أن نرجع إلى الهضيبي بك في ذلك فقال:

"لقد أعلنتُ رأيي أمام لجنة تعديل القانون المدني في مجلس الشيوخ فقلت: يجب أن يكون قانوننا هو القرآن وسنة الرسول عليه الصلاة والسلام في جميع شئوننا وليس في الشئون التشريعية وحدها؛ لأن الإسلام دينٌ متماسكٌ متكاملٌ غير قابل للتجزئة، فيجب تطبيق جميع أحكامه في كل أمة تدين به.

هذا هو الرأي الذي جاهرت به، وسأظل أدعو إليه عن يقينٍ واقتناع، وأود أن أؤكد أنني قد انتهيت من مراجعة الشريعة الإسلامية ودراستها إلى أنه ليس في تشريعات الأجانب وقوانينهم ما لا يتضمنه القرآن، والحلال بينٌ والحرام بينٌ وكلاهما واضحُ المعالم والحدود إلى يوم الدين، أما ما سماه الرسول صلى الله عليه وسلم (عفوًا) وهي المسائل المباحة فيمكن لولي الأمر أن يردَّها طبقًا لما تقضي به المصلحة العامة، وإني أستند في ذلك إلى القرآن أيضًا لأن طاعة ولي الأمر واجبةٌ بنصِّ القرآن.

هذا ما قلته أمام اللجنة التي أعلن رأيي هذا وأنا على يقين من أنهم لن يأخذوا به، ولكن لا حرج عليَّ في ذلك ما دمت مؤمنًا بما أقول.

وأكبر ظني أنه بعد فترة قد تمتد إلى عشرين سنة سيتجه الرأي إلى الأخذ بما أقول، وكلما شرح الله صدورَ الناس بالقرآن قرب ذلك اليوم وساد هذا الرأي.

ولقد رأينا أن جميع القوانين التي أخذناها عن الأجانب لم تُصلح من حال البلد، ولم تُحقق ما كان يُرجى منها، فهذه السجون ملأى بنزلائها، والجرائمُ تزداد والفقرُ ينتشرُ والحالةُ الخلقية والاجتماعية تسوء كل يوم عن سابقه، ولن يصلح الحال إلا إذا نظمنا علاقاتنا بالسنة الكونية وهي القرآن، وعشنا في بيوتنا ومع أولادنا ومع الناس أجمعين عيشةً قرآنية".

وفي نفس اليوم الذي نُشرت فيه كلمة الهضيبي في أخبار اليوم نشرت (الإخوان المسلمون) الكلمةَ الآتية بقلم: المجاهد الكبير العلامة (محب الدين الخطيب) صاحب مجلة الفتح والمطبعة السلفية، يحيى فيها الأستاذ الهضيبي، ويوافقه فيما ذهب إليه من وجوب تطبيق الشريعة الإسلامية، ويزيد الموضوع بيانًا وتفصيلاً، فيقول:

"في الساعة التي كان جيشنا يتخطى فيها الحدود إلى فلسطين وقف الأستاذ الأكبر شيخ الجامع الأزهر متوجهًا إلى الله عز وجل يطلب منه النصر لهذا الجيش.

والله عز وجل وعدنا النصر، وعلَّق الوفاء بهذا الوعد على نصرتنا له، ولكن كيف ننصر الله؟ لقد نصرناه بمقاومتنا لباطل الصهيونيين، ونصرناه بإخلاص النية لله في هذا الجهاد.

ونصرناه بما نتبرع به كبارًا وصغارًا لتأييد المجاهدين.

وهناك جانب آخر ننصر به الله لنستحق عليه النصر من الله، هو الدعوة إلى تعميم الأخلاق والأحكام والمبادئ والقواعد التي ترضي الله.

الإمام حسن الهضيبي وفقه إدارة الأزمات

كتب الأستاذ وليد شلبي يقول :

تعد إدارة الأزمات واحدةً من أهم وأخطر الإشكاليات التي تواجه الحركة الإسلامية على وجه العموم، فالعمل الإسلامي سواء كان دعويًّا أو حركيًّا على المحك دائمًا وفي ظل غياب الأُطر المؤسسية القانونية لدول العالم الثالث فإن العمل الإسلامي شأنه شأن أي عمل يواجه أزمات أو يصطدم بعقبات إدارية أو أمنية أو سياسية حتى ولو حاول أن يعمل في ظل الأُطر القانونية القائمة، أو أن يحصل على "صك" القانونية.

وإذا كان بعض علماء الإدارة يعرِّفون الأزمة بأنها "ذلك الحدث السلبي الذي لا يمكن تجنبه أيًّا كانت درجة استعداد المنظمة، "فإن القائمين على العمل الإسلامي في حاجةٍ إلى ما يمكن تسميته بـ"فقه إدارة الأزمات"، فإدارة الأزمة ليست سهلةً ميسورةً، ولكنها تُعد أحد أهم وأخطر عناصر العمل الإسلامي، فإذا لم يُحسن التعامل معها قد تجر على العمل ويلات كثيرة، فلا بد من تحليل أي مشكلة، ودراسة البدائل في ظلِّ الإمكانات المتاحة، والظروف القائمة، وحسابات الأضرار والمنافع واعتبارات المقاصد الشرعية، وتلمس الحلول المناسبة، دون تفريط في "الثوابت" الخاصة بالعمل أو الخروج عن أُطره.

فمتى يكون القرار صلبًا حاسمًا ومتى يكون مرنًا لينًاً، وكيف تُدار الأزمة للخروج بأقل الخسائر ودون تأثير جوهري على العمل الدعوي وأركانه وأساسياته، بل كيف تُدار الأزمة للاستفادة منها واستثمارها وتحويلها من نقمة إلى نعمة، وكيف يُحافظ من يُدير الأزمة على وحدة الصف في ظل ظروف الأزمة، كل هذا يحتاج لفقه إدارة الأزمات، وأحسب أن العمل الإسلامي عمومًا وقادته خصوصًا في حاجةٍ لهذا الفقه بشدة ليُحسنوا التعامل مع الأزمات من حولهم.

وللأسف الشديد فإن الكثير ممن يعملون على الساحة الدعوية يفتقدون إلى "فقه إدارة الأزمات" مما يُوقعهم في إشكالات أو صدامات مختلفة، تعطل العمل، بل وقد تُعيقه لفترة ما طويلة أو قصيرة عن الساحة.

وإذا كانت جماعة الإخوان المسلمين بتجربتها الكبيرة أدركت هذا الأمر جيدًا، وأخذت تتعامل مع الأزمات بمنظورٍ علمي، ورؤى شرعية، وقرار شوري فإن الإمام حسن الهضيبي يرحمه الله يُعد أفضل مَن أدار الأزمات في العمل الإسلامي في العصر الحديث في إطار دعوي، فلقد واجه الرجل أزماتٍ كثيرةً من داخل الصف (جماعة الإخوان المسلمين) ومن خارجه (الحكومة المصرية) في ذلك الوقت، وأدارها كأفضل ما يكون بمهارة واقتدار.

وإذا نظرنا إلى الظروف التاريخية التي عاش فيها الرجل- داخلية أو خارجية- والمحن التي تعرَّضت لها جماعة الإخوان المسلمين في عهده والتي بلغت من الشدة والقسوة والضراوة الدرجةَ التي تزلزل أركان أي تنظيم أو جماعة، ما لم تكن هذه الجماعة تُخلص لله وحده، وقائمة على أسس عقدية وفكرية سليمة، ولها في ذات الوقت قيادةٌ ذات قدرة على التعامل مع الأزمات وغنية بمعرفة فقه الأزمات ومتأصل فيها وليس شعارًا.

ولقد مَنَّ الله على الإخوان المسلمين بالإمام حسن الهضيبي ليقودَ الجماعة في ظلِّ أعتى وأشد المحن التي تعرَّضت لها الجماعة في تاريخها، واستطاع بفضل الله أن يتعاملَ مع هذه الأزماتِ بمهارةٍ فائقةٍ في ظلِّ ظروفٍ حالكةِ السواد، واستطاع أن يقودَ السفينةَ كأمهر ربان في بحورٍ متلاطمة الأمواج لينجوَ بها ويصلَ بها إلى برِّ الأمان، محافظًا على ثوابت العمل وأُسسه والأُطر التي وضعها مُؤسسها الأول الإمام الشهيد حسن البنا يرحمه الله.

فعن فطنة وكياسة الأستاذ الهضيبي في إدارة الأزمات التي حلَّت بالجماعة وعن منطلقاته الدعوية يقول الأستاذ عمر التلمساني يرحمه الله: "وإذا كان حسن البنا قد مضى إلى ربه وترك النبتةَ يانعةً فتيَّةً، فقد كان حسن الهضيبي علاَّمة زمانه، ومشعل عصره، يوم حمل الراية حريصًا لم يُفرط، عزيزًا لم يَلن، كريمًا لم يَهُن، وأدَّى الأمانة أمينًا في عزم، قويًّا في حزم، ثابت الخُطى في فهم، فأكد معالم الفهم السليم للإسلام الصحيح في القول وفي العمل، لم يُثنه حبل المشنقة، ولم يُرهبه سجن ولا تعذيب، بل زاده الأمر إصرارًا على إصرار، وصمودًا فوق الصمود "مجلة الدعوة العدد الأول رجب 1396 هـ".

وإذا كنَّا ندرس نظرياتِ الآخرين وتجاربهم في كيفيةِ إدارةِ الأزمةِ فإن ما قام به الإمام حسن الهضيبي يستحق أن يُدَّرَس وأن يكون نبراسًا يُضيء للعاملين للإسلام الطريق في كيفية إدارة الأزمات، الأمر الذي جعل الإخوان المسلمين يخرجون من المحن والسجون على عكس ما كان يُستهدف لهم، صبروا و صابروا وجاهدوا أعظم الجهاد، بل وكانوا نواةً لجيلٍ جديدٍ حمل عبء الدعوة والحركة، وهذا بفضل الله أولاً، ثم بفضل الأُسس التربوية السليمة التي وضعها الإمام المؤسس الشهيد حسن البنا يرحمه الله وتعامل القيادة الواعية مع قضاياها وقضايا الأمة بمنظورٍ شامل، ومنهجية ثابتة.

فجماعة الإخوان المسلمين كانت في أشد الحاجة في تلك الظروف لمثل هذا النوع من الرجال الذين قيَّضهم الله ليقودوا دفةَ العمل، ويكونوا كالهضابِ التي تنكسر عليها النصال ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾ (الأحزاب: 23) ليقودها في ظلِّ تلك الظروف القاسية، ليقفَ في وجهِ الهجماتِ والضرباتِ المتتالية، صامدًا معينًا إخوانه على الصمود، ومخلصًا معينًا إخوانه على الإخلاص، حازمًا قويًّا لا تلين له قناةٌ، محافظًا على ثوابتِ الجماعة، منافحًا عن الحركةِ برؤية القاضي الصارم المتجرِّد في مواجهة من حاولوا الخروج عن الصف، والالتفاف على الشرعية، فالكل سواء، ومصلحة الجماعة أهم بكثير من مصلحة البعض الذين حاولوا استغلال الجماعة لأغراض شخصية أو لأهداف ضيقة.

فلقد كان يتمتع يرحمه الله بروح القائد، وعلم الفقيه، وضمير القاضي، وثبات وصلابة المجاهد، وقبل ذلك إخلاص وورع الزاهد العابد، لذلك نصره الله وأيَّده وأرشده لأصوب القرارات في أصعب الأوقات.

قد ينظر البعض للمحن التي تعرَّض لها الإخوان في عهده بنظرة سلبية كأنه هو المسئول عنها، وقد أثبتت الأحداث غير ذلك، بل إن أسلوبه في إدارة الأزمة حَوَّلَ هذه المحن إلى نِعَم، وقد حققت الجماعة في ظل الأزمة ما لم تحققه في لحظات الانفراج، وظهر جيل جديد من الإخوان ليقودَ العملَ في أحلك الظروف، بثبات، وقوة، ووعي وإدراك لظروف المرحلة. ورفع مستوى المفاهيم التربوية في نفوس الإخوان وإذكاء روح الأخوة العملية بينهم، فلم تكن المحن كلها بلاءً، ولكنْ مَنَّ الله على الإخوان ببعض الإيجابيات التي تستحق أن تكون درسًا للأجيال. وسنتناول هنا بعض الأسس التي اتبعها الإمام الهضيبي في إدارته للأزمات لتكون درسًا، وعلاماتٍ على الطريق لمن يسلكون طريق أصحاب الدعوات.

الأسس التي اتبعها الإمام الهضيبي في إدارته للأزمات

وأبرز هذه الأسس:

أولاً: الاعتماد على الله :

فالدعوة دعوة الله، وما وقف الإخوان هذه المواقف وما تعرضوا لتلك المحن إلا لله وفي سبيل الله، لذلك كان الاعتماد على الله سبحانه هو الأساس في المواجهة ﴿وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ، إِنَّ اللَّهَ بَالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْءٍ قَدْرًا﴾ (الطلاق:3).

فالاعتماد على الله سبحانه عنصر أساسي وبديهي في إدارة الصراع بين الحق والباطل، وهذا من صلب العقيدة؛ فالله هو المعين وهو الملجأ والملاذ وهو الغاية والهدف، ولا يجوز أن يديرَ مسلم مواجهةً بين الحق والباطل بدون طلبِ العون والغوث من الله سبحانه.

ثانيًا: التركيز على الثوابت التربوية :

يقول رحمه الله- موجهًا كلامه للإخوان محددًا دورهم ومهمتهم:

"إن الله جعلكم جنودًا لقضية الحق والفضيلة والعزة في وطنكم وفي العالم الإسلامي كله، وإذا كان من واجب الجندي المخلص أن يكون مستعدًا دائمًا لما يؤدِّي بكم إلى النصر في الحياة، فطهِّروا قلوبَكم وحاربوا أهواءكم وشهواتكم قبل أن تحاربوا أعداءكم، فإن من انهزم بينه وبين نفسه في ميدان الإصلاح أعجزُ من أن ينتصرَ مع غيره في معركة السلاح" (مجلة الدعوة 1397هـ)

فهو هنا يركِّز على إصلاح النفس كخطوةٍ أوليةٍ في المواجهةِ، فلا بد للنفسِ أن ترقى لمستوى يؤهِّلها لتحمل التبعات الجسام في مجال العمل عمومًا أو في مجال المواجهة التي ستفرض نفسها بعد ذلك.

ثالثاً: وضوح الهدف :

فتحديد الهدف ووضوحه مطلوب عمومًا، وخاصةً عند الأزمات؛ ليعرفَ الإنسان على أي شيء سيثبت أو من أجل أي شيء سيضحي، فغياب الفهم الصحيح للهدف قد يسبب من المشكلات الكثير، يقول يرحمه الله تعالى: "إن دعوة الإخوان المسلمين لم تعد دعوةً محليةً تنحصر في حدود وطنٍ صغير، وإنما غدت عالميةً تشمل العالم الإسلامي بأسره وتوقظ في المسلمين روحَ العزة والكرامة والتقوى، فهي اليوم عنوانُ انبعاث لا نوم بعده، وتحرُّر لا عبودية معه، وعلم لا جهل وراءه، ولم يعد من السهل على أية طاغية أن يحولَ دون انتشار هذه الروح أو امتدادها؛ وما ذاك إلا لأنها تعبيرٌ صادقٌ عن شعور عميق، ملأ نفوس المسلمين جميعًا ويستولي على مشاعرهم وعقولهم، وهو أنهم لا يستطيعون اليوم نهضة بدون الإسلام، فالإسلام في حقيقته ضرورةٌ وطنيةٌ واجتماعيةٌ وإنسانيةٌ "المرجع السابق" فهذه هي أهداف الإخوان المسلمين، عالمية وشمولية الإسلام، وعلى مَن يلتحق بهم أن يفهم ذلك ويدركه ويعمل معهم من أجل تحقيق هذه الأهداف السامية.

رابعًا: الثقة في نصر الله :

يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ﴾ (الحج: من الآية 40)، ولعلَّ هذه الآية كانت أمام الأستاذ حين قال: "فكونوا مستعدين دائمًا لما يؤدِّي بكم إلى النصر في الحياة، فطهِّروا قلوبَكم وحاربوا أهواءكم وشهواتكم قبل أن تحاربوا أعداءكم.. فنصرة الله في ذات النفس عنصرٌ هامٌّ لطلب النصر من الله، ثم الثقة من نصره سبحانه، ويؤيد ذلك قوله يرحمه الله: "ولم يعد من السَّهْل على أيةِ طاغيةٍ أن يحولَ دون انتشارِ هذه الرُّوح أو امتدادها"، فلنكن على ثقةٍ مـن نصر الله ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾ (الروم:47) فلنأخذ بالأسباب أولاً، ثم نترك الأمرَ كلَّه لِلَّهِ ونثق بما عند الله، وأن النصرَ قادمٌ لا محالة إذا قدَّمنا له كلَّ ما نستطيع من جهدٍ وبذل وتضحية، وما كان نصر الله للإخوان وإعانته لهم على ما كانوا فيه من شدة وخروجهم ثابتين على الحقِّ غيرِ مبدلين، إلا خير دليل على ذلك. وإن انتشار العمل الإسلامي الكبير هذه الأيام لأكبرُ شاهد، فمن كان يعتقد منذ 45 سنة أثناء المحنة والقتل والتعذيب والاعتقال وأحكام الإعدام أنه ستقوم للإخوان قائمة، لم يعتقد ذلك إلا الإخوان فقط، وذلك لثقتهم الفائقة في نصر الله.

خامسًا: الشجاعة:

فهي ركن أساسي وهام في إدارة الأزمة، فإذا وهن القائد أو تخاذل فسينهار كل من خلفه إلا من عصم ربي، ولقد كان الإمام حسن الهضيبي من الشجاعة بمكان ليقف في وجه أعتى التحديات.

يقول الأستاذ أحمد البس (أحد قيادات الإخوان) يرحمه الله مستشهدًا ببعض عناوين الكتابات التي كانت تحاول أن تنال من عزيمة من يريد أن يخلف حسن البنا: "من يقبل أن يكون قائدًا لجماعة اشترك الملك ورئيس الوزراء في قتل مرشدهم".

"من يقبل أن يكون خلفًا لزعيم قُتلَ على قارعة الطريق ، وتُركَ دمه حتى ينزف كله فيموت".
"من يتعرَّض لقيادة جماعة منعت الحكومة أن يُشيع جسد مرشدها، وقد حملته النساء على أكتافهن "الإخوان المسلمون في ريف مصر".

فهذا هو الجو العام الذي قَبِلَ فيه بعد إلحاحٍ شديد الإمام الهضيبي قيادةَ الجماعة، فأي شجاعة هذه التي تجعله يَقبل قيادة جماعة في مواجهةٍ مع السلطة وقد يكون مصيره نفس مصير سلفه؟! ولكنها الشجاعة والإيمان الراسخان في النفس ﴿قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ﴾ ( التوبة: 51) وكذلك في مواقفه الكثيرة مع قادة الانقلاب العسكري آنذاك ما يؤكد ذلك.

سادسًا: الحزم والحسم :

وهما عنصران مهمان في إدارة أي أزمة، فهناك لحظاتٌ لا بد من الحزم والحسم؛ حتى لا تستفحل الأمور وتخرجَ عن نطاق السيطرة، ولعلَّ موقف الهضيبي تجاه تصفيةِ النظام الخاص أعظم درسٍ على وجوب الحزم في مواجهة مَن يحاول العبث بمقدرات العمل ولا يلتزم بقرارات القيادة، ويعتبر نفسه فوق القيادة وأقوى من الجميع، فقد قرَّر فصل عبد الرحمن السندي رئيس النظام الخاص وهو يعلم ما يمكن أن يجرَّه عليه من مصاعبَ ومشكلاتٍ، ولكنها الإدارة الحازمة.

فهناك لحظات حاسمة في تاريخ العمل لا يمكن فيها التهاون ولا تميع المواقف ولا القبول بأنصاف الحلول، فلا بد من موقفٍ حازمٍ واحدٍ لا رجعةَ فيه للحفاظ على وحدة الصف وكيان الجماعة.. شائكةٌ مثل تلك المواقف.. تحتاج لقيادة واحدة ورأي واحد حازمٍ وحاسمٍ ليجتمع الكل عليه، ولأنْ نجتمع على الصواب خيرٌ من أن نفترقَ على الأصوب.

سابعًا: الثبات على الابتلاء:

يقول الله سبحانه وتعالى: ﴿وَكَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قَاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَمَا وَهَنُوا لِمَا أَصَابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَمَا ضَعُفُوا وَمَا اسْتَكَانُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾ (آل عمران: 146).

ويقول سبحانه:﴿الم أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ﴾ (العنكبوت: 1).

فالابتلاء طبيعةٌ في الدعوات، والصبر عليها طبيعةُ الأنبياء والصالحين، ولقد صبر الإخوان بفضل الله على الابتلاء الهائل الذي تعرَّضوا له، وضرب الإمام حسن الهضيبي أروعَ المثل في ذلك، يقول الأستاذ أحمد البس:

"استيقظ الباطل لتبدأَ سلسلةٌ من المحنِ الجازمةِ والحوادثِ الكالحةِ داخل صفوفِ الإخوان وخارج الإخوان، وأخذ الباطل بتلابيب رجال الدعوة، وفي مقدمتهم مرشدهم حسن الهضيبي وأسرته.

فقد نكل به وبمن حوله، وصمد الرجل صمود الأبطال، وضرب المثل المشرف الجميل، تلكأ الإخوان وخرج بعضهم عن قيادته ووصفوه بما لا يليق، وكان هذا كافيًا لأن يفرَّ من الميدان الشائك الملتهب.

كل هذا واجهه حسن الهضيبي، فلم يطرف له جفن ولم تغمض له عين ولم يهدأ له بال من يوم أن أصبح مرشدًا للإخوان إلى أن لقي ربه، اللهم إلا إذا كان هدوء باله وراحة قلبه أن يعمل لربه دون سواه "الإخوان المسلمون في ريف مصر".

ونجد هنا الثبات على الابتلاء المعروف من سجن وتعذيب وإعدام، كما نجد أيضًا الثبات على الابتلاء من داخل الصف فالصف ليس بصف أنبياء ولا رسل، وحدوث أخطاء صَغُرت أم كَبُرت أمر وارد ويبقى الثبات على هذا الابتلاء الأليم على النفس بطبيعية الحال وإدارته بحنكة للخروج بأقل الخسائر الممكنة.

ولعلَّ في قول الأستاذ عمر التلمساني يرحمه الله أكبرَ دليلٍ على ثباتِ الرجل على عقيدته ومبدأه وعلى أشد أنواع الابتلاء؛ حيث يقول عنه: إنه أكد معالم الفهم السليم للإسلام الصحيح في القول وفي العمل، لم يثنِهِ حبل المشنقة، ولم يرهبْه سجنٌ ولا تعذيبٌ، بل زاده الأمر إصرارًا على إصرار، وصمودًا فوق الصمود.

وصدق الله عز وجل إذ يقول:

﴿أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ﴾ (البقرة: 214).

ثامنًا: الثبات على الموقف والمبدأ :

فكما يُقال: "الرجل موقف" ينطبق هذا على الإمام المرشد، فلقد صبر الرجل على مواقفه ومبادئه، ولم يتزحزح عنها قيد أنملة، ولم يَحِدْ عنها لا بتهديدٍ ووعيدٍ ولا بترغيب، وكان هذا واضحًا جليًّا في موقفه من قادة انقلاب يوليو في عدم قبول أي مشاركة ولو نسبية في الحكومة ما لم تطبِّق الشريعة الإسلامية، وهذا ما اتفق عليه قبل الثورة.

لقد ظنَّ قادة الانقلاب أنهم سيغرونه بعدة وزارات أو مناصب ولكنهم واجهوا صنفًا جديدًا من الناس لا يلهث وراء منصب، ولكنه يضحي بكل منصب أو جاه دنيوي في سبيل عقيدته ومبدأه وفكره المستمد من القرآن والسنة، فهنا يبرز ثبات المجاهد الصادق.

وعندما قبل بعض الإخوان بعض المناصب رفض المرشد هذا ولم يقبل بغير استقالتهم من الإخوان؛ لأن الإخوان ليسوا دعاة مناصب ولا سلطة ولا بد أن يثبتوا على الضراء والسراء كذلك.

يقول الأستاذ عبد الفتاح المحروقي في كتابه "في صحبة المرشد العام الإمام حسن الهضيبي" قال (يعني المرشد): كنت أتعامل مع جمال عبد الناصر على أنه أحد الإخوان المسلمين، وكان عبد الناصر يقول لي: أنت والدي وأنا ابنك، وأقول له: لا عذرَ لنا إن لم نحكم بما أنزل الله، فقد صار الحكم إلينا، وهو يقول: يحكم كل منا الإسلام في بيته، أما الدولة فلا شأن لها بذلك.

وإذا كان هذا فكره، وهذا أسلوب الحكم عنده، وأن الدولة لا شأنَ لها في الحكم بما أنزل الله فقد حدَّد موقفنا منه، ونحن على موقفنا في المطالبة بالحكمِ بما أنزل الله، وهل هذا الموقف جريمة تستحق الاعتقال وتعذيب المعتقلين؟

أو تدبير جرائم الاغتيال والقتل؟ نحن لا يهمنا أن نموت شهداء في سبيل هذا المبدأ الكريم، وهو المطالبة بالحكم بما أنزل الله، فهذا يؤكد ثبات الرجل على موقفه في ظلِّ أقصى ظروف المحنة والأزمة، وأنه لا مجالَ فيها للتنازل أو الترخص المذل المهين، والذي سيؤدِّي إلى غضبِ الله لتخلينا عن مبدأ الحكم بما أنزل الله مقابل تهديد أو ترغيب دنيوي زائل.

وفي اعترافٍ صريحٍ بموقف المرشد حسن الهضيبي من الإصرار على تطبيق أحكام القرآن يقول البيان الذي صدر في يوم 15 من يناير 1954م عن مجلس الثورة بحل جماعة الإخوان المسلمين: "... فقال له البكباشي جمال عبد الناصر في منزل الأستاذ صالح أبو رقيق الموظف بالجامعة العربية، وقد بدأ المرشد حديثه مطالبًا أحكام القرآن في الحال، فردَّ عليه البكباشي جمال إن الثورة قامت حربًا على الظلمِ الاجتماعي، والاستبداد السياسي والاستعمار البريطاني، وهي بذلك ليست إلا تطبيقًا لتعاليم القرآن الكريم.." بيان مجلس الثورة.

تاسعًا: لين الجانب ومراعاة لحظات الضعف البشري :

فعلى العكس تمامًا من الحزم والحسم في إدارته للأزمات السابقة من حل للنظام الخاص وعدم التنازل عن أي مبدأ لرجال الحكم آنذاك نجده لين الجانب مع إخوانه يتعامل معهم بروح الأب الحنون.

يقول الأستاذ عبد الفتاح المحروقي: "كان رحمه الله تعالى يلقي إليَّ بهذه الأفكار في هدوء عميق جعلني أشعر أنني أعيش مع أبي، وأن أبوتَه لي أبوةٌ حانيةٌ كريمةٌ، بالإضافة إلى أنه مرشدي وإمامي، فكان تقديري له تقديرَ الابن البارِّ بأبيه الحاني الكريم بالإضافة إلى أنه مرشد عام لجماعة الإخوان المسلمين التي امتدَّ نشاطها إلى كل أنحاء العالم" (كتابه السابق).

وبينما هو يتعرَّض في السجن للتعذيب الوحشي والإهانات المتلاحقة في ظل ظروف صحية متدهورة، نجده يحرص على إخوانه ويشفق عليهم من ظروف المرحلة، حتى من طلب منهم أن يؤيِّدَ النظامَ ويخرج من السجن لم يمنعْه أو حتى يعارضْه أو يناقشْه، فلم يُذكر عنه أنه منع أحدًا أو حتى ناقشه في مواقفَ اتخذها تجاه النظام ليخرج من السجن، فقد سمح لكل من جاء يطلب الأذن باتخاذ موقف التأييد، وكان يرفع عنه الحرج.

فقد كان ينظر للحظات الضعف البشري التي تنتاب النفس بمنظور القائد الإنسان، فهو لا يريد أن يُحمِّل إخوانه فوق طاقتهم أو أن يضعَ نفسه في موقف المقارنة أو التفضيل مع الذين يريدون الخروج.

﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ﴾ (آل عمران: من الآية 159).

عاشرًا: مراعاة الضوابط الشرعية :

فلقد أرسى ورسَّخ يرحمه الله قاعدةً عامةً وهي عدم جواز اجتماع الصف على رخصة؛ فهو وكثير من الإخوان لم يؤيِّدوا ولم يخرجوا من السجن، وعندما ناقشه بعض الإخوان عن سبب سماحه لكل مَن جاء يطلب التأييد والخروج بذلك، قال: ألم يشاهدوني فأني لم أؤيد.

فهو لم يؤيد ليخرج من السجن وهو في ذات الوقت لم يقف في وجه الطبيعة البشرية ولحظات الضعف التي تنتابها، فمن جاء ليستأذن سيخرج وسيؤيد فلماذا الإحراج ووضعه في موضع المفاضلة وتجرئته على قراراتِ القيادة، وهنا تكمن حكمة القائد في تقدير المواقف وتأصيلها شرعيًّا وعدم وضع إخوانه موضع المفاضلة بين العمل ولحظات ضعفهم.

وكذلك موقفه من فكر التكفير كما سيأتي دليل واضح على لزوم الضوابط الشرعية في مختلف الظروف الصعبة التي قد تمر بالداعية والعمل.

حادي عشر: وحدة الصف والحفاظ على سلامة الأفراد :

يقول الله عز وجل: ﴿وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تََفَرَّقُوا﴾ (آل عمران: من الآية 103)، ويقول: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيَانٌ مَرْصُوصٌ﴾ (الصف:4)، ويقول: ﴿وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ﴾ (الأنفال: من الآية46)، فالآيات والأحاديث في هذا الباب كثيرة والمواقف المؤيدة لها من السنة المطهرة كثيرة كذلك، ولقد حرص الإمام يرحمه الله أيما حرص على وحدة الصف بدأ من حزمه الشديد في تصفية النظام الخاص، وحرصه على لمِّ شمل جميع الإخوان ثم زياراته للعديد من قرى مصر على الرغم من سوء حالته الصحية ومن الشيخوخة التي يعاني منها.

يقول الأستاذ أحمد البس: "وسار بالدعوة يدفعها للأمام، وكان قليلَ الكلامِ قليلَ الحركةِ قبل دخوله الإخوان، يعاني الشيخوخةَ والمرض، فإذا به من النصحاءِ الحكماءِ يخطب بالساعاتِ ويتحرك بالليل والنهار، يزور البلاد ويواجه المشكلات ويتعرض للأزمات والدعوة منطلقة من بين يديه وبمساعدة الإخوة الخلصاء، وقبل هذا بتوفيق الله تعالى إلى بلوغ مناها من تجميع وتكوين وتركيز وإصرار" (كتابه السابق).

لقد كانت وحدة الصف من أهم أولويات الإمام، ولقد وفقه الله سبحانه أن يجمع الإخوان ويوحِّدهم بعد ما ظن البعض أن الخلافات الداخلية قد تأتي على الإخوان وتفرقهم، وعندما عرض عليه بعض رجال الدولة أن ينضموا لهيئة التحرير التي أنشأوها لضرب الإخوان أصلاً رفض؛ لأن في ذلك تفريقًا للصفِّ وحيادًا عن المنهج والأمانة التي أولاه إياها الإخوان.

وكذلك في سماحه لبعض الإخوان الذين جاءوا يطلبون الإذنَ بالتأييد للخروج من السجن وويلاته لدليلٌ على وحدة الصف، فهو لا يريد أن يخسرهم أو يصنفهم على أنهم خارج الصف، فهم من الإخوان وإن ضعفوا في لحظة من اللحظات.

ومن أبرز الأمثلة على حفاظ الإمام حسن الهضيبي على وحدة الصف وسلامة الأفراد عندما حاول عبد الناصر أن يأخذ منه أسماء أعضاء النظام الخاص، يقول الأستاذ عبد الفتاح المحروقي:

"قال (عبد الناصر): وتعطيني أسمـاء أعضاء النظام الخاص (الجهاز السري) لأراقبهم.

قلت (المرشد): لتعتقلَهم.. أليس كذلك؟ لا.. أنا لا أوافق على إعطائك أسماء الإخوان، لأن ذلك يعتبر خيانةً مني، ولقد وضعت أنت يا جمال الأسلحة في مخزن في ضيعة (عزبة) مباشر عزبة والد الأستاذ حسن العشماوي سنة 1952م بعد حريق القاهرة في 26 يناير 1952م وفي يناير 1954م قبضت على حسن العشماوي وقدمته للمحاكمة بتهمة حيازة الأسلحة" (كتابه السابق).

فأي عظمة يشملها هذا الموقف بأنه يحمي الصف بنفسه وأنه يقول كلمة الحق لسلطانٍ جائرٍ في وجهه لا يخشى في الله لومة لائم، فهكذا ينبغي أن تكون القيادة تحافظ على إخوانها وتدافع عنهم وتحميهم بنفسها إذا اقتضى الأمر ذلك.

وهذا كله يحمي الصف ويقويه، ولقد كانت لهذه المواقف والكثير غيرها أكبر الأثر في إثراء روح الأخوة ووحدة الصف، مما أثَّر على صمود الإخوان بعد فضل الله- للمحن المتتالية في صف متين صعب على أعدائهم هدمه أو النيل منه.

فهذا يعني أن يكونَ نصب أعين من يدير أزمة إن وحدة الصف وسلامته وسلامة أفراده هدف إستراتيجي لا يمكن الحياد عنه.

ثاني عشر: مواجهة أي بوادر لانحراف الفكر :

وأبرز دليل على ذلك عندما بدأ في الظهور داخل المعتقلات فكر التكفير تحت وطأة التعذيب والامتهان الذي تعرضوا له في السجن، فكان المرشد سبَّاقًا لمواجهة هذا الفكر وتفنيده وأصدر كتابه القيم "دعاة لا قضاة" ليضعَ الأسسَ الصحيحةَ في هذا الموضوع، وليعيدَ الفهم الصحيحَ لعقول مَن انحرف بهم الفهم، وكذلك وضع الضوابط الشرعية التي تحكم هذه المنطقة الحساسة في التعامل بين الحاكم والمحكوم وموقف الإسلاميين ممن بغوا عليهم.

ثالث عشر: استشراف المستقبل:

فالحفاظ على الأهداف المستقبلية للعمل والحركة واجبٌ على مَن يدير الأزمة، فطبقًا لها يستطيع أن يأخذ قراره بوضوح تام.

كما يجب عليه أن يتمتعَ بسرعة اتخاذ القرار السليم المناسب طبقًا لأولويات الحركة وأهدافها المستقبلية، فقد يكون القرار سليمًا ولكنه غير مناسب لمرحلة ما، فلذلك لا بد أن يكون القرار سليمًا ومناسبًا في الوقت نفسه، ونرى هذا واضحًا في موقف الإمام الهضيبي من قادة الانقلاب وعدم تعاونه معهم وقبول بعض المناصب الوزارية، فالإخوان أهدافهم أسمى وأنبل وأرقى من أن تُقاسَ بمناصبَ وزاريةٍ زائلةٍ، فمستقبل الجماعة كان أمانةً بين يديه لذلك رفض هذا العرض، فإما تطبيق كامل للشريعة يتبعه مشاركة في الحكم (حسب المتفق عليه قبل الانقلاب) وإما عدم تطبيق، وعندها فلا مشاركة، وذلك لما يتبعه من إضفاء شرعية للنظام، وقد كان في أمس الحاجة إليها، فتلك قضية لا تقبل الحلول الوسط، وهي في الوقت نفسه تمس مستقبل الجماعة ومدى مصداقيتها لدى جموع الناس.

فتلك بعض الأسس التي اتبعها الإمام حسن الهضيبي يرحمه الله في إدارته للأزمات الطاحنة التي مرَّت به داخليًّا وخارجيًّا، والتي استطاع بفضل الله أن يبليَ فيها بلاءً حسنًا، وأن يخرجَ منها بأفضلَ وأطيبَ النتائج.

لقد كان من أعظم قادة العمل الإسلامي في إدارة الأزمات، فكان حازمًا وقت الحزم، ولينًا وقت اللين، وحاسمًا وقت الحسم، ورحيمًا وقت الرحمة، وقاضيًا وقت العدل، وفقيهًا وقت الفتوى، وهذه هي أبرز الصفات الواجب توافرها فيمن يدير الأزمة، فليس كل وقت يستحق الحزم أو الحسم أو اللين؛ فلكل موقف وضعه ورؤيته وقراراته، ولكل أزمة طبيعتها التي تستوجب علينا التعامل معها بما يلائمها، رحم الله الإمام الصابر المحتسب- الذي لم يُوفَّ حقه لليوم حسن الهضيبي، وجعل ما بذل في سبيله في موازين حسناته، وجمعنا وإياه في مستقرِّ رحمته.

مواقف حاسمة في حياة الهضيبي

يقول الأستاذ الداعية ( عبد الحكيم عابدين) صهر الإمام والشاعر المشهور :

من غير جلبةٍ ولا ضجيج، وبكل تواضعٍ واستخفاء، عبْر كلماتٍ في زاويةٍ من جريدة الأهرام، وقعت العيون على نبأ وفاة المرشد العام للإخوان المسلمين، أخي وأستاذي في الله حسن إسماعيل الهضيبي رحمه الله.

وأشهد ما كدت أتلقَّى النعي الأليم حتى أضاءت ملء خاطري وتلألأت في كل ما حولي هذه الآية الكريمة من سورة الأحزاب ﴿مِنَ الْمُؤْمِنِيْنَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنْتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيُلاً﴾ (الأحزاب: 23) كأنما تنزل الساعة، عليها جلال الوحي، رحمانية الجرس، ملائكية النبرات، عالية الترتيل، ذلك بأنَّ الراحلَ العزيز كان- فيما علمت وشهدت- تفسيرًا حيًّا لهذه الآية، وكانت سيرته واقعًا ملموسًا لما تحمل من شمائل، وما ترسم من مُثُلٍ ومحامد، وما تبشِّر به من مثوبةٍ ورضوانٍ.

في صباه الباكر، في شبابه الغضّ، في رجولته السوية، في كهولته الواعية، وفي شيخوخته الوقور، كان حسن الهضيبي الصادق الذي لا يكذب، العفّ الذي لا يترخَّص، المستقيم الذي لا يُداهن، الأبيَّ الذي لا يخنع، الشجاع الذي لا يدبر، الجَلد الذي لا يتذمر، بل كان كما قال العربي من قبل- لا يملّ حتى يملّ النجم، ولا يهاب حتى يهاب السيل، ولا يظمأ حتى يظمأ البعير!!

وكان فوق ذلك جذوةً من الإيمانِ والجهاد لا تسكن إلى دعةٍ ولا تهادن على مبدأ، عنوانًا على الخلق والترفُّع لا يستنزله عنهما إسفافُ حاسدٍ أو سلاطةُ منابذ، جبلاً في الثباتِ على ما يؤمن به، أرعدت القواصم أم أبرقت المغانم، منهلاً للإيثار يمنع الري نفسه وأهله حتى يشبع منه ذوو الحاجة الأباعد، داعية لا تُخطئ في أحد ممن يدخل في ولايته سلطان دعوته الغالب، وتلك خصيصة لا يشتد بخير فيها أزر المصلح المجاهد، ولا يبلغها من قادة الدعوات إلا الصفوة القلائل، وحسبك أن يمتدح بها القرآن الكريم أكثر من نبي مثل قوله تعالى: ﴿وَكَانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ وَكَانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)﴾ر (مريم).

ويقودني الإلمام بهذه الخصيصة من شمائل المرشد الراحل إلى التحدث عنه طيَّب الله ثراه في إثنتين من أبرز النواحي التي تميزت بها شخصيته ومعالم سيرته ومنهاجه:

أولاهما: الوحدة بين مبادئه وسلوكه متمثلة في نماذج من مواقفه وأخلاقه.
والأخرى: سلطان دعوته على أهل بيته ومن تشملهم ولايته.

وقبل الإسترسال في عرض هاتين الناحيتين، تقتضيني الأمانة والإنصاف أن أسارع إلى القول بأن روائع الإيمان والألمعية التي يشرق بها تاريخ الهضيبي كانت لازمة له بارزة في نفسه وعمله، قبل التحاقه بدعوةِ الإخوان المسلمين، وبعد أن تولى قيادتها خلفًا لسلفه العظيم الشهيد حسن البنا عليهما رضوان الله، لا يخطئ هذه الروائع فيه عابر طريق، ولا معاشرٌ لصيق!.

أعترف أن المقادير لم تهيئ لي فرصة التعارف المباشر إلى الراحل الجليل إلا وقد تجاوز الخمسين من عمره، حينما كان مستشارًا بمحكمة النقض (التمييز) المصرية، ولم يجاوز تأثري به يومذاك شعور الإعجاب بألمعي من رجالِ القانون يبلغ هذه الدرجة من الفقه الصحيح للشريعة، والفرح برجلٍ في هذا المنصب الرفيع يتدفق إيمانًا برسالةِ الإسلام الخالدة، وقدرتها دون سواها من المبادئ والدعوات على علاج مشاكل العصر، والوفاء بكل ما يتطلبه بناء الدولة الحديثة على أفضل وجه، بل بما يكفل سعادة البشرية من كل لونٍ وجنس.

بيد أنه منذ تولى قيادة الإخوان المسلمين، بدأت تفد إليَّ أوفر الأنباء من رفاقِ عمره، أقطاب القانون والقضاء، عما خفي عليَّ من تاريخ حياته، وراح أريج سيرته يعطرِ الأسماع والقلوب في قصصٍ تُشبه الأساطير عمَّا ألزم به نفسه وذويه من مثاليةِ السلوك فيما يفعل وما يترك وما يقول.

  • الأنس بالقرآن :

عُرف عن حسن الهضيبى ولوعه بكتابِ الله منذ حداثته، يُكثر القراءة فيه والغوص في معانيه ويزن عمله وسلوكه بأوامره ونواهيه، ويبادر إلى إلزام نفسه بما قد تغفل عنه من أحكامه وتوجيهاته، وكانت هذه الصحبة مع القرآن مصدر شمائله والأساس الذي لم تنفك عنه شخصيته طوال عهده بالدنيا.فلئن استظهر الكثير من أجزاءِ القرآن في صدره .

كما تدل على ذلك كثرة استشهاده بآياته فقد شارف الغاية من استيعابه حقائق من خلقه، وصراطًا لحياته، وكان يبلغ من غيرته على القرآن وإعظامه لمسئولية حامله وتاليه أن يشتد نكيره على مثل إذاعاتِ لندن وموسكو والصهاينة وباريس حين تستهل مناهجها بتلاوة القرآن وهي لا تؤمن به فتنزل بقدره إلى رتبةِ الأغنية أو الأنشودة التي تتملق بها مشاعر السامعين، وفي ذلك كل الاستخفاف بالمسلمين، مع ما للقرآن من حرمة، تفترض في مذيعه والمنصت إليه، أن يكون جنديًّا صادعًا بأمره، مقلعًا عن كل ما ينهى عنه.

  • الورع عمَّا يستبيحه الكافة :

انفرد الأستاذ الهضيبي أو كاد برتبةٍ عاليةٍ في الورع عمَّا تعارف عليه الناس على إباحته من توافه الأشياءِ التي تضعها الدوائر الحكومية والمؤسسات التجارية في خدمةِ موظفيها كالأوراق والأقلام وغيرها من المهملات إذ كان يُحرِّم على نفسه وذويه استعمال شيء منها في شأنٍ خاصٍّ، وكان يعود من المحكمة- وهو قاض أو محقق وفي حقيبته أكداس من ورقة التسويد الرخيصة (الخرطوش) ليخطط عليها مشروعات القرارات والأحكام القضائية.

فلا يسمح لنفسه قط باستعمال ورقة منها ولو كانت دون الأصبع في أمر يخصه أو يخص واحدًا من أهله، فإذا رآها واحد من أولاده في غرفته وطلب ورقة منها لبعض حاجته أنكر عليه أبوه وأعطاه قرشًا يشتري به ما يحتاج إليه من الورق ثم لقنه أمام إخوته الدرس الذي لم ينسوه بأن أوراق الحكومة ملك لها لا يحل لأحد أن يستخدمها في شأن خاص به.

  • مع خلطائه المسيحيين :

وكانت باكورة ولايته القضاء في مدينة جرجا في صعيد مصر، حيث تعلو في الطبقة المثقفة نسبة المسيحيين، الذين تهيئ لهم مراكزهم وثقافتهم الاختلاط بقاضي المدينة، ونظرائه من كبار الموظفين، فلفت نظر هؤلاء الأخوة عزوف القاضي الجديد عن مشاركة أنداده غشيان مواطن اللهو المباح، فضلاً عن الحرام، وراعهم منه خلافًا لأمثاله لا يحلف ولا يعمد إلى تثبيت قوله ورأيه بيمين؛

استنادًا إلى أنَّ من لا يصدق بلسانه لا يصدق بيمينه، بالإضافةِ إلى إيثاره الجد في غير تزمت والبشاشة في غير تبذل، فإذا بهم يلتفون حوله، ويُحيطونه بفيض من مشاعر الحب والتقدير، ويعلنون أنهم يحسدون عليه إخوانهم المسلمين، ويتمنون لو كان في طائفتهم مثله ليقيموا له النصب والتماثيل.

  • الجبين المرفوع.. أمام الملك فاروق :

محدثني "باشا" مصري من أعلام القضاء- كان يليه مباشرةً في ترتيب القضاة والمستشارين- أن الهضيبي كان أول مَن كسر تقاليد الانحناء بين يدي الملك، عند حلفه اليمين القانونية التي يؤديها أمامه قبل تولي مناصب المستشارين، إذ كانت دفعته حوالي عشرة، سبقه منهم خمسة لم يترددوا في الانحناء عند حلف اليمين رغم تهامسهم بالتذمر من هذا التقليد المهين.

حتى إذا جاء دور الهضيبي، الواهن البنية الصامت اللسان، فاجأ الجميع بأن مدَّ يده لمصافحةِ الملك وأقسم اليمين منتصب القامة مرفوع الجبين، بصورةٍ أنعشت الإباء فيمن بعده- وأولهم محدثي الباشا (س. ر) فأدى يمينه قائمًا عالي الرأس، وهو يقول لنفسه: "إذا شنقوا الهضيبي فليشنقوني معه"، وتبعهما سائر المستشارين فصافحوا الملك وأقسموا اليمين دون تخاضع أو انحناء.

  • لا زلفى لجبار.. ولا شماتة بمنهار :

أ - أمام الجبارين:

ومنذ برز اسم الهضيبي في القمةِ بين زعماء مصر ودعاه الملكُ إلى الاجتماعِ به دون طلب- خلافًا لكل السوابق المألوفة يومذاك راحت التعليقات والتكهنات تتكاثر وتتضارب حول الثمن الذي سيتكلفه الإمام الهضيبي وجماعته فيما توهم الناس لهذه البادرة التكريمية التي خصَّ بها مليك البلاد المرشد العام للإخوان المسلمين!.

أما الهضيبي المؤمن الصديق، الموصول أبدًا بملك الملك، فلم يزد على أن نقل سلام الملك الذي حمله إياه إلى إخوانه في الجماعة، ثم استأنف طريقه في الدعوةِ محرر الإباء من كل ما يمت بسببٍ إلى هذه المقابلة، بل معتصمًا بحكمته وإيمانه من أن تلحق بمثاليةِ الجماعة منها أية شبهة! وإليك، مما وقفت عليه بنفسي هذه الأمثلة الثلاثة:

اتصل به كبيران من أعوانِ الملك يسألانه موعدًا لزيارته، فما حدد لهم الموعد وكان بعد ثلاثة أيام حتى أخبراه بأنهما سيحضران معهما صورة الملك لتعليقها في دار الإخوان، وقبل الموعد ببعض ساعة هتف إليَّ من داره يكلفني بصرفِ الرجلين إذا سألاني عنه، ولما ذكرته بأن رد مثلهما بهذه البساطة سيورطني في أزمةٍ صارحني وكنتُ لا أعلم سبب الزيارة بألا مفرَّ من ردهما بأيةِ وسيلة لأنهما سيطلبان منه تعليق صورة الملك بالمركزِ العام، وهذا، لا يفعله ولو قُطعت يمينه!.وألهمني الله أن أقول له سأرسلهما إليك بالمنزل ولا حاجةَ لهذا الجفاء، وما عليك إلا أن تعتذر لهما بأن الإخوان قوم متزمتون يُحرِّمون التصوير، وسأبادر الآن إلى رفع صورة الإمام الشهيد من غرفةِ المركز العام، حتى يستقيم الاعتذار وما هو إلا أن سمعها حتى قال: "يرحم الله أباك، افعل وأنا في الانتظار"!!.

بعد أن اعتمد مكتب الإرشاد العام الصياغة التي أعدت بها مذكرتنا التقليدية لوزارة الدكتور علي ماهر بعد حريق القاهرة سنة 1952م وكلفني بطبعها وتوقيعها من المرشد العام دعاني إليه وأقبل على آخر سطرٍ منها يتضمن أماني التوفيق (في ظل جلالة الملك العظيم) فضرب بقلمه على عبارةِ (في ظل جلالة الملك العظيم) غير ملتفتٍ لتنبيهي بأن مكتب الإرشاد قد اعتمدها، ولا إلى كون هذه العبارة تقليدية، ولا إلى أن خلو الكتاب منها يُثير نقمةً في القصر الملكي، مجيبًا عليَّ كل ذلك بقوله: "احذفها على مسئوليتي، وحسبنا والملك والوزارة أن تكون في ظل الله وحده".

وفي ربيع العام نفسه، إذ كان طفلي هشام يُعالَج بمستشفى الدكتور عبد الوهاب مورو (باشا) قدم المرشد العام مشكورًا لزيارته، ولما همَّ بالانصرافِ بعد جلسةٍ طويلةٍ غمر فيها هذا الطفل ببره وعطفه، أشرتُ عليه بزيارة رئيس الديوان الملكي، وكان يعالج بنفس المستشفى، فلمَّا فُوجئت بإعراضه عن الفكرةِ وشرعت أعدد له محاسنها ومحاذير تركها، ولا سيما انه رؤى في نفس المستشفى، لأنه لا تكاد تمر لحظة دون أن يغص صالون رئيس الديوان بمجموعات من الأمراء ورؤساء الوزارات والشيوخ والنواب وكبار العلماء والوزراء ورجال الصحافة والأعمال، ورحتُ أقنعه بأن زيارة الرجل مجاملةً للملك، وهي عيادة مريض على كلَّ حال، إذا به يُصافحني مودعًا وهو يقول: "لقد قصدتُ اللَّهَ تعالى بعيادةِ ولدنا هشام، ولم أقصد الملك بزيارةِ رئيس الديوان"!!.

ب- لا شماتةَ بالمدبرين:

ويتمم هذه العظمة في خُلق الرجل أنه كان مثال النيل والترفع في مواقفه إزاء من أدبر عنهم السلطان، وانقلبت أحوالهم من عزٍّ إلى هوان، ولو كان فيهم مَن أسلف إليه أو إلى جماعته البغي والعدوان، والأمثلة التالية أصدق شاهد وبرهان.

  • - محنة الملك المخلوع:

على الرغمِ من مواقف الإباء التي التزمها الهضيبي تجاه الملك فاروق في أوج سطوته وسلطانه، وحين كانت أعلى الهامات تتفاخر بالانحناءِ بين يديه، وأمضى الأقلام تتبارى في نسبةِ القداسة والعبقريات إليه، رأينا هؤلاء جميعًا لا يلبثون عندما تحل نكبة الخلع والإبعاد به أن ينقلبوا في مثل لمحِ البصر إلى هجائين حداد الألسنة، شتامين مقذعي البذاءة، يصبون كل ذلك في غير حياءٍ من ماضيهم القريب ماضي اليوم والساعة على ذلك المخلوع الذي أصبح لا يملك حولاً ولا طولاً، ولا يستطيع لأحدٍ نفعًا ولا ضرًّا.

أما الهضيبي الذي رأينا مناعته في وجهِ الملك ومطالب حاشيته فقد ارتفعت به أصالة خلقه عن أن يتأثر بهذا التيار، ومَلَكَهُ سلطان التعفف والترفع فلم ينزلق ولا سمح لإخوانه أو صحفه بالانزلاقِ لحظةً إلى مهاجمةِ رجل جرى القضاء على سلطانه بالزوال، وليس وراء ملاحقته بالسباب إلا ما تأباه المروءة، وما نهى عنه الهدي النبوي، من إتباع المدبر والإجهاز على الجريح!.

  • - محنة الزعماء المعتقلين:

ومن معين هذا الخلق الأصيل حرص الأستاذ الهضيبي على مواساةِ الزعماء الذين اعتقلتهم الثورة بعد قيامها بأسابيع، وأصبح الاتصال بهم مجلبة ضرر ونقمة حملت أقرب الناس إليهم على التنصل من كلِّ صلةٍ بهم، بينما حرص الهضيبي على تفقدهم بمجرَّد أن سُمِحَ لهم باستقبال الزوار، فزار وكنت في معيته السادة أحمد نجيب الهلالي باشا، وأحمد عبد الغفار باشا، وآخرين لا أذكرهم الآن ممن كانت قيادة الثورة الحاكمة تعتبر زيارتهم ومواساتهم من كبائر السيئات وما كان أحب إلى المرشدِ في تلك الأيام أن يتفادى غضب رجال الثورة، ولكنه الوفاء الأصيل يأبى أن يُفارق صاحبه ولو كلَّفه ما لا يُطاق!.

  • سلطان الخلق مع الأولياء والأعداء :

لا يسعني أن أنفض يدي من هذه العجالةِ الخاطفةِ عن مواقفِ الرجل الكريم وأخلاقه دون أن أورد أنموذجًا من منزلةِ الخلق عنده حين يبدو التمسك به وكأنه إضاعة للمصلحة أو خدمة لأعداء الدعوة.

قامت ثورة مصر وبينها وبين الدعوة وقيادتها أسباب ليس هذا مجال الإفاضة فيها، وأخلص الهضيبي في نصحه للثورةِ ومنحها أنفع التأييدَ فيما يتفق ومبادئه الإسلامية، فلما اشتعلت أعاصير الخلاف بينها وبين جماعة الإخوان، وراحت الثورة تصبُّ على الجماعة أبشع ضروب البطش والاضطهاد، سارع أحد خلصاءِ الهضيبي إلى مقرِّ قيادةِ الثورة- وكان لا يزال موضع ثقتها الكاملة- للإجهازِ على رجالها، انتصارًا للدعوةِ وكفًّا للأذى عن الجماعة، فاكفهر وجه المرشد غضبًا

وقال: "لأن يهلك الإخوان عن آخرهم وللدعوة رب يحميها خيرٌ من أن نبلغ قمة النصر عن طريقِ الغدر والخيانة، إننا مسلمون قبل كل شيء، ولو ملكنا الدنيا بإهدارِ الخلقِ الإسلامي فنحن الخاسرون".

  • الثبات عند البلاء :

"لا تتمنوا لقاء العدو، فإذا لقيتموه فاثبتوا" حديث شريف..

مارس الهضيبي قيادة الدعوة، على هدي النبوة، مؤثرًا للعافية في غيرِ وهن، راغبًا عمَّا يسوقه الاصطدام بالحكوماتِ من شهرة وذكر، متقبلاً البلاء إذا فرض عليه بعد ذلك بأمثلِ ما يتلقاه المؤمن من ثباتٍ وجلد، رافضًا كل ما يؤثره به إخوانه رعاية لسنه ومقامه من وسائل التخفيف والإيثار، ليظفر من مثوبة البلاء وليكون تلاميذه وأتباعه نعم الأسوة والمثل، يفعل كل ذلك رحمه الله دون إثارة ضجة أو لفت نظر.

كان أشد ما أفزعني من حملةِ الاعتقالاتِ التي واجهناها في 13 من يناير 1954م أن رأيت بين المعتقلين ثلاثة رجال: حسن الهضيبي، ومنير الدله عليهما رضوان الله، وأسامة حسن الهضيبي سلَّمه الله، لخشيتي أن يكونوا ثغرة في جدارِ المقاومة التي عرف بها رجال الدعوة في الأزمات، لأن أولهم شيخ جاوز الستين مثقل بطوائف من العلل والأسقام.

فضلاً عن أنه قضى حياته، حتى ذلك اليوم، في دعة وخفض بين عمله وبيته يأمر فيطاع، ويهيب فيجاب، ولأن الثاني ربيب نعمة وابن باشا واسع اليسار، فضلاً عن كونه مستشارًا في مجلس الدولة، يتسابق الناس في طلبِ مودته، والتقرب إليه، فتملكني الوهم أن تكون مفاجأتهما بحياةِ الاعتقال على هذه الصورة التعسفية الجافية زلزالاً ينتهي بهم إلى الحطمة والانهيار، خلافًا لأمثالنا من حلفاءِ التخشن، الذين سبق لهم التدرج في منازل الاعتقال منذ كانت في مستوى الفنادق الراقية.

حتى أصبحت.. كما يواجهها هؤلاء المترفون لأول مرة، مخابئ نكال وهلكة، أما ثالثهما أسامة الهضيبي سلَّمه الله، فقد كان- من دون ذرية الهضيبي كلها- منصرفًا إلى عمله ومقاولاته الهندسية معتزلاً كل ما يتعلق بالدعوةِ والجماعة، لا يعرف عنَّا ولا نعرف عنه شيئًا لولا أن يرانا ونراه في بيتِ أبيه قَدَرًا!

غير أن تجربة الشدائد وهي ميزان الرجال قد كشفت من جوهرِ هؤلاء الثلاثة، ما رأيتني بالقياسِ إليه صغيرًا ضئيلاً، أحتاج منهم إلى التشجيعِ والمواساة.. فالهرم العجوز المثقل بالأمراضِ حسن الهضيبي، فقد أثبتت هذه المحنة أنه إمام في احتمالِ البلاء، قدوة في الصبر على الضراء، وإليك طائفة من نماذج إبائه وجلده في أشدِّ مواطن البأساء:

  • مداواة الروماتيزم المزمن بزمهرير البرد في زنزانة الاعتقال:

كرثتني وطأة الزمهرير الذي واجهته ساعة أغلق عليَّ باب الزنزانة، رغم ما كنت أشعر به من فضلِ قوةٍ وشباب، وما كنت متجهزًا به من فرشٍ وأغطيةٍ وثياب، وما طال ألفي له من خشونة السجون والمعتقلات، فرأيتُ مشاعري كلها مشدودةً إلى الأستاذِ المرشد يستبد بها الهلع على حياتِهِ الغالية، لما أعلم من معاناته من مرضِ الرزماتيزم الحادِّ المزمن الذي يحوج أجلد الفتيان إلى مضاعفةِ الدفء في وقتِ الشتاء، فعمدتُ إلى فروةٍ من جهازي ذات وبرٍ كثيف طويل ودفعتُ بها مع حارسِ الزنزانة ليسلمها لقاء أجرٍ أغراه إلى الأستاذِ الهضيبي في زنزانته التي عرفتُ رقمها بعد مجهود.

وقلتُ في نفسي إنه جهد المقل ولكنها ستقيه الكثيرَ من وطأةِ الزمهرير، غير أنَّ الحارسَ لم يلبث أن عادَ إليَّ والفروة بيده ليبلغني أن نزيل تلك الزنزانة أمره بإعادتها إليَّ، وخشيتُ أن يكون الحارس قد أخطأ المقصود فرددته بكلمةٍ رمزيةٍ وألزمته تسليم الفروة، والتأكد ممن أرسلتها إليه بجوابِ تلك الكلمة، ولكنه سرعان ما عاد إليَّ بالجوابِ الرمزي، ومعه الرفض الحاسم بدعوى أنه لا يشعر بأي برد يحوجه إلى الفراء.

وبعد يومين هيأ لي القدرُ الاجتماع بأستاذي الأبيّ أمام دورةِ المياة فما أمهلني أن أتكلم حتى قال: "أدفئ نفسك بفروتك أو ادفعها إلى مَن يحتاج إليها من إخوانك"، فقلتُ له: "فدتك نفسي، مَن أحوج إليها منك وأنت مريض بالروماتيزم والدوسنتاريا و...؟ فإذا به يقاطعني في عزةٍ وبشاشةٍ: لقد شفيتُ والله، يا عبد الحكيم، ببردِ هذه الزنزانة من كلِّ ما أثقلني من الأمراضِ في غابر السنوات!!

وما كدتُ أسمع الجواب حتى غلبتني العبرات، وتضاءلتُ في نظر نفسي كأني حفنة من تراب وأنا أردد في خاطري "إن لله رجالاً..."!.

  • رفض المدفأة الكهربائية من مدير السجن:

وكان مدير السجن الحربي الذي أعتقلنا في صحراءِ الهايكستب- يتودد للأستاذ الهضيبي ويتظاهر بالأسفِ لاعتقاله والمسارعة فيما يسره، ومن ذلك أنه أبلغه يومًا عن مسعى يقوم به لتزويدِ غرفته بأدوات التدفئة والراحة تقديرًا لمقامه وسنه، فأجابه المرشد رحمه الله: "إني بأتمِّ الراحةِ والدفء، وإذا كان باستطاعتك أن تقدم هذه المزايا لجميع الإخوان المعتقلين فيسرني أن أكون آخرهم، وإلا وفِّر على نفسك المساعي وأنت مشكور!!".

غير أنَّ مدير السجن، الذي عرف إباءَ الرجل ومثالية إيثاره، اغتنم فرصةَ إخلائنا الغرف في لحظات (الفسحة) اليومية، فحمل مدفأةَ مكتبه الخاصة وتركها مشتعلة في زنزانة الهضيبي، الذي ما كان يدخل الزنزانة ويُفاجأ بنعمةِ الدفء، ثم يلمح المدفأةَ في زاويةٍ من زنزانته، حتى أقبل على بابِ الزنزانة من الداخلِ يُوسعه طرقًا بكلتا يديه، إلى أن سمع الحارس فأسرع يفتح باب الزنزانة، ليُفاجأ بنزيلها قد حمل المدفأة بيديه، وقذف بها إلى الخارج ثم أغلق الباب على نفسه دون ضوضاء!..

وجاء مدير السجن يعاتبه، بحجةِ أنه آثره على نفسه، وأن في هذا إهدارًا لكرامته، والمرشد لا يزيدُ على أن يدعوَ له، ويكرر أنه لن يقبل ميزةً ولا هديةً ولا كرامةً خاصة، إلا بعد أن تعمَّ كلَّ المعتقلين من إخوانه.

  • إظهار القوة أمام خصوم الدعوة :

وأدرك زبانية الحكم أنَّ الشيخَ الذي حسبوه فانيًا سريعًا إلى الاستسلام إن هو إلا معين إباء وجلد، يسري جواره شممًا ومنعةً في نفوس الإخوان فيُثَبِّت الواهِن، ويضاعف من عزيمة الثابت.

وتفتقت مكايد الطغيان عن حيلة جديدة، نقلوا بها المرشد العام إلى زنزانة محلقة بمكاتب الإدارة، تفصله قرابة ميل عن مجمع زنزانات الإخوان، بحيث لا يرونه إلا في ساعةِ الفسحة من هذا البعد، لا يكلمهم ولا يكلمونه!

ولفت أنظارنا أن مرشدنا المتداعي البنية يقضي ساعة فسحته في الحديقة المواجهة لمكتب المدير ناشطًا في القيام بتمرينات رياضية وهو بملابس ناصعة الألوان لعله كان يتوقر عنها وهو في شرخ شبابه.

ولما كاشفته- في أول لقاء هيئ لي معه- بغرابة هذه الحركات الرياضية، وهذه الملابس الزاهية، على مقامه وسنه، ضرب في صدري بيده ضربة حنان وتنبيه، وهو يقول: "دعهم لا يرون منَّا إلا البشاشةَ وارتفاع الروح المعنوية، حتى يتحققوا أنَّ سهامَهم طاشت، ولم يبلغوا منا ما يريدون! ألم يبلغك قول رسول الله- صلى الله عليه وعلى آله وصحبه وسلم- "رحم الله امرءًا أراهم من نفسه اليوم قوة".

  • النهي عن البكاء من خشيةِ الله على مسامع الظالمين:

واعتاد الإخوان أن يجدوا في السجون أسعد الفرص للخلوة بالله سبحانه، حيث تشغلهم أعباء العمل للدعوة أوقات الحرية عن التفرغ لما يحبون من مناجاته، وكان هناك أخ بين المعتقلين من أرقَّهم قلبًا وأغزرهم دمعًا وأعلاهم نشيجًا في مناجاةِ الله إذا حلك الظلام وسكنت الحركة بين المعتقلين والحراس.

واستطاع الإمام الهضيبي أن يتبين من هذا النشيج شخصية صاحبه، فما وقعت عليه عينه في ساحةِ الفسحة العامة، حتى أقبل عليه يقول له: "أنا أعلم أنك رقيق القلب تبكي من خشيةِ الله، وتلك رتبة نغبطك عليها جميعًا، ولكن جهلة الحراس إذا سمعوا بكاءك، وأنت مرموق المكان في الدعوة، أسرعوا إلى سادتهم الطغاة، فأفهموهم أن قادةَ الإخوان قد أصابهم الهلع من الاعتقال، حتى إنهم ليبكون بكاءَ الأطفال".

  • وراع المرشد والحاضرين من الإخوةِ أن يسمعوا جواب أخيهم:

"يا فضيلةَ المرشد، أنا أهون شأنًا من أن يكون نشيجي بكاءً من خشيةِ الله، ولكني أستعرضُ ذنوبي- إذا جنَّ الليل فيخيل إليَّ من كثرتها أنَّ الله تعالى قد أخذ الجماعة كلها بأن يكون فيها مذنب مثلي"..! فيبارك المرشد هذا الشعورَ ويكرر التشديدَ على صاحبه أن يكبت أناته بحيث لا يسمعها إلا الله!.

  • رفض الإفراج قبل التحقق من بطلان الإتهامات:

﴿فَلَمَّا جَاءَهُ الرَّسُولُ قَالَ ارْجِعْ إِلَى رَبِّكَ فَاسْأَلْهُ مَا بَالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ﴾ (سورة يوسف: 50).

اتسعت موجة النقمة على الحكم العسكري بعد اعتقال الإخوان في 13 يناير 1954م، ودب الشقاق إلى صفوف رجاله البارزين، حتى أضطروا إلى إتخاذ قرار بالإفراج عن الإخوان المعتقلين في حوالى 20 مارس 1952م، وخيل للقوم أنهم يستطيعون تقاضى الإخوان ثمنا جزلا عن هذا الإفراج، فأوفدوا إلينا إثنين من رجالهم يبشرانا بالإفراج، ويجسان النبض لمفاوضتنا على ما يمكن أن نقدمه لتأييد الثورة عندما تعود إلينا الحرية، والرجلان هما الأستاذ فؤاد جلال، والسيد محمد أحمد.

وبينما كانت بشائر الإفراج تسري مع موجة من السرورِ في أوساط عامة الإخوان، وكان مبعوثا السلطة يتوقعان لمفاوضاتهما أو لمساوماتهما باهر النجاح، سارع الأستاذ الهضيبي إلى إعلان أنه لن يقبل الإفراج فضلاً عن أن يتعهد بأي شىء في مقابله إلا بعد أن تُمحَّص الاتهامات الخرافية، التي برر بها اعتقال الإخوان، أو بعد أن تعلن قيادة الثورة بطلان التهم والاعتذار عن الاعتقال! وهذا ما ذكَّرني بموقفٍ نبي الله يوسف عليه السلام حين رد البشير الحرية التي آثره بها الملك حتى تُستعلن للملأ براءته، ويفتضح كيد امرأة العزيز.

وثبت الإخوان على هذا الموقف الأشم بعد أن انفضَّ أول اجتماعٍ على غيرِ اتفاقٍ حتى عاد المبعوثان بعد يومين ليفتحا بابَ السجن ويعتذرا للمعتقلين، وتتبع ذلك زيارة قائد الثورة للمرشد في بيته، وزيارة وزير الإرشاد لكاتبِ هذه السطور في دارِه، في مسعى لإزالةِ ما علق بالنفوس من مظالمِ الاعتقال.

  • إيثار الكفاح على السلامةِ في أقسى أوقات المحنة:

شاءت الأقدار أن يكون الأستاذ الهضيبي في سوريا ولبنان في صيفِ عام 1954م بعد زيارة للمملكة العربية السعودية قام بها في أول ذلك الصيف إجابةً لدعوةٍ من الملكِ الأسبق سعود بن عبد العزيز رحمه الله.

وفيما كان الهضيبي موضع الحفاوة والتكريم من جميع الأوساط الدينية والاجتماعية والسياسية في البلدين الكريمين، متنقلاً بين المدن والقرى في أحفالٍ عامة، منسجمًا في بعض المصايفِ؛ حيث تتهيأ له ومضاتٌ من الفراغِ والراحة، إذا بحملةِ استفزازٍ مسعورة يُطلقها حاكم مصر يومذاك على الإخوان المسلمين في مصر في مدينةٍ من محافظةِ الشرقية، وإذا الأنباء تتواتر عن إتباع ذلك بموجةٍ اضطهادٍ عارمة تنصبُّ على الجماعة فتغلق مراكزها التي شارفت الألفين، وتعتقل قادتها، وتشرد الموظفين من أعضائها وتصادر أموالها، وتلفق جديدًا وقديمًا من الاتهامات لأهدافِ الجماعة ومناهجها!.

وكان العزاء الوحيد لأصدقاء الدعوة وأحرار المنصفين في السعودية وسوريا ولبنان، أن المرشد العام بمنجاةٍ من هذه المحنة، وأنه لا شك سيبقى خارج مصر إن لم يكن إيثارًا للسلامةِ- وهو إليها في حاجةٍ فحرصًا على استنفارِ الرأي العام في دنيا العرب والإسلام، للإنكارِ على حكامِ مصر، وحشد كل طاقة من طاقات الخير لشد أزرِ المجاهدين داخل الأسوار.

غير أنَّ الهضيبي إمام الجهاد والصدق والثبات والصبر ما كاد يسمع أنباء النكثة الجديدة للسلطاتِ المصرية، وما أدَّت إليه من تسجيرِ المحنة والبطش بأهل الدعوةِ في أرضِ الكنانة، حتى أمر بالتجهز للعودةِ إلى مصر، وراح يُفند نصائح أحبابه والغيورين عليه وعلى دعوته وجماعته، بالبقاء خارج (القفص) خدمةً للدعوة، وتزويدًا لها بقيادةٍ حرَّة، تملك من العمل والإعلانِ وتعبئة الرأي العام ما لا سبيلَ إلى شيء منه في مصر، بحكمِ البطش العسكري والرقابة الصحفية.

ذلك بأن الهضيبي الذي كان عليه رضوان الله دائم القول بأنَّ الدعوة لله يتكفل بنصرها دون حاجةٍ إلى عبادِه، كان ينادي بأنه لا يحل لمؤمن بالدعوةِ أن يدخر عنها جهدًا يستطيعه، أو مثلاً صالحًا يستطيع ضربه، مع الاطمئنانِ بعد ذلك إلى أنَّ نصرَ الله آتٍ لا محالةَ، ولو كانت هذه الجهود لا تبلغ قوة ريشة تتحرش بها عاصفة.

وبهذا المنطق الصافي سارع بالرحلةِ إلى مصر إعذارًا إلى الله بضربِ المثل واستنفاد الطاقة، وصيانةً للدعوةِ من أن يُشاع أنَّ المرشد العام يهش لقيادتها في الرخاءِ ويترك جنودها دونه يصطلون بنارِها في المحنةِ والبأساء.

  • الإفراج الصحي عنه وإباء استمراره بعد الشفاء:

وفي عام 1957 م على ما أذكر، قررت لجنة من خمسةِ أطباء مسيحيين فيما بلغني أن حالةَ الهضيبي تُنذر بالهلاك، وأنها لا تستطيع تحمل المسئوليةِ عن بقائه رهن الاعتقال، فصدر قرار بالإفراج الصحي عنه، نُقل على أثرِه إلى بيته؛ حيث توفَّرت له أسباب العلاج الذى أزاح الله به شبح الخطرِ عن حياةِ المرشد الصديق.

بيد أنَّ الهضيبي الذي يعي تبعاتِ القيادة تجاه الجنود، ما لبث أن أخذه الحنين إلى إخوانه وأبنائه المسجونين، ولم تطب نفسه بأن يكون في نظرِ الطغاة ذلك الواهن الضعيف الذي يتلقف مثل هذه الفرصة لينعم بحياةِ الدعة متميزًا على إخوةٍ له في الجهاد، هو أولاهم بأوفرِ حظٍّ في البلاء!.

لذلك ما كاد يتنسم أريج العافية حتى سارع بالكتابةِ إلى السلطاتِ يُبلغها أنه قد عُوفي بحمد الله من عارضِ المرض الذي أوجب الإفراج عنه، وأن باستطاعته العودة إلى السجن لقضاءِ باقي المدة المحكوم بها عليه!.

أما والله لقد كان حسن الهضيبي على تواضعه وفراره من الأضواء- بقية السلف وواحد الزمن، والشاهد الناطق بمعنى الحديث النبوي الشريف: "الخير في وفي أمتي إلى يوم القيامة".

قادة الحركة الإسلامية يرثون الإمام حسن الهضيبي

الهضيبي "قضى نحبه" وجاء دور "من ينتظر":

كتب الداعية الكبير المجاهد عمر بهاء الدين الأميري من قيادات الحركة الإسلامية في سوريا يقول: "نشرت جريدة (الأهرام) القاهرية في زاوية صغيرة لا تلفت النظر من ركن الوفيات في عددها الصادر يوم السبت 16 من شوال 1393هـ خبرًا صغيرًا قد يكون جل الذين يطلعون على الجريدة, ولا سيما في أنحاء العالم العربي لم يلتفتوا إليه، وهذا هو الخبر بنصه:

"فقيد الإسلام والعروبة.. ودَّعت أسرة الهضيبي بعرب الصوالحة أمس عميدَها المرحوم المجاهد الكبير الأستاذ حسن الهضيبي، واقتصر العزاء على تشييع الجنازة تحقيقًا لرغبة الفقيد.. وإنا لله وإنا إليه راجعون".

وهكذا مرَّ الخبر دون أن تتحدَّثَ عنه الإذاعات وتكتبَ عنه كبريات الصحف والمجلات العناوين الضخمة في صفحاتها الأولى, ولولا الصدفة لما اطلعنا على هذا الخبر الصغير في ألفاظه الكبيرة جدًّا في معناه العظيم في موضوعه ومغزاه!!

حسن الهضيبي هو المرشد العام للإخوان المسلمين الذي خلف الإمام الشهيد حسن البنا مؤسس الجماعة وأول مرشد عام لها, وقد وُلِد في مدينة عرب الصوالحة من أعمال القليوبية القريبة من القاهرة, من أسرة ذات دين ووجاهة, وكرم وشهامة.

وقد بدأ دراسته في بلدته, ثم انتقل إلى القاهرة وفيها درس الحقوق, ونال إجازتها بتفوق, وعُيِّن قاضيًا؛ حيث ظل يرتقي في مناصبِ القضاء، وكان معروفًا بشدة النزاهة والتحرِّي في إحقاق الحق, محفوفًا بالتقدير والإكبار من زملائه ورؤسائه، حتى ارتقى إلى رتبة مستشار ممتاز, وهو المنصب الذي كان يشغله؛ حيث انتُخب وبويع مرشدًا عامًّا للإخوان المسلمين, واستمرَّ يشغل هذا المقام حتى انتقل إلى الرفيق الأعلى, رضي الله عنه وأرضاه.

تاريخ دعوة الإخوان المسلمين- كبرى الجماعات الإسلامية خلال ربع القرن الأخير- تاريخٌ ضخمٌ كبيرٌ خطيرٌ، لا تستوعبه سطورٌ، ولا تفيه ولو جزءًا يسيرًا من حقِّه معالجة سريعة بمناسبة هذا الفقد الأليم, ولا بد للأقلامِ مع الأيامِ أن تنصف الحق وتسجل بتحرٍّ وصدق هذه الحقبة من تاريخ الدعوة الإسلامية, وجهادها المقدس، وإنا لنرسلها بهذه المناسبة إهابةً خاصةً ملحةً إلى كبار أبناء هذه الدعوة البررة إلى المبادرة بالقيام بهذا الواجب وإصدار موسوعة دعوة الإخوان المسلمين, يسهم فيها كل أعضاء الجماعة بما عنده من حقائق ووثائق.

والذي نريد أن نسجله اليوم مع أصدق دعائنا إلى الله أن يجزي الراحل الغالي أحسن الجزاء عن جهاده الصادق وأن يعوض الأمة الإسلامية عنه خيرًا اعترافًا بالحق وشهادةً لا نبتغي بها إلا وجه الله, وتسجيل المواقف البطولية والإيمان الصابر المثابر والحكمة العاقلة العاملة, وحسن التدبير, والرضا والشكر لله جل جلاله في السرَّاء والضرَّاء والسلامة واللأواء, ممَّا هو من أخلاق رجال الله الصالحين والصديقين الصامدين, وإن كل ذلك كان يتحلَّى به المرشد الفقيد الأستاذ حسن الهضيبي أكرم الله مثواه.

كان حسن الهضيبي رحمه الله مقدرًا مرموقًا, مستريحًا لعمله في القضاء, مستشارًا في أرقى مناصب الدولة, وكان سعيدًا بوئامه مع أسرته ونجابة أبنائه, والكفاية الكريمة في رزقه, وقد كان صديقًا حميمًا ومستشارًا ناصحًا حكيمًا للأستاذ الشهيد حسن البنا شخصيًّا دون أن تكون له سابق علاقة أو انتساب إلى جماعة الإخوان المسلمين..

وهي في عنفوان نفوذِها وتسابق كبار الناس على خطب ودِّها والاعتزاز بإعلانِ الانتماء إليها بشكل أو بآخر, بيدَ أن الأستاذ الهضيبي لبث في أجوائه الخاصة, مؤْثرًا أن يعملَ لِلَّهِ من خلال أسرتِه ووظيفتِه وبيئتِه وعزلتِه, ولما وقع اختيار الإخوان المسلمين عليه, وفاوضوه في قبول مقام الإرشاد العام, اعتذر بعدم معرفته السابقة بتشكيلات الجماعة وبما يعتقده في نفسه من عدم الجدارة وما هو في طبيعته من العزوف عن المواقع العامة والجماهيرية التي هي بالضرورة من مستلزمات قيادة الجماعة الإسلامية.

ولما أصرَّ عليه كبار الإخوان وطالبوه بأن يقبلَ الاضطلاع بمهام هذا المقام لإلحاح الحاجة إليه, ولأداء حق الله فيه- مهما كلَّفه ذلك من تضحيات- استجاب لداعي الله وترك ما كان فيه من حياةٍ مطمئنةٍ مستقرةٍ لا عنَت فيها ولا إرهاق وقال: إني أعلم أنني أقدم على قيادة دعوة استُشهد قائدُها الأول قتلاً واغتيالاً؛

وعُذب أبناؤها وشُرِّدوا وأوذوا في سبيل الله, وإني على ما أعتقده في نفسي من عدم الجدارة بأن أخلف إمامًا مصلحًا مثل حسن البنا رحمه الله لأقدم وأنزل عند رغبة الإخوان أداءً لحقِّ الله جلِّ وعلا، لا أبتغي إلا وجهه, ولا أستعين إلا بقدرتِه وقوتِه.

كانت قوى البغي والطغيان بمختلف أجنحتها من صهيونية واستعمار صليبي غربي وماركسي شرقي- قد أدركت أن دعوة الإخوان المسلمين هي الخطر الحقيقي الأكبر على بغيها وعدوانها؛ لأنها امتدادٌ من أصالةِ الإسلام على سُنن الراشدين والمصلحين، وأن فيها روحًا من سلفيةِ ابن تيمية وابن عبد الوهاب, فأجمعوا كيدَهم على محاربتها والقضاء عليها, وهكذا بدأ المرشد العام حسن الهضيبي حياته الجديدة في مكايدة لا تهدأ ومعاناة لا تنقطع.

وقد امتُحنت الجماعة وهو على رأسها مرات, وسُجن وعُذب وحُكم عليه بالإعدام، ثم بعد ذلك بالأشغال الشاقة المؤبَّدة، وأُجبر على ممارستها فعلاً، وهو يسمع ويرى إعدام وتعذيب كبار أعوانه وإخوانه وأبنائه وأحبائه وقد رغب إليه أن يتهاون في حقِّ الدعوة أو يهادنَ وهو في ذروةِ المحنةِ فرفض بإباءٍ وصبرٍ في مضاء ومرض بالذبحة الصدرية فأُخرج للعلاج ثم أُعيد للاحتجاز!!

ومرَّت فترة المحنة الأولى، فأُطلق سراحه وعاد إلى العمل الجادِّ والجهاد المتواصل الصادق, وجرت معه مفاوضات ليتراضى ويلين, فما زاده ذلك إلا ثباتًا في الحقِّ وإمعانًا في الجهاد، يدعو إلى سبيل ربه بالحكمة والموعظة الحسنة، لم يهُن، ولم يستكن، ولم يبدِّل تبديلاً.

وكانت المحنة الثانية أشدَّ ضراوةً وأكفر عداوةً، وكان قد شاخ وأضرَّ به المرض ومشقة السعي في طريق محفوفة بالمعارك والمواثر، وحُكِم عليه من جديد وبالسجن وبالأشغال الشاقَّة وأُعدم وعُذِّب أعوانُه وإخوانُه بين سمعه وبصره، وهو هو كالطَّود الذي لا يتزعزع, واشتد عليه المرض فطُلب إليه إطلاق سراحه استثناءً, فأبى وطلب أن يعمَّ الإنصاف سائِرَ المعذَّبين والمعتقلين من أبناء الجماعة المؤمنة الصابرة.

ودار الدهر دورتَه وأخذَ الله من قضى عدلُه أن يأخذَهم أخذَ عزيزٍ مقتدر, وأُطلق سراح الهضيبي وجماعته فوجًا بعد فوج, وكان إعدام العلماء الأعلام والمجاهدين الصادقين أمثال عبد القادر عودة, ومحمد فرغلي, وسيد قطب, وما لقيه الإخوان من اضطهاد وتعذيب وما كان بهم من صبر واحتساب وصمود أكبرَ عاملٍ على نَشْرِ الدعوة وتعلُّق الشعب المصري بأهداب الإسلام.

وإقباله على الله ومطالبته لحكامه أن ينطلقوا به من قواعد دينه وإيمانه، وساعد على ذلك ما وجده الناس في الإخوان وقادتهم من أسوة حسنة, وما وقع في الأمة الإسلامية وبمصر من نكباتٍ في ظلِّ الحكم الذي حجز الإسلام عن المعركة؛ حيث كانت النكبات ليس فقط في فلسطين بل في كل دنيا العروبة والإسلام يوم استبعد الإسلام من الميدان ولم يتمكن جنودُه المؤمنون من خوض المعركة.

وفي عام 1392هـ كتب الله لحسن الهضيبي أن يعدَّ بالحجِّ والتقى بمحبيه ومكبريه في رحاب المشاعر المقدسة، وقد أنهكته الشيخوخة وترك العذاب والمرض في جسمه أقوى الآثار وأصبح مجرد فكر وقَّاد, وروح مشرق، ومثل حي للمجاهد المؤمن الأبي.

وكان يُحمل حملاً إلى مجالس محبيه ومريديه، فنعموا منه بالتحيةِ المباركةِ والكلمةِ الطيبةِ والدعاء الصالح، وعاد إلى مصر من حجه المبرور يربِض في عرينِه كالأسدِ الهصور، لم تفارقْه البسمةُ، ولا خَبَت إشراقاتُ روحه وفكره ساعة, وكانت معركة رمضان المبارك، وأكرمه الله أن يسمَعَها تخاض بجند الله وفي سبيل الله, ونشيدها وترديدها: العزة لله, والله أكبر ولله الحمد.

وفي يوم الجمعة وبدر شوال في كبد السماء يصل بنوره بين رءوس الشهداء ومنازل الأنبياء فاض الروح الطهور, وانطلق حسن الهضيبي إلى الرفيق الأعلى يُهلل له ويتلقَّاه في أعلى عليين شهداء المسلمين في الفردوس الأعلى في مقعد صدقٍ عند مليك مقتدر.

وفي الأرض يأبى حسن الهضيبي أن يُقام بمناسبة وفاتِه أي عزاء إلا تشييع الجنازة وفق السنة الشرعية ويجري العمل بوصيته، ونحن على يقين أنه لو فسح المجال وخلِّي بين أبناءِ هذا الجيلِ من المؤمِنِين الصادقين وما يريدون لما تخلَّف منهم واحدٌ عن أن يشيعَ هذا الجثمان الغالي, ولكن هكذا كانت رغبة الفقيد, وهكذا تمَّ الأمر ووصل إلينا النبأ صدفةً عن طريق إعلان صغير في ركن الوفيات من جريدة (الأهرام).

إنها أخلاق الأئمة الشهداء والصالحين، ففي كنف الله ورحمته ورضوانه أيها الأخ الكبير الحبيب والمجاهد الجليل العظيم, وفي حِمى الله وتسديده وتأييدِه دعوة الإسلام، وعزاء يا رجال الدعوة ومضاء مضاء، ندفع بالتي هي أحسن، وندعو إلى سبيل الله بالحكمة والموعظة الحسنة.

لا يلتوي بنا درب ولا يعوقنا خطبٌ إلى أن نلقى اللَّهَ على الإيمان والإحسان وهو عنا راضٍ، وعزاء يا إخواني أبناء الفقيد وأسرته, وإننا جميعًا لأبناؤه وأسرته, ووداعًا أبا إسماعيل إلى أن نلتقي على وعد الله وعهده، وإنا لله وإنا إليه راجعون.

المصاب العظيم برجل الدعوة والجهاد حسن الهضيبي

وكتب العالم الجليل محدث الشام الشيخ عبد الفتاح أبو غدة يقول:

"لقد هزَّ نبأ وفاة والدنا الأستاذ المرشد الغالي قلوب المؤمنين, فقد آثره الله إلى جوارِه الكريم, ورحل عن هذه الدار, بعد أن ترك فيها أجلَّ الآثار بجهادِه وجلادِه المشهودِ له به, وعزَّ المصاب بفقده على كلِّ نفس مؤمنةٍ في ديار الإسلام, وكانت خسارة المسلمين برحيله جسيمةً, فقد نذر حياته للذَّود عن الإسلام, صدقًا في القول, وإخلاصًا في العمل, وتربيةً للمؤمنين, وإعدادًا للمجاهدين, ورعايةً لشباب الجيل في رحاب الإيمان.

ولقد علَّم الأجيال عزيمة الأبطال وثبات الرجال, وكانت حياته صورة دعوية؛ إيمانًا وصبرًا, ورعاية للحق وجهرًا به وثباتًا عليه, دون مهادنةٍ أو مساومة, مع التعذيب الشديد, والأذى العاتي الذي ناله بسبب صلابته في الحق, وثباته عليه في وجه الظلم والظالمين, ومع شيخوخته في السن وأمراضه التي لحقته- من جرَّاء التعذيب والإيذاء- وصاحبته طوال المحنة القاسية.

فلله تلك النفس المؤمنة, الصابرة المحتسبة, المسلمة المجاهدة, المؤثرة لما عند الله, الطالبة لثواب الله ورضوانه, بالصبر على ما تلقَّاه من تعذيب الطغاة والظالمين, التي لقيت ألوان العذاب في سبيل الله, وما انحرفت ولا ضعفت ولا استكانت لغير الحق, حتى لقيت وجه ربها راضيةً مرضيةً إن شاء الله.

ولقد أكرمني الله تعالى وعددًا وافرًا من أبنائه ومحبيه- الذين ربَّاهم ورعاهم- بلقائه في رحاب بيت الله الحرام, في حج العام الفائت, بعد غياب طويل, ولهفة وحنين, وسعدت القلوب بلقياه, واطمأنت النفوس بمَرآه, وشهدت العيون بالنظر إليه- بعد صبره وجلاده, وصدور الحكم عليه من الظالمين بالإعدام, وإبقاء الله له بعد زوال رأس الطغيان والطغاة- شهدت رجل الصبر والقوة والبسالة النادرة العظيمة, الذي إذا جدَّ الوغى كان أخطب الخطباء بعزيمته وتضحيته وجهاده وإقدامه.

ثم شاء الله أن يكون لقاؤنا به لقاء الوداع, فلا رادَّ لمشيئة الله, وقد رضينا بما قدر الله وقضاه, وإننا- بعون الله سبحانه على العهد ثابتون, وعلى نهجه سائرون, حتى نلحقَ به ويجمعنا معه اللقاء الذي لا فراق بعده, في كنف رحمة الله وفضله إن شاء الله, مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا.

الهضيبي.. معلم الصمت الشامخ

وكتب الداعية المجاهد محمد أحمد الراشد من قيادات الحركة الإسلامية في العراق يقول:

"يخطئ زعماء الأحزاب السياسية العرفية, وقادة الأفكار الأرضية, والحاكمون أجساد الناس بقوانين الجاهلية خطأً عظيمًا حين تقديرهم مدى النجاح الذي يحققونه، يفهمون أن تسلطَهم وقمعَهم للمخالفين يصفانهم بالنجاح التاريخي ويؤهلانهم لاستمرار وتأثير.

وليس أمرهم كما فهموا أو زعموا, فإن مبلغ زعاماتهم وفكرهم وحكمهم لا يتعدَّى نهاية غلبتهم وبداية سطوة منافس لهم من أنفسهم جديد, تذروهم ريح الأيام, ويظل قادة دعوة الإسلام أقوى منهم دومًا، فإن الناجحَ من ملك العصر, وحكم القلوب، وكانت له النهايات.. قد يكون القائد المسلم سجينًا, ممنوعًا بضيق الجدران وأثقال الحديد عن الحركة، لكن روحه التي بين جنبيه تظل أوسع من عوالم سجانه.

وقد لا يؤثر عنه حرف مقابل كل خطبة يخدع بها الطاغية أتباعه, لكنَّ صمته يظل أقوى من بلاغة الباطل إنه الصمت عن حروف اللين, يهب القائد المسلم قوته.. ويومها في زمن التابعين فخر المحدث الفقيه إبراهيم التميمي بمنقبة الربيع بن خيثم فرواها للأجيال وقال:

"أخبرني من صحب الربيع بن خيثم عشرين عامًا ما سمع منه كلمةً تُعاب".. يفخر أن صان الربيع لسانه عشرين عامًا من أعوام العافية والرخاء.

واليوم نفخر نحن دعاةَ الإسلام بمنقبة الهضيبي, ونرويها للأجيال: أن قائدنا خبرناه عشرين عامًا, من أعوام المحنة والسجن, ما سمعنا منه كلمة من اللين, أو حرفًا يعاب.

وهذا هو الصمت الصعب لا صمت الزهاد, كانت حاجة المعركة إلى قائد يعلِّم الدعاة الصمت الشامخ والاستعلاء على كلمة العيب, ولم تكن الحاجة إلى قائد خطيب وكاتب.

كانت الحاجة إلى الرجل الكامل, فالكتب إنما هي صواب أو خطأ ينتهي إلى العقل, ولكنَّ الرجل الكامل صواب ينتهي إلى الروح, وهو في تأثيره على الناس أقوى من العلم، إذ هو تفسير الحقائق في العمل الواقع.

وكان الهضيبي رحمه الله ذلك الكامل, كان صوابًا خُتم له بموقف ثبات، صواب سيظل ينتهي إلى أرواح دعاة الإسلام في كل مكان وكل جيل يمدها بالتثبيت.

ولم يكتب الهضيبي إلا كلمات, لكنه أقوى من العلم وكتابات الكتاب في التأثير, بما خلف من مواقف صلابة تفسر حقائق المعركة الإسلامية مع صور الجاهلية الحديثة.. كان كمالاً لم تنقص منه أنصاف الحلول، فأصَّل وحَفِظ للدعوة معسكرها المستقل, وأبى كل محاولة للتقريب.

وأدرك أنه الوادي السحيق يقوم بيننا وبينهم, ذلك الوادي الذي يجب أن تشير إليه خوارط الدعاة, وتبيَّن عمقه واستحالة نصب الجسور بين جانبيه, الوادي الذي رآه بديع الزمان النورسي وصفه في مثانيه العربية, يبيِّن من خلال صفة فقه ثبات أمثال الهضيبي من القادة على المفاضلة المستعلية.

نداءٌ عربي ينبعث من جبال تركيا خاطب محذرًا:

أيها الدعاة: "لا تتقربوا إلى المدنيين بالمسامحة الدينية والتشبه, ظنًّا منكم أنكم تصيرون سرًّا بيننا وبينهم, وتملأون الوادي نبتًا, كلا, إن المسافة بيننا في غاية العمق, لا تملأونه, بل تلتحقون بهم أو تضلون ضلالاً بعيدًا".

يدعوهم بالمدنيين, هؤلاء أهل الجاهلية جريًا مع الاصطلاح القديم في نظرية في المفاصلة واضحة, أيام اشتداد جبروت أتاتورك.. ويرى التقرب والتسامح خطوةَ التحاقٍ بالكفر لا محالة, ولذلك لما كان ذاك الوادي الذي في غاية العمق حقيقةً وجب أن يكون مَن يشرف عليه جبلاً في غاية الشموخ, كجسد العمق.

القلب الجبل الذي لا يزيله شيء أول القلوب التي وصفها السري السقطي, فإنه رأى أن القلوب ثلاثة:

قلب مثل الجبل لا يزيله شيء, وقلب مثل النخلة, أصلها ثابت والريح تميلها, وقلب كالريشة, يميل مع الريح يمينًا وشمالاً.. فكان قلب الهضيبي تلك الهضبة وذاك الجبل, لم يزلْه عن جوهرِ الدعوةِ الذي عرفت به تهديدٌ أو حبالٌ تُلف مرةً بعد مرةً حول أعناق الذين معه, ولم تمِلْ به ريحُ إغراء أو تقذفه اليمين والشمال.

وقد يربأ البعض بأنفسهم عن ميل غير منتظم كميل الريشة حين تطير بها الريح في الفلاة وتقعد, ويرون الفضيحة في ذلك الصعود والهبوط الذي لا تضبطه الموازين, فيفلسفون لأنفسهم صعودًا وهبوطًا تنظمها مقاييس الهندسة في منظر جميل من الدوران, مبررًا مقننًا, لكنه يبقى دورانًا ليس بثبات.

ولذلك أباه الهضيبي أيضًا, واختار لنفسه المحلَّ الواحدَ الثابت, وكان المركز لم يشأ أن يتناقلَه صداع الأهواء والأماني والرخص, ولا أن يصيبه دوار الدوران.

ينفذ وصية صاحبه عبد الوهاب عزام في مثانيه:

فاثبتنْ, والزمان بالناس ماضٍ

والزم القطب لا يصبْك الدوارُ

فلزم القطب الثابت, والضعفاء من حوله يدورون، والتزم القطب الكاتب والبعض لدقيق حروفه لا يفهمون، ثم أتم ثباته في القطب بإغماض الجفن، فإن المكوث في المركز غير كافٍ للوقاية من الصداع ومجرد النظر ورؤية الدوران تدير الرأس أيضًا وتأتي بالدوار.

فثالثة كانت المثاني تناديه, كان القدر ناسبًا بين المرشد القائد الثاني ونصائح مختلف المثاني, لكنها المثاني الفارسية هذه المرة: أن يدعَ الحرص ويقنع ويزهد, ويغمضَ جفنه عن عرض الدنيا ومتاعها؛ فإن الصدف لا يحفل باللؤلؤ الثمين ما لم يغتمض.

ولقد لبَّى الهضيبي رحمه الله, وأغمض جفنه في بدايته عن الزوائل, وزهد حقَّ الزهد, وخاف الله ولم يخف طاغيةً, فغمض جفنه في نهايته على ثبات ومفاصلة وكلمة صلبة عالية، وبقي على من يخلفه في القيادة أن يواصل هذا الثبات المغتمض الصامت، في شموخ أمام وادي المفاصلة العميق، وأن يردد مع سيد:

أخي ستبيد جيوش الظلام

ويشرق في الكون فجر جديد

فأطلق لروحك إشراقها

ترى الفجر يرمقنا من بعيد

فذلك الذي أكده هرقل لأبي سفيان حين قال: "سألتك: كيف كان قتالكم إياه؟ فزعمت أن الحرب سجال ودول, كذلك الرسل, تبتلى, ثم يكون لهم العاقبة".. وكذلك أيضًا أتباع الرسل في كل قرن أيضًا, يبتلون, ثم تكون لهم العاقبة.. بل هو الابتلاء طريق التمكين, كما قرَّر الشافعي لما سُئل: "أيهما أفضل للرجل: أن يمكَّن أو يبتلى؟" كأنَّ دعوة الإسلام وصلت يومًا ما بلا تمحيص وتدريب وراء القضبان وتحت المشانق, وفوق أمشاط الحديد، فقال الشافعي: "لا يمكَّن حتى يبتلى".

حتمًا مفروضًا.. قد يطول هذا الابتلاء وسير الظلماء أو يقصر كيفما شاءت حكمة الله, لكنَّ المهمَّ أن يقوم في هذا الطريق مؤذن بعد مؤذن, يهدون الناس ممشاهم.

كلما أظلم الطريق واعيا

وتناجت بيأسها الركبان

أبصر الركب للمنازل نارا

وهداهم إلى الديار أذان

ولقد رفع الإمام حسن البنا رحمه الله صوتَه عاليًا بأذان أيقظ النيام, وخلفه الأستاذ الهضيبي رحمه الله فوفَّى وصدع بأذان ثانٍ أزال عن القلوب وحشة الطريق، وكأنه لمثل هذا اليوم كان نداء داعية اليمن القاضي محمد محمود الزبيري رحمه الله قتيل طريق الابتلاء هذا- يريد أذانا ثالثًا:

يا دعاة الإسلام تاريخكم ضـ خم ولكن هل فيكم من يعيده؟

ورنت من نوافذ الزمن الـ خالي إليكم عيونه وشهوده

فلقد أخذ الهضيبي مكانَه بجدارة في هذا التاريخ الضخم المشرف، وإن العيون لتتطلع إلى هذه الدعوة الرائدة المباركة اليوم، بعد نصف قرن من مولدها: هل فيها من يعيد تاريخ قادتها؟!

ذلك المأمول إن شاء الله وبعونه، فإنها دعوة معطاءة وهبت رجالها لفلسطين وللقنال ولمعركة الحرية في مصر، وأيسر من ذلك أن تهب ثالثةً رجلاً للصمت الشامخ يفتح الله على يديه.

رئيس وزراء أندونيسيا الأسبق يعزي بوفاة الهضيبي :

تلقت جمعية الاصلاح الاجتماعي برقية تعزية فى وفاة الأستاذ المرشد العام للإخوان المسلمين رحمة الله عليه من دولة رئيس وزراء اندونيسيا الأسبق الدكتور محمد ناصر وهذا نص البرقية :

" بلغوا تعازينا ومسلمي اندونيسيا لأسرة الفقيد الأستاذ حسن الهضيبي فقيد الإسلام تغمده الله برحمته ..

سلام عليك يا من قلت : أقيموا دولة الإسلام فى صدوركم تقم دولة الإسلام على أرضكم : وكتب الأستاذ أحمد محمد عبد الله يقول :

السنون تخط على جبينه آثارها الممتدة وتشعل رأسه شيبا .. لكنه يتحرك هنا وهناك .. شأن من لم يأنس الراحة أبدا .. وبعينين أسرفت الأوراق فى سلب نورهما..

فاختفيا وراء منظار يساعد على الرؤية حتي لا يذهب ما بقي من نور ..

وعصا عليها يتكئ بعد أن هدت الأيام من احتمال العظام ... وغدت واهنة بعد أن التصق الجلد عليها ... وقليل من ثياب ... لكن ما أدرك ما ما فى الثياب وما بين حنايا العظام وما يحويه هذا الجلد .. أو ما قاساه الجلد واحتمله !!

تلك صورة له فى أيامه الأخيرة بل والسابقة على هذه الأيام الأخيرة

وجاءا النعي مطرقا .. حسن الهضيبي .. إلى رحمة الله ... وتمتمت ... إلى رحمة الله ... ودعوت له بما أحسن من دعاء ..

ومرت بذهني صورة كبيرة ... ومشاهد متعددة ... هكذا ... يموت حسن الهضيبي المرشد العام لأكبر حركة إسلامية شهدها العصر الحديث , وإن ندت من بعض العيون الدموع وانفطرت من البعض الآخر القلوب .. لكني تساءلت : ماذا يعني ذلك ؟!

هل يعني ذلك ... أن الحزن رفيق ... وأن التوجع والتفجع ميزة لأزمة لكل من يجزن على مفارق .. رحماك ربي ... لعبدك الضعيف .. حسن الهضيبي.

الرجل الذى قاسي وتحمل قسوة السياط وهي تنهال على جسده الواهن دون أن تنتزع منه أنة أو يحاول أن يلتفظ بكلمة استعطاف لجلاديه كي يخففوا عنه شيئا من نارهم وسياطهم ...

كانت نفسه أكبر من أن يخضع أو يركع لأنه يعرف لمن يكون الخضوع والركوع .. وكانت نفسه أكبر من أن يهادن أو يسلم القياد لعبيد الدنيا وظلال الباطل !

وكانت نفسه أكبر كذلك من أن يترك ممن التزموا جادة الحق يتهاونون فى نصرة الحق إزاء ما يوجهون من تلف لأعصابهم من شدة ما تجرد به أكف الطغاة من صفع وقمع !! كان يكبر الهمة فى الرجال .. لأنه رجل .. رجل صنعته الشدائد .. وعركته الأحداث وجرب عراكها ... فعرف أن فيها اختبار المعادن فصمد صمود حامل الحق دائما ... لا تهزه صرخة جبار فاسد فاسق ... بقدر ما ترتسم على شفتيه ابتسامات السخرية من المعتز بسلطانه والرثاء الحزين لعبد تنكر لا صلة .. ونسي خلقه .

منذ أن سيطر الإسلام على حسه ... ومنذ أن تشرب العقيدة عن إيمان ويقين وصدق عرف أن الحق بنوره محاصر من جيوش الظلام ... وهجوم هذه الجيوش متوقع فى كل آن ... إلا أن النور هازم الظلم .. وما حق الظلم ... وأن كان ليل الظلم والظلام عند ضعاف الناس طويل !!حسن الهضيبي .. الذى ووري جثمانه الثري .. ليس كمن يأتون ويذهبون .. بمعني انه ليس ممن أتوا إلى الدنيا فقبلت الدنيا راحاتهم فاستراحوا ... كما أني لا أريد أن أقول كما قال المسرفون فى حياة الآخرين وهم يخلعون عليهم أبهة المعالي وزيوف الكلمات والألفاظ .

فحسن الهضيبي – رحمه الله – كان رجلا يعيش بالإسلام وللإسلام .. وبهدوء ما شهد الناس فى عصرنا الحاضر هدوءا مثله .. ذلك يؤمن بالعمل..... والعمل الجاد .. ويعرف أن الحق ... لا يرتبط بكثرة الكلام ما يستلزمه مصاحبة الأنصاف للإخلاص من قبل المخلصين المصنفين .

جاءه رجل وقد ضاق ذرعا بما عليه الناس من بعد عن الإسلام وخاطبه بلهجة المتسائل المتردد : متي تقوم دولة الإسلام والمجتمعات تنهار والناس فى ضياع ؟!!

أجابه بهدوء وتؤدة ولكلمات بسيطة ... لكنها كبيرة .. أقيموا دولة الإسلام فى صدوركم ... تقم دولة الإسلام على أرضكم .

نعم .. بهذا اليقين وبهذا الصفاء .. وبهذه الكلمات النقية المملؤة بالأمل والتفاؤل يعرف الرجل المسئول كيف يلقي شعاع اليقين فى صدور الرجال ... فليس الإسلام عبثا ولا هما دنيويا ... وإنما هو رسالة خالدة سامية وحياة مباركة زاكية ... لا مكان فيها للمتردد والمتخاذل لبناتها وأساسها .. تلك القواعد الصلبة من الرجال المؤمنين باليقين الحق .. والذين لا ينال منهم غرض الدنيا وهوي النفس منالا يبعدهم عن حقيقة ما آمنوا به

هذه الصدور العامرة بالإيمان. الممتلئة باليقين الصادق الوهاج , هذه الصدور التي تحط فيها كل بشائر الخير ... وتفرغ منها كل نذر الشر ... والتي تقبل كل حق وترفض كل باطل ... هي التي تتصور الإسلام عقيدة لا تزعزعها شهوات البشر ولا تطغي فيها ماديات الحياة الدنيا ..

كان يعرف كيف يخاطب الناس ... وكان يعرف كيف يحمل أمانة الكلمة .. مع إخلاصه لعقيدته ودينه وصبره على كل مكروه نزل به ... فلم يتراجع، ولم يتوان، ولم يعرف الخنوع ولا السجود لغير الله ..

وحسن الهضيبي ... رحمه الله رحمة واسعة .

العظام التي شربت كل أحقاد الطغاة .. والدماء التي تقبلت كل زفرات الغيظ ولم يتوقف بل ظهرت تسيل حمراء قانية لتعلن للعيون النهمة الجاحظة إنها ما زالت دماء تروي وتمد هذا الجسد الذي برته سنوات العمر المديد إلى جانب سنوات العذاب تمده بمدد يحيا به ويعيش وحسن الهضيبي ... الرجل الذى تمثل الصبر فيه رجلا ... والصمود الصامت الذى آثاره كل كوامن الحقد والغيظ فى مبغضيه ومبغضي دعوة الحق قبله .. فتهشمت أحقادهم على صخرة صمودة العاتية .. كل دعاوي المبطلين تحطمت على هذه الصخرة وسقطت رايات المنافقين أمام صبره وتحمله !!.. وانقضت عدة الصابرين .. ليتنفسوا الهواء قليل ...!!

يا أيتها الروح المطمئنة ... فى علياء الباري الكريم .. يا أميرا ككل الغار رأسك ما كان افتراؤهم عليك ... أيها الحبيب الراحل .. إلا اعترافا بفضلك وقدرك وعلو مقامك ومنزلتك ... وما كان ذلك إلا إظهار لكل نوازع الشر المتغلغلة فى أعماقهم ... فأفرغوها بأسلوبهم المعتاد .. ويظن الناس أن سنوات العذاب ... مع الصبر ... حزن يطول... وتقول أنت ... أنها مدرسة وطالب العلم لابد له من الصبر على التعلم !!

وتضرب الأمثال بالأنبياء والرسل الكرام .. وتعرج على رجال الدعوة فى كل زمن وما كان منهم من جلد وقوة بأس ورباطة جاش .

وتظل تردد .. إنهم يهدونني أعظم ما أتمناه وما يناله صابر ... ويبقون لأنفسهم.... بل يستزيدون ما ينصب على عاق .. أشرب فساد التصور والاعتقاد .. فاعتدي وطغي وبغي!!

وتنفخ فى شباب الأمة .. روح الإسلام الشاب دائما .. الذى لا يعرف التراجع.. وتطلعه على أزكي صوره وأنبل مواقفه .. وعندما أترحم عليك كلما ذكرتك .. أو ذكرت.. أشعر بأن فى السماء نجما جديدا ينادي : أن .. يا أنصار الحق ... أمانة فى أعناقكم هذا الدين فالتزموه وانتهجوا طريقه .. وإن ... يا أنصار الحق ..ز أمانة فى أعناقكم هذا الإسلام العظيم .. فلا تفرطوا فيه أبدا..

وأن... يا أعداء الباطل ... لا يغرنكم زيف ما ترون فإنه أمر أمامكم حائل ..ز لكنه ظل زائل؟!..

وأن... يا شباب الأمة .. ليس رجل مسلم عامل عن الدنيا .. إلا شعور بحمل التبعة من بعده فانهضوا فما أنتم بجانب عز ما جانبتم طريق دينكم .. وما أتم بموقع كرامة ما لم يكن هذا الكتاب العزيز قبسكم ورائدكم .. والمصطفي الأمين قدوتكم وقائدكم ... كلمات هي حقا .. لكنها .. ليس للقراءة !!

وتحذير وتوصية.. ولكنه ليس للعاطفة الفوارة .. بقدر ما هو للتدبر والاتزان والعمل .. ويمضي الركب دوما دون توقف فما كانت القافلة يوما بباقية في مكان ...

أيها الحبيب الراحل .... سلام عليك في الصالحين والأبرار والمتقين ...

وإننا أن نتعز اليوم فإنما نعزي أنفسنا بأنا نجد في صدورنا وميض هذا الشعاع وجذوة ذلك العمل الحار الذى حملك على التحمل بكل ما أتاك ربك من قدرة وصبر ...

ونسأله الله العزيز .... لك الرحمة والرضوان .... ورحمة ربك خير ..

قادة الحركة الإسلامية فى باكستان ينعون رائد الحركة الإسلامية فى الشرق الأوسط :

فى غاية من الحزن فوجئنا بنبأ وفاة الأستاذ حسن الهضيبي بواسطة جريدة " المجتمع الكويتية. واستغربنا وصول هذا النبأ بعد وفاة الأستاذ الجليل بأسبوع تقريبا.

يالصحافة العربية !! لا تدع أى نكرة يموت فى ركن مهمل من أركان الأرض إلا ونشرت خبر موته فى أعمدة مثيرة وصفحات بارزة.

ولكنها لم تعر عنايتها – ومن يرد الله به خيرا يسلبه التوفيق – ولم تهتم بوفاة رجل ينطبق عليه تعبير سيدنا المسيح عليه السلام ( ملح الأرض ) أو تعبير شاعر عربي – بنيان قوم – أو المثل السائر عندنا :" موت العالم موت العالم ".

نعم أن الموقف الذى وقفته الصحافة العربية من هذا الحادث موقف لا يستثني منه حتي الصحف التي كنا نظن فيها خيرا والتي تدعي – بتمثيل الإسلام – اللهم إلا صحيفة ( المجتمع) الكويتية و( الشهاب) البيروتية . فتقدم إليهما - ومشاعر الامتنان إليهما – بأصدق عبارات التقدير والإستحسان والحب والولاء لما رأينا فيهما من همة عالية وروح سامية فى الجهر بالحق والجهاد فى سبيل الله بدون أن تخافا لومة لائم أو قسوة باطل أو لطمة تيار من التيارات المعادية حتي فى أحلك الأيام وأمرها وسوف يحنو عليهما مؤرخ المستقبل إكبارا لهذه الجرأة وتقديرا لهذا الدور . ويصدق عليهما قول الشاعر الهندي غالب : لم يبرز الحلبة سوي قبس . فهل كانت البادية عقيمة ضيقة أو ضيق عين الحسود إلى هذا المدي .

لقد هزت هذه الفاجعة الإسلامية الكبيرة المسلمين فى باكستان عامة ورجال الحركة الإسلامية خاصة حزنت لها القلوب ورقرقت لها العيون : عيون الشباب والشيوخ والفتيات والسيدات فهل يعبر قولنا : بأ، الأستاذ الهضيبي قمة شاهقة من قمم العقيدة والسلوك ومثال رائع من الخلق والجهاد , عن عظمة دور الهضيبي فى الحياة كلا!! إن هذه العبارة لا تغطي ما يستجيش فى القلوب من عواطف ومشاعر ولا تصور ما وصل إليه الأستاذ الهضيبي من الإستعلاء فى الإيمان والسمو فى العقيدة والسلوك. ودعنا نترك هذا الأمر لمؤرخ المستقبل لكي يكشف لمعاصريه عمل الهضيبي وجهاده وصموده وليس لنا إلا أن نقول ما قاله الشاعر الفارسي الحافظ الشيرازي ومعناه بالعربية : " لن يموت من حي قلبه بحرارة الشوق شوق الحقيقة مع الهدف والغاية " لأنه نقش على صفحة التاريخ خلود هذا الطراز من الرجال كنقش العبارة على الحجر .

وعقدت الجماعة الإسلامية فى مركزها العام بلا هور حفلة تكريم الأستاذ الهضيبي القي فيها رجال الجماعة كلمات ملؤها الحزن والأسي وأحاديث تناولت جهاد الإخوان المسلمين ومواقف الهضيبي وخطبا تضمنت تقدير هذا الرجل العظيم وصموده وإباءة أمام الطواغيت . فما كان لعين إلا لتعزز دموعا. وما كان لقلب إلا أن يفتت حزنا وبدأت الحفلة بتلاوة آيات من الذكر الحكيم تلاها المقرئ الشيخ معين الدين " من داكه – باكستان الشرقية" من آية ( وما كان لنفس أن تموت إلا بإذن الله كتابا مؤجلا...) إلى آخر أية ( فأتاهم الله ثواب الدنيا وحسن ثواب الآخرة والله يحب المحسنين) . ثم قام الشيخ كلزار أحمد الأمين العام لجمعية اتحاد العلماء وأعرب عن مشاعره الجياشة نحو هذا المصاب الجلل قائلا:

إن الأستاذ المرحوم كان منارا للهداية اهتدي به الملايين من الشباب المسلم لا فى الشرق الأوسط بل فى العالم كله من خلال مواقفه البطولية الرائعة ومن خلال صموده الذى جدد تاريخ الأبطال من الأسلاف الصالحين إنه المسلم الذى أعاد إلى الإسلام كرامته ومجده بمواجهة المحن القاسية والمتعب المتلاحقة كصبر بلال وبإستقامة كاستقامة أحمد بن حنبل و برحبة صدر ابن تيمية . وقد سار المرحوم فى حياته مسلكا جعل من موته حياة خالدة تكون للأجيال أسوة يحتذي بها ومثلا ينبع .

إنه المسلم الذي جعل مصباح الحق الذى كان الشهيد حسن البنا وزملاءه الأجلاء كعودة وفرغلي وطلعت أشعلوه بدمائهم ومهجهم جعل ذلك المصباح يواصل إضائته وبث نوره باستقباله أنواع المحن وألوان المتاعب وبثغرة باسمة ووجه طلق .

واستطرد الشيخ كلزار قائلا : لا يربطنا بالمرحوم وأواصر الجنس أو اللسان أو التراب أو المصلحة المادية بل الرباط الذى يربطنا به هو رباط الإيمان وآصرة الروح التي لا تعرف الانفصام والتي تهون فى سيبلها كل الروابط المادية . ومن روائع هذه الروابط أننا ايوم نشعر فى قلوبنا بموت المرحوم نفس ما يشعر به أخوننا فى مصر والبلاد العربية الأخري من حزن وآسي..

وقال : إن المرحوم برهن برفضه متاع الحياة الدنيا من منصب وسلطان ومن ذهب وفضة , وبتقلده مسئولية لا تجلب إلا المحنة والبلاء , مسئولية قيادة الحركة الإسلامية تجاه الحركات الهدامة وتجاه الطواغيت برهن بذلك أن المؤمن الحقيقي الذى عبأ الله قلبه بنور من جلاله وحبه لا يكترث بشئ فى الدنيا غير مرضاة الله . وكل همه أن يري رأيه الإسلام فوق سائر الرايات وقارن الشيخ كلزار احمد بين ما تم على أيدي حركة الإخوان المسلمين من بعث إسلامي رائع فى البلاد العربية وما تحقق من جهاد إسلامي ملئ بالبطولات والروائع فى معارك فلسطين وقناة السويس , وما تحمل زعماء الحركة فى سبيل الدعوة والجهاد من آلم ومتاعب بدأ من الشهيد البنا إلى حسن الهضيبي والشهيد سيد قطب قارن بين ذلك وبين ما قام به الأستاذ أبو على المودوي مؤسس الحركة الإسلامية فى القارة الهندية الباكسانية من حركة قوية لإحياء الإسلام وتطبيق نظامه وما لقي من المتاعب والمحن فى هذا السبيل .

ثم خلص إلى أن الدعوة التي دعا إليها الإخوان المسلمين هى نفس الدعوة التي جاء بها محمد صلى الله عليه وسلم كما ان دعوة الإخوان هى نفس الدعوة التي تجاهد لأجلها الجماعة الإسلامية .

ولذلك أن كل ما يصيب إخواننا المسلمين فى البلاد العربية من ألم وأوذي من الطبيعي أن نشعر نحن كذلك بمرارته وأثره .. وفى الختام دعا الشيخ كلزار للمرحوم بمغفرة من الله ورضوانه ودعا لذويه ولأتباعه بالصبر والسلوان

وتبعه الأستاذ ظفر أحمد الأنصاري عضو البرلمان المركزي وأشار فى كلنته القصيرة إلى لقاءاته مع المرحوم الهضيبي إلى ما قبل عشرين سنة وكيف أن المرحوم بذل جهدا جبارا فى القضاء على الفتنة التي حاول بها الخصوم تمزيق صف الجماعة . ثم ألقي الأستاذ خليل أحمد الحامدي مدير دار العروبة للدعوة الإسلاميى مقالا مفصلا تناول فيه ترجمة حياة المرحوم وقسمها إلى ثلاثة أقسام:

الهضيبي كقاض مسلم لا يؤمن إلا بشريعة الله.

والهضيبي كأسير صابر ضرب مثلا رائعا من الصبر والمصابرة والتمسك بالمبدأ تحت وقع الشياط وعلى كل هذا المقال كان حاولة ناجحة لعرض جهاد الهضيبي المرير فى سبيل أعلاء كلمة الحق وإعادة كرامة الإسلام. ثم قام الأستاذ طفيل محمد أمير الجماعة الإسلامية فى باكستان وأشاد بدعوة الإخوان المسلمين وجهادهم لتحرير فلسطين وتحقيق الجلاء وكفاحهم لأجل إحياء الإسلام وتطهير المجتمع من شوائب الجاهلية والنفاق ومحاولاتهم فى إنقاذ الشباب العربي من الخليج إلى المحيط من جاهلية القرن العشرين وقال :

ما قامت به جماعة الإخوان المسلمين تحت قيادة مؤسسها الإمام البنا وتحت قيادة الشيخ حسن الهضيبي وزملائهما الأكارم هو حلقة متصلة من الحركات الإصلاحية التي نشأت فى مختلف عصور التاريخ الإسلامي متمثلة فى جهود الأئمة والفقهاء والمصلحين والمجددين والمجاهدين فى أقصي العالم الإسلامي إلى أقصاه وأشاد الأستاذ طفيل محمد بدور الشيخ الهضيبي بصفة خاصة فى هذا المضمار وشبهه فى الوقار والاتزان بالإمام أبى حنيفة وفى حماسه الملتهب والغيرة على الإسلام الإمام ابن تيمية وفى قيادته الحكيمة بالقائد الإسلامي المعروف صلاح الدين الأيوبي , وفى تحمله المشاق والآلام بالإمام الممتحن أحمد بن حنبل .

وأضاف قائلا: إن الأستاذ الهضيبي عرض بموافقة الحاسمة على الحركات الإسلامية المعاصرة نموذجا أعلى للتضحية والفداء والثبات على العقيدة ونزاهة السلوك وسمو الأخلاق ورحبة الصدر والجهر بالحق دون الاكتراث بالنتائج ومواصلة الدعوة إلى الله حتي فى زنزانات السجون وظلمات المعتقلات . وقال : أن هذا الدور العظيم يؤديه فى سبيل الإسلام وأمة محمد صلى الله عليه وسلم يجب أن يدرسه كل من ينسب نفسه إلى الدعوة الإسلامية ويدعي العمل لأجلها ليفهم جيدا أن الطريق الذى يريد أن يسلكه ليس طريقا مفروشا بالورود والأزهار ومتع الحياة الدنيا بل هو طريق محفوف بالأشواك والمكاره وليفهم جيدا معالم هذا الطريق ومسئوليات هذا الطريق كما قال الشاعر الهندي غالب :

" الذى يحرص على الحياة ويحب النفس لا يدخلن حي الحبيب أبدا.

وفى ختام الكلمة ناشد الأستاذ طفيل محمد رجال القانون والقضاء بصفة خاصة إلى دراسة الشيخ الهضيبي ليعرفوا كيف أن الرجل كان يعيش عيشا رغيدا ويكسب دخلا كبيرا ويتقلب فى فرش الحرير والسنجاب ضحي بكل ذلك فى سبيل الدعوة التي أقتنع بها ولأجل إقامة دولة العدل والقانون حيث تخلي عن حياة النعمة والرغادة والدعة والرفاهية إلى حياة الجد والكد والتقشف والمحنة باطنها فيه الرحمة – وظاهرها من قبله العذاب – فهل من دارسي القانون وطلاب الحقوق وأصحاب القضاء عندنا من يتخذ طريق الهضيبي سبيلا ويرضي بالله ربا وبالإسلام دينا وبمحمد صلى الله عليه وسلم رسولا ثم لا يبالي فى أى شق الله يكون مصرعه ؟! وختم الأستاذ طفيل كلمته الملتهبة بدعاء من الله سبحانه وتعالي أن يتقبل الهضيبي وجهاد زملائه ويعلي درجات فى جنات الفردوس الأعلي ويجعله كلمة باقية فى عقبه لعلهم يرجعون .

وأخيرا جاء دور سماحة الأستاذ الكبير مؤسس الحركة الإسلامية فى القارة الهندية الباكستانية المجاهد الجليل أبو الأعلي المودودي وبدأ كلمته وهو جالس على الكرسي من مرض لا يسمح له القيام قائلا:

الحمد لله العلي العظيم والصلاة والسلام على رسوله الكريم وعلى آله وأصحابه أجمعين , وبعد أخواني الأعزاء..

من المصادفات التاريخية الرائعة أن الأيام التي بدأ فيها الأستاذ الشهيد حسن البنا رحمه الله بحركة البعث الإسلامي فى مصر هى نفس الأيام و على وجه التقريب فى القارة الهندية الباكستانية وليس هناك فرق بين عمر الحركتين إلا يسير جدا يكاد لا يتجاوز سنتين أم العصر الذى واجهته الحركتان فهو متجانس تماما . ثم بقينا لا نعرف عن الإخوان شيئا ولا يعرفون عنا شيئا لسنوات عديدة رغم وحدة الهدف ووحدة الطريق وبعد أن مضي على هذا الوضع مدة من الزمن قرع أسماعنا صوت بليغ يأخذ بمجامع القلب وينفذ إلى سويدائه فالتفتنا إليه فإذا هو صوت الإمام الشهيد حسن البنا ببيانه القوي وأسلوبه المشرق وحلاوته الربانية وإذا مصدره القاهرة التي كانت ترزح حينذاك تحت نير الحكم الملكي المستبد والإستعمار الانجليزي الغاشم وأدركنا أن هذا الرجل الملهم أنشاء حركة باسم" الإخوان المسلمون"التي تعمل لنفس الغايات والمبادئ التي تعمل لها الجماعة الإسلامية فى القارة الهندية الباكستانية كما أن الإخوان كذلك أدركوا بعد فترة من الزمن دعوة الجماعة الإسلامية وأهدافها وآمالها .

ثم تلاقت الدعوتان وتعارفت الأرواح وتجانست القلوب وتوثقت عري الألفة والتعاون وتوحدت الآمال ولا شئ يفصل بينهما إلى اليوم من ناحية الغاية والهدف ومن حكمة الله البالغة وقدرة المقدور أن نال مؤسسي حركة الإخوان المسلمين ومرشدها الأول حسن البنا الشهادة فى سبيل الله . ثم جاء مرشدها الثاني وقام بواجبه أحسن القيام وها قد لقي ربه أخيرا أما الذي أنشأ الحركة الإسلامية فى القارة وقام بواجبه أحسن القيام وها قد لقي ربه أخيرا ز أم الذي أنشأ الحركة الإسلامية فى القارة بواجبه أحسن القيام وها قد لقي ربه أخيرا . أما الذي أنشأ الحركة الإسلامية فى القارة الهندية الباكستانية فهو باق على قيد الحياة ليتحمل آلام فقدان زميليه الجليلين أسكنهما الله فسيح جناته ونحن الآن فى صدد رثاء الشيخ الهضيبي . والعين تدمع والقلب يحزن وإنا بك أيها الشيخ الهضيبي لمحزونون .

وللأسف البالغ أن الذين يقدرون حركة الإخوان المسلمين وخدماتها حق التقديرهم قليلون جدا فى بلادنا لأن الدعاية التي قامت بها القوي المعادية للإسلام ضللت الكثير من الناس ولكن أولئك الذين عرفوا بهم جيدا هم يعلمون علم اليقين أن العمل الإسلامي الذى تم فى الفترة الأخيرة فى البلاد العربية بصفة خاصة وفى الدول الأخري بصفة عامة والجهود التي بذلت فيها بعث الوعي الديني والخلقي , ولتبصير المسلمين عامتهم وخاصتهم بالإسلام الصحيح كل هذه كانت ثمرة جهاد الحركة الإسلامية التي أنشأها الأستاذ الشهيد حسن البنا ونماها الأستاذ حسن الهضيبي وعبد القادر عودة وسيد قطب رضي الله عنهم .

أيها الأخوة الكرام لو قدر لأحدكم أن يتجول فى العالم العربي لرأي بأم عينيه من الخليج إلى المحيط أن أى رجل يتحمس للإسلام و يعض عليه بنواجذه ويتمتع بالفهم الإسلامي العميق والغيرة على دين الله والسلوك الإسلامي الحميد فهو من الإخوان المسلمين ينتمي إليهم أو يتأثر بدعوتهم أو على الأقل له صلة بهم حتى فى أمريكا وأوربا كل أولئك الذين تراهم مشبعين بروح الإسلام من الشباب العرب معظمهم من أتباع هذه الحركة إلى أن صارت " الإخوانية" – إن صح هذا التعبير – رمزا للإسلامية فأيما رجل التقت فيه الثقافة الحديثة بالتدين اعتبره الناس بدون بذل الكثير من الذكر أنه أخ من الإخوان ملتزما أو منتسبا أو متأثرا أو مستفيدا . ولهذا عندما أصيبت بعض البلدان العربية بداء اللادينية والقومية والأنظمة الأخري المعادية للإسلام أصبح الأمر فيها أن كل شاب رزي يتجه إلى الجامع , ويصلي بانتظام لاحقته المباحث وطاردته ولقد كان من فضل الله تعالى على البلدان العربية كبيرا إذ بدأت حركة الإخوان فى هذه المرحلة من التاريخ التي أخذت فيها البلدان العربية نصاب بأدواء العلمانية والقومية والإنحلال الخلقي ولا ندري ماذا سيكون أمر هذه البلدان بعد كل ذلك لو لم يقدر الله لحركة الإخوان أن تبرز إلى الوجود وتمسك بالموقف وتقف فى وجه التيارات المدمرة لكل قيمة فكرية أو خلقية .

وفى هذه المناسبة من الجدير بالإشارة إلى أنه من قبل 25 أو 30 سنة عندما كانت حركة باكستان فى قمة النشاط فإن جميع أولئك الذين كانوا متعرين من الشعور الإسلامي أو المتحمسين للقومية والعلمانية فى البلاد العربية كانوا من مؤيدي " المؤتمر الوطني الهندي" وزعيمه " المهاتما غاندي" الذى كان يحارب فكرة قيام باكستان ففي هذه الدوامة العاتية من الأفكار الزائفة والدعوات المنحرفة كان الإخوان المسلمون هم الوحيدون فى تأييد فكرة باكستان والدعوة إليها . بل هم لا يزالون يناصرون باكستان فى الملمات ويدافعون عنها فى كافة المجالات . لا نزال نذكر كلمة الدكتور مصطفي السباعي رحمه الله فى إحدي المؤتمرات الإسلامية : باكستان لا تحتاج إلى تعيين سفرائها فى البلاد العربية فإننا معشر الإخوان نعتبر أنفسنا سفراء لباكستان : الدولة التي قامت على الإسلام . ومع هذا فقد كان غريبا أنه عندما تتابعت على الإخوان حلقات متصلة من الاضطهاد والتنكيل لم نر هنا إلا قلة من الناس تعاطفت معهم وتألمت بالآمهم وأغلب الناس قد تظللوا بدعاية الأعداء من افتراءات ملفقة واتهامات كاذبة ألصقت بهم وعندما صبت على الإخوان تلك الضربات القاسية الضربات التي اقشعرت منها الجلود وتندي لها جبين الإنسانية حيث ذهب ضحيتها خيرة قادتها وخيرة شبابهم لم يفقد هذا البلد – باكستان من حبذا هذه الإجراءات وبار القائمين بها .

وندعو الله تعالي بإخلاص وصدق أن يغمر الله تعالي الشيخ حسن الهضيبي بفضله وحنانه ويعلي درجاته فى جناته ويجزل مثوبته لما قام به من تضحيات وخدمات وينتقم بمحض عدله من الذين اضطهدوا واضطهدوا زملاءه طيلة عشرين سنة ويكتب للإخوان أجرا حسنا لما صبروا واستقاموا وتحملوا من المصاعب مالا يتصوره الإنسان وخدموا الحركة الإسلامية فى غياهب السجن والمعتقلات .

وندعو الله تعالي أن يعلم درجات المجاهدين من الإخوان الذين قاتلوا اليهود فى حرب فلسطين فاستبسلوا وقاموا ببطولات رائعة حتي الجيوش المصرية وجيوش الدول العربية كما خافوا هؤلاء المجاهدين الأبطال فالذين نالوا الشهادة فى هذه الحركة نسأل الله أن يتقبل شهادتهم . والذين جاهدوا وحققوا ما عاهدوا عليه أعطاهم خير ما يجزي به عباده المجاهدين .

نسألك اللهم أن ترفع درجات الإمام حسن البنا فى الملأ الأعلي وأن تجعله من المقربين لك. لأنه هذا هو المجاهد الذى أنشأ حركة الإخوان الإسلامية وغير مجري حياة ألوف مؤلفة من الناس ونفخ فى روعهم حب الجهاد والاستمانة فى سبيلك وأنشأ منها جيلا مؤمنا صامدا صابرا لم يستطيع العدو أن يميل به عن جادة الحقة أو يمحو آثار الحركة الإسلامية رغم ما صب عليها من الظلم والعدوان والعذاب .

اللهم ربنا تقبل بفضلك وكرمك خدمات الذين شنقوا فى سبيلك كالأستاذ عبد القادر عودة والشيخ محمد فرغلي والأستاذ يوسف طلعت وزملائهم وسيد قطب وزملائه عبد الفتاح إسماعيل ومحمد هواش واكتب لهم ما كتب للشهداء الأبرار من أجر وعطاء، وأجعلهم من الذين أنعمت عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين .. وحسن أولئك رفيقا .

الهضيبي .. فقيد الدعوة الإسلامية

كتب الأستاذ محمد الصباغ يقول في رثاء الإمام الهضيبي :

فجع المسلمون عامة والدعاة منهم خاصة بالقائد الإسلامي الفذ الأستاذ حسن الهضيبي المرشد العام للإخوان المسلمين و رحمه الله رحمة واسعة . إن الحسرة تملأ قلوبنا ونحن نودع قائدنا وقد فقدنا قبله بأيام معدودة المفكر الإسلامي مالك بن نبي وسبقهما إلى لقاء الله عدد من الدعاة المعاصرين الأفذاذ أمثال الشهيد حسن البنا والشهيد عبد القادر عودة والأستاذ مصطفي السباعي والشهيد سيد قطب وغيرهم رحمهم الله تعالي وجزاهم عن الإسلام خير الجزاء .

وفقد الأستاذ المرشد رزء يجل عن الوصف ولكنه لا يمكن أن يزلزل ثقتنا بنصر الله ولا يمكن أن يصرف جنود الفقيد الكبير عن متابعة خطواته الهادفة الحقة . إن من الوفاء لهؤلاء الدعاة الإعلام أن يصمم جنود هذه الدعوة على المضي فى الطريق دون وهن ولا تردد و لأن الدعوة لم تكن فى يوم من الأيام متوقفة على استمرار حياة رجالها , وهذا أبو بكر الصديق رضي الله عنه يقول أثر وفاة رسول الله صلى الله عليه وسلم " أيها الناس من كان يعبد محمد فإن محمد قد مات ومن كان يعبد الله فإن الله حي لا يموت ".

ولا يزال أهل الحق ظاهرين حتي تقوم الساعة , وما خلت الساحة يوما من بطل يتناول الراية من بطل تقدمه , ولم ترهب الدعاة إلى الله المخاوف ولا قعدت بهم العقبات والنكبات بل كانوا يتقدمون الصفوف على الرغم من ذلك كله مجاهدين صابرين حتي ينالوا احدي الحسنين : إما النصر وإما الشهادة . توفي الأستاذ الهضيبي بعد أن قضي أكثر من ثمانين عاما داعية موفقا ومجاهدا صابرا .. وستكون أحداث حياته موضع اهتمام ودراسة لعدد من تلامذته المقربين والباحثين المنقبين وسيتاح لنا فى المستقبل أن نقف على كثير من صفحات حياته المباركة المطوية لنستخلص منها دروسا نافعة , ومن أجل ذلك فلن أتحدث فى هذه الكلمات عن شئ من ذلك وإنما سأحصر كلامي عنه بصفته رجل العقيدة الصامد المجاهد .

ولد الأستاذ الهضيبي فى مطلع القرن الهجري , وعاش حقبة انبهار الناس بالحضارة الأوربية وقد سقط فى هذه الحقبة عدد من المثقفين , وارتاب آخرون ورأي الأستاذ الراحل عوامل فتنة المسلمين عن دينهم قائمة وأسباب الزيغ نشيطة فانتظم فى جماعة الإخوان المسلمين التي تدعو الناس غلى استئناف الحياة الإسلامية من جديد حتي تقوم دولة الله فى الأرض ويحتكم الناس فى حياتهم إلى شريعة الإسلام وينقذوا أنفسهم من عذاب الله الشديد .. وكان جنديا مثاليا فى هذه الدعوة الرائدة .

ومرت دعوة الإخوان بأزمات متلاحقة كان من أقساها اغتيال القائد البطل الإمام حسن البنا وبلغت الأزمة عنفوانها عندما واجهت الدعوة اختيار الخلف والبديل ومن الله على هذه الدعوة وأخرجها من هذه الأزمة ظافرة بالأستاذ الهضيبي مرشدا عاما , وتسلم قيادة الجماعة فى ظرف حرج عصيب , وأوضاع صعبة فاستطاع تغمده الله برحمته و وأن يتابع السير بكل حزم وقوة وان يقود الحركة الإسلامية العظيمة إلى التقدير والتميز والانطلاق ... لقد حكم مقاييس الدعوة وصدر عنها , استبعد المصلحة الذاتية والمكاسب المؤقتة وترك المجاملة والمدارة على حساب الدعوة لا يفرق فى ذلك جورا على المباديء الإسلامية والقيم الخلقية المثلي , ومن هنا كان ثباته على المبدأ ولو كان فى ذلك السجن والتعرض للموت وإباؤه المسايرة ولو كان فى المسايرة المنصب والوزارة وهو بذلك يسلك طريق الدعاة الصادقين الذين دخلوا بسلوكهم هذا باب الخلود لأن كثيرا من اصحاب الألقاب وذوي السلطان يموت ذكرهم يوم يموتون .. أما أمثال الهضيبي من الذين يؤثرون الآخرة على الأولي ويحكمون منطق الدعوة فى حياتهم فسيبقون أحياء فى أذهان الأجيال القادمة من أبناء الدعوة وستبقي سيرتهم مجال تدبر واعتبار .

كان رحمه الله يمتاز بعمق الفكرة وسداد النظرة فلقد زار دمشق عام 1954 ووقف فى قاعة المحاضرات فى جامع دنكز كان يغص بالألوف من المسلمين وقف ليقرر أعمق رأي فى قضية فلسطين قال يوم ذاك ما فحواه :

إننا كثيرا ما نسير وفق المخطط الذي يرسمه لنا أعداؤنا , أنهم يوجدون لنا مشكلة تلح علينا حتي تنسينا المشكلة الكبري ويطرحون شعارا براقا فننادي به وننسي الشعار الأهم .. وكذلك كان الشأن بالنسبة إلى قضية فلسطين , إذ كنا ننادي سنة 1948 بطرد اليهود المحتلين من بلادنا واستعادة أراضينا ولكنهم شغلونا بقضية اللاجئين حتي صرنا ننادي بإعطاء اللاجئين حقوقهم وإعادتهم إلى أراضيهم ونسينا القضية الكبري قضية تحرير فلسطين – وقال : المسلم ينبغي أن يكون واعيا لذلك أتم الوعي ..ويذكرني هذا الموقف بالزيارة الضخمة التي قام بها الأستاذ الهضيبي لبلاد الشام فلقد استقبل استقبال الملوك , ولا أعلم أن سوريا استقبلت شخصية ليست لها صفة رسمية من بلد عربي أو أجنبي كما استقبلت الأستاذ المرشد . فقد خفت مئات المستقبلين إلى استقباله على الحدود , ودخل دمشق تحف به الدراجات النارية وتتبعه مئات السيارات. وكان موضع الحفاوة والترحيب فى كل مكان زاره فى بلاد الشام .

أما شجاعته النادرة فأستطيع أن أضرب لها المثل الآتي الذى شهدته بنفسي خلال زيارته هذه : عندما كان فى دمشق موضع التكريم البالغ أعلن حكام مصر المعاهدة مع انكلتر , وبعد أن درسها رآها قيدا يغل الشعب وذلا يلحق بالبلاد فأعلن موقفه الجرئ منها , وقرر أن توقيعها خياني لله والدين والبلاد وطالب بإلغائها فورا , لأن المعاهدة السابقة ستنتهي بعد اقل من سنتين وتوتو الجو بين الإخوان والحكومة ولكن ذلك لم يجعله يغير من عزمه على العودة إلى مصر , ولم يؤثر السلامة والبقاء حيث الأمن والتكريم , بل فضل طريق الدعوة من النصح للأمة ولأصحاب السلطة فيها والصبر على ما يصيبه من أذي فى الله . وقد حاول عدد من إخوته أن يثنوه عن عزمه فما استطاعوا لأنه رأي أن القائد ينبغي أن يكون قريبا من موقع المعركة حتي يتسني له أن يقودها على الوجه الأفضل , وعاد إلى مصر ليلقي السجن والتعذيب, وكان صابرا على ما لقيه فى سبيل الأفضل, وعاد إلى مصر ليلقي السجن والتعذيب, وكان صابرا على ما لقيه فى سبيل دعوته فلقد قضي العشرين سنة الأخيرة من حياته فى السجن, والإقامة الجبرية والاضطهاد, تحمل ذلك على شيخوخة متقدمة, ومرض عضال, لم يهادن , ولم يسقط فى الطريق كما سقط كثير من الضعفاء .

لقد قطع صلته بدنيا الناس, ووصل قلبه بالله تعالي, ولم يعد يبالي بما يلاقي ما دام مسعاه فى مرضاة الله عزوجل, وعلم أن الحياة الدنيا ابتلاء المؤمنين ومن أهم مظاهر هذا الابتلاء الترغيب والترهيب, وذلك بأن تعمد السلطة إلى الترغيب بالمغانم المادية والترهيب بالإهانة والتعذيب فمن استعلي فوق المغنم والمغرم لم تستبعده مصلحة ولم ترهبه قوة ولقد كان الأستاذ المرشد قليل النظير فى ذلك .

أما قيادته للحركة فقد كانت شيئا عظيما يدل على موهبة نادرة ذلك لأن قيادة النفوس البشرية تقتضي أن يكون لدي من يتولاها نصيب كبير من الذكاء والإخلاص والصبر وبعد النظر, والكرم والحلم والعفو والحزم, والورع والتقوي, والرحمة والجرأة وتتزايد صعوبة القيادة عندما تمر الحركة فى أزمة اضطهاد من السلطة وتضطر أن تكون سرية .. فى هذه الحالة تتضاءل الزواجر والروادع وتصبح الطاقة المعنوية والعاطفية للقائد هي عدته الوحيدة , وكلما طغت تيارات المنفعة والإرهاب كان الوضع أصعب .

وكل من عرف تاريخ ممارسة الأستاذ الهضيبي لقيادة أعظم حركة إسلامية ظهرت فى العصر الحديث عرف الوضع الحرج الذى تغلب عليه , والروح المعنوية الكبيرة التي كان يتمتع بها والمواهب الضخمة التي حباه الله بها .

وكان رحمه الله يريد أن يأخذ إخوانه أنفسهم بالجد فى التزام الإسلام فى حياتهم الشخصية حتي يكون سلوكهم دعوة حية وشاهدا ناطقا بعظمة فكرتهم وصلاحيتها للحياة فقد سمعت إنه كان يقول : أقيموا دولة الإسلام فى نفوسكم تقم فى أرضكم.

إننا إذ نودع أستاذنا وقائد دعوتنا لنعاهد الله على السير فى طريق الإسلام المتميز الواضح, وإن نتابع الخطي إلى آخر رمق حتي إذا وافانا الأجل المحتوم حملنا أبناءنا هذه الأمانة وجعلناها فى أعناقهم ليسلموها إلى الأجيال التي تليهم .. حتي يأتي ذاك اليوم الأغر الميمون يوم يعود للإسلام مجده وتعلو رايته خفاقة فى أرجاء هذه المعمورة . غفر الله لفقيدنا العظيم وبلغه فى دار كرامته ما أعده للصديقين والشهداء وعوض المسلمين خيراً منه ... وإنا لله وإنا إليه راجعون .

نحن على العهد .. يا قائد الشهداء

وكتب الأستاذ نبيه عبد ربه كلمة فياضة عبر فيها عن مكنون عواطفه ومشاعره نحو الإمام الراحل فقال :

(( الإسلام دين حياة, ولا حياة مطمئنة بدون نظام, ولهذا حرص الشارع الحكيم على تنظيم كل شئ فى حياة الفرد والجماعة وفنهي الفرد عن العزلة, دفعه للعيش والتعاون مع الجماعة و وأوصاه بعدم الخروج عليها ما دامت على الحق, ولكي لا تتضارب مصالح الأفراد أو تتصارع كان لابد أن يوجد نظام شؤون حياة الأفراد والجماعات , ويحدد لكل فرد ما له وما عليه و وأن يوجد قائد لكل جماعة يسهر علي تطبيق هذا النظام ويقف عند حدوده .

والقيادة ركن من أركان كل جماعة مهما صغر حجمها, ولهذا قال عليه الصلاة والسلام إذا كنتم ثلاثة فأمروا أحدكم " والقائد جزء من الدعوة, ولا دعوة بغير قيادة وعلى قدر الثقة المتبادلة بين القائد والجنود تكون قوة نظام الجماعة وأحكام خططها ونجاحها فى الوصول إلى غايتها, وتغلبها على ما يعترضها من عقبات وصعاب " فأولي لهم طاعة وقول معروف " وللقيادة فى دعوة الإخوان حق الوالد بالرابطة القلبية والأستاذ بالإفادة العلمية والشيخ بالتربية الروحية والقائد يحكم السياسة العامة للدعوة ودعوتنا تجمع هذه المعاني جميعا , والثقة بالقيادة هى كل شئ فى نجاح الدعوات ".

لقد تولي الإمام الشهيد " حسن البنا" قيادة الحركة الإسلامية منذ 1928 وبقي يحمل لواءها ويسير بها من حسن إلى أحسن حتي أصبحت من القوة بمكان جعل أعوان الإستعمار والصهونية يجتمعون على حربها لأنها أصبحت عقبة كأداء فى وجه مخططاتهم الاستعمارية فى العالم الإسلامي , فدبروا اغتيال الإمام الشهيد على يد الطاغية فاروق عام 1949 وزجوا بجنودها العائدين من فلسطين فى غياهب السجون والمعتقلات ولكن ذلك ما كان يزيد هذه الدعوة إلا تماسكا وإيمانا ومضي الداعية الشهيد إلى ربه بعد أن أرسي قواعد هذه الدعوة وبني صرحها فأحسن البناء والتحق هذا القائد العظيم بمواكب الشهداء والصالحين .

ومنذ ذلك الحين وهذه الدعوة تقدم الشهداء تلو الشهداء, كل ذنبهم أنهم قالوا ربنا الله, وكل جرمهم أنهم قالوا لكل العملاء والمستعمرين الذين أرادوا هذه الأمة بقرة حلوبا تدر عليهم المال الوفير والخير العميم.

ولما كانت هذه الدعوة دعوة الله وهو جلت قدرته القوام عليها الحامي لها فقد قيض لها قائدا آخر اختاره جنودها من بينهم فحمل اللواء بحزم وإيمان وسار نحو الغاية بثبات ويقين, لا تفل فى عزمه العقبات ولا تثنيه عن الغاية الشدائد فكان خير خلف سلف ذلكم المجاهد الصابر " حسن الهضيبي " فبايعه أخوانه ولسان حال كل منهم يقول :

إذا مات منا سيد قام سيد

قؤول لما قال الكرام فعول

عمل الهضيبي رحمه الله قاضيا ثم مستشار حوالي ثلاثين عاما, وكان خلالها مثال العدل والنزاهة, كما كان شديد الالتزام بالقانون والنظام, يدافع عن الحقوق والحريات ويرسي دعائم الحق والعدل, وكان ينطلق فى كل ذلك من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم فقد كان يفهم الإسلام فهما كاملا شاملا ويؤمن إنه لا نجاة لهذه الأمة مما هي فيه إلا بتطبيق شريعة الإسلام ومبادئه سأله يوما رئيس محكمة النقض والإبرام :

يا حسن الست معي أن أكثر أحكام التشريع المدني الحديث تقابل أحكاما مماثلة فى الفقه الإسلامي ؟! قال الأستاذ الهضيبي : بلي. قال الرئيس : فما هو إذا الأساس الكبير والمطالبة الملحة من جانبك بالرجوع إلى الشريعة الإسلامية وتطبيق أحكامها ؟

قال : هو أن الله تعالي قال ( وإن أحكم بينهم بما أنزل الله ) ولم يقل أن أحكم بينهم بمثل ما أنزل الله , إن تحكيم شريعة الله فى عقيدة المسلم عبادة تؤدي امتثالا لأمر الله , وذلك هو مصدر بركتها وسر قوتها فى نفوس المؤمنين بها وفى كيان الجماعة المؤمنة .

وحين عرض مشروع تنقيح القانون المدني المصري عام 1945 على الأستاذ الهضيبي سجل كتابة أنه يرفض مناقشة هذا المشروع من حيث المبدأ " لأنه لم يقم أساسا على الكتاب والسنة "

وفى عام 1947 نشر الأستاذ الهضيبي رحمه مقالا فى جريدة " أخبار اليوم" المصرية وذلك حين عرض عليه تعديل مشروع القانون المدني المصري قال فيه : إن أحسن تعديل فى نظري هو سن قانون من مادة واحدة يقضي بتطبيق الشريعة الإسلامية فى الأحوال الجنائية والمدنية " وقال :

" ولقد أعلنت عن رأيي أمام لجنة تعديل القانون المدني فى مجلس الشيوخ فقلت : يجب أن يكون قانوننا هو القرآن والسنة فى جميع شؤون حياتنا وليس فى الشؤون التشريعية وحدها إن الإسلام دين متماسك متكامل غير قابل للتجزئة فيجب تطبيق جميع أحكامه فى كل أمة تدين به.
" هذه و الرأي الذى جاهر به , وسأظل أدعو إليه عن يقين واقتناع وأود أن أؤكد أنني قد انتهيت من مراجعة الشريعة الإسلامية ودراستها إلى أنه ليس فى تشريعات الأجانب وقوانينهم ما لا يتضمنه القرآن الكريم , والحلال بين والحرام بين وكلاهما واضح المعالم والحدود إلى يوم الدين .

هذا ما قلته أمام اللجنة وإنني على يقين أنهم لن يأخذوا به, ولكن لا حرج علي فى ذلك ما دمت مؤمنا بما أقول ، ولكن ظني أنه بعد فترة قد تمتد إلى عشرين أو ثلاثين سنة سيتجه الرأى إلى الأخذ بما أقول, وكلما شرح الله صدور الناس بالقرآن قرب اليوم الذي يسود فيه هذا الرأي .

لقد {اينا أن جميع القوانين التي أخذناها عن الأجانب لم تصلح من حال بلادنا ولم تحقق ما كان يرجي منها فهذه السجون ملأي بالسجناء والجرائم تزداد والفقر ينتشر والحالة الخلقية والاجتماعية تسوء كل يوم عن سابقه, ولن يصلح الحال إلا إذا نظمنا علاقاتنا بالسنن الكونية التي تنزل الوحي بجملة أسرارها ومعالمها فى القرآن وإلا إذا عشنا فى بيوتنا وبين أهلينا وأولادنا ومع الناس أجمعين عيشة قرآنية " "

وفي العاشر من ديسمبر 1952 أعلن إلغاء الدستور المصري القديم وبعد يومين عين مائة عضو لوضع دستور جديد كان بينهم ثلاثة من الإخوان, ونشرت مجلة " الدعوة" مقالا تدعو الدستور على أسس إسلامية وطالب الهضيبي بالإستفتاء ليتبين لتختار مصر شرائع الإسلام أم شرائع الغرب, فإذا رأت أن تحكم بالإسلام كان على لجنة الدستور أن تنفذ ذلك, وإذا أرادت الأخذ بشرائع الغرب وهو رأي لا يمكن أن يقول به مسلم عرفنا أنفسنا وعلمنا الأمة أمر ربها وما يجب عليه .

كان البنا رحمه الله داعية ينزل الناس منازلهم ويختار الأسلوب المناسب لعرض الدعوة عليهم وكسبهم لطرفها, ومثل هذا الأسلوب كان يتبعه مع كبار الموظفين أمثال الأستاذ الهضيبي فقد كان حريصا على سرية ارتباطه بالدعوة, ولهذا كان الهضيبي يحضر مع البنا رحمهما الله الكثير من الأسر والجلسات الخاصة يستشيره فى الأزمات والمعضلات ويدخره ليوم عصيب ووقت رهيب, ويحدث إخوانه عنه فى جلساته الخاصة بكثير من الإعجاب والتقدير.

ويذكر الهضيبي رحمه الله أن علاقته بالإخوان قد بدأت منذ عام 1942, وقد اقتنع بهذه الدعوة بالطريق العملي قبل الطريق النظري, وذلك حينما لمسمن بعض أقاربه الفلاحين إدراكا لمسائل كثيرة فى الدين والسياسة ليس من عادة أمثالهم الإلمام بها وخاصة أنهم كانوا شبه أميين فلما علم أن ذلك يعود إلى الإخوان, أعجب بهذه الدعوة إنما أعجاب, وأخذ يحرص على حضور خطب الجمعة فى المساجد التي كان يخطب فيها الأستاذ البنا رحمه الله, وأخيرا تم لقاؤه مع البنا حيث اطلع منه مباشرة على أهداف الدعوة ومبادئها وبقيت علاقته بالبنا والإخوان سرية حتي أعلن عن انتخابه مرشدا عاما للجماعة عام 1951.

وفى الثاني عشر من شهر شباط 1949 اغتال فاروق الشهيد حسن البنا رحمه الله فشغر بذلك مركز المرشد العام للدعوة, ولما كانت القيادة ركنا من أركان هذه الدعوة وخاصة فى الظروف العصيبة التي كان يمر بها الإخوان فى ذلك الوقت فقد أخذ الإخوان يبحثون عن قائد أخر يقود سفينة الدعوة إلي شاطئ السلام ورشحوا لهذا المنصب أكثر من أخ من الإخوان العاملين إلا أن الأغلبية فى الهيئة التأسيسية للإخوان أجمعت على انتخاب " حسن الهضيبي "" مرشدا عاما وبقي الهضيبي رحمه الله يؤدي عمله سرا نحو ستة شهور كما أنه لم يترك العمل فى القضاء خلالها ولما سمحت حكومة النحاس باشا للهيئة التأسيسية للإخوان بالاجتماع طلب أعضاؤها من الهضيبي أن يرأس اجتماع الهيئة بصفته مرشدا للجماعة, ولكنه رفض طلبهم إذ اعتبر انتخابه من قبل الهيئة التأسيسية فى المرحلة السرية من الدعوة لا يمثل رأي جمهور الإخوان وطلب منهم أن ينتخبوا مرشدا آخر غيره, ولكن الإخوان رفضوا طلبه وقصدت وفود الإخوان من جميع مصر بيته والحث عليه بالبقاء كمرشد عام للجماعة , وبعد أخذ ورد وافق على مطالب وفود الإخوان, وقد استقالته من القضاء ليتفرغ للعمل لدعوة الله, وفى 17 تشرين أول 1951 أعلن حسن الهضيبي مرشدا لجماعة الإخوان المسلمين, ومع ذلك قام رحمه الله بجولة على جميع شعب الإخوان ليتأكد أن الوفود التي حضرت إليه تمثل رأي جميع الإخوان فى الشعب, وفعلا كان, فبايعه من التقي به من الإخوان .

لقد رأي أكثر الإخوان فى الهضيبي ضالتهم المنشودة لدعوتهم لما كان يتصف به رحمه الله من صفات تصلح لقيادة الدعوة فى مراحلها القادمة فالدعوة فى عهد النبا رحمه الله كانت تمر فى فترة التشير واختيار الأنصار وإرساء القواعد وتوضيح الأهداف والمبادئ, ولهذا كانت تحتاج إلى قائد عظيم كالبنا رحمه الله استطاع أن يقوم بهذه المهمة ويصل بالدعوة إلى مرحلة متقدمة من البناء والعمل والتربية, أما الفترة التي قيض الله الهضيبي لقيادة الدعوة فيها وإن كانت تعتبر استمرارا للفترة السابقة إلا أنها تتميز عنها بأنها مرحلة المجابهة السافرة مع الأعداء ,إعلاء صرح البناء وتفصيل أهداف الدعوة ومبادئها والسير فيها لتحقيق هذه الأهداف . كما ن المحنة الأولي التي أصابت الإخوان على يد إبراهيم عبد الهادي كان لها آثار خطيرة على جبهة الإخوان الداخلية كما أصبح العداء واضحا بين الإخوان وبين فاروق الذى حل جماعتهم وصادر ممتلكاتهم واغتال مرشدهم الشهيد حسن البنا, وبين فاروق الذى حل جماعتهم وصادر ممتلكاتهم واغتال مرشدهم الشهيد حسن البنا, ولهذا كانت تحتاج هذه المرحلة إلى قائد ذى صفات معينة يخرج بالدعوة فى هدوء وصمت مما هي فيه من المشاكل ويزيل من أمامها ما يعترضها من عقبات ويسير بها نحو أهداف الإسلام الكبري بحزم وإيمان ولهذا كانت الدعوة بحاجة إلى الصبر والثبات وحسن الإدارة وسعة الصدر والحنكة السياسية أكثر من حاجتها إلى الخطابة والضجيج وعرض العضلات وإن كانت هذه لا غني عنها , وفى وقت إدرك العالم الغربي خطورة أهداف هذه الدعوة على مصالحه فى العالم الإسلامي ولهذا رمتها دولة عن قوس واحدة حيث أعلن ممثلوا كل من انكلترا وفرنسا وأميركا الحرب على دعوة الإخوان حين اجتمعوا فى القاعدة البريطانية فى " فايد" على السويس عام 1949 .

لم يكن الهضيبي خطيبا كالبنا, ولكنه كان على علم تام بمبادئ الدعوة وأهدافها بل على العكس كان يغلب عليه قلة الكلام والصمت الذي كان يزعج أ‘داء الله ولكن بجانب ذلك كان متزنا إذا عمل لا يعرف الكلل ولا الملل ولا يخشي فى الله لومة لائم لقد تميز رحمه الله بالصبر والثبات وحسن الإدارة والحنكة السياسية وسعة الصدر, كما كان يؤمن بالشوري والنقد الذاتي البناء ويعتبرهما أسسا ضرورية لبناء الجبهة الداخلية للجماعة, أما الحكام فقد كان عنده لكل مقام مقال حيث تصلح اللياقة والدبلوماسية كما كان حازما شديدا حيث لا ينفع إلا الحزم والشدة فبينما كانت قوات الإخوان تضرب القاعدة البريطانية فى القنال عام 1951 وكانت الأحزاب الأخري تدعي لنفسها ما يعمله الإخوان, كان الهضيبي رحمه الله يقف فى المركز العام ليقول للإخوان " أيها الإخوان أوصيكم بتقوي الله وقراءة القرآن وعدم التدخل فى السياسة" أما الحقيقة فقد كان رحمه الله هو خلف جميع تنظيمات الإخوان فى القنال ويطلع بنفسه على كل صغيرة وكبيرة من أمالهم الذي يراجع كتاب " المقاومة السرية" يجد فيه تفصيل ذلك كله .

ولما حاول الإنجليز أثناء حرب الإيقاع بين الإخوان والأقباط التقي الهضيبي رحمه الله ببابا الأقباط، وتفاهم معه على كل شئ حتي يفوت الفرصة على أعداء الله وظهر المرشد العام للإخوان المسلمين فى اليوم التالي فى الجرائد المصرية يصافح زعيم الأقباط، ويعلن اتفاقهما على مصلحة مصر .

كما كان رحمه الله خير خلف لخير سلف وأنه قاد الدعوة فى الطريق الذى يجب أن يسير فيه, كما رفض أن تنحني دعوة الله أمام الهجمة الصهيونية الإستعمارية عليها فحفظ لهذه الدعوة شخصيتها وكرامتها إذ لم يعرف عنه رحمه الله أنه بالرغم من كبر سنه وقسوة السجن والتعذيب الذي يلاقيه أنه لانت له قناة او سمع منه السلطان وزبانيته إلا ما يجلب لهم الغم وما ينغص عليهم حياتهم .

ومنصب المرشد العام فى دعوة الإخوان تكليف وليس تشريفا وخاصة بالسبة لرجل تجاوز الستين من العمر ومع أن الهضيبي كان يدرك ويدرك أنه ورث تركة ثقيلة ودعوة كبيرة, وأعداء عددهم وعظيمة إمكاناتهم مع هذا كله واجه هذه الأعباء جميعها بقلب ثابت وإيمان صادق لا يعرف الملل ولا الكسل لقد كان عليه أن يجمع شمل الإخوان وينظم صفوفهم ويقوي جبهتهم الداخلية حتي يكونوا المنطلق الثابت والقاعدة القوية التي تنطلق منها دعوتهم لتحقيق أهداف الإسلام الكبري كما عليه أن يدفع عجلة هذه الدعوة إلى الإمام لكي تشق طريقها فى مصر خاصة والعالم العربي والإسمي بشكل عام كما كان عليه رحمة الله أن يواجه قوي الظلم والبغي والعدوان والتي رمت دعوة الله عن قوس واحدة وقررت خوض المعركة معها مهما تكن النتائج وبالرغم ا، فترة ولايته قبل المرحلة ولولا أن المؤامرة على دعوة الإخوان سنوات فقد حق الكثير من أهداف هذه المرحلة ولولا أن المؤامرة على دعوة الإخوان كانت مؤامرة عالمية جند لها أعداء الله كل جهودهم وهاجموها قبل أن تستعيد قوتها بعد المحنة الأولي, وقبل أن تستعد للنزال لاستطاع الهضيبي رحمه الله أن يصل بالدعوة إلى أهدافها المرسومة ولكن الله غالب على أمره ولا راد لقضائه.

لقد بدأ الهضيبي من حيث انتهي سلفه البنا رحمهما الله , والذي يراجع ما كتبه من مقالات فى مجلة " المسلمون" تحت عنوان " هذا القرآن وما كتبه فى مجلة " الإخوان المسلمون" وما أدلي به من أحاديث وتصريحات للمجلات المصرية والأجنبية وما كتبه إلى الملوك والرؤساء فى الدول العربية والإسلامية ليدرك تفهمه العميق للإسلام خاصة ولدعوة الإخوان بشكل عام لقد كان يدرك رحمه الله أن المرحلة الحالية هى مرحلة الانطلاق لتحقيق هدف الإسلام ألا وهو إقامة دولة الإسلام فى الأرض ولهذا نجد هذا الموضوع غالب على كل أحاديثه فى رسالته التي بعنوان " دستورنا" وفى أحاديثه مع الإخوان حيث كان يقول لهم " أيها الإخوان أقيموا دولة الإسلام فى صدوركم تقم فى أرضكم "

ويقول :" دولة الباطل ساعة , ودولة الحق إلى قيام الساعة " وفى أول لقاء بينه وبين الإخوان فى دار المركز العام قال :" أيها الإخوان هذا أول لقاء بيني وبينكم, ويسعدني أن أوصيكم بتقوي الله وطاعته , والإقبال على الله بقلوب خاشعة ونفوس مخلصة وترتيل القرآن الكريم, وأن تستعدوا فى هذه الظروف التي تمر بها بلادنا والله معنا ينصرنا ويوفقنا وكتب افتتاحية العدد الأول من مجلة " الإخوان المسلمون " فى 20 أيار 1954 فقال :

" سيجد الناس أن الإسلام ليس دين عبادة وصوم وصلاة, ولا دين قطع الأيدي ورجم الزناة فقط, ولا دين الفضائل فحسب سيجدون أنه دين عبادة تطهر النفس وتزكي القلب وتصل العبد بربه حتي يكون قادرا على تحمل تبعات الحياة ومشاقها وسيجدون انه دين أقام الحياة الاجتماعية بين المسلمين على أكمل نظام وأوفاه بحاجات االناس وسيجدون أنه عالج الأخلاق والفضائل وأدب السلوك فأمر بالحسن ونهي عن القبيح وسيجدون أنه أوجب على المسلمين الجهاد إذا ما ديست أرضهم واحتلها العدو وسيجدون كيف عالج الإسلام مشكلات العمال وكيف نظر إلى ملكية الأرض بعدالة لا تعادلها عدالة , وكيف عالج شؤون الأسرة كما عالج شؤون الحكم فى قواعد العامة الثابتة التي لا تتغير وتترك التفصيل لاختلاف الظروف " وفى تصريح له لصحيفة" لوموند" الفرنسية فى شهر آب 1952 سأله مراسل الجريدة :

هل تسعون إلى أن تحكموا مصر بتعاليم الإسلام ؟

فقال الهضيبي : إن الذي يهمنا هو أن تحكم البلاد بالإسلام سواء أكان الحكم للإخوان أم لغيرهم . ولما سأله : ولكنكم لا تستطيعون إلا إذا تدرب رجالكم عمليا عليه ؟ فرد عليه الهضيبي قائلا : إن الإخوان منبثون فى كل مرافق البلاد ".

وفى تصريح له الجريدة " المصري " بتاريخ 18 آب 1953 قال :

" إن الشيوعية مذهب قام على نظم مادية بحتة , وهو ينكر الأديان جميعا ولا يجعل صلة بين الإنسان وشئ كما يجعلها بينه وبين لقمة العيش , وأما الإسلام فقد بني أول ما بني على توحيد الله وجعل الإنسان موصولا به دائما فى كل أعماله لا يقصد بعمله إ وجه الله , وبني على العبادات والأخلاق وتنظيم الحياة الاجتماعية تنظيما لا تطمع الإنسانية باحسن منه ولذلك نجد الفارق بين الشيوعية والإسلام عظيما وهي تتجافي مع عقائده وأدابه وأخلاقه ونظامه الاجتماعي ... وأما روسيا كدولة فليس بيننا وبينها ما يدعو للعداء , وأما كفكرة فلا نخشاها إذا عملنا بالإسلام على الوجه الصحيح وأخذنا بكل تعاليمه , ولابد لهذه التعاليم من أن تنتصر على فكرة أخري ".

وقال فى مجلة " المسلمون" : إن حكام المسلمين يدعون أنهم يحكمون بالقرآن وهم عن معانيه بعيدون, يحسبون أنه صلاة وصوم وحج لا يدركون أنه مع ذلك علم وفهم وتربية وأخلاق وجهاد فى سبيل الله , ومعاملة وتحقيق العدل الاجتماعي الذي كفله الله للناس على صورة لم يصل إليها الناس فى كافة عصورهم ".

وقال :" وليعلم المسلم أنه لا يكون مسلما حقا إلا إذا أصبحت عقيدته جزءا لا يتجزأ من أخلاقه وسلوكه , فيكون عادلا مع الناس جميعا , ويحذر نوازع الهوي أن تميل به عن هذا العدل مع أقرب الناس إليه فلا يذكر إخوانه بسوء ولا يغتابهم ولا يلمزهم فإن أكثر الشرور إنما ينشأ عن مثل ذلك"

كما أصدر رسالة بعنوان " دستورنا" تناول فيها بإيجاز ما يتضمنه هذا الدستور الإلهي من شؤون العبادات والمعاملات والعقوبات وتنظيم العلاقة بين الحاكم والمحكوم وأحكام التربية والجهاد , والأحوال الشخصية لغير المسلمين وأجاب على سؤال يتردد على كثير من الألسن : هل الحكم بالقرآن فرض ؟ كما وضح أن الإخوان فى دعوتهم متبعون وليسوا مبتدعين حين قال " فنحن حين نطالب بالعمل حسب كتاب الله وسنة رسوله صلي الله عليه وسلم لا نبغي من وراء ذلك تطبيق الأحكام الواردة فى القرآن فحسب ولكننا نرجو أن يجعل المسلمون منهاجا يسيرون عليه فى الحياة ويطبقونه بحذافيره , وهو أفضل لنا من أى دستور أخر لأن القرآن هو الدستور الكامل الشامل الذي لم يترك صغيرة ولا كبيرة فى بناء الأمة إلا عالجها تارة بالتفضيل وتارة بالإجمال تاركا لها أن تمضي فى التفصيل على ما تقتضيه مصالحها ولا يتعارض مع الأصول التي وضعها ".

والمشكلة الخارجية الرئيسية التي واجهها الإمام الهضيبي أثناء ولايته قبل حل الجماعة هى " علاقة الإخوان بالثورة المصرية" والتي بدأت بالوفاق وانتهت بالخلاف وأعتقد أنه لم يكن هناك اتفاق رسمي بين الإخوان ورجال الثورة ولكن الاتفاق بينهم كان عرضيا وضد الخطوط الرئيسية للفساد الذي كان مستشريا فى مصر والذى لا يختلف فيه اثنان من المصريين مثل فساد فاروق, والاحتلال البريطاني, والفساد الاجتماعي, وليس معني اتفاق الإخوان مع الثورة على تحقيق الأهداف أن الأتفاق بينهم كان ضمن خطة معينة تنباها الطرفان إذ ليس من المعقول أن يتعاون الإخوان مع أشخاص عسكريين مجهولين فى انتمائهم مختلفين فى اعتقاداتهم وميولهم الحزبية .

لقد تم الاتفاق بين الصهيونية والإستعمار لضرب الإخوان منذ عام 1949 على أثر اجتماع عقده سفراء كل من بريطانيا وأميركا وفرنسا فى القاعدة البريطانية فى لقنال , وكانت محنة الإخوان الأولي على يد فاروق ولكن هذه المحنة لم تزد الإخوان إلا قوة وشعبية , مما أكد لهذه الدول أن فاروق أضعف من أن يستمر فى عملية التصفية وقد أفرج فعلا عن الإخوان بضغط شعبي عام 1951, والذى يقرأ الكتب التي كتبها عملاء المخابرات الأمريكية فى الوطن العربي يدرك أن الهدف من الانقلاب المصري عام 1952 هو إيجاد القيادة الحازمة القوية التي تستطيع ضرب الإخوان وتصفيتهم .

لقد شهد الصهاينة والمستعمرون أن دعوة الإخوان هو العدو الحقيقى الذى يتهدد أطماعهم فى العالم الإسلامي والتي يهدف إلى التصدي لك حركة إسلامية تعمل على تجنيد الإسلام فى كيان سياسي حتي يبقي العرب والمسلمون ضعفاء متفرقين يسهل استغلالهم واستعمارهم ولهذا واجه الإخوان عام 1954 دولا كبري لها إمكانيات ضخمة ومخابرات منظمة, أما العساكر الذين تصدوا للإخوان فلم يكونوا سوي قفازات تنبش خلفها الأيدي الخفية لقد واجه الإخوان فى هذه المحنة كل قوي الشر فى العالم من يهودية وشيوعية وصليبية وشعوبية سواء تمثلت بأسماء عربية أو أجنبية .

بدأت علاقة الإخوان بالانقلاب المصري بالإنفاق فى وجهات النظر على الصعيد الوطني مثل إخراج الانجليز وإصلاح الحكومة والجيش وإخراج فاروق , دون أن يوافق الإخوان على الزج بهم فى معركة ليست فى مخططهم وكان الأستاذ " حسن عشماوي" هو حلقة الوصل بين الإخوان ورجال الثورة وقبل قيام الانقلاب المصري بيومين اتصل أحد أعضاء الانقلاب بالأخ " حسن" وأبلغه بعزم الضباط على القيام بانقلابهم ولما كان الهضيبي رحمه الله يعلم أبعاد الظروف الراهنة فى مصر فلم يكن متفائلا لا مخدوعا , ولهذا لما أبلغه الأخ " حسن" بالخبر وتم البحث فى مدي تأييد الإخوان للانقلاب قال المرشد لقيادة الإخوان " إن تنفيذ الانقلاب على يد الجيش معناه السير فى طريق الحكم العسكري والديكتاتورية وهذا لا يحقق رغبات الشعب المصري ولا يتماشي مع أصول الإسلام لأن الحرية

الفردية هى أساس من أسس الإسلام " ولما أخبره العشماوي بأن الجيش سيقوم حتما بالانقلاب قال له المرشد أنه لن يمنع الإخوان من تأييد حركة الجيش وأنه سيأمرهم بمعاونته إذا ما حاولت قوات الانجليز فى منطقة القناة التدخل لعرقلة حركة الجيش المصري , ثم انتهي المرشد من حديثه بأنه سيظل يؤيد حركة الجيش طالما تسعي إلى تحقيق آمال الشعب , واعتبر العشماوي ذلك تأييدا من المرشد للحركة فصدرت الأوامر لشعب الإخوان بتاييد الوضع الجديد "

لقد اشترط المرشد العام رحمه الله أن الإخوان سيؤيدون حركة الجيش إذا ما حاولت القوات البريطانية التدخل ولما لم تتدخل هذه القوات اقتصر تأييد الإخوان لحركة على المحافظة على الأمن كما اشترطت أيضا أن الإخوان سيؤيدون الحركة طالما بقيت تعمل على تحقيق آمال الشعب و أما ما كان يجري خلف الكواليس فلم يكن الإخوان على علم به , وقد تم الاصطدام بين الإخوان ورجال الانقلاب لأنهم حادوا بالحركة عن تحقيق آمال الشعب المصري , وقد حاول الإخوان فى بداية الأمر تفادي هذا لصدام حفاظا على المصلحة العامة للأمة إلا أنهم تأكد لهم بعد ذلك أن الصدام هو جزء من معركة الحق والباطل وأنه لابد مما ليس منه بد , ولهذا كان الصدام شديدا وعنيفا ضحي فيه الإخوان بدمائهم وأوراحهم فى سبيل دين الله ولتحقيق مصلحة شعبهم .

وحين أصدر رئيس وزراء مصر قرار بحل جماعة الإخوان المسلمين عام 1954 م بعث إليه الأستاذ حسن الهضيبي بالرسالة التالية :

" وقرار حل الإخوان , وإن انزل اللافتات عن دورهم فإنه لم يغير الحقيقة الواقعة وهي قرار أن الإخوان المسلمين لم يمكن حلهم لأن الرابطة التي تربط بينهم هى الاعتصام بحبل الله المتين وهى أقوي من كل قوة , ولا تزال هذه الرابطة قائمة وستبقي كذلك بإذن الله , ومصر ليست ملكا لفئة معينة ولا يحق لأحد أن يفرض وصايته عليها ولا يتصرف فى شؤونها دون الرجوع إليها والنزول على إرادتها لذلك كان من واجب الواجبات على الإخوان المسلمين أن يذكروكم بأنه لا يمكن أم يبت فى شؤون البلاد فى غيبتهم وكل ما يحصل من هذا القبيل لن يكون له أثر فى استقرار الأحوال ولا يفيد البلاد بشئ ".

ومهما يكن من أمر فقد صدق حسن الهضيبي فى خط رجال الثورة فقد قادوا الشعب المصري إلى الهاوية والفقر والهزيمة والديكتاتورية , ولم يكن بإمكانهم ذلك لو لم تكن الأسد مكبلة فى غياهب السجون والمعتقلات , وإذا كانت المعارك تقاس بنتائجها بمقدار تحقيق الطرف المهاجم لأهدافه التي حددها مسبقا قبل المعركة فإنه يمكن القول أن أعداء الله قد فشلوا فى تحقيق هدفهم ا النهائي ألا وهو القضاء على الإخوان المسلمين فقد أثبتت تقارير المخابرات الاستعمارية إن المحن لم تزد الإخوان إلا قوة وثباتا , كما لم زد دعوتهم إلا اتساعا وانتشارا , وكثيرا ما سمعنا الحكام يتكلمون عن " الثورة المضادة" وعن التحرك المضاد" للرجعية الإسلامية " وذهب الطغاة وبقيت دعوة الله عالية اللواء رافعة الجبين.

وأما أنتم يا أتباع الهضيبي فقد غاب عنكم الأخ الكبير الذى طالما وسعتكم محبته ورعايته , والقائد الفذ الذي حمل لواء دعوتكم وصبر على ذلك وصابر , والمرشد الأمين الذي أنار عليكم الطريق غلى النصر , والداعية المؤمن الذى حافظ على كرامة دعوتكم وبقي يقول للطغاة " لا" رغم كبر سنه وضعف جسمه وعمق الجروح والقروح فى جسده , وثبت على ذلك ثمانية عشر عام حتي قضي نحبه مقبلا غير مدبر, فمد من جسمه جسرا تعبرون عليه إلى النصر إن شاء الله, ولئن مات الهضيبي فإن عزاءنا أن دعوة الله باقية شامخة , وأنه ضرب لنا أروع الأمثال فى الصبر عند اللقاء والثبات على الحق , وما علينا إلا أن نحذوه وننسج على منواله . فإلى جنة الخلد يا قائد الشهداء وسنبقي على العهد نحتضن راية الله بقلوبنا ونفدي دعوته بأرواحنا حتي لا تكون فتنة ويكون الدين كله لله.

شخصية الإمام حسن الهضيبي في الشعر الإسلامي المعاصر

حظيت شخصية الإمام حسن إسماعيل الهضيبي بكثير من الاهتمام والأخذ والرد وذلك لأنه تولى قيادة الدعوة في خضم العواصف التي كادت تطيح بها حيث قاد جمال عبد الناصر حملة شرسة مع أجهزة مخابراته للقضاء على الحركة الإسلامية وحاول تمزيق وحدة الجماعة المسلمة من الداخل، وكانت هناك حملة شنتها أبواق (الناصرية ) واليسار المصري لإسقاط الرجل العظيم، وأطاحت الفتنة ببعض قادة الجماعة حيث استطاع جمال عبد الناصر أن يستغل علاقته القديمة بالإخوان فجذب إلى صفه الشيخ محمد الغزالي، والبهي الخولي، والسيد سابق، وصالح العشماوي، ولكن بعضهم تاب وعاد إلى رشده بعد أن عرف حجم خيوط المؤامرة ، وكان للشعر الإسلامي دوره في الدفاع عن الدعوة وائدها، ونحن ننقل هنا بعض ما قاله الشعراء الإسلاميون عن الإمام حسن الهضيبي، وكيف صوروا أخلاقه وسجاياه في حياته وبعد مماته ....

انتخاب حسن الهضيبي مرشداً

أعلن انتخاب حسن الهضيبي مرشداً عاماً للإخوان المسلمين عام 1951م، وكان في الستين من عمره, وعمت الفرحة الإخوان المسلمين في مصر، وراح شعراؤهم يدبجون قصائد التهنئة والمدح والثناء لإمامهم حسن الهضيبي, وهاهو الشاعر الإخواني عبد الحكيم المرسي يقول:

يامرشـــــــــــــــــــــداً بايعته هيئة كرمـــــت

أخلاقها ونمت في الخير أغصانا

هم حمــــــــلوك مـــن الأشياء أخطرها

فيه الجهاد وفيه الموت قـد هـانا

هم النجوم وأنت البـــــــــــدر رائدهم

تهدى إلينا الهدى نوراً وعرفـانا

هم الجنود فـــــــسر في الركب قائدهم

صاروا على السيف والقرآن إخوانا

قد شرفوك إذ اختاروك مرشدهم

عنوانك الرشد ما أغلاه عنـوانا

قالوا زيارة شيخ : قام الإمام حسن الهضيبي بزيارة العديد من البلدان العربية لتفقد أحوال الإخوان فيها وأخذ البيعة من قادتها ، فزار سورية، والأردن ، ولبنان ، وكان يرافقه الدعاة إلى الله الدكتور سعيد رمضان، وسعد الدين الوليلى، والداعية صالح أبو رقيق، وكان في استقباله العديد من العلماء الأبرار من أمثال : الدكتور مصطفى السباعي، والأستاذ عصام العطار ، والشيخ عبد الفتاح أبو غدة ، والقاضي عبد الوهاب ألتونجي..وغيرهما .

ولما عزم على زيارة العراق جوبهت رغبته بالمنع، مما أثار غضب الإخوان، وتعتبر قصيدة وليد الأعظمي من أبرع ما قيل في الإشادة بجهود الإمام حسن الهضيبي – رحمه الله – دافع فيها عن إمامه وقائده المرشد الراشد حسن الهضيبي، وقد آلمه أن طواغيت العراق العملاء رفضوا استقباله بالعراق، وقالوا : إنها زيارة شيخ لا تقدّم، ولا تؤخر، فردّ عليهم غاضباً معتزاً بدعوته وقادتها :

همزيتي يا أبا الإخوان عصماء ما خانني فيها ألف ولا ياءُ

قد حلق اللفظ والمعنى فبدتْ كأنها في سماء الشعر جوزاء

نظمتها ولهيبُ الشوقِ محتدمٌ إلى لقاك وما للشوق إطفاءُ

أما شعوري فقد فاضت موارده إن الشعور لدى الأحرار إيحاءُ

وبعد هذا المطلع المزيّن بالتصريع، الموشى بالعواطف الفياضة والشوق والحنين إلى لقاء الإمام، يصور الشاعر أثر صوت البشير في نفوس الإخوان، فيقول :

جاءَ البشيرُ ودمعُ العين منهـــــــــــــــــــمرُ

كأنمّا هـــــــــــو تعبيرٌ وإمـــــــــلاءُ

والدمع ينطقُ أحياناً إذا احتبست

عن اللسان عباراتٌ وأشياءُ

ويخاطبُ الشاعر الإسلامي وليد الأعظمي (العراق) الإمام حسن الهضيبي، الذي أرشد الناس للتقوى، وصوّر شوق الإخوان إلى لقاء الإمام القائد، فلنستمع إليه وهو يقول :

يا مرشدَ الناس للتقوى وقائدهم

يهفو للقياك إخوان أعزاء

إن الكرامَ إذا زاروا أحبتهم

حيتهم مُهجٌ منهم وأحشاءُ

تهفو إليك قلوب الناس قاطبة

كما أعدّت لسكناك السويداءُ

ندعوا إلى الله في سرٍّ وفي علن

ما غرّدتْ فوق أيك الدوح ورقاءُ

ويتحدث عن دور الإمام حسن الهضيبي في إنقاذ الجيل من مهاوي الشرك والإلحاد والانحلال والفساد، حيث انتشرت الأفكار اليسارية، وصار دعاة التغريب في مجتمعاتنا وجالوا، فكانت أفكار الإخوان هي العروة الوثقى التي عصمت الأمة من التمزق والإفراط والتفريط، فيقول :

يا منقذَ الجيل مما كاد يهلكه

لولاكَ أردته أفكارٌ وآراءُ

قد زعزعت قلبه بالأمس عاصفة

من المبادئ والآراء هوجاءُ

فوزعته جماعاتٍ معدّدة

كثيرة مالها عدٌّ وإحصاءُ

وينتقل الشاعر ليصور لنا ما حلّ ببغداد عاصمة الرشيد من بلاء وكفر وإلحاد وفساد على أيدي زمرة الاشتراكيين العملاء، نوري السعيد وزمرته ، الذين سحلوا الدعاة إلى الله في الشوارع ، من أمثال الشهيد عبد العزيز البدري ..وغيره ، فقال :

ياسيدي هذه بغداد قد عصفتْ

قوى الفساد بها واستفحلَ الداءُ

هبّتْ عليها أعاصير مضللة

لم ينجُ منهنّ أمــــــــــــــــواتٌ وأحياءُ

تلاطمتْ لجج الفوضى بها فغدتْ

كأنها عن معاني العزّ جرداءُ

وكيف تنمو معاني العزّ في بلدٍ

إن كان يحكمه قومٌ أذلاءُ

حتامَ نشكو وما الشكوى بنافعةٍ

سياسة القوم في بغداد خرقاءُ

ويعيب على سياسة بلده التي انتهجت الغدر والخداع ، مما يخجل لها الأحرار ويندى له الجبين، ورفعوا شعارات براقة كالعدل والمساواة، وزعموا أنهم جاؤوا لرفع الظلم عن البشر ولكنهم كذبوا ، ولنستمع إلى شاعر الدعوة يعلنها صريحة في وجه الطغاة :

كم في سياسة قومي من مخاتلة

لمثلها يخجلُ ( البيضُ الأرقاءُ )

فتارةً أسمعوها أن نيتهم كما يقال مساواة ونعماءُ

ليسعدوا الناس حيث الناس أجمعهم

في نظرة الحق والقانون أكفاءُ

وتارة أخبرونا أنهم عزموا

على إزالة هذا الظلم أو شاؤوا

هذه الأعاصير الهوجاء الضالة المضلة ، عصفت بعقيدة الأمة وكرامتها ، ففقدت أمجادها وعزها، وعمت الفوضى في عالم الفكر، وتكلم الرويبضة في شؤون العامة، واتبع الحكام سياسة خرقاء، ووقعوا اتفاقية حلف بغداد، وتآمروا على أمتهم، ويلتفت الشاعر إلى الإمام حسن الهضيبي مرة أخرى، ويصفه بمنقذ الجيل، والطبيب المداوي لعلل المسلمين، والناصح الأمين، فيقول :

يا منقذَ الجيلِ مما باتَ يفجعهُ

من بعدِ ما عجزتْ عنهُ الأطباءُ

بالنصحِ يا مرشدي داويتَ علّته

كأنَّ نصحكَ تضميدٌ وإبراءُ

وكان الشاعر وليد الأعظمي يتلهف إلى لقاء الإمام، ويتابع أخباره أولاً بأول :

أخباركم يا أبا الإخوان تنعشنا

من حيث فيها لشأن الحقِّ إعلاءُ تركتمُ مصر حباً في زيارتكم

وقـــــــــــــــــــد توالت إلينا عنك أنباءُ

واسبشر الناس للقيا كما انقشعت

عن العيون غشاواتٌ وظلماءُ

ولكن أخبار تلك الزيارة لم يرحب بها التيار العلماني في العراق ، فراحوا يعرقلون حصولها، ويبثون الشائعات، وساءهم أن ينجح أي داعٍ للخير والهدى ، وقد أحسن الشاعر تصوير مشاعرهم، استوى لديهم الخبيث والطيب والغث والثمين فقال :

لكن قوماً بهــــــــــــــــــذا الخير قد برمــــــــــــــــــــــــــــوا

لأنهم لأعـــــــــــــــــــــــــادينا أشقاءُ

لايسمحون – كشأن الكافرين – بأن

يدعو للهدى والخير دعّاءُ

قلوبهم عن هدى الإيمان مغلقةٌ

آذانهم عن سماع الحقّ صمّاءُ

يستمرئون حياة الذل ويحهمُ

لديهم قد تساوى السمُّ والماءُ

لاحقّ يجمعهم لادين يردعهم

للشرّ يدفعهم كبرٌ وفحشاءُ

اللؤم معدنهم والكفرُ ديدنهم

كأنهم حيّةٌ –ياقومُ – رقطاءُ

إن ذلك التيار الذي أذاق الأمة العلقم والحنظل، ليس له دين ولا خلق، بل كانوا رمز التكبر والفحشاء واللؤم، نشروا سمومهم في العذب الفرات، وراح الشاعر يرد على أولئك الأعداء الذين اعترضوا على زيارة الإمام وقالوا بأنها زيارة شيخ لا تقدم ولا تؤخر، فقال :

قالوا : زيارةُ شيخٍ لا تقدمنا

وليس فيها لنا نفعٌ وإرضاءُ

وما دروا أن هذا الشيخَ همته

جبارة كالرواسي الشمّ قعساءُ

ستون عاماً قضاها في تجاربه

وكم أصابته سرّاء ضرّاءُ

إن التجارب منجاةٌ لصاحبها

لاتعتريه ضلالات وأخطاءُ

ويشيد بأخلاق الإمام ودوره في العمل الإسلامي، فهو يمتلك إرادة جبارة وهمة قعساء، قد أنضجته التجارب الطويلة، فخبرَ مشاكل الحياة، وعجم عودها، ويمجد الشاعر ذلك الداعية ويشيد بمنزلته ومكانته، فيقول :

يا قائدَ الدعوة الكبرى وكوكبها

القلبُ أنتَ وباقي الناس أعضاءُ

ضاقتْ عليكَ بلادٌ أنت تخدمها

يا مرشدي هي للأعداء فيحاءُ

قد أعلنوا منعكم جهراً بلا خجلٍ

وكيف يخجلُ بالإفساد مشّاءُ

لو أن راقصة زارتهم لزهــــــــــــــــــــــــــت

ملء البلاد احتفالاتٌ وضوضاءُ

للانجليز نوايا نحن نعرفها

يا مرشدي كظلام الليل سوداءُ

ظنوا بمنعك تمزيقاً لوحـــــــــــــــــــــــــدتنا

خابوا ففي منعكم للشوق إذكاءُ

ونحن في كل يوم نلتقي معكم

في ورد رابطة ما مرّ إمساءُ

إن حكومة الظلم والاستبداد كانت ترحب بزيارة الراقصات والمطربات إلى العراق، وتقيم الاحتفالات لهن، أما الدعاة المصلحون، فغير مرحب بهم في دولة الطغيان، ويخفف الشاعر من وقع الحادثة بأن الإخوان يلتقون بإمامهم في كل صباح ومساء من خلال ورد الرابطة ، الذي تجتمع فيه الأرواح قبل الأبدان، ويكشف وليد الأعظمي عن مكنون حبه للإمام حسن الهضيبي، ويرى في عينيه نور الحق والإيمان ، ويرد على الحاقدين، لماذا يحب الإخوان قائدهم بهذا الشكل الهائل، فيقول مصوراً حب الإخوان لقائدهم :

إشراقة الحق في عينيك ساطعةٌ

وفي محيّاك نور الحقّ وضّاءُ

أقولها وعيون القــــــــــــــــــوم شـــــــــــــــــــــاخصة

كأنما هي قبـــــــــــــــــل اليوم عمياءُ

قد لامني في هواكم بعض من ظهرت

عليهم من فساد القلب سيماءُ

أهكذا يكبرُ الإخوان قائدهم

قالوا وفي قلبهم حقد وبغضاءُ

والحقدُ من أكبر الآفات لو علموا

من حيث فيه لمعنى الخير إفناءُ

وقلت يالائمي في حبّ مرشدنا

دع عنك لومي فإن اللوم إغراءُ

هذا الإمام فهـــــــــــــــل تستغربون إذا

يومـــــــــــــــــــــــاً تفاخر بالآباء أبناءُ

الدعوة إلى تنبه ويقظة المسلمين :

وراح الشاعر يوجه رسائل التحذير من الغفلة والنوم على الذل والهوان، ويدعو إلى اليقظة لأن المخاطر تحيط بهم والكوارث أصبحت على الأبواب، فكثر الداء، وعمّ البلاء :

يا مسلمونَ أفيقوا مــــــــــن رقادكم

أمـــــــــــــــــا كفاكم رقاداً يا أحباءُ

يا قومنا نحــــــــــنُ ندعوكم إلى مُثُلٍ

فيها لروح الهدى والخير إحياءُ

ندعوكمُ لاتباع الحقّ ثانية

وتلك منزلة لا شـــــــــــــكّ علياءُ

بالأمس كنتم ذوي علمٍ ومعرفةٍ

منكم تشعّ على الأكوان أضواءُ

كشامة في جبين الدهر صفحتكم

بين الصحائف في التاريخ بيضاءُ

عدلتم عند ظلم الناس فانطلقتْ

بمدحكم ألسنٌ ياقومُ خرساءُ

ضياع فلسطين :

غير أن الشاعر يخصص السبب، ويحمل الأحزاب المتناحرة والمتصارعة بحسب الأهواء والمصالح الشخصية مسؤولية كبيرة في ضياع فلسطين وتردي أوضاع بلادنا عامة فيقول في قصيدته (قالوا زيارة شيخ) :

وأنتم يا معشر الأحزاب كيف بكم

وجـودكـم فـيه للأوطان بلواء

مـاذا فـعلتم أجيبونا قد انكشفت

أعـمالكم، ليس بعد اليوم إخفاء

خـدعـتـمـونـا بألقـــــــــــــــــــــــابٍ منمقةٍ

قـد تـخدع القلب ألقاب وأسماء

والبعض يشتم بعضاً دونما سبب

يـدعـو إلـيه كأن القوم أعداء

مناهج القوم في الإصلاح خاطئة

ونـظـرة القوم للإصلاح رعناء

هـذي فلسطين تدعوهم لنصرتها

ويصرخ المسجد الأقصى وسيناء

فالفرقة والاختلاف وخطأ المناهج الإصلاحية المستوردة هي الأسباب الرئيسية التي عملت في إضعاف الصف العربي والإسلامي في مواجهة العدو اللدود في أرض فلسطين. ومن هذا الضعف يبشر الشاعر أملاً في أن تخرج قوة مؤمنة من بغداد الرشيد والمعتصم تسترد من الروم الجدد حق المسلمين السليب، فيقول في القصيدة نفسها:

مـهلاً فلسطين في بغداد كوكبة

ركـب الأخـــــــــــــــــــــــوة عينُ الله تكلؤه

يا قدس حسبك صيد لا يؤخرهم

نحن المغاوير مــــــن أحفاد حيدرة

لا بـد من ثورة يا قـــــــــدس عاتية

حـتـى يفر بنو صـــــــــــــــــــــهيون ثانية

ويـرجـعـون إلى آفـــــــــــــــــــــــــاقهم بدداً

مـــــــــــــــن الـشـبيبة أبطالٌ أشداءُ

ركـب الجهاد له الإيمان حداء

عـــــــن نصرة الحق ترهيب وإيذاء

لا زعزعتنا من الأحداث أهواء

مـنها تحل على الأعداء بأساء

كـمـا تفر مــــــــــــــــن الرئبال جرباء

كـما إلينا من الآفاق قد جاؤوا

الإمام الصامد في السجون :

دخل الإمام حسن الهضيبي في السجن، ولكنه بقي صامداً ثابتاً ولم ينحنِ أمام الأعاصير، فتعاطف معه الشاعر الداعية محمد منلا غزيل، فكتب قصيدة تحت عنوان ( فجر الدعوة )، وهاهو يبشر بالأمل فإن فجر الحرية قادم لا محالة :

الفـــــــــــــــــــجر يومـــــــــــــــــــــض يا أخي والصبــــــــــــح أوشك يولد

وبشـــــــــــــــــــــــــــــــائر النصر المبين ..تلــــــــــــــــــــــــــــوح مـــــــــــالاح الغد

فالبــــــــــــــــــــــــــــــــاطل المنهار آثر أن يموت فمــــــات ليل أسود

والواقــــــــــــــــــــــــــع المـــــــــــــــــــــــــــــــــــــر البغيض مضى ..وراح الأعبد

وغداً سيخرج إخوتي الأحرار من أصفادهم (والمرشد )

وغداً يلقن قلبي اللهفان بالقـــــــــــــــــــــــــــــــــــلم المناضل ســـــــــــــيد

قصص الجهاد مع الطغاة ..مع العبيد .. ويــــــــــــــــــــــــــــــسرد

والكافر المحتل يصـــــــــــــــــرع بالنضال ..الكافــــــــــــــر المستعبد

والشــــــــــــــــــــــعب ينعم بالشـــــــــــــــــــــــريعة والضياء ويســـــــــــــــــــــــــــــعد

وغداً ســـــــــــــــــــــــيرتشف الظمـــــــــــــــــــــــاء ونبـــــــــــــــــــــــــــــــعنا لاينفــــــــد

فالله غايتنا وقــــــــــــــــــــــــــــــــــــــائد ركبنــــــــــــــــــــــــــــــا بالبينات محــــــــــــــــمد

والآخرون مضلل – يغدو بهم – أو فاســـــــــــــق أو ملحد

ويتفاءل الشاعر بخروج الإمام والدعاة الأبرار، وسوف تعم شريعة العدل السمحاء أرجاء الأرض، ومادام الله هو غاية الدعاة، فالأجر واقع، والنصر قادم .

ذكرى مولد النور :

وتأتي مناسبة مولد النور الذي هدى البشرية، وأنقذ الإنسانية، فتعم السعادة قلوب المؤمنين، ويبتهج شاعرنا محمد منلا غزيل بهذه المناسبة، ولكن جرائم الطغاة تعكر صفاء هذه المناسبة، فهاهو جمال عبد الناصر يسجن الإمام المرشد حسن الهضيبي رغم مرضه وكبر سنه، كما يسجن المفكر الإسلامي سيد قطب، يتذكر الشاعر أحوال إخوانه ، ويصور تلك الفاجعة، فيقول :

ذكرتني صبر إخـــــــواني على

وطــــأة الباغي وجور الملحد

ذكرتني السجن في أعماقه

اخوتي الأحرار ..ياللمشهد

وخـرَّ لـهـولـه

ضمهم في الحق صبر راسخ

للرزايا ، للنضــــــــــــــــــــال المجهد

ضمهم بذلٌ سخي هازئ

باضطهادات الطغاة الأعبد

كم صبرنا كم بذلنا يا أخي

في كفاح الكافر المستـــــــــــــعبد

كم زرعنا أرضنا يا صاحبي

بالضحايا بالشباب الأصيد

في السجون السود شعب مسلم

بات للأنوار خير ممهد

يتصدى للطواغيت الألى

ينكرون الشعب غير مقيد

ذكرتني بالهضيبي صابراً

قائد الإخوان ...ياللمرشد

ذكرتني باليراع المـــــــــــؤمن

ذكرتني صوت قطب (سيد )

لقد كان الإمام قدوة للإخوان، حمل الراية ، وتقدم الصفوف، وعذب، وسجن وصبر، ولم تزعزعه المحن، فما أروع تلك الهامة التي لم تعرف السجود إلا للواحد القهار ، وهكذا كان شعار الأحرار : الجوع ولا الركوع ...والموت ولا المذلة .

نداء الشعب :

ويستمد الشاعر صموده وثباته من موقف أولئك الإخوان الأحرار في سجون الطغاة ، فيقول :

باســـــــــــــم العقيدة والجهاد ودعـــــوة الحق المبين

باســـــــــــــم الأخـــــــــــوة والكفاح وعـــــــــــــــــروة الحب المتين

باســـــــــــــم الضحايا الصيد والأحرار إخـــــــوان اليقين

سيظل يلهمني نداء الشـــــــــــعب في تلك الســـجون

تحت السيــــــــــــــــــــاط يئن جــــــــــــــــــــــور الطغاة الظالمين

وأكاد أسمع صــــــــــوت اخــــــــــــــواني الدعاة المســـــلمين

في قلب هاتيك الزنازن بين أعمـــــــــــــــاق الســـــــجون

أبـــــــــــــــدا يدوي هــــــــــــــــادرا بالحـــق : لا لن نستــــكين

يا مرشد الجيل : رثاء الإمام :

عاش الإمام حسن الهضيبي معظم أيام عمره في ظل الدعوة داخل السجون المصرية أيام جمال عبد الناصر ، فلما تولى الرئيس أنور السادات منصبه انفتح على الغرب وأخرج الإسلاميين من السجون ...وكان من بين المفرج عنهم الإمام حسن الهضيبي ، وبعد عام واحد سافر إلى الحجاز لأداء فريضة الحج ، وبعدها استسلم للراحة الأبدية فانتقل إلى جوار ربه عام 1973م ، وكان لوفاته صدى واسع عمّ أرجاء الدنيا ، فها هو الشاعر الأردني ( يوسف محيي الدين أبو هلالة ) يكتب قصيدة في رثاء الإمام حسن الهضيبي – رحمه الله – وهي تحت عنوان ( يا مرشدَ الجيل )، يقول في مستهلها :

وددتُ والله لو لم يصدقِ الخبرُ

حتي نرى دعوةَ الإسلام تنتصرُ

يا مرشدَ الجيل للجلي الكفاح أتي

والأســــــــــــــــــــــدُ تزأر والإيمــــــانُ ينتظر

فكيف ودعتنا يا فخرَ دعوتنا

ورحت عنا ببطن الأرض تستتر

يا صارماً بظلام السجن غيّبه

عشرين عــــــــــــــاماً شقي مجرم أشر

سليل فرعـــــــون كيف غــــــــــــــــــــــــدا

بذبحـــــــــــــــــــــــهم يتسلي داعر قذر

ليل الغواية وأوراها مــــــــــــــــــــــذممة

في لفحها يكمن الإلحاد والخطر

يبين الشاعر في هذا المطلع المزين بالتصريع ، الذي يكسب النص إيقاعاً وجمالاً وجرساً موسيقياً محبباً ، ويذكر من أخلاق الإمام وسجاياه ، بأنه أرشد الجيل إلى الخير ، وكان حازماً صارماً، ثابتاً على الحق، صابراً على بلاء السجن ، ويصور الشاعر لوعته ولوعة الإخوان على رحيل الإمام :

والوعةَ القلبِ للإخوان مهما أسود

جانبه سينقضي وعن الدنيا سينحسر

هل أكتم الجرح في قلبي ليسحقه

وعن رثاء الهضيبي كيف اعتذر

تبكيك دعوتنا والجـــــــــــــــــرح يؤلمها

وقد كستها جراحات الهوي الكثر

فنعيك اليوم ناقوس يذكـــــــــــــــــــــرها

بكلّ من لجنان الخلد قد عبروا

بكل محتجز في السجن مرتهن

بكل ليث بحبل الموت قد جزروا

فالشاعر لا يستطيع أن يكتم حبه في الفؤاد، ولايستطيع أن يعتذر عن رثاء الإمام، فهو واجب مقدس، ويتحدث عن جراح الأمة الكثيرة، تلك الجراح التي أثار ذكرياتها رحيل الإمام الهضيبي، ويفضحُ الشاعر المسلم يوسف أبو هلالة حكام العرب، وتقسو العبارات لديه لتناسب قوة البطش الذي ألحقه الأقزام بدعوة الإسلام :

عواهر حكمت أوطاننا وعلى

أيديهمُ اجتاحنا الخِذلانُ والخورُ

فصاحبُ الإفك والبهتان محترمٌ

بشــــــــــــــــرعهم والتقيُّ الشهم محتقرُ

قالوا نهدم تقـــــــــــــــــــــــــــــــــــــواه بفتنته

وعن عقيدته بالســــــــــــــــــوط يندحرُ

فامطروا بلاء قاتمـــــــــــــــــــــــــــــــاً ومضت

يا لهول من فوقه الأحقاد تنفجر

هيهات أن يحني الضرغام هامته

لمجرم برداء البُطل متزر

يقينه الفذ أوهى مكرهم فغدت

على لظاه صنوف الكيد تنصهر

إن الحكومة المصرية العاهرة قد صبت جام غضبها على دعاة الحق والحرية ، وظنّت أنها بالسوط تقهر التوحيد وتضعف الإيمان الراسخ في القلوب ، ولكن الأستاذ حسن الهضيبي بقي ثابتاً كالضرغام ، متسلحاً بقينه الفذّ، الذي صهر كيدهم وأحقادهم ، وها هو الإمام الهضيبي يخلف الشهيد حسن البنا في قيادة الركب، ويقوم بالمهمة التي أوكلت إليه على أكمل وجه :

هي القلوب التقيات التي احتملت

في جانب الله مالا يحمل الحجر

ودعوة الحق لما اغتيل قـــــــــــــــائدها

وجلجلت فوقها الأهوال والنذر

لم يؤثروك بها إذ قدمـــــــــــــــوك لها

لكن لأنفسهم كانت بك الأثر

علمتنا كيف يفدي الحر دعوته

وكيف للهــــــــــــــــزل المخذول يحتقر

كان الإمام قدوة عملية لإخوانه ، رفض أن يتميز عن إخوانه داخل السجن ، فإذا وضعت له مدفأة في الزنزانة ، حملها وألقى بها خارجها، وكان منتبهاً لظاهرة الغلو والتطرف لذا سارعَ ، فأوقف دعوة التكفير التي بدأ في سجون عبد الناصر، وناقش هؤلاء الشباب بكلّ روية، وكتب لهم كتاب ( دعاة لا قضاة )، يذكر الشاعر أبو هلالة ذلك الجهاد داخل السجن، فيقول :

هلا ســـــــكتَ على تكفير أمتنا

وقـــــــــــد نما عارها واستسلمَ البشرُ

والعابثون قـــــــــــــــــــد اقتادوا أزمتها

والظلمُ يشدو بها والعدلُ ينحرُ

لمذبح الموت ســــــــــــــاقوها مكبلةً

ذليــــــــــــــــــــلةً لكؤوس الحزنِ تهتصرُ

ولم يرض الإمام بالسكوت؛ لأن الساكت عن الحق شيطان أخرس، وحاشا الإمام أن يتلون كالحرباء، فهو قدوة لأتباعه، يناله ما ينالهم من أذى في سبيل الله :

أما سكتَّ فجلُّ الناس قد سكتوا

وداهنوا اللصَّ، وارتاحوا بما أمروا

فلو تلونت كالحـــــــــــــــرباءِ كنتَ على

خزائن الحكم تحـــــــــــــــويها وتدّخرُ

وتقطع العمر متــــــــــــــخوماً بعـــــــــــــــــافيةٍ

وفي إهابك يبدو التيهُ والبـــــــــــــطرُ

ويعاهدُ الشاعرُ الله بأنه سيمضي على خط الإمام وفياً لمبادئ الدعوة :

يا أيها الراحلُ الغالي الذى ظعنت

رحـــــــــــــــــــاله وشـــــــــــجانا ذكره العطرُ

عهـــــــــــــــداً إلى الله أنــا لن نذلَّ ولن

نلقي القياد لمن ضلّوا ومـــــــــــن كفروا

وروض إيمـــــــــــــــــــــــــاننا مهما عليه عدا

عسفُ الطغاة سيبقي مورقٌ نضرُ

نمضي على الدرب في جدٍّ وفى ثقةٍ

مهما أدلهمّ الدجي وأحلولك الخطر

في موكب رائع يزهـــــــــــــــــــــــــو اليقين به

تشدو بساحاته يوم الوغي السورُ

شعــــــــــــــــــــــارنا رغم أنف الكائدين لنا

شعـــــــــــــــــــــــارُ دينٍ به نزهو ونفتخرُ

إلى روح المرحوم حسن الهضيبي :

كان رحيل الإمام له وقع الصاعقة على جميع الإخوان في شتى البلدان، ومن مهبط الدعوة في مصر كتب الشاعر الإسلامي (جمال فوزي ) قصيدة يرثي فيها الإمام حسن الهضيبي – رحمه الله، يقول في مطلعها :

خضتَ الأعاصيرَ عملاقاً لترسيها

برَّ الأمان وربُّ العرش راعيها

وكان ما كان من كيد ومن خدع

فمــــــــــــــــــــا وهنت لجبارٍ يعاديها

ظللت ترفع في الآفاق رايتها

لتعلن الحـــــــقَّ في شتى منـــــــــــــــاحيها

ما بين قضبانها تسمو على محن

أحنت لك الرأس في أعتى لياليها

وزادك السجن تمحيصاً وتجربة

فحكمة الله في الأبرار يجريها

لقد خاض الإمام الأعاصير، ووقف عملاقاً يتحدى الصعاب، ويرفع راية الحق والخير والحرية، وكان حكيماً صابراً وهو صريع الظلم بين قضبان السجون، ويبشر الإمام بجنة الخلد التي طال انتظار إخوانه له فيها، ويعاهده على الوفاء لخط الإمام :

واليوم نادتك جناتٌ لتسكنها

في الخالدين، وتلقى إخوة فيها

والعهد أن نكملَ الأشواطَ في ثقةٍ

بالله حقاً وفي أسمى معانيها

حتى نرى شرعة الرحمن غالبةً

والناسُ تسجد إجلالاً لباريها

فكفكفوا الدمع إن سالت مآقيها

هي الملائك عزت في مناجيها

لقد قاد الإمام الهضيبي سفينة الدعوة بمهارة نادرة ، وبقي شامخاً عزيزاً لا يعطي الدنية ، يرفع راية التوحيد ، ولا يحابي جباراً ولا طاغوتاً ، سجن فازداد تمحيصاً وتجربة وعمقاً ، وحين رحل عن الدنيا استبشر بلقاء الله فأحبّ الله لقاءه .

كل شيء لانتهاء :

وكان الشاعر الإسلامي (مأمون جرار ) من الأردن قد نظم شعره في عدد من الجوانب الاجتماعية والإنسانية الهادفة. فله قصائد في الرثاء، منها قصيدته التي بعنوان "كل شيء لانتهاء"، نظمها عام 1973، عند وفاة الأستاذ حسن الهضيبي المرشد العام للإخوان المسلمين .

وفي هذه القصيدة وقفة مع الآلام التي يعانيها الداعية المسلم، وفيها دعوة للصمود أمام هذه الآلام، ودعوة إلى التفكير العميق في المصير الذي يمثله العنوان "كل شيء لانتهاء" .. وقد وجه الشاعر قصيدته هذه إلى السائرين على درب الراحل حسن الهضيبي، وقال فيها:

كل شيء لانتهاء!

هكذا كان من الله القضاء!

فاصبروا مهما يطل ليل البلاء!

كل شيء لانتهاء!

قف قليلاً ... !

أنت عبر الموكب الدامي شعاع أبدي!

يولد النور على جبهتك الخضراء في صبح ندي!

وحياة أنت تمتد .. وتمتد .. وتبقى كالغد !

دائماً تولد .. في كل انتفاضة قلب مهتد !!

لك يا حامل نور الله في الخلد بقاء !

والذي كان ستنساه إذا حان اللقاء !

فنعيم الخلد يفني .. كل ما يبني الشقاء !

كل شيء لانتهاء ...

هكذا كان من الله القضاء

فاصبروا مهما يطل ليل البلاء !

مشعل عزة :

لقد مارس الطغاة المستبدون صنوف القهر والعذاب على الدعاة وشباب الإسلام ، فيوم رحل الإمام حسن الهضيبي كان الأحباب يناضلون ضد الدستور العلماني في سورية، فأدخلوا السجون، وتفنن حافظ الأسد في تعذيبهم، وهناك قصيدة رثاء رائعة نظمها الأستاذ عبد الله عيسى السلامة سنة 1973م ، وكان يومها في سجن الحلبوني يقول فيها:......

أتينا إلى الدنيا فكنا لها فجرا

فقرّتْ بنا عيناً وطابتْ بنا ذكرا

وكانتْ ملولاً ذاتَ دلٍّ ونفرة

فذلّت على أقدام أبطالنا قسرا

بلى جاءها البرّ الأمين محمد

فطوّعها برّاً ، وذللها بحرا

فداءٌ له نفسي، وما ملكت يدي

فمنه استقينا النبل والعدل والصبرا

أبادَ فلولَ الظالمين من الدنا

فصارت به روضاً وكانت بهم قفرا

لقد كانت البشرية تعج بالظلم والقهر والطغيان ، فجاءتها دعوة الرسول فبددت ظلام الجاهلية والشرّ والإلحاد ، ونظم عليه السلام صفوف الجماعة المسلمة ليدك عروش الفراعنة ، ويحطّم طواغيت الشرك والظلم والاستعباد، وقد أبدع الشاعر في تصوير ذلك فقال :

وأعقبه جيشٌ من الأسد هادرٌ

فلا قيصرٌ ذاق الهناء ولا كسرى

وقد هاجموا الغبراء من كل جانبٍ

فما تركوا قطراً ولاتركوا مصرا

فشادوا لها قصراً من العزّ شامخاً

وباتت رُباها الشمّ زاهية خضرا

وبات كتابُ الله منهلَ حكمة

وأمسى لأرباب النهى والتقى ذخرا

ولكنها الدنيا فتوق نفوسنا

إلى المطمح الأدنى أغرى بنا الدهرا

فباتت جراثيم القراميط حولنا

تضاحكنا جهراً وتنهشنا سرّا

فنمنا فكان النوم منا جريمة

ومرّت شعوب الأرض من حولنا تترى

لقد انتشرت أنوار القرآن في كل مكان، وساد العدل والخير والسلام ربوع الأرض، ولكن الأمة حين تنكبتْ طريق ربها ، وتاهت عن درب الخلاص والإخلاص تسلط عليها أرذل البشر، وسلبت عزّها ومجدها، ويخلُصُ الشاعر عبد الله عيسى السلامة (سورية ) إلى موضوع الرثاء ـ فيقول معدداً صفات الإمام حسن الهضيبي ومشيداً بأخلاقه :

إلى أن أتانا السيد الشهم مرشداً

وكانتْ سيوفُ الجهل تنحرنا نحرا

فسارَ الأباة الصيدُ حول ركابه

وأجفلتِ الظلماءُ من نورهم ذعرا

وقد كنتَ فيهم شعلةً تحمل الهدى

فتنشره خصباً وتسكبه عطرا

وساء فراعينُ الضلالة أن رأوا

خيوط الهدى تسري فتستأصل الكفرا

وهيهاتَ أن ترضى الفراعينُ بالهدى

ألم يكُ جهلُ العالمين لهم سترا

ألم تكُ أعراضُ العباد فريسة

لذؤبانهم شهراً وفئرانهم شهرا

ألم تكُ أموالُ العباد غنيمةً

لهم تخذوها دون أربابها حِكرا

لقد عذبوا ذلك الشيخ الوقور والقاضي النبيل، وسجنوا أتباعه، وخانوا العهود ونكثوا المواثيق، وأرعبهم صوت الإيمان، وأخافتهم كلمة التوحيد وانتشار التدين بين الشباب، فسخروا جيوش الظلام لخنق نور الإيمان :

فأنى ينامُ الخائنون وبيّتهم

هتافٌ من الرحمن يزجرهم زجرا

وهل يعشقُ الإسلام من يُدمنُ الزنا

وهل يعشقُ الإسلام من يدمن السكرا

ألا لا فقد خافوا وذلوا فسخّروا

جيوشَ الدّجى كي تخنقَ الأنجمَ الزّهرا

فصبّوا على الأحرار نيرانَ حقدهم

لهيباً يذيبُ الصخرَ لو لامسَ الصخرا

لقد هوى ذلك المشعل الوقّاد، وهو يعلي راية التوحيد، ولكن أتباعه سيحملون الراية عالية خفاقة، لتنتشر دعوة الإسلام في أرجاء المعمورة وما ذلك على الله بعزيز

فكنتَ لجند الحقّ مشعلَ عزّة

وكنتَ لأشبــــــــــــــــــــــــــــــــال النضال أباً برّا

أبا المجد كم أودى سليل خيانة

فأذريَ دمعٌ لم يكنْ في الهدى يُذرى

فهل يذرفُ العميُ المناكيدُ أدمعاً

على الشمس إن أودى الظلامُ بها ظهرا

فمهلاً فتى الإسلام فالقبرُ روضةٌ

وقد عشتَ في قبرٍ ولم تنزلِ القبرا

فعش في جنان الخلد نشوانَ ضاحكاً

سعيداً قريراً لاتجوع ولاتعرى

فقد كنتَ في سفر النضال قصيدة

ونحنُ على درب الهدى نكملُ السفرا

لقد رحل الإمام المجاهد، الذي كان مناضلاً صامداً، ومرشداً للخير، وداعياً إلى الله على بصيرة، ولكن أتباعه سوف يكملون المسيرة، ويتابعون الخطوات على درب الهدى والنور ....

كلمة أخيرة :

لقد سجل رجال الدعوة الإسلامية في عصرنا الحديث بطولات، وكانت، وما زالت لهم مواقف، ونستطيع أن نقول مطمئنين : بأنها ترقى إلى مستوى ما سجله حملة المنهج الإلهي من الرعيل الأول من المسلمين، وواجب الحركة الإسلامية أن تكرم أبطالها، وأن تحتفي بشهدائها ليكونوا قدوات يسترشد بها العاملون، وكل من يسلك هذا الطريق.

لقد عاش الإمام حسن إسماعيل الهضيبي حياته مجاهداً لم يحنِ هامته الشريفة إلا لله، وكان متواضعاً، واسع الصدر، وقاضياً قوراً ، امتحن فصبر، حاول الطغاة تشويه صورته، فازدادت سمعته حسناً وإشراقاً، وكان مربياً فاضلاً بدأ بإصلاح نفسه ثم بدأ بأسرته فقدم للدعوة الإمام محمد المأمون الهضيبي المرشد العام السادس للإخوان المسلمين ، وكانت زوجته مثالاً للمرأة المسلمة، وقفت إلى جوار زوجها في محنته، وربت أبناءها على قيم الدعوة والإسلام ، وكانت تقوم مع بناتها الدكتورة سعاد والسيدة علية بكفالة أسر الشهداء والمعتقلين ، وتتواصل الأسرة مع المجاهدة زينب الغزالي لتخفيف آثار المحنة على أسر الدعاة ، فرحم الله الإمام ، وبارك الله في أسرته . وسلام على الإمام الهضيبي في الخالدين .

مصادر البحث

1-"الموسوعة الحركية" لمؤسسة البحوث والمشاريع الإسلامية بإشراف الأستاذ / فتحي يكن

2-مجلة الشهاب. العدد "13"

3- آفاق عربية "مقال الأستاذ / محمد عبد الله الخطيب".

4- ديوان الزوابع – وليد الأعظمي .

5- ديوان ثآليل في جبهة السامري – عبد الله عيسى السلامة .

6- موقع إخوان ويكي .

7- ديوان الصبر والثبات – جمال فوزي .

8-الحركات الإسلامية ضد الاستعمار واليهود والصليبية – نبيه زكريا عبد ربه .

9– القدوة الصالحة – جرار : 128 , 143 .

10-معالم وآثار دعوية : منزل المستشار حسن إسماعيل الهضيبي بالمنيل عبده مصطفى دسوقي .

11-من أعلام الدعوة والحركة الإسلامية المعاصرة – المستشار عبد الله العقيل .

12-مرشدو الإخوان الراحلون – المستشار عبد الله العقيل .

13- موسى جاويش: أمنَّا مبنى الإذاعة ليلة الثورة، إخوان أون لاين

14- جريدة النور 24 ربيع أول 1407 ص 3 عبد العظيم رمضان :عبد الناصر وأزمة مارس -مكتبة مدبولي 1975 ص 87

15-راجع أيضاً سيف الإسلام البنا في المجتمع عدد 884ـ 9 جمادي الأولى 1408 22م12م87 ص 21.

16-حسن الهضيبي (حياته وآثاره)- عبد الحليم الكناني.

17-حسن الهضيبي الإمام الممتحن- جابر رزق.

18-محمد منلا غزيل : الأعمال الكاملة