الأمة فى رمضان :هل من جديد
الشيخ راشد الغنوشي
رمضان - 1428
بدء، نهنئ الامة بقدوم الشهر المبارك الذي شرفّه الرحمن دون الشهور، فاتخذه الوعاء لاستئناف الاتصال بين السماء الارض إثر انقطاع استمر لأكثر من ستة قرون،"شهر رمضان الذي أنزل فيه القرآن هدى للناس وبيات من الهدى والفرقان فمن شهد منكم الشهر فليصمه" البقرة183 .
ورغم أن الامر يتعلق بشعيرة تعبدية، مما لا يتطلب التعليل، إلا أن الحكيم أبى إلا أن يكشف لعباده عن طرف من حكمته، تكريما لعقولهم وندبا الى طلب الحكمة في كل شيء، إذ لا يصدر عن الحكيم إلا ما هو حكمة ونفع.
إنه تعالى لم يقل فمن كان حاضرا غير مسافر فليصمه، وإنما عبر عن هذا التشريف بالشهود وهو حضور مخصوص، حضور بتشريف، كحضور موكب مهيب أو حفل بهيج.وشهود رمضان من هذا القبيل، تشرق فيه الارواح وتمتد عموديا فتعانق السماء بالذكروالصلاة والقرآن، وتمتد افقيا بالرافة والرحمة والعطاء والسماحة، فكان رسول الله عليه السلام جوادا، وكان أجود ما يكون في رمضان ، لكأنه السحابة المرسلة.
وأعظم فتوحات الاسلام تنزلت في رمضان، ففيه ابتدأ نزول الوحي على قلب الرسول الخاتم حاملا خلاصات رسالات النبوات، مصححا ومتمما، ومؤسسا لأمة ولحضارة، وكلت اليها مهمة القيام على ارث النبوات والحضارات.
فما أعظم بركات هذا الشهر على الامة والبشرية، بما يحمله من تحولات عظمى: في العوالم الروحية "تصفّد فيه الشياطين وتفتح فيه أبواب الجنة ويقال فيه لطالب الخير أقبل ولطالب الشر أقصر"ومن تجديد فردي وجماعي في الحياة النفسية والعقلية والجسدية والاجتماعية والاقتصادية.
إنه رحلة ممتعة زادها الاساسي الامساك عن إتيان أشياء محددة- هي في الاصل مباحة ومرغوبة- لأوقات محددة، مع تجريد القصد لله. إنها عبادة صامتة" الصوم لي وأنا أجزي به".
إن القدرة على "الإمساك" مفرق الطريق بين الانسان والدابة.إنه التعبير عن امتلاك النفس وقوة الارادة .
إن مشهد تحلّق الاسرة حول مائدة حافلة بمطعومات ومشروبات تهفو اليها النفوس، لكنها تمسك، في انتظار الاذن الالهي، مشهد انساني بامتياز ومشهد تعبدي من جوهر التربية التعبدية: كبح جماح نفوسنا فلا نطلقها إلا وفق القانون. وذلك هو التمدن.
إن نظام التمدن الاسلامي غاية في التركيب والبساطة والواقعية.
إنه نظام شامل للحياة في كل أبعادها الجسدية والخلقية الروحية والاجتماعية الدنيوية والاخروية.
وعبادات الاسلام كلها تترجم وتجسد ذلك النظام. ولأنه نظام عقلاني فلم يترك مصيره موكولا للاقدار المبهمة، بل للانسان المؤمن، أمانة (فليبلغ الشاهد منكم الغائب) ولذلك لم يتوقف قيام المؤمن بعباداته الاساسية على وجود نظام جماعة أو دولة رغم أهمية ذلك ووجوبه. لأنه من المرونة أنه يسع كل مؤمن تطبيقه في كل حال.
إن الاسلام مركبة ضخمة تكفلت بانطلاقتها واستمرار اختراقها الفضاءات ومغالبة الصعاب ، مجموعة من المحركات الدقيقة المتينة: الصلاة والزكاة والحج والصيام والتلاوة وإقامة الجماعة والدولة، فإذا كانت صيانة هذه المحركات جيدة، فعملت جميعها على أفضل صورة كان أداء المركبة عظيما، فإذا أصاب بعضها عطب انحط أداؤها ولكنها لا تتوقف عن الحركة ، لأن نظام الصيانة سرعان ما يشتغل، فيتنادى المصلحون الى تلافي العطل فتندفع المركبة في سيرها مجددا قوية فعالة."يبعث الله على راس كل مئة سنة من يجدد لهذه الامة أمر دينها"/أبو داود.
ويمثل الصيام أحد أهم هذه المحركات.
ولقد جاء على الامة حين من الدهرأصاب محركات دينها - وهو سر بقائها وقوتها وتحضرها وتوحدها وانتصاراتها-، قدر غير قليل من العطالة، فتشوشت عقائدها بما خالطها، فتحولت من عنصر دفع وتوحيد الى عامل تبطل وتمزيق. والامر ذاته حصل لبقية المحركات، فأفرغت أركان الاسلام من معانيها وتحولت مجرد أشكال يقوم بها البعض وينصرف عنها آخرون، فكان من الطبيعي ألا تنتج ثمرتها، فكانت غلبة الامم علينا في نقطة الالتقاء بين نهوضهم بفعل إصلاح أنظمتهم الفكرية والاجتماعية والعسكرية، وبين ضعفنا بفعل فساد بنياننا السياسي والعقدي والخلقي والاجتماعي، فاضافت تلك الغلبة الى عوامل الضعف والعطالة الداخلية، مزيدا من الاضطراب والتشويش لعالم الفكر والقيم وتمزيقا أشد لما كان مجتمعا في أمتنا.
فلا عجب أن قامت حركات الاصلاح على فكرة التجديد الشامل للبنيان الفكري والقيمي وبث الروح في أركان دين تحولت الى مجرد تقاليد وطقوس مفصولة عن أساسياتها العقدية من ناحية وصلتها بالحياة من جوانب أخرى.
ولذلك ألح المصلحون على أهمية أركان الاسلام في البنية الاسلامية، وعلاقتها بالحياة ، فذكّروا ب" إن الصلاة تنهى عن الفحشاء والمنكر"<العنكبوت40> وبأنها "عمود الدين" و"لا خير في دين لا صلاة فيه" وبأثر الصلاة في الحياة- إن كانت حقيقية- فنبهوا الى أن "من لم تنهه صلاته عن الفحشاء والمنكر فلا صلاة له".
وفي الصيام ذكّروا بأهميته الركنية التي تخرج منكرها عن الملة أصلا، إلا أن الامر أبعد من كونه مجرد شكل لا يتجاوز الامساك من الصباح الى المساء:" من لم يدع قول الزوروالعمل به فلا حاجة لله في أن يدع طعامه وشرابه".
كم من صائم ليس له من صيامه إلا الجوع والعطش...
ولقد أخذت هذه الجهود الاصلاحية تؤتي أكلها فتحررت في الامة طاقات معطلة، فكّت عنها بعض قيود عقائد الجبر والعطالة وأعادت للمسلم قدرا من وعيه التاريخي وإيمانه بما خول الله له من قدرات على الفعل التاريخي لا تحد، بما أعاد لملسلم شيئا مما دعاه المصلح الكبير الشيخ عبد العزيزالثعالبي ب"الروح التحررية للقرآن"L,esprit liberal du Coran، فما مضى بعيدا حتى استعاد أقدارا من الارتباط بين حياته اليومية وشعائره التعبدية، فتجددت لدى قطاع واسع مكانة تلك الأركان والشعائر في حياتهم بعد "فصام نكد" كما دعاه سيد قطب بين عقيدة المسلم ونظام حياته، في سياق "علمانية رثة"لا يزال يفرضها على الامة من فوق جيل نشأ في محاضن الاحتلال،استخلفه وسوّل له أنه يمكن للمسلم – إذا كان ولا بد-أن يكون مسلما صالحا، بمجرد انتساب شكلي يكفي فيه النطق بالشهادة، وإن تكن منزوعة الطاقة بالكاملLeight مكفوفة عن كل تأثير في حياة "المؤمن"اليومية وجملة علائقه.
نعم مسلم صالح، بلا صلاة؟ ولا صيام؟ ولا زكاة؟ ولا حج؟ ولا التزام في معاملاته المالية وارتباطاته السياسية والاسرية، بل ترتع غرائزه حسب المتاح؟!.
غير أن جهود الاصلاحيين منذ قرنين، أثمرت تحولات واسعة في قاع المجتمع، هي بصدد الصعود الى أعلاه ، بما انداح من وعي عام بتصور شامل للاسلام ترتبط فيه العقائد بالشعائر وبكل مجالات الحياة.
وفي سياق هذا التجدد الذي تغذيه الصدمات التي تواجه الامة يحل ركب رمضان، فيتنامي عدد التائبين الصائمين والقائمين والذاكرين والمتزكين والمجاهدين .
وما من شك أن صوام رمضان هذا، سيكونون أوفر عددا من اي رمضان مر في تاريخ المسلمين، وكذا سابقه، وعدد الحجاج وعدد المصلين وعدد الذين يصومون لاول مرة في حياتهم بأثر البلوغ أو بالاهتداء أو بالتوبة،.
يأتي رمضان معززا صلة الأمة بالعزيز الرحيم، وشعورها بوحدتها التي فشل الساسة في تحقيقها، والارتفاع بقواها المعنوية وبمستويات مقاومتها ومغالبتها للتحديات الداخلية ولضروب العدوان المتواصلة عليها، وقد بلغت حد عودة الاحتلال المباشر والامعان في دعم الكيان الصهيوني المتوحش والتجني المتكرر على عقيدة الامة، والتخويف من خطر الاسلام على اروبا.
وآخر نسخة ما صدر عن أعلى مرجعية دينية في الغرب، يعتقدون فيه العصمة،إذ رمى الاسلام باللاعقلانية وبأن رسوله- بابي هو وأمي –" لم يات للبشرية إلا بما هو شرير ولا انساني"!! ..وكأنه من العقلانية في شيء عقيدة الثليث(3=1) والاعتقاد في سلطة مطلقة معصومة .
وكأنه من العقلانية في شيء محاكم التفتيش وتحريق العلماء وبيع تذاكر الجنة والتحالف مع الاقطاع والراسمالية والاستعمار والنازية ونهب وإبادة شعوب وحضارات ..
وذلك مقابل دين الفطرة الذي امربالتفكر والتدبر في كل شيء، طريقا الى معرفة الله ولكل معرفة، إذ" ازدياد العلم بالصنعة يزيد علما بالصانع" كما ذكر الحكيم الفقيه ابن رشدـ الذي علّم رواد النهضة الغربية- التي قاومها اسلاف البابا- تراث العقلانية الاغريقية الذي يتمسح به البابا اليوم، وكان اسلافه لقرون طويلة يقيمون المحارق للمتورطين في الاطلاع عليها..
تحت القصف تتقدم الامة: ولأن كل ضروب عدوانهم على الاسلام وأهله تاتي والامة تعمرها صحوة واسعة لم تعهد مثلها منذ قرون ، فهي لن تزيد وعيها إلا تأججا، وصفوفها إلا توحدا، ودعوتها إلا امتدادا.
يعلم المتابعون للآيات الشيطانية للمرتد رشدي، وما حظي به من تكريم على نيله من المقدس الاسلامي ممثلا في رسول الاسلام – عليه أزكى صلاة وتسليم- ثم ما كان لمآسي فلسطين وغزوالعراق و افغانستان ..من أثر فعال في استعادة الوعي بالهوية الاسلامية، والاحتماء بها والاعتزاز لدى جيل اسلامي نشا في الغرب، غائم الهوية حتى كاد يذوب جملة ..فجاءت هذه الصدمات توقظهم وتعيدهم الى الامة ، بل مضت ببعضهم أبعد من ذلك، فاندفعت مئات منهم في غير تبصر صوب الارهاب بداعية رد الفعل والانتقام.
مقابل ذلك تنامت تيارات التعصب ضد الاسلام والعرب والمهاجرين من جهة، كما تنامى وعي قطاع واسع من النخبة الغربية بمظلمة المسلمين وبما يتوفر عليه الاسلام من أبعاد تحررية تؤهله ليكون حليفا لقوى العولمة المتوحشة، الزاحفة بأسلحتها المدمرة وشركاتها الناهبة وفنونها المنحطة .
وما يحدث في فلسطين و العراق و لبنان ..وعلى كل الجبهات ليس سوى وجه من وجوه المقاومة التي يقودها الاسلام وحلفاؤه التحرريون ، وذلك بعد أن استسلمت دول وأحزاب وشخصيات كان يظن أنها حصن الشعوب...
ومثل هذا الوعي حدث مع كل صدمة جديدة تتلقاها الامة بأثر الصحوة العارمة التي ياتي رمضان شاحذا لها والتي تتلاطم أمواجها فتلقي الرعب في قلوب السماسرة الدوليين ووكلائهم المحليين وهم يرون مد الاسلام مد التحرر ينداح، وقواه تتواصل حلقاتها، وتحقق على الارض انجازات مذهلة للعدو، هازة للتوازنات الدولية كالذي حدث في لبنان وفلسطين والعراق وافغانستان والصومال:صمودا في وجوه غطرستهم وإحباطا لمخططاتهم .
ولا يقتصر الأمر على ما ينجز في ميادين القتال، بل الانتصارات على صعيد الصراعات الفكرية والسياسية لا تقل أهمية عن ذلك.
وكانت المسيرات المليونية التي نظمت في أكثر من عاصمة غربية ضد الهجمة الامبريالية في العراق و فلسطين و لبنان تجسيدا لتواصل الحلقات بين القوى التحررية: اسلامية وقومية ويسارية متنوعة، ظهر هذا التواصل في ساحات عربية في مصر بين الاخوان والناصريين وفي اليمن بين الاصلاح والاشتراكيين.
وفي تونس تلاقيا بين القوى المعارضة الرئيسية دفاعا عن وطن حر للجميع، فكانت هيأة 18أكتوبر.
انتصارات في استقبال رمضان :وعلى مشارف رمضان حقق الاسلام انتصارا مدويا على الاستئصال العسكري العلماني في واحدة من أقدم وأشرس قلاعه: تركيا.
حيث يتبوأ لأول مرة في تاريخ الجمهورية رئيس اسلامي ،بعد ثمانين سنة من القمع والتغريب والضياع.
وفي استقبال رمضان تكللت خطوات التحول الديمقراطي في موريطانيا بانتخابات تشريعية ثم رئاسية تعددية نزيهة، وتم الاعتراف للجميع بحق العمل السياسي بمن فيهم الاسلاميون، تأكيدا أن ليس بين أمتنا والانخراط في العصر وجوهره الحكم الديمقراطي غير دكتاتور نذل مشدود بأسناد خارجية.
كل المؤشرات تدل على أن الاحتفاء برمضان سيكون مضاعفا بما ينتظر أن يحققه حزب العدالة والتنمية من نتائج مشرفة في الانتخابات الجارية، باذن الله.
وفي استقبال رمضان يتلقى شعب العراق الجريح أولى بشائر انتصارات مقاومته الاسطورية الباسلة ، بإعلان غزاته الواحد بعد الآخرعن اندحارهم خائبين ، ليتذكروا أن أمة الصيام لا تنام على ضيم.
وعلى مشارف رمضان تحقق المقاومة الافغانية أيضا باكورة انتصاراتها باندحار فصيل من غزاتها صاغرا ..والبقية تاتي.
ولكن ركب رمضان يحل وأمة الاسلام مجزأة والظلم مخيم على أغلبها: سجون ومهاجر مزدحمة بالاحرار وبطون جائعة وأخرى متخمة، وأفواه مكممة والاقصى يئن تحت الاسر وشعب فلسطين منقسم مشرد..
إلا أن روح النهضة التي تسكن الامة ستجرف كل الصعاب .
وياتي رمضان شهر الفتوحات ليعزز دفق هذه الصحوة العارمة، دافعا الى مزيد التوبة والتراحم والبذل والفداء، فيتكثف التواصل بين الخالق والمخلوق، فتتصلب الارادات الواهنة،وتتقارب النفوس المتنافرة، ويتعزز سلطان العقل على الغريزة، والمبدإ على المنفعة، والباقي على الفاني، والعام على الخاص، ولذة الروح على شهوة الجسد.
فالحمد لك ربنا على ما تفضلت علينا وأنعمت، فمددت في أعمارنا حتى أدركنا هذا الموسم للغنائم، ونسألك اللهم من فضلك أن تجعل لنا منها فضلا ونصيبا.
" من صام رمضان إيمانا واحتسابا دخل الجنة".
صحيح أن الامة تعاني آلاما جساما، ولكنها ليست بحال سكرات الموت، بل أوجاع الولادة. تيار صحوة الاسلام والحرية في صعود والمقاومة في تصاعد، وبشائر كثيرة في الافق "إنكم إن تكونوا تألمون فإنهم يألمون كما تألمون وترجون من الله ما لايرجون"
المصدر
للمزيد عن الشيخ راشد الغنوشي
.