حسن البنا وقضية السودان
مقدمة
لم يرسم الإمام البنا حدود فكرته ودعوته داخل نطاق القطر المصري، لكنه ابتغى أن تكون دعوة عالمية يؤمن بها كل مسلم، ويعمل من أجل أن يعم الإسلام مشارق الأرض ومغاربها.
ولقد اتسم المنهج الفكري للإمام حسن البنا بالتدرج في الخطوات عمومًا، وكذلك فيما يتصل بعلاقة الإخوان بالعالم الإسلامي، فعندما ننظر إلى رسائله الأولى نرى أنه اهتم بوضع أسس للعلاقة المفترضة بين المسلمين والخروج بها من نطاق القومية والوطنية فحسب إلى نطاق أوسع وأشمل وأرحب وهو نطاق الأخوة الإسلامية الجامعة؛
ففي رسالة "دعوتنا" يقول الإمام البنا عن مفهوم الإخوان للوطنية:
- "أما وجه الخلاف بيننا وبينهم فهو أننا نعتبر حدود الوطنية بالعقيدة، وهم يعتبرونها بالتخوم الأرضية والحدود الجغرافية، فكل بقعة فيها مسلم يقول: (لا إله إلا الله محمد رسول الله) وطن عندنا له حرمته وقداسته وحبه والإخلاص له والجهاد في سبيل خيره، وكل المسلمين في هذه الأقطار الجغرافية أهلنا وإخواننا نهتم لهم ونشعر بشعورهم ونحس بإحساسهم. أما دعاة الوطنية فقط ليسوا كذلك، فلا يعنيهم إلا أمر تلك البقعة المحدودة الضيقة من رقعة الأرض. (1)
مصر والسودان
علاقة مصر بالسودان علاقة قديمة جدا حيث ارتبط الشعب المصري والسوداني بروابط كثيرة سواء جغرافية ودينية أو اجتماعية وسياسية وغيرها.
لم تكن السودان وحدة واحدة منذ عصورها القديمة لكن كان يتنازعها العديد من القبائل المختلفة بعضها خاضع لقبائل وملوك مناطق وسط أفريقيا، وبعضها خاضع للحضارة الحبشية بروافدها المسيحية، والبعض الآخر خاضع للقبائل ذات الأصول العربية التي عبرت البحر الأحمر واستقرت بشمال السودان وجنوب مصر. هذا بالإضافة إلى مجموعات من البدو الذين استوطنوا فيما سُمي لاحقا الدارفور.
وفي العصر الحديث ارتبطت السودان بمصر إدرايا حينما كلف الخليفة العثماني والى مصر الجديد محمد علي باشا عام 1820م ببسط نفوذه على قبائل السودان لتراخيهم في دفع الضرائب وهو الأمر الذي استجاب له محمد علي فأرسل حملة بقيادة ابنه اسماعيل كامل حيث نجحت الحملة في بسط نفوذها على مناطق السودان المختلفة المقسمة إلى ملكيات، وأزال ملوكها. (مملكة السينار، الفونج، الكوردوفان والدارفور)، وتمّ تقسيمها كمحافظات مصرية تابعة لمحمد علي.
وقام الجيش "المصري"، بفرض نظم إدارية جديدة وصارمة، مع فرض كل المعاملات باللغة التركية العثمانية. كما وضع نظام ضريبي قاس فرضه محمد علي على الأهالي. وزاد على ذلك أن جند شباب السودان في الجيش ودفع بهم لغزو أماكن أخرى في وسط أفريقيا. هذا غير القرار الجائر بالسماح للمصريين بشراء "عبيد" من السودانيين مما كانت القشة التي قصمت ظهر البعير، فانتفض أهالى السودان ضد الجيش المصري وأحرقوا اسماعيل كامل حيا.
ظلت تحرشات السودانيين بالجيش المصري نتيجة الظلم حتى اندلعت ثورة المهدي (محمد أحمد ابن عبدالله) عام 1881م والذي استطاع أن يُلحق الهزيمة بالقوات المصرية، إلا أن الموت عاجله فخلفه ابنه عبدالله، وحارب وهزم الحبشة (أثيوبيا)، وحاول احتلال مصر بلا جدوى.
كانت بريطانيا قد احتلت مصر في سبتمبر 1882م حيث وضعت سياسة بسط نفوذها على السودان فحكمتها بموجب معاهدة عام 1899م حينما عقدت معاهدة حكم ثنائي بينها وبين مصر والتي رسمت فيها حدود بين مصر والسودان لأول مرة. والتي وقعها من الجانب المصري بطرس غالي (والذي اشتهر عنه خيانته للقضية المصرية والمصريين واصياعه للإنجليز حتى حكم على المصريين في حادثة دنشواي وقتل على يد المصري إبراهيم الورداني).
ومن ذلك الحين ومصر لا تتدخل في الشأن السوداني إلا بدعم المحتل البريطاني سواء بالجنود أو المؤنة. سعت بريطانيا إلى بث روح الفرقة بين المصريين والسودانيين، وأمعنت سياسة فرق تسد بين البلدين والشعبين، وكونت أتباع لها من السودان ينادون بالاستقلال عن مصر وعن المحتل الانجليزي إلا أنها لم تنجح كثيرا
حيث ظل السوداني معتبرا المصري جزء منه ولم يقبل الطرفان بأى استفتاء عملت بريطانيا على إجراءاه لفصل السودان عن مصر، حتى أوعز الانجليز لبعض الخريجين بعقد مؤتمر يطالب بالاستقال عن مصر. تشكل بالفعل مؤتمر للخريجين من مجموعة من السودانيين في عام 1938 م، والذي نادى بتصفية الاستعمار في السودان ومنح السودانيين حق تقرير مصيرهم. (2)
استمر الحال حتى عام 1952م حينما وقعت الثورة المصرية، وحاول محمد نجيب ايجاد لحمة بين مصر والسودان، وبالفعل في انتخابات 1953م فاز حزب الحزب الوطني الاتحادي السوداني في الانتخابات التي أجريت برئاسة إسماعيل الأزهري (وهز حزب كان يؤيد الوحدة مع مصر) في مواجهة حزب الأمة الذي خسر الانتخابات.
وأصبح الأزهري رئيسا لوزراء السودان غير أن عسر مصر تعاملوا معه باستهانة كما تعاملوا مع السودانيين أنفسهم مما دفع الأزهري إلى طلب الانفصال عن مصر خاصة بعد تنحية العسكر لمحمد نجيب حبيب السودانيين.
كان الرئيس محمد نجيب قد انتقد موافقة العسكر على قرار فصل السودان عن مصر حيث قال:
- إن مشكلة جمال عبد الناصر وصلاح سالم وباقي مجلس الثورة مع السودان؛ هي أنهم لم يعرفوا ولم يفهموا أهله، ولم يتصوّروا أهميته بالنسبة لمصر، فتصرّفوا وكأنهم سيّاح وليسوا أبناء وادٍ واحد. (3)
ويؤكد الكاتب عز الدين عمر أن مصر لم تكن في يوما ما مستعمرة للسودان كما ذكر علي الحفناوي آنفا، لكن كانت العلاقة قائمة على الود والمصالح المشتركة بين شطري الوادي قديمة منذ عصور الدول القديمة وليست منذ عهد محمد علي فحسب.
حيث يقول:
- لا تبدو العلاقة بين مصر والسودان علاقة عابرة، سواء على مستوى التاريخ المشترك، أو التداخل الجغرافي، بل يمتزج في تفاصيلها التاريخية علاقة ممتدة من الثبات والرسوخ ووحدة المصير، وعلاقة البحث عن الشريك والأخ والاتحاد معه، والأمان بوجوده، وطالما انتبه قادة أفذاذ عبر التاريخ إلى أهمية هذه العلاقة، فإذا كانت الحضارة المصرية القديمة لا تزال تشهد بهذه العظمة فإن السودان لم يغب عن هذه الحضارة، ولا تزال آثار مناطق شمال السودان وتشابهها الكبير مع حضارة مصر شاهدة على هذا التمازج والتأثر والتلاقح منذ آلاف السنين. (4)
وكانت السياسة البريطانية منذ اللحظة الأولى تدرك خطورة وحدة مصر والسودان على أهدافها الرامية إلى استغلال البلدين، ونشر التنصير في أفريقيا انطلاقا من السودان، لذا، فقد أمرت السلطات البريطانية الخديو توفيق بسحب آخر قائد مصري من السودان عبد القادر باشا حلمي واستبداله بالبريطاني هيكس الذي عُين رئيسا لأركان الجيش السوداني.
كان السبب الرئيسي في انفصال السودان عن مصر هو عبدالناصر ومن معه من الضباط وهو ما ذكره عبد اللطيف البغدادي في مذكراته بقوله:
- إن سمعة مصر (في السودان) كانت سيئة للغاية بسبب الرشوة التي تُعطى وتبذل لكل إنسان حتى في الشارع مما دعا الناس إلى الشك في كل من يتكلم أو يدعو إلى الاتحاد مع مصر على أن وراء دعوته رشوة قد دُفعت إليه، وذكر أن المسؤولين هناك يُهاجمون مصر بأقسى الكلمات في الحفلات الرسمية وحتى في البرلمان السوداني نفسه
- وأن كل المسؤولين في السودان قد أساءهم مهاجمة مصر لإسماعيل الأزهري (رئيس الوزراء السوداني) في الصحافة والإذاعة المصرية، وقد أضر ذلك بالعلاقة بين البلدين، وأن الكل في السودان أصبح يدعو إلى الاستقلال، وأوضح أن الصورة التي تُعطيها الصحافة المصرية عن الموقف في السودان تختلف تمام الاختلاف عن الحقيقة هناك. (5) وبالفعل استقلت السودان رسميا عن مصر في 1 يناير 1956م.
العروبة في فكر البنا
بنى الإمام البنا فكره على روح الأخوة الإسلامية التي جمعت بين جميع المسلمين، حيث اعتبر أن كل فرد ينطق بكلمة التوحيد هو مسئول من جميع المسلمين، ولا فرق بين عربي وأعجمي ولا أبيض وأسود ولا أحمر وأصفر إلا بميزان التقوى.
فقد طالب بوحدة العرب أولا حتى يتوحد على إثرها كافة المسلمين من خلفهم فيقول:
- (لابد منه لإعادة مجد الإسلام، وإقامة دولته، وإعزاز سلطانه، ومن هنا وجب على كل مسلم أن يعمل لإحياء الوحدة العربية وتأييدها ومناصرتها، وهذا هو موقف الإخوان المسلمين من الوحدة العربية). (6)
ويؤكد على هذا المعني بقوله:
- "إن هذه الحدود الجغرافية والتقسيمات السياسية لا تمزق في أنفسنا أبدًا معنى الوحدة العربية الإسلامية التي جمعت القلوب على أمل واحد وهدف واحد، وجعلت من مكان هذه الأقطار جميعًا أمة واحدة مهما حاول المحاولون وافترى الشعوبيون" (7)
بل في جزئية أخرى يؤكد الأستاذ البنا أن الوحدة بين المسلمين لا تعترف بالفوارق الجنسية الدموية، ولا بالحدود الجغرافية فيقول:
- "ويعتبر الوطن الإسلامي وطنًا واحدًا مهما تباعدت أقطاره وتناءت حدوده. وكذلك الإخوان المسلمون يقدسون هذه الوحدة، ويؤمنون بهذه الجامعة، ويعملون لجمع كلمة المسلمين، وإعزاز أخوة الإسلام، وينادون بأن وطنهم هو كل شبر أرض فيه مسلم يقول: (لا إله إلا الله محمد رسول الله)" (8)
موقف الإمام البنا من قضية السودان
اعتبر الأستاذ حسن البنا السودان الشطر الثاني لمصر، وأنه يجمع بينهما التاريخ والدين واللغة ولا يجب فصلهما عن بعضهما البعض. كما وجه الدعوة للسودانيين والمصريين إلى التمسك بالوحدة بينهما، ونبذ عوامل الفرقة التي يختلقها المستعمر الحاقد، ودعم تنمية أواصر القربى والإخاء مع الشعب السوداني. وكان حسن البنا حينما ينادي بتحرير مصر وخروج المستعمر منها كان يتبعها دائما بالسودان لكونها الشطر الثاني لمصر.
فحينما أرسلت وزارة النقراشي الأولى مذكرتها إلى الحكومة الإنجليزية؛ تطلب تحقيق هدفى الجلاء ووحدة وادى النيل، رأى الأستاذ حسن البنا أنها كانت ضعيفة ولم تحمل جدية المطالب وأوراق ضعط على المحتل، حيث كتب وجهة نظرة في قضية السودان رافضا الدعاوي التي تتهاون في حقها أو حق قضيتها، أو أن تنشغل الوزارات المتعاقبة بقضية مصر دون قضية السودان
فقال:
- "لم تحدد الحكومة فى مذكرتها مطالب البلاد فى قوة وصراحة، وكان أولى بها - وهى صاحبة الحق - أن توضح هذا الحق توضيحا قويا تؤكد فيه أنها لن ترضى عن الجلاء ووحدة وادى النيل بديلا.
- والسودان، شطر الوادى، لقد فجع أبناء النيل جميعا لهذا الأسلوب المتخاذل الذى صاغت فيه الحكومة قضية السودان، بل قضية وادى النيل، فلقد طلبت فى ذيل مذكرتها أن تشمل المحادثات مسألة السودان "مستوحية" مطالب السودانيين وأمانيهم، وكان أحرى بها ألا تردد هذه النغمة الملتوية التى يذكرها الإنجليز على الدوام ليفرقوا بين شطرى الوادى، ولقد أعلنا غير مرة أن مطالب السودانى وأمانيه هى بعينها مطالب المصرى وأمانه: جلاء تام، ووحدة كاملة" (9)
رفض الإمام البنا المعاهدة التي أبرمتها مصر مع بريطانيا بخصوص السودان عام 1899م كما رفض معاهدة 1936م لما لها من تداعيات سلبية على استقلال البلاد فقال:
- أما الرد البريطانى، فقد جاء متمما لسلسلة المراوغات التى بدأت منذ الاحتلال البريطانى المشئوم سنة 1882 إلى الآن، والتى توالت فيها النكبات على مصر - رغم الوعود التى بذلت بسخاء ولم تف إنجلترا بشىء منها - وكان منها هذه الاتفاقات الباطلة التى أبرمت ففصلت السودان عن مصر، والمفاوضات الفاشلة التى انتهت بمعاهدة سنة 1936 وهى التى لم تكن سوى قيود كبلت البلاد، واتخذت منهما انجلترا ذريعة للاحتلال الصريح الذى نواصل الجهاد اليوم للتحرر منه. (10)
وقال:
- أن اتفاقية السودان لم تكن أكثر من نشرة إدارية صنعت بيد إنجليزية، ليست لها قوة الاتفاقية أو المعاهدة، ولا تلزم مصر بشىء. (11)
ويؤكد على هذه الروح التي تسري في جسد المصري والسوداني والتي تتوافق بينهما روح الحب والإخاء فيقول:
- والوحدة كما يفهمها المصريون فمعناها: أن المواطن المصرى يعتبر أرض وادى النيل وطنا واحدا، وأهله شعبا واحدا، لكل فرد منهم ما للآخر من الحقوق وعليه ما عليه من الواجبات، وكما يفهمها السودانيون أو جزء منهم معناها: الاتحاد مع مصر تحت التاج المصرى مع وحدة الجيش والتمثيل السياسى... إلخ، ومع قيام حكومة داخلية من أبناء السودان تقوم على إدارته باعتبارهم أدرى بما فيه.
- ومهما يكن من أمر هذا الخلاف فهو خلاف داخلى بحت بين أبناء الوطن الواحد يعملون على تسويته بحسب ظروفهم وأحوالهم، ولكن الذى لاشك فيه أن إجماعهم قد انعقد على المطالبة بأن تحيا هذه البلاد حرة مستقلة لا يهدد استقلالها احتلال الأجانب لها. (12)
وناشد أبناء الشعب المصري على المحافظة على وحدته مع أشقاءه السودانيين وأن يضغطوا على المفاوض أن لا يقبل بتجزءة الوطن فيقول:
- أيها الشعب الأبى: حذار فإن الأمر جد لا هزل فيه، وهو مستقبل الأوطان والبلاد ومصير الأبناء والأحفاد، فاذكروا ذلك جيدا واحذروا من أن تخدعكم المسكنات أو تصرفكم عن الغاية الوعود والكلمات وصارحوا المفاوضين من الآن بأنكم ترفضون كل الرفض: كل تأجيل لأمر السودان وكل حل لا يحقق وحدة الوادى. (13)
كان بعض المصريين ينظرون إلى السودانيين على أنهم قبائل متفرقة ولا يمتون بصلة لمصر والمصريين وذلك للعنصرية التي غرسها فيهم الاستعمار والطبقية التي عاشوا فيها، ولذا أكد الإمام البنا على أن مصر والسودان جسد واحد وشعب واحد مهما اختلفت ألوانهم
فيقول:
- أما أمر السودان فأغيظ ما يغيظ فيه خداع المفاوضين البريطانيين وغباء الساسة المصريين، وترديد الفريقين لنغمة رفاهية المواطنين السودانيين، وهى كلمة حق يراد بها باطل، وخدعة استعمارية لا تروج على فطن عاقل، فمن الذى منع المواطن السودانى أن تكون له حقوق المواطن المصرى إلا الاحتلال البريطانى والاستئثار الإنجليزى؟!
- وما هذه الكلمة البغيضة كلمة (السيادة) يديرونها على غير وجهها، ويثيرون الضجيج من حولها! مع أن وجهة النظر السليمة الطبيعية التى أدركها شعب وادى النيل بفطرته الصافية النقية، تتلخص فى أن وادى النيل قطر واحد، وأن سكانه شعب واحد، وآية ذلك
- ودليله القاطع أن قبائل: البجه والنوبة والعبابدة والبشاريين والكنوز والسكوت وبنى عامر وبنى سليم والمناصير وحرب وجهينة، وعشرات غيرها، وهى أغلبية السكان فى السودان الشمالى، نصفها فى مديريات مصر من الشرقية وقنا وأسوان وسوهاج وغيرها، ونصفها فى مديريات السودان من دنقلة وبربر ودارفور وغيرها، وأن مقر مشايخ بعض هذه القبائل السودانية فى البلاد المصرية من دراو وأسوان وكورسكو والدر.
- وإذا قيل: إن الزنوج فى السودان الجنوبى شعب آخر، قلنا: ولكنا أولى الناس بهم وأحقهم برعايتهم وتمدينهم وأقدرهم على ذلك، وقد عجز الحكم الأوربى خلال هذا الزمن الطويل عن أن يرفع مستوى حياتهم عن هذه البيئة التى يعيشونها، على حين كان للحكم المصرى على قصر أمده أجمل الأثر فى الرقى بهم ووصول أضواء الحضارة والمدنية إليهم، وتلك حقائق تاريخية لا ينكرها إلا جاحد أو مكابر.
- فإلى متى يظل الساسة المصريون يجارون الخدعة البريطانية التى تحتج برفاهية السودان ومصالح السودانيين، ونحن أعرف الناس بمشاعر إخواننا، وارتياحهم الكامل لتحقيق وحدتنا، واعتقادهم معنا أنه ليس هناك ما يحول دون رفاهيتهم إلا وجود هؤلاء البريطانيين عسكريين أو مدنيين!
- فليقرروا الجلاء عن الوادى إن كانوا فى هذه الدعوى صادقين، وليتركوا للشقيقين تسوية أمورهم وتصفية حسابهم فلا حياة لمصر بغير السودان ولا رفاهية للسودان بغير مصر، وما وصلته يد الله لا تقعطه أيدى البشر ﴿وَاللهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لاَ يَعْلَمُونَ﴾ "يوسف: 21" (14)
ويؤكد على هذا المعنى في أكثر من موضع بأن الوطن يُقصد به مصر والسودان وليس مصر فقط فقول:
- لن ترضى الأمة بهذا التعبير أو تشارك الحكومة فى القناعة به حتى يكون مفهوما ومعلوما أن المراد بالوطن هنا مصر والسودان معا، وأن الجلاء المقصود هو جلاء الجنود الأجنبية عن أرضهما جميعا، وحتى يكون مفهوما ومعلوما كذلك أن المراد بوحدة مصر والسودان الوحدة الحقيقية التى توجبها هذه اللحمة الطبيعية التى ربطت شقى الوادى من صلات اللغة والقربى والمصلحة من قديم التاريخ وحديثه. (15)
ويضيف:
- إن الحقيقة التى يؤمن بها شعب وادى النيل، ونريد أن تؤمن بها حكومته، وأن تقنع بها من لم يفقهها بعد من المواطنين أو الأجانب على السواء، أن مصر والسودان وطن واحد لا وطنان وشعب واحد لا شعبان، وأن السودان قد وصل فعلا بحكم أنه مكمل لمصر إلى مرتبة الاستقلال الكامل التام
- وأننا فى السودان لسنا مستعمرين يعملون لخير من استعمروهم من الشعوب والأمم، ولكنا مواطنون نتساوى فى الحقوق والواجبات، وإن مصر بهذا الاعتبار عليها أن تتوجه بالسودان إلى الرقى فى شتى نواحى الحياة؛ لأن هذا واجبها لكل جزء من أرض الوطن العزيز، ولا ينتقص استقلال السودان إلا هذا الاحتلال البغيض فيه وهذه الشركة الظلمة الجائرة التى فرضت عل مصر ظلما وعدوانا. (16)
لقد ادعت بريطانيا على لسان اليكساندر كادوجان بأن المصريين هم من طلبوا من بريطانيا احتلالهم، وأن السودانيين لا يريدون الوحدة مع المصريين
فانبرى له الإمام البنا ليرد عليه كذبه قائلا له:
- أن القائد البريطانى "كتشنر" الذى كان على رأس القوات المصرية التى دخلت السودان كان يعلن أن مصر والسودان وطن واحد تحت حكم الخديوى، وكان يتصرف باسمه وحده، وأن السودانيين الأشقاء الأحبة لم يفكروا فى الانفصال عن مصر ولم يدر هذا بخلد هؤلاء المواطنين إلا هذا النفر الذى اصطنعته السياسة البريطانية وخدعته بباطل الآمال ومعسول الوعود. (17)
كما رد على خطاب إسماعيل صدقي الذي تحدث فيه عن السودان والذي كان واضحا من حديثه التفرقه بين الشعب المصري والشعب السوداني، وهو ما رفضه الأستاذ البنا والإخوان المسلمين فقال: فسمعنا دولة رئيس الحكومة فى بيانه يعرض للسودان فى موضعين، ويمر به فيهما مرورا خاطفا، ولكن يضم تحته كثيرا من المعانى التى تحتاج إلى تفكير، فيقول فى الموضع الأول فى صدد المحالفة والمعاهدة وإنها للحصول على جلاء عاجل: "ولتسوية مسألة السودان على قواعد الشرف والكرامة مع ضمان مصالح إخواننا السودانيين".
وهنا نرى أن صدقى باشا مازال يسترسل مع النغمة الإنجليزية التى تفرق بين مصر والسودان، وتجعل منهما شعبين مختلفين ووطنين متباينين لكل منهما مصالحه الخاصة به، وذلك فهم عريق فى الخطأ ومصر والسودان وطن واحد وشعب واحد ومصالح السودانيين هى مصالح المصريين تماما
وإذا كان السودانيون يرون أن نقوم فى بلدهم حكومة سودانية داخلية تحت التاج المصرى فليس ذلك منهم إلا مراعاة لبعض الأوضاع الخاصة فى السودان، كما تبيح الحكومة المصرية للقبائل العربية فى مصر أن يكون لها مشايخ منها لهم وضعيتهم الخاصة وتقاليدهم الخاصة ولا يقال: إن لهم بذلك مصالح تختلف عن مصالح الوطن العامة. (18)
لم يترك حسن البنا الأمر على عوائله لكنه أقر بحقوق الشعب السوداني في أن يقرر مصيره وأن ينالوا حكما ذاتيا لكن دون الانفصال عن مصر لأنه ليس في صالح الشعبين
فيقول:
- تلك المطالب التى نقشت على قلب كل مصرى، وهى الجلاء، ووحدة وادى النيل طبقا لمشيئة أهل الوادى ورغبتهم وهى رغبة طبيعية.. مع بذل الجهد فى السير بالسودان إلى الحكم الذاتى، وتهيئة أهله لتولى شئونه ونحن لا نكره لإخوتنا فى السودان أن يتولوا شئون هذا الشطر من الوطن فهم أحق بهذا التولى وأهله، على ألا يكون وسيلة إلى الانفصال الذى ليس فى صالحنا ولا فى صالحهم بحال. وكم كان الناس فى الجنوب وفى الشمال مشوقين إلى وضع هذا التحفظ فى بيان رئيس الحكومة. (19)
وفي مكان أخر يؤكد على المعني بقوله:
- وتريد هذه البلاد أن يعترف لها بحدودها الطبيعية، وألا يزاحمها غيرها فى أرضها الأساسية، فحينما تطلب مصر أن تتوحد مع السودان وأن ترفع عنهما معا سلطة إنجلترا وتدخلها، لا تريد بذلك أن تستعمر قطرا ولا أن تتملك شعبا ولا أن تغنم أرضا، ولكنها تريد أن تحرر نصفها الجنوبى الذى ربطه بها النيل رباطا لا انفصام له، وستتكلف مصر فى سبيل ذلك كثيرا وتضحى بالكثير
- فإن السودان - وهو أكبر من مصر مساحة وأكثر مطالب فى شئون الإصلاح عامة - سيكلف مصر كثيرا، ولكن متى كان الأخ يبخل بتعهد أخيه والإنفاق عليه؟ ليس السودان مستعمرة تريدها مصر، ولكنها مصر الجنوبية حين تضم إلى أختها الشمالية، وبتوحد وادى النيل ستتوحد الإدارة والنيابة، وتنشأ المدارس فى السودان كما تنشأ فى مصر تماما، وتتوحد القوانين وتنشأ المحاكم فى السودان كما تنشأ فى مصر
- وتعمم الإصلاحات الاقتصادية والاجتماعية فى السودان كما تعمم فى مصر، وتتوحد الجنسية فتتوحد بذلك الحقوق، فيكون السودانى مديرا أو وزيرا أو رئيس حكومة لأنه مصرى لحما ودما وجنسا وقانونا، فمصر هبة النيل والسودان كذلك. بل إنه ليس هناك ما يمنع أبدا إذا تم هذا التوحيد أن يغير اسم المملكة المصرية إلى مملكة وادى النيل حتى لا تستأثر مصر بالاسم دون نصفها الجنوبى السودانى. (20)
ويؤكد على ذلك بقوله:
- لا نقول: إننا نطالب بحق مصر فيه فليس لمصر حقوق فى السودان، ولكن السودان جزء من الوطن فهو مصر الجنوبية، ومصر هى السودان الشمالى، وكلاهما وادى النيل، هذا كلام نريد أن يكون مفهومًا جيدًا للدول الأجنبية كلها عامة، ولإخواننا ومواطنينا أبناء السودان خاصة.
- إن النيل الذى تتوقف عليه حياة مصر أرضًا ونباتًا وحيوانًا وأناسًا إنما ينحدر إليها من السودان، ومن مائه ومن طميه تكونت أرض الجنوب كما نشأت أرض الشمال، ومنها نبتت هذه الجسوم وجرت هذه الدماء، فنحن -أيها الإخوة السودانيون- من ماء واحد وطينة واحدة، وإذا قال لكم قائل: إن مصر تريد أن تستعمركم لتستغل أرضكم وتستعلى عليكم وتستطيل بالسلطان فى أرضكم.
- فقولوا: إنها فرية كاذبة، نحن نريد السودان جزءًا من مصر، كما أن مصر جزء منه، للسودانى ما للمصرى من حقوق، وعليه ما عليه من واجبات. إذا فتحت المدارس فى مصر فتح مثلها فى السودان، وإذا أنشئت المحاكم فى الشمال أنشئت كذلك فى الجنوب، وتتوحد الجنسية، ويتوحد القانون، ويتوحد كل شىء فى مظاهر الحياة الاجتماعية فى جزأى الوطن الواحد وادى النيل.
- وإذا كان المغرضون قد استطاعوا أن يصوروا الأمور على غير وضعها الصحيح، فإن ذلك الباطل لا يغنى من الحق شيئًا. لقد عملت الدعاية الأجنبية عملها فى السودان، ولكن إخواننا السودانيين مؤمنون وأذكياء، وهم يشعرون تمامًا أن ما يجدونه الآن من ملاطفة ولين موقوت إلى حين، ثم بعد ذلك ينكشف الاستعمار عن الاستعمار، ويتحقق لهم قول الله العلى الكبير: ﴿إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ﴾ "النمل: 34".
- ولقد حاولت الإدارة السودانية أن تفصل السودان الجنوبى عن السودان الشمالى فصلاً تامًا، والسودان الجنوبى هو منبع الثروة ومستقرها فى السودان كله؛ فهو موضع الغابات، ومرعى الحيوان، ومستقر المعادن، ولقد حجبته الحكومة عن أهل السودان الشمالى، وضربت عليه نطاقًا من المراقبة الشديدة، وحرمت الذهاب إليه حتى على التجار من السودانيين أنفسهم، وأطلقت فيه الدعاية التبشيرية من مختلف الإرساليات، وجعلته نهبًا مقسمًا بينها، ومع هذا كله فلا زال الإسلام يشق طريقه إليه، والله غالبٌ على أمره.
- ومن الغريب أن حكومة مصر لا تهتم لكثير مما يقع فى السودان، ولا تخطو خطوة إيجابية فى سبيله، ولكنا لن نسكت على هذا الحال. ونعتقد أن الهيئات السودانية التى تطالب بغير الوحدة التامة مع مصر - إن وجدت هذه الهيئات - لو علمت هذا الوضع الصحيح الذى نعلنه
- ونؤمن به ونعمل على أساسه لبادرت بأسرع ما يمكن لإعلان هذا الرأى وتقريره، فإن مصر إذا كانت تحتاج السودان لتطمئن على ماء النيل وهو حياتها، فإن السودان أحوج ما يكون إلى مصر فى كل مقومات الحياة كذلك، وكلاهما جزء يتمم الآخر ولا شك، وذلك فضلاً عن وحدة اللغة والدين والمشاعر والمظاهر والأنساب والدماء. وسنظل نطالب بهذا الحق ونستمسك به حتى نصل إليه إن شاء الله. (21)
ويركد على الإخوان هذا المعنى فيقول:
- إن السودان هو وطنكم الجنوبى بحكم الحقيقة التاريخية والجغرافية، وبحكم الروابط التى لم يتوفر مثلها لكثيرين من الأمم الموحدة قديمًا أو حديثًا، وبحكم المصالح المشتركة والمشاعر المتبادلة. (22)
أخيرا
لقد ظلت قضية وحدة مصر مع السودان واستقلالهما عن المحتل البريطاني شغل الشاغل للأستاذ حسن البنا، بحيث لم يترك مكان ولا مقال إلا ذكر الشعب والحكومة والملك بأن السودان جزء من مصر أصيل، والشعب السوداني كالشعب المصري في الحقوق، فيقول: مصر والسودان أمة واحدة تحافظ على صميم كيانها وتضحى بكثير من مواردها وثروتها وجهودها، وإن حاجة هذا الجزء من الأرض إلى مصر لأعظم بكثير من حاجتها هى إليه. (23)
المراجع
- مجموعة رسائل الإمام البنا، رسالة دعوتنا، تحقيق: البصائر للبحوث والدراسات، صـ135.
- علي الحفناوي: هل كانت السودان مصرية؟ 5 فبراير 2018
- محمد نجيب: كنت رئيسا لمصر، دار الشروق.
- عز الدين عمر: الاستعلاء الناصري.. هكذا ساهمت سياسات عبد الناصر بانفصال مصر والسودان، 10 أغسطس 2021
- مذكرات عبد اللطيف البغدادي: جـ1، المكتب المصري الحديث، 1976م.
- مجموعة رسائل الإمام البنا، رسالة المؤتمر الخامس، تحقيق: البصائر للبحوث والدراسات، صـ362.
- مجموعة رسائل الإمام البنا، رسالة دعوتنا في طور جديد، صـ486-487.
- مجموعة رسائل الإمام البنا، رسالة المؤتمر الخامس، صـ362-363.
- حسن البنا: بيان من الإخوان المسلمين إلى شعب وادى النيل، جريدة الإخوان المسلمين الأسبوعية، العدد (89)، السنة الرابعة، 7 ربيع أول 1365/ 9 فبراير 1946، صـ3.
- حسن البنا: بيان من الإخوان المسلمين إلى شعب وادى النيل، المرجع السابق.
- حسن البنا: جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (389)، السنة الثانية، 20 رمضان 1366/ 7 أغسطس 1947، صـ1.
- حسن البنا: حول المفاوضات، جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (2)، السنة الأولى، 4 جمادى الثانى سنة 1365ه - 6 مايو 1946م، صـ3.
- حسن البنا: إلى شعب وادى النيل، جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (14)، السنة الأولى، 19 جماد الآخرة 1365 - 20 مايو 1946، صـ1.
- حسن البنا: أيها الشعب الأبى، جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (135)، السنة الأولى، 15 ذو القعدة 1365 - 10 أكتوبر 1946، صـ4.
- حسن البنا: حول خطاب دولة النقراشى باشا، جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (185)، السنة الأولى، 17 محرم 1366 ه - 11 ديسمبر 1946م، صـ1.
- حسن البنا: المرجع السابق.
- حسن البنا: حق وقوة، جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (394)، السنة الثانية، 26 رمضان 1366 - 13 أغسطس 1947، صـ1.
- حسن البنا: سيناء والسودان، جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (137)، السنة الأولى، 18 ذو القعدة سنة 1365هـ - 13 أكتوبر 1946م، صـ4.
- حسن البنا: بيان وقرار، جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (191)، السنة الأولى، 24 محرم سنة 1366ه - 18 ديسمبر 1946م، صـ1.
- حسن البنا: كلمتان بعد الهدنة العامة، مجلة الإخوان المسلمون، العدد (67)، السنة الثالثة، 15 رمضان 1364ه - 23 أغسطس 1945م، صـ4.
- حسن البنا: رسالة رؤساء المناطق والشعب ومراكز الجهاد.
- حسن البنا: رسالة المؤتمر الشعبي الأول للإخوان.
- حسن البنا: جامعة شعوب عربية، جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (421)، السنة الثانية، 1 ذو القعدة 1366ه - 16 سبتمبر 1947م، صـ 5-6.