جمال عبد الناصر وحادثة المنشية بالأسكندرية
بقلم / الأستاذ عباس حسن السيسي
الإهداء
• إلى مواكب شهداء الإسلام في مصر، وفي كل عصر، وفي كل مكان، إلى الخالدين في جنات النعيم فرحين بما آتاهم الله من فضله.
• إلى الذين يحسنون صناعة الموت ويهفون إلى الموتة الشريفة ويتنسمون ريح الجنة ولما يلحقوا بإخوانهم من الشهداء.
• وإلى الذين تآمروا على الإسلام والحركة الإسلامية في ليل أسود فَشرَّدوا وعَذَّبوا وقتَّلوا ومثَّلوا بشباب وفتيات هذه الأمة بما لم يخطر على بال إنس ولا جان؛ الذين حاربوا الدعوة إلى الله بمكر الليل وكيد النهار فوسوست لهم شياطين الشرق والغرب أعداء الله ورسوله وكتابه-فأذاقوا الشعوب مر العذاب بشعارات الكذب والنفاق.
• إلى الطغاة الجبارين الذين سترتهم إلى حين أجهزة الفساد والظلم والطغيان وغرتهم الحياة الدنيا.
• إلى الذين طغوا في البلاد فأكثروا فيه الفساد، إلى الذين أقسموا من قبل ما لهم من زوال... نقول لهم قد كشف اله أستاركم وفضح مكركم وأخرج أضغانكم وغدا تبلى السرائر فلا يكون لكم من قوة ولا ناصر وتسمعون في ذلة وهوان: وَلَقَدْ جِئْتُمُونَا فُرَادَى كَمَا خَلَقْنَاكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَتَرَكْتُمْ مَا خَوَّلْنَاكُمْ وَرَاءَ ظُهُورِكُمْ وَمَا نَرَى مَعَكُمْ شُفَعَاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكَاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَضَلَّ عَنْكُمْ مَا كُنْتُمْ تَزْعُمُون﴾[سورة الأنعام: 94].
المقدمة
بسم الله الرحمن الرحيم
﴿لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوَالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا وَإِنْ تَصْبِرُوا وَتَتَّقُوا فَإِنَّ ذَلِكَ مِنْ عَزْمِ الأمُور﴾[آل عمران: 186].
﴿وَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غَافِلا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّمَا يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الأبْصَارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ (43) وَأَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذَابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنَا أَخِّرْنَا إِلَى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَنَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَوَلَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ مَا لَكُمْ مِنْ زَوَالٍ (44) وَسَكَنْتُمْ فِي مَسَاكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَتَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنَا بِهِمْ وَضَرَبْنَا لَكُمُ الأمْثَالَ (45) وَقَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَعِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَإِنْ كَانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبَالُ (46) فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انْتِقَامٍ﴾[إبراهيم 42-47].
منذ سمعت طلقات الرصاص على جمال عبد الناصر مساء الثلاثاء 26من أكتوبر 1954 في ميدان المنشية بالاسكندرية –حيث كنت محبوسا في زنزانة بالسجن الحربي بالعباسية بالقاهرة. وأنا أعيش هذا الحادث بكل كياني ووجداني فلا يغيب عن خاطري ولا أنساه، ذلك لأنه أصابني في الأعماق في دعوتي وفي حياتي وأصبح همي في الحياة أن أكشف الغطاء الكثيف عن الحقيقة التي غيبوها عن الأجيال بكل وسائل الزيف والخداع والتضليل الذي مارسوه بإتقان.
إن دهاقنة المكر والخداع أخرجوا هذه التمثيلية وحرقوا لها البخور وقدموا لها القرابين- كما كان يفعل المشركون مع أصنامهم التي صنعوها بأيديهم ثم لها يعبدون يسجدون، إنهم ليعلمون أن هذا الحادث مزيف كما يعرفون أبناءهم ولكنهم يخدعون أنفسهم ليخدعوا غيرهم ويموهوا عليهم –لأنهم سدنة الطاغوت، فأرزاقهم ومراكزهم ومظاهرهم مرهونة به ونظامه.
ويوم أذيع هذا الحادث في وسائل الإعلام –رفضته جماهير شعب مصر الواعية –حتى انتشر بين الناس (أنها تمثيلية) وقد قبض على بعضهم وصدرت ضدهم أحكام. فالأمر كان مكشوفا وملفقا ... وفي نفس الوقت خرجت الإذاعة بأغنية لأم كلثوم مطلعها (يا جمال يا مثال الوطنية... أجمل أعيادنا القومية بنجاتك يوم المنشية) وظلت الإذاعة ترددها صباح مساء كما كنا وعلى رأسنا فضيلة المرشد حسن الهضيبي وقيادة الإخوان نرددها في الطوابير على صوت المذياع ولذع الكرباج. ويبدو أن الطغاة ق خجلوا من الكذب فأذاعوا هذه الأغنية بعد ذلك خالية من كلمة بنجاتك يوم المنشية!؟
وإنه كثيرا ما تقع حوادث جنائية ويتعذر رجال المباحث الجنائية الوصول إلى الجاني فتكتب القضية ضد مجهول كما حدث في اغتيال حسن البنا في13 فبراير 1949... وتمضي الأيام وتكشف الحقيقة ولو بعد حين. وحين تتكرر الجريمة بأسلوب واحد أكثر من مرة فإن الاتهام يكون أكثر وضوحًا وانطباقا على الجاني الأثيم. فقد تكررت في عهد عبد الناصر تلك الأساليب مرات ومرات في مؤامرة دولية واغتيالات فردية وقتل على أعواد المشانق للتمكين لنفسه وإرهاب المناهضين لحكمه الإرهابي وما حدث في حرب اليمن ونيجيريا. ومقتل خميس والبقري في حوادث كفر الدوار. وما قيل حول مقتل المشير عامر وغير ذلك كثير، وهذا فضا عما نقرأه كل يوم عن الكوارث والنكبات والخيانات في الحروب الفاشلة التي توجت هاماتنا بالخزي والعار.
العجيب المحير للعقول أنه لم تكن هناك عداوة شخصية بين أحد من الإخوان وهؤلاء الذين تزعموا حركة 23 يوليو، حتى يمكن أن يقال أن هذا الذي حدث هو تصفية حسابات قديمة. بل بالعكس فإن المعروف للناس جميعا أن جماعة الإخوان قامت بنصيب كبير في إنجاح هذه الحركة.. حتى صار معروفا لدى القاضي والداني أن الإخوان المسلمون هم أصحاب الحركة.
ولقد اتضح بعد هذه المجازر التي تجاوزت كل المعقول أن الحركة إنما قامت لمحاربة فكر الإخوان المسلمون في الصميم.
فإن ما حدث في المنشية لا يستدعي على الإطلاق حرب الإبادة التي شنها نظام عبد الناصر على الإخوان ودعوتهم، إنه مجرد شروع في قتل لم يُصّب منه عبد الناصر بسوء سوى قلم الحبر الأحمر الذي كسره فسال على سترته ليوهم البسطاء أن دم عبد الناصر قد تفجر فيثور الشعب ويتشنج طبقا للخطة المرسومة بدقة وإتقان وكم تقع في جميع الدول الكبرى مثل هذه الحوادث بل أبشع وأفظع فلا يتعدى الأمر اللجوء إلى سلطة القانون وفي حدود العدد القليل المشتبه فيه حتى تثبت إدانته. ولكن عبد الناصر يفتخر أنه استطاع في يوم واحد أن يعتقل ثمانية عشر ألفا من الإخوان دون جريرة أو جريمة. ناهيك عن الذين علقوا على المشانق وقتلوا ودفنوا في جبل المقطم وسجون عبد الناصر شاهدة على ذلك وإنها ملحمة ليس لها من مثيل.
إن حادث المنشية هو بداية حشد قوى الكراهية والبغض تجاه الطغاة في نفوس الشباب المسلم البريء. الشباب الذي أصيب بأكثر وأشد وأعتى صدمة في حياته الشبابية.
كان الشباب في بداية تخلصه من الاستعمار الإنجليز، وأمله فسيح في مستقبل الحرية التي كثيرا ما ضحى في سبيلها. ثم هو اليوم في مستهل حياته الجديدة يقع أسير الوهم والتضليل يصاب بنكسة لم يكن يتصورها أو يتخيلها –لقد عوملنا في عهد الاستعمار البريطاني معاملة لا تقاس بما نعامل به في ظل الحكم الوطني المزعوم.
إن حادث المنشية الذي كشف المؤامرة ضد الإسلام وذبح أبنائه وإبادتهم... هذا الحادث وما تبعه من أحداث لم يراع فيها الطغاة إلا ولا ذمة، هذا الحادث المزيف قد أورثنا البغض والكراهية وترك في نفوسنا جروحا مريرة غائرة.. لقد رأينا القادة والساسة على طبيعتهم رأي العين. رأينا الديكتاتورية في أوج سلطانها.
رأينا أسوأ أخلاق في اختلاق التهم للأبرياء وتدعيمها بشهادات الزور وإقرارها بالتعذيب حتى الموت. رأينا هذه الصور التي كنا نهابها ونخافها في أدنى صور الآدمية تخاذلا وانحلالا.
لقد سمعنا من الألفاظ القذرة البذيئة المنحطة ما لم يكن يخطر على بالنا أن نسمعها ممن هو دونهم بكثير. لقد أسقطوا أنفسهم من نفوسنا فلم نعد نقيم لهم ولأمثالهم وزنا. كانوا يعذبوننا بوسائل غير خليقة وكنا نحن هذا المقام الذليل نشعر بأننا أعز منهم مقاما وأكرم منزلة ذلك لأننا أمام حق وباطل -أمام قوم كذابين منافقين حقا وفعلا وقوم مظلومين محقا وفعلا –لقد تجسمت المعركة تماما وبكل الوضوح- هؤلاء عبدة الطاغوت يعذبوننا بكل الخسة والنذالة ولا ذنب لنا إلا أن نقول (ربنا الله) بأسلوبهم هذا الرخيص الذي لم يراع صلة قرابة ولا قربى ولا رحم وال وطن. وقد أغلقوا كل أبواب الثقة –لم يسبق لشعب مصر أن تقطعت روابطه الإنسانية التي تميز بها في العالمين –بمثل ما حدث في سجون ومعتقلات عبد الناصر- وكأني به أمر مدروس ومطلوب ليقطعوا أوصال هذا الشعب انتظارا لمؤامرات إبادة خامته البشرية الصالحة، إن من الصعب علينا أن نصدق أن هؤلاء كانوا من بني جلدتنا أو ينتسبون إلينا أو ننتسب إليهم، إنهم بعملهم هذا غرباء عنا أعداء لعقيدتنا وأوطاننا.... لقد تستروا وراء شعاراتهم البراقة ليكيدوا للإسلام والمسلمين.
وليس ما وصلنا إليه من سوء حال في كل شيء إلا دليل لا يحتاج إلى دليل على سوء نيتهم وقصدهم – (إن الله لا يصلح عمل المفسدين).
إن هؤلاء الطغاة قد باعدوا بيننا وبينهم وأتباعهم وأنصارهم –بما أورثونا من كراهية من عمل أيديهم فيما حدث في محنة 1954 وما تبعها من مثلها وأبشع وأشد وأنكى في محنة 1965لولا أن الله تعالى لطف بنا وبدعوتنا ما خرج منا من أحد. إن هؤلاء الطغاة الجبارين بما صنعت أيديهم لم يتركوا فرصة واحدة لبرد القلوب وراحة النفوس تشفع لهم أو تطيق ذكرهم.
إن حادث المنشية المزيف قد أورثنا الآلام والأحزان والكراهية لأعداء دعوتنا والذين ساهموا وشاركوا في إيذائنا بكل العنف والضراوة. غير مستجيبين لنداء الأخوة والرحمة والإنسانية.
إن هذه الأحزان والآلام ستظل دائما تؤرقنا. ولن يمحوها أو يعزينا عنها سوى قيام دولة الإسلام.
دولة الحق والحرية والقوة.
دولة العدل والإنسانية.
سنظل مشحونين بهذا الألم العبقري الذي يدفعنا إلى تحقيق أسمى الغايات في هذا الوجود (لا إله إلا الله محمد رسول الله).
سيظل هذا الألم العبقري يصرخ في وجداننا أن أقيموا دولة الإسلام في قلوبكم تقم على أرضكم –هذا الألم العبقري الذي يبني ولا يهدم يجمع ولا يفرق- ويومها فقط يوم تقوم دولة الإسلام –نقول كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم (اذهبوا فأنتم الطلقاء). أكتوبر 1987.
سبيل أصحاب الدعوات
العقبات في طريقنا: أحب أن أصارحكم أن دعوتكم لا زالت مجهولة عند كثي من الناس، ويوم يعرفونها ويدركون مراميها وأهدافها ستلقى منهم خصومة شديدة وعداوة قاسية, وستجدون أ/أمكم كثير من المشقات وسيعترضكم كثير من العقبات، وفي هذا الوقت وحدة تكونون قد بدأتم تسلكون سبيل أصحاب الدعوات. أما الآن فلا زلتم مجهولين ولا زلتم تمهدون للدعوة وتستعدون لما تتطلبه من كفاح وجهاد. سيقف جهل الشعب بحقيقة الإسلام عقبة في طريقكم، وستجدون من أهل التدين ومن العلماء الرسميين من يستغرب فهمكم للإسلام وينكر عليكم جهادكم في سبيله، وسيحقد عليكم الرؤساء والزعماء وذوو الجاه والسلطان، وستقف في وجهكم كل الحكومات على السواء، وستحاول كل حكومة أن تحد من نشاطكم وأن تضع العراقيل في طريقكم
وسيتذرع الغاصبون بكل طريق لمناهضتكم وإطفاء نور دعوتكم، ويستعينون في ذلك بالحكومات الضعيفة والأخلاق الضعيفة والأيدي الممتدة إليهم بالسؤال وإليكم بالإساءة والعدوان وسيثير الجميع حول دعوتكم غبار الشبهات وظلم الاتهامات، وسيحاولون أن يلصقوا بها كل نقيصة، وأن يظهروها للناس في أبشع صورة, معتمدين على قوتهم وسلطانهم، ومعتدين بأموالهم ونفوذهم: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللَّهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللَّهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾ وستدخلون بذلك ولا شك في دور التجربة والامتحان، فتسجنون وتعتقلون، وتنقلون وتشردون، وتصادر مصالحكم وتعطل أعمالكم وتفتش بيوتكم، وقد يطول بكم مدى هذا الامتحان: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ ﴾ ولكن الله وعدكم من بعد ذلك كله نصرة المجاهدين ومثوبة العاملين المحسنين ﴿يأيها الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ .... `أَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ﴾ فهل أنتم مصرون على أن تكونوا أنصارا الله؟.
لمحَة عَن حَياة الإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله
في الثالث عشر من فبراير من كل عام تمر على استشهاد الإمام حسن البنا السنون... حيث اغتاله أعداء الحركة الإسلامية الآثمون في مصر عام 1949م.
وهذه لمحة من حياةالشهيد:
الإمام الشهيد هو حسن بن أحمد بن عبد الرحمن البنا، مؤسس جماعة (الإخوان المسلمون) بمصر، وصاحب دعوتهم، ومنظم جماعتهم، ولد في المحمودية (قرب الإسكندرية) سنة 1324هـ الموافق 1906م، وتخرج بمدرسة دار العلوم بالقاهرة واشتغل بالتعليم، فتنقل في بعض البلدان، متعرفا إلى أهلها مختبرا طباعهم وعاداتهم، واستقر مدرسا في مدينة الإسماعيلية، فاستخلص أفرادا صارحهم بما في نفسه، فعاهدوه على السير معه «لإعلاء كلمة الإسلام» ولقب «بالمرشد العام» فأقاموا بالإسماعيلية أول دار «للإخوان» وبادروا إلى إعلان «الدعوة» بالدروس والمحاضرات والنشرات، وقام المرشد العام بزيارة المدن الأخرى، ووجه بعض ثقاته في رحلات، فما عتم أن أصبح له في كل بلد سعي ليه دار، ودار «الإسماعيلية» مركز قيادة الدعوة، ولم يقتصر على دعوة الرجال، فأنشأ في الإسماعيلية معهد «أمهات المسلمين» لتربية البنات تربية دينية صالحة.
ونقل مدرسا إلى القاهرة فانتقل معه المركز العام ومقر القيادة, ولقي فيها إقبالا على دعوته. وعظم الأمر «الإخوان» وناهز عددهم نصف مليون، وخشي رجال السياسة بمصر اصطدامهم بهم، فحاولوا إبعادهم عن السياسية، فقام المرشد يعرف الإسلام في إحدى خطبه الكثيرة، بأنه: «عقيدة وعبادة، ووطن وجنسية وسماحة وقوة, وخلق ومادة, وثقافة وقانون» وأنشأ بالقاهرة جريدة (الإخوان المسلمون) يومية، فكانت منبره الكتابي إلى جانب منابره الخطابية.
وحدثت كارثة فلسطين، فكانت كتيبة الإخوان المسلمون فيها من أنشط الكتائب المتطوعة، ونودي بالهدنة, وفي أيدي الإخوان سلاح دربوا على استعماله، وحدثت في القاهرة والإسكندرية أحداث عجزت السلطات القائمة عن معالجتها، فلجأت إلى إقفال أندية الإخوان واعتقال الكثيرين والتضييق على المرشد العام، فتحول الإخوان إلى خلايا سرية تعمل في الخفاء، وتابعت السلطات اعتدائها على جماعة الإخوان، ووصل بها الأمر إلى اغتيال مرشدها العام في شهر فبراير عام 1949، فلقد وجهت إليه أشخاصا مجهولين فاعترضوا المرشد وهو أمام مركز جمعية الشبان المسلمين في القاهرة ليلا، فأطلقوا عليه رصاصهم وفروا، ولم يجد المرشد من يضمد جراحة فتوفي رحمه الله بعد ساعتين.
كان خطيبا فاضا، ينحو منحى الوعظ والإرشاد في خطبه، وتدور آيات القرآن الكريم على لسانه، وكان منظما يعمل في هدوء ويبني في اطمئنان، له مذكرات نشرت بعد وفاته باسم (مذكرات الدعوة والداعية).
ثانيا –بعض ما قيل في الإمام الشهيد :
(الشخصية التي فاجأت مصر والعالم الإسلامي)
«.... وفاجأت تلك الشخصية مصر، ثم العالم العربي والإسلامي كله بدعوتها وتربيتها وجهادها وقوتها الفذة، التي جمع الله فيها مواهب وطاقات قد تبدو متناقضة في عين كثير من علماء النفس والأخلاق، ومن المؤرخين والناقدين، هي: العقل الهائل النير، والفم المشرق الواسع ،والعاطفة القوية الجياشة، والقلب المبارك عنت –في الحياة الفريدة، والحرص وبعد الهمة- دونما كلله –في سبيل نشر الدعوة والمبدأ والنفس والولوعة الطموح والهمة السامقة الوثابة، والنظر النافذ البعيد، والإباء والغيرة على الدعوة، والتواضع في كل ما يخص النفس، تواضعا يكاد يجمع على الشهادة عارفوه، حتى لكأنه –كما حدثنا كثير منهم- مثل رفيق الضياء: لا ثقل ولا ظل ولا غشاوة.
وقد تجلت عبقرية الداعي مع كثرة جوانب هذه العبقرية ومجالاتها، في ناحيتين خاصتين، لا يشاركه فيهما إلا القليل النادر من الدعاة والمربين، والزعماء المصلحين : أولاهما شغفه بدعوته، وإيمانه واقتناعه بها، وتفانيه فيها، وانقطاعه إليها بجميع مواهبه وطاقاته ووسائله، وذلك هو الشرط الأساسي والسمة الرئيسية للدعاة والقادة الذين يجري الله على أيديهم الخير الكثير والناحية الثانية تأثيره العميق في نفوس أصحابه وتلاميذه، ونجاحه المدهش في التربية والإنتاج، فقد كان منشئ جيل، ومربي شعب، صاحب مدرسة عليمة فكرية خلقية.
لقد فاتني أن أسعد بلقاء في مصر وفي غير مصر، فلما قدر لي أن أزور مصر كانت رحمة الله قد استأثرت به، ولما يجاوز عمره بعد الثانية والأربعين إثر حادث استشهاده الذي أدمى نفوس ملايين المسلمين، وحرم العالم الإسلامي هذه الشخصية التاريخية الفريدة, ولا أزال أتحسر على هذه الخسارة التي كتبت لي....» .
(لم ير المسلمون مثل حسن البنا منذ مئات السنين)
أقولها كلمة حرة ولا بأس براويتها عني، أقول: إن المسلمين لم يروا مثل حسن النبا منذ مئات السنين، في مجموع الصفات التي تحل بها، وخفقت أعلامها على رأسه الشريف. لا أنكر إرشاد المرشدين، وعلم العالمين، ومعرفة العارفين، وبلاغة الخطباء والكاتبين، وقيادة القائدين، وتدبير المدبرين, وحنكة السائسين. لا أنكر هذا كله عليهم من سباقين ولاحقين، لكن هذا التجمع لهذه المتفرقات من الكمالات، قلما ظفر به أحد كالإمام الشهيد رحمه الله.
لقد عرفه الناس وأمنوا بصدقه، وكنت واحدا من هؤلاء العارفين به، والذي أقوله فيه قولا جامعا: هو أنه كان لله بكليته: بروحه وجسده، بقالبه وقلبه، بتصرفاته وتقلبه. كان لله فكان الله له، واجتباه وجعله من سادات الشهداء الأبرار....
(الرجل الفذ)
«.... لقد قتل حسن البنا يوم قتل والعالم كله أتفه شيء في ناظريه! ماذا خرقت الرصاصات الأثيمة من بدن هذا الرجل؟ خرقت جسدا أضنته العبادة الخاشعة، وبراه طول القيام والسجود، خرقت جسدا غبرته الأسفار المتواصلة في سبيل الله، وغضنت جبينه الرحلات المتلاحقة. رحلات طالما أصغى الملايين إليه فيها وهو يسوق الجماهير بصوته الرهيب إلى الله، ويحشدهم ألوفا في ساحة الإسلام.
لقد عاد القرآن غضا طريًا على لسانه، وبدت وراثة النبوة ظاهرة في شمائله، ووقف هذا الرجل الفذ صخرة عاتية انحسرت في سفحها أمواج المادية الطاغية، وإلى جانبه طلائع لجيل الجديد الذي أفعم قلبه حبا للإسلام، واستمساكا به، وعرفت أوربا أي خطر على بقائها في الشرق إذا بقي هذا الرجل الجليل، فأوحت إلى زبانيتها، فإذا بالإمام الشهيد مدرج في دمه الزكي، وإذا بجيله الذي رباه في المعتقلات..... »
(المثل الأعلى في كل شيء)
«.... كان حسن البنا إمام بكل ما تسع الإمامة من معنى, كان مثلا أعلى في كل شيء: في علمه، في إيمانه، في إخلاصه، في نشاطه، في حدة ذكائه، في دقة ملاحظته، في قلبه الكبير وروحه الطاهرة. كان حسن البنا حجة الله في نفسي على الله أن الإسلام يصنع الرجال، ويحقق المثل العليا، ويصوغ النور المصطفى من لحم ودم. كان عقلا هائلا، وروحا موصولا بالسر الأعلى، لا يفتر عن ذكر الله كان قمة شامخة فيها العلو وفيها الثبات، وفيها قوة الجبل، كان عظيما موفقا لا يخطئ الوجهة. كان رائعا ملأ قلوبنا بحب الله، وأشعل صدرونا بحب الإسلام، وصهرنا في بوتقة طاهرة لا تشوبها شائبة.
قتل حسن البنا في يوم أسود من أيام التاريخ، وفقدت الإنسانية بفقده (إنسانا) قل أن يجود الزمان بمثله، قتل حسن البنا بعد عشرين عاما فضاها في جهاد مرير، متصل الأيام والليالي....».
(فكرة تحيا في رجل)
كان حسن البنا فكرة قوية هائلة، والفكرة لا تبقى مالا، ولا تسعى لعرض زائل، لذا رأيناه يحيا بيننا حياة الطيف الخفيف ويلم الدنيا على هوادة، لا يجمع منها ولا يمنع، ولا يهتم لشيء فيها إلا بمقدار، ولا يصيب منها إلا ما تدعو إليه الضرورة, يأكل ما حضر من الطعام، ويلبس ما تيسر من اللباس، ويتخذ ما قل وكفى من السكن، يعيش عيشة الكفاف، ولا يهمه أن يترك بنية لله ولا شيء معهم، ولك قرة عينه، وبهجة نفسه، أن ينادي في الناس بكلمة الله، ويعلن إليهم ما في صدره من الأسرار وأن يرى فضائل فكرته ومصلها العليا حقائق واقعة, وصورا عملية تسعى في حياة الناس على قدمين, وتزحم بمناكبها العريضة كل ما يعترضها من باطل، وتنضر وجه الدنيا وبإبائها وعفتها... فإذا بلغ من ذلك ما أراد رضيت الفكرة في نفسه، وبسمت في قرارة فؤاده، بسمة لها من سنا وجه الله نعيم ونور وغبطة.
(هذا أنا فمن أنت؟)
سأل صحفي الإمام الشهيد عن نفسه، وطلب منه أن يوضح بنفسه عن شخصيته للناس، فقال رحمه الله: «أنا سائح يطلب الحقيقة، وإنسان يبحث عن مدلول الإنسانية بين الناس، ومواطن ينشد لوطنه الكرامة والحرية ولا شريك له، وبذلك أمرت وأنا من المسلمين.
هذا أنا فمن أنت؟»
عظة :
في تمام الساعة السادسة من مساء يوم 26 يوليو 1952 تحركت الباخرة (اليخت الملكي المحروسة) من شاطئ قصر رأس التين الملكي بالاسكندرية –تحمل الملك فاروق وحاشية إلى المنفى في إيطاليا. بعد الإنذار بالمغادرة الذي وجهه إليه اللواء محمد نجيب.
الجماهير في مصر في صمت فالمشهد رهيب حزين، جميع البواخر الراسية على الميناء منكسة الأعلام وتطلق صفارات الوداع الأخير الحزين، وكنت في هذه اللحظات التاريخية أراقب هذا المشهد من خلال منظار مكبر بجوار مدفع منكس في وحدة مدفعية السواحل بطابية جزيرة العجمي والجميع يتابعون اليخت الملكي المحروس وهو يقترب والشمس تأذن بالغروب والمغيب.
وهنا انطلق صوت المؤذن:- الله أكبر ... الله أكبر... أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله
ودمعت عيناي وأنا أقرأ قول الله تبارك وتعالى: ﴿قُلِ اللَّهُمَّ مَالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشَاءُ وَتَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشَاءُ وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهَارِ وَتُولِجُ النَّهَارَ فِي اللَّيْلِ وَتُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَتُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَتَرْزُقُ مَنْ تَشَاءُ بِغَيْرِ حِسَابٍ﴾
الفصل الأول : مرحلة ما قبل الغدر
بعض المحاضر السّرية لإجتماعات الإخوان والضباط الأحرار
- جمال عبد الناصر و عبد الحكيم عامر يمثلان الضباط
- صلاح شادي وعبد القادر حلمي و حسن العشماوي يمثلون الإخوان
وقد شهد هذا الاجتماع من الإخوان صلاح شادي وعبد القادر حلمي و حسن العشماوي، ومن الضباط الأحرار جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر.
يوم 18يوليو سنة 1952، بعد الغروب بقليل، غرفة استقبال بسيطة، واسعة، وحوائطها بالمصيص الأبيض، بها بعض الكراسي المزدوجة والمفردة في جميع الجوانب، ومنضدة مستطيلة في الوسط، ومنضد مربعة في الأركان بين المقاعد.
الجو حار كما هو الحال في مثل هذا الشهر من العام, والنوافذ مفتوحة يدخل منها نسيم ليالي القاهرة, ولكن شعور الجالسين بالحرارة يزيد وطأته بسبب الشعور بالترقب الذي كان يخيم على أمثالهم في هذه الأيام.
صلاح وعبد القادر وحسن يجلسون متفرقين في الغرفة, كل منهم مسترخ على مقعده كأنما أرهقهم طول الانتظار، أو طول الحديث أو طول التفكير.
صمت، لا يقطعه بين حين وآخر إلا إشعال حسن سيجارة وتأفف عبد القادر من كثرة تدخين صديقه، يقطع صلاح الصمت مخاطبًا حسن:
صلاح: لقد تأخر صاحبك عن موعده!
حسن: إنما هو صاحبك أنت، ثم أحلته علي.
صلاح: (مقاطعا) فأصبح صاحبك أنت.
حسن: ولكني حلته على عبد الحي.
عبد القادر: يبدو أنه لم يعترف بهذه الإحالة، وإلا لما طلب لقائك... هنا في بيتي أنا.
صلاح: أمتأكد أنت أنه وعدك باللقاء هنا... اليوم؟
حسن: متأكد طبعًا... لقد كلمني تليفونيًا، في الصباح وذكر اسمه المستعار كالمعتاد زغلول عبد القادر...طلب مني مقابلته معك اليوم في الخامسة مساء.
صلاح: الساعة قاربت السابعة.
حسن: لعل أمرا شغله بعض الشيء... كم تأخرنا نحن عن مواعيده.
(يسمع جرس الباب الخارجي)
حسن: (مسترسلاً) لعله هو...!
عبد القادر: لا ...ليست هذه دقته للجرس.
(يخرج عبد القادر ويعود بعد لحظة ومعه عبد الحكيم)
عبد الحكيم: (وهو يسلم على الجالسين) عجيب ... ظنت أنني تأخرت كثيرًا... أين جمال؟ ما الذي أخّره؟ ... لابد أن لدية جديدًا عن سالم.
حسن: (مقاطعًا) صديقا أمريكا!؟
عبد الحكيم: ( في صوت عاتب) يرى جمال أن نصادق الجميع... أو نهادنهم ... وإلا فلن نصل إلى ما نريد من تغيير ( موجهًا حديثه إلى عبد القادر) هل أستطيع أن أذهب إلى دورة المياه؟
عبد القادر: طبعا (يصحبه إلى الخارج... صمت حتى يعود عبد القادر وحده ويستمر في حدثيه مخاطبًا الجالسين): أنا أحب هذا الشاب أكثر مما أحب جمال.
صلاح: تعني هذا الحشاش لاعب الكونكان.
عبد القادر: ومن منا لم يظلم نفسه كلنا حشش ولعب الكونكان يومًا
صلاح: ولكنكم تبتم.
عبد القادر: لعله يتوب يومًا... على كل فإنه رجل... إنه إنسان
(جرس الباب يدق)
عبد القادر: هذا جمال (يخرج لحظة، ويعود معه جمال الذي يسأل وهو يسلم).
جمال: ألم يحضر عبد الحكيم؟
عبد القادر: بل سبقك بقليل... إنه في دورة المياه.
جمال: متسائلاً: يتوضأ...؟
عبد القادر: لا أظن.
جمال: هل أستطيع أن أتوضأ لأصلى المغرب. فإنها تكاد تفوتني.
(يخرج عبد القادر... ويعود بعد الحكيم ليجلس بجوار حسن.....ويعود جمال بعد لحظة وقد شمر أكمامه وبنطلونه... ينتحي ناحية فيصلى ثلاث ركعات بسرعة يقوم بعدها ليجلس مع الجالسين في صمت، يقطعه صلاح موجهًا كلامه.
صلاح: هل طلبت لقاء حسن اليوم يا جمال؟
جمال: نعم.
صلاح: ألم يبلغك أن تتصل بعبد الحي إن أردت منا شيئًا؟.
جمال: أنا لا أثق في عبد الحي.... فإما أن أتصل بحسن، أو أن أكف عن الاتصال بكم نهائياً.
صلاح: وما وراء اتصالك بحسن اليوم؟
جمال: لابد أن نتحرك فوراً... يجب أن لا تفوت الفرصة كما فعلنا في مارس الماضي... وإلا فقد انتهي الأمر نهائيًا.
صلاح: (في تعجب) نهائيًا... لماذا؟
جمال: قل لهم يا عبد الحكيم.
عبد الحكيم: لقد وصلت أسماؤنا جميعًا إلى الملك... فيما عدا جمال... ولابد أن نبدأ، وإلا قبض علينا، وأصبح من المستحيل أن نفعل شيئًا بعد ذلك.
عبد القادر: (متسائلاً) أسماؤكم فيما عدا جمال... جمال وحده؟
عبد الحكيم: نعم ... هو وحده الذي لم يعرفوا اسمه بعد.
عبد القادر: إنه هكذا دائمًا... آخر من يعلم اسمه.
جمال: (في ضيف) ماذا تعني؟
عبد القادر: (في حدة) أنت تفهمني جيدًا.
صلاح: (مقاطعاً) وماذا تنوون الآن؟
جمال: ماذا تعني؟
حسن: أعني أن أشير إلى ما سبق أن قلته أنت لي بنفسك.. لا عليك.. ماذا تريد من الإنجليز غير أن نقاتلهم إذا اعترضوا الانقلاب؟
جمال: هل يمكنكم الاتصال بهم لضمان عدم تدخلهم...؟
صلاح: نحن لا نتصل بأية دولة أجنبية.
حسن: الحرب خدعة... أليس كذلك يا جمال؟
جمال: (في ضيق) أتسخر مني؟
عبد الحكيم: (مقاطعًا في رجاء) لقد جئنا لنتفق لا لنختلف... أنت وحسن وجمال يفهم كل منكما الآخر ... فاسأل مباشر ولا داعي للدوران... وأجب يا حسن ولا داعي للسخرية.. ولا إلى التلميحات التي قد تثير حفيظة صديقك، أنا واثق من حبك لجمال، فلماذا تثيره؟
حسن: أنا لم أنكر أني أحب جمال وأقدره.... وقد أبلغته مرارًا أننا لا نستطيع الاتصال بسفارة أجنبية... وأبلغته أيضًا أن اتصاله بجماعتنا يجب أن يتم عن طريق عبد الحي.
عبد الحكيم: وقد أبلغك أنه لن يتصل بعبد الحي... فأما أن تنفقوا... أو أن ننصرف دون أتفاق... وليكن ما يكون.
حسن: وإذا لم نتفق، هل ستمضون في حركتكم؟
جمال: هذا يتوقف على ظروفنا.
حسن: وعلى ماذا نتفق؟
جمال: سأفضي بذلك إلى شخص واحد.. واحد فقط... تعالى معي إلى غرفة أخرى لنتفق.
حسن: اذهب فاتفق مع عبد الحي.
جمال: قلت لك مراراً لن أتفق مع عبد الحي.
حسن: فإذا مل نتفق على عبد الحي فاتفق مع صلاح.
جمال: وهو كذلك... هيا يا صلاح.
(يخرج صلاح وجمال يقودها بعد القادر إلى غرفة أخرى. يعود عبد القادر وهو يتنهد)
عبد القادر: أنا لا أثق في جمال.
حسن: أنا أحبه.
عبد الحكيم: وأنا كذلك.
عبد القادر: أخشى أن تعانيا كثيرًا من حبكما له.. هل لكما في بعض الشاي.
عبد الحكيم: لماذا يتكلم عبد القادر هكذا عن جمال؟
حسن: لا أدري ... إنه يحكم بمشاعره... وكثيرًا ما أخافتني أحكامه.
عبد الحكيم: وهل بداخلك أنت أي خوف من جهة جمال؟
حسن: لا ... قطعًا لا ... ولكن ما سبب هذه الزيارة المفاجئة؟
عبد الحكيم: ثبت لنا أنه لا بد من قيام الحركة خلال أسبوع على الأكثر..ولا بد من تنظيمها معًا، والاتفاق على الصورة التي تظهر بها الحركة.
حسن: هذا ما يريد جمال أن يتفق عليه مع واحد فقط؟
عبد الحكيم: لا... إنه يتفق على نهاية الطريق مع واحد فقط... تمامًا كما فعل من قبل مع الصاغ محمود لبيب.
حسن: رحمه الله... وهل مازال جمال عند اتفاقه ذاك؟
عبد الحكيم: طبعًا... كل ما هنالك أنه لا يثق في عبد الحي، ولا في عبد الرحمن طبعًا.
حسن: رئيسه السابق!؟
عبد الحكيم: لا تقلها أمامه.. إنها تغضبه.
حسن: طالما فعلت ..... إنه واقع مضي ولا خير فيه.
عبد الحكيم: ولكنها تغضبه جدًا ... صه.. ها قد عاد.
(يدخل صلاح ومعه جمال، كلاهما متهلل الوجه... يدخل بعدهما مباشرة عبد القادر ومعه الشاي. يوزع الشاي على الحاضرين ويجلس).
جمال: (لعبد القادر فيمزح) أليس هناك شيء آكله؟
عبد القادر: في هذا الوقت... ليت عندي غير الجبن.
جمال: جبن وقراقيش..... رائع... هلم بها.
(يخرج عبد القادر ... بينما ينتحي صلاح ناحية ويصلي وحده).
عبد الحكيم: (لجمال) أرى شهيتك تنفتح على أكل عبد القادر وسجائر حسن!
جمال: ألسنا أخوة... ؟ أليست الأخوة بذلاً ومحبة؟
عبد الحكيم: بذل ومحبة متبادلان!
جمال: القادر اليوم يعين أخاه.
حسن: دعنا من الدعابة الآن يا عبد الحكيم ... ماذا هناك يا جمال؟
جمال: أما ما كان بيني وبين صلاح فهو مقصور علينا... وأما عداه، فسنناقشه الآن على ضوء آرائك السابقة ... ولكن للحديث بقية غدًا يجب أن يحضرها غيرنا معنا، وإلا ظنوا أننا ننفرد بالأمر دونهم.
حسن: مثل من تريد أن يحضر معنا؟
جمال: سالم وكمال وعبد اللطيف مثلاً.
حسن: وما قولك في عبد المنعم وعبد الحي من جانبنا، وأنوار وذكريا من جانبكم؟
جمال: عبد المنعم وعبد الحي تمثلونهم... ولا نريد أن يجض معنا ضباط المهم أن نعرف رأي المستشار... هذا هو المهم عندما الآن.
حسن: والقاضي، وعبد الرحمن؟
جمال: القاضي تبع للمستشار فيما أعلم... وعبد الرحمن لا أحبه.
حسن: وهل نحن في مجال الحب الآن؟
جمال: الحب أساس الثقة... وبغير الثقة لا نستطيع أن نتعاون.
عبد الحكيم: (متدخلا) أرى لسانك انفلت اليوم يا جمال..؟
جمال: مع حسن وحده.
(ينهي صلاح صلاته، وينضم إلى المجموعة... يدخل عبد القادر يحمل صينية عليها الجبن والقراقيش، يضعها على منضدة أمام جمال، الذي يحملها إلى الأرض ويجلس يجوارها ... يجلس حسن بجواره على الأرض ويبدآن في الأكل).
عبد الحكيم: (موجهًا كلامه إلى صلاح) هل اتفقتما أنت وجمال؟
صلاح: نعم والحمد لله.
عبد الحكيم: إذن نطمئن على ظهورنا
عبد القادر: ومن يطمئنا نحن على ظهورنا؟
صلاح: اطمئن يا عبده ... اطمئن.
عبد القادر: أنت رائع في حسن ظنك بالناس.
عبد الحكيم: لا تتشاءم يا عبد القادر، ولا تسئ ظنًا المهم الآن أن نعرف رأي المستشار.
عبد القادر: (في هدوء) إني أتصور الآن رأيه ما سيكون.
عبد الحكيم: (في لهفة) ما هو رأيه؟
عبد القادر: انتظر حتى تسمعه منه.
عبد الحكيم: هل يوافق؟
عبد القادر: لا أدري.
عبد الحكيم: كيف تتصور رأيه وأنت لا تدري أيوافق أم يرفض؟
حسن: (متدخلاً) إنه يدري.... يدري بحاسته السادسة التي أخشاها.
جمال: (لحسن) من الخير أن تأكل أنت.... مازال الحديث لما بعد الطعام.
صلاح: ما رأيك يا عبد القادر؟
عبد القادر: لا أبدي رأيًا قبل أن أسمع التفاصيل.
صلاح: ألم تسمعها من حسن منذ أوائل هذا العام؟!
عبد القادر: ولكن في الأمر جديد.... لقاء اليوم المفاجئ! وهذا الذي بينك وبين جمال.
صلاح: أما عن هذا فاطمئن.
عبد القادر: لم أعتد أن أطمئن لمجرد اطمئنانك ... أنا أحبك وأثق فيك....
ولكن أنصاف الحلول لا أقبلها... والأمور الغامضة لا أقرها... أما أنت فقد تقبل ذلك رغم طبيعتك الحاسمة في كثير من الأمور.
عبد الحكيم: أراكما اختلفتما فيما بينكما؟
عبد القادر: لا ... لن تختلف... سنتفق في النهاية دائمًا.. إن ما أخشاه أن نختلف معكم أنتم.
عبد الحكيم: (مستنكرًا) أنختلف أنا وأنت يا عبده؟
عبد القادر: أقول نحن أنتم.... أما أنت، فأنا لا أنكر أني أقدر فيك خصالاً أصيلة.
جمال: (متدخلاً) كفى تبادلاً للغراميات.... أدخل في الموضوع يا عبد الحكيم.
حسن: (لجمال) ألم نقل نرجئ الكلام إلى ما بعد الطعام؟
جمال: لقد قررنا أن نقوم بالحركة خلال أسبوع، وإلا فات أوانها. ونريد الآن أن نطمئن إلى أمور ثلاثة، مساندة ضباطكم وجنودكم للحركة, ومساندة أفرادكم من الشعب لها دون إعلان عن ذلك ثم إمكانية الطمأنينة إلى موقف الإنجليز هل نستعد لحربهم أم نتفق معهم سلفًا لنضمن عدم تدخلهم لإحباط حركتنا.
حسن: (متدخلاً) ليس هذا ما يعنيني!
جمال: قلت لك لا نتكلم حتى ينتهي من طعامنا.
صلاح: أما مساهمة ضباطنا وجنودنا ومساهمة أفرادنا فهذا أضمنه لكم....
أما الإنجليز فنحن لا نتصل بهم ولا بغيرهم.... ولكنا نستعد لقتالهم إذا احتاج الأمر.
عبد القادر: قلت لك مرارًا لابد من انتظار رأي المستشار، وخاصة أنه أحال هذا الاتصال إلى عبد الحي.
عبد الحكيم: صدق عبد القادر .... المهم رأي المستشار.
صلاح: أنا أعرف الناس برأي المستشار ..... ولذلك أتكلم مطمئنًا
حسن: (مقاطعًا) لا..... بل حتى نعرف رأي زملائكم أيضًا.
جمال: ألن تكف عن المقاطعة.
حسن: (ناهضًا من جلسته على الأرض) بهذا انتهيت من طعامي.... ألن تشبع أنت أيضًا؟
جمال: بلى ... .لقد شبعت
(ينهض جمال. ويحمل الصينية إلى عبد القادر الذي يخرج بها... ويجلس جمال وحسن متجاورين على أريكة... يعود عبد القادر، ويجلس بجوار عبد الحكيم).
جمال: ما رأيكم فيما قال عبد الحكيم؟
صلاح: اتفقنا على كل شيء إلا الاتصال بالإنجليز أو غيرهم من الأجانب.
عبد القادر: اتفقنا بشرط موافقة المستشار.
صلاح: طبعا الشرط أن يوافق المستشار... وإن كنت أصمن موافقة سلفًا.
جمال: إذن نرجئ بقية الحديث حتى نعرف رأي المستشار... هل يمكن ذلك غدًا...؟
عبد القادر: إن زوجة حسن تلد الليلة... ولا أعتقد أنه يسافر قبل ولادتها ولابد من وجوده معنا عند مقابلة المستشار... فلننتظر إلى بعد غد.. ولكن يحسن أن نلتقي غدا في المساء... ومعكم من تريدون منكم حتى يكون الأمر واضحًا كله... وبذلك نعرض على المستشار كل شيء وإلا فإني واثق أنه لن يعطي رأيه.
جمال: إذن سنرجئ الأمر إلى غد، وسيكون معنا سالم وكمال وعبد اللطيف... وقد يكون معنا آخرون.... هل لديكم مانع؟
جمال: إلى اللقاء غدًا مساء ..... هنا... بإذن الله.
(يخرج جمال وعبد الحكيم ومعهما عبد القادر... ويجلس صلاح وحسن صامتين حتى يعود عبد القادر).
عبد القادر: اعلم يا صلاح أننا لسنا جزءًا منهم.
صلاح: إنما هم جزء منا.
عبد القادر: ألا يمكن أن نكون طرفان يتعاونان.
جمال: لقد تأخر الصحاب.
حسن: صلاح وعبد القادر في اتصال بأعضاء الجماعة... فريد وصالح سيكونان هنا قريبًا.
جمال: فريد وصالح.... من هما؟
حسن: نسيتهما ... إنهما صديقان من أعضاء الجماعة المسؤولين فيها... لابد من وجودهما معنا في عرض الأمر على المستشار.
جمال: وأنت ... ألا يمكن أن تعرض الأمر على المستشار وحدك.
حسن: لا .... أنا لا أكفي فهؤلاء من مجلس الإدارة ... وهما من رأينا في كل شيء فاطمئن.
جمال: لقد فاتتنا فرصة مارس الماضي.
حسن: لم يفتنا شيء ...قد كان رشاد مهنا على حق في ذلك الوقت.
جمال: (كالمناجي نفسه) إن لنا سبعة عشر ضابطًا في القاهرة الآن.
حسن: وما قيمة اتفاقنا إذا لم يرضه الآخرون؟
جمال: كلانا كفيل بأن يقنع أصحابه.
حسن: نراك تضمن أصحابك وغيرهم سلفًا... المهم.. ماذا تريد؟
جمال: لقد أعد أصحابي كشفًا باعتقال مائتين.
(يدخل عبد القادر)
حسن: لا نبدأ حركتنا بالاعتقال... إن الناس سيرحبون بها حتى أعدائنا فالكل ضائق بالوضع الناتج... فلماذا تضطر الناس إلى كراهيتك.
جمال: أنا معاك ... لا داعي للبدء بالاعتقال. ولكن من يتولى الحكم في البداية.
حسن: لعلنا اتفقنا من قبل أن يتولاه شخص يطمئن له الناس... والدول الأجنبية أيضًا.
جمال: الدول الغربية تعني؟
حسن: على ماهر تعني .... لأنه يجمع بين الإسم الداخلي والسمعة الخارجية.
حسن: أجل أعنيه... وإن كانت ثقتي فيه محدودة.
جمال: أراك لا تثق في أحد ثقة كاملة.
عبد القادر: (يضحك بصوت عال ويضحك الجميع معه).
جمال: (ملتفتًا إلى عبد القادر) ما كنت أحسبك تشاركنا الحديث.
عبد القادر: وإلا لتحفظت في كلامك ... على غير عادتك مع حسن.
جمال: لماذا تسيء الظن بي دائمًا....؟ ألا تعلم أني أحبك.
عبد القادر: ماذا تريد بعد استبعاد الاعتقال واختيار على ماهر لرئاسة الحكومة.... والمفروض طبعًا أن يعينه الملك ... قبل أن تطلبوا منه التنازل.
محمد نجيب في ذكرى استشهاد حسن البنا سنة 1953
قال اللواء محمد نجيب :
بسم الله الرحمن الرحيم
أيها المواطنون..
من الناس من يعيش لنفسه لا يفكر إلا فيها، ولا يعمل إلا لها، فإذا مات لم يشعر به أحد، ولم يحس بحرارة فقده مواطن....
ومن الناس من يعيش لأمته واهبا لها حياته حاصرا فيها نفسه مضحيا في سبيلها بكل غال عزيز، وهؤلاء إذا ماتوا خلت منهم العيون وامتلأت بذكراهم القلوب..
والإمام الشهيد حسن البنا أحد أولئك الذي لا يدرك البلى ذكراهم، ولا يرقى النسيان إلى منزلهم لأنه رحمه الله، لم يعش لنفسه، بل عاش للناس ولم يعش لشخصه، بل عمل للصالح العام....
لقد كان حسن البنا صاحب عقيدة أخذت بزمام نفسه، وملكت عليه منافذ حسه. فعاش من أجلها أشق عيشة وأقساها، ومات في سبيلها، أشرف ميتة وأسماها، وكان يؤمن بأن الدين هو الكفيل بإيجاد الأخلاق القويمة في نفوس أبناء الوطن العزيز، وهو الوسيلة إلى حمل النفوس على الفداء والبذل من أجل الكرامة والحرية والعدل، وهي المعاني التي يأمر بها الدين ويريد إعلاء قدرها ويثبت دعائمها بين الناس أجمعين ومن أجل ذلك راح رحمه الله –يطوف القرى ويؤم المدن، ويناقش العالم والجاهل، ويربط نفسه بمواطنيه بعضهم ببعض، حتى تمكن من إنشاء جيل من الشباب المؤمن بوطنه ودينه إيمانا يدفعه إلى العمل، ويدعوه إلى البذل، ويحمله على استقبال الموت. باسم الثغر، رضي النفس، مكتفيا بما عند الله من ثواب خالد، أجل عما في الدنيا من نفع عاجل.
ولست أنسى ما حييت هذا الشاب المؤمن القوي في معارك فلسطين، يقتحم على العدو أقوى الحصون، ويسلك إلى قتاله أعصى السبيل، ويتربص بقواته وجحافله كل طريق، ويحتمل في ذلك من المشاق والصعاب وما لا يستطيع احتماله، إلا من امتلأت نفسه بعظمة الأحد الخالد، ووجد قلبه حلاوة الإيمان.....
ولقد كان حسن البنا على قوة دينه، وشدة إيمانه يتحدث عن الإسلام في وافق واسع، وفهم سمح كريم حتى انتفع بهه العالم والجاهل، وكسب لدين الله أنصارًا كانوا أبعد ما يكونون عن الدين... وكان الجميع يحترمونه أشد الاحترام ولذلك لم تكن الفجيعة فيه فجيعة جماعة, ولا فجيعة طائفة ولكنها كانت فجيعة أمه، بل أمم غزا قلوبها وجمع على الأخوة أرواحها....
وكان رحمه الله حربا عوانا على الفساد والانحلال على قدر ما كان حربا على التعصب والانغلاق كان سلاحه الذي اعتمد عليه ذا ثلاث شعب:
الأولى: مكانه في النفوس لا يبلغها غيره....
الثانية: بيان رائع قوي يحرك ويوجه ويثير....
والثالثة: قدرة على التجميع والتنظيم لم يصل إليها إلا الأقلون ممن تصدرت لقيادة الأمم...
وقد أدرك أعداؤه وأعداء الوطن عن هذا السلاح في يده، لا يفل حديده، ولا يبلى جديدة، ثم هو سلاح لا يقاوم سلطانه، ولا يدنو من الهزيمة ميدانه، ولذلك أجمع المجرمون أمرهم على قتله وحيدا لا حارس له، وأعزل لا سلاح معه، وكانت القوة التي دبرت قتله، ونفذته، وأشرفت عليه هي القوة التي يلوذ بها الخائن فتمنحه الطمأنينة والأمن، ويحتمي بها المطارد فتسبغ عليه ظلال السكينة والسلام...
وقد ظن المجرمون الأنذال أن عين الله نائمة لا ترى ويده مغلولة لا تبطش، وقدرته عاجزة لا تنال وساء ما طنوا، فإن الله يمهل ... وإن الله ليملي لظالم حتى إذا أخذه لم يفلته. «وكذلك أخذ ربك إذا أخذ القرى وهي ظالمة، إن أخذه أليم شديد» وكذلك كان وصدق الله وعده، وأخذ الظالمين بما اقترفت أيديهم، وكان اغتيال حسن البنا، وعبد القادر طه ومن إليهما من أبناء مصر، العزيزة المشتعلة التي أضرمت النار في صدور المخلصين، فأنقذوا البلاد من الظلم والطغيان، وطهروها من الفساد والانحلال، ثم آلوا على أنفسهم، أن يضحوا في سبيلها، بكل أثير عندهم، عزيز عليهم، حتى تتحرر من الذل والاحتلال، وما ضاع دم أسلم إلى المجد، ولا مات ميت أعطى بلاده الحياة والخلود، «لا تقولوا لمن يُقْتَلُ في سَبِيِل الله أَمْوَاتٌ بَلْ أَحْيَاءٌ وَلَكْن لاَ تَشْعُرُونَ..» .
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
كمال الدين حسين يقول: أقسمت أنا وجمال عبد الناصر على المصحف أن نعمل على نصرة الإسلام
يقول كمال الدين حسين :
أقسمت أنا وجمال عبد الناصر على المصحف أن نعمل على نصرة الإسلام وكان هناك اتفاق على تطبيق الشرع تكلم كمال الدين حسين –نائب رئيس جمهورية مصر الأسبق في الحديث الذي أدلة به إلى مجلة المسلمون العدد الصادر يوم الجمعة 11من رمضان المعظم 1402 الموافق 2يوليو 1982 ورقم العدد 36 فقال:
سؤال: كنت مسؤولا في مصر لفترة طويلة.... فلماذا لم تطبق الشريعة الإسلامية؟
قال: لقد كنا متعاقدين على تطبيق الشريعة الإسلامية منذ قبل الثورة ولقد أقسمت أنا وجمال عبد الناصر معا على المصحف أن نعمل على نصرة الإسلام ... كان هناك اتفاق على تطبيق الشرع....ولكن ظروف الصراع من الإخوان المسلمون... ومحاولة اغتيال الثورة من الداخل عطلت ذلك ثم تقاعس (ثورة يوليو) في الحرية هو الذي أدى إلى كوارث كثيرة أهمها عدم تطبيق الشريعة الإسلامية... عندما كنت أطالب بالحرية فإني في الواقع كنت أطالب بتطبيق الشرع.
سؤال: الظاهرة التي تعيشها الآن من خلال أجهزة الإعلام هي ما تسمى بالتطرف الديني فما هو تعليقك لهذه الظاهرة؟
قال: سببها إذا كانت موجودة هو غياب الحرية... ثم من الذي قال أن هناك تطرفا وكيف أتبين ما إذا كان ذلك حقيقيا أم غير حقيقي....
إنني لا أثق فيما تعرضه الصحف من آراء .. لأنها ليست كاملة وليس هناك عرض لمختلف وجهات النظر.
سؤال: لكن التطرف الديني حقيقة؟
قال: أي أن الحكومة هي المتطرفة... متطرفة في اغتيال الإرادة متطرفة في إصدار القوانين الباطلة.
صلة الإخوان بحركة 23يوليو
قسم على المصحف والمسدس :
انتهت الأزمة مارس بإعلان مجلس قيادة الثورة عدوله عن القرارات التي سبقت أن أعلنها بعودة الحياة النيابية والسماح بقيام الأحزاب وحل مجلس الثورة يوم 24يوليو ... وكان ذلك هو المخطط الذي رسمه عبد الناصر بنفسه دون أن يشرك فيه أحد من زملائه أعضاء مجلس قيادة الثورة.. أراد كرجل صعيدي تجري في عروقه عادة الثأر أن يأخذ بثأره من محمد نجيب وممن عاونوه في شهر فبراير واضطر أن يعيده إلى رئاسة الجمهورية ثم رئاسة مجلس الثورة ومجلس الوزراء بعد أيام تحت ضغط المظاهرات العنيفة.
وبدأ عبد الناصر بعد الأزمة مباشرة يخطط للتخلص نهائيا من محمد نجيب وكذلك من جماعة الإخوان المسلمون التي لم ينس عبد الناصر أنها كانت تقف وراء محمد نجيب عندما قدم استقالته وأنها هي التي حركت المظاهرات تطالب ببقائه رغم أن نفس الجماعة كانت تؤيده هو كل التأييد قبل قيام الثورة.... وبعد قيامها لأنه كان عضوا في جهازها السري.
وعلاقة... أو عضوية عبد الناصر بجماعة الإخوان المسلمون كانت حقيقة وإن كان هو حاول إنكارها بعد ذلك...
وذهبت إلى كمال الدين حسين أسأله عن تلك الحقيقة ... هل كانت الثورة عند قيامها إخوانية ...هل كان عبد الناصر حقيقة عضوا في الجهاز السري للإخوان أيام الشهيد حسن البنا.. وهو الجهاز الذي نسب إليه اغتيال النقراشي باشا والخازندار ووضع قنبلة في مبنى محكمة مصر بباب الخلق...
وصمت كمال الدين حسين... وبدأ يستجمع شريطا من الذكريات عن الأيام الأولى للنضال والكفاح ... ثم قال:
- عندما تخرجنا من الكلية الحربية وكنا شبابا مليئا بالحماسة والوطنية....
وبدأت مجموعات منا في كل سلاح تتجمع وتناقش الأوضاع في البلاد... مجموعات ليس هناك ما يربطها ... .وكنت أقيم في حي السيدة زينب.. وكان يقيم في نفس الحي الضابط عبد المنعم عبد الرؤوف وتوطدت العلاقات بيني وبينه ... وكان من الشباب الثائر... وعضوا بإحد التنظيمات السرية في الجيش التي كانت تقوم بنشاط ضد قوات الاحتلال.
وتوطدت علاقتي بعبد المنعم عبد الرؤوف ... كنا نتحدث في كل شيء .. وقد اصطحبني في أ؛د الأيام إلى منزل جمال عبد الناصر، وكان قد تقاطع شارع أحمد سعيد بشارع الملكة نازلي –رمسيس حاليا- كانت تلك أول مرة ألتقي فيها بعبد الناصر... وكانت كذلك أول مرة ألتقي فيها بالمرحوم الصاغ محمود لبيب الذي كان موجودا... والمرحوم الصاغ محمود لبيب وكيلا لجماعة الإخوان المسلمون وكان بمثابة حلقة الإتصال بين الضابط الوطنيين في الجيش وفي الطيران ... وبين جماعة الإخوان المسلمون.
وتكررت لقائاتي مع بعبد الناصر ومحمود لبيب وعبد المنعم عبد الرؤوف ... وكان ذلك قبل حرب فلسطين بعامين أو ثلاثة ... ولم نكن حتى ذلك الوقت مدونين في سجلات الإخوان المسلمون كأعضاء ..... وإن كنا قد أقسمنا على المسدس في منزل المرحوم عبد الرحمن السندي الذي كان رئيسا للجهاز السري للإخوان أيام المرحوم حسن البنا ثم عزله المرشد الهضيبي بعد ذلك.. .أقسمنا أن نعمل على إقامة شرع الله في البلاد.
وجاءت حرب فلسطين عام 1948وتطوعت للعلم مع الفدائيين برئاسة المرحوم البطل أحمد عبد العزيز وكان المرحوم حسن البنا مرشد الإخوان يقوم بإعداد الفدائيين للتطوع بالعمل الفدائي في فلسطين .
ووقعت اتفاقية الهدنة في فبراير عام 1949... وصدر قرار بحل جماعة الإخوان المسلمون فتوقفت اتصالاتنا بجماعة الإخوان المسلمون ثم أعيدت للعمل وبدأ نشاط كان محوره عبد الناصر بعد وفاة المرحوم الصاغ لبيب الذي كنا نعتبره الأب الروحي لنا...
وكان لجنة القيادة في هذه الفترة مكونة من جمال عبد الناصر وعبد المنعم عبد الرؤوف من المشاة وحسن إبراهيم عن الطيران وأنا من المدفعية وخالد محي الدين عن الفرسان... ثم انفصل عبد الرؤوف وانضم عبد الحكيم عامر من المشاة وصلاح سالم من المدفعية وعبد اللطيف البغدادي من الطيران وبعد فترة انضم جمال سالم عن الطيران أيضا وأنوار السادات من الإشارة وكان آخر من انضموا زكريا وحسين الشافعي وعبد المنعم أمين ويوسف صديق وذلك يوم 15 أغسطس سنة 1952 للدور الذي ساهموا به ليلة الثورة....
واقترح جمال بعد ذلك أن تبقى الحركة داخل الجيش غير مرتبطة بالإخوان المسلمون... وإن كانت استمرت صلاتنا بهم حتى قيام الثورة.. وإلى ما بعدها... وبدأ عبد الناصر يشرف على تشكيل الخلايا في جميع وحدات الجيش ... واتفقنا ألا ينضم أحد إلى التنظيم إلا إذا كان معروفا عن التمسك بالمبادئ والأهداف...
أحرار من غرز الحشيش:
ويتسم كمال الدين حسين ويقول وعلى ملامحه علامات الأسى:
كان هدفنا أن يكون جميع الضباط الأحرار من المشهود لهم بمتانة الخلق.... ولكننا فوجئنا بعد قيام الثورة أن عبد الناصر ضم إلى الخلايا عدد من الضباط المعروفين بسوء الخلق والانتهازية... وصارحت عبد الناصر برأي زملائي ضباط سلاح المدفعية في نوعية هذه الفئة من الضباط الذين ضمهم إلى التشكيل.....
فأجابني ضاحكا:
- أنا كنت مضطر أجمع أي عدد من المندفعين والمغامرين... ودول أنا جبتهم من غرز الحشيش والبارات.
وللأسف كان هؤلاء الضباط هم أول من أساء إلى الثورة بتصرفاتهم وتهافتهم على تحقيق المكاسب المادية لأنفسهم ... وللأسف أيضا أن بعضهم يحاول أن يوهم الناس بأنه كان من أخلص المخلصين إلى الرئيس السابق عبد الناصر بينما كان يستغل صلته بالرئيس السابق لتحقيق المكاسب المادية وتكوين الثروات من المال الحرام...
ويستأنف كمال الدين حسين حديث الذكريات مع الإخوان المسلمون فيقول:
وقامت الثورة فجر يوم 23 يوليو.... وفي صباح اليوم السابق ذهبت أنا وجمال عبد الناصر إلى لقاء عدد من زعماء الإخوان في منزل كان يقيم به صالح أبو رقيق واجتمعنا به وبالأخوة صالح أبو رقيق والمرحوم منير دلة والمرحوم حسن العشماوي وفريد عبد الخالق وعبد القادر حلمي وأبلغناهم بقرب موعد قيام الثورة كما اتفقنا معهم على قيام مجموعة من متطوعي الإخوان المسلمون بحماية طريق السويس لاحتمال تحرك القوات البريطانية لضرب الثورة.
الفصل الثاني : إتصالات عبد الناصر السرية بالإسرائليين
إبراهيم عزت وسيط بين عبد الناصر وبن جوريون
أتابع كل ما ينشر في «المجلة» بكل اهتمام. وقد تابعت أخيرا ذكريات أو أحاديث الدكتور وليم بولك بخصوص الرئيس الراحل جمال عبد الناصر واتصالاته السرية مع الولايات المتحدة.
- أولا، إنني أتفق مع الرأي القائل أن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر لم يكن يطلع وزراءه على معظم ما يقوم به من اتصالات مباشرة أو عن طريق بعض المعاونين الذين كان لا يثق إلا بهم.
- ثانيا، إنني أعلم يقينا أن الرئيس الراحل جمال عبد الناصر كان من اتصال عن طريق الخطابات الخاصة السرية مع رئيس وزراء إسرائيل السابق بن غوريون وكذلك مع رئيس الوزراء السابق موشي شاريت. كما كان على اتصال مع إيجال ألون والجنرال السابق يادين اللذين عرفهما أثناء حرب فلسطين عام 1948 وظل ألوان على اتصال به بعد الفالوجة وخاصة بعد ثورة 23 يوليو عام 1952 وكانت معظم الاتصالات مع المسؤولين الإسرائيليين عن طريق الخطابات التي ترسل من بعض العواصم الأوروبية وتتم عن طريق ممثله الشخصي المرحوم حسن صبري الخولي الذي أكد لي من مرة أنه تسلم رسالة من بن غوريون أو شاريت أول ألون.
- ثالثا، كنت شخصيا في إبريل ومايو عام 1956 مكلفا بالاتصال بالإسرائيليين بطلب من الرئيس الراحل جمال عبد الناصر عن طريق مدير المخابرات السابق صلاح نصر. وتم هذا الاتصال في لندن عن طريق القائم بالأعمال الإسرائيلي وبعض الأصدقاء الأمريكيين. والقائم بالأعمال الإسرائيلي يعلم حاليا مدير لجامعة حيفا. وعن هذا الطريق وجهت إلى دعوة لزيارة إسرائي لمقابلة موشي شاريت الذي كان وزيرا للخارجية مع بن غوريون الذي كان رئيسا للوزراء. وقد وافقت القاهرة على سفري إلى إسرائيل بتعليمات من الرئيس الراحل عبد الناصر. وأبلغت ذلك في باريس عن طريق الدكتور ثروت عكاشة الذي كان ملحقا عسكريا في السفارة المصرية والمسؤول عن كل الأجهزة في أوروبا. وتم ذلك بعلم الأخ صلاح الدسوقي الذي كان مسؤولا في وزارة الداخلية المصرية.
- رابعا، في إسرائيل تلقت عن طريق تيدي كوليك -عمدة القدس حاليا- وكان مديرا لمكتب بن غوريون. رسالة خاصة من بن غوريون إلى الرئيس عبد الناصر يعرف فيها رئيس وزراء إسرائيل عن استعداده للحضور إلى القاهرة أو أي مكان لمقابلة الرئيس الراحل عبد الناصر. كما تلقيت رسائل مشابهة من شاريت ومن غولدا مئير التي كانت آنذاك ترأس «الهستدروت» والتي دعتني أكثر من مرة إلى منزلها.
- خامسا، عند عودتي إلى القاهرة اجتمعت بالدكتور محمد عبد القادر حاتم الذي تسلم مني كل ما حملته معي من إسرائيل (....).
- سادسا، طلب مني الاستعداد للعودة إلى إسرائيل عن طريق قبرص حاملا معي ردودا على رسائل بن غوريون وشاريت وغولدا مئير كما تحدد أن تتم الاجتماعات في سرية تامة في سيناء مرة وفي النقب مرة أخرى. وكان محددا لي السفر في بحر أسبوع.
- سابعا، فجأة تسرب نبأ زيارتي لإسرائيل إلى بعض الصحفيين اللبنانيين وخاصة المرحومين سعيد فريحة و سليم اللوزي، الذين أذاعا نبأ الزيارة مما أثار غضب الرئيس الراحل عبد الناصر الشديد. وألغيت العودة إلى إسرائيل وقد تبين لنا فيما بعد أن أحد كبار رجال الصحافة المصرية المقربين جدا للرئيس عبد الناصر، كان وراء تسريب الخبر إلى سعيد فريحة وسليم اللوزي وتم هذا أيضا بعد اتصال هذا الصحفي الكبير المقرب جدا للرئيس الراحل مع أصدقاء له في سفارة دولة غريبة كبيرة جدا في القاهرة كان على اتصال دائم معها.... مما يدل على عدم رغبة هذه الدولة الكبيرة أن تتم اتصالات بين مصر وإسرائيل إلا عن طريقها هي وحدها.... لأسباب أصبحت معروفة الآن وبعد مرور أكثر من 27عاما! وقد اجتمعت بالمرحوم الرئيس عبد الناصر في منزله في منشية الكبرى أكثر من ست ساعات، وأكلت معه شطائر الجبنة البيضاء والفول المدمس المصري كانت أمامه كل الصور التي التقطتها أثناء الأحد عشر يوما التي قضيتها في إسرائيل وكان يسألني بدقة عن موضوعات معينة وعن آرائي في بعض الشخصيات التي قابلتها في إسرائيل. وكان يهتم اهتماما خاصا بمعاوني بن غوريون وخاصة تيدي كوليك وإسحق نافون رئيس إسرائيل السابق الذي كان مسؤولا عن الشؤون العربية في مكتب بن غوريون، وكذلك موشي شاريت وبيريز الذي كان يتولى منصب مدير وزارة الدفاع الإسرائيلية وقتها وكان عبد الناصر على علم بما يحدث في إسرائيل، وكان مهتما جدا بآرائي حول مدى جدية هؤلاء الذين رغبوا في الاجتماع به.
وسألت عما إذا كنت على استعداد، بعد أن تهدأ الضجة، للذهاب إلى إسرائيل حاملا معي رسالة بن غوريون. ولكن الأحداث تسابقت وفضلبن غوريون ركوب القطار البريطاني-الفرنسي للعدوان على مصر في أكتوبر عام 1956 بأمل أن يضم سيناء نهائيا إلى إسرائيل...
أكتب هذا للتاريخ وهو ما لم أنشره سابقا في الكتابين اللذين نشرتهما باللغة العربية وباللغة الإنكليزية بعد أعوام من زيارتي لإسرائيل.
وأضيف أن الأخ محمود رياض، وقبله المرحوم الدكتور محمود فوزي، لم يكونا على علم بما حدث بالنسبة إلى هذه الزيارة... كما أنني أعلم يقينا أ ن الدكتور حسن صبري الخولي لم يبلغ إياهم أو أي وزير آخر في حكومات عبد الناصر بالإتصالات مع إسرائيل.
د. محمود فوزي والتفاوض مع موشيه شاريت
بينما كانت مصر منهمكة في استعداد لمفاوضات الجلاء البريطاني عن منطقة القناة وفي محاولات ترتيب أوضاعها الاقتصادية والداخلية, كانت هناك لقضية «اللاجئين» الفلسطينيين وسلام مع إسرائيل وتشير الوثائق إلى أن مصر كانت على اتصال بحكومة إسرائيل عن طريق وسطاء دوليين. بل إن إحدى الوثائق التي يعود عهدها إلى السنة التي نحن بصددها (1953) تتحدث عن وجود أسباب تدعو للاعتقاد بأن مصر تجاوز الدول العربية الأخرى بالتوصل إلى سلام مع إسرائيل.
بالرغم من أن بريطناي كانت تريد تأجيل أي اهتمام بالتوصل إلى سلام ما بين إسرائيل والعرب إلى ما بعد انتهائها من مفاوضات الجلاء مع مصر، إلا أن وزير خارجية مصر في ذلك الحين، الدكتور محمود فوزي، اتخذ مبادرة سرية في اتجاه السعي إلى تسوية مع إسرائيل ولما أطلع الدكتور فوزي السفير الأمريكي في القاهرة على المسألة, قامت الحكومة الأمريكية بإبلاغ البريطانيين بالمسألة.
والوثيقة التالية عبارة عن مذكرة داخلية «سرية» كتبها أحد كبار المسؤولين في وزارة الخارجية البريطانية, وهو الأن روس، يوم 11شباط (فبراير) 1953 عما أبلغه به مسؤول في السفارة الأمريكية في لندن: «أطلعني المستر بالمر في سفارة الولايات المتحدة بعد زهر اليوم على برقية من سفير الولايات المتحدة في القاهرة تاريخها 10 شباط (فبراير) وقد قال المستر كافير فيها أن وزير الخارجية المصري أبلغه اليوم السابق بأن (أي د. فوزي) طلب إلى المستر رالف بانش (السكرتير العام المساعد للأمم المتحدة) إبلاغ المستر (موشيه) شاريت (وزير الخارجية الإسرائيلي) بأن مصر مستعدة لتصور تسوية في نهاية الأمر بناء على أساس إعادة توطين اللاجئين والتعويض عليهم مع إجراء بعض التعديلات في الحدود. وقد أبلغ الدكتور بانش المستر شاريت بذلك وطلب إليه الأخير بعد التشاور مع الحكومة الإسرائيلية إبلاغ الدكتور فوزي بأن حكومته ترحب بهذا.
«وقد وردت في مقدمة تقرير المستر كافري إشارة قال المستر بالمر إننها تتصل بدلائل سابقة على أنه بمجرد أن تكون مصر سوت خلافاتها مع المملكة المتحدة فإنها قد تتخذ خطوة نحو إسرائيل». «وشكرت المستر بالمر بحرارة على هذه المعلومات وقد كان أملنا دائما أن تتخذ مصر زمام المبادرة على هذا السبيل».
وفي ذيل هذه الوثيقة المكونة من صفحة واحدة تعقيب يقول: «التغيير الوحيد الآن هو أن المبادرة هذه المرة تبدو أنها جاءت من الجانب المصري بدلا من الجانب الإسرائيلي. يمكن أن يكون هذا مهما».
رواية مايلز كوبلاند لمحور عبد الناصر -شاريت
وحسب رواية مايلز كوبلاند عميل المخابرات المركزية الأمريكية والتي أورد في رسالة إلى جريدة التايمز اللندنية عام 1971 بأنه بدأت اتصالات سرية بين الرئيس السابق جمال عبد الناصر وموشي شاريت عقب وصول الأخير للسلطة الكاملة في إسرائيل كرئيس للوزراء وخاصة بعد محاولة الإخوان المسلمون تصعيد الهجوم على عبد الناصر عقب ظهور بوادر اتفاقه على تحقيق تسوية مع الإنجليز .... في صيغة تضمن استمرار محدود للوجود الإنجليزي بالقناة وكان شاريت يؤيد هذه الصيغة لارتباطه بحزب العمال البريطاني ولأن هذه الصيغة التوفيقية يمكن أن تضمن حدا أدنى من عدم الاحتكاك بين إسرائيل ومصر... ويمكن أن تكون مقدم لإشراف بريطاني لضمان حرية الملاحة في القنا لكافة الأطراف بما فيهم إسرائيل.
والواقع أن عبد الناصر نفسه كان معروفا لدى المخابرات الإسرائيلية منذ مفاوضات الهدنة... فحسب رواية «جوردان كوهن» أحد أعضاء لجنة الهدنة من الجانب الإسرائيلي أنه جرت آنذاك بينه وبين ضابط مصري يدعى جمال عبد الناصر عدة مقابلات كان يسأله فيها عبد الناصر عن الكيفية التي تم بها إخراج الإسرائيليين الإنجليز من فلسطين... وكيف تم تنظيم المقاومة السرية ولأن عبد الناصر كان رجل تكتيك قويا فما أن وصل للسلطة حتى فضل أسلوب المفاوضات مع الإنجليز وحسب رواية كوبلاند... أوحى عبد الناصر لشاريت عام 1954 بأن يثني الإسرائيليون على موقف الإخوان المسلمون في وسائل إعلامهم حتى يظهر هؤلاء للمواطنين العرب كأنهم ضد القضية العربية وخلاصة القول –حسب كوبلاند- تم الاتفاق بين شاريت وعبد النار على برنامج لتخفيف التوتر وافق عليه عبد الناصر.
حاجة إسرائيل لثورة الضباط الأحرار
يقول أحد الكتاب الإسرائيليين:
اقرأوا كتاب لعبة الشعوب» لمؤلفه «مايلز كوبلاند» الدوبلوماسي الأمريكي الذي قضي أكثر أيام خدمته في الشرق الأوسط عامة وفي مصر خاصة
يقول في صفحة 36:
«إن رفض القادة العرب «القدامي» الحماية التي تقدمنا بها إليهم ورفضهم أن يكونوا المنتفعين الرئيسيين من تسوية ودية لمشكلة فلسطين. هو الذي اعتبره مخططونا سبيا يبرر الإطاحة بهؤلاء القادة مباشرة، أو عن طريق شعوبهم».
وهنا لا أريد أن أعلق على هذا القول ولا أناقشه كذلك فهو واضح كالشمس ولكنني مع هذا أريد أن أنقل لقراء كتابي فقرات من كتاب خطير ألفه كاتب يهودي معروف. وهو مؤرخ صهيونى يدعى «إيرل برغر» وسمي كتابه «العهد والسيف» فقد جاء في الصفحة 169- 172 من الكتاب المذكور ما يلي:
كانت إسرائيل تعتقد أن هناك نقاط أساسية يمكن الاتفاق عليها مع حكام لاحق في مصر سواء من النواحي السياسية أو الاقتصادية. إذ ليس هناك احتمال في أن تهدد إسرائيل وجود مصر كدولة, كما أن للبلدين مواقف مماثلة بالنسبة للهاشميين، وكلاهما يريد إخراج بريطانيا من الشرق الأوسط... ».
هذه الآمال كلها انتعشت في إسرائيل على عهد الثورة ولكي نفهم جيدا شعور الإسرائيليين في ذلك الحين يجب أن نفهم كيف التقت آمالهم في الصلح مع العرب في عهد الثورة. وذلك أن المبدأ الذي قام عليه نشاط إسرائيل منذ البداية هو أن العرب سيعملون يوما على التعاون معهم، وأن هذا التعاون سيصبح بالنسبة للعرب ضرورة أدبية وسياسية واجتماعية واقتصادية وأن ظروف العرب وحاجاتهم التاريخية ستضطرهم أخيرا للعمل مع إسرائيل يدا بيد كلا منهم يكمل الآخر (كذا) فإسرائي جسر يصل بين الغرب المتقدم، والشرق المتخلف، فلماذا لا تنقل إسرائيل إلى العرب العلم والثقافة والخبرة والمعرفة, وكذلك الثورة الاجتماعية والاقتصادية».
ويمضي إيرل برغر فيقول:
هذه النظريات كلها لم تفعل فعلها في نفوس العرب. عند ذلك شعرت إسرائيل أن القوى التي تغذي شعور العداء ضدها في العالم العربي هي العناصر الرجعية: رجال الإقطاع، السياسيون القدامي، المشايخ، جميع العناصر التي تخسر كثيرا إذا سادت في المنطقة اشتراكية إسرائيل النموذجية...وكان بن غوريون شديد الإيمان بالقضاء على هؤلاء جميعا حين طلب إلى الكنيست قبل ثورة الضباط الأحرار أن يتحلى بالصبر لأن السلام لن يكتب لإسرائيل ما دام العالم العربي في قبضة الرجعيين... وأن الخطوة التي يجب أن تسبق الصلح مع إسرائيل هي إقامة ديمقراطيات شعبية في البلدان العربية...»
«لهذا كله كانت حاجة إسرائيل لثورة الضباط الأحرار في مصر أشد من حاجة المصريين أنفسهم. وكانت الثورة بالنسبة لإسرائيل كالفجر يشرق في أحلك ساعات الليل. وهكذا بدأ رجل الثورة وكأنهم الفجر الذي كانت إسرائيل في انتظاره كما كانوا جميعا صغارا في سنهم، صغارا في برجوازيتهم. يتطلعون إلى البقاء في الحكم على أساس أهداف كلها داخلية: تظهير البلاد من الفساد، القضاء على سوء الإدارة, إزالة الاضطهاد والظلم الاجتماعي والاقتصادي.... إلخ».
« ومما ذاد في طمأنينة اليهود الاتصالات الجانبية التي جرت بالضباط الأحرار قبل عهد الثورة .فقد قام يروحام كوهين الذي تعرف على عبد الناصر جيدا منذ حصار الفالوجا إن الانطباع الذي انعكس في نفسه من خلال تلك المعرفة هو أن كافح مصر الحقيقي سيكون على أيدي هؤلاء الضباط اشتركوا في محادثان الهدنة ثم حافظوا بعد ذلك على اتصالاتهم بفئات الجناح اليساري في إسرائيل».
وليس هذا سوى جزء من المعلومات والاتجاهات التي وردت في تحقيق المؤرخ الصهيوني إيرل برغو، ننقلها بدون تعليق...!!
الفصل الثالث : التمهيد للمؤامرة
المخابرات الأمريكية في خدمة عبد الناصر
وعندما وصل بونش إلى مصر بدأ عملا شبه روتيني ينطوي على كتابة مقالات ضد السامية إلا أن ذلك لم يخدم أيا من أهداف وزارة الدعاية المصرية وتمكن بونش أخيرا من تقديم اقترح حاز على اهتمام المصريين سريعا، وكان عبارة عن خطة لتجميع النازيين العنيدين من مخابئهم في مختلف دول العالم (كالأرجنتين والبرازيل وإيرالندا وأسبنيا وغيرها) واستبدال أسمائهم بأخرى إسلامية وضمهم إلى «الموجودات السرية التي تشكلت أثناء الحرب العالمية الثانية» وبهذا يمكن تكوين منظمة مخابرات لأهداف التخريب والتدمير تجمع بين أحسن المواهب المصرية والألمانية. ومن ثم وضعها تحت تصرف جمال عبد الناصر في حربة العالمية ضد الشيوعية والإمبريالية.
وعندما قدمت الخطة إلى سعد عفرة, وكان من أكثر ضباط الجهاز المخابرات العامة دهاء وكان المسؤول يومها عن شؤون الخبراء الألمان، تظاهر باهتمامه البالغ بالخطة, سوى أنه أصر على الحصول على معلومات أو في حول ما يسمى «بالموجودات السرية» وكان رد فعل بونش حسنا، فقد أمضى مدة من الزمن دون أن يلمس أي اهتمام من قبل المصريين بما يفعله وبتشجيع من سعد عفرة فقد توصل بانش إلى جمع كافة المعلومات المتصلة بالموضوع والتي يمكن من استذكارها أو من تجميعها من بقية أفراد المستعمرة الألمانية في مصر يومها وكانت النتيجة أن توفرت لدى جهاز المخابرات العامة أدلة تكفي للحكم بالإعدام على نصف «الإخوان المسلمون» كما بانت أطراف ألغاز تكفي لإشغال موظفي الأمن المصريين لسنتين على الأقل بغية ترسيخ أقدام جهازهم الجديد في مصر والعالم العربي كله. أما الأخبار المباشرة التي جمعت من المصادر الألمانية فقد أفادت أن «الإخوان المسلمون» كانوا عبارة عن خلية مخابرات نازية (تعمل ضد الحلفاء) وبعد تتبع الأدلة المتوفرة، توصل التحقيق إلى أن هذه الخلية النازية كانت لا تزال محافظة على تماسكها ولها من القدرة على العمل ضد ناصر كقدرتها على العمل لصالحه. إلا أنها كانت قوية إلى حد أن أي محاولة من ناصر للتعاون معها ستنتهي به إلى وضع يجد فيه نفسه مطية لها، وليس العكس أبدا.
وعندما يتحرك الإنسان ضد أية منظمة تزعم أنها تحمي الدين السائد في البلاد، فعلية أن يفعل ذلك بحذر شديد. وهذا ما قام به يومها رئيس فرع وكالة المخابرات المركزية الأمريكية في مصر ففي محاولة لكشف الكفر والزندقة السوفييتيين، قام الأخير بتوزيع منشورات شيوعية عديدة تعود إلى عهد ما قبل الحرب العالمية الأولى وكانت تحمل عنوانين ذوي طابع استفزازي مثل «محمد: ليس له وجود» و «النتائج السيئة للصيام في رمضان» و «ضد الحجاب» وإظهارها على أنها من توزيع السفارة الروسية في القاهرة وعندما وقع ناصر إتفاقية الجلاء عن قاعدة قناة السويس في تشرين الأول (أكتوبر) 1954، كان ضباط جهاز أمنه منهمكين في التحقيق في تلك الأدلة التي وفرها لهم نشاط فرانز بونش. وفجأة قام الاتحاد السوفييتي بشن حملة عنيفة على صفحات الصحف الشيوعية ضد ناصر ونعت أعوانه بالاستبدادية والظلم ورفع لواء الدفاع عن منظمة «الإخوان المسلمون» ولكن بطريقة غير مباشرة وهكذا أخذت الإذاعة الإسرائيلية تظهر –على طريقتها الخاصة- قدرة منظمة «الإخوان المسلمون» الضخمة على الإطاحة بنظام ناصر وهكذا أيضا ظهر كل من الإتحاد السوفياتي وإسرائيل على أنها من مؤيدي منظمة «الإخوان المسلمون» وقد اتبع رئيس فرع وكالة المخابرات المركزية الأمريكية هذا «التكتيك» استنادا إلى إحدى قواعد الدعاية، وهي «المدح من العدو» التي تستعمل في بلدان الشرق الأوسط. وتستعمل هذه القاعدة بنفس الطريقة من قبل المرشحين المحافظين في الولايات المتحدة وبريطانيا وذلك بتجميع أعداد هائلة من الناس، الذين يشمئز المرء من مظهرهم وينفر من شكلهم، بغية مضايقة المرشحين بأسئلة كثيرة وإحراجهم بتحديات مريرة.
اجتماع عبد الناصر مع مسؤول الدعاية السوداء في المخابرات الأمريكية لوضع خطة حادث المنشية
وكما يقول محمد حسنين هيكل في كتابه عبد الناصر... والعالم: وقد حقق محمد نجيب شعبية كبرى واغترف كل المجد بينما ظل عبد الناصر خلف الصفوف في الظل يفكر دائما ويبدو دائما للناس رجلا عبوسا وهكذا أسيء فهمه.
ويستدرك هيكلك: وأنه لمن الغريب أن الرجل الذي أصبح موضع حب كل إنسان بدأ موضع سوء فهم من الناس وكان الموضوع الذي يتردد في خطبه في ذلك الحين: لن أستجدي تصفيقا... ولن أستجدي هتافا. ويقول هيكل أيضا: أما التغيير الحقيقي فقد جاء -كما هي العادة- في حياة عبد الناصر بحادثة درامية واحدة.... وصمت أيضا عن الاستطراد!!
وبالطبع كانت هذه الحادثة الدرامية... هي حادث المنشية الشهير في أكتوبر عام 1954بالإسكندرية. إلا أننا يجب أن نعرض لسيناريو... وخطة هذه الحادثة قبل وقوع بشهور.
فعندما وقع الجانبان البريطاني والمصري على اتفاقية الجلاء في 27 يوليو 1954 فقد كانا إتفقا أيضا على أن يكون التصديق في 19 أكتوبر عام 1954 من نفس العام والذي سيعقب ذلك احتفالا شعبيا بهذه المناسبة ... وكان هذا الاحتفال هو مسرح حادث المنشية.
ولكن كما يقول مايلز كوبلاند في كتابة الشهير لعبة الأمم: إن عبد الناصر نفسه لم يكن ذا ماضي عسكري عريق حتى يشكل عنصر دعاية ولم يكن حتى ليدرك العقبات التي تعترض اتصاله بالشعب مباشرة فقد اعترف عبد الناصر يومها بأنه جاهل بأصول التقرب إلى الجماهير المصرية...
ومن هنا.... وعلى ضوء الطريق إلى حكم مصر .. كان لابد من نهر للدماء يعبر بها عبد الناصر بشراعه الإعلامية المخططة ليتسلط على حكم مصر.
فقد تم اجتماع عقب توقيع الاتفاق ضم بول لينيارجر مسئول الدعاية السوداء والذي قام من قبل بتخطيط إعلامي لتصعيد ونجومية عبد الناصر وكذلك عبد الحكيم عامر وزكريا محي الدين وحسن التهامي وعبد القادر حاتم وبالطبع عبد الناصر نفسه.
وفي هذا الاجتماع –كما يروي حسن التهامي- فإن بول لينيارجر ردد بأنه لدية علم بنفسية الشعوب في الشرق... فهذه الشعوب –عامة وعلى حد تعبيره- عاطفية من الدرجة الأولى تمجد وتحب من يقع تحت وطأة الظلم أن الغبن أو تظهر عليه علامات رضا الله عنه.
وكان بول لينيارجر من أصل صيني عاش بالصين حتى ثورة ماو ثم رجل إلى الولايات المتحدة الأمريكية للعمل بها.
وعندما حضر إلى القاهرة في مارس 1954 وعقب الأزمة الشهيرة فكان ذلك بغرض الدراسة والتحليل والتحضير والتجهيز لعبد الناصر حتى يمكنه من السيطرة على مشاعر الشعب المصري وكسب عاطفته في أقصر وقت ممكن وإحاطته بما لم يحط به محمد نجيب.
وكان اقتراح بول لينيارجر في هذا الاجتماع افتعال محاولة للاعتداء على حياة عبد الناصر تكون سليمة التدبير، وتقوم بها عناصر مختارة في هذا الصدد، فتكون عملية إطلاق الرصاص على عبد الناصر عملية تمثيلية صورية محكمة وذات تأمين كاف لتنفيذها، وهذا الحدث في حد ذاته سيجذب مشاعر الشعب المصري نحوه لما يراه فيه من مظاهر الشجاعة أثناء ثباته في هذا الموقف وعدم خوفه أو اهتزازه وأنه قد نجا منه بأعجوبة تثير المشاعر، كما ستقوم أجهزة الإعلام والرأي العام بصياغة الحدث بصورة مؤثرة في مشاعر الشعب لجذب عواطفه وتعاطفه نحو عبد الناصر... وفي ذات الوقت ينزاح محمد نجيب من مركز الصدارة حيث تتاح الفرصة المواتية لعبد الناصر أن يفعل ما يريد في أثناء هذه النشوة الشعبية التي تنجرف نحو عقب هذا الحديث.
وقد استمع الجميع إلى هذا الحديث من بول لينيارجر ولكن الذين كانوا يعطفون أو يحرصون على زعامة مصر وقيادتها المقبلة وقتئذ ... فقد رأوا أن هذا الإقتراح قد يودي بحياة عبد الناصر نتيجة أي خطأ لا يمكن السيطرة عليه... ولو كان خطأ واحدا، كما أنه في حالة إطلاق النار على عبد الناصر ونجاته من دقة وإحكام التصويب ... فربما يثير ها رد فعل عند أعداء النظام وتكون النتيجة محاولات أخرى لاغتياله وبالتالي، فإن هذا الحدث يفتح الأذهان لهؤلاء الخصوم عن إمكانية ضرب الحكم الجديد في أي وقت. وأضاف هؤلاء الوطنيون إن هذا العمل يعد مجازفة لا طاقة لهم بتحمله، ورغم بعض المبررات الأخرى لرفض هذا الاقتراح .... إلا أن بول لينيارجر كان على يقين واقتناع تام به. وعلى ذلك لم يعقد اجتماع يضم ذات المجموعة مرة أخرى وإنما انفرد عبد الناصر به شخصيا.
وبعد ثلاث شهور من ها اللقاء... وذلك الحديث تمت عملية المنشية تماما كما وضع خطتها بول لينيارجر بإحكام وتم فيها تنحية محمد نجيب وتم فيها أيضا القبض على الجناة... وإدانة الإخوان المسلمون وتم تصفيتهم في أكبر حدث لتصفية دموية ونفيسة رهيبة تقشعر لها أبدان الذين قد عايشوها... أو يعرفوها....أو عاشوها كحقائق.
وعلى أثر ذلك .. تسلق... بل قفز عبد الناصر على صهوة هذا الحديث إلى حكم مصر!!
وفي تقرير أمريكي سري مؤرخ في 24نوفمبر 1954 أي بعد هذا الحدث بشهر.. وعما كان يحويه من خطوات للتعاون والتحالف الأمريكي –الناصري فيد جاء به: حتى يمكن انفراد عبد الناصر بالقرار فكانت تقديراته هي تقوية مجلس قيادة الثورة والقضاء على الإخوان المسلمون والشيوعيين والمجموعات القديمة إلى آخره وإن هذا سوف يستغرق شهرين تقريبا وبذلك يكون قد شرع في تقوية مركزه ومجلس قيادة الثورة بصورة مطردة ومستمرة إلى فترة مستقبلية معقولة.
ولكن التقدير الأمريكي قد أشار إلى شهرين ...ولكن عبد الناصر خيب ظنهم وتوقعهم حيث حقق كل هذا في أقل من شهرين ... وعاود الاتصال بإسرائيل في ديسمبر ... من نفس العام!!.
حسين الشافعي: لأن الإسلام مستهدف
سؤال: أي شعب في العالم يحتاج إلى الديمقراطية أسلوبا للممارسة، كقوة دافعة للحركة والعمل والإنتاج والجدية, إلا أن مصر شهدت فترات خلال تجربة الثورة ضربت فيها الديمقراطية. .. حيث فتحت المعتقلات، كان آخرها ما حدث في سبتمبر 1981عندما زج بكل القوى الوطنية في السجون ... فما تعليقك؟
• سؤال: ليه معظم الاتجاهات السياسية خرجت ما عدا المسلمين؟
• سؤال: لا أعرف؟! وأنا أسألك؟
• قال: لأن الإسلام مستهدف في جميع المراحل... الإخوان المسلمون عادوا من حرب فلسطين على المعتقلات وقتل حسن البنا عام 1949... وعلشان كده كان من الاعتبارات السياسية في ماكمة إبراهيم عبد الهادي هو اضطهاده للإخوان المسلمون.
لكن الإخوان أخذوا موقفا من الثورة، ومن أول يوم... وبالتحديد في 15 يناير 1953 خاصة عندما أعلن عن قيام هيئة التحرير، إزاي الثورة تعمل هيئة التحرير، وإزي الثورة يبقي لها تعبير سياسي...ومن يؤمها قالوا: نحن لا نذوب في الثورة.
لقد قابلني الهضيبي في 15 يناير 1953 وقال لي: إن الإخوان حركة عالمية ولن تذوب في الثورة ... وفي الجائز أن تحاربوا في قناة السويس إنما من الجائز –نحن كإخوان- أن نحارب في مراكش.
إنفجارات من فعل عبد الناصر
جاء في مذكرات عبد اللطيف البغدادي في صفحة 119 من الجزء الأول، أنه في جلسة مجلس الثورة المنعقدة في 4 مارس 1954 اقترح جمال عبد الناصر حل المجلس وأن يعمل كل فرد من أعضائه على تكوين فريق team مكون من عشرة أفراد مهمته التخلص من العناصر الرجعية من الذين يناهضون الثورة وعلى رأسهم الإخوان المسلمون.
ويقول البغدادي في صفحة98 من مذكراته في نفس الجزء:
«في اجتماع مشترك بين مجلس الثورة وأعضاء الوزارة في 20 مارس 1954 أبلغ جمال عبد الناصر الاجتماع بوقوع ستة إنفجارات نسف في مبنى السكة الحديد وفي الجامعة وفي محل جروبي وفي وقت واحد – وعلل لهم ذلك بسياسة اللين في موقف الحكومة, وأن خطوة العودة إلى الحكم النيابي لا تصلح في هذا الوقت».
ثم يقول البغدادي في صفحة 146 من نفس الجزء:
«إن جمال عبد الناصر اعترف بأنه هن الذي قام بهذه الإنفجارات. وذلك في اليوم التالي لوقوعها. وإعترف بذلك للبغدادي وحسن إبراهيم وكمال الدين حسين وعزا السبب في قيامه بهذه الحوادث إلى أنه كان يرغب في إثارة البلبلة في نفوس الناس ويجعلهم يشعرون بعدم الطمأنينة حتى يتذكروا الماضي أيام نسف السينمات ويشعروا أنهم في حاجة إلى من يحميهم»!.
تقرير مكافحة تسييس الدين أو تديين السياسة
نص الوثيقة الإجرامية :
بناء على أمر السيد رئيس الجمهورية بتشكيل لجنة عليا لدراسة واستعراض الوسائل التي استعملت والنتائج التي تم الوصول إليها بخصوص مكافحة جماعة الإخوان المسلمون المنحلة ولوضع برنامج لأفضل الطرق التي يجب استعمالها في قسمي مكافحة الإخوان بالمخابرات والمباحث العامة لبلوغ هدفين:
1- عسل مخ الإخوان من أفكارهم
2- منع عدوى أفكارهم من الإنتقال لغيرهم.
اجتمعت اللجنة المشكلة من:
1- سيادة رئيس مجلس الوزراء.
2- السيد –قائد المخابرات.
3- السيد- مدير المباحث الجنائية العسكرية.
4- السيد –مدير المباحث العامة.
5- السيد –مدير مكتب السيد –المشير.
وذلك في مبنى المخابرات العامة بكبري القبة. وعقدت عشرة اجتماعات متتالية. وبعد دراسة كل التقارير والبيانات والإحصائيات السابقة أمكن تلخيص المعلومات المجتمعة في الآتي:-
1- تبين أن تدريس النتائج الإسلامي في المدارس للنشء بحالته القديمة يربط السياسة بالدين في لا شعور كثير من التلاميذ منذ الصغر ويسهل تتابع ظهور معتنقي الأفكار الإخوانية.
2- صعوبة واستحالة التمييز بين أصحاب الميول والنزعات الدينية وبين معتنقي الأفكار الإخوانية وسهولة فجائية تحول الفئة الأولى إلى الثانية بتطرف أكبر.
3- غالبية أفراد الإخوان عاش على وهم الطهارة ولم يمارس الحياة الاجتماعية الحديثة ويمكن اعتبارهم من هذه الناحية «خام».
4- غالبيتهم ذوو طاقة فكرية وقدرة تحمل ومثابرة كبيرة على العمل وقد أدى ذلك إلى اضطراد دائم وملموس في تفوقهم في المجالات العلمية والعملية التي يعيشون فيها وفي مستواهم العلمي والفكري والاجتماعي بالنسبة لأندادهم رغم أن جزاء من غير بسيط من وقتهم موجه لنشاطهم الخاص بدعوتهم المشؤمة.
5- هناك انعكاسات إيجابية سريعة تظهر عند تحرك كل مهم للعمل في المحيط الذي يقتنع به.
6- تداخلهم في بعض ودوام اتصالهم الفردي ببعض وتزاورهم والتعارف بين بعضهم البعض يؤدي إلى ثقة كل منهم في الآخر ثقة كبيرة.
7- هناك توافق روحي وتقارب فكري وسلوكي يجمع بينهم في كل مكان حتى ولو لم تكن هناك صلة بينهم.
8- رغم كل المحاولات التي بذلت منذ سنة 1936 لإفهام العامة والخاصة بأ،هم يتسترون خلف الدين لبلوغ أهداف سياسية إلا أن احتكاكهم الفردي بالشعب يؤدي إلى محو هذه الفكرة عنهم رغم أنها بقيت بالنسبة لبعض زعمائهم.
9- تزعمهم حروب العصابات في فلسطين سنة 1948 والقنال 1951 رسب في أفكار الناس صورهم كأصحاب بطولات وطنية عملية وليست دعائية فقط بجوار أن الأطماع الإسرائيلية والاستعمارية والشيوعية في المنطقة لا تخفي أغراضها في القضاء عليهم.
10- نفورهم من كل من يعادي فكرتهم جعلهم لا يرتبطون بأي سياسة خارجية سواء عربية أو شيوعية أو استعمارية وهذا يوحي لمن ينظر لماضيهم بأنهم ليسوا عملاء وبناء على ذلك رأت اللجنة أن الأسلوب الجديد في المكافحة يجب أن يشمل أساسا بندين متداخلين وهما:-
1- محو فكرة ارتباط السياسة بالدين الإسلامي.
2- إبادة تدريجية بطيئة مادية ومعنوية وفكريا للجيل القائم فعلا والموجود من معتنقي الفكرة ويمكن تلخيص أسس الأسلوب الذي يجب استخدامه لبلوغ هذين الهدفين في الآتي:
أولا: سياسة وقائية عامة:
1- تغيير مناهج تدريس التاريخ الإسلامي والدين في المدارس وربطها بالمعتقدات الاشتراكية كأوضاع اجتماعية واقتصادية وليست سياسية مع إبراز مفاسد الخلافة وخاصة زمن العثمانيين وتقدم الغرب السريع عقب هزيمة الكنيسة وإقصائها عن السياسة.
2- التحري الدقيق عن رسائل وكتب ونشرات ومقالات الإخوان في كل مكان ثم مصادرتها وإعدامها.
3- يجرم بتاتا قبول ذوي الإخوان وأقربائهم حتى الدرجة الثالثة من القرابة من الانخراط في السلك العسكري أو البوليسي أو السياسي مع سرعة عزل الموجودين من هؤلاء الأقرباء من هذه الأماكن أو نقلهم إلى أماكن أخرى في حالة ثبوت ولائهم.
4- مضاعفة الجهود المبذولة في سياسة العمل الدائم على فقدان الثقة بينهم وتحطيم وحدتهم بشتى الوسائل وخاصة عن طريق إكراه البعض على كتابة تقارير عن زملائهم بخطهم ثم مواجهة الآخرين بها مع العمل على منع كل من الطرفين من لقاء الآخر أطول فترة ممكنة لتزيد شقة –انعدام الثقة- بينهم.
5- بعد دراسة عميقة لموضوع المتدينين من غير الإخوان وهم الذين يمثلون الاحتياطي لهم وجد أن هناك حتمية طبيعية عملية لالتقاء الصنفين في المدى الطويل... ووجد أن الأفضل أن يبدأ بتوحيد معاملتهم بمعاملة الإخوان قبل أن يفاجئونا كالعادة باتحادهم معهم علينا.
ومع افتراض احتمال كبير لوجود أبرياء كثيرين منهم إلا أن التضحية بهم خير من التضحية بالثورة في يوم ما على أيديهم ولصعوبة واستحالة التمييز بين الإخوان والمتدينين بوجه عام فلابد من وضع الجميع ضمن فئة واحدة ومراعاة ما يلي معهم:-
أ- تضييق فرص الظهور والعمل أمام المتدينين عموما في المجالات العلمية والعملية.
ب- محاسبتهم بشدة وباستمرار على أي لقاء فردي أو زيارات أو اجتماعات تحث بينهم.
ت- عزل المتدينين عموما عن أي تنظيم أو اتحاد شعبي أو حكومي أو اجتماعي أو طلابي أو عمالي أو إعلامي.
ث- التوقف عن السياسة السابقة في السماح لأي متدين بالسفر للخارج للدراسة أو العمل حيث فشلت هذه السياسة في تطوير معتقداتهم وسلوكهم وعدد بسيط جدا منهم هو الذي تجاوب مع الحياة الأوربية في البلاد التي سافروا إليها أما غالبتهم فإن من هبط منهم في مكان بدأ بنظم فيه الاتصالات والصلوات الجماعية أو المحاضرات لنشر أفكارهم.
ج- التوقف عن سياسة استعمال المتدينين في حرب الشيوعيين واستعمال الشيوعيين في حربهم بغرض القضاء على الفئتين حيث ثبت تفوق الدينيين في هذا المجال ولذلك يجب أن تعطى الفرصة للشيوعيين لحربهم وحرب أفكارهم ومعتقداتهم مع حرمان المتدينين من الأماكن الإعلامية...
ح- تشويش الفكرة الموجودة عن الإخوان في حرب فلسطين والقنال وتكرار النش بالتلميح والتصريح عن اتصال الإنجليز بالهضيبي وقيادة الإخوان حتى يمكن غرس فكرة أنهم عملاء للاستعمار في ذهن الجميع.
خ- الاستمرار في سياسة محاولة الإيقاع بين الإخوان المقيمين في الخارج وبين الحكومات العربية المختلفة وخاصة في الدول الرجعية الإسلامية المرتبطة بالغرب وذلك بأن يروج عنهم في تلك الدولة أنهم عناصر مخربة ومعادية لهم وبأنهم يضرون بمصالحها وبهذا تسهل محاصرتهم ف الخارج أيضا.
ثانيا: سياسة استئصال (السرطان) الموجود الآن:
بالنسبة للإخوان الذين اعتقلوا أو سجنوا في أي عهد من العهود يعتبرون جميعا قد تمكنت منهم الفكرة كما يتمكن السرطان من الجسم ولا يرجع شفاؤه ولذا تجري عملية استئصالهم كالآتي: -
المرحلة الأولى: إدخالهم في سلسلة متصلة متداخلة من المتاعب تبدأ بالاستيلاء أو وضع الحراسة على أموالهم وممتلكاتهم وتتبع ذلك اعتقالهم. أثناء الاعتقال يستعمل معهم أشد أنواع الإهانة والعنف والتعذيب على مستوى فردي ودوري حتى يصيب الدور الجميع ثم يعاد وهكذا وفي نفس الوقت لا يتوقف التكدير على المستوى الجماعي بل يكون ملازما للتأديب الفردي.
وهذه المرحلة إن نفذت بدقة ستؤدي إلى ما يأتي:
بالنسبة للمعتقلين: اهتزاز المثل والأفكار في عقولهم وانتشار الاضطرابات العصبية والنفسية والعاهات والأمراض فيهم.
بالنسبة لنسائهم: سواء كن زوجات أو أخوات أو بنات فسوف يتحررن ويتمردن بغياب عائلهن. وحاجتهن المادية قد تؤدي إلى انزلاقهن.
بالنسبة للأولاد: تضطر العائلات لغياب العاقل وحاجتهم المادية إلى توقيف الأبناء عن الدراسة وتوجيههم للحرف والمهن وبذلك يخلو جيل الموجهين المتعلم القادم ممن في نفوسهم حقد أو ثأر أو آثار من أفكار آبائهم.
المرحلة الثانية: إعدام كل من ينظر إليه بينهم كداعية ومن تظهر عليه الصلابة سواء داخل السجون والمعتقلات أو بالمحاكمات ثم الإفراج عن الباقي على دفعات مع عمل الدعاية اللازمة لانتشار أنباء العفو عنهم حتى يكون ذلك سلاحا يمكن استعماله ضدهم من جديد في حالة الرغبة في العودة إلى اعتقالهم حيث يتهمون بأي تدبر ويوصفون حيث ذلك بالجحود المتكرر لفضل العفو عنهم.
وهذه المرحلة إلى أحسن تنفيذها باشتراكها مع المرحلة السابقة ستكون النتائج كما يلي:
1- يخرج المعفو عنه إلى الحياة فإن كان طالبا فقد تأخر عن أقرانه ويمكن أن يفصل من دراسته ويحرم من متابعة تعليمه.
2- إن كان موظفًا أو عاملا فقد تقدم زملاؤه وترقوا وهو قابع مكانه ويمكن أيضا أن يحرم من العودة إلى وظيفته أو عمله.
3- إن كان تاجرا فقد أفلست تجارته ويمكن أن يحرم من مزاولة تجارته.
4- إن كان مزارعا فلن يجد أرضا يزرعها حيث وضعت تحت الحراسة أو صدر بها قرار استيلاء.
وسوف تشترك جميع الفئات المعفو عنها في الآتي:
1- الضعف الجسماني والصحي والسعي المستمر خلف العلاج والشعور المستمر بالضعف المانع من أية مقاومة.
2- الشعور العميق بالنكبات التي جرتها عليهم دعوة الإخوان وكراهية الفكرة والنقمة عليها.
3- عدم ثقة كل منهم في الآخر وهي نقطة لها أهميتها في انعزالهم عن المجتمع وانطوائهم على أنفسهم.
4- خروجهم بعائلاتهم من مستوى اجتماعي إلى مستوى أقل نتيجة لعوامل الإفقار التي أحيطت بهم.
5- تمرد نسائهم وثورتهن على تقاليدهم وفي هذا إذلال فكري ومعنوي لكون النساء في بيوتهن سلوكهن يخالف أفكارهم، وتبعًا للضعف الجسماني والمادي لا يمكنهم الاعتراض.
كثرة الديون عليهم نتيجة لتوقف إيرادتهم واستمرار مصروفات عائلاتهم النتائج الجانبية لهذه السياسة هي:
1- الضباط والجنود الذين يقومون بتنفيذ هذه السياسة سواء في الجيش أو البوليس سيعتبرون فئة جديدة ارتبط مصيرها بمصير هذا الحكم القائم حيث عقب التنفيذ سيشعر كل منهم أنه في حاجة إلى هذا الحكم ليحميه من أي عمل انتقامي قد يقوم به الإخوان كثأر.
2- إثارة الرعب في نفس كل من تسول له نفسه القيام بمعارضة فكرية للحكم القائم.
وجود الشعور الدائم بأن المخابرات تشعر بكل صغيرة وكبيرة وأن المعارضين لن يتستروا وسيكون مصيرهم أسوأ مصير.
3- محور فكرة ارتباط السياسة بالدين الإسلامي.
انتهى ويعرض على السيد الرئيس جمال عبد الناصر إمضاء – السيد رئيس مجلس الوزراء.
إمضاء –السيد قائد المخابرات
إمضاء –السيد قائد المباحث الجنائية العسكرية.
إمضاء –السيد مدير المباحث العامة.
إمضاء –السيد شمس بدران.
تعليق على البند رقم (8) :
يلاحظ القارئ الكريم في ثنايا هذا البند (رغم كل المحاولات التي بذلت منذ سنة 1936 وقد أعلن جمال عبد الناصر أنه قام ليحرر شعب مصر في النظام الملكي الفاسد... فهل هو امتداد لهؤلاء الذين حاربوا الإسلام في خصية الإخوان المسلمون!؟
وصدق الله العظيم الذي يقول لنا (أتواصوا به بل هم قوم طاغون) .
الفصل الرابع : وانطلقت الرصاصات في صدور الإخوان – لا في صدر عبد الناصر
مدخل
لم يكن حادث المنشية بالإسكندرية في مساء 26 أكتوبر 1954 –بالطريق التي تم بها إلا نتيجة لتخطيط ودراسة وخطوات تمهيدية سابقة صاغتها عقلية جمال عبد الناصر مدرس التكتيك العسكرية في كلية أركان حرب الجيش –هذه العقلية التي أوقفها وسخرها لسحق كل الحركات الإسلامية والإصلاحية التي تقف في وجه أهدافه الشخصية التي ترمي إلى خدمة مطامع الشرق والغرب في القضاء على الإسلام وإبادة أهله. فمنذ اليوم الأول لحركة 23يوليو 1952 كان جمال عبد الناصر يمهد في صمت وخبث للقضاء على جماعة الإخوان المسلمون التي تتزعم العمل الإسلامي في مصر والعالم الإسلامي وتقود نهضته الحديثة.
محاولات:
ولقد ساهم عبد الناصر في محاولات متصلة لضرب الإخوان من داخلهم بالمكر والخديعة والوقيعة من وراء ستار حتى يبتعد عن المواجهة الساخنة معهم وحتى لا يتعرض لعداء المسلمين في الخارج.
وفي نفس الوقت أنشأ ما يسمى بالمؤتمر الإسلامي لسد فراغ الدعوة الإسلامية وليكون هذا المؤتمر منافسا لحركة الإخوان المسلمون العالمية –وسخر له الإمكانيات المالية والأدبية والدبلوماسية, وأقام عليه أنور السادات.
في سبيل تحقيق هدف جمال عبد الناصر في ضرب جماعة الإخوان والقضاء عليهم سلك في سبيل ذلك كل السبل الممكنة علنية أو سرية.
فقام عام 1953 بحل جميع الأحزاب السياسية في مصر بحجج وأساليب ابتدعها، واستثنى جماعة الإخوان المسلمون من قرار الحل باعتبار جماعة دينية, رغم اعتراض الرئيس محمد نجيب على هذا الاستثناء ولكن عبد الناصر كان يرمي من وراء ذلك أن لا يتحد الإخوان مع الأحزاب ضد قرار الحل. على طريقة فرق تسد، ويهدف عبد الناصر من وراء ذلك أن ينفرد بضرب الإخوان في الوقت المناسب دون معارضة من أحد فلا أحزاب ولا صحافة وهكذا تحقق في الجماعة قول [أكل يوم أكل الثور الأبيض] رغم أن قيادة الإخوان كانت على بينة من هذا التكتيك ولكن عبد الناصر يملك السلطة.
ففي أوائل عام 1954 بعد حل الجماعة في يناير 1954 زار عبد الناصر مدينة الإسكندرية –وفجأة طلب اللقاء بجموع الإخوان بدارهم بشارع منشأ بالإسكندرية –واستطاع الإخوان في هذه الفترة الوجيزة أن يحتشدوا في الموعد المحدد.
وحضر جمال عبد الناصر وحاشيته ومرافقون من رجال الصحافة والإذاعة والتليفزيون.
ورحب الإخوان بهم وتعالت الهتافات: الله أكبر ولله الحمد وحين وقف جمال عبد الناصر ليقول كلمته المقصودة بهذا اللقاء –طلب من الجميع عدم تسجيل كلمته بأية صورة من الصور وأخذ يتحدث عن تاريخ الإخوان ويمتدح حركتهم وإمامهم حسن البنا وبثني على شباب الإخوان الذين ساهموا في حرب فلسطين والقنال... وودعه الإخوان كما استقبلوا بالتحية الإسلامية: الله أكبر ولله الحمد ولم تشر الصحف إلى هذا اللقاء من قريب أو بعيد . وبقي أن عبد الناصر أراد بهذا اللقاء أن يوهم الإخوان بأنه ليس بينه وبينهم أية خصوصة ولا يحمل لهم أي عداء ولا يضمر لهم شرًا أو سوء من ناحية وأن قيادة الإخوان هي التي تشيع روح العداء بينة وبين عامة الإخوان.
كان عبد الناصر يعمل لتأخير الضربة التي أصر عليها وخطط لها وحدد الموعد المناسب لها ريثما يمهد لها الطريق.
فبدأ جمال عبد الناصر بقرار حل الجماعة في 13 يناير 1954 واعتقل الآلاف منهم وأودعهم المعتقلات والسجون المدنية والحربية واتهمهم –بمحاولة قلب نظام الحكم والاتصال بالإنجليز والتآمر معهم- وتكوين أسر إخوانية داخل وحدات الجيش والبوليس.
ولم ينته شهر مارس حتى هب الشعب المصري مع الإخوان وعلى رأسهم الشهيد القاضي عبد القادر عودة في مظاهرة شعبية لم يسبق لها مثيل حتى وصلت إلى ميدان عابدين وتطالب بعودة الرئيس محمد نجيب والإفراج عن جماعة الإخوان ...(وأسرها عبد الناصر في نفسه).
وأمام هذه الثورة الشعبية العارمة وفي ميدان عابدين استجاب عبد الناصر لهذه الصيحات لإنقاذ الموقف (تكتيكيا) وتفاديا لثورة محققة –فأعاد إلى رئاسة الجمهورية محمد نجيب وأفرج عن الإخوان المسلمون مدنيين وعسكريين (ما عدا أربعة من المساعدين كنت أحدهم) وقام هو والصاغ صلاح سالم بزيارة شخصية لفضيلة المرشد العام في منزله بالروضة بالقاهرة مسلما ومعتذرا –وفتح المركز العام ليستقبل آلاف الإخوان من كل الأقاليم مهنئين ومؤيدين.
الصاغ حمزة البسيوني:
في إبريل 1954 نقلت مع زملائي المساعدين من سجن الأجانب إلى السجن الحربي بالعباسية وفوجئنا بعد أيام بالصاغ حمزة البسيوني يتسلم إدارة السجن الحربي –وفور استلامه بدأ في عمل تغييرات هامة في نظام الأمن حيث قام بتغيير مواقع السلاحليك وزيادة نقط الدوريات والخدمات –وإضاءة جميع الزنازين –وإضافة وإعداد بعض العنابر لتكون سجونا جديدة –كما قام بتغيير قيادات السجن وزيادة عدد صف الضباط والجنود وشدد في الضبط والربط ومنع ودقق في الزيارات الأسبوعية.
وقد كانت هذه التغييرات الشاملة ملفتة للأنظار موحية بأنه هناك تدبيرًا لمؤامرة خطرة وشيكة الوقوع لا يعلم سرها إلا الله تعالى.
وقد قمنا بواجبنا بنقل هذه الصورة بكل تفاصيلها إلى فضيلة المرشد العام عن طريق الزيارات مع تصورنا لما قد يكون.
إتفاقية الجلاء:
وبينما كان فضيلة المرشد العام في جولة لزيارة الإخوان في البلاد العربية وبدأها بسوريا في يونيو 1954 والتي استقبل فيها أعظم استقبال أصدر الإخوان بيانا يعارضون فيه بنود اتفاقية الجلاء المزمع عقدها بين الحكومة والإنجليز –كما عارض الرئيس محمد نجيب هذه الاتفاقية وامتنع عن التصديق عليها –وقد جاء في كتاب الإخوان المسلمون دراسة أكاديمية أعدها ريتشارد ميتشل –حول بيان الإخوان في معارضة الاتفاق – (بناء على هذه البواعث جميعا رفض الهضيبي الاتفاق مؤكدا أن أي رأي أو اتفاق بين مصر وحكومة أجنبية ينبغي أن يعرض على برلمان منتخب بإرادة حرة بحيث يمثل إرادة الشعب المصري، وعلى صحافة متحررة من الرقابة وتملك حرية المناقشة –وكان صدى نقد الهضيبي الصريح للنقاط الأساسية للاتفاق في القاهرة مروعا وزاد الأمر سوءا ذلك البيان المطول والأكثر تفصيلا –الذي ينقد المعاهدة والذي تضمنه خطاب موجه إلى عبد الناصر بتاريخ 2 أغسطس وموقع من خميس حميدة وكيل الجماعة.
عودة المرشد العام :
وفي مساء 22 أغسطس 1954 عاد الأستاذ المرشد العام فاستقبل استقبالا حماسيا ي طريقه من المطار إلى دار المركز العام للإخوان المسلمون بالحلمية الجديدة وهناك أخذ يتحدث للإخوان عن تفاصيل رحلته إلى البلاد العربية –وأخذ يفند قصة اتصال الإخوان بالإنجليز في المحادثات التي تمت مع (ترينور إيفانز) ممثل السفارة البريطانية –وقرر فضيلة المرشد أن هذه الاتصالات تمت بموافقة ورغبة الحكومة المصرية وتحت علم وسمع وبصر جمال عبد الناصر وأن هذه المباحثات بلغت بحرص وأمانة للمسئولين ولكن الحكومة استغلت هذه المحادثات فألبست الحق ثوب الباطل لتبرر به ضرب الإخوان المسلمون مستعينة بعدم معرفة الشعب بحقيقة الأمر بحرمان الإخوان من حق الدفاع عن أنفسهم ولكن دولة الباطل ساعة ودولة الحق إلى قيام الساعة. والإخوان المسلمون والحم لله لهم مبادئ ربانية تعصمهم من الانحراف فضلا عن خيانة الأمانة.
ثم تناول الأستاذ المرشد موضوع توقف الجريدة الأسبوعية عن الصدور بعد العدد الثاني عشر فقال:
الرقابة الصارمة تجعل عملية إصدار الجريدة متعذرة للغاية وغير مجدية عمليا.
وختم فضيلته حديثه بعبارات هادئة تركت أثرا عميقا في نفوس الإخوان المجتمعين حول استعداده لما سوف يحدث أيا كان وتمسكه بأحد شعارات الجماعة (الموت في سبيل الله أسمى أمانينا).
محاولة الرئيس عبد الناصر القضاء على الهضيبي :
كان الأستاذ المرشد العام حسن الهضيبي هو الصخرة الصلبة التي تحطمت عليها آمال عبد الناصر في التسلل للسيطرة على قيادة جماعة الإخوان وتطويعهم وفق سياسته ثم تذويبهم في تنظيماته –ولكن حسن الهضيبي كان يعي هذه الحقيقة بكل أبعادها وأهدافها منذ اليوم الأول فقد رفض انضمام الإخوان لهيئة التحرير وما بعدها وقال إن دعوة الإخوان دعوة إسلامية عالمية ولا يمكن أن تذوب في حركة 23يوليو وحذر الإخوان من مستقبل هذه الحركة على دعوة الإخوان –وكان يتعامل مع حركة 23يوليو وفق منهج الإخوان المسلمون ومبادئهم وتصوراتهم دون أن يفرط أو يلين مستعليا بإيمانه وعقيدته على كل المخاطر.
لهذا عمل عبد الناصر بكل الأساليب كي يزيل هذا الرجل من طريقه فقد بذل جهودا مكثفة كي يتخلص منه، فأجرى اتصالات سرية أثناء ووسط الاستعدادات... الأخيرة والحماسة لإنهاء المفاوضات المصرية الإنجليزية, بكل خصوم الهضيبي وأيضا بالمحايدين الذين اهتم بهام اهتماما خاصا في محاولة لاقناعهم بحماقة الإبقاء الهضيبي وقد أثمرت هذه الاتصالات في قيام تمرد في بعض شباب الإخوان –حيث اعتصموا بدار المركز العام، وذهب بعضهم إلى منزل الأستاذ المرشد يطالبونه بالاستقالة ولكن الأستاذ الهضيبي قابلهم ورفض هذا المنطق المنافي لأخلاقيات الجماعة ونظمها الشرعية واعتبر هذا الأسلوب خروجا على مبادئ الجماعة –وشكل لجمة لمحاكمتهم وصدر قرار بفصل الذين تزعموا هذه الفتنة من جماعة الإخوان المسلمون.
وفشلت مؤامرة عبد الناصر ضد حسن الهضيبي –وترتب على ذلك صحوة الإخوان وتمسكهم بقيادة الأستاذ المرشد العام مما ترتب عليه دعوة الهيئة التأسيسية للاجتماع.
اجتماع الهيئة التأسيسية :
وفي 23 سبتمبر 1954 دعيت الهيئة التأسيسية للانعقاد بدار المركز العام للإخوان المسلمون وبعد مناقشات جادة وطويلة أصدرت الهيئة التأسيسية أخطر قرار لها:
1- بانتخاب مرشد عام الجماعة مدى الحياة وهو رفض صريح لمحاولة تحديد مدته بثلاث سنوات.
2- حل الهيئة التأسيسية والإعداد لانتخابات جديدة.
تعليق جريدة النيويورك تايمز :
على أن الحكومة التي عانت نوعا من الهزيمة في ذلك الحين أو هكذا كان التقدير للموقف في القاهرة –حتى أن مراسل النيويورك تايمز لخص الموقف بقوله إن الإخوان تحدوا ناصر بتأييدهم للهضيبي زعيما مدى الحياة.
التحرش بشباب الإخوان :
وفي هذه الفترة بدأ البوليس محاصرة المساجد والقبض على الخطباء كما قبض على الأستاذ محمد عاكف والأستاذ سيد الريس –كذا تم القبض على مجموعة من العسكريين بمختلف وحدات الجيش –وأودعهم السجن الحربي بالعباسية وبهذا بدأت الدولة أسلوب التحرش بالشباب من الإخوان في كل مكان لاستفزازهم ولكن الإخوان كانوا حريصين على التزام الهدوء حتى لا يعطوا الفرصة لأعدائهم.
التوقيع النهائي على الاتفاقية :
وفي يوم 19 من أكتوبر 1954تم التوقيع النهائي على الاتفاقية بين مصر وبريطانيا وبعد التوقيع يكون جمال عبد الناصر قد تفرغ لضرب الإخوان –بعد أن أمن ظهره بهذه الاتفاقية من احتمال تدخل القوات البريطانية في حالة قيام أية حركة ثورية داخل البلاد –وفي حالة ضرب لجماعة الإخوان عقب توقيع الاتفاقية التي تلاقي معارضة شديدة من جميع طبقات الشعب –عمل تكتيكي يشغل به جماهير الشعب عن معارضة الاتفاقية والتصدي للحكومة.
وما تخفي صدورهم أكبر :
كان لزاما بعد هذه المحاولات اليائسة من جمال عبد الناصر لضرب الإخوان المسلمون من داخلهم –أن يلجأ إلى آخر سهم في سياسته الماكرة والمخادعة –كان لزاما أن يلجأ إلى الأسلوب الذي يعتنقه وهو أسلوب القوة والإرهاب أسلوب الديكتاتورية العسكرية أو البطش الثوري، من هنا فكر عبد الناصر وقد فقتل كيف قدر –فكرفي أن يتغذى بالإخوان، فرسمت لهم مؤامرة تحيط بهم من كل جانب –مؤامرة عسكرية تعتمد على عنصري المباغتة والخيانة حتى تشل حركتهم في كل مكان وأعد لكل شيء عدته فهو الحاكم المطلق بيده كل السلطات في الوقت الذي لا يفكر الإخوان فيه لعمل عدائي مسلح ضد الدولة كما وضح ذلك في اجتماع الهيئة التأسيسية الأخيرة في اتخاذ قرار بعمل انتخابات لاختيار هيئة تأسيسية جديدة وكما جاء في كتاب الأستاذ/ حسن العشماوي (الإخوان والثورة) وهي الكلمات الأخيرة قبل حادث المنشية بأيام، من الإنصاف اليوم أن أقول أن أحدا من أعضاء المكتب أو من الإخوان المسؤلين عن التنفيذ لم يقترح القيام بعمل فردي عنيف حتى أن اللجوء والإجراء العنيف الوحيد الذي عرضه أحدهم هو اختطاف بعض رجال البوليس الحربي والمباحث العامة وأخذهم كرهائن مقابل من اعتقل من الإخوان ... فهذا الإجراء يشل حركة الدولة ويسقط هيبتها ويجعل زملائنا الرهائن أكرم معاملة للمعتقلين منا وأكثر تحرزا في تنفيذ أوامر القبض بالجملة وقد أقر هذا الإجراء أول الأمر وأعدت له وسائل تنفذه ثم أرجي بعض الوقت ثم منع دوران عجلة الحوادث بعد ذلك العودة إليه.
ولعل أوضح ما عرض في تلك الأيام من آراء رأى بالقيام باعتصام سلمي يضم الإخوان وغيرهم من أفراد الشعب ومن رجال السياسة معهم من نسائهم وأطفالهم من يشأ يرابطون جميعا أمام قصر الجمهورية (قصر عابدين) حتى تنزل الحكومة عند رأيهم أو يبيدهم بالرصاص وعندئذ سيعلم الناس ويعلم العالم أجمعين حقيقة الحكم في مصر وإن كان المؤكد أن الجيش سيعصي أمر إطلاق النار على قوم عزل مسالمين وعصيان الجيش أول مراحل الثورة الشعبية الموفقة وبهذا ستنطلق الشرارة التي تحرق النظام القائم ... وبرغم ما بدا على صاحب هذا الاقتراح من حماسة في عرض فكرته التي فكر فيها طويلا فإن حماسه لم يلق من أغلبية زملائه آذانا صاغية.
وقد جاء أيضا في نفس الكتاب (الإخوان والثورة) للأستاذ حسن العشماوي:
(وقد قلت اجتماعات الأستاذ حسن الهضيبي بالأعضاء إلى حد بعيد أثناء إقامتنا بالإسكندرية ولكنها لم تنقطع فقد تم عدد من الاجتماعيات مع بعض الأفراد كل على حدة وفي هذه الأثناء أقرت الهيئة التأسيسية القانون الجديد للإخوان فأنهت أعمالها ودعت إلى انتخابات جديدة في الجماعة وأجريت الانتخابات وأبلغت لنا نتيجتها في الإسكندرية يوم السبت 23 أكتوبر 1954 وحدد يوم الخميس التالي 29أكتوبر لانعقاد الهيئة التأسيسية الجديدة التي سيحضرها الأستاذ الهضيبي شخصيا على أن تخرج الهيئة بعد الاجتماع ومع أفارد الجماعة –في مظاهرة سلمية يحميها بعض الأفراد المسلحين. ويسير في المظاهرة بعض كبار الساسة في الأمة وكنا على اتفاق معهم في ذلك وكان المفروض أن هذه المظاهرة بما يجمعها ويحميها من الأفراد المسلحين ستكون نقطة الانطلاق تسعى لإسقاط الدكتاتورية العسكرية لتسليم مقاليد الحكم مؤقتة تجري إنتخابات عامة.... وكان كل منا يعرف دوره في المظاهرة ولكن الأحداث سبقت هذا التقدير الذي رسمناه.
وصف الحادث عن مجلة التايم الأمريكية
في محاولة لحشد التأييد لتسوية قضية السويس، واجه رئيس وزراء مصر القوي الصغير السن، جمال عبد الناصر، ربع مليون شخص في ميدان المنشية بالإسكندرية في الأسبوع الماضي وفي الموقع نفسه، قال بطريقة درامية مثلما حدث عندما كان تلميذ عام 1930 واشترك لأول مرة في مظاهرة عادية للبريطانيين ورأى السلطان تطلق النار على زملائه المصريين «ولكنني حي» «أشارك في تحرير بلدي».
إطلاق نار في الميدان :
قام رجل مستدير الوجه أشعث الشعر من مسافة 40 قدما ووجه مسدسا على ناصر وبدأ بإطلاق النار بعناية ودوت ثماني طلقات وتردد صداها في جميع أنحاء مصر عبر الراديو وتحطم مصباح زجاجي فوق الرؤوس، وتناثرت قطع الزجاج –ظهرت بقعة سوداء على الجانب الأيسر من صدر بدلة عب الناصر بما يشبه الدم –بينما ظل ناصر واقفا يدفع جانبا الأيدي الصديقة التي حاولت جذبه لأسف بعيدا عن الخطر. بعدها خطا إلى الميكروفون وقال بصوت أجش وضاح بحماسة وارتجاف... أيها الأحرار ليبقى كل منكم في مكانه ومن خلال أحاديث الرعب المنبعثة من حوله رفع صوته عاليا «دمي فداؤكم، حياتي فداؤكم، وألقت الجماهير في صخب القبض على الشخص الذي يشك في أن يكون القاتل وأوسعوه ضربا ولكما.
وبعد ساعة جلس عبد الناصر بدون أي ضرر في نادي المحامين بالإسكندرية يحتسي شراب الليمون –وظهر أن البقعة التي كانت على سترته ليست دمًا وإنما هي نتيجة رشح قلم الحبر وقد وضع مطلق الرصاص في الحبس واعترف بإقناع من البوليس بأنه محمود عبد اللطيف السمكري الذي يعمل بالقاهرة, وعمره 32سنة وعضو بالإخوان المسلمون منذ عام 1938 (؟) وقبل شهرين اختارته مجموعة سرية من الإخوان لقتل ناصر.
وكان اعترافه هو كل ما ينتظره النظام، فأخيرًا أصبحت الشرطة حرة في تعقب الإخوان المسلمون آخر أشكال المعارضة القانونية في مصر.
إحراق المركز العام:
في القاهرة اندفعت الحشود عبر الشوارع الضيقة إلى المركز العام للإخوان حيث أشعلوا فيها النار، ومع الوقت وصل رجال الإطفاء وشقوا طريقهم عبر الحشود لقد أصبح مركز الإخوان الذي كان في وقت ما مركز الإخوان الذي كان في وقت ما مركز حكومة مصر السرية التي أقامت وأسقطت بل وقتلت رؤساء وزراء –أصبح خرابا منزوع الأحشاء، وبعد أربعة أيام ألقي البوليس القبض على المرشد العام للإخوان حسن الهضيبي، وحتى إطلاق النار، لم تكن الجماهير قد أعطت جمال عبد الناصر العاطفة التي أعطتها لسلفه مدخن الغليون محمد نجيب.
والآن مع مرور قطار ناصر عبر مدن الدلتا عائدا إلى القاهر, احتشدت جماهير غافرة عفويا لتحيته، وفي محطة سكة حديد القاهرة احتشد مائة ألف شخص خلف خطوط الشرطة هاتفين (الله يبارك في جمال) وقد احتاج ناصر إلى ساعتين ليصل إلى مكتبه بعد أن احتجزه المعجبون الذين يريدون عناقه –بينما كان يأخذ عشرة دقائق في الأحوال العادية من قبل.
إن ثمان طلقات طائشة في خدمته جيدا.
وصف الحادث بقلم الدكتور عبد العظيم رمضان
قبل إطلاق الرصاص :
في تمام الساعة السابعة وخمس وخمسين دقيقة من مساء يوم الثلاثاء 26 أكتوبر 1954، كان جمال عبد الناصر يقف خطيبا في حفل أقيم بميدان المنشية بالإسكندرية بمناسبة توقيع اتفاقية الجلاء مع بريطانيا ولم تكن قد مضت دقائق قليلة على بدء خطابه، وكان يتحدث عن ذكريات اشتراكه في العمل الوطني، ووصل إلى فقرة يقول فيها:-
«بدأت كفاحي في هذا الميدان في الإسكندرية، وكنت شابا صغيرًا في عام 1930 حين بدأت لأول مرة أهتف مع إخواني أبناء الشعب للحرية، واليوم أشكر الله، فقد أثمر كفاح أبائكم وأجدادكم وجميع الشهداء الذين استشهدوا في هذا السبيل.
وفي هذه اللحظة بالذات دوت ثماني رصاصات متتالية أطلقها محمود عبد اللطيف العضو في التنظيم السري لجماعة الإخوان المسلمون بكارثة فظيعة لم يشهد لها تاريخ الحياة السياسة في مصر مثيلا. كان شعور جماهير الإسكندرية عند إلقاء عبدالناصر خطابه معبأ ضد اتفاقية الجلاء مع بريطانيا، التي عارضتها كل القوى السياسية في مصر، وضد عبدالناصر الذي وقعها، وضد نظام الحكم الاستبدادي الذي أرساه، وعندما أقيم سرادق الاحتفال من ميدان المنشية، احتلته جماهير الإسكندرية وأخذت هتافاتها تتعالى بالحرية وسقوط الظلم مما اضطر السلطات إلى إخلاء السرادق من هذه الجماهير في الخامسة مساء، وإعادة ملئه جديد بجماهير مأجورة تتكون من عشرة آلاف من عمال مديرية التحرير الموالية، وكانت هذه الجماهير هي التي تسرب محمود عبد اللطيف من بينها ليجلس في الصفوف الأمامية على بعد عشرين مترا من منصة الخطباء والضيوف وأطلق منها الرصاص على جمال عبد الناصر.
على أن جمال عبد الناصر لم يسقط أصيب المحامي أحمد بدر، الذي كان يقف على بعد ربع متر إلى جوار عبد الناصر، برصاص محمود عبد اللطيف، بالرصاص. وساد هرج ومرج شديدان، ولكن عبدالناصر كان صامدا، فقد طلب إلى الجماهير القبض على الجاني فأمسكته... وأوسعته ضربا شديدا، بينما كان عبدالناصر يطالب الجماهير بالثبات في مواقعها بعبارات متهدجة من فرط التأثر. أعلن فيها أن دمه فداء لمصر وأن حياة مصر لن تكون معلقة بكفاح عبد الناصر بل هي متعلقة بكفاح شعب مصر.
حملة اعتقالات :
وقد جرت في أعقاب ذلك أكبر حملة اعتقال للإخوان المسلمون شهدتها مصر، حتى وصل الأمر إلى حد إعطاء المعتقلين بطاقات يسجلون فيها أسماءهم وعناوينهم لتدون في كشوف. وقد وصل عدد المعتقلين إلى 2943 معتقلا.
وقد بدأ الأمر بالاعتقال هنداوي دوير، رئي محمود عبد اللطيف في التنظيم السري, والذي سلم نفسه لبوليس إمبابة في اليوم التالي مباشرة للاعتداء، وفي يوم 30 أكتوبر قبض على الهضيبي في الإسكندرية, بعد أن عثر على عنوانه عن طريق ورقة بها بها أرقام تليفونات عثر عليها مع صلاح شادي ، الضابط الإخواني الذي قبض عليه في الإسكندرية وكان بها رقم تليفون المنزل الذي يقيم فيه الهضيبي كذلك قبض على محمد نصيري وسعد حجاج .
وفي يوم 6 نوفمبر أعلنت الحكومة في الصحف عن طلب القبض على يوسف طلعت ، رئيس التنظيم السري، وحسن العشماوي وإبراهيم الطيب وعبد المنعم عبد الرؤوف ، وفي نفس اليوم سقط في يد السلطة كل من عبدالقادر عودة ، وصالح أبو رقيق ، ومنير دلة ، وكمال خليفة، ومحمد فرغلي ، وحسن كمال الدين ، وفي اليوم التالي تم اعتقال الجهاز السري في الإسكندرية وفي 11نوفمبر ألقي القبض على محمد خميس حميدة , وكيل الجماعة وبعد أربعة أيام أي في 15 نوفمبر سقط يوسف طلعت في يد البوليس وكانت الحكومة قد رصدت مكافأة للقبض عليه قدرها 2000 جنيه، وهو مبلغ ضخم بمعيار ذلك الوقت.
وبعد ثلاثة أيام أخرى، أي في 18 نوفمبر ألقي القبض على عمر التلمساني وسيد قطب والضابط الإخواني عباس أبو كرم، كما ألقي القبض على خمسة عشر آخرين، وفي يوم 19 نوفمبر ألقي القبض على صالح عشماوي، وفهمي أبو غدير ، ولكن تم الإفراج عنهما بأمر المباحث العامة. وتسابقت أنباء القبض على الخلايا في الوجهين البحري والقبلي ومحافظات القطر.
وفي 22 نوفمبر نشرت الصحف أسماء المعتقلين من أعضاء مكتب الإرشاد وهم: محمد خميس حميدة وكمال خليفة وعبد القادر عودة ومنير دلة وصالح أبو رقيق وحسن كمال الدين ومحمد فرغلي ومحمد حامد أبو النصر وعبد العزيز عطية وأحمد شريت وكان قد تم القبض في اليوم السابق على طاهر الخشاب وبعد خمسة أيام أي في 27 نوفمبر نشر البكباشي زكريا محي الدين، بيانًا في الصحف ذكر أنه اعتقال 70 بالمائة من أعضاء الجهاز السري البالغ عددهم سبعمائة.
حالة مقاومة واحدة :
ومن الغريب أنه في كل هذه الاعتقالات التي تمت لأفراد الجهاز السري، لم تحدث مقاومة إلا في حالة واحدة وقعت يوم 14 نوفمبر بين قوات البوليس وبين ثلث من الإخوان هم: عبد العزيز العراقي وأحمد حسين ومحمد شاكر خليل وقد قتل الأولان في المعركة التي دارت بالمدافع الرشاشة, وأصيب الثالث إصابات جسيمة شفي منها وقدم للمحاكمة.
وقد أثارت محاولة الاغتيال كثيرا من العطف على عبد الناصر الذي كان في ذلك الحين مدانا من القوى الوطنية الديمقراطية والتقدمية, وقد خطب الشيخ أحمد حسن الباقوري بنددد تنديدا قويا بالحادث في خطاب ألقاه في نفس اليوم، أشاد فيه بعبد الناصر وذكر أنه خلص البلاد من العار وأخذ من الأغنياء وأعطى الفقراء بقانون الإصلاح الزراعي «فما ذنب جمال لكي يلقي هذا الجزاء». إن ذلك يذكرني بقول الشاعر:
أريد حياته ويريد قتلي
- وعذيرك من خليلك من مراد
ولكن عبد الناصر لم يلبث أن فقد العطف الذي كسبه بالحادث سريعا، ففي اليوم التالي وجهت السلطة مظاهرة لحرق المركز العام للإخوان المسمون بالحلمية, وقد أعادت هذه المظاهرة إلى الإخوان ما فقدوه من عطف بحادث الاعتداء لأنها ذكرت المصريين بالانتهاكات السابقة التي ارتكبتا الثورة ضد الحريات وجاءت حملات المطاردة والاعتقالات لتثير الخوف والفزع في النفوس، فقد كانت جماعة الإخوان المسلمون جماعة واسعة الانتشار بين الشباب ولم تكن تخلو أسرة مصرية تقريبا من شاب من أبنائها ينتمي إلى الجماعة انتماء بتفاوت بين الانضمام الكامل والتعاطف عن طريق التبرعات وحضور اللقاءات وقد عاشت هذه الأسر حالة ذعر لأن الاعتقالات لم تفرق بي متبرع عابر سجل اسمه في كشف التبرعات، وبين عضو ملتزم أصيل.
تشكيل محكمة مخصوصة :
وقد جاءت المحاكمات لتضيف إلى عنصر الرهبة والخوف، ففي أول نوفمبر أصدر مجلس قيادة الثورة أمرا بتشكيل محكمة مخصوصة برئاسة قائد الجناح جمال سالم، ونائب مجلس الوزراء وعضوية كل من القائمقام أنور السادات، وزير الدولة والسكرتير العام للمؤتمر الإسلامي ومدير عام دار التحرير والبكباشي محمد التابعي والبكباشي إبراهيم سامي جاد الحق، والبكباشي سيد جاد وهم نواب أحكام والأستاذ عبد الرحمن صالح، عضو النيابة، وقد تولى هذا المكتب التحقيق ورفع الدعوى والادعاء بالمجلس والأمر بالقبض على المتهمين وحبسهم احتياطيا، وقد نص في القرار أيضا على عدم جواز المعارضة في هيئة المحكمة أو أحد أعضائها، وأمر مجلس قيادة الثورة بأن يلحق بالمكتب كل من مصطفى الهلباوي، رئيس نيابة أمن الدولة الذي تولى الادعاء أمام محكمة الثورة وعلى نور الدين وكيل أول نيابة أمن الدولة.
وفي 28 نوفمبر تألفت ثلاث دوائر فرعية لهذه المحكمة التي أطلق عليها ابتداء من 6نوفمبر اسم «محكمة الشعب» فكانت رابع محكمة من هذا النوع تشكلها الثورة بعد المجالس العسكرية، ومحكمة الغدر، ومحكمة الثورة، وقد تألف الدائرة الأولى برئاسة اللواء صلاح حتاتة، والثاني برئاسة القائمقام حسين محفوظ ندا، والثالثة برئاسة قائد الجناح عبد الرحمن شحاتة عنان، وقد عقدت جلسات هذه الدوائر الثلاث في مبنى الكلية الحربية بينما عقدت جلسات محكمة الشعب الرئيسية بمبنى قيادة الثورة بالجزيرة.
وقد عقدت أول جلسة لمحكمة الشعب صباح يوم الثلاثاء 9نوفمبر 1954 أي بعد أسبوعين تماما من حادث الاعتداء واستمرت إلى يوم 2ديسمبر 1954 لتستأنف المحاكم الفرعية مهمتها ابتداء من 5 ديسمبر وقد حوكم أمام محكمة الشعب الرئيسية برئاسة جمال سالم كبار أعضاء الجماعة والتنظيم السري, وهم: - بالإضافة إلى محمود عبد اللطيف: - حسن الهضيبي، المرشد العام ويوسف طلعت ، رئيس التنظيم السري وهنداوي دوير رئيس منطقة إمبابة في التنظيم السري وإبراهيم رئيس مناطق القاهرة ومحمد خميس حميدة نائب المرشد والشيخ محمد فرغلي عضو مكتب الإرشاد، وعبد القادر عودة ، وكيل الجماعة، والدكتور حسين كمال الدين ، وكمال خليفة ، ومنير دلة ، وصالح أبو رقيق ومحمد حامد أبو النصر، والشيخ أحمد شريت ، وعمر التلمساني ، وعبد العزيز عطية , وعبد الرحمن البنا، والبهي الخولي وعبد المعز عبد الستار ، وكان الثلاثة الأخيرون مفرجا عنهم.
أحكام بالجملة:
وفيما عدا محاكمة محمود عبد اللطيف ، التي استمعت فيها المحكمة إلى كثير من الشهود من أعضاء الجهاز السري وقيادات الإخوان السياسية واستمرت بالتالي وقتا طويلا، إذ استمرت إلى يوم 20 نوفمبر –فإن بقية المحاكمات لم تستغرق وقتا يذكر، فلم تستغرق قضية الهضيبي سوى ثلاثة أيام، وانتهت في 25 نوفمبر واستغرقت محاكمة يوسف طلعت يوما، هو يوم 27نوفمبر ،وفي يوم 29 نظرت قضيتا كل من هنداوي دوير وإبراهيم الطيب وفي يوم 30 نوفمبر نظرت خمس قضايا لكل محمد خميس حميدة ومحمد فرغلي وعبد القادر عودة وحسين كمال الدين وكمال خليفة كما نظرت قضايا منير دلة وصالح أبو رقيق ومحمد حامد أبو النصر وأحمد شريت وعمر التلمساني وعبد العزيز عطية في يوم واحد، وهذا كله بين صورية المحاكمة، ومدى الضمانات التي كان يتمتع بها المتهمون لقد كانت جلسات للتشهير لا للحكم والقضاء والفص كما يحدث في المحاكمات الحقيقية.
وكان الأمر في الدوائر الفرعية لمحكمة الشعب من المهازل الكبرى نظرا للأعداد الضخمة من قضايا المتهمين التي كانت تنظرها كل منها في اليوم الواحد، وعلى سبيل المثال، ففي يوم 9 ديسمبر نظرت قضايا 28 متهما وفي 11ديسمبر نظرت 19 قضية وفي يوم 18 ديسمبر نظرت 40 قضية, وفي 21منه نظرت قضايا 48 متهما وفي 28 نظرت 42 قضية وفي 9 فبراير أعلنت الصحف عن محاكمة 69إرهابيا (كما كانت تطلق على المتهمين) أمام الدائرة الثالثة وحدها مائة وستة وعشرون متهما في مدى شهر ونصف فقط، أدين منهم مائة وسبعة وبرئ تسعة عشر، وقد حكمت هذه الدوائر بأحكام كثيرة بالإعدام والمؤبد والأشغال الشاقة لمدد متفاوتة، ولكن أحكام الإعداد خففت إلى المؤبد وكان من بين المحكوم عليهم بالإعدام أمام هذه الدوائر صلاح شادي، والذي كان الوحيد بين المتهمين الذي حوكم في جلسة سرية ثم خفف الحكم عليه، كما حوكم كل من عبد المنعم عبد الرؤوف وأبو المكارم عبد الحي، وحكم عليهم بالإعدام رميا بالرصاص.
جمال سالم –الخطأ الكبير :
وقد كان اختيار جمال سالم لرئاسة محكمة الشعب، من أسوأ الأخطاء التي ارتكبها عبد الناصر في حياته السياسية, فلا يوجد في تاريخ القضاء العسكري في مصر رئيس محكمة هبط بمستوى المحاكمات إلى مثل ذلك الدرك الأسفل، ولم تسمع قاعات المحاكم في مصر ما سمعته من العبارات النابية والتهجم على المتهمين والسخرية منهم وإرهابهم والدخول في «قافيات» معهم، كما سمعت من جمال سالم، ولقد أتم الإخوان المسلمون جمال سالم بأنه كان الخصم والحكم، وأطلقوا عبارة «خصومنا قضاتنا» ولكن الدراسة المتأنية لنصوص المحاكمات وما صدر عن جمال سالم تثبت أنه لم يلعب سوى دور الخصم، ولم يلعب أبدا دور الحكم.
على كل حال، فقد بلغ عدد الذين حكمت عليهم محاكمة الشعب 867 وعدد الذين حكمت عليهم المحاكمة العسكرية 524، وصدر الحكم بإعدام عبد اللطيف ومعه ستة من كبار قادة الإخوان وهم: عبد القادر عودة, ومحمد فرغلي ، ويوسف طلعت ، وإبراهيم الطيب وهنداوي دوير وحسن الهضيبي وقد نفذ الحكم،
في الستة الأولين واستبدل به الأشغال الشاقة المؤبدة لحسن الهضيبي، كما حكم على سبعة آخرين من كبار الإخوان بالأشغال الشاقة المؤبدة هم: -محمد خميس حميدة , وصالح أبو رقيق ، ومنير دلة ، والدكتور حسين كمال الدين ، ومحمد كمال الأشغال الشاقة لمدة 15 سنة وعلى كل من عمر التلمساني وأحمد شريت بالسجن 15 عاما.
تمثيلية فاجرة :
وككل حدث تاريخي فادح الأثر فإن الآراء أخذت تفترق فيه، فقد أنكر الإخوان المسلمون بصفة قاطعة ارتكابهم هذا الحادث، ووصفه صالح أبو رقيق بأنه «تمثيلية فاجرة» دبرتها الحكومة لاتخاذ مزيد من الإجراءات المضادة لحرية الجماهير ولحماية نفسها، جر إليها محمود عبد اللطيف بتدبير محكم، قبر سره مع رفات هنداوي دوير وأضاف قائلا «عندنا أكثر من 12 دليلا على براءة الإخوان المسلمون من هذا الحادث المفتعل، وقد طالبت وما زلت أطالب بإعادة التحقيق في هذا الحادث الذي دبرته مراكز القوى. وقد استشهد صالح أبو رقيق بحسن التهامي، ودعاه إلى أن يجلي الحقيقة في هذا الحادث المشؤوم ويظهر الحق لعباده الله ويقول: من أطلق ثماني رصاصات في الهواء الطلق؟ وقال: «إنه ثابت من التحقيقات أن المرشد الأستاذ الهضيبي كان قد أصدر أمرا مشددا قبل حادث المنشية بنحو من شهر ليوسف طلعت ، رئيس النظام الخاص، بعدم اغتيال أحد وقال له: إني بريء من كل دم يسفك ... وما دام قائد الجماعة قد أصدر هذا الأمر، فعلى الكل السمع والطاعة، وتكون الجماعة غير مسؤولة عن أي عمل يقوم به فرد غرر به وعلى ذلك فالإخوان المسلمون أبرياء من حادث المنشية المشؤوم.
وقد قادت مجلةالدعوة التي تصدرها جماعة الإخوان المسلمون ابتداء من يوليه 1976 حملة في هذا الصدد تنكر فيها قيام الإخوان المسلمون بحادث المنشية, واستدلت بأن يوسف طلعت ، رئيس الجهاز السري، كان في منزل أحد أشقائه عند وقوع الحادث وعندما سمع به قال «عملها عبد الناثر ونجح، وغدا سيلصقها بالإخوان المسلمون» وحين أذاعت الإذاعة المصرية اسم مرتكب الحادث محمود عبد اللطيف ، سأل يوسف طلعت شقيقه: هل تعرف هذا الشخص؟ فأجابه بالنفي، وقد علق شقيقه على ذلك قائلا «لو كان الإخوان وراء الحادث، لعلم يوسف كل شيء فلقد كان رئيسا للنظام الخاص» وأوردت المجلة نقلا عن أحد المقربين ليوسف طلعت قوله: «ذهبت إلى يوم 26أكتوبر ليلا في منزل أخيه، كان يستمع إلى الراديو وسألته «ما هذا» فكان جوابه النفي والاستنكار وأكد أن الإخوان «قد التقوا من يوم نشأتهم وعلى رأسهم المرشد العام، على سياسة ليس فيها ذلك التصرف ولا مثله (!) وسوف تثبت الأيام أن الإخوان المسلمون لم يكونوا في يوم من الأيام من المتآمرين في الظلام... وقالت المجلة أن يوسف طلعت كان يعذب بين جلسات المحاكمة, ولكنه رغم التعذيب والعذاب، وقف وقفة السابقين من السلف فما وهن وما ضعف، وكانت مكافأته على جهاده وبذله وتضحياته الحكم عليه بالإعدام شنقا، وتقبلها راضيا فرحا مستبشرا.
وفي عدد آخر تحدثت «الدعوة» عن الحادث فقالت: كان عبد الناصر يبحث عن السبل التي ينفذ منها لضرب الحركات الإسلامية والقضاء على الانتفاضة الشعبية، لينفرد بالسلطة ويستحوذ على الحكم والسلطان، فظل يعمل في الخفاء للخلاص من هذا والقضاء على ذلك، حتى كانت المعاهدة بينه وبين الإنجليز، التي رأى فيها الإخوان قيودا تكبل الأمة وتنقص من حريتها، فدبر المعتقلات والسجون وشكلت لهم المحاكمة، الحكم فيها هو الخصم والقانون فيها من شرعة الغاب والمتهمون الأبرياء محرومون من حق الدفاع، والتعذيب أشكال وألوان.
وفي عدد مارس 1977، كتبت المجلة مقالا عن إبراهيم الطيب رئيس مناطق القاهرة في التنظيم السري، فوصفته بأنه «شهيد الحق والحرية» ووصفت حادث المنشية بأنه «مسرحية» دبرها عبد الناصر تدبيرا «عن طريقة الجستابو» وألصقها بالإخوان المسلمون ، وفاجأ الأبرياء.... واستشهدت بموقف إبراهيم الطيب في المحاكمة, فقالت إنه جيء به إلى محكمة جمال سالم ، مكسور الذراع مشوه الجسم ولكنه «وقف شامخا» كالطود، ثابتا كالبنيان أنكر ذاته، وقال كل شيء يريده.
وفي عدد ديسمبر 1978 وبمناسبة مرور ربع قرن على إعدام المتهمين في حادث المنشية نشرت «الدعوة» صور شهدائها عند تنفيذ حكم الإعدام، ومنهم محمود عبد اللطيف وكان هذا التنفيذ قد تم في جلسة واحدة, بمعدل رأس شهيد يسقط كل نصف ساعة، وكان محمود عبد اللطيف أول من تقدم إلى المشنقة وهو يتلو آيات القرآن الكريم، وكانت كلمات إبراهيم الطيب عند لقائه الموت: «خصومنا كانوا قضاتنا» وقال عبد القادر عودة «إن دمي سيكون لعنة على رجال الثورة» بينما طلب يوسف طلعت من الله أن يسامحه ويسامح أيضا من عذبوه وأساؤا إليه.
وتقدم محمد فرغلي إلى حبل المشنقة وهو يقول «أنا على استعداد للموت مرحبا بلقاء الله».
أصابع إسرائيل :
على أن اجتهادا خاصا لأحد الكتاب برز بعد ذلك ينسب فيه الحادث إلى المخابرات الأجنبية وخاصة المخابرات الإسرائيلية، ويرى أن الحادث أكبر من أن يكون قد تم على يد محلية, سواء من الإخوان أو من حكومة عبد الناصر وأن إسرائيل كانت موجودة في تلك الفترة بعملائها في فضيحة لافون، التي أعلن عنها يوم 6 أكتوبر ثم هجومها على غزة بعد ذلك، فهل كانت إسرائيل موجودة في دفع محمود عبد اللطيف لإطلاق الرصاص؟ ويستطرد الكاتب قائلا «بكل تأكيد لم يكن الهضيبي، ولا أي قيادة للإخوان أصدرت أمر بالاغتيال، والإخوان معروفون بالطاعة العمياء يقسمون بها لرؤسائهم، فهل كان محمود عبد اللطيف في يد خبيثة.
فأين الحقيقة في كل هذا؟
صورة وتعليق :
في يوم الأربعاء 7 ربيع الأول 1374 -3نوفمبر 1954 –أي بعد ستة أيام من حادث المنشية –طلعت علينا جريدة الجمهورية الحكومية بصورة يظهر فيها محمود عبد اللطيف يشير إليه السهم الكبير وأحد الشهود قبل إطلاق الرصاص على الرئيس جمال .
تعليق :
المتأمل لهذه الكلمات المتمعن لهذه الصورة –يجد أن السهم الكبير يشير إلى المتهم «محمود عبد اللطيف» وأن السهم الصغير يشير إلى رجل لا يفصله عن محمود عبد اللطيف إلا شخص يجلس بينهما وحول هؤلاء الثلاثة جمع غفير، فلماذا اختار المصور أو المحرر هذا الشخص بالذات كشاهد ولم يختر الرجل الملاصق للمتهم محمود عبد اللطيف فضلا عن غيره من الذين يقفون خلفه؟!
إنه أمر يدعو إلى إمعان الفكر ولا سيما أن الصحافة ذكاء ودهاء –والصورة كما هو معروف «خير» يمكن للقارئ أن يستنتج مها وألوا الفطنة والألباب ما وراء الحجاب!
إن هذه الصورة تصرح وتقول إن الشخص المشار إليه بالسهم الصغير هو الذي ضرب الرصاص الطائش وهو صاحب المسدس (البرايلوا) الذي ألقاه على الأرض وذاب تحرسه الذئاب... هذا المسدس الذي عثر عليه البواب عم آدم وذهب به إلى عبد الناصر أما محمود عبد اللطيف الذي لم يطلق رصاصة واحدة من المسدس المضبوط معه وهو (برتيا عيار 6.30) الذي يخالف نوع الأظرف الفارغة التي وجدت في المكان كما جاء في أقوال الحكومة الرسمية –فماذا بعد الحق إلا الضلال؟
إن الذين عاشوا المحن وأدخلوا السجون وتعاملوا مع المباحث والمخابرات مرات ومرات –هم وحدهم الذين يعرفون هذه الأساليب لقد جربوها وذاقوا عذابها ومرها.
إن محمود عبد اللطيف على أهون الظنون قد استدرج بكل وسائل الشياطين لحضور هذا المؤتمر وليس ذلك بالشيء الصعب فإن الحكومة التي استطاعت أن تطرد أهالي الإسكندرية من السرادق المقام بميدان المنشية لأنهم يهاجمون الاتفاقية والظلم، ثم حشر فنادى عبد الناصر بني قومه من الصعيد ليحتلوا السرادق مثل هؤلاء لا يصعب عليهم أن يحشروا محمود عبد اللطيف وفي الصفوف الأولى بالذات؟
ونحن لا نقول هذا الكلام من باب الاستدلال فقط بل إنه من باب الواقع المرير الذي عشناه ولمسناه حين يترصد رجال المخابرات الأخ وهو عائد إلى منزله أو ذاهب إلى عمله –وعلى بعد أمتار يقابلونه بلطف متزايد ويطلبون منه أن يتفضل معهم فقط لمدة ساعة لمقابلة في قسم البوليس –ولا يدري المسكين أنه ذاهب إلى جحيم السجن الحربي ليذوق العذاب الأليم. فإن عاش قيد اسمه في سجل الوافدين بعد حين –وإن مات دفنوه في جبل المقطم –وكتب أهله يسألون عنه في الصحف تحت عنوان: غائب!
ولا عجب في ذلك فإنه لا يغيب عن الأذهان كيف كان يؤتي بالمعارضين لجمال عبد الناصر من خارج مصر (مخدرين ومشحونين على الطائرات في صناديق) ويوم كشف أحد هذه الصناديق في أحد المطارات كانت فضيحة عالمية.
هذا هو سبيل المباحث والمخابرات –نحن نعرفه جيدا بل لقد تولدت عندنا حاسة تجاه كل ما تقدمة المباحث والمخابرات من قضايا –بل لقد أصبحنا نعرف بل نعيش ونحس بكل خطوات التحقيق والتعذيب مع كل منهم وأخيرا نسأل أنفينا في نهاية هذا التعليق على تلك الصورة الشاهدة ونعيد قراءة الجريدة (وأحد الشهود قبل إطلاق الرصاص على الرئيس جمال) فأين هذا الشاهد المشار إليه بالبنان والمعروف لهم بالعيان (بعد إطلاق الرصاص !!) في دولة ملغومة بالجواسيس والحراس؟ وكيف يكون شاهد قبل إطلاق الرصاص!! شاهد على ماذا!! يسألونك ومن هو –قل لكل زمان دولة ورجال –ويومئذ يكشف الستار عن أدق الأسرار وعسى أن يكون قريبا.
خطاب الرئيس جمال عبد الناصر في المنشية
أيها المواطنون... أيها المواطنون... أيها المواطنون
يا أهل الإسكندرية الأمجاد:-
أحب أن أقول لكم ونحن نحتفل اليوم بعد الجلاء... بعيد الحرية.... بعيد الاستقلال ... أحب أن أقول لكم أيها الإخوان ... أحب أن أتكلم معكم عن الماضي وعن كفاح الماضي... أحب أن أعود إلى الماضي البعيد...
أيها المواطنون ... أحب أن أتكلم معكم كلاما هادئا كفانا هتافا أيها الإخوان فقد هتفنا في الماضي... فماذا كانت النتيجة .... هل سنعود إلى التراقص مرة أخرى وإلى التهليل ... هل سنعود إلى التهريج... إني لا أريد منكم أن تقرنوا اسم جمال بهذه الطريقة... إننا إذ كنا نتكلم معكم اليوم فإنما نتكلم لنسير إلى الأمام بجد وبعزم لا تهريج ولا بهتاف ولا يريد جمال مطلقا أن تهتفوا باسمة إنما نريد أن نعمل لنبني هذا الوطن بناء حرا سليما أبيا... ولم بيني هذا الوطن في الماضي بالهتاف وإن الهتاف لجمال لن يبني هذا الوطن ولكنا يا إخواني سنتقدم وسنعمل ... سنعمل للمبادئ وسنعمل للمبادئ وسنعمل للمثل العليا.... بهذا سنبني هذا الوطن.... وأرجوكم أن تصغوا إلى وأنا إذا كنت أتكلم معكم في الاحتفال بهذه الاتفاقية وفي الاحتفال بهذا الجلاء وفي الاحتفال بهذه الحرية فإنما أريد أن أذكركم بالماضي وبكفاح الماضي... بكفاحكم أنتم وبكفاح آبائكم وبكفاح أجدادكم... أريد أن أقول لكم لقد بدأت كفاحي وأنا شاب صغير من هذا الميدان ففي سنة 1930 خرجت وأنا شاب صغير بين أبناء الإسكندرية أنادي بالحرية وأنادي بالكرامة لأول مرة في حياتي وكان هذا يا إخواني أول ما بدأت الكفاح في هذا الميدان وأنا إذ أتواجد بينكم اليوم لا أستطيع أن أعبر عن سعادتي ولا أستطيع أن أعبر عن شكري لله حينما أتواجد في هذا الميدان وأحتفل معكم أنتم يا أبناء الإسكندرية يا من كافحتم في الماضي ويا من كافح آباؤكم ويا من كافح أجدادكم ويا من استشهد إخوان لكم في الماضي ويا من استشهد أباؤكم احتفل اليوم بعيد الجلاء بعيد الحرية ... بعيد العزة... وبعيد الكرامة..
صوت ثماني طلقات متوالية :
أصوات كثيرة –صوت يقول: امسك اللي ضرب ده –فليبق كل في مكانه أيها الرجال... رددها سبعة مرات فليبق كل في مكانه أيها الأحرار.
فليبق كل في مكانه... دمي فداء لكم ... حياتي فداء لكم ... دمي فداء مصر... حياتي فداء مصر. أيها الرجال ... أيها الأحرار... أيها الرجال... أيها الأ؛رار دمي فداء لكم... حياتي فداء لكم. هذا جمال عبد الناصر يتكلم بحول الله بعد أن حاول المغرضون أن يعتدوا عليه وعلى حياته... حياتي فداء لكم ودمي فداء لكم.
أيها الرجال ... أيها الأحرار ... إن جمال عبد الناصر ملك لكم وإن حياة جمال عبد الناصر ملك لكم.
أيها الناس ... أيها الرجال... ها هو جمال عبد الناصر.. ها هو جمال عبد الناصر بينكم .... أنا لست جبانا... أنا خضت من أجلكم ومن أجل حريتكم ومن أجل عزتكم ومن أجل كرامتكم ... أيها الناس.. أيها الرجال... أيها الأحرار... أيها الأحرار... أنا جمال عبد الناصر منكم .... ولكم ... دمي منكم دمي لكم وسأعيش حتى أموت مكافحا في سبيلكم وعاملا من أجلكم من أجل حريتكم ومن أجل كرامتكم ومن أجل عزتكم...
أيها الأحرار ...أيها الرجال ... أيها الأحرار أي ... أوعى.
أيها الرجال الأحرار سبوني...
أيها الرجال فليقتلوني... فليقتلوني... فقد وضعت فيكم العزة... فليقتلوني فقد وضعت فيكم الكرامة...فليقتلوني... فقد أنبت في هذا الوطن الحرية...والعزة والكرامة من أجل مصر ومن أجل حرية مصر ومن أجلكم ومن أجل أبنائكم ومن أجل أحفادكم والسلام عليكم ورحمة الله.
ذهب ثم عاد مرة أخرى :
أيها المواطنون إذا مات جمال عبد الناصر فإنا الآن أموت وأنا مطمئن فكلكم جمال عبد الناصر، كلكم جمال عبد الناصر، كلكم جمال عبد الناصر، كلكم جمال عبد الناصر.. تدافعون عن العزة وتدافعون عن الحرية وتدافعون عن الكرامة.
أيها الرجال ...سيروا على بركة الله والله يحمي مصر وأبناء مصر ورجال مصر سيروا... تمسكوا بالمبادئ وتمسكوا بالمثل العليا لا تخافوا الموت؟ فالدنيا فانية, وإننا نعمل ونموت .. نعمل ونموت من أجلكم ومن أجل مصائركم ومن أجل حريتكم ومن أجل عزتكم أيها المصريون أيها الرجال... أيها الرجال الأعزاء الكراماء سيروا على بركة الله والله معكم ولن يخذلكم، فلن تكون حياة مصر معلقة بحياة جمال عبد الناصر ولكنها معلقه بكم أنتم وبشجاعتكم وبكفاحكم فكافحوا إذا مات جمال عبد الناصر فليكن كل منكم جمال عبد الناصر فليكن كل منكم جمال عبد الناصر متمسكا بالمبادئ ومتمسكا بالمثل العليا. أيها الرجال سيروا فإن مصر اليوم قد حصلت على عزتها وحصلت على كرامتها وحصلت على حريتها فإذا مات جمال عبد الناصر أو قتل جمال عبد الناصر فسيروا على بركة الله نحو المجد نحو العزة نحو الحرية نحو الكرامة والسلام عليكم ورحمة الله.
توقف... ذهب وعاد مرة أخرى.
أيها المواطنون...
أتكلم أنا معكم عن كفاح سنة ثلاثين وسنة ثلاثين يا إخواني، في هذا الميدان؟ في هذا الميدان وكنت أبلغ من العمر إثنى عشر عاما جئت إلى هذا الميدان وكنت طالبا في مدرسة رأس التين جئت إلى هذا الميدان أهتف بالحرية وأهتف بالكرامة وحاول الاستعمار وأعوان الاستعمار أن يعتدوا علينا وأن يقتلونا فقتل من قتل واستشهد من استشهد ومات من مات ونجا جمال عبد الناصر ليحقق لكم العزة وليحقق لكم الكرامة وليحقق لكم الحرية.
أيها المواطنون... أيها المواطنون... إذا كان جمال عبد الناصر لم يمت في سنة ثلاثين وكتب له أن يموت اليوم فإن يموت مطمئن البال مطمئن الضمير لأنه خلق فيكم العزة وخلق فيكم الكرامة وخلق فيكم الحرية.
أيها المواطنون...إنني اليوم بعد «24» عاما لقد اعتدوا على إخوان لي ولكم في هذا الميدان في سنة (30) اعتدى الاستعمار واعتدى أعوان الاستعمار ونجوت بعون الله لأحقق لكم العزة ولأحقق لكم الكرامة... واعتدوا على اليوم، اعتدت الخيانة، الخيانة التي ترجو وتطلب أن تكبلكم وتستبد بكم، وتستبد بمصائركم فإذا كنت قد نجوت اليوم فبعون الله فلأزيدنكم حرية ولأزيدنكم كرامة.
فليعلم الخون وليعلم المضللون أن جمال عبد الناصر ليس فردا في هذا الوطن فكلكم جمال عبد الناصر بعد أن شعرتم بالعزة وبعد أن شعرتم بالحرية وبعد أن مات جمال عبد الناصر باكر فأنا أموت مطمئن فق كنت منكم وأنا منكم لقد كنت أتظاهر معكم في هذا الميدان وأنا اليوم أتكلم إليكم كرئيس لكم ولكن يا إخواني دمي من دمكم وروحي من روحكم وقلبي من قلبكم ومشاعري من مشاعركم.
أيها المواطنون .... أيها المواطنون.
إذا قتلوا جمال عبد الناصر وإذا قضوا على روح جمال عبد الناصر وإذا أراقوا دماء جمال عبد الناصر فإنهم لن يقدروا على أرواحكم أنتم ولا على قلوبكم أنتم ولا على نفوسكم الأبية أنتم ولا على دمائكم الطاهرة أنتم.
أيها الأحرار..... أيها الرجال .... أيها الرجال..
لقد استشهد الخلفاء الراشدين، لقد استشهدوا جميعا في سبيل الله وإذا كان جمال عبد الناصر يقل أو يستشهد فإنا مستعد لذلك والله في سبيلكم وفي سبيل الله وفي سبيل مصر والسلام عليكم ورحمة الله. أصوات... الله معك يا جمال... عدد من المرات حماك الله يا جمال عدة مرات.
تحصين شخصية عبد الناصر
ثم لا ننسى أن عبد الناصر يعيش في حماية دولة وضعت كل إمكانياتها في سبيل تأمين حياته هو دون سائر المواطنين. وهذا أمر لا يحتاج إلى دليل ولا برهان فضلا عن أن هناك أجهزة لتأمين حياة عبد الناصر لا تخطر على بال كثير من المقربين له.
فقد جاء في كتب الدبلوماسية والميكافيلية في العلاقات العربية الأمريكية ما يلي:
تحصينات لمنزل عبد الناصر، وتجهيزات للمنزل، بما يلزم للإنذار (في حالة الهجوم عليه) وسيارة مصفحة لاستعماله الشخصي ضمانا لسلامته، وخبير أمريكي في شئون الحراسة لتنظيم حرسه الخاص والإشراف على الترتيبات اللازمة للدفاع عنه كل هذه الهدايا الشخصية التي قدمت لعبد الناصر لتأييده في موقفه من الخلافات التي قامت أو ستقوم بينه وبين زملائه من أعضاء مجلس قيادة الثورة المناصرين للواء محمد نجيب بل مساعدته في القضاء على المظاهرات التي تنظمها بعض الهيئات الشعبية كالإخوان المسلمون ولذلك أضيف إلى الهداية المطلوبة (أجهزة قوية لمقاومة المظاهرات بشرط ألا تكون ضخمة ولا ظاهرة)
هذا فضلا عن الصديري الصلب الذي يلبسه في المناسبات الخطرة.
حريق المركز العام للإخوان المسلمون
وذات ليلة...وكنا في معسكر ننصت لخطاب جمال عبد الناصر الذي ألقاه من ميدان المنشية في 26 أكتوبر 1954- عندما فوجئنا بأصوات طلقات نارية... فلم نصدق آذاننا... بل منا من تخيل أنها طلقات طائشة من معسكرنا...
وتوقفت الإذاعة لثوان –وإذا بصوت جمال عبد الناصر يعود قويا متحديا وهو يصيح «أنا فداء لمصر». وانقلب المعسكر ... وتدفق عليه الناس من بيوتهم حيث كانوا يسمعون أجهزة الراديو أو تبلغهم أصوات الميكروفونات التي ثبتناها في أرجاء الجي... وأصبح المناخ ناريا... وبدأت الهتافات للثورة وجمال عبد الناصر...
وجاء من يقول:
الإخوان المسلمون هم الذين حاولوا اغتيال الرئيس!!
وكأن الخبر كان أمرا للجماهير بأن تتحرك واندفعوا يهتفون...أحيانا لا تستطيع أن تقود الجماهير بل هي التي تقودك ووجدتهم يتجهون إلى ميدان الحلمية بالقرب من المعسكر حيث المركز العام للإخوان المسلمون.. .وفجأة رأينا ألسنة النار تتصاعد من المبنى، فقد جرى البعض إليه... وأشعلوا فيه النار انتقاما لزعيمهم جمال.
ولم نستطع وفئة عاقلة أن نوقف اندفاع الجماهير أو حتى أن نخمد النار، وجاءت سيارات الإطفاء ولكن الشعب الذي تجمع بالآلاف في الميدان مزق بالمدي خراطيم المياه، واستحال ليل الحلمية والدرب الأحمر وعابدين إلى نهار... فقد أضاءته النيران التي حرقت مركز الإخوان...
وحين أطمأنت الجماهير إلى احتراق المركز ....اتجهت إلى محطة الشكة الحديدية وهي تزأر بالهتاف لعبد الناصر ... واستقلت قطارًا إلى الإسكندرية حيث أكملت مظاهراتها المنادية بالثأر... المؤيدة للثورة ... حتى الموت!
وهدأ الموقف بعد عودة جمال عبد الناصر سليمان إلى القاهرة... وبدأت التحقيقات مع الذين أطلقوا الرصاص...
ولكن سمعت همسا يدور عني ... فقد قالوا ظلما:
- علوي هو الذي أشعل النار ... في مركز الإخوان.
- لا .. لم أشعل النار في مركز الإخوان...
أنا من الصبا كنت منهم ومعهم ...ونحن حي فيه من مآذن القاهرة الألف ثلثها على أقل تقدير . كنت بدافع الدين معجبا بهذا الشيخ الجليل: حسن البنا متلهفا على محاضراته البليغة التي يستظهر فيها من آيات القرآن ما يملأ القلب والوجدان كنت أعتبرها دروسا في الخطابة... أتفوق بها في المدرسة أيام المظاهرات لا.. لم أشعل النار في مركز الإخوان.
حادث شبرا
عقب هذا الحادث الذي فاجأ الإخوان المسلمون في ميدان المنشية بالأسكندرية, ساد الذعر والفزع الجو السياسي في مصر مما جعل أفراد جماعة الإخوان يلجأون إلى الاختفاء عن أعين رجال البوليس الذين أخذوا يتعقبونهم في كل مكان للقبض عليهم وإيداعهم المعتقلات والسجون.
واستطاع ثلاث مهم اللجوء إلى شقة بالدور الخامس بالعمارة رقم 40 بشارع فخر الدين بشبرا.
وفي صباح يوم 14 نوفمبر 1954 حاصرت قوات البوليس بقيادة القائم مقام يوسف عبد الله القفاص مفتش المباحث العامة. تلك العمارة من كل جانب، وحاولوا اقتحام الشقة العالية ولكنهم عجزوا عن ذلك، مما دعاهم إلى طلب النجدة من قوات الأمن المدرعة والمدربة على حرب المنازل ورسمت خطتها على أن تصعد قوة إلى سطح العمارة المقابلة للعمارة التي يسكنها الإخوان وتطلق عليهم قنابل مسيلة للدموع لإرغامهم على الخروج من الشقة ونقل المعركة إلى خارجها ... وقد نجحت هذه الخطة والتقي الجمعان في معركة مكشوفة ولكن شباب الإخوان استطاعوا أن يرابطوا أنفسهم بحيث يقوم أحدهم بإعداد الذخيرة ويقوم الآخران خلف مدفعين رشاشين وراحا يدافعان عن أنفسهم بقوة وشجاعة, ولكن رجال القوات المدرعة كانت تحمي نفسها بستار كثيف من النيران حين فتحوا مدافعهم الرشاشة وبنادقهم الأوتوماتيكية بوابل من الرصاص. واشتد أوار المعركة وتحول المنزل إلى قلعة حربية وواصلت قوات الأمن صعودها إلى الطابق العلوي تحت ستار كثيف من الرصاص... وسرعان ما تبين أن المقاومة قد توقفت حيث استشهد الأخوين أحمد حسين الموظف بالسكة الحديد والأخ عبد العزيز العراقي إسماعيل الكهربائي وكان هو صاحب الشقة التي بدأت منها المعركة وتم القبض على الأخ محمد شاكر خليل الطالب بالسنة الرابعة بكلية الهندسة حيث وجد في حالة إغماء أثر إصابته بطلق ناري في يده... ولم يعرف شيء عن الذين أصيبوا في هذه المعركة من رجال القوات المدرعة. وكان هذا الحادث هو الوحيد الذي اتخذ هذه الصورة من المقاومة المسلحة ضد قوات الأمن... بينما كانت هناك فرص كثيرة لمثل هذا الحادث ولكن الإخوان لم يقدموا عليها حقنا للدماء وقد ضبط الشهيد يوسف طلعت في شقته ومعه أسلحة كان يستطيع أن يدافع بها عن نفسه ولكن لم يفعل إيمانا منه بأن حادث المنشية مفتعل وأنه لم تصدر من الجماعة أوامر بالاغتيال أو استعمال السلاح.
الفصل الخامس :الحصاد المر
ساعة الصفر
كان الشعور السائد بين كافة المعتقلين في السجن الحربي بعد توقيع الاتفاقية هو ترقب الإفراج عنهم كما يحدث ذلك عادة في جميع الدول –فأخذ كل معتقل يمني نفسه بهذا الأمل- وما كان يدري كل منا ما ينتظره من أهوال يشيب لها الولدان.
ففي الساعة السابعة من مساء يوم 26 من أكتوبر 1954 أغلقت علينا الزنازين التي نعيش فيها انفراديا وأخذ كل منا يتأهب للنوم –في نفس الوقت كان المذياع ينقل إلينا خطاب جمال عبد الناصر من ميدان المنشية بالأسكندرية.
وفجأة سمعنا عدة طلقات نارية تنطلق وصوت عبد الناصر وهو يصيح بعبارات متشنجة لم منتبه لها من فرط ذهولنا لما حدث واتجاه عقولنا لمعرفة المصير؟
لم يكن في استطاعتنا أن تناقش أو نستنبط أو نعرف حقيقة ما يدور وحقيقة ما سيكون ولكن الطرقات على الجدران بدأت تتكلم بشدة وعنف تعبر عن الفزع والقلق والحيرة من المجهول.
ولم تمض ساعة واحدة على سماعنا لهذه الطلقات التي دوت في ميدان المنشة بالأسكندرية –حتى توالت دفعات من شباب الإخوان المسلمون على أبواب السجن الحربي –الذي كان مهيأً بكل وسائل الإرهاب –فلم نسمع إلا أصواتا تصرخ من شدة الضرب الذي نزل عليهم كالهول والصاعقة ففي كل ركن عصابة من الجنود الممسكة بالكرابيج وأعواد الحديد وجذوع الشجر وكل ما يقع تحت أيديهم من وسائل الضرب والتنكيل –حتى لقد هيأ لنا أن القيامة قد قامت فأرهفنا السمع إلى تلك الأصوات الخائفة المذعورة –لعلنا نكشف منهم أحدا.
واستمر الليل الطويل البهيم يستقبل عشرات بل مئات من الإخوان وكأنهم كانوا على ميعاد.
وبدأت المحنة الشريرة التي دبرت بليل أسود.
مذبحة طرة
(التصفية الجسدية للإخوان إعمالاً لتقرير مكافحة تسسييس الدين أو تديين السياسة)
حادث طره دون مقدمات ... جريمة تفوق كل وصف، ومصيبة حلت بأمتنا لا يمكن تخيلها وحدث مفجع موجع محزن مؤلم.... قل ما شئت فيه من صفات فإنك سوف تقف مشلولا أمام تصوره وتقييمه.
الصورة كالآتي... مائة وثمانون شابًا حوكموا أمام مهزلة سميت محكمة الشعب كانت التهم الموجهة إلى 90% منهم هي تمويل أسر الإخوان بعد أن فقدت عائلها ولا تملك حتى القوة الضروري.هذه هي تهم ضحايا مذبحة سجن طره...
وهؤلاء الضحايا كان يتراوح عمرهم بين الثامنة عشرة والثلاثين ... وجلهم من الطلبة الجامعيين.
المكان.. .سجن طره الرهيب... والضحايا بداخله في زنزانات في الدور الثالث. زنزانات محكمة القفل تقع بداخل عنبر يحكمه باب حديدي كبير لا ينفذ منه شيء قط ويحيط بهذا العنبر سور ضخم يرتفع عشرة أمتار على الأقل ولهذا السور باب ضخم موصد من الخارج ويقف على السور جنود من الجيش معهم أسلحة أتوماتيكية حديثة... فإذا قدر أن هربت من العنبر وهذا مستحيل فلسوف يعترضك الباب الكبير القائم في السور فإذا قدر ونفذت منه بمعجزة ولن تكون، فسيعترضك الباب الكبير القائم في السور. فإذا قدر ونفذ منه بمعجزة ولن تكون، فسيعترضك باب ضخم لا يسمح للإنسان بالدخول إلا بإذن من الضابط ويبقى بعد ذلك الباب الرابع وهو باب السجن الضخم وهو باب مركب من حديد وخشب ويقف عليه حراس من أمامه وخلفه هذا السجن يستحيل على أي إنسان أن ينفذ منه.
هذا هو المكان الذي وقعت فيه الجريمة.
الزمان الساعة الثامنة صباحًا- ا يونيو سنة 1957 :
أي مبرر يمكن أن يجده الإنسان لهؤلاء الذين اقترفوا حادث طره هروبنا من السجن؟ هذا مستحيل مائة في المائة .... التمرد......! إن قمعه في السجن معروف وهو الجلد والسجن الانفرادي... امتناع المساجين عن الخروج إلى الجبل معروف وهو الجلد والسجن الانفرادي..... امتناع المساجين عن الخروج إلى الجبل لأداء العمل الموكل إليهم هذا عقوبته الحبس الانفرادي والجلد!!! والقصة كما أذكر طرفًا منها.... لأن شهدها وفي مقدوره أن يحتفظ بقدر كبير من الذاكرة فهو إنسان غير عادي القصة كالآتي: كانت قد وقعت مشاحنات بسيطة بين بعض شبابنا وبين ضابط فظ اسمه عبد الطيف رشدي- "هذا الضابط قتل في حادث لا أذكر سببه" – وقد جوزي الذين اختلفوا مع هذا الضابط، ولكنه حمل في صدره لهؤلاء الشباب حقدًا غذاه كبرياؤه الكاذب، وضابط آخر كانت له مناوشات مع شباب الإخوان وذلك لأنه كان يفاض بين معاملة الجواسيس اليهود وبين الإخوان فلما احتج الإخوان غضب وعاقبهم وسجنهم وضابط ثالث كان همه أن يدفع عن نفسه تهمة أنه كان في يوم من الأيام من الإخوان وليس أمامه من وسيلة إلا التعذيب الإخوان والإيقاع بهم وإثارة الفتنة فيما بينهم....
وضابط رابع كان مريضًا مجروحا في كرامته يشعر بحقارة نفسه. وقد وجد الفرصة ليفرغ هذا الحقد في آخرين لكتكون له شخصيته ومكانته ...هؤلاء وغيرهم ممن لا أذكرهم الآن شاركوا في أفظع جريمة في حق الإنسانية والوطن .. والذي علمته فيما بعد أن هؤلاء جميعَا حوزوا من الله في دنياهم أسوأ الجزاء ....ويل ويل القتلة بين يدي الله.
ننتقل إلى صورة أخرى كان بالسجن جواسيس يهود وكان بعض الضباط يفضلونهم علينا في المعاملة لأسباب سرية فلما طلبنا مساواتنا بهم وأسمعنا مطلبنا هذا لخارج السجن خشي المسؤلون عن السجن على مستقبلهم فاشتد حقدهم علينا...وكان في السجن زوج ممثلة مشهورة وهو وزوجته كانا متهمين بالاتجار في المخدرات وبعد أن تم الإفراج عن الممثلة تولت رعاية زوجها فكان مدللا بالسجن وكنا نطالب أن نعامل مثل هذا السجين.... وكانت إدارة السجن تغضب من مطالبنا هذه .... وكل هذا الغضب والحقد كان يدخر في صدور هؤلاء الضباط.
ومن الحوادث المؤلمة التي سبقت المجزرة أننا في أثناء الزيارة التي كانت تتم من خلال الأسلاك الشائكة حاول بعضنا تناول مأكولات بسيطة كقطعة لحم مثلا. من خلال ثغرات ضيقة في السلك لا ينفذ منها الأصبع فاعترض الجندي المكلف بالحراسة على تصرفنا ووقعت مشادة بين الجندي وبين زملائنا ....
فثارت ثورة أحد الضباط وانتهى التحقيق في هذه الجريمة !!! بجلد بعض الإخوة وسجنهم ... في نفس الوقت كان الجنود يحملون الطعام المرسل في الخارج للجواسيس اليهودي أو لزوج الممثلة...! هذه المشاهد كانت تثير انفعالنا وتؤجج الحقد في صدور بعض الضباط من ضعاف النفوس.
وكان عبد اللطيف رشدي وهو من أشد الضباط كراهية لنا. مكلفَا بحراستنا في الجبل.... فوقر في صدور إخواننا أنه قد تدبر لهم مجزرة في الجبل يصطنع لها هذا الضباط أسبابها بأن يتهمهم بأنهم حاولوا الهرب وبالتالي يكون من حقه إطلاق النار عليهم.
ثم تكاثرت الحوادث الفردية لدرجة لم يعد هناك شك في أن الأمر لم يعد محتملا وكان لابد من اتخاذ قرار ... قرار يدافع عن الشبان عن أنفسهم ... وبعد تفكر وترو اهتدوا إلى موقف سلبي وفي نفس الوقت قانوني... وهو الامتناع عن العمل احتجاجا على تصرف إدارة السجن معنا.... هذا الموقف ليس للسجن أن يقابله بالقوة إلا بعد أن يتحقق من السبب ولما كان هذا القرار سوف يكون جماعيا ومعنى هذا أنه قد يفسر تفسيرًا خاطئا فقد قررنا أن يكون التصرف فرديَا لا إجماعيَا.... ولقد رأيت أنا ومجموعة من زملائي من الذين يعتبرون في حكم المسئولين عن الإخوان التشاور مع جميع الذين سيشتركون في الامتناع عن العمل قبل بدء الإضراب، فجلسنا معهم جلسات موسعة نحذرهم من نتيجة تصرفهم هذا ونبين لهم أن الليمان قد يتخذ موقفا متشددًا، لدرجة قد تصل إلى الجلد والإيذاء الشديد – لأننا لم نكن نتخيل أن هذا الموقف قد يصل إلى معشار ما وصل إليه ... لم نكن نتصور هذا لأنه لم يحدث نتصور هذا لأنه لم يحدث في تاريخ السجون المصرية وعلى حد علمنا في تاريخ السجون جميعًا أن يقدم سجن على ما أقدم عليه الليمان ولكننا أغفلنا شيئا واحدا وهو أن نظام الحكم القائم كان في إمكانه أن يفعل أكثر من هذا بكثير.... وما وقع في السجن الحربي سنة 1954 في اعتقادي أقسى وأغلظ من مجزرة طره وما بعدها وما قبلها في تاريخ مصر وما حدث في السجن الحربي وفي أبي زعبل سنة 1965هو شيء فوق تصور البشر. المهم أننا حذرنا إخواننا من نتيجة موقفهم ولكنهم أصروا ...فأفهمناهم أنه يس من المصلحة أن نكتب للسجن عريضة ممضاة منا كجماعة.... ولكل واحد منا أن يكتب بخط يده ما يعن له... ثم حددنا لهم مضمون الشكوى حتى لا يذهب بهم الشطط... وانتهى الجميع إلى كتابة شكاوي منفرد إلى النيابة العامة –عن طريق السجن- أعلنا فيها امتناعنا عن الخروج إلى الجبل خشية أن تتعرض حياتنا للخطر وقلنا في شكوانا أننا سوف نبق في غرفنا في انتظار التحقيق معنا وفي نفس الوقت أبدينا استعدادنا لتقبل الإجراءات القانونية التي قد يتخذها السجن ...هذا ما حدث بالضبط .... أما التفصيلات فلا تتسع لها الكتب العديدة.
نسيت وما أكثر ما نسيت .... نسيت أنني والشيخ حسن أيوب طلبنا مقابلة مدير الليمان قبل المجزرة بثلاثة أيام، ورجوناه أن يحضر إلى العنبر الذي نقيم فيه ليلتقي بزملائنا ويستمع إلى شكواهم ومتاعبهم وخاصة ما يلاقونه في الجبل .... وكان إلحاحي في طلبه شديدًَا وملفتا وبينت له أنني وأمثالي من المسئولين عن الإخوان لا قبل لنا بإقناعهم بالصبر على ما يلقونه من إيذاء... فوعدنا بزيارة المساجين ولكنه لم يفعل.
وفي اليوم المشئوم خرجنا من زنزاناتنا كالمعتاد وذهبنا فرادى إلى ضابط السجن وسلمناه الأوراق التي كتباها... ثم عدنا إلى غرفنا ننتظر تصرف الإدارة .... وجاء التصرف بعد قليل بأن أمرنا بدخول الزنزانات ثم غلقت علينا الأبواب ... ومعنى إغلاق الأبواب علينا شيئان أولها استسلامنا لنظم السجن ولوائحه. ثانيا أن بإمكان إدارة السجن تنفيذ القانون علينا وذلك لأن كل زنزانة لم يكن يتجاوز عدد السجناء فيها الأربعة ما عدا زنزانة كبيرة كانت تضم سبعة أو ثمانية أشخاص وهذا كله يعني أن إدارة السجن لو كانت حريصة على تطبيق القوانين لما استعصى عليها ذلك وما عليها إلا أن تأمر كل مجموعة أن تمثل أمامها منفردة ثم تتصرفي معها كما تشاء... ولكن الأمر جاء على خلاف ذلك ...و يبدو أن إدارة السجن كانت قد تلقت أوامر من وزارة الداخلية ... لكن ممن ؟ الله أعلم ... إلا أن المقطوع به أن التصرف الذي تم معنا وما تلاه من عدم المبالاة بما جرى وما تلاه من عدم إجراء تحقيق أو اتخاذ إجراء ضد الجناة, يقطع بأن الإجراء إنما اتخذ بنا على توجيهات من جهات عليا.. جهات عذبتنا وأعدمت العديد منا. وجت بنا في السجون وطاردت وشردت أسرنا.
استدعاني مدير السجن من زنزانتي وقال لي بخشونة: عملوها قلت له: لقدسبق أن قلت لك أن الشباب يرغبون في الاجتماع بك وإسماعك شكواهم فسكت قليلا ثم أمر بإرسالي إلى غرفة التأديب، فأوجست في نفسي خيفة وتوقعت جلدا وإيذاء واتهاما يتزعم الإضراب... ثم ألحق بي عبد الحميد الخطابي وهو شاب من الإسكندرية كان معروفًا لديهم كأحد زعماء الإخوان ... وثلاثة آخرون لا أذكرهم... ثم أحيط العنبر من جميع جوانبه بقوات لا تقل عن ثلاثمائة جندي مدججين بأسلحة نارية... وأعلنت حالة الطوارئ في السجن ثم دخل مدير السجن إلى ساحة العنبر الخارجي، وأمر السجانة باستدعاء مجموعة من إخواننا أظنهم في حدود العشرة كدفعة أولى... ثم أمر بربطهم بالحبال كالبهائم وأن يساقوا للجبل على هذه الصورة تحت حراسة مجموعة ضخمة من الجنود المعززين يالعصى الغليظة... فلما رأوا هذا المشهد الرهيب هرعوا عائدين إلى العنبر وانتزعوا المفتاح من يد لجندي وفتحوا أبواب الزنزانات كلها فخرج منها إخواننا ليواجهوا مصيرهم، إلا أنهم لم يستطيعوا أن يفعلوا شيئًا لأن باب العنبر كان موصدًا عليهم. وبالتالي لن يستطيعوا الخروج من الباب المفضي للفناء الخارجي. والأبواب التي ذكرتها علاوة على وجود قوة كبيرة من رجال الجيش كانت تتربص بهم من فوق الأسوار.
حاول مدير السجن اللواء سيد والي ويساعده إسماعيل طلعت أن يخدعوا إخواننا ليتمكنوا من اقتحام زنزاناتهم ولكن غدره السابق بزملائهم جعلهم يطلبون منه ضمانات حتى لا يكرر ما أقدم عليه.. طلبوا منه أن يقسم بشرفه العسكري على ألا يؤذيهم ويلتزم بتطبيق القانون عليهم... ولكنه رفض.. وفي الوقت الذي كان يفاوضهم فيه صعدت قوة من المسلحين إلى الدور العلوي الذي يعلو المكان الذي كان يتجمع فيه إخواننا وبدأت بإطلاق النار.. .وعلى الفور التجأ جميع الإخوان إلى زنزاناتهم وأقفلوها على أنفسهم ... اتقاء النار... وكان المفروض أن ينتهي الأمر عند هذا الحد لأن الجميع صاروا في قبضة يمينهم ... ولكن المدهش والمذهل والسر الذي لا أزال أبحث عنه، والسؤال الذي يفتقد جوابًا: ما الذي دعاهم للمضي في ضرب النار لأكثر من خمس وأربعين دقيقة!! والمذهل أكثر وأكثر أنه بعد أن توقف إطلاق النار وقتل من قتل داخل الزنزانات أمر الجنود باقتحام هذه الزنزانات وقتل البقية الباقية بالعصي الغليظة... ودارت عملية الطحن والعجن في الشبان بصورة مرعبة... ولم يرحمهم الصراخ والاستغاثة، ولم يشفع لهم استسلامهم.
بعد أن تصور المدير أن معظم الإخوان قد انتهوا وأنه سجل لنفسه انتصارًا تاريخيًا أمر رجاله بالتوقف وانتهت المعركة.. مخلفة وراءها دماء وأشلاء ومزقًا بشرية وأنينًا وهلعًا ورعبًا لا يتخيله العقل قتلى في أحضان جرحى، ومروعون بين القتلى والجرحى يحاولون إدعاء الموت حذرًا منه، وأصوات مرعبه ولعن وسب شيء مرعب ... مرعب.. ولقد عشت ساعات القتل في سجن التأديب ... عشت ساعات لا أرى الله إنسانًا مثيلا لها، يعلم الله أنني كنت أشد أذني لأتأكد من أنني ما زلت حيًا... وأهز رأسي لأتأكد أنني لم أجن... لقد خيل إلي أنني فقدت عقلي للأبد –كانت أمنيتي الوحيدة أن أقتل وأقتل على عجل.. كنت عاجزًا عن تصور ما حدث، وكنت عاجزًا عن تقدير ما أنا فيه... وكنت أضعف من أن أفكر فيما ينتظر إخواني... وأنا في روعي وانزعاجي... استدعيت لمقابلة المدير... لم أستطع أن أفكر فيما سوفي يلحق بي ... كنت فقط أتمنى ألا أعذب... أن أقتل فقط القتل فيه راحة... قبل أن أقترب من باب المدير أمروني بخلع حذائي لأدخل حافيًا على المدير فانصعت للأمر .. .ودخلت عليه ففوجئت بوجود صلاح الدسوقي الششتاوي الذي كان يعمل أركان حرب وزارة الداخلية- قال لي المدير ما معناه: أنت نفدت بعد ما عملتها. قلت له: أنا جئتك يوم الأربعاء (كان الحادث يوم السبت) السابق وطلبت منك تهدئة إخواننا ..فسكت المجرم ولم يتكلم... ثم أمرني بالانصراف ... ولعل هذه المواجهة دعته لعدم تمكيني من المثول أما النيابة للتحقيق معي أو سماع شهادتي.
ولتمسع بقية القصة إذا كان بإمكانك أن تسمعها... اعتبرت البقية الباقية من إخواننا متهمين في القضية!!.. فساقوهم إلى النيابة للتحقيق معهم... ساقوا مائة وأربعين سجينًا للتحقيق معهم... بعد أن قتل كم!! واحد وعشرون قتيلا.. وجرح كم... واحد وعشرون جريحًا ... وجن كم ... اثنا عشر.. والباقون شاء الله أن يعيشوا ليقولوا للناس كلمة...لعل فيها عبرة.
سيق هؤلاء الإخوة إلى النيابة .... للتحقيق معهم وسؤالهم لم لم يقتلوا؟ أو تجرحوا!! ولا أعرف شيئا عما قالوه... ولعله موجود في سجلات النيابة..وإن كنت أعتقد أنها تعرضت لألاعيب لتغطية الجريمة فمثلا، علمت أنهم سحبوا بعض الجثث خارج الزنزانات ليقولوا أنهم قتلوا وهم خارج زنزاناتهم ... يعني قتلوا لأنهم رفضوا دخول الزنزانات، منطق مذهل!! وعلمت أنهم طلبوا من سجين أن يشهد بأن إخواننا طلبوا منه أن يحضر لهم ديناميتًا لينسفوا السجن... ولكن السجين يأبى أن يشهد... وهذا السجين كان من المتهمين بالإغارة على المعسكرات البريطانية وسرقتها وقتل الجنود الإنجليز... كانت حرفته سرقة المعسكرات البريطانية.
إن القتلة حاولوا إيجاد أي مبرر للقتل فعجزوا ... والسبب بسيط وبسيط جدًا...
فتمرد 180 سجينًا من تعداد السجن البالغ أربعة آلاف سجين ... يمكن قمعه ولو بتركهم في عنابرهم يوما واحدا فهذا فيه الكفاية ليعلنوا استسلامهم –وذلك لأن الزنزانات ليس بها طعام أو ماء يكفي لأكثر من يوم واحد... أو يومين أو ثلاثة!! ثم يستحيل العيش بعد ذلك ويتحقق نصر الإدارة!! ولكن القتل والرغبة فيه ... والرغبة في الانتصار في معركة ترضى عنها الحكومة !! وتكافئ عليها برتب أو علاوات أو مناصب!! هذه الرغبة كافية ليتجرد هؤلاء القتلة من كل القيم... ليتجردوا من إنسانيتهم ومن رجولتهم ومن شرفهم، لقد قتلوا رجالا ما أروع رجولتهم، وما أعظم أخلاقهم.
عبد الناصر ينفذ أمنيات اليهود والأمريكان بمحاولة القضاء على الإخوان المسلمون
سؤال بسيط... نستهل به التقديم لهذه الرسالة..لماذا سجل أعداؤنا اليهود كل انتصاراتهم في نفس الوقت الذي كان فيه شباب الإسلام يرزحون تحت سياط الطغاة في السجون، وخاصة في سجون مصر؟؟؟؟
والجواب بسيط كمثل بساط السؤال....
ذلك لأن أعدائنا اليهود ما كانوا يجرؤون على دخول أية معركة إلا بعد أن يتأكدوا من أن شباب الإسلام قد حيل بينهم وبين المشاركة في المعركة.
نقول هذا، ونكاد نجزم أن أعداء الإسلام يعدون العدة لتنفيذ مؤامرة جديدة ضد الإسلام، ووطن الإسلام، وأنهم يمهدون لتنفيذ هذه المؤامرة بما يقوم به عملاؤهم في أكثر من بلد عربي من هجمات شرسة خفية ضد الحركات الإسلامية الجادة.
ولمن يسأل عن الدليل نقدم الدليل، لا، بل أكثر من دليل.
دليل من صحيفة الناس العراقية:
في عددها الصادر في 7/ 11/ 1948، نشرت صحيفة الناس العراقية الخبر التالي ننقله حرفيا:
«امتاز اليومان الماضيات ببسالة منقطعة النظير من مجاهدي الإخوان المسلمون في فلسطين، فقد استولى اليهود شمالي غربي بيت لحم بعد محاولات عديدة على جبل مرتفع يسمى (تبة اليمن) ويشرف على قرى الولجة وعين كارم والمالحة وما جاورها، وبذلك أصبح اليهود يهددون كل المناطق المحيطة بتبة اليمن, وقد رأت قيادة الجيش المصري ضرورة تطهيرها من اليهود فجندت لذلك عددا من مجاهدي الحركة الإسلامية في صور باهر، فتقدمت سرية منهم، ولم تمر ساعة واحدة حتى كانت هذه السرية قد قضت على القوة اليهودية, وغنمت أسلحتها وذخائرها، وحررت قرية العوجة، وأصبحت تسيطر على منطقة واسعة وقد أصدرت قيادة الجيش المصري أمرا بتسمية الجبل الذي تم تطهيره من اليهود باسم (تبة الإخوان المسلمون).
وقد استشهد في هذه المعركة من قادة الحركة الإسلامية الشهداء وكاوي سليم على من الزقازيق، وسعد محمد فاروق من المنصورة، وإبراهيم عبد الجواد من الفيوم، رحمهم الله رحمة واسعة.
والجدير بالذكر أن هذه المعركة جرت قبل أن تقدم الملك فاروق على ضرب قادة الحركة الإسلامي والزج بأبطالهم في السجون.
وكاتب يهوي يقول:لابد من القضاء على قادة الحركة الإسلامية
وفي عام 1965، نشر الكاتب اليهودي «إيرل برغر» كتابا بعنوان «العهد والسيف» قال فيه ما نصه بالحرف الواحد:
«إن المبدأ الذي قام عليه وجود إسرائيل منذ البداية هو أن العرب لا بد أن يبادروا ذات يوم إلى التعاون معنا، ولكن هذا التعاون لن يتحقق إلا بعد القضاء على جميع العناصر التي تغذي شعور العداء ضد إسرائيل في العالم العربي، وفي مقدمة هذه العناصر رجال الدين المتعصبين من أتباع الإخوان المسلمون».
مجلة كريستيان سينس مونيتور تقول: رجال الحركة الإسلامية محصنون ضد الفناء
في عددها الصادر في 12/ 10/ 1976 نشرت المجلة الأمريكية كريستيان سينس مونيتور مقالا جون كوني، ملأه بالدس والتحريض ضد الحركة الإسلامية في مصر، ويؤكد أن السادات مخطئ في إعطاء بعض الحرية للشعب المصري، لأن المستفيد الوحيد منها هم الحركة الإسلامية الذين انتهزوا هذه الحرية للشعب المصري، لأن المستفيد الوحيد منها هم الحركة الإسلامية الذين انتهزوا هذه الحرية ليعيدوا نشاطهم بشكل يهدد نظام السادات، ويمضي جون كوني قائلا: إن الأنظمة السابقة في مصر أحسنت صنعا بمعاملتها للإخوان المسلمون بالشدة والقسوة لأنها الطريق الوحيد للتقليل من خطرهم.
ويعترف جون كوني في مقاله أن جميع حملات البطش والإرهاب لم تستطع القضاء نهائيا على الإخوان المسلمون، ويقول في هذا الصدد أن رجال الحركة الإسلامية محصنون ضد الفناء، ولكنه يعود ليؤكد أنه لابد من استعمال الشدة والبطش معهم للتقليل من خطورتهم، ولعدم إعطائهم الفرصة ليحققوا أهدافهم.
سفير بريطانيا في دمشق يقول: الحركة الإسلامية خطر عظيم على إسرائيل
ذكر المرحوم عبد الرحمن عزام الذي كان أول أمين عام للجامعة العربية عند تأسيسها، أنه دخل في نقاش مع السفير البريطاني في دمشق حول جدية الادعاء اليهودي بأن الشيوعيين العرب المدعومين من الاتحاد السوفييتي يشكلون خطرا ضد إسرائيل ففوجي بالسفير البريطاني يؤكد له أنه لا الشيوعية العربية ولا الشيوعية العالمية ستكون في يوم من الأيام خطرا على إسرائيل وأن اليهود لا يحسبون حسابا لأي خطر كما يحسبون للخطر الذي تمثله الحركة الإسلامية ضد إسرائيل.
صحيفة صنداي تلغراف تقول: بالعنف وحد نقضي على خطر المسلمين المتطرفين... !
في عددها الصادر في 17/ 12/ 1978، وعلى الصفحة السابعة عشرة نشرت صحيفة الصنداي تلغراف البريطانية مقالا بقلم يبرغرين دورستورن، أشار فيه إلى أن الغربيين يقعون في خطأ كبير حين يظنون أن الخطر الذي يتهدد مصالحهم في الشرق الأوسط هو خطر الشيوعين، لأن الخطر الحقيقي الوحيد الذي يتهدد مصالح الغربيين وأصدقائهم في المنطقة هو خطر المسلمين المتطرفين الذين تعاظم نشاطهم بشكل مذهل رغم كل ما أوقعته بهم النظم الصديقة للغرب في المنطقة من محن وتنكيل.
ويؤكد كاتب المقال أن الأحداث الجارية في منطقة الشرق الأوسط تشير إلى أن التيار الإسلامي المتطرف أصبح متواجدًا في جميع بلدان المنطقة بدون استثناء.
ويقول الكاتب إن أكبر خطأ يرتكبه الغربيون هو عدم تفكيرهم بجدية بضرورة التدخل العسكري المباشر في المنطقة في حالة عجز الأنظمة الصديقة عن كبح جماعة المتطرفين المسلمين، ويؤكد أن شعور الغربيين بالندم وتأنيب الضمير إزاء تورطهم في الحرب الفيتنامية يجب أن لا يكون سببًا في إقناعهم بعدم استعمال القوة العسكرية ضد المتطرفين المسلمين، لأن خطر هؤلاء المتطرفين المسلمين لا يقارن بأي خطر آخر مهما كان.
وأردفت الصحيفة في تحليلها قائلة:
إن على وسائل إعلامنا أن لا تنسى حقيقة هامة، هي جزء من استراتيجية إسرائيل في حربها مع العرب هذه الحقيقة هي أننا قد نجحنا بجهودنا، وجهود أصدقائنا في إبعاد الإسلام عن معركتنا مع العرب طوال ثلاثين عاما، ويجب أن يبقى الإسلام بعيدا عن المعركة إلى الأبد، ولهذا يجب ألا نغفل لحظة واحدة عن تنفيذ خطتنا في منع استيقاظ الروح الإسلامية بأي شكل، وبأي أسلوب ولو اقتضى الأمر الاستعانة بأصدقائنا لاستعمال العنف والبطش لإخماد أية بادرة ليقظة الروح الإسلامية في المنطقة المحيطة بنا. أحد المرشحين لانتخابات الرئاسة الأمريكية يخاطب الأمريكيين قائلا...
انتخبوني لأقضي على الحركة الإسلامية :
ضمن الخطة التمهيدية لانتخابات الرئاسة الأمريكية التي أسفرت عن فوز رونالد ريغان، كان ليندون لاروش واحدًا من المرشحين الذين كانوا يتنافسون للفوز بتزكية الحزب الديمقراطي ليكون مرشح الحزب لانتخابات الرئاسة.
وقد نشر لنيدون لاروش في معظم المجلات والصحف الأمريكية بتاريخ 9/11/1979 إعلانا كان عنوانه: «فلنطارد الإخوان المسلمون بدون رحمة»
وطلب ليندون لاروش في إعلانه من الحكومة الأمريكية إصدار إعلان رسمي باعتبار رجال الحركة الإسلامية خارجين عن القانون الدولي، ووعد الناخبين بأنه سيقوم في حالة نجاحه ووصوله إلى رئاسة الجمهورية الأمريكية بمطاردة كل عضو من أعضاء الحركة الإسلامية في أي مكان من العالم وبدون رحمة حتى يتم القضاء عليهم جميعا.
اسحق رابين: الدين الإسلامي عدونا الوحيد
هذه كلمات نسوقها للذين يصرون، عن قصد، أو عن غير قصد، على إبعاد الإسلام عن قضيتنا المقدسة, قضية ثغرنا الإسلامي الحبيب (فلسطين).
يقول بن غوريون رئيس وزراء إسرائيل الأسبق الذي كان أحد زعماء الرعيل المؤسس لإسرائيل فوق ثرى ثغرنا الحبيب فلسطين، يقول بن غوريون هذا قبل حوالي خمسة وعشرون عاما: نحن لا نخشى الاشتراكيات، ولا الثوريات، ولا الديمقراطيات في المنطقة، نحن فقط نخشى الإسلام، هذا المارد الذي نام طويلا، وبدأ بتململ من جديد»....
(مجلة جويش كرونيكل) اليهودية التي تصدر في لندن:
قالت المجلة في مقالها الإفتتاحي الذي كان عنوانه «الجهاد في سبيل الله» إن على خبراء الإستراتيجية السياسية في بلدان الحضارة الغربية, وفي بلدان المعسكر الشيوعي أن ينتبهوا جيدا للأخطار التي تمثلها الحركات الإسلامية المتعصبة كجماعات الإخوان المسلمون المنتشرة في كل البلدان العربية, ومعظم البلدان الإسلامية, والتي تهدف إلى إحياء نظرية الجهاد في سبيل الله من جديد، واليت تكافح بشدة لإقناع العرب والمسلمين بالعودة إلى تعاليم الإسلام من جديد.
واختتمت الصحيفة اليهودية مقالها بالقول:
إنه لا العالم الغربي، ولا الإتحاد السوفيتي يستطيعان أن يرقبا بهدوء هذه اليقظة الإسلامية التي لو أسيء توجيهها من قبل الجماعات المتعصبة لنتج عن ذلك ليس هلاك إسرائيل فقط، وإنما زعزعة استقرار جزء كبير من العالم، ولن تسلم من ذلك لا الحضارة الغربية، ولا الحضارة الشيوعية.
وصحيفة أمريكية تقول: لا تفاهم مع الإسلام إلا بلغة الحديد والنار
نشرت صحيفة «شيكاغو» اليومية في عددها الصادر في 22/ 2/ 1979، ما يلي حرفيا:
«إن الشيوعية أفضل من الإسلام، لأنها في الأصل فكرة غريبة يمكن الالتقاء والتفاهم معها، أما الإسلام فلا التقاء معه ولا تفاهم إلا بلغة الحديد والنار».
مسؤول يهودي يعترف قائلا: التطرف الديني بين عرب (إسرائيل) يقلقنا أكثر من التطرف القومي..
اعترف مسؤول يهودي كبير في سلطات الاحتلال اليهودي في فلسطين المحتلة في مقابلة صحية أجرتها صحيفة ها آرتس اليهودية في عددها الصادر في 2 شباط 1979، بأن هناك مزيدًا من الدلائل تشير إلى تزايد المد الإسلامي الذي بدأ يظهر بين عرب (إسرائيل) على حد تعبير المسؤول اليهودي، والذين يبلغ عددهم حوالي نصف مليون، وبين عرب الضفة الغربية وقطاع غزة الذين يبلغ عددهم حوالي مليون.
وأضاف بأن هذا يقلقنا أكثر من التطرف القومي:
قال بيريز في مهرجان خطابي أثناء المعركة الانتخابية في إسرائيل عام 1978:
«إنه لا يمكن أن يتحقق السلام في المنطقة ما دام الإسلام شاهرا سيفه، ولن نطمئن على مستقبلنا حتى يغمد الإسلام سيفه إلا الأبد»...
ونشرتها الإخبارية في الساعة الخامسة والنصف من مساء الأربعاء الموافق 5/11/1980 نقلت إذاعة إسرائيل عن شمعون بيريز قوله تعليقا على نجاح ريغان في انتخابات انتخابات الرئاسة الأمريكية: «إن سياسة الولايات المتحدة في عهد ريغان ستتسم باتخاذ إجراءات عنيفة ضد الجماعات المتطرفة في المنطقة».
ونشرت مجلة المجتمع الكويتية في عددها رقم 324 لعام 1976 تصريحا لإسحق رابين أحد وزراء دولة الاغتصاب قال فيه:
إن مشكلة الشعب اليهودي هي أن الدين الإسلامي ما زال في دور العدوان والتوسع وليس مستعدا لقبول أية حلول مع إسرائيل، إنه عدونا اللدود الذي يهدد مستقبل إسرائيل وشعبها.
عدد من كبار المتخصصين اليهود في الشئون العربية خلال ندوة خاصة نظمها معهد (شيلواح) في جامعة تل أبيب في أواخر شهر كانون الثاني 1979.
وقد أجمع العلماء اليهود المشاركون في الندوة على أن اليقظة الإسلامية التي اجتاحت إيران بصورة مفاجئة ومذهلة وبدون سابق إنذار محسوس، تنذر بأن ما حدث في إيران يمكن أن يحدث في أي مكان في المنطقة المحيطة بفلسطين المحتلة ويكاد يكون أمرا لا مفر منه أمام اليهود من التحسب له بشكل جدي. البرفسور شارون (مشتشار مناحيم بيغن رئيس وزراء الاحتلال اليهودي للشؤون العربية) قال: «ما من قوة في العالم تضاهي قوة الإسلام، من حيث قدرته على اجتذاب الجماهير فهو يشكل القاعدة الوحيدة للحركة الوطنية الإسلامية»
أقذار
• موقفك من مراكز القوى؟
- مراكز القوى كانت قائمة على شخصية الحاكم نفسه سبق أن قلت لجمال عند الناصر في بداية حكمه و (كنا وما زلنا أصدقاء) قلت له: «من محولك.... مراكز قوى ... تتخذ إجراءات قاسية على الناس مما يسيء إلى سمعتك شخصيا».
- قال لي كلمة لا أنساها أبدا: «يا إحسان كل عملية محتاجة لإجراءات قذرة «بالمعنى العامي» فيجب أن يكون من يقوم بتلك العلميات أناسا «أقذار» مثل العمليات أنا أحضر هؤلاء الناس لا ليستطيعوا القيام بتلك المهام القذرة التي يتطلبها السير بالحكم!
قلت له: «أنا خائف أن يأتي اليوم وهؤلاء القذرون الذين جمعتهم أقوى من النظفاء الذين حولك. قالي لي: «لا ... لا... لا تخف!.
الثورة تقتل من يتصدى لتزوير التاريخ
براءة لكل المتهمين في قضية الأسلحة الفاسدة :
وتدور الأيام وتقوم حركة الجيش ويتولى الضباط السلطة فيكون في مقدمة ما يقدمون عليه تحريك قضية «الأسلحة الفاسدة» وتقديم المتهمين لمحكمة الجنايات التي كان يرأسها المستشار محمد كامل ثابت بك. حركة «الضباط الأحرار» قامت بعد حرب فلسطين سنة 1948 على أساس أن الأسلحة التي استعملها الجيش في هذه الحرب كانت فاسدة وأن الذين باعوها للحكومة خونة وكانت قضية الأسلحة الفاسدة قد أحدثت ضجة كبرى خصوصا عندما تبني الهجوم الزميل الأستاذ إحسان عبد القدوس في مجلة روز اليوسف كما شاركت صحف ومجلات في هذه الحملة.
عندما تولت وزارة الوفد حكم مصر في مطلع سنة 1950 طلبت من النائب العام الأستاذ محمد عزمي تحقيق كل جوانب الاتهام.
هذا التحقيق هو الذي قدمه ضابط قيادة حركة الجيش إلى محكمة الجنايات التي كان يرأسها ثابت بك بعد قيام الحركة سنة 1952 بأشهر قليلة.
بدقة الحرص على العدالة المدقق في كل صغيرة وكبيرة أخذ ثابت بك كل جوانب القضية وبعد سلسلة متواصلة من الجلسات استمع فيها إلى كل شهادات الشهود ومرافعة ممثل الإدعاء ومرافعات المحامين تأجل الحكم حتى تتم مداولة المستشارين الثلاثة... وأخيرا نطق المستشار ثابت بك رئيس المحكمة بالحكم وكانت المفاجأة الكبرى لكل المصرين والصدمة الكبرى لضابط قيادة الحركة إذ صدر الحكم ببراءة جميع المتهمين.
ولم تمر أيام إلا وصدر قرار بإحالة المستشار محمد كامل ثابت للمعاش مخالفا لكل القواعد القانونية إذ كانت حكومة الوفد منذ سنوات قد حصنت رجال القضاء ضد أي ضغط حكومي فحرمت الحكومة حق عزل القضاة وكفلت الضمانات لهم في قانون يحمل اسم «قانون استقلال القضاء».
وذهب ولم يعد :
بعد أكثر من عشر سنوات قضاها الرجل الأمين الصادق المستشار حسن الهضيببي المرشد العام للإخوان المسلمون في سجون عبد الناصر لقي خلالها أبشع صور العذاب التي ما كان يجوز بأي حال من الأحوال أن يتعرض لها هذا الشيخ الجليل تم الإفراج عنه.
وما تعرض له الأستاذ الهضيبي هي جرائم تنضح بالعار أي حكم فإني أشهد ويعلم الله مدى صدقي أنني على طول علاقتي به تأكد لي مدى التزامه بالصدق وبالإسلام والشجاعة في الحق.
كما أرجو أن يتولى أحد الذين عرفه عن قرب وصاحبوه سواء في القضاء أو في رئاسته لجماعة الإخوان المسلمون تغذيه المكتبة العربية بكتاب يسجل فيه حياة هذا الرجل فهي حياة تستحق أن يدرسها النشء لعلهم بها يتعظون.
يكفي أن نعرف أن أحد السجانين كان يأتي في السجن بأحد المعتقلين من الإخوان ويطلب منه في مواجهة الأستاذ الهضيبي أن يسبه بأقذع وأحط الألفاظ فلما يجفل المعتقل ولا يقبل تنفيذ هذه الدناءات ينهال السجان عليه ضربا بسوط غليظ فيندفع الأستاذ الهضيبي يحتضن المعتقل ليحميه من الضرب ويتوسل له أن يسبه كي يتوقف السجان عن عمليات التعذيب الوحشية.
خرج الأستاذ الهضيبي من السجن منهوك البدن عليل الصحة فرأى زميله على منصة القضاء المستشار محمد كامل ثابت أن يزوره في منزله.
المنزل مراقب وممنوع الزيارة مع ذلك أصر المستشار على أن يزور زميله فأرسل إلى جهات الأمن يبلغها رغبته بالقيام بالزيارة وأسعده أن يجيئه الرد فورا بأن جهات الأمن لا تعترض على الزيارة.
ذهب المستشار ثابت إلى منزل المستشار الهضيبي في سيارته الخاصة، بينما هو جالس مع زميله ذهب رجل إلى سائق سيارته وأبلغه بأن ثابت بك سيعود في سيارة الأستاذ الهضيبي وأنه يريد من السائق أن يذهب بالسيارة إلى المنزل... وانصرف السائق عائدا إلى منزل المستشار.
مرت الساعات ولم يعد ثابت بك إلى منزله
انقضى الليل وأهله لا يعرفون من أمره شيئا فهو لم يعد ولم يستطيعوا الاتصال تليفونيا بالأستاذ الهضبي ولما أرسلوا إلى منزله من يسعى إلى الاستفسار عن عدم عودة ثابت بك لم يسمح له المرابطون حول المنزل بالدخول ومرت الليلة ثقيلة حزينة.
استفسرت الأسرة في كل أقسام البوليس وانتشر أعضاؤها يجوبون أنحاء القاهرة بحثا في المستشفيات دون أن يصلوا إلى خيط رفيع يطمئنهم ... الكل في أقسام البوليس في الأمن العام في وزارة الداخلية في المستشفيات لا يعلمون شيئا عن ثابت بك...!!
امتد البحث إلى بيوت كل الأصدقاء وكانت النتائج دائما سلبية.
مات في الأوتوبيس!!
ثلاثة أيام من الهلع مرت ثقالا وأسرة ثابت بك لا تعرف من أمره شيئا.
ثلاثة أيام أضنى الأسرة مواصلة البحث والقلق وعدم النوم والحزن بل والنحيب.
بعد الأيام الثلاثة نشرت الصحف الحكومية في ركن مهمل من أركانها نبأ يقول:
«توفي مجهول نتيجة إصابته بالسكتة القلبية في الأتوبيس رقم... وقد حاولت الجهات المسئولة التعرف على شخصيته طوال اليومين السابقين فلم تستدل عليها ذلك لأن المتوفى لم يكن يحمل أية أوراق توصل إلى معرفة اسمه أو محل سكنه ولذلك ثم دفنه في مقابر الفقراء بحي المحمدي...»
ثبت بعد ذلك أن ذلك «المجهول» لم يكن إلا المستشار محمد كامل ثابت الرئيس السابق لمحكمة الجنايات ولكن الرجل يحمل أوراق في محفظة النقود تؤكد شخصيته كما كان دائما يحمل في جيب آخر من جيوب البذلة التي يلبسها بطاقات تحمل اسمه وعنوانه ورقم تليفونه.
إنه لم يكن مجهولا أبدا.
وهو لم يرسل أبدا من يبلغ سائقه أن يتوجه بالسيارة إلى المنزل لأنه سيعود بسيارة الأستاذ الهضيبي.
وهو لم يركب الأوتوبيس ولم يصب بالسكتة القلبية.
قتلوه انتقاما :
قتلوه انتقاما للحكم الذي أصدره في قضية الأسلحة الفاسدة.
لم ينسوا له ذلك الحكم مع أنه كان قد مر على النطق به أكثر من اثنى عشر عاما!!
قتلوه انتقاما لأنه تجرأ وطلب أن يزور زميلا له... لم يزره باعتباره المرشد العام للإخوان المسلمون بل زاره لأنهما جلسا جنبا إلى جنب على منصة العدالة يحكمان بالعدل وينصفان المظلوم!!
قتلوه وهو الذي تجاوز السبعين عاما ولم تشفع له شيخوخته!!
ترى كيف تم قتله!؟
ترى هل سبق القتل عمليات تعذيب؟!
الله سبحانه وتعالى أعلم.
رحمه الله وزميله الهضيبي وأجزل لهما العطاء فقد كانا فخرا للقضاء المصري ومثلا للأخلاق الحميدة.
الفصل السادس : شهود وأدلة تنفي التهمة عن الإخوان
شهود تنفي التهمة عن الإخوان
عاصرت حادث محاولة اغتيال الرئيس جمال عبد الناصر في المنشية في أكتوبر عام 1954 وتابعت باهتمام شديد تلك المحاكمة التي أجراها أعجب وأظلم قاضي في تاريخ مصر الحديث المرحوم جمال سالم، وعلى الرغم من اختلافي الفكري الحاد مع الإخوان المسلمون، فقد كان الانطباع الذي تولد لدى من المتابعة الدقيقة لوقائع ذلك الحادث هو أن الإخوان قد وقعوا ضحية مكيدة من نوع ما وحين وصل الدكتور عبد العظيم رمضان إلى الحلقتين الأخيرتين من دراسة القيمة عن العنف عند الإخوان المسلمون، وأعاد سرد تلك الوقائع التي كانت قد غابت عن الأذهان منذ سنوات طويلة, تأكد الانطباع القديم لدي مرة أخرى، بل إنه بدا لي في هذه المرة أكثر من مجرد انطباع وكاد أن يصل إلى حد اليقين.
وها أنا ذا أدلي بشهادتي عن هذا الموضوع الهام، مع تأكيدي أنني لست مؤرخا، ولن أقدم إليه الكثير من الوقائع التاريخية، وكل ما في الأمر أن الدكتور عبد العظيم رمضان لم يفسر كثيرا من الوقائع، التي جمعها بصير ومقدرة تفسيرا صحيحا، وإنما كانت تتملكه منذ البداية فكرة مسبقة هي إدانة الإخوان عن الحادث إدانة كاملة...
وأحسب أن الخصوم الفكريين للإخوان، من أمثالي، في حاجة إلى قدر كبير من الموضوعية ونسيان الاعتبارات الشخصية لكي يدلوا بشهادة نزيهة وهذا ما سأحاول أن أفعله، وهو أيضا ما أراه مفتقدا، إلى حد ما في الأجزاء الأخيرة من دراسة الدكتور رمضان.
أنني على خلاف الدكتور رمضان سأتقدم بفرض لتفسير الحادث هو:
1- كانت هناك بالفعل نية اللجوء إلى العنف لدي الجهاز السري للإخوان المسلمون بعد أن أدى القمع التام للديمقراطية إلى سد جميع مسالك العمل السلمي أمام كافة فئات المعارضة.
2- لم تكن هذه النية قد تبلورت تماما وذلك لأن القيادات الإخوانية كانت في حالة انقسام وبلبلة فكرية, وكان فيه اتجاه قوي يعارض العنف.
3- طرحت عدة أفكار عن أساليب عنيفة يلجأ إليها الإخوان منها اغتيال أهم أعضاء مجلس الثورة وعلى رأسهم جمال عبد الناصر، ولكن هذه الأفكار لم تتبلور بصورة نهائية وإنما تمت بعض الاستعدادات ها من خلال تسليم أنواع معينة من الأسلحة لبعض مسؤولي المناطق من الإخوان.
4- كان المحامي هنداوي دوير مسؤول الجهاز السري في إمبابة هو مفتاح السر كله في هذه القضية وقد فوتح في موضوع الاغتيال ولكن دون تكليف صريح له بالتنفيذ.
5- ولم يكن هنداوي دوير هذا مقتنعا تماما بالهدف وانهارت أعصابه فأفشى بالسر لأجهزة الدولة قبل تنفيذ محاولة الاغتيال بأيام قلائل، فكلفته هذه الأجهزة بمتابعة التنفيذ من خلال تعليماتها الخاصة وهناك احتمالات في هذا الموضوع:
إما أن هنداوي هذا كان من عملاء المباحث منذ البداية واستطاع أن يصعد في التنظيم السري إلى مرتبة مسئول منطقة.
وإما أنه شعر بالرعب قبل تنفيذ الخطة مباشرة فاتصل بأجهزة الأمن، وأنا أرجح الفرض الأخير، ومنذ هذه اللحظة أصبحت خطوات هنداوي تتم بالتنسيق مع أجهزة الأمن وهي التي أعطته المسدس الذي سلمه لمحمود عبد اللطيف وحددت له موعد التنفيذ.
6- كان محمود عبد اللطيف نفسه منساقا في تصرفاته بصورة تدعو إلى الشك في أن يكون قد حدث له نوع من أنواع «غسيل المخ» وكانت المسافة التي حاول أن يغتال منها عبد الناصر بعيدة إلى حد يدعو إلى الشك في سلامة تفكيره في هذه اللحظة وفضلا عن ذلك فلا بد أنه كان مراقبا طوال الوقت وكان المسدس الذي تسلمه من نوعية خاصة لا ضرر منها.
7- كان هنداوي دوير هو الوحيد الذي سلم نفسه للسلطات بعد يوم واحد من الحادث، وهو الذي تعاون معها في التحقيق تعاونا تاما وكانت اعترافاته هي بداية الخيط الذي اسقط الجهاز كله.
8- أما إعدام هنداوي ضمن المحكوم عليهم في النيابة فأمر يسهل تفسيره: فعلى الرغم من الوعود التي لا بد أنها قدمت لكي يشي بجماعته كان من الضروري التخلص منه لأنه يعرف أكثر مما ينبغي ومثل هذه الأمور تتكرر كثيرا عندما ينجح أجهزة الأمن في تجنيد أحد خصومها فتتخذه طعما لاصطياد الآخرين وعندما تنتهي مهمته يكون أول ما تفكر فيه الأجهزة هو التخلص منه وعلى أيه حال فإن المرء لا يشعر بأي أسف إزاء غدر الأجهزة بإنسان هو أصلا غادر.
هذا هو تسلسل الأحداث وفقا للفرض الذي أتقدم به. ويمتاز هذا الفرض بأنه يجعل الأحداث أكثر اتساقا بكثير من العرض الذي قدمه الدكتور عبد العظيم رمضان ويلقى ضوءا على أمور كثيرة تبدو غير مفهومة.
ولأضرب لذلك مثلا واحدا: فقد قرأت بنفسي في جريدة الأهرام بعد حوالي أسبوع من الحادث أن أحد العمال قد وصل من الإسكندرية إلى القاهرة ومعه المسدس الذي ارتكبت به الجريمة وكان قد التقطه أثناء وجوده على مقربة من المتهم في ميدان المنشية ولكي يغطي الصحيفة تلك الفترة الطويلة التي استغرقها وصول المسدس إلى المسئولين ذكرت أن هذا العامل لم يكن يملك أجر القطار وحضر من الإسكندرية إلى القاهرة سرا على الأقدام وهو يحمل المسدس المستخدم في الحادث، فاستغرق ذلك منه أسبوعا، وقد ذكرت هذه الواقعة في الصيف الماضي للدكتور رمضان، وسألته أن يتحرى عنها لأهميتها، ولكن لا يبدو أنه قد فعل ويخيل إلي أن هذه الواقعة وحدها بما فيها من استغفال لعقول الناس تكفي وحدها للشك في العملية بأكملها.
فلنترك جانبا ما قاله الدكتور رمضان نفسه في حلقات سابقة عن إهداء الأمريكيين قميصا لا تخترقه الرصاص لجمال عبد الناصر قبل الحادث بفترة وجيزة ولنترك جانبا شهادة حسن التهامي التي توحي بوجود مؤامرات دبرتها الحكومة مع مصادر خارجية للإيقاع بالإخوان –لنترك هذا كله على أهميته الكبرى جانبا ولنتأمل نفس الوقائع التي أوردها الدكتور رمضان في الحلقتين الأخيرتين لكي@����������8@���تائجها الضرورية.
إن من الأمور التي تلفت النظر أن الدكتور رمضان بني الجزء الأكبر من استنتاجاته على شهادة هنداوي دوير، مع أنه لو كان قد تشكك في هذه الشهادة لتغير اتجاه تحليله تغيرا تاما، وقد أدهشتني تلك الثقة الزائدة التي أولاها لشهادة متهم سلم نفسه في اليوم التالي، ووشى بأعوانه السابقين، ولا شك أن هناك عناصر كثيرة تدفع أي باحث موضوعي إلى إلقاء ضلال كثيفة من الشك على كل ما قاله هذا الرجل أذكر منها:
1- أثبت هنداوي أنه إنسان مذعور، بدليل أنه سلم نفسه للشرطة في اليوم التالي على حين أن كبار المسؤولين الآخرين في الجهاز السري، وخاصة يوسف طلعت وإبراهيم الطيب حاولوا الاختفاء والمقاومة أطول مدة ممكنة.
2- كان هنداوي هو شاهد المحكمة المدلل، على حين أن طلعت والطيب وقفا بشجاعة نادرة أمام جبروت جمال سالم برغم التعذيب الواضح الذي تعرضا له، ووصل الأمر بالأول إلى حد الاعتراف بأنهم كانوا ينوون اغتيال عدد من أعضاء مجلس الثورة, ثم قال لجمال سالم: «وأنت منهم»! ولذلك فإن المؤرخ اليقظ عندما يجد شهادتهما متعارضة مع شهادة شخص متخاذل مثل هنداوي لا بد أن يولي مزيدا من الثقة للأولى.
3- كان هنداوي، تبعا لوصف حسن العشماوي وهو أحد أقطاب الإخوان «عصبي المزاج سريع الانفعال لا يصح وضعه كمسؤول في أي نظام سري» فمن المعقول أن ينهار شخص كهذا عندما يقترب من تنفيذ عملية خطيرة كعملية الاغتيال ومن المعقول أن يتصل بالسلطات ويتعاون معها وهذه الأوصاف على أية حال تقلل من الثقة في أقواله إلى أبعد حد.
4- مما يثبت تعاون هنداوي مع المحكمة ومع جهاز الحكم بأكمله قوله في التحقيق بعد الحادث «من حمد الله أن الرئيس ما اعتديش عليه ونجا بحمد الله...» هل هذا كلام شخص كان هو نفسه الذي سلم مسدس القتل إلى مرتكب الحادث؟ وإذا قارنا هذه اللهجة المنافقة بلهجة يوسف طلعت وإبراهيم الطيب التي تمتلئ صلابة، ألا نستنتج من ذلك أشياء كثيرة عن علاقة هنداوي بالسلطة؟
5- وفقا لما قاله الدكتور رمضان فإن هنداوي لم يكن موقفا على الاتجاه الإرهابي منذ أن سمع به وقال لإبراهيم الطيب: «يا أستاذ إبراهيم إن الاتجاه الإرهابي لن يؤدي إلى نتيجة ... وإننا لن نجني والبلد شيئا من هذا الطريق» هذا ما قاله قبل الحادث بأيام كثيرة فكيف يأمره رئيسه إبراهيم الطيب بالتنفيذ ويحدد له يوم الاغتيال إذا كان منذ البداية معارضا للعنف إلى هذا الحد وفي اليوم التالي للحادث، طاف بذهنه –كما يقول –إن الاتجاه الإرهابي غير إسلامي وأن القتل بهذه الصورة غير إسلامي إذا كان هذا الرجل معارضا للعنف قبل الحادث وبعده، فكيف سلم المسدس الذي تمت به الجريمة إلى الجاني قبل يوم واحد من إدانته للإرهاب؟
وهل يحق لنا أن نثق بأقوال شخص يسلم أداة الجريمة لإنسان ثم يقول بعد وقوعها بيوم واحد أن القتل غير إسلامي؟ وكيف فات هذا التناقض على الدكتور رمضان وظل يعتمد في الجزء الأكبر من دراسته على أقوال شخص كهذا؟ إن الدكتور رمضان يأسف لأن هنداوي لم يفق إلا بعد الحادث، ولو كان قد أفاق قبله لأنقذ الإخوان من التهلكة ولكن هذا تحليل ضعيف إلى أبعد حد، أولا لأن إفاقة هنداوي أو عدم إفاقته ما كانت لتغير شيئا في تسلسل الأحداث الذي كان الإخوان سيتعرضون فيه حتما للتصفية بعد أن خلا الجو لرجال الثورة وتخلصوا من بقية الخصوم، وثانيا لأن هنداوي (كما أرجح) قد أفاق فعلا قبل الحادث ولكن طريقته في الإفاقة كانت هي التي ألقت بالإخوان في التهلكة لأنه وشي بهم جميعا.
6- نسب هنداوي إلى حسن الهضيبي الأمر بتنفيذ الاغتيال وهو ما أثبت المؤلف نفسه كذبه كما كذبه كما كذبه الهضيبي ويوسف طلعت شدة، فإذا كان قد كذب إلى درجة توريط رئيس مسالم للجماعة وتعريض حياته للخطر، فهل نستبعد أن يكذب في بقية أقواله؟.
7- لم يهتم الدكتور رمضان: بشهادة يوسف طلعت عندما فوجئ بوقوع الحادث، ورد عليه إبراهيم الطيب بقوله «أخوك هنداوي تسرع»...
وكذلك قوله في موضع آخر أن الخبر وقع عليه وقع الصاعقة أو تعليقه أمام المحكمة «إحنا فوجئنا بهذا التكليف من الأستاذ هنداوي دوير ودهشنا له».
وهذه كلها أقوال تستدعي على الأقل قدرا من الشك في موقف هنداوي، بدلا من الثقة الزائدة التي أبداها الدكتور رمضان في أقواله.
8- أما المواجهة التي دبرها جمال سالم بين إبراهيم الطيب وهنداوي دوير ، والتي وصفها الدكتور رمضان بالمهارة تارة وبالكفاءة والاقتدار تارة أخرى فإنها تكتسب معنى جديدا كل الجدة في ضوء الفرض القوي الذي نقول به وهو أن هنداوي دوير اتصل بالسلطات وأبلغها بالحادث قبل أيام قلائل (في الفترة التي توقف فيها التنفيذ مؤقتا) وأتاح لها بعد ذلك فرصة توجيه الأحداث بالطريقة التي تضمن لها أفضل النتائج فعندئذ تصبح هذه المواجهة بين متهم حقيقي وبين عميل وبالفعل نجد جمال سالم يستعين بهنداوي ليقدم إلى المحكمة كل ما تريده من «أدلة تطيح برؤوس زملائه السابقين».
إن الثغرات في سرد الأحداث وفقا لتفسير الدكتور رمضان كثيرة وهناك تناقضات لاحد لها تركت بال أي تشكك أو استفسار ولعل من أبرزها أن يعرض جهاز ضخم حسن التدريب والإعداد... مستقبله واحدا هو محمود عبد اللطيف لكي يعتمد في التنفيذ على مجهوده الشخصي هل هذه خطة يقامر بها جهاز كهذا بحياته وحياة جماعته كلها؟
أما الفرض الذي أقول به فيضع الأمور في نصابها ويفسر التناقض في أقوال ذلك الشاهد الخائن لجماعته والتعارض بين شهادته وشهادات الآخرين وهو فضلا عن ذلك الفرض الوحيد الذي يمكن أن يعلل مجموعة الأحداث المحيطة بهذه الواقعة.
إنني لا أهدف من هذا إلى تبرئة الإخوان من تهمة العنف ولا أنكر أنهم رسموا خطة للاغتيال ومنها اغتيال جمال عبد الناصر. ولكن ما أريد أن أقوله هو أنه في مرحلة ما من هذه الخطة تسرب النبأ إلى أجهزة الدولة بحيث استطاعت أن تتحكم في بقية المراحل وبحيث أن حادث المنشية بالصورة التي تم بها كان حادثا استدرج فيه الإخوان.
وليس للقارئ أن يعجب من هذا التفسير لأن أجهزة الأمن في بلادنا العربية قادرة على التغلغل في كافة التنظيمات وقادرة على تدبير الحوادث وخلق الشهود الذين يبررون لها ما فعلت ويكفيني هنا أن أشير إلى مثل واحد: ففي أواخر الستينات قيل إن المستشار كامل لطف الله قد انتحر وألقي بنفسه من سطح بيته وتشاء «الصدف» أن يحدث انتحاره هذا قبل يوم واحد من الموعد المحدد لكي ينظر هو نفسه في قضية اختلاسات مديرية التحرير، التي واصلت إلى ملايين الجنيهات وكان الرجل قد درس ملف القضية بأكمله دراسة متعمقة وأعجب ما في الأمر أنه بعد وقوع الحادث بأربعة أيام أو خمسة أيام تقدم للنيابة شخصان قالا أنهما من عمال البناء وكانا يشتغلان في بيت مجاور وشاهدا القاضي وهو ينتحر أما لماذا لم يبلغا عما شاهداه منذ وقوع الحادث فذلك –حسب رواية الصحف ذاتها- لأنهما لا يعرفان القراءة ولم يدركا أهمية الشخص المنتحر إلا عندما سمعا بالحادث بعد أيام!!
هناك إذن خفايا كثيرة تكمن تحت السطح وأحسب أن من واجب كل من يملك شهادة من هذه الأحداث وغيرها أن يقول كلمته حتى يظهر تاريخ بلادنا في ضوئه الحقيقي ولو سئلت عن رأي لقلت إن الإخوان المسلمون برغم اختلافي الأساسي معهم كانوا في حادث المنشية بالذات ضحية كمين اشتركت فيه بعض عناصرهم مع أجهزة الدولة ولكن يبقى على من شاركوا في الأحداث نفسها أن يقولوا كلمتهم.
ونحن أطفال كانوا يروون لنا قصصا عن العفاريت تدور حول مجرم قتل رجلا وكان كل ليلة عندما يذهب إلى فراشه لينام يظهر عفريت القتيل ويحدث أصواتا مرعبة في المنزل وظل المجرم يعاني الرعب كل ليلة ولا يذوق طعم النوم حتى أصيب بالجنون نتيجة الخوف المستمر وعدم النوم وأصبح بعد أن كان جبارا يخشاه كل سكان القرية يهذي في الطرقات ويصيح وهو هائم على وجهه «العفريت.. العفريت» والأطفال يلتفون حوله يضحكون ويسخرون منه.
هذه القصة كنت دائما أتذكرها وتذكرتها مرارا عندما سمعت بأن دكتاتورا علق على أعواد المشانق ستة رجل لأنه أراد أن يقتص لحادثة قيل في وصفها أن عاملا استطاع في حفل ضخم وقف فيه الدكتاتور ليخطب أن يجلس في الصف الأول مع أنه معروف في كل الأنظمة الأول بل في الصفوف الأولى يكون دائما لمعاوني الدكتاتور وأقرب الأقربين من أنصاره مع ذلك ورغم ذلك استطاع ذلك العامل أن يتوسط الصف الأول وكأنه ضيف الشرف بل أكثر من ذلك وصل إلى هذا المقعد دون أن يلاحظ أحد أن هذا ليس مكانه. وصل إليه وهو يحمل سلاحا ناريا... يا سبحان الله كمان سلاح ناري.. ويخرج السلاح ويصوبه نحو الدكتاتور الواقف على المنصة... كل هذا ولا يلاحظ أحد الجالسين حوله أو خلفه أو من الحرس المنتشر مع أن عملية التصويب كانت لابد أن تستغرق لحظات لأن المنصة مرتفعة وتبعد عدة أمتار... ويطلق الرصاص ويمتلئ قميص الدكتاتور بلون أحمر... ويقال أن اللون الأحمر ليس دما نتيجة الإصابة بل هو حبر أحمر سال من قلم كان الدكتاتور يحمله ولا يستطيع الإنسان أن يفهم ما الذي أسال الحبر من القلم في تلك اللحظة بالذات... ويتم القبض على العامل ولكن كل الجهود تفشل في العثور على السلاح الناري....
وتمر أيام ويحضر إلى القاهرة رجل ليقول أنه عثر على السلاح الناري... ولا حول ولا قوة إلا بالله. وسواء صدقتم أنها كانت محاولة اغتيال أو كانت تمثيلية وهذا متروك لضمائركم ولعقولكم فهل بالله عليكم هذه الحادث التي لم تخدش الدكتاتور ولو بخدش بسيط ولم تصبه بأية إصابة اللهم إلا إذا اعتبرنا تلويث قميصه بالحبر الأحمر نكبة قومية. هل هذه الحادثة إذا صح ارتكابها تبيح تعليق ستة رجال على أعواد المشانق واعتقال أكثر من عشرة ألاف رجل وإحكام الخطط لتجويع الزوجات والأطفال مع تسليط كل ألوان البطش والإرهاب على المعتقلين؟
• عندما سمعت بإعدام الرجال الستة وبالوسائل الجهنمية التي سلطها زبانية التعذيب على آلاف المعتقلين وبتجويع الزوجات والأطفال كنت أسأل نفسي هل من المعقول ألا يتحرك في نفس الدكتاتور ما ينبهه ولو لبضع لحظات إلى أنه تجاوز كل الحدود سواء الدينية أو القانونية... ألا تطارده ولو للحظات أشباح من قتلهم ومن يعذبهم... ألا يطن في أذنيه بكاء الزوجات ونحيب الأمهات وصراخ الأطفال... أم أنه يواصل الحياة وكأن العدل يسود الأرض وكأن أجمل السمفونيات تملأ الأسماع في المدن والقرى...!!
• هل الحكم يا ناس يساوي ارتكاب كل كبيرة من الكبائر التي حرمها الله سبحانه وتعالى ويساوي تعريض البلاد للهزائم المذلة وتمكين العدو من احتلال أرض الوطن وتقديم آلاف الشباب للذبح....
• هل هذا هو الإسلام .. هل يدرك الحكام المتسلطون على الرقاب وعلى الأوطان أن أعداء الإسلام يتخذون من تصرفاتهم السلاح الماضي للنيل من الدين الحنيف... ولكن ماذا يعنيهم أن يشن أعداء الإسلام الحملات إذا كانوا هم متربعين على كراسي الوثيرة!!
وبعد ذلك .. وتنقضي الغمة ويقضي الله بقضائه فترى العجب
• ترى الذي رقصوا على جثث الذين تم إعدامهم وطربوا لصرخات المعذبين في المعتقلات والحزانى والثكالى والأطفال الجياع هم أشد الناس صياحا وصراخا ضد التعذيب وأعلاهم صوتا في المطالبة بالديمقراطية واحترام حقوق الإنسان.
ومع ذلك هم يسعون في كل يوم إلى إحياء ذكرى من قتل وعذب وداس بالأقدام كل حقوق الإنسان وحول الناس أسرى شهواته.
ويسأل السذج هل هم عملاء لحكام دكتاتوريين أحياء...
• ويجيب العقلاء الله أعلم.
لا شك أنها كانت محاولة وهمية لاغتيال عبد الناصر .... فلم يكن أحد من المرشد المرحوم حسن الهضيبي إلى أعضاء مكتب الإرشاد يفكر في اغتيال عبد الناصر... بل إن المرشد هو الذي استجاب لنداء عبد الناصر بحل الجهاز السري عندما طلب منه ذلك وأعلن «أن لا سرية في الدعوة» وعندما رفض عبد الرحمن السندي حل الجهاز عزله وعين يوسف طلعت بدلا منه تمهيدا لتصفية الجهاز.
وقال فريد عبد الخالق إن المعلومات التي وصلته هي أن الحكومة هي التي دبرت المحاولة للتخلص من الإخوان ... وأن محمد الجزار الذي كان ضابطا في القلم السياسي قبل الثورة واتهم بالاشتراك في حادث اغتيال المرشد السابق المرحوم حسن البنا كان يتردد على مركز الإخوان المسلمون محاولا تبرئة نفسه أمام قادة الإخوان.. وفي إحدى مرات تردده وكانت العلاقات بين الحكومة والإخوان متوترة سمع المرحوم هنداوي دوير وكان من الشبان المتهورين يردد (لازم نقتل جمال)... والتقط الخيط وذهب إلى المباحث العامة في محاولة للتقرب من السلطات وأبلغهم أن هنداوي دوير خطة لاغتيال عبد الناصر. ووجدها المسئول فرصة... تعقبوا هنداوي وعلموا أنه يرأس خلية في إمبابة أعضاؤها طلبة بالجامعة والسمكري محمود عبد اللطيف... ووقع اختيارهم على تدبير المحاولة وإسنادها إلى محمود عبد اللطيف ليكون بداية خيط التخلص من الإخوان.
واختاروا الزمان والمكان... ونفذوا الخطة... اختطفوا محمود وأخذوه إلى الإسكندرية ومعه مسدس عثروا عليه في منزله.
واقتادوا ثلاثة منهم إلى ميدان المنشية: وأجلسوه في الصفوف الأمامية وأحاطوا به... وفي لحظة أطلق أحدهم ... ولابد أنه من أمهر الرماة ثماني رصاصات لم تصب واحدة منها أحد من الذين فوق المنصة رغم كثرة عددهم باستثناء إصابة سطحية للمحامي أحمد بدر... بينما أصابت الرصاصات اللمبات الكهربائية...
ويؤكد ذلك أن الجماهير قبضت على ثلاثة كانوا مع محمود عبد اللطيف ثم لم يأت ذكرهم بعد ذلك... كما أن المسدس الذي كان مع محمود تبين أن طلقاته ليست من نفس نوع الطلقات التي أطلقت... وبعد الإعلان أنه تم ضبطه وفي يده المسدس عادت الصحف ونشرت أن عامل بناء عثر على المسدس الذي استخدم في الحادث... واختفت سيرة المسدس الأول تماما...
كما أن المحكمة لم تستمع إلى أقوال الذين قيل أنهم قبضوا على الجاني وكذلك إلى أقوال عامل البناء الذي قيل أنه عثر على المسدس رغم أهمية شهادتهم ... ولعل ذلك يرجع إلى خوف المسئول عن تدبير الحادث أن يخطئوا في أقوالهم فيكشفوا عن أن الحادث كان مدبرا...
ويضيف فريد عبد الخالق قائلا:
- ولا شك أنه تم التغرير بمحمود عبد اللطيف وبهنداوي دوير لسرد اعترافات مملاة عليهما بعد وعدهما بالإفراج عنهما... ويؤكد ذلك ما ردده هنداوي وهو يقاد لحبل المشنقة:
- ضحكوا علينا... مكانش ده اتفاقنا...
هذه رواية ... وهناك رواية أخرى ذكرها لي أحد الصامتين وكان سمعها من بعض الإخوان وتتلخص في أن المحاولة تمت بتدبير بين عبد الناصر وهنداوي دوير الذي استطاع أن يقنع محمود عبد اللطيف بضرورة اغتيال عبد الناصر.. وأعطاه المسدس... ورسم له الخطة ... بينما نفذ إطلاق الرصاص أحد أعوان عبد الناصر بمسدس آخر... ويؤكد هذه الرواية أن هنداوي دوير قام بتسليم نفسه بعد وقوع الحادث مباشرة ... ولو كان مشتركا في الجريمة فعلا لظل هاربا حتى يقبض عليه...إنما سلم نفسه حتى يسرد اعترافات تطيح بكل جماعة الإخوان وبالرئيس السابق محمد نجيب ... على أمل أن يكون له مكان مرموق بعد ذلك...
ولكن عبد الناصر تخلص من الشاهد الوحيد ضده الذي يكشف الحقيقة بإعدامه.. وكان ذلك سببا في أنه كان يردد وهو في طريقه إلى حبل المشنقة:
- ضحكوا علينا... مكانش ده اتفاقنا
والروايتان قد تكون إحداهما حقيقية... ولكن الشيء المؤكد أن جميع أعضاء مجلس الثورة في ذلك الوقت كانوا متأكدين أن الإخوان المسلمون أرادوا قلب نظام الحكم واغتيالهم جميعا...وهي الصورة التي كان ينقلها لهم عبد الناصر من اعترافات الإخوان المسلمون... ولكنه كان يخفي عنهم الوسيلة التي تم بها الحصول على هذه الاعترافات والتي يعرفها كمال رفعت وعلى صبري وصلاح الدسوقي .. ولو كان أحدهم عرف الوسيلة لاعترض وثار عليها... والدليل على ذلك أن كمال الدين حسين عندما علم في عام 1965 بألوان التعذيب التي يتعرض لها الإخوان المسلمون في المعتقلات سارع وأرسل إلى عبد الناصر رسالته الشهيرة (اتق الله) والتي كانت سببا في اعتقاله.
وبانتهاء محاكمات الإخوان المسلمون انتهت آخر تنظيمات حزبية في البلاد وبقي عبد الناصر يحكم بمفرده بدون دستور حتى عام 1956 عندما أصدر الدستور وبدأت حياة نيابية ديمقراطية .. ولكنها كانت ديمقراطية مزيفة كما سيأتي شرحها في الباب التالي.
إن التطرف الديني تعبير دخيل على مجتمعنا لأننا في المقام الأول بلد مسلم لذا فالتيار الإسلامي يجب أن يدعم لأنه جزء منا، والتطرف إن كان موجودا فما هو إلا نتيجة العذاب الذي تعرضت له الجماعات الإسلامية في سجون عبد الناصر منذ تمثيلية حادث المنشية 1954 وهي خطة مرسومة لذبح التيار الإسلامي لأن هناك اتجاهات خارجية تسعد عندما يحدث هذا الأمر ومما يدلك على ذلك... اذكر منذ بضعة أشهر تم القبض على بعض الشباب من الجماعات الإسلامية بخصوص أندية الفيديو، ونلاحظ أن الصحف الأمريكية قد أبرزت القصة كاملة في الصفحات الأولى ليظهروا أن التيار الإسلامية خطرة.
ولكنني في نفس الوقت أرفض العنف لأنه يأتي دائما بنتائج عكسية لذا يجب أن نقطع عليهم فرصة إظهار الإسلام بما هو بعيد عنه.
قائد الجناح جمال سالم رجل ودي جذاب الشخصية منذ البداية ويتحدث الإنجليزية بإتقان تام ويعد، كمصري، كثير الأسفار، وهو متحدث من الطراز الأول. ولديه وجهات نظر مقررة بشأن المشكلات الحالية وهو يعبر عنها بطريقة ذكية وشيقة إلى حد كبير وقد لمست أنه مثالي ومتفائل ولكنه ليس متطرفا أو متعصبا ولم يدل أي شيء قاله على أي شعور كامن مناوئ للبريطانيين وقد تحدثت إليه بصورة رئيسية عن الإصلاح الزراعي والإخوان المسلمون وبالنسبة إلى موضوع الأول كانت جميع الأرقام والحقائق على رأس لسانه وكان على معرفة جيدة بالمشكلات المالية المتصلة بالمسألة. وقال إن أحد الأسباب الرئيسية للإصلاح الزراعي هو الحاجة إلى تكوين رأسمال كان يستخدم سابقا في شراء الأرض بأسعار تضخمية، وجعله متاحا للصناعة.
وبالنسبة إلى (موضوع) الإخوان، قال إنه لا الأمريكيين ولا البريطانيين، ولا مصريين كثيرين يفهمون الحركة فعلا، فهم يبالغون إلى حد كبير في خطر التطرف في سياسة الإخوان، وقال إن المتطرفين المتعصبين قليلون جدا وأن الأغلبية الساحقة من الإخوان المسلمون أنفسهم لن يقبلوا بأية سياسة لإعادة البلاد إلى الوراء بتدمير المؤسسات والأفكار الغربية (وقال) إن سياستهم الدينية لا ترمي إلى التدخل في شئون الأديان الأخرى أو محاولة تحويل (أتباعها إلى مسلمين)، وإنما إلى تشجيع المسلمين على أن يكونوا أكثر تمسكا بدينهم وقد لمست أن من المؤكد أن جمال سالم متعاطف مع الحركة (أي مع الإخوان).
ونشهد أن اللواء محمد نجيب رئيس الجمهورية السابق أول من هدم جدار الصمت الذي أقيم حول حادث المنشية بحديثة الذي نشرته له مجلة إقرأ السعودية بعد وفاة جمال عبد الناصر يقول اللواء محمد نجيب في حديثه:
«هناك في مكتبي قرأت الصحف الصادرة في الصباح فإذا بها تزخر بأخبار مختلفة تماما عن ثبوت اتصالي بمؤامرة الإخوان المسلمون على حياة جمال عبد الناصر... هنا أقطع سياق كلامي لأعلن لأول مرة في التاريخ سرا من أدق ما يمكن من أسرار ثورة يوليو وهو أن مؤامرة إطلاق الرصاص على عبد الناصر في الإسكندرية كانت مؤامرة وهمية من أول حدوثها لآخرها وكانت مرتبطة بواسطة رجل من أجهزة المباحث العامة في مصر كوفئ على ذلك فيما بعد بمنصب كبير.. واستؤجر في هذه المؤامرة شاب مصاب بجنون العظمة وأغرى بأنه لو اعترف بأنه حاول قتل عبد الناصر فسينال مكافأة مالية ضخمة ويسمح له بالهجرة إلى البرازيل وقد كانت المكافأة الوحيد التي تلقاها إعدامه بدلا من تهريبه كما وعدوه حتى يموت ويموت معه السر».
وقد علق المرحوم عباس الأسواني على حديث اللواء محمد نجيب في جريدة التعاون ناشد فيها لجنة كتابة تاريخ ثورة يوليو أن تتبين وجه الحق في حادث المنشية... وبعد نشر مقال المرحوم عباس الأسواني علق اللواء طيار/ عبد الحميد الدغيدي في مقاله بعنوان «هذا رأيي في حادث المنشية» جاء فيه:
ذهبت مع السيد حسن إبراهيم عضو مجلس قيادة الثورة السابق لمعاينة شرفه مبنى بورصة الإسكندرية سابقا ومقر الاتحاد القومي .. .ثم الإتحاد الاشتراكي بالإسكندرية حاليا فقد كان من المقرر أن يلقى رئيس الجمهورية السابقة محمد نجيب خطابا سياسيا من هذا المكان واتضح لنا من المعاينة أن السور المحيط بالشرفة عالي بحيث طلبنا من قائد المنطقة الشمالية وقتئذ إعداد ما يقف عليه محمد نجيب أثناء إلقاء الخطاب... ليشاهد الناس ويشاهدوه... هذا من ناحية ومن ناحية أخرى فقد جمعني عقب إطلاق الرصاص بميدان المنشية على الرئيس جمال عبد الناصر مع النائب العام الأسبق الأستاذ/ سليمان حافظ الذي أشرف على التحقيق فسألته:
- هل عاينت مكان الحادث؟
- فأجاب بالنفي.. ثم استطرد قائلا:
- ولكن المتهم اعترف...
(وللتاريخ والإنصاف أقول أن عندي أي فرد أو جماعة كانت تدبر حادث الاغتيال المشار إليه ما كانت تختار ذلك المكان لتنفيذ خطتها فسور الشرفة كما أوضحت لا يسمح بدقة التصويب وخاصة أن الذين سبق لهم الاستماع إلى خطب بميدان المنشية ما كانوا يرون الرئيس الراحل بوضوح إلا على بعد يزيد على الثلاثمائة متر وتلك المسافة تخرج عن الرمي المؤثر لإطلاق المسدس كما أن الجمهور المتزاحم حول المقدم على الاغتيال لا يسمح له باتخاذ وضع التنشين على الهدف بالدقة والسرعة المطلوبة. صحيح أنه حدثت إصابات نتيجة إطلاق الرصاص لكن الواضح أنه إطلاق رصاص طائش مما يوحي بأنه لم تكن هناك خطة جادة للاغتيال ولكن خطة لأمر آخر....).
وهذه شهادة أخرى لرجل من رجال الأمن وهو مقدم الشرطة المتقاعد/ أحمد رفعت الجميعي.... والذي كان يعمل مفتشا للمباحث الجنائية لمدينة الإسكندية قال:
لقد أخبرني العقيد محمد عبد الله مأمور مركز رشيد بأنه أثناء إلقاء الرئيس السابق جمال عبد الناصر خطابا بميدان المنشية إذ سمعت أصوات أعيرة نارية.
شاهد العقيد الموجي قائد قوات الشرطة التي كانت تحافظ على النظام في الميدان بعض الأشخاص في الصفوف الأولى يمسكون بشخص على أنه هو الذي أطلق الأعيرة النارية فقام هو وعريف من الحرس بالقبض على هذا الشخص الذي تبين فيما بعد أنه يدعى محمود عبد اللطيف وبتفتيشه عثر في جيبه الداخلي على مسدس (بريتا) صغر عيار 6.35 ملم فاصطحبه هو والعريف إلى قسم المنشية القريب من مكان الحاث وأثناء توجهه إلى قسم المنشية حادثه بعض الأشخاص الذين أدعوا أنهم من المخابرات العامة وطلبوا من العقيد الموجي تسلمهم هذا الشخص (محمود عبد اللطيف) والمسدس واتخاذ اللازم نحوه. ولكن العقيد الموجي أبى ألا أن يثبت الإجرام اللازم في قسم الشرطة وفعلا عندما أراد أن يثبت هذا الإجاء في دفتر الأحوال طلبه الشرطي المنوب بتليفون القسم لمحادثة تليفونية هامة وكان المتحدث معه هو العقيد عبد العزيز الشافعي مفتش المباحث العام بالإسكندرية يطلب منه بل يأمره أن يسلم محمود عبد اللطيف والمسدس البريتا الصغير المضبوط معه إلى رجال المخابرات العامة ولا يثبت أي إجراء في دفاتر القسم أو محاضر التحقيق... وفعلا نفذ العقيد الموجي هذا الأمر (ليس كل هذا ما في الأمر) ولكن بعد عدة أيام تقدم عريف شرطة الذي شارك العقيد الموجي تسلم محمود عبد اللطيف من الناس بطلب إلى الحكمدار لصرف مكافأة له حيث أنه ضبط المسدس المستعمل في الحادث غير أنه أشير على العريف أن يسحب طلبه ولكن العريف أصر فما كان من رئيسه إلا أن أمر بتشكيل مجلس عسكري لأدائه بأقوال كاذبة.. حيث أن رجال المخابرات هم الذين قاموا بإلقاء القبض على من حاول اغتيال الرئيس كما أن البواب آدم حديو هو الذي عثر على المسدس المزور المستعمل في الحادث أما هو أي العريف فل يقم بأي إجراء منها... وكان أن أصدر المجلس العسكري حكما بحبس العريف ستة أشهر مضاها في سجن قوات الأمن بالأسكندرية.
قلت لمقدم الشرطة المتقاعد ومفتش المباحث بالإسكندرية السابق أحمد رفعت الجميعي ما رأيك أنت في الحادث؟ فقال:
- أولا ... محمود عبد اللطيف باعتباره غريبا عن الإسكندرية لو كان هناك تدبير كان الأفضل أن يقوم بالعملية واحد من التنظيم الخاص للإخوان المسلمون في الإسكندرية.
- وقد ثبت أنه كان للإخوان تنظيم خاص بالإسكندرية.. كما أنه لو كان هناك تدبير لحادث خطير كهذا الحادث كان لابد أن ترتب عملية هروب للفاعل وأن يكون هناك أفراد من التنظيم لتغطيته وحمايته.
أما بخصوص المكان الذي أطلقت منه الأعيرة النارية فيصعب منه الإصابة لأن إطلاق الرصاص كان من أسفل إلى أعلى ويصعب إصابة الهدف في هذه الحالة... وقد رأينا في حادث اغتيال كينيدي أن الجاني أطلق الرصاص من أعلى إلى أسفل...
أما بخصوص المسدس الذي أطلق منه الرصاص وحتى ولو كان هو المسدس (البرابيلو) الذي سلمه البواب بعد أيام من الحادث لجمال عبد الناصر وكافأه بمائة جنيه... علما بأن المسدس الذي ضبط مع عبد اللطيف بريتا صغير 6.35 ملم.. فكلا المسدسين غير مناسب في مثل هذا الحادث لأن عبد الناصر لم يكن يظهر منه غير النصف الأعلى من صدره ورقبته لوجود جدار الشرفة العالي وأدنى حركة من عبد الناصر ولو للخلف تنجيه...
كما أن هناك سؤالا جوهريا من الذي سمح لمحمود عبد اللطيف أن يجلس في الصف أي في الصفوف الأولى (الرابع والخامس) ونحن نعلم أن دواعي الأمن تجعل الصفوف الأولى لأهل الثقة ... إن لم تشغل كلها برجال الأمن..؟
وقد روي لي الأستاذ اللواء معروف الحضري.. وهو أحد الذين شاركوا في حركة 23 يوليو وواحد من المجاهدين الذي عرفتهم فلسطين قال:
من الثابت أن الذي أطلق الرصاص لم يكن محمود عبد اللطيف كما أدعى جمال عبد الناصر ومجموعته ولكن كان مدبرا وإلصاقه بالإخوان المسلمون للتخلص منهم.
ولم يكن التخلص منهم فقط هو الغرض الوحيد من الحادث بل والتخلص أيضا من اللواء محمد نجيب رئيس الجمهورية وقتئذ واعتقاله هو الآخر....
والمتأمل للحدث يجد أن هناك تمثيلية كبرى.. فهل من الممكن إصابة جمال عبد الناصر من أرض العرض المعد سابقا بطلقة من مسدس؟ لو أن هذه العلمية من تدبير جماعة الإخوان المسلمون وهي الجماعة التي خاضت حرب فلسطين وحرب القناة وقامت بعمليات عسكرية ناجحة فهل كانت ستترك لشخص واحد أن يقوم بالعملية؟... لقد وجد مسدس مع محمود عبد اللطيف حين فتش بعد القبض عليه كما وجد مسدس آخر سلمه آدم حديو الذي حمله وسافر به إلى القاهرة على قدميه وسلمه لعبد الناصر الذي أعطاه مكافأة مائة جنية على ذلك ونشرت له الصحف صورة مع جمال عبد الناصر.. فما معنى ودود المسدسين؟ ألا يكون هناك شخص آخر هو الذي أطلق الرصاصات من المسدس البرابيلو الذي سلمه آدم حديو...
كما أن ثبت أن المسدس الذي وجد مع محمود عبد اللطيف لم يطلق منه أي رصاص.
ويضيف الأستاذ معروف الحضري:
-أما هنداوي دوير ومحمود عبد اللطيف فقد عاشرتهم فترة طويلة لا تقل عن شهر قبل تنفيذ حكم الإعدام فيهما.
أحب أن أثبت أنهما كانا يتمتعان بكل صحة وسعادة حتى أن ملابسهم الداخلية والخارجية كانت تأتيهم من خارج السجن يوميا مكوية ومطبقة في الوقت الذي كسرة فيه جمجمة الشهيد الشيخ محمد فرغلي وقتل الشهيد إبراهيم الطيب قبل شنقه والغريب أن هنداوي دوير كان قد وعده عبد الناصر نظير ذهابه إلى الإسكندرية ومعه محمود عبد اللطيف بالمركز الهام العظيم ولذلك عندما وصل عنقه لحبل المشنقة صاح قائلا:
- هذا ما لم نتفق عليه...
- وراح بسره كما يقول الرئيس السابق محمد نجيب.
خبير أمريكي اقترح... إختلاق محاولة لإطلاق الرصاص على عبد الناصر
تحت عنوان (هذه هي الحقيقة) في باب حوار الأسبوع يوم 19 إبريل سنة1978 نشرت مجلة روز اليوسف رسالة من السيد/ صالح أبو رقيق يعلق فيها على مقال الأستاذ أحمد حمروش تحت عنوان (الإرهاب لا يثمر شيئا نافعا) نشر في عدد مارس 1978 وفي رسالة السيد/ صالح أبو رقيق جاءت فقرة موجهة إلى السيد حسن التهامي نائب رئيس الوزراء برئاسة الجمهورية الآن يقول فيها:
(... كما أن هناك شاهد أحسبه أمينا وأتعشم أن تقوى الله التي لا تنزل على قلبه الآن تدعوه إلى أن يجلي الحقيقة في هذا الحادث (حادث المنشية) المشئوم ويظهر الحق لعباد الله وهي شهادة أطالبه بها أمام الله في الدنيا وبين يديه في الآخرة هو السيد محمد حسن التهامي ليقول فقط من أطلق الثماني رصاصات في الهواء.
وقد أتاحت روز اليوسف صفحاتها للأستاذ/ أحمد حمروش كي يعقب على رسالة الأستاذ أبو رقيق ونشرت هذا التعقيب في مقال بتوقيعه في العدد الماضي الصادر في 24 أبريل 1978 واليوم تنشر روز اليوسف رأي السيد محمد حسن التهامي عن حادص المنشية:
فيما يختص بما نشر في المقال بشأن اتصال بعض قيادات الإخوان بالسفارة البريطانية في القاهرة وذلك عام 1954 فإن أمورا في ذلك الوقت لم تكن من مسؤوليتي المباشرة أثناء عملي مع عبد الناصر في تلك السنوات، كما لم يشأ عبد الناصر منى أن أتدخل في سياسته الداخلية بشأن جماعة الإخوان المسلمون بالذات، ولعلمه بالنظرة الإيمانية الهادفة التي آلت على نفسي منذ زمن بعيد- قبل الثورة وبعدها أن أنتهجها خطا أساسيا في فكري وفي معاملاتي.
إلا أنه أمام ما نشرته مجلة روز اليوسف في عددها 2601 في باب حوار الأسبوع تحت عنوان (هذه هي الحقيقة) صفحة 41 وتوجيه الطلب الصريح أن أدلى بفكري إزاء ما نشرته المجلة، فلا يسعني إلا أن أقول بأنني سمعت عبد الناصر شخصيا يتحدث في مبنى قيادة الثورة في الجزيرة عن اتصال الإخوان المسلمون بالإنجليز، وأن مجموعة قيادية من الإخوان ومن بينهم السيد حسن العشماوي الذي كان كثير التردد على عبد الناصر –وقد حضرت إليه المجموعة القيادية لتخبره بأن البريطانيين يسعون للاتصال بالإخوان للتفاهم على أوضاع داخلية أساسها كمل سمعت من حديث عبد الناصر دخول الإخوان المسلمون في محاولة للإمساك بالحكم وأن عبد الناصر قد صرح لهم بإجراء هذا الاتصال بالفعل وأبلغ الإخوان عبد الناصر بنتائج هذا الاتصال.
وأما بالنسبة لحادث إطلاق الرصاص على عبد الناصر في ساحة المنشية بالإسكندرية فلم أكن معه أثناء إلقاء هذه الخطبة، كما لو أصحبه في العديد من مثل تلك المناسبات الخطابية وزياراته للمحافظات وعلمت بنبأ إطلاق الرصاص على عبد الناصر وقد كان الحديث مذاعًا من الراديو يومها- وقد كان من بين إجراءات تأمين عبد الناصر وقتها محاولة إقناعه بارتداء قميص من واق من الرصاص يرتديه على صدره، وكان القميص قد ورد فعلا من أمريكا قبل هذا الحادث ببضعة أسابيع، وكان مودعا عنده في بيته، وأرسلناه إليه في نفس الليلة فوصله في الصباح الباكر اعتقادا منا بأن فشل المحاولة الأولى قد يعقبه تكرار المحاولة طالما هو مازال بالإسكندرية وعندما رآه في الصباح وكان معه العديد من الزملاء يهنؤنه على نجاته ضحك كعادته وقال(كل شيء انتهى) يقصد أن المحاولة انتهت ولا داعي للقميص، وكان تركيز جهات الأمن يومها حول محاولة معرفة التنظيم الإخواني الذي هو خلف هذه المحاولة حسب علمي فإن الذي أطلق الرصاص عليه كان (محمود عبد اللطيف) وأن حاشية عبد الناصر القريبة منه حاولت حمايته بأشخاصهم أثناء إطلاق الرصاص عليه والذي أصاب أسفل الشرفة التي وقف فيها عبد الناصر وأمامه الميكرفون، وانفعل الناس عند سماع صوت الطلقات وأسرعوا بإخلاء الساحة وكان عبد الناصر منفعلا بطبيعة الحال- ولكن انفعاله كان موجها إلى المستمعين فطالب الناس بالوقوف وعدم الانصراف ثم استمرت الخطبة كما هو معروف وقد شد انتباهنا وقتها أن خبيرا أمريكي الجنسية –في الدعاية والإعلام، ومن أشهر خبراء العالم وقتها في الدعاية كان قد حضر إلى مصر وكان من بين مقترحاته غير العادية التي لم تتمش مع مفهومنا وقت اقتراحها هو اختلاف محاولة لإطلاق الرصاص على عبد الناصر ونجاته منها فإن هذا الحادث منطقة العاطفة والشعور الشعبي، لابد وأن يزيد شعبية عبد الناصر لتأهيله للحكم الجماهيري العاطفي أكثر من أي حملة دعائية منظمة ويوصله إلى القيادة الشعبية من أقرب الطرق العاطفية بالنسبة لنا كان مرادفة هذا الحادث لهذه الفكرة وحدوثها بعد الاقتراح بشهور قليلة جدا مثار دهشة لنا كنا فسرناها وقتها بأنها (توارد أفكار عجيب ومصادفة غير عادية) وإني وإن كنت مازلت أركن إلى الصمت ولا أريد الحديث عن أحداث الماضي التي عشناها جميعا ويعرفها الكثيرون غيري إلا أن استجابتي لما نشرته المجلة ليس من ورائه قصد إلا إلحاق الحق بما يرضى الله تعالى وإنارة الطريق لوضوح رؤية قصدها الأول والأخير حق الله علينا في الوصول بمصر وبأمتنا إلى الطريق المستقيم –طريق العزة والكرامة.
وعن حادث المنشية المزعوم يقول رشاد مهنا الوصي علي عرش مصر السابق:
أن الموضوع الذي لا لبس فيه ولا إبهام هو أن القضاء على الإخوان المسلمون ومن يلوذ بهم أو يتعاطف معهم كان مدبرًا. وطريقة محاولة القضاء على الإخوان المسلمون في نظر رشاد مهنا كانت طريقة مكشوفة لم يجد عبد الناصر حبكها –ويشرح ذلك قائلا: إن حادث المنشية –على فرض وقوعه- هو قانونا مجرد شروع في قتل –ولذلك فإذا قارنا بين القانون وما اتخذه جمال عبد الناصر من إجراءات ضد الإخوان المسلمون نجد أنه لم يوفق في اختيار سبب محاولة القضاء على الإخوان المسلمون –لأنه لم يحدث في التاريخ قط أو أودع آلاف من الأشخاص في المعتقلات لمجرد شروع في قتل ارتكبه أحد الأفراد –هذا على افتراض صحة وقوع الجريمة أصلا.
ويضيف رشاد مهنا قائلا: لقد كان مفهوما ومعقولا –إذا افترضنا صحة الشروع في القتل أن يتم القبض على الجاني وشركائه أو حتى على مكتب الإرشاد بأكمله ... أما أن يتم القبض على آلاف من الأشخاص لم يعلموا بوقوع الجريمة إطلاقا ولم يروا الجاني في حياتهم فهو خروج صارخ على كل القوانين لم يسبق مثله في التاريخ ويدل دلالة قاطعة على أن الرغبة في القضاء على الإخوان المسلمون كانت موجودة أصلا عند الحكم الدكتاتوري منذ زمن بعيد وأن حادث المنشية كان محاولة مكشوفة لتغطية هذه الرغبة.
تعليق:
هذه شهادة أقرب الناس معرفة بما يدور خلف كواليس عبد الناصر-والذين وقفوا على حقائق كثيرة خافية على الشعب –ولا تزال هناك حقائق كثيرة مجهولة حجتها الظروف القاهرة المستبدة.
وحادث المنشية لا يزال في انتظار فرص وظروف أكثر ملاءمة ليكشف بعض الذين على بينة من الحقائق الحاسمة التي لا تحتمل أي تأويل عن الحق المبين. وإن هذا اليوم آت ويومئذ تنكشف المؤامرة وتعري من كل تضليل وخداع. ﴿أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ﴾- ﴿ وَمَا كَانَ رَبُّكَ نَسِيًّا﴾.
ولا يفوتني أن أقرر أن الجهاز الخاص للإخوان المسلمون في الإسكندرية لم يكن لديه أي علم ولا تخطيط ولا نية لاغتيال جمال عبد الناصر.
وقد كشف كتاب جرائم الإخوان المسلمون الذي أصدرته الحكومة عن اكتشاف عشرات من الأسلحة الخفيفة وآلاف من الطلقات وكميات ضخمة من القنابل المختلفة وكذا المتفجرات من قوالب قطن البارود والجلجنايت في الإسكندرية والقاهرة وغيرها.
كما أنه قبض على مجموعة لا تقل عن عشرة ضباط من السلاح البحري وكذا في مختلف الوحدات العسكرية مع مجموعة من صف الضباط والجنود في الجيش والبحرية والطيران.
ولو أن الإخوان المسلمون كانوا قد خططوا لاغتيال جمال عبد الناصر لارتفعوا إلى المستوى الذي يحقق لهم ما أرادوا ولم يغيب عنهم إعداد رديف ورديف، فإن الكارثة والطامة لا حقه بهم من أول طلقة صابت أو خابت فالذي حدث هو مؤامرة لا ريب فيها على الإسلام ولكنها لا تعمى الأبصار –ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.
نحن الآن في عام 1955 أفرج عني وتنازلت عن القضية ولكنني ظللت مجروحا فلم يحدث في كل تاريخي النضالي أن أهنت كما أهنت وأعتدي علي كما اعتدي في ظل الثورة.
ووقعت الواقعة: أطلق الرصاص في ميدان المنشية على جمال عبد الناصر وكان الضارب يدعي عبد اللطيف من الإخوان المسلمون وعلى الرغم من أن عبد الناصر نجا فقد ظن أنه أصيب في مقتل وراح يثرثر بكلام فارغ يكشف عما في عقله الباطن .. فراح يخاطب الشعب بقوله: غرست فكم العزة والكرامة ... واستغل هذا الحادث للبطش بالإخوان المسلمون وتألفت محكمة خاصة لمحاكمتهم وهو عبد القادر عودة..كان مسجونا قبل وقوع الحادث فلم ينج من عقوبة الإعدام وفزعت من هول المحاكم... ومن فظاعة أحكامها وأدركت أننا أصبحانا نعيش في ظل عهد جديد .. حيث لا قانون ولا حدود وإنما إرادة الحاكم ومطلق مشيئته فقررت أن أهاجر من مصر.. وإذا كان الوقت هو موسم العمرة فقد قررت أن أسافر إلى السعودية طلبا للعمرة.. ومن السعودية أختار البلد الذي أتوجه إليه، وإمعانا في التمويه والتعمية طلبت مقابلة عبد الناصر لأستأذنه في السفر وبالرغم من أنني كنت مقررا أن لا أتحدث في غير التحيات والسلامات والمجاملات العادية. فقد كان هو الذي دفعني للكلام حيث لم أتمالك نفسي عن نقده سألني وما رأيك في الإخوان المسلمون قلت: إنك تعرف رأيي أقصد الموقف الأخير. ووجدتني أندفع بلا وعي أندد بإعدام عبد القادر عودة.
قلت لقد كان باستطاعتك أن توفر 50% من النقد الذي وجه إليك لو وفرت حياة إنسان واحد، وأسرع يقول تقصد عبد القادر عودة؟ قلت نعم فإن عبد القادرة عودة بريء من الحادث الذي وقع عليك، كما أنه برئ من أعمال العنف ومضيت أترافع في حماس هناك ثلاثة أدلة يكفي كل واحد منها لتبرئة عبد القادر عودة. وقد ثبتت كلها أمام المحكمة.
الأول: أنه كان سجينا قبل وقوع الحادث بعد أسابيع.
الثاني: أنه أقترح من بعض الأعضاء القيام بمظاهرة مسلحة. فأنكر عبد القادر عودة هذا الاقتراح بشدة.
الثالث: أن البعض اقترح القيام بمظاهرة سلمية فرفض عبد القادر عودة القيام بأية مظاهرة. وأصغى جمال عبد الناصر لمرافعتي ثم قال:
والله يا أخمد نحن لم ننظر للأمر من الناحية القانونية –بل نظرنا إليه من الناحية السياسية. غادرت مصر إلى السعودية، وأنا لا أكاد أصدق أنني هربت من الجحيم الذي أصبح الأبرياء فيه يعدمون لأسباب سياسية... وبعد أن أديت مناسك العمرة وجاء وقت الرحيل رحلت ولكن لا إلى مصر بل إلى سوريا.
ولكن عبد الناصر أصبح يشعر أنه الثورة كلها وهو الطريق وهو الغاية ومصر كلها أصبح عليها أن تخدم عبد الناصر. وعبد الناصر لم يكن له إلا حب واحد: هو السلطة مثله في ذلك مثل نابليون وهتلر وموسوليني ولينين وستالين وهؤلاء الرجال الذين يتملكهم حب السلطان ،يتلاشى في اعتبارهم كل شيء إلا أشخاصهم مصر كلها لم يعد لها وجود لأن الوجود كله كان لعبد الناصر وفي إحساسه أنه ليس ابن مصر بل مصر من صنع يده قبله لم توجد مصر (إلا في خطبه) وبعده لا يمكن أن توجد مصر وفي حديث له مع مجلة لايف الأمريكية سنة 1958 سأل: ماذا تظن أن يحدث لمصر بدونك فكان الجواب الغريب: تنقسم إلى حزبين: حزب مع روسيا وحزب مع أمريكا! وما دام قد وصل إلى السلطان بالقوة، فقد أصبحت القوة عنده وسيلة سهلة لتحقيق ما يريد، والقانون هو عبد الناصر.
هذا يفسر لك كل ما حدث في عصر عبد الناصر، الحسن والقبيح على السواء كل ما يخدم سلطة فهو حسن، وكل ما لا يخدم هذه السلطة فهو سيئ من يخدمه ينال الدنيا، ومن يعارضه يمضي إلى الجحيم إذا أراد أن يحالف روسيا فإن مصر كلها تريد أن تحالف روسيا، وإذا أراد أن يغزو اليمن فمصر كلها لابد أن تغزو اليمن. لا يهم كم ستخسر مصر في حرب اليمن، لأن المهم هو أن عبد الناصر يريد، ولأنه يريد فمصر كلها لابد أن تطيع.
ولكن: من الذي يفتح الطريق أمام المستبد ليصل بالاستبداد إلى مداه؟ حاشية السوء أو نسميهم هنا بالسوبر باشوات، كبار المستبدين يكونون دائما من عشاق السلطان: لا طعام يغريهم ولا شراب ولا نساء ولا ترف ولا متاع، السلطة فقط، هكذا كان لينين وستالين وموسوليني وهتلر ولينين لكي يضمن السلطان جعل ستة من اليهود وزراء.
ويتحدث أصحاب الرأي عن قرائن أخرى تظلل قصة محاولة قتل عبد الناصر بظلال كثيفة من الشكوك والمباحث السياسية- التي عرت بعد ذلك باسم المباحث العامة- باعتقال عدة آلاف من المنتسبين إلى جماعة الإخوان المسلمون في ساعات قليلة, وبالتحديد في الفترة التي تلت إطلاق الرصاص على عبد الناصر في المنشية مساء وقبل فجر اليوم التالي (أقل من 5 ساعات).
ويقول هؤلاء أنه ليس من المعقول أن يتم في هذا الوقت القصير حشد هذا العدد الهائل من رجال الشرطة بسياراتهم وأسلحتهم، وتزويدهم بالأسماء والعناوين وتوزيعهم على مناطق مصر المختلفة، وتحديد مسؤولية كل فرقة منهم والأماكن التي سيذهبون إليها والشخصيات التي يتم اعتقالهم ثم ينقل المعتقلون إلى أماكن محددة بذاتها، كل ذلك دون أن يكون هناك إعداد مسبق.
ومهما بلغت كفاءة وإمكانات أجهزة الأمن، فسيبقى من المستبعد أن تقوم باستدعاء الرجال وتكليفهم بالمهمات وتحديد الأهداف والتنفيذ قبل أن تشرق الشمس.
وهناك روايات كثيرة يدعى أصحابها أن علميات اعتقال الإخوان قد بدأت بالفعل قبل لحظات من إطلاق الرصاص على عبد الناصر، وأن الخطة كانت موضوعة على أساس التحرك في توقيت معين وليس عقب سماع صوت الطلقات من إذاعة القاهرة، وقد أكد أحد أصحاب المكتبات في مدينة بورسعيد أنه وجد رجال الشرطة في بيته يبعثرون الأثاث ويجمعون كل كتاب وكل ورقة، ثم يسوقونه إلى المعتقل بينما عبد الناصر يبدأ خطابه في الإسكندرية ووجد الإخوان في ذلك أدلتهم على أن الأمر برمته مفتعل ومصطنع.
«الرصاصات التي انطلقت صوب جمال (جمال عبد الناصر) يوم 26 أكتوبر 1954، وهو يلقي خطابا حماسيا وسط جماهيره حسمت الكثير من القضايا السياسية –التي كان من المفروض أن تكون ضده –لصالحه، فأزمة مارس (أذار) 54، لم تكن قد أغلقت ملفاتها بعد جماهيريا، حين أن الشارع المصري لا يستطيع التخلي عن مشاعره بسهولة تجاه زعيم أحبه، ولم تبدر منه إساءة ملموسة تجاه الوطن والشعب، وذلك كان موقفه من «محمد نجيب» الذي كرس نفسه طوال فترة رئاسته لكسب ود جماهير الشارع المصري، فارتبط في أذهانها بصورة «الأب الطيب» لذلك لم يكن هناك من طريق يثير نخوة الشارع المصري أفضل من أن يرى زعيم ثورته، تمتد الأيدي لاغتياله وهو في حماية جماهيره، فيقف صارخا وسط الرصاص المنهمر من حوله: «فليبق كل في مكانه... وإذا مات جمال عبد الناصر فكلكم جمال عبد الناصر!».
هذا المشهد الأسطوري الذي لم يألفه الشعب المصري من قبل، كان بداية صعود نجم عبد الناصر، وأفول نجم العديد من القوى السياسية المناوئة له.
إلا أن هذا الحديث، كان بداية أكبر كارثة تحيق بالإخوان المسلمون منذ تأسيس جماعتهم، وتصفية زعيمهم –حسن البنا- جسديا.
البعض قال: إن هذه الرصاصات دبرها عبد الناصر للتخلص من غريمه القوي في الساحة السياسية، وهو «جماعة الإخوان المسلمون».
والإخوان قالوا: ليس لنا علاقة بعملية الاغتيال من أساسها، وإنما إما عمل ملفق عمل فردي.
والأجهزة الرسمية أعلنت: أن التنظيم السري للإخوان المسلمون هو المدبر للحادث.
وتشكل ما عرف ب «محكمة الشعب» ونصبت المشانق، وامتلأت المعتقلات.
والسؤال الحائر إلى اليوم: لحساب من أطلق «محمود عبد اللطيف» رصاصات مسدسه على جمال عبد الناصر؟!!
ألحساب الإخوان و «النظام الخاص» أم لحساب جمال عبد الناصر؟ ... أم لحساب أعداء الإخوان والإسلام في الخارج؟!!
يفتح الأستاذ «عمر التلمساني» المرشد العام للإخوان المسلمون ملف «حادث المنشية» ويدلي بشهادته التاريخية حوله... فيقول:
أعود إلى صلة الإخوان بعبد الناصر ،وحادث المنشية, أو التمثيلية النادرة التي اتخذ منها جمال عبد الناصر، بعد فشله في المؤامرة الأولى الخاصة بالسفارة البريطانية, تكئه ليبطش بالإخوان، ونحن أبرأ ما نكون من تلك المؤامرة المفتعلة بالأدلة الدامغة:
• أولا: شهادة «محمد نجيب» الذي أقسم بشرفه العسكري أن حادث المنشية مفتعل.
• ثانيا: شهادة السيد «محمد حسن التهامي» التي نشرتها مجلة روز اليوسف يوم الإثنين أول مايو (أيار) 1978، وفيها ستجد أن مخرج هذه التمثيلية رجل أمريكي من المخابرات الأمريكية.
ويشهد السيد «حسين الشافعي» والمرحوم «أنور السادات» أن عبد الناصر ما كان يطلع زملاءه على تخطيطه، ويثبت ذلك في كتاب السيد «عبد اللطيف بغدادي» (الصامتون يتكلمون) ولقد كان السيد «حسين الشافعي» أمينا في قوله «الحقائق التي رآها الناس تثبت أن الإخوان المسلمون أطلقوا الرصاص على جمال عبد الناصر كما رآها عامة الناس، أطلقت رصاصات على جمال عبد الناصر في ميدان المنشية الفسيح وقالت وسائل الإعلام الموجه أن الإخوان هم الذين أطلقوا الرصاص».
وهذا القول من السيد «حسين الشافعي» بهذا الوضوح يؤكد ما قاله السيد «عبد اللطيف بغدادي» من أن جمال عبد الناصر لم يطلعهم على شيء من تخطيطه.
• ثالثا: عندما علم فضيلة المرشد أن بعض شباب الإخوان كانوا يذهبون إلى الاحتفالات التي يحضرها عبد الناصر كنوع من التدريب، طلب المرشد على الفور الشهيد يوسف طلعت رئيس النظام الخاص، ولامه على ذلك لوما شديدا، وقال له: «أنا ضد هذه التدريبات، وضد فكرة الاغتيالات مهما كانت الأسباب وإني لا أضمن الاندفاع والتهور وأنا برئ من كل دم يسفك». وهذا ثابت من التحقيقات.
• رابعا: لماذا نرسل الشهيد محمود عبد اللطيف إلى الإسكندرية، وهو غير عليم بطرقاتها والاحتفالات في القاهرة كثيرة، والفرص فيها أوسع؟
• خامسا: كيف تدبر حادثة كهذه، دون أن نرسل مع الفاعل، رديفا يحمي ظهره أو يكمل عمله.
• سادسا: كيف يذهب إلى الإسكندرية دون علم الجهاز الخاص هنا، والذي زعموا أن عنده من الأسلحة والذخائر الشيء الكثير، أو كما زعموا أن تشكيل الإسكندرية يستطيع احتلال ثكنات الجيش والاستيلاء على الأسطول؟
• سابعا: أما كان من الأيسر أن يكلف بهذه المهمة جهاز الإسكندرية وهي بلده ويعلم كيف يسير فيها وينجو ممن يتعقبه؟
• ثامنا: عندما أحضروا الصدر الواقي لعبد الناصر في صبيحة اليوم التالي للحادث خشية أن يعتدي عليه أثناء عودته للقاهرة, ضحك وقال: «انتهى كل شيء» كما أنه لم يكن وقتها في الجو ما يدعو إلى اغتيال جمال عبد الناصر.
• تاسعا: لما اعتدى بعض اتباع عبد الرحمن السندي على بيت المرشد لإرغامه على الاستقالة، أرسل الإخوان الشهيد محمد فرغلي والأستاذ سعيد رمضان، يرجوان جمال أن يسمح للصحف بنشر بيان إخواني عن هذا الحادث فوافق.
إذن فقد كان الجو صافيا، ليس فيه ما يدعو إلى الاغتيال، إذ لم يكن هناك صراع، وكان ذلك قبل يوم حادث المنشية بأيام قليلة.
قصة النوبي آدم
• عاشرا: ذلك النوبي «آدم» الذي جاء من الإسكندرية ماشيا على قضباب السكة الحديد ليسلم مسدس الحادث بنفسه، لأنه هو الذي عثر عليه إلى جمال عبد الناصر يدا بيد. والذي أعطاه جمال مائة جنيه ألا تضحك من هذا الهراء الهزيل، كيف ترك القابضون على الفاعل مكان الحادث دون البحث عن السلاح المستعمل في الجريمة؟!
• أحد عشر: لم يثبت وكيل النيابة الذي حقق الحادث في الإسكندرية أية آثار للرصاصات الثماني التي أطلقت في الحائط، لا على الحائط ولا الشرفة ولا حولها
• ثاني عشر: ما أصاب الوزير السوداني والمحامي «بدر» كان من أثر الزجاج المتطاير من الشرفة عندما تكاثروا عليه لينفذ كل واحد بجلده.
• ثالث عشر: ثابت في أوراق تحقق تلك القضية أن «محمود الخواتكي» عندما علم بأن «هنداوي دوير» يبحث عن مسدس، ذهب إليه وقال له هناك تعليمات من المرشد مشددة بعدم الاغتيال فلماذا تطلب مسدسا قال للتمرين، قال هذا شأنك، ورفض أن يعطيه مسدسا.
• رابع عشر: عندما أطلقت الرصاصات الثماني في الهواء الطلق من شخص لا يزال على قد الحياة ومتمتع بمنصب مرموق وصاح شخص «موش ده اللي ضرب» اختفى هذا الصائح ولم يعرف مكان حتى الآن، لتضيع معالم المؤامرة.
• خامس عشر: ما الذي كسر القلم الحبر الأحمر الذي كان في جيب «جمال» على صدره، ليبدو أمام الناظرين وكأن دما يسيل من صدره مع أن الرصاص لم يصب جمال؟ مجرد سؤال.
• سادس عشر: عندما أعدم «هنداوي دوير» نقل الحاضرون التنفيذ أنه قال: «إذن تمت المهزلة على رأسي»!
• سابع عشر: حادث اعتداء على رئيس انقلاب عسكري يتم دون أن يعرف المسئولون عنه شيئا دون أن يتخذ الإخوان أية احتياطات وقائية، لما قد يترتب علي هذا الاعتداء وقد ثبت في التحقيق أن الشهيد «يوسف طلعت» رئيس النظام الخاص، والشهيد «إبراهيم الطيب» رئيس نظام القاهرة، لا يعلمان شيئا عن هذا الحادث، ولم يعلما به إلا من الإذاعة.
• ثامن عشر: المعاملة الممتازة التي كان يعامل بها «هنداوي دوير» دون غيره من المساقين ظلما إلى هذا الاتهام الباطل، لها دلالتها بشكل واضح على تلفيق هذه القضية التي اختلقوها، ليقيموا على أساسها شعبية لعبد الناصر ، لأن طبيعة الشعب المصري تحنو دائما على كل من يعتدي عليه أو يظلم في موقف من المواقف.
هذه هي أسطورة حادث المنشية.
عداؤنا للإنجليز :
إن الإنجليز أشد الناس نقمة على الإخوان والإخوان المسلمون يبادلونهم هذا الإحساس وليس ذلك م نقبل العواطف وتقلباتها ولكن الأسباب المؤثرة في حياة الشعوب، هي التي دعت لقيام هذا الجفاء بين الإخوان والإنجليز وإذا أراد الإخوان أن يستعينوا بأحد ضد حركة الانقلاب، فالإنجليز آخر من يفكر الإخوان في الاستعانة بهم، أو أنهم لا يفكرون في ذلك على الإطلاق للعديد من الأسباب...منها:
1- هم الذين استعمروا مصر قرابة السبعين عاما، فأفسدوا فيها كل مظاهر الإسلام، مما أدى إلى ضعف الناحية الدينية في مصر، لولا أن الله بعث لمصر جماعة الإخوان المسلمون ، وأنقذوها من الهاوية السحيقة التي كانوا يحفرونها تحت أقدام المسلمين وهم عنها في غفلة واستراخاء.
2- هم أصحاب وعد بلفور الذي جعل من فلسطين وطنا قوميا لليهود، مع أن أرجاء العالم كان فيها من الأماكن ما يصلح لهذا الغرض، لولا أن النية أصلا عندهم كانت مبيتة على التخلص من الإسلام والمسلمين.
3- هم الذين جردوا أهل فلسطين من كل سلاح وأغدقوه على اليهود فقاموا بالمجازر الوحشية ضد المسلمين من أهل فلسطين كمذبحة دير ياسين وغيرها، وورثهم في هذا التخطيط الأمريكان «إن الإنسان لظلوم كفار» .. .
وها هي كما نراها لم تكن إلا عاصفة في «كشتبان» أو فقاعة هوائية لا تصبر حتى على نسمات الصباح. اقتراح حل التنظيم السري
كان المرحوم الشهيد «إبراهيم الطيب» محاميا، دمث الأخلاق طب السريرة، مخلصا لدينه، ولئن كان مسئولا عن تنظيم القاهرة، فهو النظام الذي سبقت الإشارة إليه من أن الإخوان ما أقاموه إلا لإخراج الإنجليز من مصر، واليهود من فلسطين ، وهما هدفان من أسمى وأنبل ما يسعى لتحقيقه كل محب لدينه ووطنه، إن ما أعرفه عن الشهيد «إبراهيم الطيب» أنه ما كان ليفكر في يوم لارتكاب جريمة أو اغتيال ولكنه قدره هو الذي ساقه إلى هذه المأساة التي حاك خيوطها عبد الناصر ومن حوله والله وحده هو الذي يقضي بينهما.
أما المرحوم «هنداوي دوير» فكان شابا مغامرا، ثائر الأعصاب، سريع التأثير ما يسمع، وهناك شائعات كثيرة حول من ورطوه في هذه المغامرة, وكان بعض هؤلاء له مكانة في الإخوان تمكنه من التأثير على هنداوي دوير ، وإقناعه بأن الأمر يهم قيادة الإخوان ، مع أخذ المواثيق عليه، أن يجعل الأمر سرا بينهما، ومن رأى هنداوي دوير مع ذلك الإنسان يدخلان منزل عبد الناصر قبل حادث المنشية بيوم واحد لا يزال حيا، وإن كان المرض قد جعله يلزم منزله.
ولو كانت الأدلة في يدي لذكرت الأسماء، ولكني لا أتهم بلا دليل ولا أسير وراء شائعة.
ويتساءل بعض الناس عن السبب الذي دعا الشهيد «عبد القادر عودة» إلى إرسال رسالة إلى عبد الناصر يتقرح فيها حل النظام الخاص، وتسليم أسلحته... من جانبي لم أطلع على هذه الرسالة، ولم أعلم عنها شيئا إلا ما سمعته من الإذاعة كما سمعت غيري، ولئن كانت هناك رسالة حقا بهذا المعنى، فأكبر الظن عندي أنها أرسلت إظهارا لحسن النية من جانب الإخوان ، وإرضاء عبد الناصر بكل ما يطلبه من الإخوان اطمئنانا على حياته، ومن يدري كيف كتب هذه الرسالة وتحت أي ظروف، وملابسات ظن الشهيد عبد القادر عوده أنها تؤدي إلى الهدوء وتنقية الجو مما علاه من تراب.
عبد الناصر والتعذيب :
إن الأدلة قاطعة في إثبات علم عبد الناصر بكل ما كان يحدث في السجن الحربي من تعذيب وإيذاء، ذلك أن له من العيون كانت تنقل إليه كل صغيرة وكبيرة ونكتة في مصر من أقصاها إلى أقصاها.
هذا إلى أن ما كان يحدث في السجن الحربي كان يشهده أحمد أنور رئيس البوليس الحربي، وعبد الحكيم عامر الذي زار السجن الحربي في ذلك الوقت عدة مرات، ولم ننس أن أحمد أنور قال مرة لحمزة البسيوني مدير السجن الحربي وعلى مرأى ومسمع من آلاف الإخوان والضباط والجنود: «أيوه يا حمزة هبلة ومسكوها طبلة» فرد حمزة البسيوني في أدب وخضوع «أيوه يا أفندم»...
يضاف إلى ذلك أن ما حدث في السجن الحربي ما كان يقصد التعذيب فقط، ولكن كان فيه الإذلال الشيء الكثير وفكرة الإذلال لا ترد على بال القائمين بالتعذيب، لأنهم لا يهمهم إلا المبالغة في الإيذاء والتنكيل، أما الإذلال فكان وليد فكرة في رأس إنسان ذاق مرارة الذل، فأراد الانتقام لنفسه، من كل عزيز كريم، عندما واتته السلطة المطلقة، مما كان يبعث في نفسه الارتياح إذا ينتقم ممن كانوا يظنون بالأمس أنهم سادة كبراء.
ولست أقطع أهي عقدة التعويض، أو أي معنى آخر يعف عن كتابته قلمي.
إذا نظرنا إلى عبد الناصر كحاكم يجب أن يعرف ما يحدث في البلد الذي يحكمه، فلا يمكن القول بأنه لم يكن يعلم بما يحدث في السجن الحربي، وإلا لم يكن «عبد الناصر».
هذا مع العلم بأن كل ما كان يفعله الضابط من تعذيب الإخوان جريمة لا تخفى عواقبها على أمثالهم، فلو لم يكن تحت أيديهم من الوعود والمواثيق ما يكف عنهم المسؤولية لما أقدموا عليها، وهذه الوعود والمواثيق لا يأخذ بها إلا إذا كانت صادرة من عبد الناصر نفسه.
وإذا قلنا أنها من باب إتقان المهنة، فمن الذي كان يعينه أن يعرف أنهم أتقنوا مهمتهم أليس من بيده المكافآت والترقيات وهل تتم من غير علمه، هذا إلى جانب أنه كانت هناك حوافز مالية تسمى «بدلات تعذيب» من الذي كان يصرفها!!
وتحت أي بند من بنود ميزانيات الجيش كانت تدرج!!
إن علم جمال عبد الناصر بكل ألوان التعذيب أمر مقطوع به لأن الخاص والعام في مصر كان يعرف ما يحدث في السجن الحربي، حتى غد اسمه هولا ورعبا في قلوب المصرين جميعا حتى المقربين منه، فد نكل بكل من تعاون معه في هذا الانقلاب، فكيف إذن لا يعلم عبد الناصر بهذه الإجراءات، خاصة بعد ما أذيع أن الأشرطة كانت تنقل إليه أولا بأول يستعرضها في صالون منزله مع زواره.
محاكمة الإخوان باطلة :
أول بطلان قانوني في محاكمة الإخوان ، وصف التهمة بأنها «قلب نظام الحكم» أي أن المجني عليهم هم رجال الحكم، ومن بينهم أعضاء المحكمة التي حاكمت الإخوان ، فهل يجوز في عرف أو قانون وضعي أو سماوي أن يحاكم المجني عليه الجاني؟.. الجواب معروف بال شك هذا إلى أن الاعترافات التي تقدم لأية سلطة قضائية في العالم، يشترط فيها أن تكون عن رضا وفي ظروف عادية.
وكان الإخوان يقدمون إلى هذه المحكمة باعترافاتهم، وكلهم مثخنون بالجراح، وعلامات التعذيب، ثم يحكم عليه باعترافاتهم المزعومة، ويا ليت الأمر وقف عند هذا الحد بل إن الأخ الذي كان ينكر الاعترافات المقدمة للمحكمة كان يعاد إلى السجن الحربي لينظر في أمره، ثم يجيء وقد أيقن بأن المستجير بالمحكمة من معذبيه، كالمستجير من الرمضاء بالنار.
وكان جمال سالم هو الذي يقوم بالسخرية والإهانات، أما العضوان الآخران، فقد ظلا طوال المحاكمة صامتين.
وقد انتهى الأمر بجمال سالم إلى خلع بذلته العسكرية وارتدى الجلباب الأبيض والعباءة البنية اللون، وكان يقضي أغلب ساعات النهار في مسجد السيدة زينب.
هل ندم وعلى أي شيء ندم؟ وهل تاب من أي شيء؟ ألا إن رحمة الله واسعة، ولن تضيق بمن يلجأ إليه، مهما كانت جرائم وإن من أكبر الذنوب عند الله، من يستعظم جريمته على عفو الله.
أما تقييمي لرئيس تلك المحكمة فقف عند قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (اذكروا محاسن موتاكم) فلندعهم جميعا إلى عدل الله، فهو أعدل العادلين.
ذلك هو الحادث كما يراه الإخوان المسلمون ، أما رأي الذي أدين به والذي كونته من دراساتن وتفكير خلال ربع قرن منذ وقوع الحادث حتى كتابة هذه السطور، هذا الرأي يتخذ دعاماته من الأحداث والأقوال التالية:
أولا: الدقة الشاملة في إعداد السرادق وتنظيم الذين يحتلون مقاعده، وقد سبق أن اقتبسنا كلمات إبراهيم الطحاوي الذي يقرر أن هيئات ثلاث كانت مكلفة باحتلال مقاعد السرادق، هي هيئة التحرير، وعمال مديرية التحرير، والحرس الوطني وهذا يوضح أنه لم يكن هناك مقعد يمكن أن يتسلل إليه مغامر ليعتدي على جمال عبد الناصر، فما كان الوصول إلى المقاعد أمرا ميسورًا ولم يترك للجماهير إلا المقاعد الخلفية النائية.
ثانيا: قصة الجنيهين اللذين تحدثت عنهما الصحف المصرية وقالت أنهما أعطيا لمحمود عبد اللطيف لينفق منهما على أولاد وأسرته هي في تقديري أسطورة لم يجد حبكها، فالمبلغ الذي يقدم لمن هو فقر ويطلب منه أن يقدم على هذه المغامرة لابد أن يكون مبلغا ضخمًا، يغري بالإقدام على هذا الجرم.
ثالثًا: ثماني رصاصات تنطلق من مسدس يمسك به رجل مشهود له بالدقة في إصابة الهدف، ولا تنجح واحدة من هذه الرصاصات في إصابة الهدف أو إصابة أي شخص من الذين أن يكون مبلغًا، ضخمًا، يغري بالإقدام على هذا الجرم.
ثالثا: ثماني رصاصات تنطلق من مسدس يمسك به رجل مشهود له بالدقة بإصابة الهدف، ولا تنجح واحدة من هذه الرصاصات في إصابة الهدف أو إصابة أي شخص من الذين يحيطون بجمال عبد الناصر، أو إصابة أي إنسان على الإطلاق، هذا في تقديري مستحيل.
ثم إن المشرفين على السرادق سرعان ما طمأنوا الناس ودفعوهم للهدوء، ولو كانت هناك مؤامرة فعلا لا نفض الحفل مخافة أن يكون هناك مزيد من الرصاص.
ومما يتصل بالإصابات نذكر أن الإصابات القليلة التي حدثت كانت من زجاج انكسر، ربما من الزحام الجموع التي تحركت عقب الحادث ولم يكن هناك إصابات من المسدس على الإطلاق.
رابعا: كانت المسافة بين المكان الذي قيل إن محمود عبد اللطيف أطلق منه النار وبين جمال عبد الناصر 300 متر، وكان عبد الناصر على منصة عالية, وهذه المسافة وارتفاع الهدف يجعلان من المستحيل نجاح الخطة وإصابة الهدف، وبالتالي لا يقدم على هذا العمل جماعة لهم خبرات بالتخطيط والأمور العسكرية.
خامسًا: من المعروف أن الإخوان المسلمون كان عندهم ذخائر ومدمرات هائلة، ولو اتجهوا للاغتيال لكان هناك وسائل أخرى لتحقيق هدفهم، ومن المستحيل أن يقدموا على هذا العمل بمسدس لا يستعمل عادة إلا عن المسافات التي لا تتجاوز أصابع اليدين من الأمتار.
وقد تحدثت الصحف آنذاك عن أسلحة ومفرقعات ضبطت لدى بعض الإخوان بالإسكندرية كانت تكفي لنسف المدينة كلها .
سادسًا: حكاية النوبي الذي حمل المسدس سيرًا على الأقدام من الإسكندرية إلى القاهرة حكاية ساذجة ننقدها من النقاط التالية:
1- كيف أتهم محمود عبد اللطيف قبل العثور على هذا المسدس؟ مع ملاحظة أن المسدس الذي قبل إنه وجد معه لم يستعمل ذاك المساء؟
2- كيف أفلت المسدس المستعمل من الذين قبضوا على محمود عبد اللطيف؟
3- لماذا لم يسلم النوبي المسدس لنيابة الإسكندرية؟
4- لماذا جاء هذا الرجل سيرًا على الأقدام طيلة هذه المسافة التي لا تقطع عادة سيرًا على الأقدام.
سابعا: يروي صلاح الشاهد أنه كان يقود سيارته مساء يوم 26 وسمع جزءًا من خطاب الرئيس من مذياع بالسيارة ثم سمع الطلقات، فأسرع نحو بيت الرئيس ليكون مع أولاده في هذه الأزمة, ولم يجد صلاح الشاهد بالبيت اضطرابا أو ذعرًا وأخذ يداعب أولاد اللذين كانوا يلعبون، وهذا يوحي لي أن أسرة الرئيس كانت تعلم سلفا بما سيجري، وقد شاهد هذا الاطمئنان قبل أن يتصل بهم عبد الناصر من الإسكندرية.
ثامنا: يروي فتحي رضوان أن عبد الناصر كان أكبر المتحمسين لإقامة محمد نجيب في أكتوبر سنة 1954، وكان يقول: في فبراير كان نجيب أقوى منا فكان في إقالته ضرر للثورة، أما الآن فقد أصبحنا أقوى منه، وفي تأخير إقالته نفس الضرر.
وتعليقنا على ذلك أن العبارة توضح أن إقالة محمد نجيب لم تكن لاتهامه بالمشاركة في محاولة الاغتيال، بل للرغبة في إقالته لأن عبد الناصر أصبح أقوى منه، ولو كانت هناك «محاولة للاغتيال ومشاركة» من محمد نجيب فيها للزمت إقالته دون هذا التعليل الذي ذكره عبد الناصر، وقد أشرنا لذلك من قبل.
وبناء على هذه الأشياء أعتقد أن الحادث مختلق، وأسطورة مصنوعة, لم يستطيع مؤلفوها أن يجيدوا حبكها، فجاءت بها هذه الثغرات التي كشفت عن حقيقتها ولكن ذلك كان بعد إراقة الدماء البريئة، وبعد تعذيب عدد هائل من أصفياء المسلمين، وإذا كان الظلام قد أحاط بهذا الحادث في حينه فنرجو أن تكون أشعة الضوء التي دوناها كافية لإبراز الحقيقة ولإنصاف المظلومين ومعاقب الآثمين.
واختلاق هذا الحادث يقرره محمد نجيب في مقال له بمجلة الرأي الكويتية, وفيه يقول: إن فكرة إطلاق الرصاص على عبد الناصر في الإسكندرية تتحدث عن مؤامرة وهمية من أولها إلى آخرها وكانت مرتبة بواسطة رجل من أجهزة المباحث العامة، وقد كوفئ هذا بمنضب كبير أسند إليه، وقد استطاع هذا الرجل استئجار شاب مصاب بجنون العظمة, وأغراه بأنه لو اعترف بأنه حاول قتل عبد الناصر فسينال مكافأة ضخمة ويسمح له بالهجرة خارج البلاد... فلما وقع في هذا الفخ واعترف صدر الحكم بإعدامه حتى يموت ويموت معه السر( ) بقيت كلمة عن حادث المنشية هي أن هذا الحادث كان ضمن مجموعة من الأحداث تغلب بها عبد الناصر على ما كان يعانيه من كراهية الشعب، وكانت هذه المجموعة من الأحداث وسائل استغلت أوسع استغلال لخلق ما يمكن أن يسمى شعبية لعبد الناصر.
إسماعيل الفيومي... حارس عبد الناصر الخاص
وكان من بين الثلاثة محمد عواد ... وزكريا المشتولي ومحمد منير .
وكان من بينهم أيضا الحارس الخاص لجمال عبد الناصر واسمه إسماعيل الفيومي ولم تشفع له ثماني سنوات من حراسة عبد الناصر... بل كانت عاملا فجر بركانا من الغضب في قلوب الجلادين فمزقوه. تشنيج مصر الأول
قال له زميل إسماعيل واسمه عبد المنعم كان يعمل مع إسماعيل الفيومي في حرس عبد الناصر منذ 1958 حتى يوم القبض عليه:
أنا زميل الشهيد الفيومي.. كان تجنيدنا واحدا... وبعد أن قضينا فترة الجيش التحقنا بالبوليس وخدمنا معا في قسم الخليفة.... لمدة ثمانية شهور ثم طلبنا إلى رئاسة الجمهورية وأجرى لنا اختبار ... مع أكثر من 150 فردا ونجحنا مع عشرين وكان إسماعيل الأول ..وكنت أنا الثاني ... دربونا ستة أشهر على ضرب النار... وكان إسماعيل ممتازا فعينوه معلما في مدرسة ضرب النار وأخذوني أنا حراسة في داخل منزل عبد الناصر وكانت أي سفرية للرئيس نطلع أنا وإسماعيل... وأثناء وجود الرئيس عبد الناصر في الإسكندرية نبقى معه أنا والشهيد إسماعيل طول الشهر وكنت دائما أزامل إسماعيل لأنه كان رجلا ممتازا... فطرته طيبة... مؤمنا... متدينا وكنا طول النهار نقرأ القرآن ونتدارسه
وقبل القبض على إسماعيل بيومين كنا في القطار الخصوصي في عربة الرئيس عبد الناصر وكان في القطار جميع الوزراء .... ثاني يوم قالوا قبضوا على إسماعيل لأنه من الإخوان المسلمون... وعجبت كيف خف عنهم أنه من الإخوان المسلمون طوال الثماني سنوات التي كان يعمل فيه حارسا خاصا لعبد الناصر والمفروض أن المخابرات تكتب عن كل واحد من الحرس تقريرا كل ستة أشهر... لقد أحسست أن في الأمر شيئا غامضا... كنت أظن أنه صراع بين الرئاسات .. أقصد رئاسات الأجهزة.
قالوا : هرب إسماعيل
... قلت مات!!
لقد نشرت الصحف أن إسماعيل الفيومي كان سيغتال عبد الناصر قلت في نفسي لو كان إسماعيل ينوي قتل عبد الناصر لتقله قبل القبض عليه بيومين فقط حيث كنت أنا وهو في القطار المخصوص وكان معي طبنجة وكان مع إسماعيل طبنجة وكان بالقطار جميع الوزراء وكان بالإمكان القضاء على عبد الناصر وجميع من معه!! ... ولما نشرت الجرائد أن إسماعيل كان سيضرب عبد الناصر من الخلف أنا كنت في ذهول لأن عبد الناصر كان أمامنا قبل يومين من القبض على إسماعيل وكان إسماعيل يستطيع أن يقتله ببساطة... لقد كنت أنا وإسماعيل ملازمين لعبد الناصر في الحراسة وكنا نجلس في الصف الثاني ونقف منه على بعد خطوات.
بعد القبض على إسماعيل انتظرت القبض علي لأني كنت أقرب الناس لإسماعيل وأول من يقبض عليه بعد القبض على إسماعيل.. نزلت مصر وذهبت إلى الرئاسة وجدت الجو متغيرا ورأيت وجوها غريبة تتعقبني عرفت أنهم المخابرات... كان لي زميل اسمه «حجازي» يردد دائما أن إسماعيل لن يعترف على أحد عيري... بعد أيام قبض على حجازي ولم يقبضوا علي في هذه الفترة أشيع أن إسماعيل هرب من السجن الحربي ... أنا قلت إسماعيل لم يهرب... إسماعيل مات من التعذيب .... كل زملائي الذين أثق فيهم أمنوا على كلامي وقالوا إنه مستحيل أن يهرب أحد من السجن الحربي!!
لما قلت الله يرحمه..
أنهالوا علي بالضرب!!
في يوم جاء أمر بالقبض على كل واحد في الحرس الجمهوري اسمه «عبد المنعم» أخذوا كل من اسمه «عبد المنعم» وجمعونا في عربة وأمرونا أن نرتدي الملابس المدنية ثم ذهبوا بنا إلى السجن الحربي وعرضونا على أحد بلديات إسماعيل المقبوض عليهم في الحربي... كنت أطن أني أنا المقصود والمطلوب، لم يتعرف على أحد منا... وفي اليوم أحضرونا أيضا بالملابس الرسمية وحققوا معي...
- أنت تعرف إسماعيل الفيومي...
- قلت:
- الله يرحمه... ولم أكمل العبارة.. .إنهالوا علي بالضرب وقالوا لي:
- كيف عرفت أنه مات!!
- قلت:
- كل الناس يقولون أنه مات...
- حذروني من التحدث بهذا الكلام ... وقتها أيقنت أن إسماعيل مات.
تعليق: إسماعيل الفيومي –قتل في السجن الحربي في محنة عام 1956 – وليس له صلة بحادث المنشية عام 1954 وإنما نستدل بهذا على زعم أن للإخوان المسلمون جنود مجهولون يقومون بالحراسة الشخصية لجمال عبد الناصر –فإن الجماعة لم يكن في نيتها أسلوب الاغتيال لأنه يخالف عقيدتهم.
علاقة عبد الناصر بمحمود عبد اللطيف
في ديسمبر سنة 1951 طلب مني عبد الناصر أن تقدم له شابا من الإخوان فدائيا ميت القلب كما يقول في مصر ، ونعني شجاعا لا يخاف ثابتا لا يضطرب وكان يريده ليقوم بعملية خطيرة في بورسعيد فقدمنا له المرحوم محمود عبد اللطيف الذي كان قد أبدى شجاعة وثباتا فائقين في حرب فلسطين عام 1949 والذي أعدمه عبد الناصر بعد ذلك بثلاثة أعوام بتهمة الشروع في قتله بالإسكندرية.
سافر محمود عبد اللطيف إلى بورسعيد ونحن لا نعلم بعد ما هي العملية الخطيرة التي سيقوم بها هناك وحين لحقت به مع بعض زملائي تبين أن العملية هي تسميم الجنود البريطانيين في معسكر بورسعيد وكان ذلك سيتم بأن يلتحق محمود عبد اللطيف كأحد العمال بناء على توصية شخص موثوق فيه ممن يشرفون على المعسكر ثم يضع كمية من السم في اللحوم المخزونة بالثلاجات وليكن ضحاياها من يكون ممن سيأكل هذا اللحم.
ورفضا العملية لأن القتل بالسم أمر غير إنساني ولو كان ضد الأعداء... وعندنا بالمرحوم محمود عبد اللطيف إلى القاهرة على أن نعيد بحث الأمر بعد الرجوع للأستاذ الهضيبي الذي رفض بشدة هذا الأسلوب في المعارك وبقي السم عند مندوب عبد الناصر في بورسعيد واجهنا نحن إلى القتال الصريح في معارك القناة.
• من الذي أحرق القاهرة؟
• من الذي وضع الذخائر والأسلحة في بيوت الإخوان ثم اتهمهم بها؟
في يوم 26 يناير سنة 1952 ومعاركقناة السويس تسير سيرها الطبيعي والمظاهرات تجوب شوارع القاهرة تطالب بمزيد من القتال ضد الإنجليز، والملك فاروق يدعو إلى مائدته جمعًا من ضباط الجيش وضع مجهولون النار في بعض أماكن بالقاهرة فأثاروا الجماهير التي اندفعت تخرب وتسرق وتقتل وقبض على كثيرين وأعلنت الأحكام العرفية ثم أقيلت وزارة الرئيس مصطفى النحاس ، وتوقفت تقريبا عمليات القتال بقناة السويس ومنع التجول في القاهرة ليلا... ونزلت قوات من الجيش إلى الشوارع.. ومع ذلك ظل من وضع النار في القاهرة مجهولا.
وبمجرد أن انتشرت النار المشتعلة في القاهرة وبدأ النهب يدور في المتاجر والطرقات اتصل عبد الناصر بمكتبي تليفونيا فقيل له أني على سفر فذهب لفوره إلى الصاغ صلاح شادي يطلب منه أن يتسلم عني بعض الأسلحة والذخائر والقنابل الموجودة في بيته وبيوت زملائه والمسروقة من الجيش لأنه يخشى أن تفتش بيوتهم فتضبط فيها تلك الأشياء وهي كفيلة بأن توقع بهم أشد العقاب أما بيوت الإخوان فهي في مأمن من تفتيشها إذ المعلوم لدى الجميع أن الإخوان كانوا يعانون في إطفاء الحرائق وفي استتاب الأمن ومنع الفوضى أن تنشر في القاهرة .
وسارت بضعة سيارات –منها سيارتي وسيارة عبد الناصر الأوستن السوداء – تنقل قنابل حارقة ومواد ناسفة وسط شوارع القاهرة المشتعلة جمعت تلك المواد من بيوت عبد الناصر وزملائه الضباط وكدست في جاراج بيتي دون تنظيم أو صيانة أو وقاية من مخاطرها الشديدة وها هي ذي الآن أمامي.. على أن أتصرف فيها...!
لم أسأل نفس وقتذاك عن سبب وجود تلك المواد في بيوت عبد الناصر وزملائه فقد حرصنا منذ بداية تعاوننا في القتال أن تجنبهم الشبهات وأن نتسلم أولا فأول ومن محطة القاهرة أو طريق السويس ما يصل من ذخيرة لنخرجه فورًا من العاصمة إلى مواقع استعماله.
لم أسأل نفس ولم أسأل عبد الناصر عن سبب وجود تلك الأشياء عندهم فقد كان كل ما يعنيني أن أنقذ رقابهم في ذلك الوقت العصيب.
بدأت أنقل تلك المواد إلى مزرعة يملكها أهل من مديرية الشرقية. وأحضر إلى عبد الناصر تصميمًا هندسيا لمخزن ذخيرة... وحفرنا في المزرعة وتحت الجاراج وأنشأنا المخزن دون أن يعلم أحد من أهلي أو من سكان المزرعة ما يدور وراء سور الحديقة وخلف باب الجاراج المغلق لم يعلم أحد بوجود تلك الأشياء إلا من وضعوها في المخزن وزوجتي التي كانت تصحبني إلى هناك لتشرف على ما نحتاج إليه من طعام.
لن أنسى تلك الأيام التي كنت أجتاز فيها نقط المرور في القاهرة والأقاليم وأطفالي يجلسون فوق صناديق يخشى كثير من الرجل الاقتراب منها.. وهم مع ذلك لا هون يغنون لأنهم لا يعلمون على أي خطر يجلسون...!
وعندما كنا نرسى تلك المواد في المخزن تأكدت أن فيها كمية كبيرة من القنابل الحارقة والمواد الناسفة وصندوقين من مادة الـ ت. ن. ت الشديدة الاحتراق وكان عبد الناصر لم يقدم لنا شيئًا من هذه المواد طوال معركة القناة وعرفت من التحقيق الذي أجرته النيابة عن حريق القاهرة أن مادة الـ ت. ن. ت هي أول ما استعمل في الإحراق...وهي مادة لا يستطاع الحصول عليها في مصر إلى من مخازن الجيش وقد أثار كل شكوكي ولكني لم أرد أن أجعل الشك سندًا لأحكامي وحين سألت عبد الناصر عن سبب ضنه علينا بمثل تلك المواد أثناء المعارك كان رده – ببساطة أنها لم ترد إلا أخيرًا.
كثيرا ما كان الحديث يجري بيني وبين عبد الناصر عن حاجة البلاد إلى ثورة تصحح أوضاعها وتقيم فيها حكمًا دستوريا سليمًا ينبع من إرادة الشعب الحقيقية ويحقق للناس ما هو في حاجة إليه من رخاء وكرامة وكان لا خلاف بيننا في أن الملك فاروق وجيشه يقف عقبة في طريق كل إصلاح داخلي جذري.
وفي يوم من الأيام الأولى لشهر مارس سنة 1952 رأى بعض الضباط –ومنهم جمال عبد الناصر- أن الوقت مناسب لعمل انقلاب عسكري تتخلص فيه البلاد من الملك وتعيد دستورها وتلتفت إلى إصلاحاتها الداخلية وإلى استكمال استقلالها الخارجي واستشار عبد الناصر بعض زملائه وبعض أصدقائه ثم جاء إلى مكتبي غير مخف غضبه جاء يكشو وأخذ رأي النهائي إن زميله القائمقام رشاد مهنا الذي أصبح بعد الثورة عضوا لمجلس الوصاية على العرش.. رفض المشاركة في الحركة العسكرية بحجة أن الوقت غير مناسب ورشاد مهنا له كثيرون يدينون له بالطاعة في صفوف الضباط الأحرار فلا يمكن القيام بالحركة بدونه، ورشاد مهنا على صلة طيبة بالإخوان فقد لا يشترك ضباط الإخوان في حركة يرفضها وقد لا تؤيد الهيئة ذاتها فكرة الحركة.
وبدأت أناقش في هدوء –ودون دفاع عن وجهة نظر معينة- مدى مناسبة الظروف محليًا ودوليا للقيام بثورة عسكرية يكون تمهيدًا لثورة شعب.... فلم يستطيع عبد الناصر أن يضبط نفسه وقاطعني قائلا: - لماذا إذن تكبدنا المتاعب والأخطار في سبيل إنزال قوات الجيش إلى شوارع القاهرة لقد كاد الأمر أن يفلت من أيدينا ولكننا كسبنا نزول الجيش إلى الشوارع.... وهو يستطيع اليوم أن يستولي على الحكم في ساعة واحدة من ساعات الليل...
- وعرفت يومئذ أن عبد الناصر استفاد كثيرا من تلك الفترة التي كان يحمل فيها اسم «موريس» كإسم حركي في خلية شيوعية....
- ولم أناقش الماضي، فمناقشة الماضي أملا لا طائل من ورائه واستكملنا حديثنا عن الثورة العسكرية المرتقبة ونتائجها ولكن حركة مارس عدل عنها حين لم يجد عبد الناصر من يعينه عليها أو من يقوم بها نيابة عنه – وحين أيقن أن التخريب قد يدخل الإنجليز قبل إقناع الأمريكان أمر خطير – أرجئ تاريخ الثورة لتقع في 23 يوليو سنة 1952 وظلت الأسلحة والذخائر والمواد الناسفة والحارقة المتبقية من حريق القاهرة في مخرنها الذي اختاره لها عبد الناصر ، حتى قام في يناير سنة 1954م بضبطها.. .ولكن كل مصري عرف من هو صاحبها.
محاولة اغتيال جمال عبد الناصر
إطلاق 8 رصاصات عليه وهو يخطب في الإسكندرية
نجاة الرئيس والقبض على الجناة
جمال عبد الناصر يخطب مرتين عقب الحادث
جريدة الأخبار
تعليق:
هذا العدد من جريد الأخبار صدر صباح 27 أكتوبر 1954أي في اليوم التالي لمحاولة اغتيال جمال عبد الناصر.
وتقرأ في صدر الصفحة الأولى أسماء ووظائف الجناة الأربعة على رأسهم المتهم محمود عبد اللطيف وثم ثلاثة آخرين.
ولكن الذي قدم للمحاكمة أمام محكمة الشعب هو شخص محمود عبد اللطيف وحده دون سواه واختفت الأسماء الثلاثة دون الإشارة إليها على إطلاق سواء كانوا متهمين أو شهودا لأن المطلوب أصلا أن يكون الجاني من جماعة الإخوان المسلمون ليكون مبررا للقضاء على جماعة الإخوان المسلمون وهذا ما تقرأه على شمال الصفحة بالخط العريض.
الجاني من الإخوان المسلمين .
الأخبار
الأربعاء 29 صفر 1374- 17 بابة 1671
وضع المتهمين في السجن الحربي
سفر النائب العام
الشعب يقبض على الجناة:
الأول: سمكري في إمبابة هو الذي أطلق الرصاص
الثاني: عامل لشركة عزل بالإسكندرية.
الثالث: فارش ... التعليمة بدمنهور.
الرابع: عامل
حاول شاب
حاول زملاء جمال أن يمنعوه من الاستمرار في الكلام ولكنه أصر على أن يتكلم كان صوته رهيبا مليئا بالشجاعة والتأثر واستمر واقفا أمام الميكرفون والرصاص يتناثر حوله وهو يقول لنا أنا جمال عبد الناصر لا أخشى الموت وقد جرح الأستاذ غني الوزير السوداني والأستاذ أحمد السكرتير هيئة التحري في الإسكندرية نتيجة تطاير زجاج المصباح الكهربائي والمتهمون هم [محمود عبد اللطيف] محمد يبلغ من العمر 35عاما، ويعمل سباكا بإمبابة بالقاهرة ، وقد ضبط تلبسا بإطلاق الرصاص فقد هجم عليه العسكري إبراهيم حسن الحالاتي وهو من بوليس باب شرقي وكان يبعد عن المتهم بأربعة أمتار وقال المتهم في التحقيق أنه قد وصل إلى الإسكندرية أمس الأول لحضور الاحتفال واعترف بإطلاق الرصاص وقال في أول الأمر أنه أطلق الرصاص على سبيل الابتهاج باعتباره محارب قديم ونزل بلوكاندة السعادة بمحطة مصر وقد أنكر صلته بالمتهمين الآخرين ولكن دلت التحريات على أنهم كانوا يجلسون جميعا في مقهى قبل الانتقال مباشرة إلى مكان الاحتفال، وعثر في جيبه على رصاص من نفس النوع المستعمل كما تبين أن المسدس الذي استعمل من طراز بروننج, وهو ينتمي إلى جماعة الإخوان المسلمين من عام 1938.
والمتهم الثاني: محمد عامر حماد ، رئيس قسم بإحدى شركات الغزل الشركة المتحدة للغز في الإسكندرية ووجد في قدمه أثار طلق ناري قديم وأنكر صلته بالمتهمين الآخرين من الإخوان
والمتهم الثالث: محمد إبراهيم دردير ويعمل بالميناء عاملا ووجدت معه سبع طلقات .
المتهم الرابع: الحسين السيد عامل بمخزن المنطقة التعليمية بدمنهور وقد ارتكب الجريمة على بعد 20 متر في المنصة التي كان يقف فيها الرئيس عبد الناصر وقد أطلق محمود عبد اللطيف الرصاص في الخطة التي انتهز فيها فرصة هتاف الجماهير عند بدء خطاب الرئيس وكان السيد ميرغني حمزة يجلس على يسار الرئيس وكان المتهم الأول في الصف الثاني التحرير. وقبض .
الجاني من الإخوان
إن الجاني محمود عبد اللطيف شاب في الخامسة والثلاثين من عمره، انضم إلى جمعية الإخوان منذ عام 1938 وكان وقتئذ في العشرين من عمره, ومكث عضوا في الجمعية 16 سنة.
من أسباب هزيمة 1967
من أحداث فبراير 1954، والصدام العلني بين الديمقراطية والديكتاتورية، وبين اللواء محمد نجيب قائد الثورة ومن وقف معه، والبكباشي جمال عبد الناصر ومؤيديه من زملائه والمظاهرات المفتعلة التي أطلقوها في العاصمة تطالب ببقاء حكم الثورة وسقوط خالد محي الدين الذي لم تكن الجماهير تعرفه لأنه عضو مجلس قيادة الثورة الذي طالب بحكومة مدينة تحكم مصر ، ونجاح هذه المناورة، والتكتيل المزيف الذي قاده عبد الناصر وبعض زملائه من بينهم الصاغ صلاح نصر- قرر المجلس الحاكم تطوير جهاز المخابرات المصري بواسطة بعثة من ضباط أجهزة الأمن لدى النازي وهتلر ألمانيا- ممن تشردوا في أنحاء أوربا، وقام أكثر من ضابط بالبحث عنهم وإحضارهم سرا، وتولى صلاح نصر بصفته أحد مديري مكتب القائد العام للإشراف على مهامهم لتدريب الكوادر المصرية على تأمين الثورة وتطبيق مبدأ الولاء قبل الخبرة, وكيفية قهر القيادات والقواعد الشعبية المعارضة –في تكتم شديد- وهذه العملية من أخطر المهام التي طبقها عبد الناصر فقد آمن من خلال ضباط النازي بضرورة ضرب الشعب حتى يتسنى له الحكم والسيطرة.
- وهم الذين رسموا له خطة تصفية الإخوان المسلمون من خلال حادث إطلاق الرصاص عليه في ميدان المنشية بالإسكندرية قبل نهاية 1954، أو المسرحية المرسومة دون إتقان للقبض على عشرات الآلاف من أبناء الإخوان المسلمون وأنا أكتب هذا الكلام دون أن يكون لي أنى ارتباط بهم، ولكن ما حدث بعد إطلاق الرصاص أثار الشعب بأكمله –فالمفروض أن يتم القبض على مدبري الحادث والمحرضين عليه.. خمسة، عشرة، خمسين رجلا، وليس الإخوان بأكملهم ..
ومن هنا قال الشعب المصري والمراقبون اليقظون ... «ليس هذا بتصرف غاضب بل تخطيط للتصفية !» تماما كما فعل «هتلر» حين أمر أعوانه بحرق البرلمان الألماني واتهم معارضيه بالجريمة! الإخوان المسلمون يرفعون دعوى للقضاء
نظرت محكمة جنوب القاهرة يوم السبت الماضي، الدعوى الجماعية التي أقامها 40 موطنا من الإخوان المسلمون ويطالبون فيها بإلزام الحكومة بدفع 1.5 مليون جنيه تعويضا عما لحقهم من أضرار مادية وأدبية من جراء اعتقالهم وتعذيبهم في عهد عبد الناصر.
أكد الإخوان في عريضة دعواهم أن حادث المنشية المزعوم، كان مؤامرة وهمية دبرها عبد الناصر وأعوانه للإطاحة بهم في السجن والمعتقلات التي امتلأت بهم عن آخرها، حتى أن عدد المعتقلين في ليلة واحدة وصل إلي 36 ألف ضحية، وشرحوا في دعواهم ما لحق من صور التعذيب وصنوفه فقالوا: لقد كانوا يحرموننا من كل الضروريات التي يحتاج إليها البشر فلا مأكل ولا مشرب... ولا ملبس ولا غطاء لأجسادهم في البرد والمطر.
ولم يرحمنا السجان أو الجلاد ونحن جائعون ... ومحرمون من الحياة، ومرتعشون بردا... ومرتعدون خوفا وهلعا.. فجعلنا ملهاته وتسليته.. وهدفا لأحقاده وقسوته.. فمزق جلودنا بكرابيج العصور الوسطى في علميات دائمة مستمرة ومتواصلة حتى يسقط الضعف قتيلا... والقوي صريعا.
ولم يكفهم ما كنا فيه من الحرمان من زوجاتنا وأولادنا وحريتنا.. فكانوا يدعوننا في أي ساعة من الليل.. عرايا في البرد القارس.. .ومحملين بأقصى وأقسى الأقمشة الخشنة في حر الصيف.. لنجري أمامهم في طوابير العذاب طول الليل.. نلهث ويتصبب منا العرق... وهم يتبدلون علينا في نوبات دوريات متتابعة... يحصلون مقابلها على علاوات وحوافز لتقديم مزيد من القسوة.. ومزيد من التعذيب ومزيد من الموتى والصرعى!!
وكانوا يمزقون أجسادنا وينتزعون أظافرنا... ويطلقن علينا كلابهم المدربة على تخريب أجسام وكرامة الإنسان.
وقال المدعون في عريضة الدعوى: إذا كان الله سبحانه وتعالى كرم الإنسان، وجعله في أحسن تصوير وأحسن تقويم... وسخر كل المخلوقات لخدمته ورعايته، فإن الفئة الباغية من حرس السجون وجلادي الليمانات، قد أذلت وأهانت ومزقت كرامة الإنسان... ونكلت بإنسانيته.
واختتم المدعون دعواهم قائلين:
إننا كضحايا ومعذبين –عندما نرفع دعوانا إلى القضاء المصري فإن ذلك يأتي إيمانا منا بأن قضاتنا قد وصفوا كل أعمال الوحوش، وكل ألوان قسوتهم، بأدق الأوصاف وأصدفها، حتى أصبح كل أفراد الشعب يتشككون في آدمية هؤلاء الوحوش... ولأن العدالة أنارت السبيل ... وكشفت العهد المقت.. وإن القضاء يعرف الحق ويدرك سببه... لذلك نطالب بالتعويض عما لحق بنا من أضرار مادية وأدبية ... أصابت أجسامنا وكرامتنا وسمعنا... وعطلت أعمالنا ... وأغلقت مصالحنا.. وأجدبت مواردنا... وعرضتنا وأسرنا للاحتياج والمهانة بين الناس... وهذا كله لا يعوضه مال الدنيا ولا كنوزها... مهما كانت ... ومهما عظمت.
وقد عقدت المحمكة جلستها برئاسة المستشار محمد رضا حسين وعضوية القاضيين أحمد رضا عبد الوهاب ، وأحمد عبد الوهاب عطية ، وأمانة سر رمضان عبد الصمد.
الفصل السابع : وتستمر فصول المؤامرة
المخابرات الأمريكية تنصح حكومة السادات باتخاذ إجراءات خاصة ضد الإخوان
سري للغاية
من: ريتشارد ميتشل
إلى : رئيس هيئة الخدمة السرية بالمخابرات المركزية الأمريكية
بناء على ما أشرتم إليه من تجمع المعلومات لديكم من عملائنا ومن تقارير المخابرات الإسرائيلية السرية التي تفيد أن القوة الحقيقية التي يمكن أن تقف في وجه اتفاقية السلام المزمع عقدها بين مصر وإسرائيل هي التجمعات الإسلامية وفي مقدمتها جماعة الإخوان المسلمون بصورها المختلفة في الدول العربية وامتداداتها في أوربا وفي أمريكا الشمالية.
وبناء على نصح مخابرات إسرائيل من ضرورة توجيه ضربة قوية لهذه الجماعة في مصر قبل توقيع الاتفاق ضمانًا لتوقيعه ثم لاستمراره، وفي ضوء التنفيذ الجزئي لهذه النصيحة من قبل حكومة السيد/ ممدوح سالم باكتفائها بضرب جماعة التكفير والهجرة .
ونظرًا لما لمسناه من أن وسائل القمع والإرهاب التي اتبعت في عهد الرئيس ناصر قد أدت إلى تعاطف الجماهير المسلمين وإقبال الشباب عليها مما أدى إلى نتائج عكسية.
فإننا نقترح الوسائل الآتية بديلة:
أولا- الاكتفاء بالقمع الجزئي دون القمع الشامل والاقتصار فيه على الشخصيات القيادية التي لا تصلح معها الوسائل الأخرى المبينة فيما بعد
ونفضل التخلص من هذه الشخصيات بطرق أخرى تبدو طبيعية ولا بأس من الإسراع بالتخلص من بعض الشخصيات الإسلامية الموجودة بالمملكة العربية السعودية مثل محمد قطب ، على جريشة , محمد الغزالي ، نظرًا لأن التخلص من أمثال هؤلاء يحقق المراد من القمع الجزئي ويعمل على تدهور الثقة بين الإخوان وبين الحكومة السعودية مما يحقق أهدافنا في هذه الفترة.
ثانيا- بالنسبة للشخصيات القيادية: التي لا يتقرر التخلص منها فننصح باتباع ما يلي:
أ- تعيين من يمكن إغراؤهم بالوظائف العليا، حيث يتم شغلهم بالمشروعات الإسلامية الفارغة المضمون وغيرها من الأفعال لاستنزاف جهدهم، وذلك مع الإغداق عليهم أدبيًا وماديًا وتقديم تسهيلات كبيرة لذويهم، وبذلك يتم استهلاكهم محليًا وفصلهم عن قواعدهم الجماهيرية.
ب- العمل على جذب الميول التجارية والاقتصادية إلى المساهمة في المشروعات المصرية الإسرائيلية المشتركة المزمع إقامتها بمصر بعد الصلح.
ت- العمل على إيجاد فرص عمل بعقود مجزية في البلاد العربية البترولية الأمر الذي يؤدي إلى بعدهم عن النشاط الإسلامي.
ث- بالنسبة للعناصر الفعالة في أوربا وأمريكا نفترح ما يلي:
(أ) تفريغ طاقاتهم في بذل الجهود مع غير المسلمين ثم إفسادها بواسطة مؤسساتنا.
(ب) استنفاذ جهدهم في طبع وإصدار الكتب الإسلامية مع إحباط نتائجها.
(ت) بث بذور الشك والشقاق بين قياداتهم لينشغلوا بها عن النشاط المثمر.
ثالثًا: بالنسبة للشباب نركز على ما يلي:
أ- محاولة تفريغ طاقتهم المتقدة في الطقوس التعبدية التي تقوم عليها قيادات كهنوتية متجاوبة مع السياسات المرسومة.
ب- تعميق الخلافات المذهبية والفرعية وتضخيمها في أذهانهم.
ت- تشجيع الهجوم على السنة المحمدية والتشكيك فيها وفي المصادر الإسلامية الأخرى.
ث- تفتيت التجمعات والجماعات الإسلامية المختلفة وبث التنازع داخلها وفيما بينها.
ج- مواجهة موجة إقبال الشباب من الجنسين على الالتزام بالتعاليم الإسلامية خاصة التزام الفتيات بالزي الإسلامي عن طريق النشاط الإعلامي والثقافي المتجاوب.
ح- استمرار المؤسسات التعليمية في مختلف مراحلها في حصار الجماعات الإسلامية والتضييق عليها والتقليل من نشاطها.
هذا ما نراه من مقترحات حلاً لمشكلة التجمعات الإسلامية في هذه الفترة الدقيقة، وفي حالة قناعتكم بها نرجو توجيه النصح للجهات المعنية للمبادرة بتنفيذها مع استعدادنا هنا للقيام بالدور اللازم في التنفيذ.
توقيع:
(ريتشارد ب .... ميتشل)
مواجهة العقبات
في آخر حوار مع الدكتور محمد البهي رحمه الله مع مجلة الأمة الإسلامية
العدد 27- السنة 3 صفحة 14 ألمح إلى الطريقة الناجعة في مواجهة هذه العقبات فقال:
وعلى العاملين في حقل الدعوة الإسلامية أن يتنبهوا لما يكن أن يوضع في طريقهم من معوقات بصورة أو بأخرى، وما يمكن أن يوجه إليهم من اتهامات باطلة ومصطنعة ومزيفة ومزورة ومدبرة تهدف إلى إيقاف هذا المد. أو تجميده، أو احتوائه، أو الانحراف به، وإذا حدث شيء من هذا ستكون له آثار سلبية على الناشئة, ولكن سرعان ما تنجلي الغمة، إذا ثبت الدعاة وصمدوا أمام هذه التحديات، ويكون لهذا الثبات وهذا الصمود آثار إيجابية تفوق الآثار السلبية السابقة، ولأن الأوضاع السياسية في الأقطار الإسلامية غير مستقرة، فلا يستطيع أي مفكر أن يحدد النتائج أو يقوم الإيجابيات والسلبيات لحركة المد الإسلامي.
إن الأعداء يراقبون ويرصدون حركة هذا المد، ويدبرون ويخططون لضربه أو تعويقه أو تجميده أو إجهاضه... ولكن أقول للمشتغلين بالدعوة الإسلامية.
احذروا هذا التعويق المبيت والمرسوم قبل أن يقع، أو لا تعطوا لأعدائكم المبرر لمواجهتكم، كما أنبه القائمين على الحركات الإسلامية أن يأخذ الناشئة حتى إذا ما تكاثرت القدوات الحسنة, عندئذ يصبح المد الإسلامي قويًا، ولا يوقفه ما يوضع أمامه من عقبات، وتفشل المخططات المعادية في تجميده أو إجهاضه!!
خاتمة
في نهاية سطور كتاب عبد الناصر وحادث المنشية تكون المؤامرة الخسيسة قد وضحت معالمها –ولكنها في حاجة نهائية للكشف بصراحة عن أسماء وأدوار المخططين والمنفذين لها وإذا لم نستطيع الكشف عنهم اليوم لأسباب كثيرة معلومة وغير معلومة.
فإن الأيام مع فرحي الحرية المنشودة سوف تتيح لأصحاب الضمائر الحية والأقلام الحرة أن يكشفوا اللثام عن أسماء وأدوار اللئام في أخطر مؤامرة ضد دعاة الإسلام بأبشع صور القهر والتعذيب والامتهان والانتقام.
سواء عرفنا بعد هذه السنين الطويلة الأسماء فكانوا من الأموات أو الأحياء
فإن الجريمة تمسك بتلابيب مدبرها والمشرف على تنفيذها الأول وهو جمال عبد الناصر.
ولا بد من يوم آت بإذن الله تحاكم فيه هذه المؤامرة أمام محكمة شريفة تتطلع إليها الأمة الإسلامية قاطبة.
وبعد أن اتضحت التمثيلية بمقوماتها ونتائجها وأهدافها التي تحقق في ضرب وإبعاد الإخوان المسلمون ودعوتهم عن الساحة الإسلامية الكبرى.
فإن ما أصاب الإخوان المسلمون ودعوتهم يكون باطلا وكل ما بني على باطل فهو باطل أيضا..
لهذا كان من العدل والحق –أن تعود جماعة الإخوان المسلمون إلى سابق عهدها ومجدها. لتحقيق الآمال الكبرى المعقودة عليها.