ثقوب في جدران الإخوان المسلمين .. الحلقة الرابعة
مقدمة
أعلن الحاكم العسكري ورئيس الوزراء قرارا بحل الإخوان المسلمين في 8 ديسمبر 1948م، ومصادرة أملاكها واعتقال أفرادها، ثم تم اغتيال مرشدها حسن البنا في 12 فبراير 1949م وظلت الجماعة في طور المحنة سنين عددا حتى حكمت محكمة القضاء الإداري بإلغاء قرار الحاكم العسكري وعودة الجماعة لنشاطها واسترداد أملاكها وذلك في 17 سبتمبر 1951م،
انشقاقات ما بعد البنا
ودخلت الجماعة في طور الفراغ القيادي ومن ثم سارع أعضائها بمحاولة اختيار مرشد جديد لكنها محاولات باءت بالفشل لتنازع الأستاذ صالح عشماوي وعبد الرحمن البنا الأمر بينهما، حتى اقترح المستشار منير الدلة أن يأتوا بمرشد ليس معروفا للجميع ولديه القدرة على الاحتواء حتى تنتهي الأزمة وتجرى انتخابات جديدة وبالفعل تم اختيار المستشار حسن الهضيبي – القاضي في محكمة النقض - مرشدا عاما للإخوان في 17 أكتوبر 1951م.
وبقي حسن الهضيبي يؤدى عمله سرًّا نحو ستة شهور، لم يترك العمل في القضاء خلالها. ولما سمحت حكومة النحاس باشا؛ للهيئة التأسيسية للإخوان بالاجتماع، طلب أعضاؤها من حسن الهضيبي أن يرأس اجتماع الهيئة بصفته مرشدًا للجماعة، ولكنه رفض طلبهم إذ اعتبر انتخابه من قبل الهيئة التأسيسية في المرحلة السرية من الدعوة لا يمثل رأى جمهور الإخوان، وطلب منهم أن ينتخبوا مرشداً آخر غيره، ولكن الإخوان رفضوا طلبه، وقصدت وفود الإخوان من جميع مصر بيته، وألحت عليه بالبقاء كمرشد عام للجماعة، وبعد أخذ ورد وافق على مطالب وفود الإخوان، وقدم استقالته من القضاء.
تعرض المرشد الجديد لكثير من الغمز واللمز وإثارة الشبهات حوله مدعين بعده عن مركز صناعة القرار في السابق، وأنه لا يتحلى بالخبرة والحنكة التي تحلى بها البنا، غير صمته الكثير الذي لم ير فيه أنصار الإخوان بغيتهم خاصة بعد متحدث مفوه مثل حسن البنا، إلا أن كل ذلك لم يكن يشغل المرشد الجديد والذي سعى لوضع اطر واستراتيجيات الجماعة على أسس جديدة غير التي كان ينتهجها الإمام البنا وذلك وفق المتغيرات والمستجدات على الساحة.
وفي تصريح للمرشد العام طالب الحكومة بالعفو عن المسجونين السياسيين الذي حبسوا لعدائهم للانجليز، كما انشغل حسن الهضيبي في هذه الفترة بالحرب الدائرة في القنال، ومتابعة أبناء الحركة من الطلاب والمجاهدين ومحاولة التعمية عنهم بالتصريحات الإعلامية. لم يقف الأمر عند ذلك بل خاطب الشعب بعدم التعاون مع الإنجليز سواء بالعمل في معسكراتهم أو العمل التجاري وبالفعل استجاب الكثير حتى أن الحكومة أكبرت هذا العمل ووعدت بتوظيف كل هؤلاء العمال في الدوائر الحكومية.
ولقد أوضح موقف الإخوان من الحرب في القنال بقوله:
- كثر تساؤل الناس عن موقف الإخوان المسلمين في الظروف الحاضرة، كأن شباب مصر كله قد نفر إلى محاربة الإنجليز في القنال، ولم يتخلف إلا الإخوان المسلمون، وكأن دور اللهو والمجانة أغلقت وحرمت على اللاهين والماجنين، وكأن الجالسين في ظل ظليل وعيش رغيد وأمن لا خوف فيه، ومكاسب لا يدري أحلال كان أم حرام، تركوا ذلك كله وأخذوا في الجد من العمل والمر من الكفاح، ولم يجد هؤلاء وأولئك للإخوان عذرًا واحدًا يجيز لهم الاستبطاء بعض الشيء، ولم يفطن أحد إلى أنهم كانوا إلى وقت غير بعيد مقيدين بقيود لا تسمح لهم بالحركة، ولا يزال شبابهم المكافح رهن السجون.
- وأيًا كان غرض المتسائلين من تساؤلهم، فإن الإخوان لن يتكلموا إلا إذا شاءوا، ويحبون أن يؤدوا واجبهم في صمت، وخير لهم وللأمة أن تنطق أعمالهم وهم لا ينطقون، ولا يريدون أن يقولوا ما قال واحد منهم - ليس له حق التعبير عنهم – إنهم قد أدوا واجبهم في معركة القنال، فإن هذا غلو لا جدوى له ولا خير فيه، ولا يزال بين ما فرضه الله عليهم من الكفاح وبين الواقع أمد بعيد، والأمور إلى أوقاتها.
ونشر الكاتب الشهير إحسان عبدالقدوس مقالاً له قال فيه:
- "والإخوان المسلمون اليوم - كما كانوا بالأمس - هم الذين يمثلون دعوة الدين إلى الجهاد ، وبفضل دعوتهم هذه شهدت ساحات فلسطين أبطالاً منهم، وقفوا وقفة العمالقة، وهتفوا باسم الله، فإذا البطل منهم في صورة عشرة أبطال، ولا يستطيع ضابط ممن اشتركوا في حملة فلسطين، أو مراقب ممن راقبوا معاركها أن ينكر فضل متطوعي الإخوان المسلمين فيها، أو أن ينكر بطولتهم وجسارتهم على الموت، والعبء الكبير الذي تحملوه منها، راضين فخورين مستشهدين في سبيله.
منصب المرشد العام بدأ من حرب القنال
لقد جرت أحداث كثيرة منذ أن تولى حسن الهضيبي منصب المرشد العام بدأ من حرب القنال التي أشعلت النار في قلوب المصريين واستشهد العديد من شباب مصر، ثم تغيير الوزارات والانتخابات البرلمانية ومقابلته للملك فاروق ، وحريق القاهرة الذي أشاع الفزع في قلوب المصريين، ثم كانت ثورة يوليو التي تضامن فيها الإخوان مع الضباط الأحرار لإسقاط رمز الفساد المتمثل في الملك وحاشيته، والتي تفاجأ بها شعب مصر صباح اليوم التالي مع كلمات البيان العسكري.
منذ هذه اللحظة بدأت الخلافات تظهر جلية على الساحة بينالمرشد العام ومكتب الإرشاد من جهة وبين الحرس القديم للنظام الخاص من جهة والتي عبر عنه حسن الهضيبي بقوله لمحمود عبد الحليم – أثناء زيارته لدمنهور في ربيع عام 1952م: وقد علمت بعد ذلك بما كان من أمر النظام الخاص وتمرده على الدعوة .
وعلمت بما كان من محاولات لإقناعهم وكبح جماحهم وبأن هذه المحاولات لم تجد معهم .. وقد كدت أرجع إلى رفضي لأني لا أقبل أن أكون على رأس دعوة يتسلط عليها مركز قوة من داخلها فإن هذه المراكز هي ديناميت ينسف الدعوة فلا يبقي منها على شئ. و أنكر أن الجماعة في هذا الوقت أصبح مسرحا مفتوحا لمن يريد به الشر حيث الاستقطابات الكثيرة وانخداع البعض بحلو الكلام لعبد الناصر، ولاختلاف البعض مع رؤية طبيعة المستشار حسن الهضيبي دفعت الجميع أن تخرج المشاكل بشكل فج عبر صفحات الصحف والتلاسن بين الأطراف.
بداية الغيث .. الباقوري
كانت أول الانشقاقات ما قام به الشيخ الباقوري حينما عرض الضباط الأحرار على الإخوان ترشيح ثلاثة لوزارة محمد نجيب، يقول محمود عبد الحليم: استدعاني أنا وحسن وكان يوسف صديق حاضرًا .. وفاجأنا بقوله : " أنا عايز ثلاثة من الإخوان يدخلوا الوزارة ، فرد يوسف صديق : " إحنا هنخليها فقهاء " ..
فقال له حسن العشماوي : ما لهم الفقهاء .. ما له واحد زى الشيخ الباقوري بغض النظر عن الموضوع . وقال عبد الناصر : أنما كنت اقترحت أنك تدخل الوزارة – والكلام كان موجها لحسن العشماوي – أنت ومنير الدلة ولكن الزملاء معترضين لصغر سنكم .. وإحنا عايزين ترشحوا لنا اثنين أو ثلاثة .
وذهبنا إلي المرشد .. واجتمع مكتب الإرشاد واتخذوا قراراً بعدم الاشتراك في الوزارة بعد مناقشات طويلة .. فقد رأي البعض أن اشتراكنا في الوزارة سيجعلنا مبصرين بكل الخطوات التي تقوم بها الحكومة .. ولكن المرشد كان له رأي آخر وهو أنه : لو حدثت أخطاء من الحكومة فإنها ستلقي علي الإخوان فضلاً عن أن رسالة الإخوان كما كان يراها المكتب في تلك الآونة هي عدم الزج بأنفسهم في الحكم .
أبلغنا جمال عبد الناصر يقرر المكتب ، فطلب من المرشد أن يرشح له أشخاصًا آخرين من غير الإخوان ، فرشح له أحمد حسني وزكي شرف ومحمد كمال الديب إلا أن عبد الناصر اختار أحمد حسني فقط كوزير للعدل ، استطاع الاتصال بالشيخ الباقوري وكان عضوًا بمكتب الإرشاد وأقنعه بالخروج علي قرار المكتب وقبول الوزارة وزيرًا للأوقاف فقبل .
واتصل بي كمال الدين حسين وطلب مني محاولة إقناع أعضاء المكتب بقبول دخول الشيخ الباقوري الوزارة حتى لا يحدث صدع بين الحكومة والإخوان ، فذهبت إلي مقر الجمعية لإبلاغ المرشد بحديث كمال الدين حسين لي ، فوجدته في حالة ثورة علي صالح أبو رقيق ؛ لأنه أبلغه أن الباقوري خالف قرار المكتب .. وبعد ساعة أذيع تشكيل الوزارة ، وخرج المرشد إلي منزله
وعند خروجه قابله الصحفيون وسألوه :
- هل عرضت عليكم الوزارة ؟ .
- فأجاب : لقد عرضت علينا واعتذرنا .
- وأغضب هذا التصريح جمال عبد الناصر .
ثم يكمل صالح أبو رقيق روايته نقلاً عما سمعه من المرشد فقال :
- جلس المرشد في صالون منزله حزينًا لخروج الباقوري علي إجماع مكتب الإرشاد ، وقرب منتصف الليل وصل الشيخ الباقوري إلي منزل المرشد وصافحه وقبل يده وقال : أنا تصرفت .. أتحمل نتيجة تصرفي ، وأنا مستعد أن أستقيل من مكتب الإرشاد . ورد حسن الهضيبي : لسه ؟ وقال الباقوري : ومن الهيئة التأسيسية .. ورد حسن الهضيبي : لسه ، وقال الباقوري : ومن جماعة الإخوان المسلمين . ورد حسن الهضيبي : هكذا يجب . وطلب الشيخ الباقوري ورقة وكتب استقالته من جماعة الإخوان المسلمين.
وقد سأل أحد الصحفيين الشيخ الباقوري وزير الأوقاف عن أسباب استقالته من الإخوان، فقال:
- "هي أسباب أحب أن أوثر بها نفسي، وليس من بينها سبب واحد يمس احترامي لإخواني، واعتزازي بهم، فكل واحد منهم صغيرا كان أو كبيرا في أعمق مكان من قلبي".
وأُعْلِنَ ذلك في الصحف، فقد جاء في "أخبار اليوم" في 13/9/1952 ما نصه: "اتصل الأستاذ حسن الهضيبي - رئيس جماعة الإخوان المسلمين - بجميع الصحف ليلة تأليف وزارة محمد نجيب، وطلب إليها أن تنشر على لسانه؛ أن الأستاذ أحمد حسن الباقوري قد استقال من الإخوان".