البطل أحمد عبد العزيز

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
البطل أحمد عبد العزيز
جمع وإعداد أبو الحجاج حافظ
قائد الفدائيين المصريين في حرب 1948
غلاف الكتاب

البطل أحمد عبد العزيز

ملحمة للبطولة من الطفولة

إن أقصي ما نتمناه

أن نموت شهداء ..

إن الروح سلاحنا والجسد

طلقة السلاح التي يجب أن

نطلقها في أول مناسبة

وإلا انعدمت قيمة السلاح

أحمد عبد العزيز

تتشرف بطبعه مكتبة الجندي

مقدمة

إن الأفذاذ والأبطال والمصلحين في الأمم مثلهم كمثل الشموس والأقمار التي تضئ سمائها وتهدي شعوبها إلى الرفعة والسمو.

وكان البطل أحمد عبد العزيز شهاب ساطع أضاء قلوب المصريين في ظلمات اليأس والإحباط الذي أعقب استيلاء العصابات الصهيونية على أرض الصهيونية العربية .

وتعلق بشجاعته وبطولاته الكبار والصغار يتلهفون ما يرد من أخبار انتصاراته في المعارك التي خاضها ضد الصهاينة حتى أن قوة الفدائيين المتطوعين التي شكلها وانطلق بها للقتال قبل جميع الدول العربية لقبت باسمه وسطرت أروع صفحات البطولة في سائر الأراضي الالصهيونيةية من غزة حتى تحرير مدينة القدس الشريفة وكان مجرد ذكر اسمه أو النمر كما كان يلقب يثير الرعب في المستعمرات الصهيونية ، ولو أعطي يوما كما ألح بشدة قبل أن توقع الدول العربية الهدنة لكان حرر القدس الغربية بكاملها من اليهود .

إلا أن إرادة الله قضت أن ينال مبتغاة وهو الشهادة فلا يعود إلى الوطن مجروح القلب بعد أن قيدته وكسرت سيفه خيانة وعمالة القادة العرب ولم تقتصر بطولة أحمد عبد العزيز على ميدان حرب الصهيونية بل كشأن العظماء كانت حياته منذ الطفولة سلسلة من البطولات في كل المجالات من مقاومة الاحتلال إلى كرة القدم والفروسية والطيران والأدب والفكر والإيمان وكان متدينا طوال حياته فلم يقرب الخمر وحتى السجائر ولم يترك فريضة ويتحري أن يصلي بأحسن مظهر ويقول لمن حوله :" إننا نتجمل عند لقاء رؤسائنا فكيف بلقاء ملك السماوات والأرض ".

ولم ينل أحمد عبد العزيز ما كان يستحق من تكريم كما تنبأ في مذكراته ففي غمرة ما مرت به مصر من محن واضطرابات ، وتغييرات وصراعات نسيه المسئول بقصد أو بدون قصد ، فلم يعطي وساما واقتصر على اسم شارع بالجيزة ، تمثال نصفي بالمتحف الحربي وقاعة الكلية الحربية ، بل ظلت أرملته تتلقي معاش قائمقام محال للاستيداع حتى أدركت القوات المسلحة الخطأ سنة 1964 بعد خطاب أرسلته إلى جمال عبد الناصر فأعطي معاشا استثنائيا ثم قامت بعد ذلك بسنين بدعوتها و ابنه خالد للحج مع أسر شهداء حرب أكتوبر.

وفي عام 1960 قام الأستاذ الكاتب أبو الحجاج حافظ بجميع تراث البطل وإصدار الكتاب سنة 1961 بواسطة المجلس الأعلى لرعاية الشباب في سلسلة شباب عربي خالد.

ولمرور أكثر من أربعة عقود على إصدار هذا الكتاب بدون إعادة للطباعة فقد انتهت نسخة إلا من كتاب لدي الأسرة .

وعندما شاءت الظروف أن أعيد قراءة الكتاب بعد عدة عقود شعرت أن من واجبي كمصري قبل أن أكون ابن شقيق البطل أن أعيد نشر الكتاب لشدة الحاجة إلى المثل العليا وقد امتلأت المكتبات بالكتب عن الممثلين والمطبين والساسة ومختلف أنواع البشر من كبرائهم حتى حثالتهم .

وإذا نقوم بإعادة نشر هذا الكتاب القيم نرجو أن يسهم في ترسيخ القيم العليا والنبيلة والتي أصبحت نادرة في وقتنا الحالي .

وقد أضيف بعض المعلومات البسيطة إلى الطبعة الأصلية علاوة على فصل عن شقيق البطل اللواء أركان حرب صلاح شريف عبد العزيز والذي سار على خط أخيه منذ استشهاده حتى وفاته عام 1972 مديرا لسلاح المدرعات .

عن الأسرة

ابن شقيق البطل / عقيد مهندس بالمعاش

يحيي يونس شريف صلاح شريف

بسم الله الرحمن الرحيم

... ولا شك أن في تسجيل حياة بطلنا الشهيد إبراز للمثل العليا وتسجيل للقدوة وإفادة من ذكري الخالدين بدراسة معالم البطولة في تاريخهم وعرض جوانب المجد من أعمالهم حتى يهتدي بها شباب الأمة العربية فيحققوا للقومية العربية آمالها الكبار

جمال عبد الناصر

تقديم

بقلم :عبد اللطيف البغدادي

نائب رئيس الجمهورية ووزير التخطيط

من سمات البطولات العربية منذ فجر التاريخ ، ومنذ أن أذن الله للبطل الأول محمد صلي الله عليه وسلم أن يهدي الناس إلى سواء السبيل ، وأن يرفع بيده المشعل المضئ نور الله ويضعه على أول الطريق ليطوي في قبسة الظلم والظلمات .. من سمات هذه البطولات العربة أنها كانت تتجمل بسماحة العقيدة ، وقوة الإيمان ، وأصالة الروح ويجمع هذه الشيم الرفيعة، وبصهرها في بوتقة من صنع الله وحده الكفاح المستميت والتصميم القاهر والنضال العظيم ، الذي لا يعرف في الحق لومة لائم .

ولأمر يعرفه الله ، ويعلم وحده توقيته وتقييمه ، شاء أن تنحدر النفحات المقدسة في أخلاق الأبطال من أبناء الإسلام في كل جيل وزمان ومكان فلقد أبلي المقاتلون المدافعون عن حوزة الإسلام أعظم البلاء ذاكرين قول سد الأنبياء ، وهو في فجر الرسالة ومقتبل الجهاد :" والله لو وضعوا الشمس في يميني والقمر في يساري ما تركت هذا الأم حتى يظهره الله أو أهلك دونه" ... ثم درج الأبطال على هذا السنن القويم ، من صلابة الروح في ميادين المعارك ، وقوة الشكيمة في مجالات القتال ضاربين أروع الأمثال ، وأخلد السير وهم بعد في ريعان شبابهم وزهوة صباهم لقد دوخ الأبطال العرب أعداءهم فوق أرض القتال ، وفتحوا الأمصار وأعزوا كلمة الله وأعلوا راية الإسلام ، حتى دخل الناس في دين الله أفواجا ، وقد باعوا الدنيا واشتروا الآخرة .

وقد فتح شبابهم الذي لم يتجاوز الحلقة الثانية من عمره – القارات المترامية الأطراف . وناهيك بمحمد القاسم . الشاب العربي البطل ، الذي فتح الهند والسند ، وهو في سن السابعة عشرة من عمره .. ويطول الحدي بنا حين نستعرض الأمجاد الحربية التي سجلها خالد وطارق ، والمثتني بن حارثة الشيباني .

وحين نستعرض تاريخنا الطويل مع الاستعمار والمستعمرين فنستعرض بهذا الصفحات البيض التي تموج بأنباء انتصاراتنا على الصليبيين حتى أسرنا ملوكهم كما سنطالع أنباء فتكنا بالتتار وتبديد شملهم وتحطيم حصونهم التي ظنوا أنها مانعتهم منا ، ومن تصميمنا على كسر شوكتهم والغلبة عليهم ومن خصائص القوة الروحية والبسالة العربية أنها هي هي في كل زمان ومكان ، فحين عاد التاريخ سيرته الأولي وطمع شذاذ الأفاق في استلاب الوطن العربي ( الصهيونية) وتم لهم ما أرادوا تحركت البطولات العربية وبدأت تضرب بسنابك خيولها أرض المعركة وسالت بهم الأودية والوهاد ، ومادت الأرض تحت أقدام أعدائهم ، ووثقوا أن العرب محيطون بهم إحاطة السوار بالمعصم إن آجلا وإن عاجلا .. وقد ضرب أبطال العرب أروع الأمثلة في شرف التضحية وعظمة الجهاد ونبل الغاية .

وكانت حرب الصهيونية هي البوتقة التي صهرت معادن الأبطال العرب الذين تطوعوا في سبيل نصره الحق والذود عن كيان العروبة وخوض معارك القتال تحت راية القومية العربية المنتصرة دائما بزعامة قائد الكفاح العربي ورائد المناضلين العرب وصانع تاريخنا البطولي الرئيس جمال عبد الناصر ، وكان اسم البطل أحمد عبد العزيز ، من الأسماء التي كانت تعمر قلب الرئيس بأنبل معاني الكفاح وأكرم دوافع البسالة .

فقد تطوع رحمه الله – وخاض المعركة قائدا لفرق الفدائيين العرب في إيمان عميق وإصرار متين على النصر أو الاستشهاد وكانت تتهاوي تحت أقدامه حصون الضالين من الصهيونيين الغاشمين الدخلاء وظل أحمد عبد العزيز ينتقل من نصر إلى نصر ومن فتح إلى فتح، حتى خر صريعا لا بيد أعدائه فإن دمه كان حراما على يد الخونة الجبناء ، وإنما سقط شهيد بيد جندي من جنوده ، سبقت إرادة الله الذي لا راد لإرادته ، يد هذا الجندي الذي ل و خير لافتدي قائده بكل نفس ونفيس . وبأمثال أحمد عبد العزيز سوف نلقي بهذه الشرذمة التي لا وطن لها في البحر زادا لحيوانه وطعما لأسماكه ، ولن يمكن الله لهؤلاء القراصنة في أرض الصهيونية العربية جسما ولحما ودما ، وأن مبدأ رواه دم أحمد عبد العزيز وصحبه من أبطالنا العمالقة لسوف ينبت شجرة الحرية فوق أرض العروبة من الخليج إلى المحيط وسترف أغصانها المديدة فوق أرض الصهيونية العربية طيبة الجني مباركة الثمار وريفة الظل ، والله يؤيد رئيسنا المحبوب جمال عبد الناصر ، حارس هذه المنطقة العربية وقائد كفاحها المقدس وحامل رايتها المفداه

من هو أحمد عبد العزيز بقلم كمال الدين حسين

كنا جميعا نعرف من هو أحمد عبد العزيز..

إنه أستاذنا في التاريخ العسكري بالكلية الحربية وطالما كان الجد والصرامة في نظرته وفي ملامحه العزم وفي مظهره التحفز للتضحية ولم تكن هذه النظرة من الجد والعزم ، أو تلك العبارات الحاسمة التي تندفع من فمه كطلقات البنادق ، لم تكن جميعها لتنجح في إخفاء دماثة خلقه ورقة طبعه وطيبة قلبه ، وكانت تترجم هذا كله ابتسامة حلوة ترتسم على شفتيه فيها نبل وفيها شجاعة وفيها إباء وفيها إيمان ..

الإهداء

إلى مصر العربية

إلى الشباب العربي في كل مكان من وطننا العربي الكبير ، أقدم قصة البطل العربي أحمد عبد العزيز ،... قصة البطولة والشجاعة وقصة الإيمان قصة البذل والتضحية أقصي التضحية وأسماها وأشرف البذل وأكرمه .. أبو الحجاج حافظ كلمة البطل عندما وطئ أرض الصهيونية

لقد جئنا إلى هنا لا رهبة من أحد ولا رغبة في شئ إلا رضاء الله وحده فإذا استشهدنا ومضينا إلى جواره فهذا أعظم آمالنا وأحب أمانينا .

ولسوف نمضي في طريقنا ، دون أن يثنينا أحد عن غايتنا سنطبق النظام والعدالة وسنتخذ كل وسيلة تعدينيا من أهدافنا ما دامت في سبيل الحق والخير وسنكون قساة على أنفسنا فنحن إنما نحارب من أجل غاية عليا من أجل تراث العروبة، ومن أجل الدفاع عن كيان الدولة العربية ومستقبلها .. فمن شاء أن يمضي معنا فأهلا به وسهلا ومن شاء أن يمضي عنا فلن يرده أحد.

أحمد عبد العزيز

مولده ونشأته

في 29 يوليو 1907، ولد للسيد البكباشي محمد عبد العزيز قائد الكتيبة الثامنة مشاة ، بمدينة الخرطوم ابنه الثاني أحمد عبد العزيز وكان قد نقل للعمل هناك من رئاسة الجيش بالأزهر .

والده محمد عبد العزيز أمين نجل السيد محمد أمين نجل السيد محمد أمين ضابط مصري تنحدر أسرته من الأصول العربية وأشراف المدينة المنورة وقد واصل والده الترقي حتى رتبة الأميرالاي وحصل على الباكاويه.

وقد نشأ أحمد في بيت يتميز بالطابع الإيماني والحس الوطني العسكري فقد كان والده من الضباط القلائل الذين كانوا يتميزون بمستوي ثقافي كبير وروح إسلامية ووطنية جياشة عارمة ، وكان جده لوالدته اليوزباشي ونس شريف و والبطل الذي استشهد في حملة هكس المشئومة التي أبيدت عن آخرها .. وقد طلبت والدة أحمد من والده أن يسمي ابنهما الثالث باسم جده ، وسرعان ما استجاب الأميرالاي محمد عبد العزيز لهذه الرغبة وهو القائد الذي يعرف معني الاستشهاد ويقدر الأبطال فكان اسم الابن الثالث صلاح شريف الذي كان مع أحمد وشقيقهما الأكبر عمر ، وأخوتهم البنات الثلاث يحملون هذا التراث البطولي الوطني الذي يسري في عروقهم مسري الدم والروح.

وشب أحمد ليستمع من والده إلى قصص الصراع الدامي التي خاضها الشعب العربي في السودان ومصر ضد قوي الاستعمار البريطاني ومؤامراته ودسائسه وألاعيبه مما ترك في نفس أحمد مرارة عميقة كان لا يخفيها طوال حياته تجاه الإنجليز وأذنابهم وعملائهم وكان والده قد اشترك في عدة معارك في السودان دارت رحاها بين الإنجليز والشعب العربي من السودان ومصر .

وانتهت مدة خدمة الوالد في السودان وعاد إلى الأزهر التي بدأ مرجلها يغلي في عنف تجاه قوات المستعمرين وانتفض الشعب يدافع عن حريته وعزته وكرامته .

فكانت مظاهرات 1919 وكان لأحمد عبد العزيز ا دور كبير رغم أنه لم يكد يعدو الثانية عشر من عمره ولم يزل طالبا في بداية المرحلة الثانوية بالمدرسة التوفيقية بعد أن حصل على شهادة الابتدائية من مدرسة خليل أغا ، وقد ارتبطت هذه الثورة بأحمد عبد العزيز برباط قوي ، بل وكانت حوادثها نقطة تحول في حياته أطلقت أحاسيسه وروحه الوطنية إلى أقصي حدودها فقد حدث في احدي مظاهرات ثورة 1919 أن كان أحمد عبد العزيز وبجواره شقيقه الأكبر عمر عبد العزيز يسيران مع جموع الشعب الهادرة في شوارع الأزهر وطرقاتها يصبون نقمتهم على الإنجليز وعملائهم وتصدت القوات الإنجليزية لهذه المظاهرة ووقف عمر في بطولة وثبات في وجهها وحنجرته تنطلق بالقوة والعزة مما أثار ضابطا إنجليزيا أمامه فتقدم من عمر وضربه ضربة ( بدبشك) بندقيته في جنبه وعاود ضربه وعمر يهتف لبلاده ووطنه ، وأحمد عبد العزيز وهو في سن الثانية عشرة من عمره – يري هذا المشهد ، وتغلي في عروقه الدماء ويحاول أن يقف في وجه الإنجليزي الذي استمر في ضربه حتى سقط عمر .. وتقدم أحمد عبد العزيز ليحمل شقيقه الجريح ويلهب أحاسيس الشعب بدمه ..

ودخل أحمد بشقيقه إلى بيت أسرته ، ليسجل لحظات استشهاد عمر عبد العزيز وكأنه يسجل على نفسه إصرار الجهاد والكفاح حتى يجلي عن وطنه هذا المستعمر ويحمي بدمه وروحه كل معني للاستقلال والحرية والعزة والكرامة .

وفي نفس الوقت الذي استشهد فيه عمر عبد العزيز شهد أحمد عبد العزيز مظهرا من مظاهر الوطنية والبطولات والفداء في أسرته العريقة بالمجد الوطني فقد قام الأميرألاي محمد عبد العزيز بإصدار الأمر لقواته بالتوجه إلى مبني المحافظة بالأزبكية لإخراج طلبة المدرسة الحربية ومدرسة الشرطة الذين قبضت عليهم القوات الاستعمارية الإنجليزية في نفس هذه المظاهرة وهدد محمد عبد العزيز باقتحام المبني حتى تم الإفراج عن شباب هذه المدرسة وأبطالها... ولم يكن تاريخ محمد عبد العزيز في حاجة إلى هذه الحادثة ليتأكد الإنجليز من عدائه السافر الشديد لهم.

فسارع الإنجليز بتحريك أذنابهم وعملائهم وصدرت الأوامر للأميرالاي محمد عبد العزيز بالهجوم بالكتيبة الثامنة مشاة على حرمة الأزهر الشريف لكسر شوكة الثائرين من أبنائه على الاستعمار الإنجليزي وأذنابه .

ورفض الأميرالاي محمد عبد العزيز أن يجيب طلب القوات الإنجليزية المستعمرة .. وأعتقد الإنجليز أنهم أكملوا حوله السلسلة التي يستطيعون بها أن يتخلصوا منه .

وتقرر نفيه إلى مالطة

وتذكر أسرة أحمد هذه اللحظات التي كان فيها الوالد يستعد لجمع حاجياته للمنفي الذي اختاره له الاستعمار الإنجليزي .. فقد وقف أحمد وهو في سنه المبكرة هذه 12 عاما ليقول لوالده وصدره مرتفع وصوته جهوري عميق وهو شامخ في كبرياء الوطني المجاهد:

" بابا .. أنا رايح آجي معاك.. ما تخافش أنا حروح مالطة "

وأحس زملاء محمد عبد العزيز من الأباة الأشراف بما يدبر لزميلهم الوطني ، فأثاروا المسألة من الناحية الدينية ، وأن رفض محمد عبد العزيز لتنفيذ الأمر العسكري كان لتعلقه بحرمة الدين وحرمة الجامع الأزهر الشريف .

وأحس الإنجليز بمكرهم ودهائهم أنهم في غير حاجة لفتح هذه الجبهة أمامهم فسارعوا وأوصدوها وتقرر أن يحال الأميرالاي محمد عبد العزيز إلى المعاش ، رغم أنه من النخبة الممتازة في الجيش وممن كانوا يتمتعون بشهرة وطنية بين صفوفه .

ومرت الأيام تضفي حوادثها بذخيرة وطنية جارفة إلى قلب أحمد عبد العزيز ووجدانه فما أن جاءت ثورة 1923هـ حتى قام الإنجليز بتقسيم الأزهر إلى مناطق مختلفة ، وحاصروا كل منطقة منها معتقدين أنهم بذلك يستطيعون – بتفرقتهم المعروفة – أن يقضوا على كل منطقة على حدة .. ولعب هنا أحمد عبد العزيز دورا جديدا ناصعا في حياته الوطنية فقد اشترك أحمد في الجماعات الوطنية السرية ، التي كانت تقوم بكسر الحصار الإنجليزي على هذه المناطق وكان دور أحمد تهريب الرصاص إلى المجاهدين في المناطق المحاصرة بقوات الإنجليز .

وكانت طريقته في ذلك أن يعبئ علبة سجاير فارغة بالرصاص ويكمل نصفها الظاهر بأنصاف السجاير ويمرق بين قوات الإنجليز إلى كل منطقة محاصرة .. والعجيب أن أحمد عبد العزيز لم يدخن في حياته سيجارة واحدة حتى بعد أن امتد به العمر وزادت مسئوليات الحياة على كاهله يروي لى شقيقه صلاح انه كان يقول له :" يا صلاح لا تتصور مقدار كرهي للسجاير فقد ارتبطت بذهني بالرصاص ، وكل ما أري علبة سجاير أتذكر ما كنت أعانيه من تفتيش انجليزي رهيب عندما كانوا يقبضون على وأنا أحاول دخول المناطق المحاصرة وكانوا بعد تفتيشي لا يجدون معي سوي علبة السجاير ولو قدر مرة وفتحها أحدهم ونبش الصف الأول من السجاير لوجد تحته الرصاص ولوجدت تحته قبري ".

القبض على أحمد عبد العزيز

واستمرارا للنضال ضد المستعمر وفي سن 16 سنة كان البطل الذي يقفع مسكنه بضاحية هليوبوليس بمنطقة مصر الجديدة ( ميدان صلاح الدين حاليا ) يقوم مع بعض زملائه المجاهدين بمهاجمة الجنود الإنجليز السكاري بعد خروجهم من الخمارات ونوادي الليل ، وفي احدي الليالي انقض هو وزميل له على ضابط انجليزي بصحبة فتاة ليل.

وقاموا بطعنه عدة طعنات أدت إلى موته ، وأقبل الإنجليز لصياح المرأة وطاردوهم وقام البطل بإخفاء السلاح قبل أن يتمكن الإنجليز من الإمساك بزميله .

وأثناء الاستجواب أصر الزميل رغم التعذيب بأنه كان في رفقة أحمد عبد العزيز وفي الطريق إلى منزله وليس لهما علاقة بالحادث وبوطنية نادرة شهدت الفتاة بأنها غير متأكدة من شكل المهاجمين بسبب ضعف الإضاءة.

وتم حبس البطل في سجن الأجانب ورغم وسائل الإرهاب التي اتبعها المحققون الإنجليز فلم يتأثر أو ينهار وظل هادئا متمسكا بأقواله .

وعقدت المحاكمة جلساتها ووصفت الصحف الصادرة في هذا التاريخ أن شابا وديعا هادئا ، كان يجلس في قفص الاتهام ينقل بصره في ثقة واطمئنان بين هيئة المحكمة وجمهور النظارة .

وكانت نظرات أحمد الوادعة المطمئنة لا تنم عن الثورة العارمة التي تعتمل في صدره وتشكل منه قوة مدمرة للعدو ، الذي يتولي محاكمته وتوجيه التهمة إليه .

واستمر أحمد في السجن ثلاثة أشهر كان فيها مثال الوطنية والعزم والإيمان حتى أنه في هذه الفترة قد أحال من حوله إلى شعلة من الوطنية الجارفة كادت أن تحيل السجن إلى بوتقة لإخراج مزيد من الثائرين الذين لا قبل للمستعمر بهم.

وفي 23 فبراير سنة 1923 صدر التصريح المعروف وأعقبه إفراج عن المتهمين السياسيين وأصدرت المحكمة قرارها بالإفراج عن أحمد عبد العزيز لعدم كفاية الأدلة .

وكان والده في هذه الأثناء يقف إلى جانبه يشد أزره ويقوي عزيمته وهو الذي عرف جيدا كراهة الأحرار لقوي الاستعمار والظلم والطغيان .

كان محمد عبد العزيز يري حبل المشنقة يلتف حول عنق ولده الأكبر بعد استشهاد عمر وكان يحاول أن يكتم أمام أحمد ما يعتمل في نفسه كأب بار بأبنائه عطوف عليهم يحمل لهم في قلبه الحب والأمل .

وأفرج كما قلنا عن أحمد عبد العزيز ولكن اشترطت القوات الحاكمة في ذلك الوقت أن يبعد محمد عبد العزيز بأولاده عن الأزهر .

وفي أوائل عام 1924 حمل الوالد المجاهد أسرته إلى بلدته طنامل الشرقي مركز أجا محافظة الدقهلية حيث أملاك وبيت لزوجته وليقضي هناك ما بقي له من حياته .

والتحق أحمد عبد العزيز بمدرسة المنصورة الثانوية وكان قد حصل على شهادة الكفاءة في السنة السابقة ( 1923 ) وقضي أحمد عبد العزيز عامين في هذه المدرسة وحصل في سنة 1925 على شهادة البكالوريا .

ورغم إبعاد أحمد عن الأزهر مركز الصراع الدموي بين أبناء مصر وقوات الاستعمار الإنجليزي فقد كان أحمد طوال فترة وجوده في مدرسة المنصورة شعلة من الوطنية الجارفة ولم يتخل قط عن دوره الوطني في كفاح الشعب من أجل حريته واستقلاله ، ولعب أحمد عبد العزيز مع صديقه في مدرسة المنصورة الثانوية الدكتور عبد الجليل العمري دوره الوطن الذي كان يقوم به في الأزهر اجتماعات مستمرة مع إصرار على الكفاح وتعبئة للجهود الوطنية وتقوية للروح الوطنية التي كانت تسود مصر في ذلك الوقت من أقصاها إلى أقصاها .

وكان أحمد طوال فترة دراسته الثانوية كما كانت قبل ذلك يحتل بسهولة ويس ورضا ومحبة مكان الصدارة بين زملائه فقد كانت طبيعته القوية تضفي عليه صفات القيادة المحببة الواعية .

وكان هذا هو الخط العريض في حياة أحمد عبد العزيز .. كفاح دائم وإصرار على النصر .

وبطولة صادقة لامعة يرفض صاحبها أن يتحدث عنها وكأنه يري أنها أمر طبيعي في كل مواطن ، في هذا الوطن المكافح .

وقد روي أصدقاءه وزملائه في هذه الفترة أنه كان دائما يخجل عند الكلام عن نفسه ولو أنه كان صامتا لا يحب أن يتكلم كثيرا وكان في نفس الوقت يسر إلى شقيقه صلاح رغبته وإحساسه الدائم بموت الأبطال والذي كان يأمله ويسعي إليه دائما .

هذا وقد كان أحمد منذ نعومة أظافره يبحث دائما عن المسئولية الكبيرة ليحملها فوق رأسه كان لا يقبل قط أن يكون صغيرا حتى وهو في فجر حياته وطفولته كانت تصرفاته في أسرته تصرفات الرجال المسئولين ولو أنه كان في كثير من الأحيان مصدر كثير من القلق لوالدته وهو في سنه المبكرة، إلا أنه سرعان ما كان يعود إليها ويقبل يديها كما كانت عادته دائما – ويقول لها :" إنني أدعو لك دائما لأنك تتحملين المتاعب التي نسببها لك" وكانت متاعب الأم تبدأ عند خروج عمر وأحمد في مظاهرات الثورة وفي جماعات الكفاح الوطني السرية .

وحصل أحمد على شهادة البكالوريا في سنة 1925 من مدرسة المنصورة الثانوية وجاء ترتيبه 94 على المملكة مع تفوق في جمع علومه وخاصة التاريخ والهندسة وحصل على مجموع يؤهله إلى دخول كلية الطب أو كلية الهندسة أيهما يختار .

وعرض الأب على ابنه رغبته في احدي الكليتين الطب أو الهندسة وإذا بأحمد يصر على الدراسة العسكرية .

وكان الوالد يسعده في أعماقه أن ينهج ابنه منهجه ولكنه كان يخشي أن يبطش به الإنجليز انتقاما من والده ، كما أنه رغم براءته في المحكمة فما زالت السلطات الإنجليزية تعتقد أنه من قام بقتل الضابط الإنجليزي وفعلا أسر لابنه بذلك قائلا له :" الإنجليز مش ممكن حيدولك خير وهما فعلا المسيطرين على الجيش وعلى البلد ، وتاريخ أبوك وتاريخك معاهم حيتعبك، والرأي لك "

وكانت هذه الكلمات سببا جديدا ليقتنع أحمد برغبته في دخول المدرسة الحربية في ذلك الوقت وكأنه يرد على والده بل إن تاريخك معهم سيكون حافزا على طردهم من جيش بلادي بل ومن أرضها وسمائها ودخل أحمد عبد العزيز إلى المدرسة الحربية بفضل زملاء أبيه من الضباط الوطنيين ورغم اعتراض الإنجليز ليسجل صفحة جديدة من حياته .

صفحة تضم الخط العريض الذي تميز به البطل أحمد عبد العزيز وتضفي عليه كثيرا من الضوء والوضوح.

فقد تميز أحمد في دراسته العسكرية وفرضته أخلاقه وشخصيته وتفوقه على زملائه ، واشتهر أحمد في المدرسة الحربية كطالب متميز ومرموق يتنبأ له الجميع بمستقبل كبير باهر .

وفعلا جاء ترتيب أحمد عبد العزيز طوال وجوده في المدرسة في المرتبة الأولي ، وجاء ترتيبه عند التخرج الثاني على دفعته كلها .

وخطأ البطل أحمد عبد العزيز إلى ميدان العمل في القوات المسلحة يضفي عليه ماضيه هالة قوية ناصعة ترنو إليها أبصار كل من يعمل معه أو يسمع عنه من أبناء وطنه ، وترهب المستعمر وتزيد من تربصه له حتى أنه حرمه من البعثة العسكرية ، التي كان يرسل إليها أوائل المدرسة الحربية في جامعة كامبرلي العسكرية ، لا لشئ إلا لأنه البطل أحمد عبد العزيز ، الذي كان قد اتهم في قتل ضابط انجليزي وهو ابن البطل محمد عبد العزيز ، الذي عرف بعدائه ، وشقيق البطل عمر عبد العزيز الذي استشهد ببنادق الإنجليز وحفيد البطل الشهيد يونس شريف .

وقائع حياته العسكرية

التحق البطل أحمد عبد العزيز بالمدرسة الحربية في 15 / 10/1925 وسرعان ما احتل بين زملائه وأساتذته مكانة مرموقة للمزايا العديدة التي كان يتمتع بها كما سبق أن بينا .

وقضي أحمد عبد العزيز ثلاث سنوات في دراسته الحربية وكان ترتيبه فيها دائما الأول ، وتخرج 1/7/1928 ملازما ثانيا في سلاح الفرسان حتى 31/12/1931 عندما رقي إلى رتبة الملازم أول في سلاح الفرسان ، ومكث به حتى 14/9/1938 عندما نقل إلى الكلية الحربية ليقضي بها الفترة حتى 24/ 6/1941 ورقي في أثناء ذلك إلى رتبة اليوزباشي في 15/10/ 1939 وإلى رتبة الصاغ في 11/2/1941 ثم نقل إلى سلاح الفرسان مرة أخري – دبابات – في 25 / 6/1941 ليقضي به الفترة حتى 31/ 1/ 1942 ونقل صاغ أركان حرب لإدارة العمليات في المدة من 26/ 2/1942 حتى 15 يناير 1946 ، ورقي في 1/6/1944 إلى رتبة بكباشي ( مقدم) أركان حرب وعاد مرة أخري من 16/ 1/1946 إلى سلاح الفرسان .

هذا وقد جاء أول تقرير عنه في المدرسة الحربية ليقول عنه أن درجة كفاءته من الدرجة الأولي وجاء ترتيبه الأول على دفعته وحصل على نسبة 84 في المائة .

وجاء في ملاحظات رئيس المعلمين بالنسبة للطالب أحمد عبد العزيز ما يلي :

" ينظر منه أن يكون ضابطا نافعا ، قد يكون مدرسا صالحا للمدرسة الحربية بعد تمرينه بالوحدات العسكرية حكم في كرة القدم"

وجاء في تقرير" قومندان المدرسة" عنه ما يلي :

  1. - أخلاقه جيدة جدا - رزين.
  2. - مؤدب - كان دائما يتقدم مدة سني الدراسة.
  3. - كفء في الضبط والربط

ثم وافق على انتخاب أحمد عبد العزيز كمدرس بالمدرسة الحربية في المستقبل .."

وجاء في تقرير بتاريخ 16 / 3/1926.

  1. - نشط . – مؤدب.
  2. - مجتهد. – يميل كثيرا للشغل .
  3. - كلما طال عليه العهد بالخدمة كلما تجلت مواهبه في الشغل .

وجاء في تقري 22 مارس 1930:

  1. - حميد الأخلاق - حسن السلوك والسيرة .
  2. - نشط وغيور - يجتهد في إنجاز أعماله على الوجه الأكمل .
  3. - يجيد قراءة الخرائط - يؤدي أعماله على غاية ما يرام .
  4. - تعلميجي جيد.

وجاء في تقرير قائده في 21 مارس 1931 – وكان أحمد عبد العزيز برتبة ملازم ثاني :

  1. - أخلاقه وسلوكه حسن .
  2. - أراه في كثير من الأحيان هادئا كثير الأدب والحياء .
  3. - يمتاز في أعمال الميدان بإتقان الرسم والتقارير وقراءة الخرائط.

وجاء في تقرير بتاريخ 25/3/1932:

  1. - ملازم أول سواري جيد جدا.
  2. - ضابط جيد .
  3. - رياضي.

جاء في ترتيبه الأول في امتحان فرقة الطيران .

  1. - يغضب في بعض الأحيان .
  2. - مجتهد كثيرا في فن الفروسية.
  3. - أخلاقه وسلوكه مرضية.
  4. - مفيد لسلاح السواري مستقبلا.

وجاء في تقرير بتاريخ 31 / 3/1935

  1. • شرف الجيش والبلاد في مهارته في الفروسية الأمر الذي ترتب عله تهنئته مرتين في الأوامر العسكرية.
  2. • ضابط غيور جدا .
  3. • نشيط جدا .
  4. • مفيد للسواري.
  5. • ليس فيه نقائص أو عيوب إلا تشبثه بفكره في بعض الأحيان ..
  6. • ضابط جيد جدا من كل الوجوه .

وجاء في تقرير بتاريخ 8 / 4/ 1936.

  1. • أدي هذا العام أعمال يوزباشي أورطة بحالة جيدة جدا .. دلت على كفاءة تامة ميل إلى العمل المنتج كلما زادت مسئوليته ( هذا علم بأن رتبته كانت ملازم أول وكان يقوم بعمل يوزباشي ).
  2. • لا يزال أكفأ الضابط في الوقت الحاضر في نط السدود العالية .
  3. • صار حائزا لكل الفضائل العسكرية.

فاز في حفلات الجيش البريطاني فأكسب السواري المصرية فخرا عظيما .. ( وكان فوز ضابط مصري على قوات جيش الاحتلال عمل لا شك عظيم في 1936)

وقد كانت هذه التقارير تقصد بتشبثه بفكره وغضبه ما كان يبدو فعلا من أحمد عبد العزيز تجاه الأوضاع غير الوطنية التي كانت في قواتنا في ذلك العهد البغيض ويبدو هذا واضحا في التقرير المؤرخ في 31/3/1937.

  1. - يتشبث بفكره.
  2. - يكتب تقارير ضد تصرفات رؤسائه.
  3. - معلوماته العسكرية جيدة وضابط جيد في نط السدود .

وجاء في تقرير مؤرخ في 24/10 / 1939 وكان أحمد عبد العزيز مدرسا بالكلية الحربية:

  1. - مؤهلاته العسكرية جيدة جدا .
  2. - أخلاقه مرضية للغاية .
  3. - مكانته الشخصية ومظهره جديران بحسن التقدير والثناء .
  4. - ضابط جيد جدا من كل الوجوه .
  5. - يبذل كل مجهوده لصالح العمل .
  6. - مثل طيب جدا للطلبة في النشاط والجد في العمل .
  7. - محاضر تاريخ عسكري جيد جدا .
  8. - سيكون ضابط أركان حرب وقائد مفيد جدا .

وكان أحمد عبد العزيز في هذه الأثناء قد عاد لتوه من بعثة عسكرية للخارج وكانت في صيف عام 1938 في فرنسا لزيارة الميدان الغربي وميادين القتال الأخرى ، مع طلبة الدورة الأولي لكلية أركان حرب ، والتي كان مدرسا بها في ذلك الوقت كما جاء في تقرير آخ في 21 / 4/ 1940 ما يلي:

  1. • محاضر جيد يمتاز بحسن الأسلوب وسلامة الألفاظ.
  2. • مال للإطلاع.
  3. • يغذي مجله الجيش من وقت لآخر بمقالات عسكرية قيمة.
  4. • ضابط يعتمد عليه.
  5. • يبذل كل مجهوده لصالح العمل .
  6. • مثل طيب جدا للطلبة في النشاط .
  7. • سيكون ضابط أركان حرب وقائد مفيد جدا.
  8. • ضابط جيد جدا من كل الوجوه.
  9. • يدرس مادة التاريخ العسكري.
  10. • نتيجة أعماله مرضية للغاية.
  11. • مؤهلاته العسكرية عالية جدا .
  12. • أخلاقه مرضية للغاية .
  13. • مكانته الشخصية ومظهره جديران بالإعجاب.

وجاء في تقرير بتاريخ 6/5/1941.

  1. • شعلة من الذكاء.
  2. • مؤهلاته العسكرية عالية جدا.
  3. • أخلاقه مرضية للغاية.
  4. • مكانته الشخصية ومظهره جديران بالإعجاب.
  5. • ضابط جيد جدا من كل الوجوه .
  6. • ميال للإطلاع.
  7. • يعتمد عليه .
  8. • روحه الرياضية عالية ، وكان لمجهوده أثر عظيم في نشر الرياضة حتى أن فريق كره القدم بالكلية فاز بتوجيهه بكأسين .

وجاء في تقرير بتاريخ 25/4/1943:

  1. • مظهره وأخلاقه الشخصية قدوة حسنة.
  2. • نبيه ومحاضر جيد.
  3. • عاد من الكلية الحربية في 25/ 6/1941 وحضر بمركز التدرب واجتازها بتفوق .

وجاء في تقرير بتاريخ 1/7/1944 :

  1. • قام بأعماله في قسم الترجمة التابع لقسم التدريب بحالة مرضية جدا وناجحة .
  2. • ضابط حازم.
  3. • غيور .
  4. • شديد الاهتمام بالضبط والربط.
  5. • يحافظ على كرامته .
  6. • فاز بالجائزة الثانية في مسابقة الموضوعات العسكرية ، مما يدل على سعة اطلاعه وميله الشديد لزيادة معلوماته العسكرية.
  7. • معلوماته العسكرية ممتازة.
  8. • محاضر ممتاز
  9. • أخلاقه متينة جدا.
  10. • مكانته الشخصية ومظهره مرضيان للغاية.

وجاء في تقرير في 31/ 5/1945:

  1. • ضابط أركان حرب ممتاز في جميع النواحي .
  2. • ذو معلومات عسكرية ممتازة .
  3. • يميل لكثرة الاطلاع والدروس.
  4. • حازم في تصرفاته.
  5. • له آراء سديدة جدا ومنطقية.
  6. • يقوم بأعماله في قسم التدريب بكل نجاح وكفاءة.
  7. • أخلاقه وآدابه عالية جدا وممتازة.
  8. • أمين .
  9. • مخلص لعمله .
  10. • محبوب من مرؤوسيه .
  11. • مكانته ومظهره مرضيان .

وجاء في تقرير بتاريخ 10/2/1946:

  1. • ضابط أركان حرب ممتاز.
  2. • معلوماته العسكرية عالية جدا .
  3. • كثير الاطلاع
  4. • آراؤه سديدة.
  5. • أخلاقه قدوة حسنة .
  6. • آدابه عالية .
  7. • أمين ومخلص في عمله .
  8. • يهتم بالضبط والربط.
  9. • محاضر ممتاز.
  10. • مكانته الشخصية ومظهره مرضيان للغاية .

وجاء في تقرير 30/4/1946 وكان أحمد عبد العزيز يشغل منصب قائد ثاني الآلاي بسلاح الفرسان .

  1. • نقل إلى الآلاي من إدارة العمليات الحربية واستفاد كثيرا في هذه المدة من تطبيقه العلم على العمل .
  2. • قام بأعماله بحالة مرضية جدا .
  3. • كثير الاطلاع.
  4. • محاضر جيد.
  5. • حسن المظهر والهندام .
  6. • انتخب ليكون ضمن فريق التدرب للجيش .
  7. • أعماله جيدة جدا .
  8. • له دراية بأعمال المكتب .

وجاء في تقرير بتاريخ 28/5/1947:

  1. • ضابط نبيه شغال .
  2. • يؤدي عمله في هدوء .
  3. • يحافظ على كرامته .
  4. • قائم بأعماله بحالة مرضية جدا
  5. • كثير الاطلاع .
  6. • متين الأخلاق .
  7. • مؤدب.
  8. • حسن المظهر .
  9. • له مكانة شخصية محبوبة.
  10. • ضابط أركان حرب كفء
  11. • ملم بالقوانين.
  12. • حسن الإدارة.
  13. • يليق لتولي قيادة أكبر.
  14. • يعتمد عليه.

وجاء في تقرير بتاريخ 12/ 6/ 1948:

  1. • ضابط ممتاز .
  2. • أخلاقه الشخصية حسنة ومظهره جيد ومكانته حسنة بين مرؤوسيه.
  3. • قام بأعمال قيادة آلاي الخيالة على ما يرام من حي الكفاءة والأعمال الإدارية.
  4. • قام بأعماله بحالة مرضية للغاية
  5. • صالح للقيادة

وكان هذا آخر تقرير ضمه ملف خدمة البطل بعد أن تقدم في 20/4/1948 بطلب إحالة إلى الاستيداع للاستعداد لمعركة الصهيونية وهذا نصه:

أنا البكباشي أ. ح أحمد عبد العزيز من سلاح الفرسان .. ألتمس إحالتي على الاستيداع لمدة ستة أشهر "

احمد عبد العزيز يطالب الخدمة في الصحراء

وهذا ومما يلفت النظر حقا هذا الطلب الذي تقدم به البطل الشهيد في 13/ 10/1945 إلى رئاسته يصر على طلب الخدمة في الصحراء ويضع لذلك مبررات المواطن الواعي والضابط المحنك ..

قال أحمد عبد العزيز في طلبه هذا :

" إن القائد السواري الذي لا يخدم في الصحراء ولا يلم بها جيدا لا يكون مفيدا لسلاحه الفائدة المرجوة مهما كان ذكيا أو مجتهد ومهما حصل عليه من خدمة ممتازة في الأزهر .

إن هذه الحالة تشعرني بالخجل والضعف رغم ما أشعر به من الميل للخدمة في الخارج وخاصة في الصحراء .

وستكون خدمتى في الصحراء ذات فائدة علمية وعسكرية لي وللجيش معا وذلك لشغفي بالتاريخ العسكري والجغرافيا العسكرية وقد نلت جائزتها وأنا طالب بالكلية الحربية كما كنت مدرسا فيهما بالكلية الحربية .

وهذا مما يعزز طلبي للخدمة في الصحراء ..

إنني أطلبها من تلقاء نفسي في سبيل المصلح العامة التي ذكرتها "..

كانت هذه روح أحمد عبد العزيز... وكان هذا وعيه العسكري والوطني .

وفي نفس الوقت الذي كان فيه أحمد عبد العزيز يحصل على كل هذه التقارير ويسجل كل هذه الصفحات كان يصر على اكتساب مزيد من المعرفة والعلم .

فقد حصل على شهادة فرقة الحملة بالقسم الطبي في 16 / 8 / 1930 وشهادة فرقة البندقية مرتين في 3/8/1931 وفي 3/9/1932 وكان ترتيبه ( الأول بامتياز) ثم شهادة في فرقة المدفعية في 1933 ، ثم شهادة قيادة السيارات ( عادية)و ( في الصحراء ) في 24/ 8/ 1937 وكان تقديره ممتاز ثم شهادة فرقة صيانة في 1/8/1941 وشهادة فرقة مدفعية في 4/9 / 1941 وحصل على 90 في المائة من مجموع الدرجات وتقدير الامتياز وتقرير يقول :" ممتاز .. ميال للبحث .. قام بواجبه على أكمل وجه ".

وكان أحمد عبد العزيز يخطو في طريقه الصاعد في أنفسه وكبرياء يحافظ على كرامته إلى أبعد الحدود ، وقد كان هذا سببا في ذلك إلى وضع كثير من الحواجز أمامه .. ومن الغريب أن البطل أحمد عبد العزيز رقي إلى رتبة القائمان – العقيد – في 20 / 8 / 1948 ومنح معها رتبة البكوية في ذلك الوقت أى قبيل استشهاده بيومين اثنين .

آخر تقرير

وفي محمد سالم عبد السلام 1948 بعد أن سجل أحمد عبد العزيز آخر صفحة من صفحات حياته الزاخرة النابضة كان ملف خدمته يطوي بعد أن أرفق به آخر تقرير عنه هذا نصه:

" كان له أكبر الفضل في نجاح معركة القدس وغيرها من المعارك التي خاض غمارها وقاد فيها رجاله بشجاعة وبسالة ومقدرة فائقة في جولته الموفقة من غزة بعزم صادق وبأس شديد فأضرم في صدور المجاهدين نارا لا تخمد وأوقد في قلوبهم شعلة لا تهدأ ملأها بحب التضحية والفداء مما جعله محل تقدير الوطن."

الفارس أحمد عبد العزيز

كان البطل أحمد عبد العزيز منذ فجر حياته يشتهر بحبه للرياضة وخاصة ما كان منها يتطلب مجهودا كبيرا يعتصره عصرا فلم يكن أحمد عبد العزيز كطبيعته يقبل في أى أمر يتصل به القتلة أو الصغر ، فكان دائما يجنح بطبيعته إلى كل أم شاق وعظيم .. فكانت من هواياته الرياضية الملاكمة والمصارعة وكرة القدم .. كما اشتهر أحمد عبد العزيز بأنه فارس الجيش .. ولا غرور فقد ظل أحمد عبد العزيز البطل الأول في جيشنا منذ عام 1928 حتى عام 1936 وهو يفوز دائما بالمرتبة الأولي المتفوقة .. ولم يتخل أحمد عن حبه للفروسية لحظة واحدة من حياته ، ولم يكن في نفس الوقت يأخذ من الفروسية لحظة واحدة من حياته ، ولم يكن في نفس الوقت يأخذ من الفروسية رياضة جسدية فقط ، بل كانت جميع تصرفاته وأعماله تتسم بطابع الفارس الشجاع وما يتميز به من خلق كريم وتصرفات شريفة لامعة نابضة بالحياة والعزة والكرامة والشموخ.

وكان أحمد عبد العزيز مشتركا في جميع كتب الفروسية والسدود التي تصدرها المكتبات في العالم كله .. وكان يدرس دائما بل ويبتكر ويبتدع في هواياته هذه كما كانت عادته في عمله وتصرفاته دائما .. كما كان أحمد يتخذ من حبه للفروسية وبطولته فيها ميدانا وطنيا خاصا هو الذي دفعه في إصرار إلى الاشتراك في إحدى الحفلات التي أقامتها القوات الإنجليزية في عام 1935 وكانت لهذه الحفلة بالذات قصة أرويها ..

في عام 1935 قررت القوات العسكرية الإنجليزية إقامة حفلة للفروسية واجتياز السدود في ميدان محطة مصر بجوار مقر البوليس الحربي الإنجليزي في ذلك الوقت عضا لعضلات الاستعمار وصورة من صور الإرهاب والإذلال .. وكان المشتركون في هذا الحفل من الضباط الإنجليز في سلاح الفرسان عندهم وكلهم كما كان معروفا من الأسرة الملكية واللوردات الإنجليز ..

وأرسلت القوات الإنجليزية ورقة إلى سلاح الفرسان المصري .. في حالة رغبة الاشتراك في الحفل الإخطار بأسماء الضباط المصريين الذين ترون اشتراكهم .. ورأي القائد المصري أن يمنع هذا الاشتراك لسببين.. لدي القوات الإنجليزية خيول مطهمة يبلغ ثمن الواحد منها ثلاثة آلاف جنيه على الأقل .. وثانيا لأن مظهره هذه الخيول الإنجليزية وسروجها تدل على مستوي خاص من الثراء لا يضارعه ما عليه الخيول المصرية هذا إلى جانب مسألة التفوق .. وفوجئ القائد بالضابط أحمد عبد العزيز يتقدم للاشتراك في هذه المباراة الإنجليزية ويصر على حضور هذا الحفل وعلى أن يتحمل هو وحده جميع النتائج ومنها طبعا سخريةالإنجليز ..

ولم يعد أحمد عبد العزيز لمنزله في هذه الليلة إلا للحظات قصيرة إذ توجه إلى حصانة ( فهد) وأخذه في أعنف تدريب قام به أحمد واستمر طوال الليل ثم عاد إلى بيته لحظات ليخرج في الفجر يواصل تدريبه الشاق المتواصل .. ومما يذكر أنه كان يضع قطعة من ذات الخمسة قروش بين جله وبين سرج الحصان حتى إذا انتهي من تدريبه وحان موعد نزوله من فوق حصانه سقطت القطعة الفضية ذات الخمسة قروش ليأخذها خادم الحصان .. وحان موعد الحفل .. وبدأت الخيول الإنجليزية تدخل إلى المكان تحمل فوقها الضابط الإنجليزي في خيلاء وكبرياء .. وكان الحفل يحضره الضباط الإنجليز ، وكبار رجال الدولة في ذلك الوقت المظلم من حياة الوطن ..

وفجأة دخل أحمد عبد العزيز..

وفجأة كذلك امتلأت الأسوار المحيطة بالمكان بأصوات تصفيق صادر من المارة المصريين الذين كانوا قد بدأوا يتجمعون حول مكان الحفل .. خارج السوار ... فما أن رأوا شابا مصريا يدخل بحصانه إلى الحفل حتى انطلقوا يهتفون لمصر ويصفقون لفتاها الفارس ، وجلس شقيق البطل بين صفوف النظارة ويده على قلبه وشفتاه تتمتمان بالدعاء لشقيقه حتى يستمر تصفيق هؤلاء المصريين الذين تجمعوا وهم لا يعرفون أحمد شخصيا ولكن يعرفون فقط أنه منهم وأنه دخل هذا الحفل ليرفع رؤوسهم ..

وبدأ أحمد يقفز السدود الإنجليزية .

والتهبت لأكف بالتصفيق .. أكف أبناء عمومته ووطنه ... أما ضباط الإنجليز وأذنابهم فقد عقدت ألسنتهم المفاجأة ... وبدأت أيديهم تحاول أن تعطي للفارس المصري حقه الذي انتزعه من أيدي فرسان الإنجليز .

وفي كل مرة يتفوق فيها أحمد تنطلق حناجر الشعب :" ينصر دينك ... إديهم " ... وانقلبت الهتافات في طريقها الطبيعي غلى الهتاف للقومية التي تربط أبناء الشعب بعضهم ببعض :" تحيا مصر .. يحيا الاستقلال .. مصر حرة قوية "... وانقلب المكان إلى مظاهرة وطنية وفاز أحمد عبد العزيز .. واجتمعت رؤوس الإنجليز وأذنابهم ... إن أحمد يجب أن يفوز بالمرتبة الأولي .. ولكن الحفل انجليزي والمشتركين إنجليز ... وأعلنت النتيجة وفاز أحمد بالمرتبة الثانية ولكن كان في نفس الوقت قد أعلن الشعب المحيط بمكان الحفل فوزه بالمرتبة الأولي .. فقد تناثرت ألوف الطواقي والطرابيش تشكل فوق رأس البطل أكليل الغار والبطولة .

وتقدم أحمد ليتسلم أعز كأس ظل طوال حياته يرمقه ويروي ذكرياته ويتولي بنفسه العناية به رغم عشرات الكئوس التي حصل عليها أحمد عبد العزيز في مباريات أخري عديدة ... وكان أحمد يقول لأسرته :" لقد حصلت على هذا الكأس على حساب أعصابي " ... وقدم أحمد في هذا اليوم مزيدا من السكر إلى حصانه الأصيل ( فهد) الذي كان يحبه أحمد حبا كبيرا ويحتفظ له في جيبه دائما حتى في حلته العسكرية بقطع السكر والحلوي ... وكان فهد يعرف أحمد ويحس قدومه ساعة أن تطأ قدمه أرضه فيسرع إليه ..

ومن العجيب أن فهد رفض بعد أن نقل البطل أحمد عبد العزيز من سلاح الفرسان إلى العمليات الحربية رفض أن يسمح لأي ضابط أن يعتلي صهوته بعد بطله وقائده .

وقد كرم زملاء أحمد عبد العزيز حصانه فهد بعد استشهاده فتركوه دون أن يقتلوه حتى قضي حياته ومات موتة طبيعية بعد قائده ..

وفي نفس هذا العام طلبت الجهات المسئولة تحت ضغط القوات الإنجليزية أن يقوم أحمد عبد العزيز بسرية خيالة بالهجوم على المتظاهرين في مدينة المنصورة ، وأن تستعمل في ذلك ( المزاريق ) للقضاء على هذه الروح الوطنية .

وجاء الأمر إلى أحمد عبد العزيز....

وفي نفس اللحظة جاءت الإجابة من أحمد عبد العزيز :" لا... إنني أرفض تنفيذ هذا الأمر ومن المستحيل أن أهجم على هؤلاء الناس وليس لهم ذنب أو جريمة "... وحذر أحمد عبد العزيز من نتيجة هذا العمل مؤكدا أن عدد القتلي سيكون كبيرا جدا ... وسرعان ما وجد هذا الأمر من يقبل تنفيذه .. ومن الغريب حقا صدق حدث البطل حيث المتظاهرين ما يبيت لهم فأعدوا في طريق الخيالة أسلاكا تربط بين شجرتين متقابلتين، وفاجأت الخيول وهي تأخذ طريقها إلى المتظاهرين لترتطم بهذه الأسلاك الفرسان بخسارة كبيرة .

ولم تجرؤ القيادة على عقاب أحمد عبد العزيز لرفضه الانصياع إلى أوامر مهاجمة المتظاهرين.

الطيار أحمد عبد العزيز

ومن الصفات التي اشتهر بها البطل أحمد عبد العزيز والتصقت به طوال حياته .. صفة الفروسية .. فقد كان فارسا كما شاهدنا لا يشق له غبار .. وصفة الفدائية وكان تلاميذه وضباطه ومساعدوه يطلقون عليه في الصهيونية ( النمر) لما كان يرتسم على وجهه ساعات المعارك التي خاضها من ملامح ( النمر ) ونظراته وتحفزه وانقضاضه... إلا أن القليلين فعلا الذين يعرفون أن البطل أحمد عبد العزيز كان نسرا قبل أن يكون نمرا .. فقد ألحق حمد عبد العزيز بعد تخرجه من المدرسة الحربية بسلاح الطيران ومكث فيه عام 1929 .. وكان من الطبيعي أن يصبح أحمد عبد العزيز طيارا من ألمع الطيارين في العالم .. وهذا هو ما اكتشفه فيه قواد هذا السلاح من الإنجليز المستعمرين في ذلك الوقت ورأوا في أحمد عبد العزيز خطرا على هذا السلاح وأسراره التي كان يعتبرها الإنجليز ملكا خالصا لهم ، ومنطقة نفوذ لا يجوز لعربي أن يطأها ويعرف أسرارها أو يبرز فيها ويكون حربا عليهم ..

وقد سجل أحمد عبد العزيز كما روي زملائه القلائل في هذه الفترة أنه كان يطير بطائرته وكأنه يمسك في يده هراوة يود أن يطيح بها أعداءه ، وأن يلوح بها لأولئك المستعمرين لأرض وطنه ومقدراته، ... وكان يستعمل طائرته بطريقة تقلت النظر وتشير إلى أن القائد بطل شجاع مغوار وجسور لا يهاب شيئا ويحاول أن يفعل دائما كل شئ ..

وخوفا من تكرار بطولة الفروسية بتفوق أحمد عبد العزيز على الطيارين الإنجليز .

فقد صدر القرار من المستعمر بتحويل أحمد عبد العزيز إلى سلاح الفرسان .

أحمد عبد العزيزالمدرس والأستاذ

عرف أحمد عبد العزيز وهو ملازم صغير في الجيش بحبه للقراءة وشغفه بالاطلاع الدائم إلى جانب قسوته في التدريب لجنوده فقد كان من المعروف أن يقوم برش الأرض بالماء ثم يطلب من جنوده أن ينبطحوا فوق الأرض في تدريب عسكري يعلن بمجرد انتهائه أنه سيقوم بعد نصف ساعة بالتفتيش عليهم .

وعندما انتقل أحمد عبد العزيز للتدريس في الكلية الحربية احتل مكانة مرموقة بين تلاميذه تلتف حولها قلوبهم وأرواحهم .

كانت له لهجة خاصة في محاضراته تتسم بالحزم وكانت دائما حاسمة قاطعة وقد عرف عنه – كما ذكر تلاميذه وزملاءه في هذه الفترة عسكريته ( الناشفة) وكانوا يراقبونه وهو يحيي رؤساءه في وقفة عسكرية صحيحة سليمة وتحية عسكرية قوية والويل لمن لا يرد هذه التحية بنفس طريقتها .. ولم يذكر مرة واحدة أن طالبا أدي له التحية إلا ورد عليه أحمد عبد العزيز بعسكريته التي تميز بها ..

هذا إلى جانب تمسكه الشديد بالتقاليد العسكرية العربية... ومما يروي عنه في هذه الفترة .. شقيقه ( صلاح شريف) كان طالبا في الكلية الحربية فكان يتعمد أحمد عبد العزيز أن يزيد من قسوته عليه ليضرب المثل به أمام تلاميذه .. وكان زملاء صلاح تندرون بهذه المعاملة وكانوا يقولون له :" أظن أحمد عبد العزيز في البيت لما يتغدى معاه كان طول ما إنته بتأكل يقولك اقعد ثابت "والحقيقة أن أحمد عبد العزيز في حياته الخاصة كان يعيش في هذه التقاليد العسكرية ... ولم يذكر قط أن أحمد عبد العزيز شوهد في أى مكان من أماكن اللهو بل حتى في دور السينما لم يشاهد أحمد عبد العزيز إلا عند عرض رواية عسكرية أو قصة من قصص البطولة والفداء ..

كما يروي أنه كان يسكن في شارع دسوق بمصر الجديدة وكان يسكن أمامه أحد ( الباشوات) في قصر خاص .. وكنت من عادة أحمد أن يدخل إلى حجة مكتبه كل ليلة ساعات طويلة ليقرأ أو يطلع .

وفي احدي الليالي استمر نباح ( كلب الباشا ) طول الليل مما دعا أحمد لإرسال بطاقة منه للباشا يرجوه أن يمنع هذا الكلب وخاصة وأنه لا يوجد ما يدعو له .. ولم يلتفت ( الباشا) لبطاقة الضابط الصغير .. واستمر الكلب في نباحه .. فأعاد أحمد الكرة وأرسل بطاقة أخري للباشا صاحب الكلب .. وقال له :" إنني حينما أدخل لبيتي فأنا في حاجة إلى الراحة، وفترة راحتي يجب أن أقضيها في راحة كاملة لأنها فترة قصيرة ".

ولم يسأل عنه ( الباشا) واستمر كلبه في النباح.. فما كان من أحمد إلا أن حمل مسدسه ونزل إلى قصر الباشا وأطلق ثلاث رصاصات في الهواء ثم عاد إلى بيته ، وهاج ( الباشا ) وأبلغ البوليس .. وفي قسم مصر الجديدة وقف أحمد عبد العزيز ليفاجأ بهم يطلبون منه تسليم سلاحه .. وابتسم البطل وقال في ثقة واطمئنان وعزم :" معني ذلك أن أخرج من هنا ميتا .. فأنا ضابط ، وإذا تخليت عن سلاحي فكأنما تخليت عن حياتي وسمعتي وشرفي "... وأصر أحمد ،ازداد النقاش والأخذ والرد .. وكانت كلمات أحمد عبد العزيز الحاسمة القاطعة تؤكد النتيجة التي وصل إليها عندما خرج ومعه سلاحه كما قرر ..

ثم سوي الأمر بعد اتصال تم بين أحد أقارب أحمد والباشا....

ولقد كان البطل أحمد عبد العزيز يقوم بتدريس مادة التاريخ العسكري والجغرافيا العسكرية على طلبة الكلية الحربية ... وكانت لحظات محاضرة أحمد عبد العزيز من أمتع اللحظات التي يهرع إليها طلبة الكلية...

فقد كان أحمد يمزج التاريخ بقصص وروايات عن أبطاله وعن مثله في لهجة محببة ونغمة ترتاح لها النفوس وتسكن إليها .. كان يصف المعركة الحربية ثم يبرز في سير حديثه البطولات التي حدثت فيها .. وكان هذا يتطلب منه دراسة وبحثا دائمين .. وكان أحمد ينطلق في محاضراته بتحضيرات ممتازة وخرائط دقيقة وبدون مرجع واحد أمامه ، فكل ما يقوله محفوظ في ذاكرته منمق في طبيعته المنمقة الأنيقة .

ولم يحدث قط كما روي تلاميذه أن تذكر أحدهم أنه مل من محاضرة لأحمد عبد العزيز أو سرح بعقله في إحداها أو تمني أن تنتهي لحظاتها .. بل كان بعد تدريس المنهج يغلق باب قاعة المحاضرة ويقول بعد أن انتهينا من المقرر لنعرف تاريخ وطننا الحقيقي..

وكان أحمد عبد العزيز يغرس في نفوس طلبته الروح العسكرية الحقة .. وكان يفرض عليهم أن لا يفكروا إلا في الشئون العسكرية ومن الأمثلة التي ضربها لهم مرة .. أن ( فون شليفن) القائد الألماني كان يسير مع أركان حربه ساعة الغروب عندما قال له الأركان حرب وهو يشير إلى الغروب :" إن هذا منظر جميل " وإذا ( بفون شليفن) يرد عليه قائلا :" إن القبة التي هناك تتحكم في كل هذا الموقع الذي أمامنا ... إن لها موقعا حربيا هاما.

وكان يقول لطلبته :" أنتم ضباط حرفتكم القتال الذي يجب أن يكون هدفكم دائما التفوق فيه على عدوكم " وكان طلبته ينتظرون منه دائما أن يأمرهم بالصعب من الأمور وقد عودهم على ذلك وربي فيهم هذا الاتجاه .

وفي نفس الوقت الذي كان أحمد عبد العزيز يلقي دروسه العسكرية الشيقة لم ينس أن يعبئ تلاميذه تعبئة وطنية جارفة .. وكان يحدثهم عن دور بلادهم في معركتها ضد الاستعمار وضد الإنجليز وضد الصهيونية وكان دائما يردد أمامهم :" إن شعبنا قوي .. إحنا حنكون كويسين ".

وكان أحمد عبد العزيز يؤمن إيمانا عميقا بالله وبقوة العرب وكان يقول :" إذا ما اتحد العرب فإنهم سيكونون قوة قادرة وعظيمة "

وكان أحمد يضع على مكتبه دائما لوحة كتب عليها :" أن من أخطأ في حق وطنه مرة واحدة حقت عليه اللعنة.

وكان أحمد إلى جانب هذا كله ينمي في طلبته حب الرياضة البدنية ويشجعها إلى أقصي حد ممكن .. وكان يشرف بنفسه على تدريب فريق كرة القدم بالكلية وقد حصل هذا الفريق طوال مدة إشراف أحمد عبد العزيز عليه على جميع الكؤوس في المباريات التي اشترك فيها .

وبعد أن أتم دراسته في كلية أركان حرب بتفوق ظاهر ، ولم يتخل قيد أنملة عن تقاليده ومبادئه .. فقد حدث في يونيو 1942 أن قررت العمليات الحربية استخدام خريجي كلية أركان حرب ليكونوا ضباط اتصال بين القوات البريطانية والهيئات المدنية في محافظات الإسكندرية والبحيرة والغربية وذلك لتنسيق أعمال النسف والتدمير التي قررها الجيش البريطاني لعرقلة تقدم روميل بعد دحره الحلفاء حتى مرسي مطروح .

وفوجئ المسئولون في ذلك الوقت برفض أحمد عبد العزيز الاشتراك في هذا العمل مما تسبب عنه إلغاء إلحاق هؤلاء الضباط كلهم وإلغاء المأمورية بالكامل .

أحمد عبد العزيز الكاتب والمفكر

وكان أحمد يتابع أنباء الحرب العالمية الثانية لحظة بلحظة .

وكان يضع في غرفة مكتبه خرائط عسكرية دقيقة يسجل عليها بقلمه كل التحركات باستماعه إلى محطات الإذاعة المختلفة واطلاعه الخاص الذي كان يدله على ما تطويه بلاغات الطرفين المتحاربين من حقائق ومغالطات .. وكان أحمد عبد العزيز يعتبر في ذلك الوقت من أكفأ الضباط الذين يتحدثون في الحوادث الحربية ( لأقرب تاريخ ممكن)

ولقد كانت مكتبة أحمد عبد العزيز تضم مئات المراجع العسكرية والتاريخية والعلمية ولم تكن تضم كتابا واحدا تافها ، أو يضم بين ضفتيه قصة متميعة أو حادثة توحي بانحراف أو شذوذ .. وكان ينمي في طلبته وزملائه هذه الروح ، وكان دائما يغذي الضباط الذين يتوسم فيهم الرغبة في القراءة والاطلاع بالكتب والمراجع ويدلهم على ما يقرأونه ثم يناقشهم فيه ..

وقد وجدت في أوراق لقائد الأستاذ مجموعة كبيرة من أصول مقالات ومحاضرات له كما تذخر مجلة الجيش بمقالات وأبحاثه ، هذا كله إلى جانب كتابه العتيد ( المفاجأة ) وكانت الطابع المميز لحياة بطلنا الشهيد وإنني سأحاول هنا أن أجمع بعض المقتطفات من مقالاته العسكرية التي كان لها طابع وطني خاص أول ما وقع يدي عليه مقال تحت عنوان ( الروح الحربية الكامنة في الشعب المصري) وكان بالقلم الرصاص ولم يتم شهيدنا كتابته وفوجئت بما في هذا المقال من عمق وعي ووطنية.

كان أحمد عبد العزيز يرد على الأكذوبة الكبيرة التي رسبها الاستعمار عندنا وهي أننا شعب زراعي .. وأضاف إليها أكذوبة أخري تقول " إننا شعب وديع مسالم " .

وبدأ أحمد عبد العزيز يفند هاتين الأكذوبتين .. ويثبت في ثقة وإيمان قدرات هذا الشعب وعظمته وقوته ..

وإنني أورد هنا هذه المقالة التي ( لم تتم) ..

مقدمة

اليوم أدرك المصريون حقيقة الأكذوبة القائلة بأن مصر دولة زراعية فقط ، وأن الصناعة لم تخلق لها .. كان جديرا بهم أن يفهموا هذه الأكذوبة ويقضون عليها من أمد بعيد ، وخاصة وأن تاريخ مصر الطويل يثبت بوضوح أنها كانت على مر العصور في مقدمة الأمم الصناعية وأن الصناعة فيها لم تهدم وأن الروح الصناعية لم تضمحل إلا في أيام الاحتلال الأجنبي وتحت وطأة هذه الدعوي الباطلة التي نشرها الأعداء وأعوانهم النفعيون ..

ولولا أن مصر تصلح للصناعة حقا ولولا أن المصري أهل لها جدير بها ، ولولا أن في مصر موارد عظيمة للصناعة أيضا لما اهتم اى غاصب بنشر هذه الأكذوبة في كل مكان حتى في دور العلم والعرفان .

ومن العجيب أن هناك أكذوبة أخري ترافق دائما هذه الأكذوبة ولا تقل خطورة عنها وهي أن الشعب المصري شعب وديع مسالم غريب عن الروح الحربية شأنه في ذلك كشأن جميع سكان السهول والوديان .

ولكن أيضا لولا أن في المصريين روحا حربية كامنة ، ولولا أن هذه الروح قوية حقا كما سجلها التاريخ من قتال الجيوش المصرية ومن كفاح الشعب المصري خلال العصور المتعاقبة ولولا أن هذه الروح قد تضعف أحيانا ولكنها لا تموت أبدأ ، ولما برزت هذه الأكذوبة أيضا وخاصة في دور العلم والعرفان .

إن انتشار هذه الأكذوبة وعدم اقتلاعها من جذورها يفسد الروح الحربية وتخمد جذوتها كما ينزع الثقة ويثبط العزيمة ... وأن فساد الروح هو ضياع كل شئ كما أن الإقدام على عمل بدون توفر الروح اللازمة له هو الخطر الأكبر وهو الفشل المحقق .

لذلك كان من أهم الواجبات الوطنية المفروضة على قادة الفكر من عسكريين ومدنيين أن يهتموا بالروح ذاتها وكل ما يؤثر عليها .. فعليهم أن يطهروا روح الشعب من مثل هذه الأكاذيب بقول والعمل قبل أن تتمكن من التسلط على أى طبقة من طبقاته عليهم أن يثابروا على إزالة الرماد الذي يطمس جذوة الروح الحربية ، وهو الرماد الذي تحمله عادة العواصف التاريخية السوداء التي تهب على الشعوب من وقت إلى آخر وعليهم أن ينفخوا في تلك الجذوة بكل قوة حتى تبدو للشعب المصري كحقيقة ناصعة تبهر أنظاره وتلهب مشاعره وتحيي إيمانه بنفسه وتبعث ثقته بروحه الحربية وجدارته للنهوض والارتقاء والوقوف من جديد في مصاف الدول الحربية العظيمة.

واللحظة التي يؤمن فيها الشعب بروحه ويدرك حقيقة جوهره ويثق بنفسه ومستقبله هي لحظة حاسمة في تاريخه هي لحظات الانتقال من اليأس إلى الأمل من الموت إلى الحياة من الخمول إلى الكفاح.

ولكن يجب أن يعلم أن مثل هذه الواجبات الوطنية المفروضة على القادة نحو الشعب هي عمل شاق لا يليق به ، ولا يستطيع المضي فيه إلا من امتلأ قلبه بإيمان قوي صحيح .. ولن يكون هذا الإيمان قويا صحيحا إلا إذا كان قائما على حقائق دامغة صادرة عن معرفة صحيحة بتاريخ الشعب وأخلاقه وعن تفسير وطني مضبوط لمجموعة حوادثه التاريخية القديمة والحديثة وليس لمجرد حالات خاصة مظلمة أو علل وقتية زائلة في حياته الطويلة المستمرة .

إن جميع الظواهر البارزة في تاريخ مصر الكبير تشهد بأن نهضتنا التاريخية تمتد ف يكل العصور ، وأن هذه النهضات تمتاز دائما بالسرعة والمفاجأة وتزدان بالجرأة والبسالة وتنكل بالفتوحات الرائعة .

وإن دلت هذه الظواهر على شئ فإنما تدل على أن هناك روحا كامنة متوثبة وهبها الله إلى هذا الشعب لتساعده في الارتقاء بسرعة في كل نهضة من نهضاته .

وهذا التاريخ الطويل الذي تستأثر به مصر دون الأمم قاطبة ينبهنا من ناحية ويحضنا من ناحية أخري على فهم حقيقة هذه الروح التي تربض في صدورنا والتي سوف تدهش العالم من جديد إن عاجلا أو آجلا.

لذلك كله كان هذا الموضوع من الأبحاث الحيوية التي يحتم على الشعب المصري أن يفهمها وأن لا ينساها ، وخاصة في المحن والشدائد عندما يكون في مسيس الحاجة إلى الثقة بنفسه والإيمان بمستقبله.

وقبل أن نبدأ هذا الموضوع أود أن أذكر القارئ بأن هناك قوي ومزايا طبيعية كامنة في قرارة كل شعب من الشعوب .. وإذا حجبتها الظروف في أى وقت ولأي سبب فإنها تظل باقية في الشعب تعمل عملها وتنتج ثمارها على قدر قيمتها وحسب الظروف المحيطة بها .

حقيقة أن التربية الحربية والقيادة الماهرة هما الوسيلة العملية المباشرة لخلق الروح الحبية وتهذيبها ولكنهما مع ذلك تعترفان صراحة بالأهمية العظيمة للروح المتأصلة في الشعب وهي الروح التي تظهر قيمتها دائما في الظروف الحرجة والمواقف العصبية حيث تلعب الغرائز دورا رئيسيا خطيرا .

والتربية الحربية ذاتها تتأثر بالروح الكامنة في الشعب كما تتبدل تبعا للعوامل السياسية المختلفة ... أما الروح الحربية الكامنة في الشعب فهي نواة صحيحة معروفة لا تتغير ولا تتبدل ولا تفني ولا تموت .. فهي لذلك ثروة عظيمة لن يفطن إليها ويعرف كيف يقودها ويستخدمها استخداما صحيحا ..

ولكي يسهل فهم هذا الموضوع على وجه صحيح شامل سأقسمه إلى ثلاث مراحل :

المرحلة الأولي

 : وسأشرح فيها الروح الحبية وأهميتها والأسس التي تقوم عليها والتي يمكن بها قياسها والحكم عليها حكما صحيحا ثم العوامل التي تثيرها وتذكيها .

المرحلة الثانية

 : وسأشرح فيها بالتفصيل حقيقة الروح الكامنة في الشعب المصري .

والمرحلة الثالثة

 : وسأبين فيها كيفية النهوض بهذه الروح في الشعب المصري .

ولطول هذا البحث وأهمية كل مرحلة من مراحله الثلاث سأتناول كل واحدة منها في رسالة خاصة من رسائل الثقافة العسكرية .

والآن لنبدأ بالمرحلة الأولي :"......".

وهنا وقف قلم القائد العربي البطل ..

كما وجدت بحثا آخر تحت عنوان " السياسة الواجب إنتاجها للنهوض بقوات الدفاع المصرية وزيادتها مع مراعاة مساحة مصر وعدد سكانها وثرواتها وموقعها الجغرافي ..

وسلسلة من المقالات تحت عنوان :" مصر والسودان إقليم واحد لا يتجزأ يربطه النيل برباط وثيق من المصالح الحيوية ، دفاعية واقتصادية وثقافية ، ، وقد نقدم بها لمسابقة الموضوعات العسكرية وفاز بالجائزة الأولي وقد بدأها بهذه العبارة :

ما أطول تاريخ مصر وما أوفر محصوله وأغزر عظاته وإرشاداته ولكن ما أكثر الأيدي العابثة التي شوهت صفحاته ، والنفوس المغرضة التي حفت معانيه وطمست حقائقه حتى اختفت عنا أصول المعرفة والتبس على الكثيرين طريق الحق والرشاد ، وعجز قادة مصر أنفسهم عن رسم الخطوط المستقيمة الصحيحة اللازمة لتوجيه تاريخنا الوطني"

المفاجأة

ومن الكتب الهامة التي كان البطل الشهيد قد بدأها منذ أن كان أستاذا حتى استشهد في الميدان كتابه عن ( المفاجأة) وقد نشر منه مقالات في المجلة العسكرية وتقول مقدمة الكتاب الكبير:

" اتفق العسكريون على أن المفاجأة هي أهم مبادئ الحرب .. ولو تأملنا جيدا في هذه المبادئ لرأيناها كلها تدور حول المفاجأة ... هذه الأهمية العظيمة للمفاجأة تحتم علينا دراستها دراسة فنية وافية... ومثل هذه الدراسة لا تتحقق إلا إذا بحثنا المفاجأة على حدة أولا كفن قائم بذاته حتى يمكننا التعمق في تحليلها إلى عناصرها الأصلية وفهم أصولها وعواملها وأسرارها ... فالإنسان لا يدرك حقيقة أى فن أو مبدأ إلا إذا درسه أولا على حدة ليلم بكل نواحيه .. وأما علاقة الفن أو المبدأ بغيره من الفنون والمبادئ فهي آخر مراحل الدراسة وأبسطها هي النهاية أو المظهر وليست الأصل أو الجوهر .

لذلك لن أتعرض هنا لعلاقة المفاجأة بغيرها من مبادئ الحرب فقد درسنا ذلك كثيرا في معارك التاريخ وسأقص بحثي هنا على المفاجأة وحدها .. سأحللها أولا مبينا كيف يجب أن نفهمها وعلى أى أساس يجب أن ندرسها ونعلمها ونعدها ونطبقها ثم سأشرح أنواعها والعوامل التي تضمن نجاحها وكيف نأمن جانبها كل ذلك من الناحيتين العلمية والعملية في السلم والحرب.

ولا أكون مغاليا إن قلت إننا إذا فهمنا المفاجأة تماما فهمنا الحرب كلها

أحمد عبد العزيز وكمال الدين حسين

إن الحديث عن أستاذيه أحمد عبد العزيز تدفعنا بلا شك إلى تناول تلك العلاقة القوية التي نشأت بينه وبين أحد تلاميذه في الكلية الحربية الذي أصبح بعد ذلك قائدا لمدفعيته في معركة الصهيونية عندما كانت القومية العربية تسجل لأبطالنا الفدائيين من الشباب العربي أروع صفحات التضحية والبذل والفداء .

وإنني أترك الحديث في هذا الجزء للسيد كمال الدين حسين الذي سجل بقلمه أول لقاء تم بينه وبين البطل أحمد عبد العزيز في مذكراته الهامة عن أسرار حرب الصهيونية .

قال السيد كمال الدين حسين

في صيف سنة 1947 كان ابن خالتي بهجت حلمي رمضان مريضا ويقضي فترة العلاج بمستشفي الدكتور عبد الرءوف حسن بباب اللوق ، وبينما أنا في زيارته ذات يوم قال لى إن ضابطا بالجيش نزل الغرفة المجاورة له وأنه يدعي الملازم أول صلاح شريف وهو شقيق البكباشي أحمد عبد العزيز الضابط بسلاح الفرسان .

وكنت أعرف البكباشي أحمد عبد العزيز من قبل جيدا فقد كان مدرسي بالكلية الحربية وكنت أعتز به أستاذا ومثلا في القيادة والمهارة والشجاعة فضلا عن أنه كان الفارس الأول في الجيش .

أما شقيقة الملازم أول صلاح شريف ، فقد كنت كلما قابلته ذكت معه حادثا طيفا كان مدعاة للتندر بيننا نحن الضباط ويتلخص في أنه ذهب يوما لزيارة قريته وراق له أن يمتطي حمارا ، وما كاد يهم به حتى سقط من على ظهره، ولما علم أحمد عبد العزيز بهذه ( الواقعة) ذهب يؤنب أخاه قائلا :

" مش عيب تبقي أخو أحمد عبد العزيز وتقع من على الحمار ؟".

ووجه العيب هنا أن أحمد كان وقتئذ بطل سلاح الفرسان الأول ، بل ومن أبطال الفروسية المعدودين في العالم .

وحتى ذلك الوقت لم أكن قد اجتمعت بالفارس الأول في جلسة خاصة وإن كنت وغيري من تلاميذه الضباط تتناقل أنباءه في مجالسنا وكان بينها النادرة مع شقيقه صلاح.

ورأيت الواجب يقتضني أن أزور الزميل الضابط الراقد في الغرفة المجاورة لقريبي فذهبت إليه ذات ليلة وإذا البكباشي أحمد عبد العزيز يدخل علينا ثم يجلس ويدور بيننا حديث عجيب بالنسبة للمكان والظروف التي دار فيها .

لم يتحدث أحمد عبد العزيز في المسائل العابرة على عادة المتحدثين حول فراش المريض، وإنما طرق باب الوطنية ، ومضي في طريق الجهاد والمجاهدين ، وعرج منه على الحالة التعسة التي انتهت إليها البلاد وقتئذ وما يقتضيه هذا من حشد الجهود والبذل بسخاء والتضحية والفداء وقال :

" أجل ... لابد من التضحية وتلك هي الوسيلة الوحيدة حتى يعيش المواطن منا حرا عزيزا كريما ، أو يموت وقد كسب الشهادة وفاز بالجنة التي وعد الله بها عباده المجاهدين".

بهذه العبارة ومثلها مما لا يحضرني ذكره الآن ، كان أحمد عبد العزيز يقوي من روح صلاح المعنوية ويثير فيه حب المقاومة وعدم الاستسلام للمرض ويزيل ما قام لديه من خوف العملية الجراحية المنتظرة ....

وكان أسلوبه مبتكرا فذا استطاع به أن يقضي على مخاوف شقيقه ويبث في صدره أملا قويا ، وكان هذا الأمل في طليعة العوامل التي ساعدت على نجاح العملية الجراحية الدقيقة التي أجريت له .

وخرج بهجت من المستشفي وغادره أيضا الملازم أول صلاح شريف بعد أن شفي تماما ، وفي تلك الأثناء صدر قرار تقسيم الصهيونية ونشب القتال بين العرب والدخلاء على بلادهم من العصابات الصهيونية ، ودارت عملية إفناء سالت فيها الدماء العربية ، بينما الضمير الإنجليزي الذي أوقد تلك النار لا يحس المسئولية والمضير العالمي لا يشهر بها .. ودخل الصراع في مراحله الجديدة وجعل يتخذ شيئا فشيئا صورة حرب حقيقية واعتدي الصهيونيون على الأماكن المقدسة ، ونشطت عملية إبادة واسعة النطاق .

وفي بيت جمال عبد الناصر اجتمع أعضاء الهيئة التأسيسية للضباط الأحرار، وجلسنا نستعرض الحالة في الصهيونية واتفقنا على ضرورة مشاركة إخواننا العرب شرف الدفاع عن الوطن العربي ، وبعد أيام كان الحاج أمين الحسيني مفتي الصهيونية يحمل رغبتنا في العمل مع جيش المقاومة العربي إلى رئيس الحكومة وكان وقتئذ محمود فهمي النقراشي، ولكنه رفض الموافقة .

ومرت الأيام وتفاقمت الأحوال في الأرض العربية ونحن نكاد نتمزق أسي ونحترق غيظا ، وكنت وقتئذ مدرسا بمدرسة المدفعية برتبة يوزباشي ورأيت مع جماعة من الزملاء أن نتابع إلحاحنا في السف إلى الصهيونية مرة أخري فتقدمنا بطلبات تطوعه للجهاد في الأرض المغتصبة وبعد أيام فوجئت بإدارة الجيش تبحث في طلبي .

وهناك وجدت نفرا من الزملاء الضباط الذين دفعتهم النخوة العربية إلى إبداء الرغبة في التطوع ..وفي ذلك اليوم قال لنا المسئولون في إدارة الجيش أنهم سينظرون في إيفاد بعض الضباط على رأس قوة من المتطوعين المصريين للقيام بعمليات فدائية جنوب الصهيونية .

ومرت الأيام التالية ونحن نتحرق شوقا إلى يوم السفر .

ومن القصص التي رواها كمال الدين حسين عن البطل أحمد عبد العزيز تدل على أستاذيته وطريقة معاملته لجنوده وتلاميذه هذه القصة :" انتهت الإغارة على مستعمرة ( بيت ايشل ) وعدنا إلى قواعدنا في بئر السبع وتناولنا الغداء في معسكرنا بالمدرسة ثم خرجنا إلى الشرفة وجلسنا على سلمها نتجاذب أطاف الحديث وحانت مني التفاته إلى برج يواجه المدرسة فطلبت من أحد الحاضرين أن يقدر المسافة بيننا وبين هذا البرج فقال إنه بين مائة ومائتي ياردة .

وتصادف أن مرت أمامنا جماعة من المتطوعين فاستوقفهم قائدنا ( أحمد عبد العزيز ) وطلب من أحدهم أن يقدر المسافة بيننا وبين البرج فقال واحد إنها 50 ياردة وقال آخر 100 ياردة ، ثم قلت أنا : المسافة تزيد على مائتي ياردة .. ولكن القائد عارضني إنها أقل من 200 ياردة.

وراهني أحمد عبد العزيز ، فقبلت الرهان على ذلك ، وانضم إلى رأيه ضابطان وانضم إلى أحد الضباط ، وكان على خاسر الرهان أن يشتري بالمبلغ المتراهن عليه شيئا يأكله الجميع .

وكلفني القائد أن أقوم بقياس المسافة بالخطوة وإذا هي تبلغ نحو 200 ياردة .

وخسر أحمد عبد العزيز الرهان .

ربما كانت الواقعة شيئا عابرا لا يثير الاهتمام ولكنها تركت في نفسي أثرا عميقا، لا لأنني كسبت الرهان ، وإنما لأنها كشفت لى عن ناحية جديدة في شخصية أحمد عبد العزيز وأظهرت لى مدي تواضعه الجم، ومعاملته لجنوده كأنهم إخوان له ، وتبسطه في الحديث معهم ومحاولة تدريبهم على تقدير المسافة بطريقة بسيطة مرحة.

بهذه الروح الطيبة السمحة روح التواضع الجم اكتسب أحمد عبد العزيز قلوب ضباطه وجنوده و فالتفوا حوله وجعلوا من أفئدتهم حصونا تفتديه .

أحمد عبد العزيز كوالد ورب أسرة

تزوج البطل أحمد عبد العزيز في 3 سبتمبر 1940 من كريمة القاضي على مبارك نجل البطل الوزير على ( باشا ) مبارك .. ورزق بأول أبنائه خالد في 5 ديسمبر 1941 ثم رزق بعده بخمس سنوات بنجله الثاني محمد ( وليد) .. ولقد كان أحمد عبد العزيز مثاليا في معاملته لسرته فكان زوجا مثاليا كما كان أبا مثاليا ..

وكانت طريقة تربيته لأولاده العطف الشديد المقرون بالمهابة والاحترام وكان يغرس في ابنه خالد تحمل الألم، وأن لا يظهره مهما كانت وطأته ... وفعلا شب خالد على ذلك وأصبحت هذه النصيحة خطا في حياته ... وكان يدعوه وهو طفل عندما يقع على الأرض في لعبه أن يقف فورا .

وكان أحمد عبد العزيز يقضي دائما وقته في بيته ، ويعطي وقت فراغه بعد عمله وقراءته لأولاده وأسرته ... وكان أحمد عبد العزيز في كل تصرف من تصرفاته في منزله يقدر تماما إعطاءه المثل لأولاده ..

هذا وقد كانت رسالته لزوجته في حالة غيابه عن بيته في عمله أو عندما كان في معركة قصية تضم كل ما يريد أن يقوله في عبارات قليلة ... وهذه كانت دائما عادة البطل الشهيد ، فقد كان يؤمن تماما بأن خير الكلام ما قل ودل .

أحمد عبد العزيزالمواطن العربي والخطاب الوطني

إلى جانب آراء البطل أحمد عبد العزيز في النواحي العسكرية والتاريخية فقد كان لأحمد عبد العزيز آراء سياسية واجتماعية وإنسانية خاصة تتسم بروحه الثائرة ووطنيته الصادقة وعروبته القوية العميقة الخالصة ..

وسيرد بعض هذه الآراء في الجزء الخاص بمعركة الصهيونية وخطبه للمتطوعين .

كما تضمنت آراء البطل العسكرية مقالاته العديدة في مجلة الجيش المصري في ذلك الوقت والتي اشتهر بها أحمد عبد العزيز كباحث ومعلق وأستاذ عسكري يتسم بعمق البحث وسرعة الاستنتاج وصوابه ...كما كان البطل يعد كتابه الحربي إلهام عن ( المفاجأة) وسنورد مقتطفات مما جاء به في نهاية هذه الكلمة إلى جانب دراسات وأبحاث عسكرية خاصة لم تنشر كبحث القائد عن " السياسة الواجب انتهاجها للنهوض بقوات الدفاع المصرية وزيادتها مع مراعاة مساحة مصر وعدد سكانها وثروتها وموقعها الجغرافي ".

كما كان للبطل الفارس آراء عديدة في الفروسية وتربية الخيول وتدريبها ...آراء مبنية على الدرس والاطلاع والتجربة .

ومما وجد في أوراق البطل الشهيد كلمة وطنية صادقة كتبها بخط يده بعنوان ( الوطن في خطر) ويقول أحمد عبد العزيز في كلمته هذه :

" إن العناصر الهدامة التي سهلت لبريطانيا احتلال مصر ومنعت الشعب من تحقيق ما كان ينشده من الإصلاح وشاكت الإنجليز في الاستبداد به وسلب حقوقه وموارده وتحطيم قواه وجهوده ، هذه العناصر المتألبة على الشعب منذ القدم وما زالت إلى اليوم تعمل عملها وتنفيذ أغراضها بالطرق التي تكفل نجاحها.. فبالأمس كان تنفيذ أغراضها على أيدي الطبقة الحاكمة من الباشوات الأتراك واليوم يجري التنفيذ على أيدي الباشاوات والوزراء المصريين الذين امتلأ تاريخهم بخيانة الشعب المصري وتضليله والتفريط في مصالحه وحقوقه والتسليم للإنجليز والأجانب في كل مطالبهم استرضاء لهم في سبيل أبهة الحكم المصري العجيب المجرد من الحساب والعقاب والممتلئ بالصفقات والشهوات والاحتفالات .

هذه الطبقة الحاكمة هي سماسرة العدو الذين لا كسب لهم ... ولن يتيسر لهم الكسب إلا بخداع الشعب أو التنكيل به إذا اقتضي الأمر لمساعدة أسيادهم الإنجليز وتحقيق رغباتهم وتحسين مركزهم الاستعماري الدولي وتأمين استغلالهم للشعب المصري تأمينا لرفاهيتهم وطمأنينتهم في استغلال مصر من جميع النواحي "

ويقول أحمد عبد العزيز في كلمته الوطنية

" لقد أبدع العدو في توجيه هذه الطبقة نحو المظاهر الجوفاء في كل ناحية من نواحي الحياة حتى أفتتنت بها و انقادت إليها وأسرفت في تضليل الشعب وإرهاقه بها إلى أن مجها وأدرك بعدها عن الحقيقة والحق وانطوائها على الخديعة والشر ويتيسر للإنجليز والأجانب الحصول على معين لا ينضب من الأنصار المصريين بإغرائهم يشتي الأساليب وضمان الطمأنينة والغني والجاه لهم..

وخلق الشعور فيهم بأن السعادة المحققة والنصر الأكيد في التعاون معهم ، وهذا الشعور أهم أسباب نجاحهم وكما أفلح الإنجليز في أثناء الحرب الأخيرة في جعل ديجول وأشباهه أقطابا في السياسة والحرب تحقيقا لمصالحهم كذلك أفلحت خطط الإنجليز والأجانب في مصر في جعل أعوانهم وتلاميذهم المصريين أبطالا في السياسة والاقتصاد والحرب بل وفي الزعامة ذاتها ، زعامة مصر الدولة العربية ذاتها، فأمكنهم بذلك توجيه الشعب توجيها خاطئا في كل ناحية في مختلف الميادين وسد الطرق أمام أبطاله الحقيقيين الذين لا حيلة لبريطانيا في قهرهم أو خداعهم فحرموا الشعب من القيادة العملية الوطنية واستطاعوا أن يلقموا مصر على أيدي هؤلاء الأعوان في كل لعبة سياسية أو اقتصادية أو عسكرية أو أخلاقية .. إلخ..

حتى هوت مصر إلى الحضيض وأصبحت في الواقع مهزلة المهازل وأضحوكة العالم ، لأن هيئاتها الحاكمة خنازير بشرية تمثل الأدوار السياسية وتتقن مظاهر القوة والحرية وهي في الواقع تابعة ذليلة لإنجلترا التي تتباهي بها على مسرح التمثيل السياسي وتضليل بها المصريين وتفسدهم كما تضلل بها الأمة العربية وتفسدها ... ومع ذلك لم يغفل الإنجليز عن اتهام الحكومات المصرية في الظروف المناسبة بإهمال شئون الشعب المصري وظلمه ولم يغفل الحكام المصريين أيضا عن التظاهر أحيانا بالوطنية ونسبة هذا الإهمال إلى التدخل الإنجليزي وغيره.. وهذه كلها أساليب استعمارية لا تخفي على العقلاء لأنها في مصلحة هذه العناصر النفعية المناوئة للشعب المصري ..

يجب أن لا نخدع بعد الآن حتى لا تذهب جهودنا وتضحياتنا هباء .. يجب أن نفهم أولا وضعنا الصحيح على أساس تاريخي صحيح... ويجب أن ندرك مصائبنا وأسبابها على حقيقتها حتى نبتعد عنها ولا نعود إليها ثانية ... يجب أن نعرف حقيقة أحوالنا وفداحة الأخطار التي تهدد كياننا ومستقبلنا على أيدي هذه العناصر المضللة التي ما زالت تعمل ضدنا منذ بداية نهضتنا ومن قبل الاحتلال الأجنبي ..

حينئذ يمكننا أن ندرك واجبنا الحتمي الوطني ، ونؤمن برسالتنا المقدسة في هذه الحياة الدنيا ، وعندئذ تسمو نفوسنا وتصبح أعمالنا جريئة صحيحة .

هاكم الحقائق في أوضح صورها ، أقرؤوها بإمعان واذكروها على الدوام واستعينوا بها في العمل والجهاد فهي كفيلة بتحريك ضمائركم وشحذ إرادتكم وتسديد خطاكم "

ويقول أحمد عبد العزيز

" ثم نأمل أيها العربي في حالة الجنوب القريب منك وفي حالة الصعيد التي تتوالي عليه الأمراض والأوبئة في كل عام فتحصد الكثير من سكانه حتى أصبح مصيرهم إلى الزوال محتوما إذا استمرت هذه الحالة قليلا .

ألا ترثي لهذا الجزء من وطنك الذي كان أقدس الأراضي المصرية وأنشطها عملا... انظر إلى أبناء الصعيد الأقوياء العاطلين وهم يتسللون إلى الشمال بلا انقطاع طلبا للرزق والعمل وفرارا من الجوع والمرض فلا يجدون أمامهم غير المهن الفقيرة ومطاردة الشرطة لهم وعسف الجميع بينما حكومات مصر المتعاقبة لم تبذل شيئا يذكر لإنقاذ الجنوب وإحيائه سواء بمشاريع الري والزراعة أو باستغلال موارده الصناعية المختلفة أو بتيسير العمل لسكانه المحتاجين كل ذلك لأن الأغنياء وأصحاب المصالح والأجانب وعلى رأسهم الحكومات المصرية يحصرون اهتمامهم في المشاريع المفيدة لهم المناسبة لبيئتهم المجاورة لأراضيهم الإقطاعية في الشمال ويضنون بأبسط المساعدات على الطبقات العاملة الفقيرة وصغار الملاك .

هذه المؤامرة الوحشية ضد الجنوب تخفيا الطبقة الحاكمة بأكاذيب ومظاهر العطف كجمع التبرعات وتقديم الأغذية والأقمشة والأدوية وإرسال الأطباء والمتطوعين والمتطوعات فإذا ما أدي المرض رسالته ووريت الضحايا التراب عاد المجرمون إلى لهوهم العلني بالعاصمة في الحفلات والولائم ووسط ثناء النواب والجرائد وهذا كله يدفع هذا الشقاء المستمر بل منع الشعب من الثورة لإخوانه الذين يموتون ظلما وجوعا وهيأ للطبقة الحاكمة العابثة ألقاب المروءة والإحسان التي أصبحت تهواها كما تهوي الحفلات والمأكولات .

على هذه الصورة الباطلة عملت هذه العناصر المدمرة على ستر جرائمها ضد الوطن الإنسانية عن أعين الشعب حتى يظل ضعيفا جاهلا متحاجا .

ولكن أيها المصري إن الإنجليز الماكرين يختفون وراء هذه الأرزاء، فهم الذين يكرهون الصعيد لأسباب سياسة كثيرة ويخشون عمرانه وارتقاءه لأنه قلعة متطرفة خطيرة من قلاع مصر التاريخية ولأنه حلقة الاتصال بين مصر والسودان، وهم الذين دفعوا الحكومات المصرية أثناء الحرب إلى جميع الحبوب من المزارعين لينعموا هم وليجوع الفقير ، فيضطر إلى العمل معهم في الصحاري والمصانع وغيرها أو يمرض جوعا وبمساعدة الحكومة لهم نجحوا في سياستهم الاجتماعية إلى جربوها بنجاح في الهند وغيرها فوجدو من يخدمهم ويرفه عنهم من الأغنياء المتنعمين في ظلهم ومن الفقراء المضطرين لحاجتهم ومات هناك في أقصي الجنوب من لم يقدر أو يقوي على ذلك... وسوف تتكرر هذه المأساة في صور جديدة عندما يتم تسريح الإنجليز لحوالي مليون فاعل وصانع من المصريين الذين سينقلون من شر مساعدة العدو إلى شر آخر هو من نتائج خطط العدو الاستعمارية ومن ثمرات انتصاره الذي شقوا في العمل من أجله .

إن المشاريع والوسائل اللازمة للحياة الشريفة التي ننشدها متيسرة في بلادك الغنية ثم إنك لفي مقدمة الشعوب الممتازة بالذكاء والكفاءة ولكن الأبواب مغلقة في وجهك وفي وجه من يعمل من أجلك ومفتوحة للأجانب ومن يعمل من أجلهم والتطويق الاقتصادي الذي ضربه الإنجليز والأجانب من الداخل والخارج والعليم الاستعماري الخاطئ الذي وضعوا بذوره في المدارس يسممان الأفكار بأسوأ المبادئ التي تفسد سياسية مص الزراعية والصناعية والتجارية والعسكرية والأخلاقية وغيرها وتهدم أساس العمل المجدي والإنتاج النافع والقوانين الضارة والضغط والتعجيز المختلفة تتركز في المشاريع الوطنية المثمرة وتنشر في النفوس العاملة لكي تحجم عن المشاريع الهامة والحكومات المصرية تبت وتشرع في مسائل سياسية وتجارية واقتصادية واجتماعية كبيرة بصورة تتفق مع صالح الإنجليز والأجانب وفئة من أعوانهم المصريين ولا تتفق مع مصالح الشعب الحقيقية كل ذلك والشعب المصري يتخبط في الظلمات والبؤس لا يدري حقيقة ما يدور حوله بينما ساسته ونوابه وقادة الفكر والعلم منصفين عن واجبهم الوطني نحو هذه الحالة منشغلين بما يعود عليهم بمنفعة خاصة.

وليست هذه الحالة بنت اليوم بل هي مستمرة منذ أمد بعيد تهدد مستقبل الشبيبة الشعبية وتوصد أبواب الرزق الحلال أمامها وتضييع عليها زهرة الشباب وتقضي في النهاية على حيويتها ونشاطها وأخلاقها ..

أما مشاريع الإصلاح التي يرددها الحكام فهي حيل خادعة لن توصل الشعب إلى أهدافه قطعا لأنها أعمال يصممها الطغاة الظالمين والخونة المجرمين الذين لن يقبلوا أن يخرج الشعب عن عبوديتهم أو يرتفع عن مرتبة الخادم لهم فلا خير إذن في طريقهم ولا بركة من أياديهم .

إن أخطر ما في هذه المسألة التي غمرت حياتنا الوطنية هو تلك الفساد الخلقي الذي انتشر في البلاد تحت ستار المدنية بحماية الحكام وتشجعيهم فجرف الكثير من أمامه إما قهرا تحت ضغط الحاجة أو الإغراء وإما طوعا للغايات والشهوات التي يسر الحكام وسائلها وأسبابها فانهار صرح الأخلاق وتقوضت دعائم الدين ومات الضمير وامتد هذا الطوفان إلى الأسر الشريفة يهددها بالانحلال العاجل الأكيد وأصبحت جميع المصالح لا تقضي إلا بالوسائط وأصبحت القوانين والوظائف والحقوق والواجبات بل وسياسة البلاد ذاتها ألعوبة في أيدي الفاسدين والفاسدات والمتملقين والمتملقات فتلاشت القيم الصحيحة والكفاءات الحقيقية والمثل العالية من حياتنا القومية .

وأصبح الكذب والافتراء فنا راقيا يمتاز به الساسة والحكام وكبار الموظفين فهم يكذبون جيدا على الله والشعب وعلى عائلاتهم وذويهم وعلى أنفسهم ويعبثون بالأصول المقدسة ويتفننون في محاربة المصلحين والحط من قيمهم وأعمالهم فإذا هتف هاتف بالإصلاح قالوا هذا شيوعي خائن تدفعه دولة أجنبية ، أو أنه متعصب متطرف يضر القضية المصرية أو أنه جاهل بالسياسة وأصولها بعيد عن الحكمة وفنونها لأنه يغضب السادة والإنجليز والأجانب .

فيا أيها المصريون الذين لم يتلوثوا بعد...

إن مصر على مفترق الطرق والأخطار الجسيمة تحيط بكم وبذويكم من كل اتجاه وتهدد سعادتكم الحقيقية في الدارين، وإن تبعاتكم أمام الله والوطن عظيمة للغاية فاعلموا فورا على دفع هذه الأخطار والقضاء عليها نهائيا بالاستعداد جيدا للخلاص من هذه الآثام والأرزاء وبتأسيس عقائدكم على ضوء الحقائق الثابتة والتجارب الكافية وبتقوية إيمانكم الصحيح بنبل رسالتكم وقداسة غايتكم وشرف جهادكم وسامي أخلاقكم ونعيم آخرتكم ..

اشحذوا إرادتكم وانزعوا الجزع والقلق من قلوبكم ... وغذوا حقدكم الدفين وكراهيتكم الشديدة واحتقاركم المتناهي للعدو وأعوانه الظالمين أعداء الله والشعب والوطن..

أما أنتم يا معشر الخونة المضللين الجبناء فتمادوا في غيكم وطغيانكم وخونوا بني أوطانكم بتعاونكم مع عدونا وعدوكم الذي عرف كيف يفتنكم ويخدعكم ويفتح أبواب الجحيم لكم ، افتنوا أنتم ونساؤكم وأبنائكم وبناتكم بنعيم هذا الإفك والضلال والإثم والعار وتربصوا حتى يقضي الله بأمره فإن الإنسانية لا ترحمكم والشعب المصري لن يصفح عنكم والله تعالي المطلع على أعمالكم ونواياكم لن يهملكم وإن أمهلكم..

قال البطل أحمد عبد العزيز عن المبادئ

" رجل المبادئ قد يهزم كسائر البشر ، ولكنه لا يخدع ولا يقبل العار فهو يفشل في معركة شريفة ..

أما الرجل المادى التجاري فهزيمته ونصره لا شرف فيهما ...

ويقول أحمد عبد العزيز :

" الروح وتهذيب الروح دائما موضع الإهمال لأن الاتجاه العام دائما إلى الماديات لأنها ظاهرة في حين أن الروح تكون خافية وحقيقتها لا تعرف تماما ولا تختبر حقيقتها إلا في الشدة "

وإنني أورد هنا بعض الكلمات التي استطعت جمعها من أوراق البطل الشهيد والتي تدلنا بوضوح على آرائه ومعتقداته.

  1. • من فقد الإيمان في شعبه كان عدوا له .
  2. • الوهن هو حب الدنيا وكراهية الموت .
  3. • لا يمكن لإنسان أن ينهض من رقاده إلا بقوة تقيمه على قدميه ... وكذلك الجيش لا ينهض إلا بقوة رافعة ..
  4. • الدولة التي لا رسالة لها تكون ذيلا في الحياة وليست أصيلة ... ورسالة الدولة هي خير الإنسانية ولابد من القوة حتى تفرض هذه الرسالة وخير الإنسانية هي ما شرعه الله ..

ولن يكون للأمة رسالة لخير الإنسانية إلا إذا قامت هذه الرسالة على أسس روحية سامية من عدل وإخاء ورحمة وعطف وعفاف وشرف وعزة وكرامة .

ولن تؤدي أمة هذه الرسالة لخير الإنسانية إلا إذا اتصف بها واعتنقها اعتناقا عمليا وآمنت بها إيمان يقين لا ريب فيه .

  1. • إنني أحس بالواجب الوطني يفرض على أن أتطوع فورا لخدمة الصهيونية فعلا يدفعني إلى ذلك رغبتي الأكيدة في مشاركة العرب في الجهاد..
  2. • إن الخطرالصهيوني يهدد الشرق الأوسط وإذا استفحل أمره وقويت شكيمته فإنه سيهدد مصر وسيكون من الصعب القضاء عليه .
  3. • على كل حكومة تريد النهوض بالجيش أن تعلم قبل كل شئ أن الشعب يقبل التضحية في سبيل الإصلاح متى رأي حاكمه قاسيا على نفسه كقسوته على الشعب في سبيل تحقيق الأغراض الوطنية والعكس بالعكس ..

لكي تحصل على هذا الجيش الصالح للدفاع عن الوطن يلزمنا الإرادة أولا ثم الخطة السليمة لبناء هذا الجيش القوي ثم المال اللازم لذلك .

  1. • إن حضور الأسلحة وبناء المصانع قد لا يستغرقان وقتا طويلا .. أما خلق الجنود والتمرين على القيادة السليمة فيستلزمان وقتا طويلا لا حد له ..
  2. • سواء آمنوا ولم يؤمنوا بحقيقة الروح الحربية الكامنة في الشعب فإن ذلك لا ولن يغير الحقائق التاريخية ولن يبدل روح الشعب المصري ولن يطفئ الشعلة المستديمة التي وهبها الله لبناء هذه الأرض المقدسة ... مصر العظيمة الخالدة .

شعب زراعي وشعب مسالم

ولولا أن مصر تصلح للصناعة حقا ولولا أن المصري أهل لها جدير بها ولولا أن في مصر موارد عظيمة للصناعات أيضا لما اهتم أى غاصب بنشر هذه الأكذوبة ف يكل مكان حتى في دور العلم والعرفان.

ومن العجيب أن هناك أكذوبة أخري ترافق دائما هذه الأكذوبة ولا تقل خطورة عنها وهي أن الشعب المصري وديع مسالم غريب عن الروح الحربية شأنه في ذلك كشأن جميع سكان السهول والوديان ".

  1. • يجب أن نفكر دائما في عقول القواد وحياتهم وأخلاقهم وطبيعة أفكارهم وندرسها بعمق واعتناء فهذا أحسن ما يرشدنا إلى شكل قيادتهم وحقيقة أفكارهم وأعمالهم ومآربهم في السلم والحرب .
  2. • إن ميزان الشهادات في أثرها وليس في ذاتها .
  3. • إن أغلبية الناس محافظون عقولهم ميالة إلى الراحة يحبون القديم الذي يعرفونه ويكرهون الجديد الذي يجهلونه ولذلك لم يحصل ولن يحصل أى تطور في أية دولة إلا بعد نضال قاس ينتصر فيه أصحاب العقل الناهض على أنصار العقل الجامد والنظام القائم ..
  4. • إن جميع المفآجات التاريخية العظيمة هي من عمل الإنسان وليست من عمل الملائكة أو الشياطين .
  5. • أجدادنا فاجأوا العالم مرارا في الحروب والفنون والعلوم وكان ذلك عندها كان شعارهم " العزيمة تخلق الوسيلة "

أحمد عبد العزيز في معركة الصهيونية المرحلة الأولي قبل

دخول الجيش المصري

في إبريل 1948 اقتحم الفدائيون المصريون أرض الصهيونية بقيادة البطل أحمد عبد العزيز ليسجلوا أروع صفحات البطولة والتضحية والفداء ولتدور بينهم وبين عصابات إسرائيل معارك حامية سطروا فيها صحائف خالدة في سجل البطولة والشرف .

وقد كان لدخول الفدائيين المصريين أرض الصهيونية قصة ..

عندما تفاقمت الأحوال في الصهيونية العربية والاستعمار يحمي عصابات الصهيونية في مؤامراتها لسرقة الأرض العربية وتشريد أهلها العرب كانت البلاد العربية يغلي مرجل الشباب فيها تعطشا لمعركة تصفع الاستعمار وصهيونيته وتعيد الحقائق ثابتة واضحة أمام العالم كله بعد محاولات الاستعمار الصهيونية طمسها لارتكاب أبشع الجرائم وأقذرها .

وكان الشباب في مصر يكاد أن يتمزق أسي ويحترق غيظا ودفعت النخوة العربية الصادقة عددا من ضباطنا لإبداء رغبتهم في التطوع للسفر إلى الصهيونية .

وتقديم هؤلاء الضباط المرة تلو المرة للتطوع للجهاد في الأرض التي تغتصبها الصهيونية من أصحابها العرب ، وكانت هناك في الأزهر تيارات عديدة أكثرها بعيد عن الواقع العربي تكفيه مصالح مختلفة وتجذبه رغبات مستوردة .

واضطر المسئولون في إدارة الجيش إلى إعلان عزمهم على " النظر في ايفاد بعض الضباط على رأس قوة من المتطوعين المصريين للقيام بعمليات جنوب الصهيونية ".

ومنذ هذه اللحظات ظهر في الأفق اسم البطل أحمد عبد العزيز الذي أسندت إليه قيادة المتطوعين إلا أن علاقة البطل بالقضية الالصهيونيةية كانت بلا شك علاقة قديمة وطيدة تؤجج نيرانها دائما تلك الروح العربية الأصيلة التي كانت تلف أحمد عبد العزيز وتسيطر على تصرفاته كلها ..

ومنذ أعوام سابقة عديدة على عام 1948 وأحمد عبد العزيز يسجل دائما وطنيته وعروبته ويحس إحساس العربي الصاق في كل عمل من أعماله وكان يعد نفسه للحظات خاصة .. وكأنه يصر على تسجيل بطولة عربية فذة كتلك البطولات التي طالما وقف يدرسها لطلبته في الكلية العسكرية وكان أحمد عبد العزيز يتابع في شغف ولهفة أخبار الصهيونية وتلك الجرائم البشعة التي كانت عصابات اليهود ترتكبها بين ربوع الوطن العربي.

وتذكر عائلته كيف كان يعود أحمد عبد العزيز إلى بيته في الليالي التي تصل فيها أخبار عصابات صهيون واعتداءاتها على النساء والأطفال في القرى العربية الآمنة لبث الرعب في النفوس ودفع العرب إلى ترك بيوتهم وأرضهم هربا من التنكيل والمؤامرات والقتل والتشريد .. وتسير عصابات الصهيونية في خطتها الإرهابية تحميها قوات الإنجليز وعملاء الاستعمار .

كان أحمد عبد العزيز يغلي بالثورة والغضب ..

كان يقضي ليلته كلها يقظا يحترق شوقا للانتقام .. وعندما وافقت رئاسة الجيش على قبول متطوعين .... كان أحمد عبد العزيز أول المتطوعين .

كتب في 20 إبريل سنة 1948 طلبا لإحالته إلى الاستيداع قال فيه " أنا البكباشي أ . ح أحمد عبد العزيز من سلاح الفرسان ألتمس إحالتي على الاستيداع لمدة ستة أشهر ".

وكان قبل هذا الطلب قد تقدم بعدة طلبات أخري .. وكان لذلك قصة .. قصة صراع عجيب ليحقق البطل رغبته في التطوع .. طلبات منه .. وعقبات منهم ..

وهنا يجب أن نذكر قصة هذا الصراع الذي قام به أحمد عبد العزيز من أجل قبول تطوعه للعمل في أرض الصهيونية العربية المغتصبة مع نصوص الطلبات والعقبات .

لقد وجدت في أوراق البطل الشهيد صفحات ناصعة للوطنية والبذل والفداء وإيمان عميق بقوميته العربية تجلت في هذه الرسائل التاريخية التي كتبها أحمد عبد العزيز بخط يده يطلب فيها التطوع في صفوف المجاهدين .

وإنني أورد هنا نصوص هذه الرسائل التاريخية الهامة ...

أول رسالة تقدم بها البطل الشهيد للتطوع كانت في 6 / 1/ 1948 وكان قائدا للآلاي الأول خياله بسلاح الفرسان ، يطلب فيها التطوع

ويقول :" حضرة صاحب المعالي الفريق محمد حيدر باشا

وزير الدفاع الوطني

أتشرف برفع التماسي هذا إلى معاليكم للتكرم بالنظر واتخاذ ما ترونه ..

يشع الشرق قاطبا والمصريون عامة وضباط الجيش خاصة بالعطف على قضية الصهيونية وعلى كفاح العروبة من أجلها .

وأن ضباط الجيش المصري ليؤمنون بالمكانة السامية التي تحظي بها مصر بين سائر الأمم العربية وأنهم لعلي استعداد لتدعيم هذه المكانة والسمو بها بدمائهم وأرواحهم ..

إن الخطر الصهيوني يهدد الشرق الأوسط وإذا استفحل أمره وقويت شكيمته فإنه سيهدد مصر وسيكون من الصعب القضاء عليه.

ولذلك فإني أحس بالواجب الوطني يفرض على أن أتطوع فورا لخدمة الصهيونية فعلا يدفعني إلى ذلك هذا الشعور الذي ذكته ثم رغبتي الأكيدة في مشاركة العرب في الجهاد ثم إيماني بمقدرتي على تقديم المساعدة التي تليق بضابط مصري أركان حرب.

وإني واثق كل الثقة بأن تطوعي – إن تحقق – سوف يرضي " جلالة قائدنا المعظم " وسوف تستفيد منه مصر والجيش والمصري والعروبة ذلك لأني على كامل الاستعداد والتصميم لتقديم كل تضحية ومجهود في سبيل هذا العمل الجليل

وإن الصهيونية لفي حاجة إلى هذه الرغبة والمجهود وخاصة في هذا الوقت العصيب الذي تبدأ فيه الاستعدادات الهامة والتنظيمات الأساسية التي يتوقف عليها أغلب النجاح في المستقبل .

وإنني لعلي يقين بأني لن أكون مفيدا لمصر وللجيش المصري في الوقت الحاضر بقدر فائدتي لهما وأنا متطوع بالصهيونية أعمل وأكافح من أجل مصر الخالدة والعروبة المقدسة .

وأدعو إلى الله أن يوفق معالي وزير الدفاع الوطني إلى مساعدتي في هذا التطوع وإزالة أى مانع في سبيل تحقيقه .."

وأرفق أحمد عبد العزيز بطلبه هذا رسالة إلى قائد سلاح الفرسان يقول فيها :

" أتشرف بتقديم طلبي المرفق طيه للتطوع إلى الصهيونية لرفعه بالصورة القانونية إلى حضرة صاحب المعالي وزير الدفاع الوطني – راجيا مساعدتي بالتوصية لأداء هذا العمل الذي يتفق مع ميولي واستعدادي ..

وإني مستعد للرد على أى رأي يقف في سبيل تطوعي أو لا يبرره".

وبعد 19 يوما ركن فيها المسؤلون طلب أحمد عبد العزيز رسالته المؤرخة 19/2/1948:

" حضرة صاحب العزة قائد سلاح الفرسان الملكي .

أتشرف بإفادة عزتكم بأنني استلمت اليوم 19 الجاري خطابي المرسل إلى عزتكم بنفس الرقم وبتاريخ 14 الجاري والمعاد إلى بكتاب عزتكم رقم سري 1/1/1948 بخصوص تطوعي لالصهيونية ..

وحي إنني ما زلت مصمما على رفع تطوعي إلى معالي وزير الدفاع الوطني لشدة إيماني بضرورته لى بصفتي الشخصية فإني ألتمس من عزتكم رفع طلبي هذا بالطريقة القانونية إلى حضرة صاحب المعالي وزير الدفاع الوطني وخاصة وإني ا‘تقد أن معاليه سيقدر موقفي الشخصي وأهميته بالذات في هذه المأمورية التي سوف تكون مفيدة ومشرفة للجيش وللوطن لأنها خدمة شخصية وتضحية وطنية في سبيل الله والوطن ".

وفي 27/1/1948 تلقي أحمد عبد العزيز من قائد سلاح الفرسان خطابا يقول فيه :

" حضرة المحترم البكباشي ( أ. ح) أحمد عبد العزيز أفندي قائد آلاي الخيالة .

معاد لحضرتكم بالتالي الطلب المقدم بتاريخ 6 / 1/1948 بخصوص الموضوع عاليه رجاء تغييره ليكون باسم صاحب العزة قائد السلاح وليس باسم حضرة صاحب المعالي وزير الدفاع الوطني – كتعليمات إدارة قسم الأزهر المبلغة إلينا تليفونيا ".

وتكشفت أمام أحمد عبد العزيز ألاعيب التعطيل وبوادر الرفض ومحاولات تمييع طلبه ..

وتناول أحمد عبد العزيز قلمه ليرد على هذه الرسالة ويقول :

" حضرة صاحب العزة قائد سلاح الفرسان الملكي .

أتشرف بإفادة عزتكم بأنني اطلعت على خطاب رئاسة السلاح رقم 1/1/1948 بتاريخ 27/1/1948 الذي تسلم إلى اليوم .. وفيه أنه بناء على تعليمات إدارة قسم الأزهر المبلغة تليفونيا ، يصير تغيير طلب تطوعي بحيث يكون معنويا باسم حضرة العزة قائد السلاح وليس باسم حضرة صاحب المعالي وزير الدفاع الوطني.

وحيث إنني قد قدمت طلبي مرفقا بخطاب إلى عزتكم راجيا رفع الطلب بالطريقة القانونية إلى حضرة صاحب المعالي وزير الدفاع الوطني .

وحيث إنني أرغب في عرض هذا الطلب على الجهة التي في يدها الأمر والسلطة فقد وضعته في مكاتبة خاصة أرفقتها بالالتماس المرفوع إلى حضرة صاحب العزة قائد سلاحي .

ويمكن اطلاع حضرة صاحب السعادة قائد قسم الأزهر عليها أو إرفاقها بالطلب ..

وإنني لم أعنون المذكرة أو الطلب الذي أرجو رفعه إلى معالي الوزير باسم معاليه إلا لمعرفتي أن لي الحق برفع المذكرة أو الطلب إلى معاليه بالطريقة القانونية .

وقد التمست من رئاستي رفعه إلى معاليه بالطريقة القانونية ، ولذلك لا أجد ما يبرر تقييد عنونة المذكرة المرفوعة إلى معالي الوزير .

وختاما أرجو مساعدتي في نهي هذا الموضوع الذي طال عليه الأمد حتى أعلم النتيجة بالرفض أو القبول فينتهي الأمر

بكباشي أ . ح

( أحمد عبد العزيز)

قائد الآلاي الأول خيالة

وانتظر أحمد عبد العزيز مرة أخري ..

وفاض به الأمر .. فكتب رسالة قاسية لقائد سلاح الفرسان قال فيها :

أتشرف بتقديم التماسي هذا لرفعه إلى الجهة المختصة للبت فيه .

قدمت طلبا للتطوع إلى الصهيونية وقد دارت عدة مكاتبات بخصوص تطوعي هذا الذي تمسكت به .. ولكني انتظرت للآن مدة قاربت على الثلاثة شهور دون أن أعلم نتيجة لهذا الطلب .

وحيث إنني قد قدمت هذا الطلب بغية خير الجيش والوطن ومع ما أجده في نفسي من الاستعداد والحماسة لهذه الخدمة الجليلة ..

لذلك إن كان هناك مانع لتحقيق طلبي ، فأرجو عرضي مع موضوعي على الرئاسة العليا للنظر حتى لا يضيع الوقت وتذهب الفرصة أو تخمد الجذوة التي قد تنطفئ نتيجة الركود والإهمال .

وتفضلوا ...

وفي النهاية .. وأما التيار الوطني العربي الجارف اضطرت الحكومة إلى قبول التطوع .

وكان أحمد عبد العزيز في هذه اللحظات قد قرر أن يموت بطلا يعطي المثل الأعلى للتاريخ ويكون القوة الدافعة للمعركة..

وهذا ما كان قد قرره فعلا قبيل استشهاده عندما صمم القيادة بقواته كلها بهجوم فذ يحقق حياة لبطولة تكون تراثا خالدا لقضية الصهيونية العربية..

وعندما أعلنت قيادة أحمد عبد العزيز لقوات المتطوعين كان لهذا النبأ رنة فرح شديد عند الضباط المتطوعين ..

وهنا يقول السيد كمال الدين حسين ( الفدائي الذي قاد مدفعية أحمد عبد العزيز في معارك الصهيونية الخالدة )

" وحتى تلك اللحظة لم نكن نعرف من الذي سيقودنا إلى المعركة وكل ما كنت أتمناه في هذا الشأن أن يتولي قيادتنا ضابط متطوع مثلنا يتفق معنا في شرف الغاية ونبل الهدف ..

وذات يوم جاءنا من يحمل إلينا هذا النبأ ..

لقد أسندت قيادة المتطوعين إلى البكباشي أحمد عبد العزيز..

وكم كانت فرحتنا شديدة، بهذا النبأ فقد كنا جميعا نعرف من هو أحمد عبد العزيز....

إنه أستاذنا في التاريخ العسكري بالكلية الحربية وطالما كان يلقن طلبته كراهية الاستعمار والمستعمرين ، وكان في نظرته جد ، وفي ملامحه عزم ، وفي مظهره تحفز ..

ولم تكن هذه النظرة ن الجد والعزم ، أو هذا المظهر من مظاهر التحفز أو تلك العبارات الحاسمة التي تندفع من فمه كطلقات البنادق لم تكن جميعها لتنجح في إخفاء دماثة خلقه ورقة طبعه وطيبة قلبه .. وكانت تترجم هذا كله ابتسامة حلوة ترتسم على شفتيه وفيها إباء وفيها إيمان ..

وبدأ أحمد عبد العزيز فورا ..

كان هناك اجتماع طلبه رئيس هيئة أركان حرب الجيش في ذلك الوقت ( عثمان المهدي) .. وتحدد موعد الاجتماع يوم الثلاثاء 20 إبريل 1948.

ودار الحديث في هذا الاجتماع حول وضع الضباط المتطوعين في الجيش بعد طلب إحالتهم إلى الاستيداع ومدي صلتهم بالجامعة العربية ... وحرر الضباط طلباتهم وخرجوا من هذا الاجتماع ليفاجوا بقائدهم أحمد عبد العزيز ينطلق إلى معسكر الهاكستب ليجتمع بالمتطوعين الذين قدموا أنفسهم من مختلف الطوائف والهيئات ووهبوا أرواحهم ودمائهم للوطن العربي المعتدي عليه ... وكان أحمد عبد العزيز تواقا للعمل السريع رغم ما كان يقدره من خيانات تحيط بالعالم العربي ... وكان يردد دائما كلما ثارت أمامه عقبة خلقتها مؤامرة وخيانة .. ما دام الله معنا فستكون أرواحنا وحماستنا أقوي من أن يجرفها اليأس ..

ووقف أحمد عبد العزيز وسط الفدائيين .. وسط تلاميذه الذين أحبوه من اللحظة وإلى الأبد.

وقف ليلقي بينهم أول كلمة له ... كانت عباراته شواظا تبعث اللهب والوطنية ... ويقول تلاميذ البطل أحمد عبد العزيز..

كانت كلماته في هذه المرة تجعلنا نحس أننا سنحقق أعظم الغايات والأهداف التي يتمناها المرء على دهره ، عندما ينالنا شرف الاستشهاد في المعركة..

وكان من قوله في هذه المرة :

" إنكم الآن تسطرون أروع صفحات التاريخ أيها الأبطال ..

وهذه الصفحات يجب أن تكون بيضاء ناصعة مشرفة بنور الإيمان ... وكل ما أطلبه منكم أن تطيعوا قائدكم وتثقوا بعد ثقتكم في الله ورسوله .. فإن كل شئ يتركز في تلك الطاعة وهذه الثقة وينبني عليهما ... وأن جزاء المجاهدين في سبيل الله احدي الحسينيين..

ومن ذلك اليوم أيضا وزع أحمد عبد العزيز العمل بين ضباطه فحدد مهمة كل منهم واختار كمال الدين حسين ليكون أركان حرب القوة ..

وفي مذكرات البطل أحمد عبد العزيز أورد وصفا للقائه الأول بالمتطوعين الفدائيين قال فيه :

التقيت بفرقتنا الأولي لأول مرة ... ومررت في صفوف هؤلاء الأبطال وقد اصطفوا في طابور الاستعراض ، وأخذت أتفرس في وجوههم وأحاول أن أستشف خلال التقاطيع الصارمة روح الإيمان المتدفق ثم بدأت أتحدث إليهم..

حدثتهم عن مهمتنا ولماذا نحارب .... وشرحت لهم هدفنا من القتال وقبل أن أتركهم طلبت منهم أن يكون على استعداد تام ..... فنحن قد نتحرك في أى وقت ..

قلت لهم : إنني من المؤمنين بالمفاجأة وأنا أحلم بمفاجأة من نوع غير سار للعدو وأعتقد أن نجاحنا يتوقف على قوة هذه المفاجأة فهي في رأيي الوسيلة الأولي لنجاح كل غاية أو مبدأ ..

وانتظر أحمد عبد العزيز السلاح ليتحرك مع قواته

وبدأت تتكشف الحقائق الرهيبة ...

الحقيقة الأولي ..

أن المسئولين في الأزهر كانوا غير جادين في الأمر ... وأن مسألة قبول متطوعين وفدائيين كانت للاستهلاك الداخلي المحلي .... وأنهم كانوا لا يريدون أن يزجوا بأنفسهم في ميدان قد يصيبهم منه رشاش يؤثر على أناقتهم أو تمس مقاعدهم الوثيرة الناعمة..


الحقيقة الثانية ..

أنه حتى لو دخل المتطوعين إلى الصهيونية فلن تكون في أيديهم سوي أسلحة صغيرة قديمة فاسدة .


الحقيقة الثالثة ..

أن حصيلة هذه القوات ستكون فقط وعود سخية كثيرة وأنها يجب أن تعتمد على أنفسها فقط ..

وحتى الاجتماع الذي عقده اللواء محمد عثمان المهدي رئيس هيئة أركان حرب الجيش مع أحمد عبد العزيز والضباط المتطوعين في الساعة الثانية عشرة ظهر يوم الثلاثاء 20 / 4/1948 فقد رفض أن يتعهد كتابة بما تعهد به مشافهة بالنسبة لمعاملة أسر المتطوعين في حالة استشهادهم وقد وجدت هذا مكتوبا بخط يد البطل الشهيد أحمد عبد العزيز في محضر يضم تفاصيل ما دار في هذا الاجتماع ويقول:

أوري الضباط أن الظروف في إدارة الجيش والدولة تتغير ويتبدل الأشخاص .. وربما يأتي أشخاص تختلف وجهات نظرهم عن الموجودين الآن مما قد يؤثر على هذه التعهدات ، لذلك التمس المتطوعين من سعادته إعطائهم هذه المساعدات كتابة للاستناد عليها إذا اقتضي الأمر في المستقبل، فأوري سعادته بأنه لا داعي لكتابة تعهدات ثم دار نقاش انتهي إلى قوله بأن محضر الاجتماع سيكون بمثابة التعهد المطلوب ..

الأسلحة والمعدات الفاسدة

وإلى جانب هذا كله وجدت في أوراق الشهيد رسالة خطيرة هامة موجهة منه إلى عبد الرحمن عزام وكان أمينا للجامعة العربية عن المعدات والمهمات التي تقدم للمتطوعين العرب من الأموال التي تبرع بها أبناء الأمة العربية من كل جزء من الوطن العربي الثائر وهي إلى جانب قصة الأسلحة الفاسدة المعروفة تشكل الإطار الذي كان على الفدائيين الأبطال أن يعملوا فيه مضحين بأرواحهم ودمائهم معتمدين على إيمانهم وشجاعتهم فقط..

تقولا هذه الرسالة الهامة المؤرخة في 30 إبريل 1948 :

حضرة صاحب السعادة عبد الرحمن عزام باشا

الأمين العام للجامعة العربية

أتشرف بإفادة سعادتكم بما يأتي :

تقرر سفري يوم السبت 24 إبريل لاستكشاف المنطقة الجنوبية بالصهيونية بعربتين جيب – ولكن تأخر شراء العربتين وعند استلامهما لم يكن بهما استبن ، ولما ألححت في ضرورة سفري يوم الأحد والمحال مغلقة في ذلك اليوم اضطر حضرة البكباشي حسين أفندي أحمد مصطفي أن يعطيني بدلا من الإستبن عجلتين من عربته الجيب التي اشتراها لمعسكره مع هاتين العربتين .

ولكن كانت عدة العربتين ناقصة ولا يوجد بهما منفاخ أى إذا نفد البنزين تقف العربة كما أن كريك رفع العربة من نوع ردئ جدا وهذا علاوة على أن عدادات السرعة والمسافة لا تشتغل في أحد العربتين ، وهذا أمر خطير جدا في السفريات عموما وفي العمل المطلوب منا خصوصا .

وحيث إنني اضطررت إلى تأخير سفري يوما بسبب تأخر شراء العربتين وإحضارهما فقد جازفت بالسفر في اليوم التالي لكي لا أعطل استكشافي أكثر من ذلك فقمت على هذه الحالة بالاستكشاف وقطع مسافات طويلة في مناطق عسكرية خطيرة بالصهيونية .

يا صاحب السعادة :

لقد لمست بنفسي رغبتكم الأكيدة في الحصول على نتائج سريعة من القوة قيادتي ، وإني أشارك سعادتكم في هذه الرغبة ولكني للأسف الشديد وجدت إجراءات لجنة الشراء تتنافي مع السرعة المطلوبة ، علاوة على إهمالها في الشراء وعدم تقديرها لخطورة عملها وأهميته الحيوية... فلا أتصور أن تشتري اللجنة عربات الجيب هذه بثمنها الفادح جدا ( 650 جنيه للعربة ) كما علمت وتكون ناقصة كما ذكرت، مع علم اللجنة بأن هذه السيارات اشتريت لتستخدم في ميدان القتال ، وأن أى نقص فيها يعرض سلامة راكبيها للخطر وعملهم للفشل ..

ولم يقتصر إهمال اللجنة على شراء هذه العربات بل إنها لا تهتم بشراء أهم ما يلزم للقوة بالرغم من إلحاحي في طلبها – كعربة الإسعاف مثلا التي تعتبر من أهم لوازم القوة وغيارات الميدان وغير ذلك .

لذلك أقترح للحصول على كافة لوازمنا بالسرعة المطلوبة أن نشتريها من سلاح مهمات الجيش بالثمن الذي اشتريت به وعند الجيش من الوقت ما يسمح له بشراء غيرها وخاصة وهي كميات بسيطة تؤثر على موقف الجيش .. هذا وإني ألتمس من سعادتكم صدور أمركم بتغيير الشخص المسئول عن شراء عربات الجيب .. للملاحظات التي ذكرتها حتى يشع الباقون بشئ من المسئولية في عملهم الخطير.

وتفضلوا يا صاحب السعادة بقبول أسمي الاحترام

بكباشي ( أ . ح)

أحمد عبد العزيز

القاهرة في 30 إبريل 1948

وبدأت مراوغة المسئولين للمتطوعين والفدائيين، بينما اشتعلت روح القومية العربية في صفوف أبناء الشعب وقواته المسلحة ، وتقدم العديد من مختلف الطوائف ومن الجنود والضباط بطلب التطوع مع قوات أحمد عبد العزيز ... وقبلت طلباتهم ومع ذلك تركت رئاسة الجيش هذه القوات تعاني مرارة الانتظار .. وضاق أحمد عبد العزيز بهذا الجمود الذي حكموا به على قواته .. وقام بالسفر إلى الصهيونية لاستكشاف أرض المعركة التي ستدور فيها عملياته بعد أن حصل من الرؤساء على تأكيد بإعداد الأسلحة قبل عودته من الصهيونية .

وعاد أحمد عبد العزيز ... ولكن شيئا من الأسلحة لم يسلم لقواته فذهب غاضبا حانقا ثائرا لمقابلة المسئول في إدارة الجيش . وفي اليوم التالي تلقي أحمد عبد العزيز وأبطاله كمية من الأسلحة والعتاد والمدافع الخفيفة في حالة يرثي لها .

وذهب كمال الدين حسين ليصارح القائد بما رآه بعد أن تولي فحص هذه الأسلحة .. وهنا نظر إليه أحمد عبد العزيز في مرارة وأسي ثم قال له :

نحن مضطرون لقبول الأمر الواقع خشية أن يتردد المسئولون مرة أخري وتقوم العقبات في سبيل سفرنا وغدا نتحرك إلى العريش .

وما دام الله معنا فستكون أرواحنا وحماستنا أقوي من أن يجرفها اليأس .

أول منشور للمتطوعين

وفي هذا اليوم وزع أحمد عبد العزيز على المتطوعين أول منشوراته وقال فيه :

" من القائد العام لقوات المتطوعين بالجبهة الجنوبية بالصهيونية إلى المتطوعين .

أيها المتطوعون:

قبل أن نتحرك إلى جبهة القتال يجب أن نؤمن تماما بالغاية النبيلة التي نحارب من أجلها .

إننا سنقاتل اليهود بالصهيونية لأنهم قوم جحدوا نعمة الله عليهم وإحسان المسلمين إليهم ، الذين تركوهم بينهم ينعمون في بلادهم ويثرون ويتكاثرون حتى إذا ما أنسوا في أنفسهم بعض القوة غدروا بالمسلمين في اغتصاب أقدس ما لديهم وهو وطنهم العربي وتراثهم الإسلامي .

لقد بدأ اليهود غدرهم بشراء قطع متناثرة من الأراضي الالصهيونيةية بدعوي الحياة فيها في سلام ووئام، ولكنهم أخذوا يشيدون الحصون عليها ويحشدون قواتهم فيها حتى إذا تكاثر عددهم واشتد ساعدهم انقلبوا على سكان البلاد يريدون محوهم وتدمير الصهيونية وإنشاء دولة يهودية على أنقاضها تحتل مركزا متوسطا بين بلاد الجامعة العربية، وتهدم الوحدة الجغرافية والتاريخية لبلاد العربية .

فنحن نحارب دفاعا عن تراث العروبة ودرءا لخطر جسيم يهدد كيان الدول العربية ومستقبلها ... نحن نحارب في سبيل الله لأننا لا نبغي استعمار بل نريد أن نمنع أشنع خيانة وأفظع نوع من أنواع الظلم الذي لم يجد التاريخ مثيلا له .

نحن نحارب عدوا غادرا خائنا خبيثا يقتل ويمثل بالأبرياء آووه وتسامحوا معه كثيرا .

نحن نحارب لحماية بلادنا وأولادنا وأحفادنا وأعراضنا وآمالنا في المستقبل من خطر اليهود لا يضاهيه أى خطر في الشرق.

أيها المتطوعون :

إن حربا هذه أهدافها هي الحرب المقدسة وهي الجهاد الصحيح الذي يفتح أمامنا أبواب الجنة ويضع على هاماتنا أكاليل المجد والشرف فلنقاتل العدو بعزيمة المجاهدين ولنعلم أن أبناء وطننا ينتظرون سماع أخبار انتصاراتنا وأعمالنا المجيدة التي تحيي آمالهم في المستقبل .

ولا تنسوا أن هذه الأراضي التي سنحارب عليها قد حارب أجدادنا عليها في عصور مختلفة ، وسجلوا لنا مجدا عظيما خالدا فنرد هذا المجد الأبدي ولنخش غضب الله وحكم التاريخ إذا نحن قصرنا في أمانة هذا الجهاد العظيم ..

الحدود المصرية في أول مايو 1948

القائد العام لقوات المتطوعين بالجبهة الجنوبية بالصهيونية

وفي اليوم التالي سافر الفوج الأول للعريش .. وكان بين المودعين الرئيس جمال عبد الناصر والمشير عبد الحكيم عامر ..

وفي العريش .. عقد أحمد عبد العزيز اجتماعا مع ضباطه وجنوده الذين سجلوا على أرض الصهيونية العربية أروع معارك البطولة والتضحية والفداء .

وكان أحمد عبد العزيز يعبئ الجهود والقوي كلها للعمل السريع .. وفي هذا الاجتماع بحث أحمد عبد العزيز الموقف.. ثم وجه سؤاله إلى كمال الدين حسين قائد مدفعية الفدائيين:

" هل من الممكن يا أبو كمال أن تدفع المدفعية بأسرع ما يمكن من القوة لخان يونس ؟".. وجلس أبو كمال يستعرض الظروف من حوله ..

ونظرا لأهمية أول خطوات البطل أحمد عبد العزيز ورجاله في أول معركة لهم فالتالي هنا نص هذه اللحظات التاريخية كما كتبها كمال الدين حسين في مذكراته" أسرار حرب الصهيونية " حيث تقول :

" وجلست أستعرض الظروف من حولنا ...

لم يكن مرخصا للقوات المسلحة وقتئذ بالدخول من الطريق العام لالصهيونية ، أما الطريق الثاني وهو الطريق السلطاني فقد كان في حالة غير صالحة للمرور وخصوصا إذا عبرته عربات المدفعية فإن عجلاتها تتعرض للغوص في الرمال .

إذن ما العمل ؟

ومضينا نستعرض مجموعة من الأفكار والمقترحات .. اقترح بعضهم فك المدافع ونقلها على الطريق الرئيسي تحت أحمال من المؤن أو المهمات ... وكانت فكرة طيبة ، ولكن ماذا يكون الأمر إذا قام رجال الجيش البريطاني بتفتيش أمتعتنا ؟

إنهم إذا عثروا فيها على أجزاء المدافع فلن يسمحوا لنا بحملها مما تسفر عنه خسارة جزء أو أجزاء من المدفعية .

ثم هناك مشكلة أهم .. فإن السيارات التي سافرنا بها من الأزهر وكان عددها نحو 32 سيارة بلغت العريش في حالة سيئة تحتاج معها إلى صيانة وإصلاح دقيقين، وهذا يقتضينا البقاء عدة أيام نعدها للسير ..

وعدنا نتساءل :" ما العمل ؟".

واستقر الرأي على أن تقوم أولا باستكشاف المنطقة التي سنعبرها من جميع المسالك ثم نقرر بعد ذلك الوسيلة التي نلجأ إليها في دخول الصهيونية .

وفي اليوم التالي نفسه قمنا إلى " خان يونس " وسلكنا الطريق الرئيسي المؤدي إليها بعد أن خلعنا علامات الرتب العسكرية حتى لا نثير الشك حولنا وفي خان يونس التقينا بالجاويش " خالد أبو الوليد" كما يسميه المواطنون هناك ، وهو أقدم المسئولون في قسم البوليس ، فضلا عن أنه وطني مخلص، ثم دار بيننا وبينه حديث شعرنا بعده بالاطمئنان إلى وطنيته فحدثناه بالمشكلة التي تعترض سبيلنا وكم كانت دهشتنا عندما عرض علينا فكرة وجدناها بعد البحث أحسن وسيلة تخرج بنا من المأزق قال لنا :

" لم لا تدخل قوة المدفعية وما تحمل من معدات وما يصاحبها من مشاه عن طريق الخط الحديدي، حيث لا رقابة من الإنجليز وحيث الأرض بطبيعة الحال صلبة تحت القضبان فضلا عن أن أحدا لا يتوقع مرور أى شخص على قضبان خط السكك الحديدية ؟"

كانت في الحق فكرة مذهلة مع ما بها من صعوبة ... فنحن إذا أخذنا بها ومضينا عن طريق الخط الحديدي فسوف تضطر السيارات للمرور في "قول" طويل كل عربة وراء الأخرى ، وإذا توقفت إحداها فستضطر العربات من ورائها للتوقف فضلا عن المشقة التي سنصادفها ونحن نحاول إدخال إطارات السيارات بين القضبان والضرر الذي ينتظر كاوتشوك العجلات في تلك العملية ..

ولكن لم يكن هناك أحسن من هذا الحل ولذلك قررنا أن نأخذ به على أن يكون دخولنا فجأة وفي وقت لا ينتبه فيه أحد..

وأسرعنا في تهيئة معداتنا ..

وفي يوم انطلق الجانب الأكبر من قوة المشاة إلى خان يونس عن طريق الدرب السلطاني بينما مضينا نحن في طريقنا إلى رفح فوصلناها بعد آخر ضوء ..

وحركنا العربات على شريط السكة الحديدية وسارت في المقدمة جماعة من المشاة وفي الوسط المدفعية وفي المؤخرة جماعة من المشاة أيضا .

وأمام هذه القوة كان أحمد عبد العزيز ...

كان بسيارته الجيب وقد جلس بجانبه دليلنا الجاويش خالد أبو الوليد وكانت ليلة لا تنسي بذلنا فيها جميعا جهدا جبارا حتى استطعنا أن نصل إلى غايتنا بعد أن قطعنا المسافة من رفح إلى خان يونس في سير حذر بطئ على الخط الحديدي.

وفي الساعة الخامسة صباحا بلغنا خان ومعنا 8 عربات من مجموعة واحدة أما العربات الأخرى فقد توالي وصولها فرادي في اليوم التالي وقد وجدنا أن الفرقة التي سبقتنا قد عسكرت في المدرسة القائمة هناك ،فانضممنا إليها ، وبعد أن تم توزيع العربات والأفراد حاول كل منا عبثا أن يأخذ نصيبه من الراحة ، بينما انطلق قائدنا أحمد عبد العزيز في عملية استكشاف.

كنا في شغل بالاطمئنان إلى العربات والجنود في حين كانت الدماء تغلي في قلوبنا ، وقد طال بنا الشوق إلى الاشتباك مع العصابات الصهيونية..

وبعد أن وصلنا بقليل جائتنا الأنباء بأن احدي المستعمرات المجاورة قد اتخذتها العصابات الصهيونية مركزا من مراكزها المسلحة تشن منها الهجمات على العرب في تلك المنطقة ، ورؤي أن يبدأ العمل فورا فقامت جماعة مسلحة ببنادق " بويز " لضرب مجموعة الدبابات اليهودية المصفحة القائمة عند مدخل تلك المستعمرة .

وانطلقت الجماعة إلى المستعمرة ونشبت المعركة ، وبعد الظهر بقليل جاءتنا الأنباء باستشهاد أول متطوع من الفدائيين وهو " فتحي الخولي " ولعل أحدا لم يسمع بإسمه حتى هذه اللحظة، كما أصيب آخرون بجراح ، ومع هذا فقد ذعر اليهود من هول المفاجأة ، فلم يدر في خلدهم يومئذ أن هناك جماعة منظمة مسلحة جاءت تضع حدا لعدوانهم الغاشم على الآمنين وانطلقوا هاربين من المستعمرة بسياراتهم المصفحة .

وعندما عاد القائد أحمد عبد العزيز من عملية الاستكشاف احتفل بدفن أول جندي شهيد احتفالا عسكريا وظهر على أحمد التأثر الشديد وهو يرثيه بعد أن واريناه التراب ...

أقام العرب في خان يونس احتفالا كبيرا بهذه المناسبة ، حيا في خطباؤهم الشهيد المصري المتطوع الذي جاء يبذل دمه راضيا في سبيل حرية الوطن العربي ، وكان إحساسهم بعملنا ظاهرا في حفاوتهم بنا وإخلاصهم الشديد لنا ..

وحول جثمان الشهيد الأول بدأت ترتسم أمام أفراد قواتنا الترجمة الحقيقية لتطوعهم للدفاع عن الصهيونية والقتال في سبيل العروبة والأمة والعربية وأن العملية أصبحت دماء وشهداء بعد أن كانت تدريبا وتحركات وخيالات ..

وكم سمعنا عن متطوعين في ذلك اليوم يغمطون الشهيد فتحي الخولي حظه في الشهادة وظفره بشرف الحصول على لقب أول الشهداء ....

كان أهم ما يشغلنا في ذلك اليوم هو الدفاع عن " خان يونس " وتفادي أية مفاجأة لنا ، وقد مررنا مع القائد أحمد عبد العزيز بجميع مداخل البلدة وصادفنا بعض الاستحكامات البدائية التي كانت قائمة ، وحددنا القوة اللازمة للحراسة ثم عدنا إلى المعسكر ووزعنا الجنود على مناطق المراقبة وعندما انتهينا من تلك العملية كانت خيوط الفجر قد ظهرت في الأفق .

ثم بدأنا عمليات حفر الخنادق وإقامة المواقع والاستحكامات واختيار أماكن الدفاع ومراكز المراقبة ، وغير ذلك من الاستعدادات العسكرية التي جعلت من البلدة حصنا حصينا .

ونشطت عمليات تدريب المتطوعين على القتال في حين لم نغفل عن تنظيم مسائل الإعاشة والتموين وقد لقينا مساعدة طبية في هذا من الأستاذ سامي أبو شعبان ناظر المدرسة الأميرية لذكور التي أقمنا معسكرنا فيها .. وكنا قد بعثنا العيون والإرصاد حول الأماكن الحيوية في المنطقة الجنوبية لالصهيونية، وحدث بعد يوم من وصولنا إلى خان يونس أن جاء من يقول لنا إن الإنجليز يتأهبون لإخلاء مركز البوليس في " عراق سويدان " وأن مركز العرب يحتاج لتدعيم في تلك المنطقة، فأسرع القائد إلى إصدار أمر بإرسال قوة من المتطوعين مسلحة بالرشاشات والبنادق المضادة للدبابات إلى هناك حتى تكون على استعداد للانقضاض على المركز واحتلاله بمجرد أن يغادره الإنجليز ، وأسند قيادة القوة لزميلي اليوزباشي محمد سالم عبد السلام وكان من ضباط سلاح المدفعية ...

وقبل أن تتحرك القوة أمر اليوزباشي محمد سالم عبد السلام بأن تسبقه جماعة من الأخصائيين في بث الألغام حتى تباشر مهمتها في المناطق القريبة من مركز البوليس الذي يراد احتلاله ، وهي التي تنشط فيها مصفحات اليهود كما تعد تلك الجماعة كمائن للإيقاع بالعصابات الصهيونية .

ويعد هذا انطلق الزميل الضابط بقوته للقيام بالعملية بينما اتفقنا نحن على مهاجمة اليهود في المستعمرات المجاورة لكي لا نترك لهم فرصة المبادأة وحيث لا نفاجأ بهم ينقضون علينا في خان يونس ..

وتذكرت مع نفر من الزملاء في ثياب العرب ، وانطلقنا للقيام بعملية استكشاف لمستعمرة دير البلح " كفار ديروم" والطرق المؤدية إليها واختبرنا طبيعة الأرض من حولها وعدنا إلى المعسكر وقدمنا تقريرا إلى قادة الوحدات الفرعية ليستكشفوا المنطقة بأنفسهم وليدرسوها بطريقة أكثر تفصيلا ..

ومنطقة دير البلح تقع بين غزة وخان يونس وهي مستعمرة تتحكم في المواصلات الرئيسية بين غزة وخان يونس ورفح وتعتبر مصدر قلق وإزعاج للأهالي العرب حيث يتعرض المارة عندها لعدوان العصابات الصهيونية المسلحة وبدأ القائد " أحمد عبد العزيز " في رسم خطة الهجوم، واشتركنا معه فيها وعلى الرغم من أن المدة المحددة لبدء العملية لم تكن كافية لكي تستعد المدفعية الاستعداد الذي يجعلها تؤدي الغرض منها وبالرغم من سوء وسائل النقل وعدم وجود اتصال تليفوني أو لاسكي بين مقر الرئاسة في خان يونس والقوات الهاجمة في منطقة العمليات فقد أسرعت إلى تحديد مواقع المدافع وأصدرت أمر بالاستعداد ..

وفي الساعة 24،00 تحركت القوة المهاجمة من المعسكر وانطلقت إلى نقطة التجمع حيث وقفت تنتظر الأمر بالهجوم وكنا قد سلكنا طريقا فرعيا أدي بنا إلى دير البلح ، " كفارة ديروم" دون أن ينتبه إلينا أحد.

كانت الخطة تعتمد على هجوم أساسي تقوم به فرقة أحد الضباط وهجوم آخر " تثبيتي" يتولاه بعض قوات المشاه بمعاونة المدفعية أى أن الفرقة كانت تنقسم إلى قسمين : القسم الأول انطلق به الضباط بعيدا عن موقعنا منتظرا اللحظة المناسبة ليهاجم العدو من الجنب ، بينما عسكرنا نحن في بقعة تواجه المستعمرة لنقوم بالهجوم التثبيتي .. والهجوم " التثبيتي " يعني أن نشتبك مع العدو في معركة شديدة بالمدفعية والرشاشات فيحشد كل قواه لصد هجومنا والدفاع عن نفسه ويتجمع في مكان واحد وقد صرف كل همه إلينا، وعندئذ تنتهز فرقة الهجوم الأساسي الفرصة فرصة ثبات العدو في المنطقة المواجهة لنا وتنقض عليه فجأة من الجنب فيجد العدو نفسه بين نارين ولا يلبث حتى يستسلم لنا ..

وبدأت المعركة واشتعلت النيران في المستعمرة وأصيبت أهداف كثيرة من نيران المدفعية ، وانتظر الهجوم التثبيتي إشارة الاقتحام من الهجوم الرئيسي حتى يكف عن إطلاق النيران ولكن لسوء الحظ لم يقدر لهذه الإشارة أن تنطلق لجمة اعتبارات كانت احدي الدروس المستفادة من هذه المعركة وكانت عونا لنا في المستقبل لتقرير علمياتنا التي يجب أن تتسم بالسرعة وخفة الحركة ومفاجأة العدو واقتناصه في العراء كلما أمكن ذلك وقطع خطو مواصلاته وعدم إعطائه فرصة للراحة أو الاستقرار.

وبالرغم من ذلك فقد تقدمت القوات القليلة التي كانت مخصصة للهجوم التثبيتي لعلها تصل إلى أهدافها ولكن انكشاف مواقعها جعلها تتحمل خسائر كبيرة ..

ولم يكن هناك مبررا لتحمل خسائر أكبر فأمر القائد بالانسحاب بالرغم من الشجاعة الفائقة التي كانت تتحلي بها القوات وإقبالها على التضحية والاستشهاد .

وعادت قواتنا إلى خان يونس ...

وفي نحو الساعة 9،30 صباحا جاءنا أحد قادة فرقة المقاومة العربية وقال لنا إن عددا من رجاله سقط متأثرا بجراحه أمام مستعمرة " كفارديروم" وطلب منا معاونته لإنقاذ هؤلاء الجرحى ....

وتطوع أحد الزملاء على رأس فصيلة للقيام بالمهمة بصحبة زميلنا حسن فهمي وكان معهم مدفعان 2 رطل، ومضت ساعات الصباح وحان وقت الظهيرة ونحن لا نعرف شيئا عن أنباء الفصيلة فداخلنا القلق وخصوصا عندما جاءنا من أنبأنا بأنها وجدت مقاومة شديدة من العصابات الصهيونية أمام المستعمرة وأنه وقعت بعض الخسائر بين قواتنا ..

أسرعت إلى أرض المعركة حتى أري الموقف وفي طريقي التقيت بزميلي حسن فهمي عائدا إلى المعسكر، وأنبأني بالحاجة إلي نيران المدفعية فأحضرت المدافع بالقرب من المستعمرة وبالتنشين المكشوف بدأنا نضرب حتى يتسني سحب الجرحى من أرض المعركة..

وهنا دارت بيننا معركة حامية ، وكنت على مسافة قريبة جدا من العدو. فانهالت عليهم قذائفنا كالأمطار، وأبدي جنودنا شجاعة فذة وتصاعدت دماء الوطنية الحارة إلى رؤوسهم واختلط العرق بخيوط الدم التي أحدثتها الشظايا المتطايرة في أبدانهم وكنت أطلق المدافع بنفسي إذا حدث ما كان يعيق أحد أفراد الطاقم عن العمل .، وتحولت أرض المعركة إلى جحيم وفعلت المدفعية فعلها في خطوط الأعداء فأشعلت النيران في المرافق وهدمت المباني ودمرت دفاعات العدو..

ولكن حدث أن انفجرت قنبلة مدفع على مقربة من المدفع الذي كنت أقف وراءه فقتلت جنديا من طاقمه وأصابت آخر إصابة خطرة وأصابتني أنا وعددا من زملائي الجنود بجراح مختلفة .

وعندما وجدت الدماء تنزف من كتفي وساقي بغزارة أمرت الزميل أنور الصيحي أن يتولي قيادة المدفعية بينما حملت أنا إلى نقطة الإسعاف حيث أجريت لى بعض الإسعافات ثم نقلت بعد ذلك إلى مستشفي غزة ..

وفي الطريق وجدتني أتساءل:

- هل نجحت العملية ؟

- وأجابني أحمد عبد العزيز بينما أنا ألمح طيف ابتسامة على شفتيه بعيني نصف المغمضتين:

- تمت العملية بنجاح وسحبنا جرحانا والفضل للمدفعية..

- ورحت في إغماء طويل.

- وتركني القائد في المستشفي وعاد مرة أخري إلى أرض المعركة .

لقد أقسم أن ينتقم لجرحانا وأراد أن يكون انتقامه كبيرا في الوقت الذي يظن فيه الصهيونيين أن الفدائيين لن يفكروا في معاودة الهجوم على مستعمراتهم تلك مرة أخري ، ولم تمض ساعات على المعركة الأولي .

وأمر القائد زميلنا اليوزباشي معروف الحضري بأن ينتقل بقوة من المشاة لاقتحام المستعمرة تحت ستار من نيران مدفعيتنا فانطلق معروف إلى المستعمرة وكانت نيرانها قد صمتت فجأة وعندما أصبح على مسافة قصيرة منها ألقي قنبلة يدوية حتى يجعل من دخانها ساترا له ورجاله ولكن أحد القناصة الصهيونيين أطلق عليه رصاصتين استقرت إحداهما في رأسه والثانية في مؤخرة عنقه .

وهم أحد الجنود بأن يحمل ضابطه إلى مواقعنا ولكنه فوجئ به يصيح فيهم أن يتقدموا دون أن يبالوا به بينما هو يحاول أن يزحف أمامهم ، وأدرك قائدنا أحمد عبد العزيز – الذي كان رابضا يراقب القوة المتقدمة بالمنظار المكبر – ما حدث لمعروف فبعث من رجاله نفرا يذهب ليحمل الضابط الجريح إلى مقر قيادتنا بينما أصدر أمره للمدفعية لكي تشدد نيرانها على مواقع الأعداء ، حتى يتمكن الجنود من الانسحاب تحت ستار من دخانه الكثيف .

وعاد معروف وهو بين الحياة والموت وعلى سواعد الجنود ، وتبين أن إصابته خطرة فنقل إلى القاهرة حيث أجريت له عملية جراحية لاستخراج الرصاصتين وأفلت من الموت بأعجوبة .

ومرة أخري تأكد لدينا أن عمليتنا يجب أن تقتصر على اقتناص العدو في العراء دون مهاجمته في المستعمرات وقطع خطوطه ومواصلاته عدم إعطائه فرصة للراحة والاستقرار ..

ولما جاء القائد لزيارتي في المستشفي علمت منه أن المعركة ظلت مستمرة مع مستعمرة " دير البلح بعد الاستيلاء على المصفحات اليهودية واستطاعت قواتنا أن تدك حصون اليهود وتنسف استحكاماتهم وتطهر المستعمرة تماما من العصابات الصهيونية .

وبعد أن اطمأن القائد على هم بالانصراف ولكنه فوجئ بي أرتدي وأصر على مغادرة المستشفي للعودة إلى الميدان في ذلك اليوم وخرجت معه فعلا .

وفي طريقنا مررنا بمدينة غزة واجتمع القائد بأعضاء البلدية وألقي فيهم كلمة وطنية حاثا إياهم على التضامن والتضحية في سبيل الهدف الأسمى الذي نسعي إليه جميعا .

وكان خطابه حماسيا رائعا ألهب مشاعر الحاضرين وجعل المتخاذلين بينهم يخجلون من موقفهم والمتنابذين يمدون أيديهم بالصلح والوئام والسلام ، واختتم خطابه قائلا"

" إنني لن أتحدث بعد اليوم ولن تسمعوا مني كلاما وسوف تتولي المدافع مؤونة الكلام بطريقتها الخاصة "

وغادرنا مبني البلدية في طريقنا لاستكشاف مداخل غزة ومواقعها الطبيعية واتفقنا على خطة الهجوم المقبلة ومضينا إلى المعسكر حتى نعد المدافع ونجهز القوات اللازمة للعملية .

وفي الطريق سألت القائد عما يعنيه من أن المدافع هي التي ستتولي الكلام بعد اليوم فابتسم وقال :

غدا يدخل الجيش المصري المعركة رسميا

وأخيرا وليس آخرا فقد روي تلاميذ أحمد عبد العزيز وزملاءه أن الفدائيين والمتطوعين كان قد فرغ ما كان معهم من سجاير ولم تصل إليهم إمدادات ..

ووقف أحمد عبد العزيز بين رجاله متحدثا وخطيبا .. وبعد عشرة دقائق كانت الفرقة قد آمنت بالامتناع عن التدخين نهائيا ..

بل وحدثت مفاجأة .

من كان معهم سجائر أخرجوها وأتلفوها ..

قصة من الميدان

وفي نفس الوقت الذي كان أحمد عبد العزيز يقود المتطوعين في نجاح وإيمان وعزم ... كان أحمد عبد العزيز يضرب الأمثال عن مثالية تصرفاته في كل ناحية من النواحي ..

ومن القصص التي يعرفها جيدا كل من عمل مع البطل في هذه الفترة قصة الجاسوس الذي جاء للتجسس على أحمد عبد العزيز وقواته وأوقع بعض المتطوعين في فخ صهيوني وكيف عامله أحمد عبد العزيز وكيف رد به هو نفسه مكيدة الصهيونية .

حدثت هذه القصة في نفس اليوم الذي أصيب فيه كمال الدين حسين ودخل إلى المستشفي في معركة دير البلح.

قال الفدائي الذي روي القصة :

" وفي ذلك اليوم فوجئت قواتنا بمدافع اليهود تلتزم الصمت والميدان يسوده سكون رهيب استمر فترة ليست قصيرة .

نري ماذا حدث عند العصابات الصهيونية في المستعمرة ؟

وجاء الجواب مع رجل يرتدي جلبابا قديما ويضع على كتفه غرارة ويمسك عصا وشكله بوجه عام يثير الشفقة .

هذا الرجل تقدم إلى القوة المصرية من ناحية المستعمرة وقال إنه عربي من سكان المنطقة وقد اكتشف أن ذخيرة اليهود قد نفدت فجاء ينبه الفدائيين المصريين إلى هذا حتى ينتهزوا الفرصة للاستيلاء على المستعمرة وتطهيرها من الصهيونيين.

وتشكك الفدائيون في صحة أقوال الرجل، وكأنما أدرك ما هم فيه فاستدار وانطلق نحو المستعمرة ودخل من منطقة القتال دون أن يقذفه اليهود بالمدافع ثم خرج إلى المصريين من ناحية أخري حتى يؤكد صدق معلوماته ..

وتقدمت جماعة من المشاة لاقتحام المستعمرة بإرشاد الرجل العربي وما كادت الجماعة تتجاوز حدودها حتى اختفي المرشد في غمضة عين بينما انهالت علينا قذائف الأعداء وكانت خسارتنا شديدة ..

وأدرك الفدائيون أنهم وقعوا في الفخ الذي نصبه الصهيونيين بمساعدة الجاسوس البدوي الذي اختفي عن الأنظار ولكن بعضهم أصر على اقتحام المنطقة التي اختفي عندها الجاسوس والقبض عليه بأى ثمن .

ونجح هؤلاء في القبض على الجاسوس بعد أن قاموا في هذا السبيل بمخاطرة عجيبة فقد اقتحموا المنطقة التي اختبأ عندها غير مبالين بالمدافع التي انهالت عليهم قذائفها واستطاعوا أن يفتكوا بمن فيها من الصهيونيين ثم عادوا بالجاسوس حيا .

وظهر أن الرجل جاسوس يعمل لحساب العصابات الصهيونية وعندما فتشه الجاويش متطوع حسن عز العرب عثر معه على خنجر وطبنجة ونحو مائة جنيه إسترليني .

وقال الرجل أنه يدعي ( سلامة) وهو عربي مسلم ولكن اليهود في الصهيونية اشتروه منذ 15 سنة وجعلوه منهم وطبعوه بطباعهم وعاداتهم وتقاليدهم حتى لقد نسي عروبته وأصبح صهيونيا صرفا وجعلوه عينا على العرب وقوات المقاومة من الأحرار ورتبوا له 30 جنيها شهريا .

وحاول المتطوعون الاعتداء على الجاسوس وإيذائه ولكن القائد أحمد عبد العزيز حال بينهم وبينه وأدناه منه وقال له :

- إنني أعرف أن ظروف الحياة القاسية هي التي دفعتك إلى فعل ما فعلت، ولولا حاجتك ما قبلت أن تخون وطنك ومواطنيك العرب ، إنني أؤمن في أعماقي أنك مخلص لعروبتك في قرارة نفسك لأن الدم العربي لا يزال يتدفق في قلبك ولهذا فإنني أصفح عنك.

- وبكي الجاسوس وأبدي استعداده للقيام بأية خدمة للفدائيين وأصر على أن يعمل شيئا فسأله القائد..

- أعتقد أنك تعرف اللغة العبرية، أليس كذلك.

- إنني أجيدها كأحد أبنائها .

- إذن أريد منك أن تتصل بقيادة العصابات الصهيونية وتنبئها بأن القوة الموجودة في مستعمرة دير البلح " كفارديوم محاصره، وان الفدائيين المصريين يطوقونها من كل جانب وقد نفدت ذخيرتها عتادها ومؤنها وأنها تطلب إمدادات سريعة وتريدها في الساعة الثانية عشر ظهرا ..

ونفذ الرجل ما طلبه القائد وعاد يقول إنه فهم من قيادة الصهيونيين ما يفيد أن النجدة ستصل في الموعد المحدد، ثم أرشدنا إلى الطريق الذي ستسلكه القوة الصهيونية .

وتسلح اليوزباشي حسن فهمي عبد المجيد بمدفعين وانطلق في قوة 80 جنديا رابط بهم عند الطريق الذي ستمر به القائلة القافلة اليهودية وكانت تقوم عندها مزارع القمح.

ونصب الضابط مدفعيه في موضع يشرف على الطريق بينما اختبأنا نحن الفدائيين في مزارع القمح.

وعند الظهر تماما ظهر القول اليهودي وكان يتألف من 18 عربة مدرعة ويسير في اطمئنان نحو المستعمرة وفجأة أطلق حسن مدفعيه فأصاب المصفحة التي تتقدم القافلة كما أصاب الأخرى التي تسير في المؤخرة فتعطلت السيارتان ووجدن بقية السيارات نفسها محاصرة بينهما فتوقفت وعندما رأي اليهود ما حدث لهم التمسوا الفرار وكانت أبواب السيارات تفتح إلى أسفل فانطلقوا منها نحو مزارع القمح لكننا كنا لهم بالمرصاد ، فتصيدناهم واحدا واحدا حتى قضينا عليهم جميعا وكان عددهم نحو 54 جنديا فقد كانت كل سيارة تحمل سائقا وجنديين .

وبذلك انتقمنا لزملائنا الذين استدرجهم اليهود عن طريق جاسوسهم وفي الوقت نفسه غنمنا مصفحاتهم وتلك كانت من أروع العمليات التي صادفتنا في أوائل معركة الصهيونية 1948 .

أما ما كان من أمر الجاسوس ( سلامة) فقد شعر بخزي وعار شديدين عندما أقام بيننا ، وعرف كيف أن الكثيرين منا تركوا أهلهم وأولادهم وأرزاقهم وجاءوا يحملون أرواحهم على أكفهم لإعادة الوطن المغتصب إلى أصحابه الشرعيين عرب الصهيونية بينما هو الذي جئنا لنمكنه من الحصول على حقه يبيعنا لأعدائه لقاء ثمن بخس ،، دراهم معدودة .

هذه المعاني كلها جعلت الرجل يشعر بآلام نفسية عنيفة ما لبثت حتى طرحته مريضا وأسلمته للقبر ... سامحه الله .

النمر يبيت في موقعي يثير الرعب في قلوب الصهاينة

وعلى ذكر قصص الميدان .. هناك قصة أخري عن النمر أحمد عبد العزيز.

قال عبد المنعم السباعي :" كنت عندما أحب أن أخلد ساعة للراحة والنوم أفتح إذاعة مفتوحة أقول فيها : نمر يبيت في موقعي اليوم..

وكان معي هذا أن أحدا من اليهود لن يستطيع الاقتراب من موقعي على أساس أن نمر يبيت في الموقع .. ونمر كان هو البطل أحمد عبد العزيز.

المرحلة الثانية

بعد دخول الجيش المصري

أحمد عبد العزيز لا يؤيد دخول الجيوش المصرية لالصهيونية

عندما أعلنت مصر دخول قواتها المسلحة إلى أرض المعركة كان للبطل أحمد عبد العزيز رأي خاص يعارض دخول الجيش المصري إلى أرض المعركة على أسا أن محو إسرائيل وعصاباتها يجب أن تقوم به كتائب الفدائيين والمتطوعين في ذلك الوقت وأن دخول الجيوش العربية كلها يعطي لإسرائيل صفة كبري .. إذ ما معني تعبئة الجيوش العربية لمواجهة عصابات صهيونية لم تكن في ذلك الوقت قد قويت شكيمتها إلى الحد الذي تجند للقضاء عليها الجيوش الرسمية لجميع الدول العربية ..

وفي نفس الوقت كان أحمد عبد العزيز يعرف تماما ما يجري في القاهرة في ذلك الوقت وما يجري في عواصم الدول العربية الأخرى ويخاف أن تدحر الجيوش العربية فتكون الطامة الكبرى وتنجح إسرائيل في خطتها .. وكان أحمد عبد العزيز يحضر إلى مصر في المرحلة الأولي ليقابل المختصين ويطلب منهم سلاحا وذخيرة وكانت توضع في طريقة العقبات العديدة ومما ذكره لخاصته في هذه الفترة أن ضابطا كبيرا ( الفريق محمد حيدر) وهو الذي أنصفه .. وهو الذي أمر له بفتح مخازن الذخيرة ليأخذ منها أحمد عبد العزيز ما يريد.

وكان يعرف البطل أن ما يحدث في القاهرة يحدث في عواصم أخري .. ويذكر البطل في مذكراته الخاصة أن ضابط اتصال مصري اتصل به وقال له :" لا تنس إذا قابلت جلالة الملك أن تقبل يده لأنه بيزعل قوي من اللي ما يبوسش إيده ".

فعرف البطل أى نوع من الملوك ... وأى نوع من القادة يحيط بمعركة الصهيونية ، وخاصة بعد أن تدخلت قيادة الأردن في المرحلة الأولي وسحب الجيش الأردني في المرحلة الثانية .

وكان أحمد عبد العزيز في كل مرة يعود من الميدان إلى الأزهر في ثورة وسخط لما يراه أمامه من أنواع من الخيانات تحوط بالقضية التي وهب لها حياته ودمه ...

ولكن دخول الجيش وعدم موافقة أحمد عبد العزيز في قرارة نفسه على هذا التصرف لم يمنعه من أداء واجبه كأحسن ما يكون الأداء بنفس الإيمان والتضحية والفداء ..

فقد أسرع البطل أحمد عبد العزيز بالقيام بعمليات تطهير لمدخل غزة لتأمين دخول القوات المصرية بعد أن علم من تقارير الاستكشاف الجوي التي تلقاها من سلاح الطيران المصري أنه قد شوهدت مدفعية 25 رطلا تتحرك على مقربة من الطريق المؤدي إلى غزة ويظن أنها يهودية ..

وطلب أحمد عبد العزيز من قائد مدفعيته كمال الدين حسين أن يقابل هذه المدفعية اليهودية بمثلها .

وقبيل غروب الشمس بقليل كان أبطالنا قد سيطروا بقواتهم على غزة والمسالك المؤدية إليها وبدأت المدفعية المصرية تصلي مستعمرة " بيرون اسحق " نارا حامية ، فجعلتها كتلة من اللهب ترتفع ألسنتها إلى عنان السماء .

وهذا بالرغم من أن مدفعيتنا كانت خفيفة وتسليحنا أضعف فإن الإيمان والثقة بالله كانتا تحيلا هذا الضعف إلى قوة مدمرة .. وفي هذه الأثناء كان أحمد عبد العزيز القائد البطل الذي يقفز في أرض المعركة إلى كل مكان فيها .. يجده رجاله بينهم بل أمامهم فيحيل دماءهم إلى لهب وثورة ويحقق وجوده بينهم مزيدا من العزم ومزيدا من الفداء ..

وطلع فجر اليوم المنتظر

يوم 15 مايو 1948..

وأشرقت في السماء طائراتنا المقاتلة... وأشرقت معها ابتسامة عريضة على ثغر " النمر" القائد البطل أحمد عبد العزيز ...

وكانت هذه الطائرات تحمل شبابا أقوي منها ومن ماكيناتها ..

وجاءت البداية رائعة طيبة ... فقد دكت طائراتنا بقنابلها مواقع العصابات الصهيونية في بيت حانون ، بينما ألقت المنشورات في مواقع أخري من المستعمرات الصهيونية ..

وكانت قوات الجيش المصري تتقدم زاحفة في طريقها إلى أرض المعركة..

وفي مساء هذا اليوم وصلت هذه القوات إلى موقع " على منطار " حيث كان أحمد عبد العزيز وقواته التي ظلت تصلي العدو نارها ، بينما القوات المصرية تتسلم دفاعات " على منطار" والأهالي يستقبلونها بالفرح والترحاب ..

وفي صباح 16 مايو .. عندما أشرقت الشمس انطلق أحمد عبد العزيز إلى مقر قيادة القوات المصرية ليقابل القائد العام..

وقدم أحمد عبد العزيز كل ما لديه من معلومات عن العدو ثم عاد ليؤمن طريق القوات الزاحفة وقاعدتها ولينطلق بقواته إلى معسكر " البريج " بالقرب من غزة .. وهناك جلس أحمد عبد العزيز ورسم لرجاله خطة جديدة للهجوم على مستعمرة " المشبه" القريبة وذلك حتى لا يترك للعدو فرصة يتلمس فيها شيئا من الراحة ويعيش في رعب دائم من هجمات القائد البطل المفاجئة التي لا يدري العدو مني ولا من أين تبدأ ..؟

وفي هذه اللحظات حدث أن اثنين من المتطوعين أرادا العودة ...

وعلم أحمد عبد العزيز بأمرهما وخشي أن تنتقل عدواهما ولو في نطاق محدود – إلى الآخرين ..

فكيف تصرف القائد الأستاذ ..؟

كيف واجه أحمد عبد العزيز هذا الموقف ؟

أمر بجمع كل أفراد قوات الفدائيين ... ووقف على ظهر احدي السيارات المصفحة التي غنمناها من اليهود عند دير البلح " كفارديوم"

وجعل يشيد بالبسالة والشجاعة الفائقة التي لمسها عند المتطوعين في المعارك التي خضناها ويمتدح ما قاموا به من أعمال مجيدة جعلته فخورا بهم هم وضباطهم الذين ضربوا المثل ولم يبخل أحد منهم بنفسه وهو يتقدمهم إلى المعارك وكيف أنهم كانوا لا يخشون في جهادهم أحدا ولا يخافون غير الله ولا يطلبون إلا المجد والفخر عندما تنتهي المعارك بانتصارهم وجنة الخلد إذا نعموا باستشهادهم ...

وقال القائد البطل :

لقد جئنا إلى هنا لا رهبة من أحد ولا رغبة في شئ إلا رضاء الله وحده فإذا استشهدنا ومضينا إلى جواره فهذا أعظم آمالنا وأحب أمانينا ولسوف نمضي في طريقنا دون أن يثنينا أحد عن غايتنا سنطبق النظام والعدالة وسنتخذ كل وسيلة تدنينا من أهدافنا ما دامت في سبيل الحق والخير ،

وسنكون قساة على أنفسنا فنحن إنما نحارب من أجل غاية مثلي من أجل تراث العروبة ومستقبلها .. فمن شاء أن يمضي معنا فأهلا به وسهلا .. ومن شاء أن يمضي عنا فلن يرده أحد ..

وقال كمال الدين حسين بعد أن استمع لكلمة القائد أحمد عبد العزيز ما يلي :

" هذه العبارة على إيجازها رسمت لى صورة صادقة لشخصية البطل الذي قادنا إلى المعركة وعرفته منها على حقيقته عرفت قوة إيمانه وصدق فدائه .. كما عرفت أنه لا سبيل ولا حساب لأحد عليه إنما السبيل سبيل الله والحساب حساب الله ..

وقد تدفق البطل في كلمته التي كانت تتفجر جرأة وإيمانا حتى إذا انتهي منها وانفض جميع الزملاء والمتطوعون رأيتهم يسيرون مبهوري الأنفاس وقد أخذتهم روعة الكلام وسحر البيان ..

وكان لكلمات البطل مفعول السحر في النفوس فعلا ، فقد مضي الأبطال جميعهم بما فيهم الشابان اللذان طلبا العودة إلى المهمة التالية وقد ضاعفت كلمات أحمد عبد العزيز من قوة الأسلحة في حوزتهم ... وكانت العملية التالية ... مستعمرة " المشبه " وقاتل الأبطال بشجاعة فائقة .. كانوا يقاتلون وكأنهم في انقضاضهم وتحفزهم نمورا كاسرة يثبون هنا وهناك وتلمع عيونهم فرحة وبشرا كلما أصابت قذائفهم هدفا طيبا ..

وعاد أحمد عبد العزيز من استكشافه لبعض مواقع العدو ليري ما فعلته كلماته الساحرة في أبطاله وجنوده ويشاهد الخسائر التي أحدثوها في مواقع العدو..

وعاد أحمد عبد العزيز إلى معسكره مع أبطاله في ( البريج)وانصرف القائد لإعداد بلاغه الحربي الذي سيبعث به لاسلكيا إلى الرئاسة .. وفي هذا اليوم .. كما في كل يوم وكل لحظة من حياة أحمد عبد العزيز .. سجل البطل مثلا جديدا أما م جنوده وضباطه ..

جاءه بعض المتطوعين يقولون إن جماعة من المتطوعين الألمان وغيرهم من جنسيات أخري ممن يمقتون اليهود قد وصلوا إلى المعسكر وأنهم يعرضون خدماتهم للعمل مع قوات البطل أحمد عبد العزيز .. واعتبر البعض بهذه الرغبة .. وسكت أحمد عبد العزيز فترة قصيرة كان خلالها يتأمل وجوه الزملاء الذين أيدوا الفكرة .. ثم مضي معهم إلى الجماعة الأجنبية ووقف بينهم .. وجاءت المفاجأة التي أذهلت جنوده وضباطه وضربت مثلا جديدا لأروع صفات القيادة والوطنية والبطولة .. تحدث أحمد عبد العزيز في لهجة صارمة وبعبارات صريحة جدا يقول :

" يؤسفني ألا أستطيع الموافقة على انضمامكم إلينا وأنا كقائد مصري ارتضي الهزيمة مع زملائي من الضباط والجنود المصريين أو العرب ولا أرتضي النصر على أيد غير عربية "...

وهكذا كان اعتزاز أحمد عبد العزيز بإيمانه بقوميته وعروبته ... ولقد أراد بهذا التصرف الحكيم أن يعزز هذه المعاني التي تعتمل في صدره وينقلها إلى جنوده حتى تزداد ثقتهم بأنفسهم وبالتالي تزداد ثقتهم في مقدرته ..

لقد رفض قبول هؤلاء المتطوعين حتى لا يوجد منفذا يحتمل أن ينفذ منه الجواسيس كما قطع الألسنة التي قد تزعم يوما أن الفضل فيما نقوم به من قتال وجهاد إنما يرجع إلى جماعة من الألمان أو غيرهم ..

معركة بئر السبع

من أجل المعارك التي خاضها البطل أحمد عبد العزيز ورجله الأبطال المعركة التي دارت عند بئر السبع ... والمستعمرات التي تحيط بها ..

ففي ليلة 18 مايو 1948 ذهب أحمد عبد العزيز إلى رئاسة القوات المصرية في غزة وكان المعروف أن هذه القوات ستتحرك إلى بئر سبع ..

وهو موقع استراتيجي هام وعقدة المواصلات في الصهيونية ومفتاح النقب.. ولكن لنقص القوات فقد عدلت الرئاسة عن ذلك .. وهنا عرض البطل أحمد عبد العزيز أن يقوم هو بقواته باحتلال هذا الموقع الخطير ..

وطلب أحمد عبد العزيز من رئاسة القوات المصرية أن تعطيه مدفعين فقط ( 2 رطل )

وجاء الجواب الغريب .. رفض طلب أحمد عبد العزيز ..؟؟

وقال قائد القوات المصرية لأحمد عبد العزيز :" إذا كنت تري أن قوتك غير كافية للقيام بالعملية ، فلا عليك .. ولا تذهب "

وجاء رد البطل ..

وجاءت كلمات أحمد عبد العزيز حاسمة مؤمنة كما هي دائما ..

قال أحمد عبد العزيز :" بل سنذهب والله معنا "

وكانت مغامرة فعلا ..

وفي الساعة الواحدة ظهر مايو 1948 تحرك الأبطال إلى بئر السبع .. وكان الاعتماد على عنصر المفاجأة حتى تصل القوات إلى بئر سبع في يوم واحد وتمر بسلام وسط المستعمرات اليهودية الكثيرة ..

وكانت أوامر أحمد عبد العزيز.. التقدم باستمرار نحو الهدف ..

وكان أحمد عبد العزيز في المقدمة يقود قواته ويتعرف على معالم الطريق وخفاياه بشاب عربي مخلص اسمه ( على سعيد الخلفاوي) ومضي أحمد عبد العزيز إلى بئر السبع وهو يضاعف مع أبطاله جهدهم في التقدم وحتى يحتفظوا – كما قال لهم – دائما بقوة اندفاعهم نحو غرضهم ويبلغوه في الوقت المناسب ولا تقضي القوة ليلتهم في العراء معرضة لأية أخطار مفاجئة ..

ورغم عقبات الطريق ورغم المعركة الصغيرة التي دارت بعد اجتياز وادي غزة ومنطقة الشلالة فقد وصل البطل بقواته إلى بئر السبع في الساعة السابعة والنصف مساء نفس اليوم ..

واستقبل الأهالي أحمد عبد العزيز وقواته أروع استقبال ..وكان المواطنون العرب المسلحون في المدينة يفوق عددهم أى عدد من العرب المسلحين في أى منطقة أخري ..

وأمضي أحمد عبد العزيز مع قواته الليل في مدرسة بئر السبع وفي الصباح صباح يوم 20 مايو 1948 – بعث القائد أحمد عبد العزيز اليوزباشي خالد فوزي في سيارة مصفحة مع جماعة من العرب والمجاهدين لإحضار العربات التي عطلت من قوته في الطريق ..

وعقد البطل اجتماعا لرجاله لوضع الخطة التي سيتبعها ..

واتفق الرأي على البدء بمستعمرة " بيت ايشل" وهي أقرب المستعمرات إلى بئر السبع ..

وفي الساعة العاشرة صباحا بدأت الإغارة على المستعمرات وانهالت القذائف المصرية كالسيل على المستعمرة .

وكان أحمد عبد العزيز يراقب المعركة من أرضها .. يقف إلى جانب ( أبو كمال ) قائد مدفعيته وهو يدك المستعمرة دكا وقد ظهرت على وجهه علامات الارتياح الشديد والاغتباط.. وكانت كلماته الساحرة تصل إلى آذان المحيطين به فتحيلها قذائف وقنابل وقوة كبيرة .. وانتهت الإغارة على المستعمرة ، وعاد أحمد عبد العزيز إلى قاعدته في بئر السبع بعد أن صمت صوت مستعمرة ( بيت ايشل).

وتناول البطل غداءه مع أبطاله وبعد الغداء على أحمد عبد العزيز أن اليهود عادوا في بيت ايشل يضربون برشاشاتهم على المارة في الطريق ...

وأمر القائد أحمد عبد العزيز البطل أنو الصيحي للذهاب لتحري الأمر .. وبعد قليل تبعه كمال الدين حسين وعادت قواتنا تضرب المستعمرة من جديد وتشعل النيران فيها مرة أخري ظلت فيها ألسنتها حتى الساعة العاشرة من صباح اليوم التالي ..

وفي هذه المعركة استشهد البطل أنور الصيحيوحمل النبأ إلى قائده أحمد عبد العزيز ... وتقلصت عضلات وجهه في مرارة وعنف حزنا على الزميل الشهيد ولكنه ما لبث أن رفع رأسه وأشرقت أسارير وجهه بنور العزم والإيمان والفداء ... ونظر لرجاله ليقول لهم إنهم لا يجب أن يحزنوا على الزميل الراحل ..

لقد بلغ ما يتمناه كل منا .. ومضي راضيا مرضيا إلى جنة الخلد وهل بعد هذا من مطمع ..

ثم قال البطل أحمد عبد العزيز

" إن أقصي ما نتمناه أن نموت شهداء إن الاستسلام للحياة جبن فالروح سلاحنا والجسد طلقة السلاح طلقة يجب أن نطلقها في أول مناسبة ولا انعدمت قيمة السلاح ..

وفي سرعة القذيفة انتقل القائد أحمد عبد العزيز إلى الحديث عن المعركة فقال إن المعلومات التي لديه تفيد أن الوثبة الأولي للقوات المصرية هي الخط ( غزة – بئر السبع) وأن الوثبة الثانية هي الخط ( المجدل – الخليل ) وأنه كان في انتظار الأوامر من الرئاسة على أثر البلاغات الحربية التي كان يبعث بها إليها ولكن الرئاسة لم تتكرم بالرد، وما دامت المعلومات التي لديه تفيد تحرك القوات المصرية تجاه المجدل لذلك فهو يري أن تتحرك قواته من الفدائيين في محاذاتها من ناحية الشرق فتتجه شمالا إلى الخليل وبأقصى سرعة ممكنة .

وكان مقررا أن يقوم الفدائيون بتشييع جنازة الشهيد أنور الصيحي..

ولكن أحمد عبد العزيز قال لهم ..

" إن أحسن تحية نحيي بها شهيدنا العزيز أن نودعه بأسرع ما يمكن ، ونزحف للإمام حتى نحقق الغرض الأسمى الذي يحضرنا جميعا لأجله .

وإني أعلم أن روحه سترتاح لتصرفنا هذا .. والآن .. هنا بنا ... إلى الأمام يا رجال "..

وفعلت كلمات القائد فعل السحر فذاب الآسي من النفوس وتحول إحساس الأبطال نحو زميلهم الراحل إلى مزيد من الفخر ، وارتفعت معنوياتهم كأقوى ما تكون معنويات الجندي الذي انطلق إلى الميدان وقد وهب روحه قربانا لوطن المفدى ..

وتحرك الرجال إلى الأمام بعد أن عهد البطل أحمد عبد العزيز إلى اليوزباشي محمود عبده ومجموعة من المتطوعين القيام بالدفاع عن بئر سبع ومضي أحمد عبد العزيز إلى الخليل .. إلى الأرض المقدسة ..

وفي الطريق أوفد القائد قوة برئاسة اليوزباشي حسن فهمي عبد المجيد إلى ( العسلوج) لتطهيرها من اليهود حيث تقوم على الطريق بين العوجة وبئر السبع وتهدد القوات المصرية ..

وبلغ أحمد عبد العزيز وقواته الخليل في الساعة الواحدة بعد الظهر .

وانطلق القائد البطل مباشرة إلى مقر المجلس البلدي للمدينة حيث اجتمع بأعضائه وشرح لهم مهمته ورجاله الأبطال .. ثم عاد ليقيم معسكره في مدرسة الخليل ..

وفي الساعة التاسعة في صباح السبت 22 مايو سنة 1948 خرج أحمد عبد العزيز ومعه ( أبو كمال ) لاستكشاف المواقع التي يقيم فيها مدفعيته عند ( بيت لحم) حتى يساعد الهجوم على ( راما تراحيل) التي تقع في الطريق بين بيت لحم والقدس .

كمال الدين حسين يروي هذه اللحظات كما ضمنها مذكراته عن أسرار حرب الصهيونية .. ومنها نري أى جو كان أحمد عبد العزيز يحارب فيه وكيف كان قادة الجيش الأردني يتعاملون مع العدو.

قال كمال الدين حسين:

"وعند مركز بوليس ( بيت لحم) شاهدنا 54 فتاة من المتطوعات في جيش الهاجانة أسيرات بين أيدي جنود الجيش الأردني ووجدنا الأسيرات يتمتعن بمعاملة طيبة جدا ويلقين من حراسهن كل رعاية وتكريم حيث تقدم لهن الحلوى والشيكولاته والسجائر ومضينا إلى بيت لحم ..

والتقينا بالقائد الأردني اليوزباشي حكمت مهيار فتحدث إلينا حديثا يفيض قوة وينبض فتوة ، وتكلم طويلا عن شرف الجندي وعروبة العربي وكيف أن كل قطرة في دمانا تثور اليوم لأجل الوطن الغالي الذي تلوثه أقدام الصهيونية الآثمة ثم أخص شخصه بالذكر وهو يضرب المثل الأعلى في التضحية وإنكار الذات ، وحين قال إنه هب يجاهد في سبيل الله والوطن والحق وباع ليشتري الآخرة .

ومن هذا الحديث الذي كان يتلون معه صوت الرجل قويا أجشا رأينا القائد الأردني عملاقا وطنيا وصورة من صورة البطولة والفداء وخصوصا عندما ثارت ثائرته وقال إنه هو وحده المسئول عن قيادة المنطقة ..

وكأنما أدرك قائدنا نقطة الضعف في الرجل وهي حب المباهاة والرياسة فابتسم وهون عليه الأمر وقال :

" لقد جئنا يا أخي للمعاونة فقط ، ولسنا بالطامعين في قيادة أو رياسة وبالتالي فنحن أزهد الناس في أن يقال إننا فعلنا أو بذلنا وسيكون الفضل كل الفضل لقيادتك والحمد كل الحمد لبطولتك ".

وازدهي القائد الأردني بعبارات قائدنا ، وتم الاتفاق بيننا وبينه وعلى أن يقتصر دورنا في المعركة على الضرب بالمدفعية والاشتراك بجماعة تقوم بالنسف والتدمير .

ودرسنا خطة الهجوم بوجه عام ثم عدت إلى الخليل وأحضرت المدافع اللازمة ، وبدأنا نضرب بها المستعمرة ضربا ناجحا جدا على حين قامت قوات المناضلين العرب بقيادة الالصهيونيةي( أبو دية ) وفرقة المفرقعات المصرية وقوات الأردن بالهجوم على المستعمرة من عدة جهات تحت ستار نيران المدفعية .

وبعد صراع دام ثلاثة أيا استطعنا أن نقتحم المستعمرة وعندئذ وقع ما لم يكن في الحسبان ، فقد اتجه القائد العربي حكمت مهيار وجنوده إلى السلب والنهب وانتزاع الغنائم ، دون أن يعني هو أو زملاؤه بتعقب العدو وتطهير أرض المعركة من ذيوله وآثاره وإنما رأينا جموعهم بعد قليل ترجع حاملة أكداس الأسلاب فترك هذا أثرا سيئا في نفوسنا ، نحن الذين كانت أعظم أمنية لنا أن نموت حتى نهب الحرية لأرضنا العربية وتبين لنا أن ( مهيار) هذا الذي توسمنا فيه البطولة والفداء والوطنية إن هو إلا ( مهياص) تافة كقطاع الطرق كل همه البحث عن الغنائم والأسلاب .

ولقد حدث أن أحد الجنود المتطوعين حذا حذو ( مهياص ) وأعوانه فشاهد في المستعمرة بقرة شاردة وقادها إلى معسكرنا ، وعندما رآه أحمد عبد العزيز سأله :

" لماذا جئت بهذه البقرة هنا"؟

فأجاب الجندي المتطوع :" حتى نذبحها ونأكلها "

ووضع القائد يده في جيبه وأخرج خمسة جنيهات وقال الجندي :

- خذ هذه اشتري بها خروفا ووزع لحمه على الجنود أما هذه البقرة فاذهب بها إلى البيت المتهدم هناك ، أتراه .. إن سكانه العرب قاسوا الأمرين من عدوان اليهود عليهم وسلبهم ممتلكاتهم وأمتعتهم .. قدموا لهم هذه البقرة فإنها اليوم من حقهم ..

- وحدث أيضا بينما كانت قواتنا تتقدم نحو المستعمرة أن حاولت احدي فتيات الهاجانة أن تعتدي عليها بقنبلة يدوية ولكن جنودنا تنبهوا وألقوا القبض عليها ، وبعد قليل جاء أحد الضباط الأردنيين وطلب من الجنود أن يتركوا الصهيونية الحسناء قائلا إنها في حمايته .

- وطبقا لاتفاقنا مع القائد الأردني صدرت الأوامر بأن ننسحب ونترك المستعمرة تحت رعايته وانسحبنا فعلا وأقمنا فيها استحكامات قوية صمدت أمامنا فترة طويلة .

معركة تحرير القدس

أحمد عبد العزيز يتولي تحرير القدس القديم من أيدي الصهاينة

ثم بدأ الهجوم على القدس .... وهي تبعد عن بيت لحم بنحو سنة كيلو مترات ، وكان اليهود من قبل يشنون الهجمات على القدس العربية بقصد احتلالها وطرد العرب منها .. ولكن أحمد عبد العزيز قاد هجمات عنيفة على العصابات الصهيونية جعلتها تتخذ موقف الدفاع .. واستمر الصراع 213 يوما سقطت بعده القدس القديمة في أيدي البطل أحمد عبد العزيز وقوات الفدائيين الأبطال الذين يتولي قيادتهم .. وفي ذلك كانت القوات المصرية النظامية قد انطلقت شمالا من غزة إلى دير سنيد ثم المجدل وأسدود ، واتجهت شرقا فاحتلت الفالوجا وبيت جبرين وطهرت ( نجبة) قبل أن تعمل شمال أسدود ، في طريقها إلى تل أبيب كما كانت طائراتنا المصرية تضرب تل أبيب وبتاح تكفا وراحابوت وريشيون ليزيون في المنطق غربي الخط الحديدي المتجه شمالا إلى حيفا .

وبينما كانت القوات النظامية المصرية تتجه بسرعة نحو القدس ولم يبق عليها غير ساعة ونصف الساعة تقريبا قام القائد أحمد عبد العزيز مع قائد مدفعيته كمال الدين حسين بالتوجه إلى مركز قيادة الجيش العربي في القدس ..

ويقول كمال الدين حسين :

" لقد وجدنا صعوبة كبيرة في محاولة التفاهم مع ضباطها وكنا ننتزع المعلومات منهم بشق الأنفس ، وقد بذل قائدنا أحمد عبد العزيز جهدا كبيرا في هذا السبيل ".

وفي صباح يوم الخميس 4 يونيو 1948 وصلت إلينا في بيت لحم القوات المصرية القادمة من بيت جبرين .

وأقيم لذلك حفل كبير لرفع العلمين المصري والالصهيونيةي على بيت لحم...

وفي نفس الوقت الذي أقيم فيه الحفل قام البطل أحمد عبد العزيز بتشديد حصاره على اليهود الموجودين في القدس الجديدة ويبلغ عددهم نحو مائة ألف يهودي ..

وبمناسبة احتفال رفع الأعلام وجدت بين أوراق البطل القائد خطابا مؤرخا ( بيت لحم في 4/6/ 1948) نسرد نصه الكامل لبيان جانبا من جوانب شخصية بطلنا الشهيد وسرا من أسرار عظمته .

ويبدو أحمد عبد العزيز في قمة عظمته وهو يقول في هذه الرسالة :

وفي الساعة 900 عند رفعكم العلمين الالصهيونيةي والمصري سأحييهما من مواقعي الأمامية بضرب مستعمرات العدو بالمدفعية وإرغامه بكافة أسلحتي على الاختفاء والانزواء في جحوره ..

ويقول البطل :

".... أعتذر عن حضور حفلة رفع العلمين الالصهيونيةي والمصري على بلدة الخليل التي دخلتها قواتي يوم 21 مايو 194 8 وذلك لدواعي حربية هامة ولضرورة مراقبة العدو والتربص له في أثناء هذه الحفلة .

وسيحضر هذا الاحتفال من قواتي الداورية الميكانيكية التي ستمر بالخليل وقت الاحتفال وعدد من جرحي قواتي ..

وهذه أعظم تحية نقدمها إلى العلمين الشقيقين ولأهال هذه البلاد العزيزة .

وتفضلوا بقبول أسمي احترامي ...

الهدنة ..!!

مؤامرة استعمارية..!!

أعلنت الهدنة الأولي وتلك كانت المفاجأة التي تغير لها وجه التاريخ في الوطن العربي .

كان الموقف حتى ذلك الوقت في صالح القوات المصرية ولكن إعلان الهدنة الأولي لمدة أربعة أسابيع والذي بدأ يوم 11 يونيو 1948 جاء في مصلحة الصهيونيين على طول الخط.

ثم بدأ الصهيونيون يستغلون فترة الهدنة في كل دقيقة منها لصالحهم وشنوا الهجمات خارقين بها قرار الهدنة واستشهد في مستعمرة العسلوج الشهيد أبو النجا عفيفي الذي أحرق الصهيونيون حثته مع عدد من الفدائيين والمتطوعيين العرب ..

وفي يوم 9 يونيو 1948 انتهت الهدنة الأولي وبعدها بيومين انسحب الجيش الأردني من ( اللد والرملة) فجأة وتركها لليهود، وتلك كانت نقطة التحول في تاريخ المعركة.

وحدثت خيانة عمان المشهورة .... ووقف أبطالنا وحدهم يواجهون العاصفة ..

ويقول البطل كمال الدين حسين ..

" وانتهز أحمد عبد العزيز الفرصة وقرر أن ينتقم من اليهود ويسترد ( عسلوج) التي انقضوا عليها أثناء الليل في أول أيام الهدنة وقتلوا جنودها غيلة وأحرقوا جثثهم فأوفد الزميل الصاغ محمد سالم عبد السلام إلى قوات الجيش المصري في غزة لتنسيق خطة الهجوم على العسلوج وكلف اليوزباشي حسن فهمي عبد المجيد بأن ينطلق على رأس قوة من الفدائيين لمهاجمة ذلك الموقع ..

وفي ذلك الوقت كانت قوات الفدائيين تواجه العاصفة وحدها في المستعمرات بين بيت لحم والقدس .. ومرت لحظات رهيبة سجلها القائد أحمد عبد العزيز في مذاكرته الخاصة " التي ننشرها في هذا الكتاب "

وبعد أسبوع من انتهاء الهدنة الأولي أعلنت الهدنة الثانية في 18 يوليو 1948 وكأنما الهدنة لم ترفع إلا لكي يسلم الملك عبد الله اللد والرملة لليهود .. وكانت مهزلة عجيبة دفعت أحمد عبد العزيز بأن يجلس مع رجاله ليتساءل .

ماذا فعلنا ؟ وفيم كل هذه التضحيات التي بذلناها ؟ وما هو موقفنا الآن ؟ ما الذي ينتظرنا اليوم وغدا وبعد غد؟

ويروي السيد كمال الدين حسين قائلا :

وفي إحدي أمسيات منتصف شهر محمد سالم عبد السلام 1948 كنت أرافق القائد أحمد عبد العزيز في طريقه عند عودته من أحد المواقع الأمامية إلى مركز الرئاسة عندما ترجلنا من السيارة ، وانطلقنا نسير في الطريق الجبلي ونتدارس أحوال قواتنا والموقف العام للقتال ، وما كنا نعانيه من مأساة الصهيونية ومن الجالسين على مكاتبهم الوثيرة في القاهرة ..

وفجأة التفت نحوي فيقي القائد وقال وقد غشيت وجهه سحابه من الألم المرير :

"اسمع يا كمال ، إن ميدان الجهاد الحقيقي ليس هنا وإنما هو في أرض الوطن في مصر .. فهناك ميدان الجهاد الأكبر .

ودوت هذه العبارة في رأسي ... ومضيت أبحث كل كلمة فيها .

وبدأ اليهود ألاعيبهم فبعثوا جواسيسهم في كل مكان ..

وكان أحمد عبد العزيز قد أقام مع قواته في ( صور باهر ) التي تسطير على المستعمرات المحيطة بالقدس الجديدة وتهدد الطريق المؤدي إلى القدس من الجنوب ... وفي يوم 19 محمد سالم عبد السلام 1948 شن اليهود هجوما ركزوا فيه كل ما في وسعهم من قوة على هذا الموقع ..

أحمد عبد العزيز معجزة من المعجزات

وهنا يقول البطل كمال الدين حسين :

" وعندئذ رأيت البطل أحمد عبد العزيز شجاعا جريئا مؤمنا استطاع أن يدمي قلوب اليهود ، ويدير رؤوسهم ويجعلهم يتخبطون كالسكاري وهم يشاهدون نيرانه تذيب هجومهم وتحصد أرواحهم ... كانت تلك المعركة أروع المعارك التي خاضها البطل .

فقد تجلت فيها خصائصه القيادية وبطولته وبراعته في فنون الدفاع والهجوم ودقته في التوقيت ، مهما حاولت أن أصفه في تلك المعركة فإن الكلمات في وصفه تبدو جامدة تافهة خرساء لأنه كان يومئذ معجزة من المعجزات بل كان يصنع آخر المعجزات ، فقد كان على موعد قريب مع القدر ..

ففي صباح اليوم التالي ( 20 محمد سالم عبد السلام 1948) تسلم أحمد عبد العزيز مذكرة من مندوب لجنة الهدنة الأمريكي عن فكرة عقد اجتماع مع القائد اليهودي ورئيس المراقبين الدوليين ومندوب الصليب الأحمر ، للنظر في المشاكل التي نتجت عن احتلال اليهود للمنطقة المحرمة الخاضعة للصليب الأحمر وعندما حان موعد الاجتماع قصد أحمد عبد العزيز تجاه القدس ولكنه في الطريق فوجئ باليهود يطلقون الرصاص على سيارته فاضطر للعودة وبعث احتجاجا للجنرال رايلي وفي يوم الأحد 23 محمد سالم عبد السلام دعي لحضور المؤتمر مرة أخري ..

وذهب أحمد عبد العزيز ....

وكان هناك الكولونيل عبد الله التل ..

ودار الحديث حول اعتداءات اليهود ..

وأصر أحمد عبد العزيز على تسجيل العدوان اليهودي على أموال العرب بالإضافة إلى عدوانهم على أرواحهم وأبي أن يفرط في شبر مما كسبه أبطالنا بدماء شهدائنا ..

كما رفض أحمد عبد العزيز أن يجلس إلى المنضدة التي جلس أمامها القائد اليهودي موسي ديان احتقار له والعصابة قطاع الطرق التي يقودها ..

وعندما انتهي الاجتماع رأي القائد أن يبلغ بنفسه ما دار في المؤتمر فورا إلى الرئاسة العامة للقوات المصرية في غزة ..

وفي الساعة الرابعة مساء غادر أحمد عبد العزيز مقر الاجتماع في طريقه إلى معسكر قواته حيث استبدل ملابسه ثم انطلق إلى بيت لحم ومنها إلى عراق المنشية حيث كانت ترابط احدي كتائب القوات المصرية .. وتقدمت سيارة أحمد عبد العزيز نحو عراق المنشية وعندما لم يبق بينها وبين مواقع الكتيبة المصرية غير 500 ياردة تقريبا دوي طلق ناري ..!!!

واستشهد أحمد عبد العزيز .... ونال في اللحظات الأخيرة الهدف الذي كان يسعي إليه منذ البداية .

ونجحت الهدنة والاستعمار والغدر والخيانة والفساد الضارب وراء جدران السياسة العربية وقتئذ في تعويق العرب عن بلوغ الهدف الأسمى وهو تحرير الصهيونية ..

وعادت قواتنا

وفي طريق العودة .. في أوائل عام 1949 – كانت قوات الفالوجة عائدة أيضا إلى أرض الوطن .. وفي احدي خيام معسكرات العريش كان يجلس الرائد جمال عبد الناصر أركان حرب القوة المصرية التي كانت محاصرة في الفولوجا ورئيس التنظيم في صفوف الضباط الأحرار وكان إلى جانبه يجلس كمال الدين حسين وكان الحديث يدور حول ... أحمد عبد العزيز .

وكانت كلمة عبد الناصر :

" هذا صحيح . إن معركتنا الحقيقية في مصر .."!!

لحظة استشهاد أحمد عبد العزيز

وفي الأسبوع الأخير من محمد سالم عبد السلام 1948 كانت قواتنا بقيادة البطل أحمد عبد العزيز قد قطعت تماما شمال الصهيونية عن جنوبها بخط متصل ما بين بيت لحم وبين المجدل وكان الشهيد مشرفا على الصهيونية وقد قربت أن تسقط في يده لو أمهله القدر يوما واحدا قبل أن يذهب .

وفي مساء يوم 23 محمد سالم عبد السلام 1948 وقواتنا تتحكم في الطريق الأسفلت الذي يمر أمامها ، والذي يحاول اليهود في الليل أن يستغلوه لتهريب بعض عرباتهم بإمدادات وتموين لجنوب الصهيونية لتمويل مستعمرات النقب المحصورة .. وكانت قواتنا تتصيد هذه العربات التي كانت تفتح أنوارها ونخرج فجأة إلى الخط وتتساقط كأوراق الخريف ، وقد تمر منها عربة تحمل أى شئ لليهود المنعزلين في الجنوب ... وقد أتاحت هذه العربات الإسرائيلية التي تفتح أنوارها دائما على جنودنا سرعة البدء لإطلاق النار على أى نور يظهر في هذا الطريق على أساس أنها محاولة يهودية لتهريب تموين الجنوب وكان المفروض في حالة تقدم عربات مصرية أن تخطر نقط الجنود ..

وفي نفس هذا اليوم كان أحمد عبد العزيز قد تلقي من رئاسة القوات المسلحة أوامر أصدرها له أولئك الذين كانت المعركة لا تهمهم في شئ ورأي البطل أن تنفيذ هذه الأوامر سيسئ إلى المعركة وأنه ليس من الصالح العام في شئ تنفيذها... كما كان لابد أن يحيط رئاسة القوات المصرية بمحادثاته مع رايلي.. وصمم أن يتوجه فورا لتنفيذ كل هذا ... واجتمع ضباطه ليثنوه عن عزمه خوفا من السير ليلا في هذه المنطقة .

ولم يكن أمام أحمد عبد العزيز إلا تنفيذ هذه الأوامر أو عدم تنفيذها والتوجه بأسرع ما يمكن لمناقشتها مع رئاسة القوات .. واختار أحمد عبد العزيز الطريق الثاني .. لن ينفذ هذه الأوامر وسيذهب لمن أصدروها لمناقشتهم بعد أن يطلعهم على ما دار بينه وبين موسي ديان وكبير مراقبي الهدنة .

وصعد البطل أحمد عبد العزيز إلى عربته وكان في صحبته السيد صلاح سالم.

وعند عراق المنشية فتحت النيران على عربة أحمد عبد العزيز وأصيب أحمد عبد العزيز.

ونزل صلاح سالم ليذهب بأحمد عبد العزيز خارج العربة إلى موقع مستور وهو يصيح بأعلى صوته :

" بطل ضرب .... أوقف الضرب .. أحمد عبد العزيز أصيب "..

ووقف الضرب ..

وكان أحمد عبد العزيز ينزف دمه الطاهر الزكي من جراء الرصاصة التي دخلت إلى جسده الطاهر بعرضها ، فمزقت الطحال وأحدثت نزيفا داخليا ..

وبعد 3 دقائق استشهد أحمد عبد العزيز ... وفاضت روحه إلى عنان السماء لتسجل للعالم العربي كله المثل الأعلى الذي صمم الشهيد على تسجيله منذ أول لحظة خرج فيها من الأزهر إلى المعركة ..

ودفن في الأرض الطاهرة التي ذهب من أجلها وصمم على حمايتها وحيتها وعروبتها ... وعندما نقل جثمان البطل من غزة إلى مقبرة الشهداء كانت البقعة التي دفن فيها أحمد عبد العزيز قد اخضرت وأينعت .. وفت ذلك نظر من اشتركوا في عملية نقل جثمانه الطاهرة ، وكان منهم اللواء عبد الحليم البارودي مدير سلاح الحدود في ذلك الوقت

الفدائي الأول

وكب البطل كمال الدين حسين يقول :

" واستشهد الفدائي الأول البطل الذي كان كلما رأي واحدا من أفراد قواته مصابا بجرح في المعركة قال له :

- لماذا تظفرون وحدكم بهذه الأوسمة في حين لا يصيبني شئ منها .

- وحقق أحمد عبد العزيز الأمنية التي طالما جاشت بصدره يوم قدم دمه بيده في سبيل الوطن العربي دون أن يعنيه ما إذا كان الموت سيقطع عليه الطريق أم سيتركه يمر بسلام .

صلاح سالم يكشف أسرار مقتل أحمد عبد العزيز

كتب السيد صلاح سالم مقالا يكشف فيه أسرار مقتل البطل أحمد عبد العزيز قائلا :

" هل يذكر الناس شهر محمد سالم عبد السلام 1948 ؟

لقد ذهلوا وهم يقرأون نبأ صغيرا في سطور .

وكان النبأ قاسيا، يحمل لهم في كل حرف منه طعنة مسمومة !

وكان أحمد عبد العزيز أحد الأبطال الذين تعلقت بهم الآمال ولهذا كان للنبأ أثر عميق في النفوس ، قابله الجميع بوجوم !

وقيل: إن الأعداء قتلوه ، والقيادة تخفي الحقيقة !

وقيل : بل هم الذين يغارون من أحمد عبد العزيز !

وظلت الحقيقة مختفية وراء هالة من الغموض طيلة هذه السنوات هل يعرف الناس من كان مع أحمد عبد العزيز آخر لحظاته ؟

إنه الصاغ صلاح سالم ..

وقد طلبت مجلة التحرير) من الصاغ صلاح سالم ، أن يكشف القناع عن السر الغامض ، الذي اختفي عن الناس هذه السنوات الطوال فكتب للتحرير المقال التالي :

" شهر أغسطس عام 1948

إن القتال بيننا وبين أعدائنا في الصهيونية قد وقف ، تنفيذا للهدنة ولكن الواقع أنه لم يكن يمر يوم حتى يقع صدام مسلح في جزء من أجزاء الجبهة.

وكانت القوات المصرية إذ ذاك تشطر الصهيونية إلى شطرين ، من جنوب القدس مباشرة إلى الساحل شمال أسدود، وكان الصهيونيون في جزع شديد على مصير ما يربو على ثلاثين مستعمرة صهيونية في جنوب الصهيونية عزلتها القوات المصرية تماما .

وحاولت قوات اليهود أن تكسر الحلقة المصرية التي تعزل المستعمرات دون جدوى ، فأخذوا في تموين المستعمرات تارة بالطائرات وتارة بالتهريب القوافل ليلا . وكثيرا ما كانت هذه القوافل تقع في كمائن القوات المصرية .

وبهذه المناسبة أذكر أحد رجالنا الصامتين الشجعان قد هاجم في ليلة من الليالي ، بعدد محدود من الجنود قافلة ضخمة من السيارات كانت محملة بالمأكولات ، وكانت تمر بجوار الفالوجا ، واستطاع هذا الصامت الشجاع أن يستولي على تحمله القافلة ،، وظلت محتويات هذه القافلة وخاصة من ( البقسماط) هي عماد قوة الفالوجا ، حتى قرب نهاية حصارها هذا الصامت الشجاع هو اليوزباشي حسن التهامي .

أما القطاع الشرقي الواقع جنوب القدس ، وشمال بيت لحم فقد كانت تحتله قوات الشهيد أحمد عبد العزيز وكانت القوات تسمي القوات الخفيفة تارة وقوات الكوماندوس تارة ثانية وكان عما هذه القوات من المتطوعين .

وفي هذا القطاع كانت المناوشات مستمرة طول فترة الهدنة تقريبا ،

وفي جزء منه كانت الأسلاك الشائكة المصرية واليهودية – متلاصقة ، ولقد رأيت في بعض أجزائها الأسلاك مثبتة في أوتاد مشتركة، ولهذا كان التوتر في هذا القطاع .

هذه مقدمة لابد منها للحديث عن حادث مقتل الشهيد ( أحمد عبد العزيز ).

بل إن المقدمة لم تنته بعد..

لقد فرغنا في حوالي منتصف شهر محمد سالم عبد السلام من تخطيط خطوط الهدنة وتحديد القطاعات على طول الجبهة، تحت إشراف مراقبي الهدنة ولكن ما أن انتهينا من هذه المهمة ، حتى توالت اعتداءات اليهود على المناطق الحرام فاحتلوا في منطقة القدس منطقة الصليب الأحمر وأنزلوا أعلام هذه الهيئة الدولية كما احتلوا بعض المباني القريبة من هذه المنطقة الحرام ..

ولا يفوتني أن أسجل هنا الجهد الكبير الذي بذله القائمقام إسماعيل شيرين في تخطيط خطوط الهدنة مع مراقبي الأمم المتحدة، كما أسجل عنه انه كان يمضي معظم الأيام سائرا على قدميه مع المراقبين لمسافة عشرات الأميال في القطاع الأوسط ، حيث يتعذر مسير السيارات الخفيفة .

والذي حدث أن اعتداء اليهود أحدث دويا دوليا ، وأثير الموضوع في مجلس الأمن ، وصدرت قرارات كانت طبعا حبرا على ورق واحتج اليهود بأن القوات المصرية والمتطوعين خاصة قد احتلوا جبل المكبر وأنهم لن يتركوا المنطقة التي احتلوها إلا إذا أخلي المصريون هذا الموقع الحيوي لكي يسطوا هم عليه ثمن وبذلك يهددون طريق المواصلات الوحيد بين القوات المصرية وجنوب القدس والقوات الأردنية في القدس القديمة .

وأمام هذا الدوى العالمي اتصل الجنرال رايلي بالحكومات المصرية والأردنية والإسرائيلية ووافقوا على عقد مؤتمر برياسته يحضره مندوبون عن القوات العسكرية لهذه الحكومات وحدد موعد هذا المؤتمر ، يوم مقتل الشهيد عبد العزيز كما حدد مكان الاجتماع في الشقة الحرام بين الخطوط الأردنية واليهودية في القدس وبالتحديد في دار كانت قنصلية بريطانيا فيما مضي .

وصلت هذه الأوامر للقيادة العامة المصرية في الميدان وكانت وقتئذ في المجدل ، وكان يتولي القيادة العامة اللواء المواوي وكنت أحد أركان حربه فطلبني القائد العام وسلمني أوراق هذا المؤتمر وأمرني بأن أنوب عنه فيه .

وكانت التعليمات التي لديه صريحة ألا تتخلي القوات المصرية عن شبر من الأراضي التي استولت عليها بدمائها .

وفهمت من القائد العام أن الشهيد أحمد عبد العزيز سيحضر المؤتمر بصفته القائد المحلي للقطاع المتنازع عليه ..

وبدأت العمل فورا فأرسلت تعليمات القائد العام لأحمد عبد العزيز بالشفرة اللاسلكية وركبت في الليلة السابقة للاجتماع سيارة جيب من المجدل في طريقي إلى المؤتمر وكان معي اليوزباشي محمد الورداني وكان قد وصل الميدان لأول مرة منذ ساعات قليلة ، وأبدي رغبته في أن يصحبني ليأخذ فكرة عن الجبهة ..

وسلكت طيقا طويلا استغرق طول الليل كنت أقصد المرور على بئر سبع أولا لقضاء بعض الأمور فوصلت إلى بيت لحم في الصباح بعد الموعد بحوالي نصف ساعة ، فوجدت أن الشهيد أحمد عبد العزيز قد توجه إلى المؤتمر يصحبه الصاغ حسن فهمي عبد المجيد.

وفي القدس التقي الشهيد بالوفد والجنرال رايلي وعبروا جميعا خطوط الهدنة أعلام الأمم المتحدة مترجلين إلى حيث عقد الاجتماع وعبر الوفد اليهودي في نفس الوقت واتفق الطرفان على وقف إطلاق النيران خلال عبور الوفود .

وما أن علمت بهذا حتى بدأت حيرتي .

كيف أصل أنا إذن إلى مكان الاجتماع ؟

تركت بيت لحم وتوجهت إلى القدس القديمة وقصدت إلى القيادة الأردنية أسألها عن المكان الذي عبرت منه الوفود إلى مكان الاجتماع فأرسلوا معي سيارة مصفحة دلتني على المكان .

وأصبح أمامي إشكال .

كيف أعبر مع الورداني الشارع الفاصل بين القوات اليهودية والأردنية لأصل إلى المبني الذي فيه الاجتماعات ؟

وإذا ضمنت ألا أصاب برصاص الأردنيين فكيف أضمن ألا أصاب برصاص اليهود ؟

ولم تكن المسافة التي نريد قطعها تزيد على خمسين ياردة! وفكرت في قطعها عدوا ، متذكرا أمثال القائل " السرعة خير ردع من النيران" ولكن كثرة المزاعل في العمارات المحيطة بنا أقنعني تماما بأننا هالكون لا محالة حتى لو قذفونا بالطوب من هذه المسافات القريبة فضلا عن أن عدونا قد يثير حولنا الشبهات

وخطرت لى فكرة

تقدمت إلى سيارة الجنرال رايلي و وانتزعت أعلامها وحملنا الأعلام عبرنا الطريق ببطء كريه ، رافعين أعلام الأمم المتحدة .

لم يتجاوز الزمن الذي قطعنا فيه المسافة نصف دقيقة ولكنها كانت في حدود الظروف التي كنا فيها تجاوز دهرا كاملا .

كان المبني يعج بالصحفيين من جميع الجنسيات .

وفي غرفة الاجتماع كان الجنرال رايلي في مقعد الرياسة وكان القائد عبد الله التل يرأس الوفد الأردني أما الوفد الإسرائيلي فكان يرأسه الثعلب الماكر الكولونيل ديان ، البولندي الأصل ، والذي خاض الحرب العالمية الثانية وحارب في الجبهة الروسية ، وفقد فيها احدي عينيه ، فداراها بغطاء أسود من القماش.

وكان الشهيد أحمد عبد العزيز في هذا الوقت يخطب مزمجرا ثائرا فانتحيت مع الصاغ حسين فهمي عبد المجيد جانبا ، وفهمت منه ما وصل إليه الموقف وعرفت أن الجانب المصري قد سلك مسلكا مخالفا في بعض التفصيلات لتعليمات القائد العام التي لم يكن على علم بها .

وهمست في أذن الشهيد أحمد عبد العزيز بتعليمات القائد العام.

كانت المناقشة دائرة حول إيجاد منطقة محايدة قد تمس جبل المكبر مما يؤدي إلى أن تنسحب منه قوات المتطوعين بقيادة القائد السنغالي الشجاع عبد الله الأفريقي ، الذي كان يقف من بعد يزمجر متحديا أى أمر سيصدر إليه بترك موقعه حتى ولو كان من القيادة المصرية وكان وجهة نظر عبد العزيز أن هذا التخلي سيقابله تخل عن بقعة هامة في يد اليهود إذ ذاك.

وربما كان عبد العزيز على حق ، وربما كان المواوي على حق وكان على أن أنفذ تعليمات المواوي وكنت فعلا أؤمن بها .

وقد وافقني الشهيد عبد العزيز عندما علم بوجهة نظر القيادة العامة وطلب مني أن أوضح هذه التعليمات للمؤتمر .

وانتهي الاجتماع حوالي الساعة الثالثة بعد الظهر بقرارات تقضي بسحب القوات اليهودية في خلال أربع وعشرين ساعة من المنطقة التي احتلها ووقف إطلاق النيران على طول الجبهة فورا ، ومطالبة الحكومات بالنظر في موضوع خلق منطقة حرام ، على أن تصل ردود الحكومات في خلال أسبوع على ما أذكر .

وعدنا إلى بيت لحم ،ووصلنا قبيل الغروب بحوالي نصف ساعة وهناك قابلنا كمال حسين ، وكانوا ينادونه ( بأبو كمال ) ولم نكن قد تذوقنا طعاما طول اليوم.

وأخذت سيارتي الجيب ومعي الورداني والسائق ، وفضلت أن أقودها بنفسي واستأذنت في الانصراف لأني كنت أنوي أن أصل القيادة العامة في المجدل في الليلة نفسها .

كنت أفكر في الطريقة التي نستطيع بها أن نرغم اليهود على احترام هذه القرارات ولم تكن هناك وسيلة إلا القوة ، ولا هذا كنت أريد أن أوضح ذلك للقائد العام ، حتى إذا ما اقتنع كان عليه أن يقنع الأزهر ، وربما السراي ! التي كان أصغر من فيها يملك من قوة توجيه حملة الصهيونية أكثر مما يملكه القائد العام نفسه ! حتى إذا ما اقتنع الجميع احتجنا لوقت ننقل فيه الأسلحة خاصة المدفعية لتعزيز أية عمليات في هذا القطاع كان الوقت الباقي أمامنا لا يزيد عن ثمان وأربعين ساعة مضي منها أكثر من ثلاث ساعات في الطريق الوعر بين القدس وبيت لحم..

وطلب مني الشهيد عبد العزيز مرارا أن أقضي الليلة معهم ولكني أوضحت له وجهة نظري فأصر على مرافقتي ولعب القدر لعبته الساخرة ، فإن رجاله خصوصا كمال الدين حسين رأوا عدم سفره في تلك الليلة ، لا حتمال أن يقوم اليهود بهجوم كبير ولكنه صمم على مرافقتي .

والواقع أنه لم يكن هناك ما يدعوه لمرافقتي ، ولكني كنت أحس ما في نفسه فلم تكن العلاقات بينه وبين القائد العام طيبة .

وانتحيت بحسن فهمي جانبا وأفهمته أنني لن أبلغ القائد العام إلا النتيجة التي وصلنا إليها دون تعرض لما قد يزيد ما بين القائدين تعقيدا .

وأدرت السيارة واستأذنت في السير ، ولكن الشهيد عبد العزيز اقترح أن أنتظر هنيهة لأتناول بعض ( السندوتشات) وما أن وصلت حتى بدأت أتحرك بسيارتي .

ولعله القدر هو الذي جعل الشهيد يرافقني بعد أن تحركت ليركب بجواري في السيارة فانتقل الورداني بجوار السائق في المقعد الخلفي .

ولعله القدر هو الذي أنقص وقود السيارة مما قد يحتاج معه إلى وقت لكي يستكمل هذا الوقود.

ومضينا .. وكلما كان الظلام يتكاثف كلما كان عالم المجهول يقترب منا .

لقد كنا نسير في منطقة يستولي عليها التوتر بسبب الثلاثين مستعمرة المحزومة بقوات مصر ، ولم تكن مسافة بسيطة ولكنها كانت تبلغ مائة وخمسين كيلو مترا .

وكنت أعر كلمة سر الليل وكانت ليلتها ( غزة).

وقطعنا المنطقة الخطر من الخليل إلى بيت جبرين وبعدها بقليل في قطاع كانت تحتله قوات غير نظامية من الالصهيونيةيين ، بدأت المواقع توقفنا، الموقع تلو الموقع ، فما أن يعرفوا شخصياتنا ، حتى يتركونا نمر، داعين لنا بالسلامة .

وحتى اقتربنا من بلدة " عراق المنشية " وهي بلدة تبعد عن الفالوجة شرقا كيلو مترين .

وعلى بعد ستمائة ياردة من مواقع البلدة ، سمعت صوت عيار ناري ولمحت وميض الطلقة ، خارجا من خنادق البلدة .

وسمعت في الوقت نفسه أنين أحمد عبد العزيز ، الذي كان يطوقني بذراعه ويهمس في أذني طوال الطريق ، بكلام لا يريد أن يسمعه مرافقانا ،

وضغطت على فرامل السيارة فوقفت في مسافة مترا أو مترين وانحرفت نتيجة ذلك خارج الطريق المرصوف بقليل .

وكان نور السيارة مضيئا .

وقفزنا جميعا إلى الأرض ورقد الشهيد يئن ويتوجع .

وبعد لحظات بدأ خط الدفاع عن القرية يطلق نيران الأسلحة الصغيرة ولحسن الحظ كنا على مسافة بعيدة فرقدنا جميعا على الأرض مستترين في ثناينا خفيفة من الأرض ، وطلبت من السائق أن يرفع يده بين وقت وآخر و وهو يرقد بجوار السيارة ويفتح نورها ويطفئه حتى تتبين الحامية أن السيارة ليست معادية .

وفي نفس القوت حاولت أن أتبين مدي إصابة عبد العزيز ، ولكنه كان غارقا في بحر من الدم .

وأمرت السائق أن يدير السيارة لنعود بها إلى بيت جبرين التي تقع خلفنا بمسافة عشرين كيلوا مترا ، برغم علمي أنه لم يكن بها طبيب .

وبدأت الحامية تطلق قنابل مضيئة من الهاون بالبراشوت ، وكان هذا تمهيدا لضرب المنطقة بالهاون ، وربما بالمدفعية .

وتردد السائق ، ولكني أمرته بصرامة ، فقفز في السيارة خائفا وسمعت السيارة تدور ثم تتوقف الماكينة ويقفز منها السائق قائلا إنها ( خربانة ) .

وطلبت من الورداني أن يعني بالمصاب ، وقفزت أنا إلى السيارة وأدرت الماكينة فدارت ، ولكنها لم تتحرك إطلاقا .

وأحسست أن رأسي تكاد تنفجر ، فلو أن الأمر كان أمر إنقاذ حياتنا لسهل علينا أن نسير إلى بيت جبرين ، ولكن كيف نترك هذا القائد الشجاع ، يعاني الآلام وتتعرض حياته للخطر ؟ وكيف نستطيع أن نحمله هذه المسافة الطويلة خاصة وأنه قد بدأ يصاب بالإغماء من فرط ما نزف من دمائه ؟

ولم يكن هناك سوي حل واحد ، وهو أن تقف هذه النيران لنصل بالجريح إلى حيث يمكن أن يعالج ، وتنقذ حياته وإن كان قد قدرت له بقية من الحياة .

ولم يكن صوتنا بقادر على أن يصل إلى موقع الحامية فكان لابد من أن يتقدم أحدنا ويقترب من الحامية ، ويصبح بسر الليل ولم يكن هناك بالطبع سواي ليقوم بهذه المهمة ، فكفي الورداني ما رآه في يومه الأول في الميدان .

وزحفت ما يربو على أربعمائة متر على يدي ورجلي وبدأت أصيح بكلمة سر الليل وبشخصياتنا وبأسماء قوادهم الواحد تلو الآخر .

وهنا سمعت صوتا يأمرني بالوقوف ورفع يدي فأذعنت له ، ثم سمعت أمرا بالتقدم نحوهم ففعلت في خطي مهمومة منتظرا بين لحظة وأخري طلقة تضع نهاية لهذا اليوم المشئوم .

وتعرف على الجنود واصطحبتهم إلى حيث يرقد الجريح وحملناه إلى السيارة ودفعناه حتى وصلنا البلدة ، حيث نقلناه إلى سيارة أخري وذهبنا إلى الفالوجة فوصلناها بعد ربع ساعة .

وهناك كان الطبيب ينتظر ولكن المنية كانت قد أسرعت إلى البطل الشهيد قبل أن يدركه طب الطبيب.

وقرر الطبيب أن موته كان محققا حتى لو أرسلت غرفة عمليات في مكان إصابته ، لأسباب فنية أبداها .

وفهمت أن سر تعجل قوات هذه الحامية في إطلاق النيران هو أن هذه المنطقة شهدت قبل وصولنا بدقائق معركة بين رجال الحامية وإحدى قوافل اليهود التي أرادت اقتحام الموقع عنوة ، للوصول إلى مستعمراتها المحصورة وقد ردتها القوة المصرية وبعد دقائق لمحت القافلة سيارتنا دون علمهم بمرورنا فظنوها سيارة معادية فأطلقوا عليهم النيران .

واتصلت بالقائد العام تليفونيا من مكتب المرحوم السيد طه ، وأخبرته بما حدث فأمرني بعدم إتمام رحلتي حتى الصباح ، وبالطبع لم تغمض لنا عين طوال الليل .

وفي الصباح الباكر توجهت إلى القيادة العامة وكانت أعصابي تتمزق من السهر طول ليلتين، قطعت فيهما أكثر من ثمان مائه كيلو متر .

وقابلت القائد العام فقابلني ثائرا ثورة جامحة :" لماذا حضرت؟ ما هذا الجنون ؟ لماذا حضر هو ؟ لماذا لم تنتظر حتى الصباح ؟"

وكانت الإجابة على كل هذه الأسئلة هي " القدر "

استشهد أحمد عبد العزيز

ولم يأخذ نيشانا ..

ولكنه حصل على عدة كؤوس وميداليات من الأمور الجديرة بالتسجيل في حياة بطلنا الشهيد أنه قضي حياته كلها واستشهد ولم يأخذ نيشانا من أولئك الذين كانوا يحكمون بلادنا في ذلك الوقت...

وكان أحمد عبد العزيز يعتز دائما بذلك... ثم يقول وهو يشير إلى المجموعات الضخمة من الميداليات والكؤوس التي حصل عليها ببطولته وتفوقه :

- هذا هو ما أفتخر به فقط.

ومما يذكر أن الملك في ذلك الوقت كان كلما رأي في احدي حفلات الفروسية أحمد عبد العزيز يطلب من كبير ياورانه العمل على إلحاقه بحرسه الملكي الخاص ، وسرعان ما يأتي الرد الذي كان يسمعه فؤاد من قبل كلما أبدي هذه الرغبة :

- إن أحمد عبد العزيز اتهم بقتل ضابط بريطاني .

ويصمت الملك ويزداد تشبثه بالمقعد الذي يجلس عليه ..

وإلى جانب ما حصل عليه أحمد عبد العزيز من كؤوس وميداليات .. حصل عليها بتفوقه وكده وامتيازه نجد لدي أحمد عبد العزيز أروع مجموعة من الرسائل التي كان زملاؤه وتلاميذه ومواطنوه يرسلونها إليه في الميدان وفي بيته كلما حقق نصرا للعروبة ..

ومن هذه الرسائل رسالة من زميل للبطل كان قائدا لالآي الإشارة للمنطقة الساحلية وبتاريخ 10 / 6/ 1948 يقول فيها :

" أخي أحمد

سلام الله عليكم ورحمته وبركاته ...

مهما قلت ومهما كتبت من عبارات التقدير والثناء على همتك العالية وإخلاصك وتفانيك في الجهاد في سبيل الله فلن أوفيك حقك ، ولن أتمكن من أني أرضي نفسي لعجزي عن وصف حقيقة شعوري نحوك، وغاية ما قد يصبرني على تصوير شعوري هذا نحوكم ومن معكم من المجاهدين هو اعترافي بهذا التقصير .. وغاية ما يهون على نفسي هذا الأمر أن أنزع إلى الله القدير وأطلب منه لكم التوفيق والسداد وأن يمدكم بروح من عنده إنه سميع مجيب ... أنا ومن معي نتبعك بأرواحنا ونتنسم أخباركم بكل مشاعرنا وندعو لكم بكل قلوبنا ونمجد أعمالكم بكل قوتنا .. كافأك الله عن عملك هذا بأحسن الجزاء وأجزل لك العطاء ومهما كوفئت من رتب ونياشين فلن توف حقك جزاء ما فعلت وضحيت والله الواحد القهار القوي المتين هو الذي سيوفيك حقك كاملا غير منقوص ...

رعاك الله يا أحمد وحرسك بعينيه التي لا تنام وحماك ومن معك بعينه التي لا تغفل ، وسدد خطاكم إنه سميع مجيب والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته مشفوعا بتهنئتي القلبية على انتصاراتكم وعلى تفوقكم وإحرازكم رضي الله والناس جميعا فأنت أهل لكل هذا فهنيئا لك . دمت في حفظ الله .

المخلص الفخور بكم

( بكباشي محمود مختار )

رثاء القائد

وقد رثي الجيش في الصهيونية أحمد عبد العزيز في بيان لقائد القوات المصرية في الصهيونية قال فيه ..

- لقد وقفت أمام حكمة الله – عزوجل – أدعو الله أن تظل روح البطل روحا ملهمة لكل جنودنا في الميدان .... كان أحمد عبد العزيز في مواجهة الموت دائما وما بذل في معاركه كلها أى جهد ليقي نفسه الأخطار المحيقة به وكنت أنصحه بان يقلل من تعريض نفسه للأخطار وكان يضحك ويقول :

- " نحن قوة من الفدائيين ".

- ثم شاءت إرادة الله العليا أن يذهب برصاصة طائشة وأن يبقي ذكري الجندي الكامل ... ومثلا للإيمان الصادق .

نعي وزارة الدفاع

كما نعته وزارة الدفاع بقولها :

" كان له فضل كبير في نجاح معركة القدس وغيرها من المعارك التي خاض غمارها وقاد فيها رجاله بشجاعة وبسالة ومقدرة فائقة في جولته الموفقة من غزة إلى بئر سبع ثم الخليل إلى بيت لحم فمعركة القدس مجابها العدو بعزم صادق وبأس شديد فأضرم في صدور المجاهدين نارا لا تخمد وأوقد في قلوبهم شعلة لا تهدأ وملأها بحب التضحية والفداء .. جزي الله الشهيد خيرا على ما أخلص لأمته ن حب ووفي لها من عهد ... وله وللشهداء جميعا المجد والخلود وهم أحياء عند ربهم يرزقون "

أحمد عبد العزيز في مذكرات أحمد عبد العزيز

بدأ أحمد عبد العزيز مذكراته في يوم الأربعاء 31 مارس سنة 1948 ولكنه لم يتمها .. كان أمله أن يراها كتابة ومرجعا..

وأنني أورد هنا نص ما أعده البطل الشهيد من هذه المذكرات ..

هذه صفحات من حياة فرقتنا ، فرقة المتطوعين ، ولقد كنت وأنا في الميدان أحاول أن أدون – كلما سمحت الظروف – ما تواجهه هذه الفرقة المجيدة مما قسم لها في ميدان القتال .. ولم أكن أعدها لتنشر ، ولهذا لم يكن هناك مفر – وقد تقرر أن تنشر منها صفحات – من أن أحذف الأسرار التي قد يفيد منها العدو وما أظنني قد حذفت كثيرا فإن السر الأكبر لفرقتنا هو الروح التي تعمل بها وهي ليست سرا على العدو ! " ضعوا كل شئ في موضعه .. في أن النظام

هو أمر الإله الأول "... ( دريدن)

الأربعاء 31 مارس سنة 1948

إن هذا اليوم هو أسعد أيام حياتي :

لقد قابلت اليوم محمد حيدر باشا ، وأنا مؤمن أن هذا الرجل سيترك في جيش مصر أثرا لا ينسي .. إنه رجل جبار وأنا أتتبع خطاه منذ زمن طويل .

وقال لى وهو يصافحني :

" يا عبد العزيز إنني أتتبع خطاك منذ كنت عضوا في لجنة الحكام في مباريات الفروسية وكنت متسابقا دائما فيها .

وعندما نلت جائزة فاروق الأول للموضوعات العسكرية وضعت عيني عليك وعرفت أنه سيجئ يوم تكلف فيه بعمل هام .

إن أمامك مهمة خطيرة .. وأنا أرجو كفارس قديم أن ينجح واحد من الفرسان في مهمة خطيرة .. ولقد قررت أن أعهد إليك بقيادة القوات الخفيفية ".

وبينما نحن نتحدث دخل عزام باشا .

واستمر الحديث وعلمت أن الجامعة العربية ستعهد إلى بقيادة فرقة المتطوعين التي تم تكوينها من أبطال ذوي همة وعزم .. أبطال من مصر رجال عاديين وضابط جيش وجنود طلبوا الاستيداع ليجاهدوا متطوعين من أجل الصهيونية ... وأبطال من ليبيا ومن تونس ومراكش والسودان ومن غيها من البلاد العربية المجاهدة ..

ولقد حدد عملي ورسمت لى مهمتي وهي تتلخص في ...

وقال لى حيدر باشا وهو يشد على يدي بعد أن أديت له التحية العسكرية ليكن شعار قوتك"

" اضرب ، واضرب بكل شدة ..’ إذا عرفت أحوال عدوك استطعت أن تتفوق عليه ( فردريك الأكبر)

العريش في 6 إبريل سنة 1948

أعددت كل شئ وغدا تسلل عند منتصف الليل عبر الحدود مع الملازم أول ( ص) وهو مثلي من الذين طلبوا إحالتهم علي الاستيداع لينضموا إلى صفوف فرقتنا ... فرقة المتطوعين ..

ولقد التقيت به أمس في القاهرة وأحس كل منا أنه يعرف صاحبه منذ سنين وعلى أى حال فلم تكن هذه أول مرة تقابلنا فيها ..

ولقد قضينا اليوم كله في العريش نجمع المعلومات من القادمين من الناحية الأخرى ومن الحدود وثمة سؤال يهمني أن أعرفه :

" كيف يحارب اليهود؟"

إن أساس الخطط الإستراتيجية هو ما يمكن الحصول عليه من معلومات عن العدو ، ولقد قلت للملازم أول ( ص...) إنني أعرف أننا حصلنا على معلومات كثيرة ولكنني أنه لا شئ يفيدنا كرحلة نقوم بها بأنفسنا عبر الحدود.

واتفقنا على التسلل غدا عند منتصف الليل.

" ثلاثة يكتمون السر على شرط أن

يموت اثنان منهم ( فرانكلين)

السبت 17 إبريل 1948

عدنا فجر اليوم من رحلتنا عبر الحدود ..

إن المعلومات التي عرفناها لا تقدر بثمن.. لقد طفت بالمواقع المحيطة بغزة ، والتي أعتقد أن فرقتنا ستقوم فيها بأول اشتباكاتها مع العدو ولقد تسللت قرب بعض المستعمرات ونحن وبملابس البدو وأنا أظن أن معلوماتنا عن التسليح اليهودي يجب أن تتغير وعلينا أن نضع كلمة ( قلعة) مكان كلمة ( مستعمرة ).

وطفت بشوارع غزة واتصلت بالأفراد الذين كان يلزم أن أتصل بهم لمساعدتي في همتي ... ومن سوء الحظ أن أحدهم لم يقدر ضرورة السرية في مهمتي فقد جاءني في اليوم التالي للقائنا السري يقول لى : " إن اللجنة القومية لغزة تنتظرك وأعضاؤها يتحرقون شوقا لمقابلتك"

وذهلت وقلت له :" ومن أخبر أعضاء اللجنة أنني هنا ؟"

وقال لى ببساطة: أنا .. ولكن لا تخف"

وقررت أن أذهب لسبب واحد وهو أن أرجو أعضاء اللجنة أن يحفظوا السر ودخلت اجتماع اللجنة ومعي الملازم ( ص...)

وقلت لأعضائها :

" ليس هناك ما يمكن أن تسمعوه مني .. إن الشئ الوحيد الذي أرجو أن تسمعوه هو صوت مدافعي عندما تجئ هنا ..

وخرجت من الاجتماع وأنا أبتهل إلى الله في سري أن يلهم أعضاء اللجنة القومية في غزة الصمت والكتمان .

لقد حددت وأنا في غزة الموعد الذي يصح أن ندخل فيه وقلت للملازم أول ( ص) يلزمنا منشورات لتوزيعها .. وأدي الملازم ( ص ... ) التحية العسكرية وقال :

ستكون عندك في اليوم المحدد يا أفندم ".

وخرج وحده ودعوت الله مرة أخري أن يوفقه إلى واحد أمين من أصحاب المطابع في غزة ..

أظن أنه يجب أن أعود إلى الأزهر .. لقد اتصلت بها اليوم لأصدر أمر إلى ( فرقتنا ) بأن تتحرك من مكانها المجهول (.....) إلى النقية(.....) عند الحدود ، وسا‘ود من الأزهر لأجدها فيه ..

" إن الذي يكسب الصحة يكسب كثيرا .. والذي يكسب أكثر من يكسب روحه ، فإنه يكسب كل شئ ( حكمة أسبانية ).

الخميس 22 إبريل 1948

عدت مرة أخري قرب الحدود بعد غيبة قصيرة في القاهرة فتمكنت خلالها من أن أشرح الموقف طبقا لما رأيته .

وقبل أن أسافر قال لى ( م...) باشا هل تذكر ما أوصيتك به ؟

وقلت : نعم .. سوف نضرب بكل شدة ..

التقيت اليوم بفرقتنا لأول مرة .

ومررت في صفوف هؤلاء الأبطال وقد اصطفوا في طابور الاستعراض ، وأخذت أتفرس في وجوههم ، وأحاول أن أستشف خلال التقاطيع الصارمة روح الإيمان المتدفق .

ثم بدأت أتحدث إليهم ..

حدثتهم عن مهمتنا .. ولماذا نحارب .. وشرحت لهم هدفنا من القتال .. وقبل أن أتركهم طلبت منهم أن يكونوا على استعداد دائم فنحن قد نتحرك في أى وقت .

إني من المؤمنين بالمفاجأة ... وأنا أحلم بمفاجأة من نوع غير سار للعدو وأعتقد أن نجاحنا يتوقف على قوة هذه المفاجأة فهي في رأيي الوسيلة الأولي لنجاح كل غاية أو مبدأ ... صحيح أن بعض القواد ومنهم ( فوش) لا يعتبرون المفاجأة مبدأ خاصا من مبادئ الحرب ولكن الظروف الحديثة تجعلها بالنسبة لجسامة الارتباك والرعب الذي تحدثه في قوات العدو مبدأ صحيحا قائما بذاته ..

لا ينبغي أن يشعر اليهود بدخولنا .

وجدت اليوم الطريق الذي يجب أن نسلكه ...سوف يكون طريقنا ..

إن هذا خير طريق يحقق لنا المفاجأة ..

" إن الذين يؤمنون بالنصر ينتصرون دائما ( نابليون)

الثلاثاء أول مايو 1948

سنبدأ زحفنا غدا والله معنا .

تحادثت مع جنودي لآخر مرة قبل المعركة.. بعد أن أبديت لهم سروري بما رأيته من روحهم واستعدادهم قلت لهم :

أصدرت اليوم أول منشور مصري في الصهيونية وقد وزع على جميع المتطوعين وسنوزعه على أهالي الصهيونية عندما ندخل لكي يعلموا مهمتنا .. وهذا هو نص المنشور المنشور رقم ( 1)

وفي هذا اليوم وزع أحمد عبد العزيز على المتطوعين أول منشوراته وقد كتب :

من القائد العام لقوات المتطوعين بالجبهة الجنوبية بالصهيونية إلى المتطوعين :

أيها المتطوعون :

قبل أن نتحرك إلى جبهة القتال يجب أن نؤمن تماما بالغاية النبيلة التي نحارب من أجلها.

إننا سنقاتل اليهود بالصهيونية لأنهم قوم جحدوا نعمة الله عليهم وإحسان المسلمين إليهم ، الذين تركوهم بينهم ينعمون في بلادهم ويثرون ويتكاثرون حتى إذا ما أنسوا في أنفسهم بعض القوة غدروا بالمسلمين وشرعوا في اغتصاب أقدس ما لديهم وهو وطنهم العربي وتراثهم الإسلامي .

لقد بدأ غدرهم بشراء قطع متناثرة من الأراضي الالصهيونيةية بدعوي الحياة فيها في سلام ووئام ولكنهم أخذوا يشيدون الحصون عليها ويحشدون قواتهم حتى إذا تكاثر عددهم واشتد ساعدهم انقلبوا على سكان البلاد يريدون محوهم وتدمير الصهيونية وإنشاء دولة يهودية على أنقاشها تحتل مركزا متوسطا بين بلاد الجامعة العربية وتهدم الوحدة الجغرافية والتاريخية للبلاد العربية ..

فنحن نحارب دفاعا عن تراث العروبة ودرءا لخطر جسيم يهدد كيان الدول العربية ومستقبلها .. نحن نحارب في سبيل الله لأننا لا نبغي استعمار بل نريد أن نمنع أشنع خيانة وأفظع نوع من أنواع الظلم الذي لم يجد التاريخ مثيلا له .

نحن نحارب عدوا غادرا خائنا خبيثا يقتل ويمثل بالأبرياء الذين آووه وتسامحوا معه كثيرا .

نحن نحارب لحماية بلادنا وأولادنا وأحفادنا وأعراضنا وآمالنا في المستقبل من خطر اليهود الذي لا يضاهيه أى خطر في الشرق .

أيها المتطوعون :

إن حربا هذه أهدافها هي الحرب المقدسة وهي الجهاد الصحيح الذي يفتح أمامنا أبواب الجنة ويضع على هاماتنا أكاليل المجد والشرف فلنقاتل العدو بعزيمة المجاهدين ولنعلم أن أبناء وطننا ينتظرون سماع أخبار انتصاراتنا وأعمالنا المجيدة التي تحيي آمالهم في المستقبل ... ولا تنسوا أن هذه الأراضي التي سنحارب عليها قد حارب عليها أجدادنا في عصور مختلفة وسجلوا لنا مجدا عظيما خالدا فلنرد هذا المجد الأبدي ولنخش غضب الله وحكم التاريخ إذا نحن قصرنا في أمانة هذا الجهاد العظيم ..

الحدود المصرية في أول مايو 1948

القائد العام لقوات المتطوعين بالجبهة الجنوبية بالصهيونية " إن الهدف وليس الموت وحده هو الذي يصنع الشهداء .

( نابليون)

الخميس 3 مايو 1948

قضينا يومين حافلين ...

في الساعة التاسعة من مساء أمس اخترق طابورنا الحدود وعند الفجر أتتمنا احتلال تل على منطار وفي الصباح فوجئت ( خان يونس ) بدخول فرقتنا إلى البلدة ، كان الناس ينظرون إلى معداتنا وهم يفركون عيونهم من الذهول وكأنما هم لا يصدقون أننا هنا ... أخيرا !!

ومضي النهار ونحن ننظم مواقعنا، وفي الليل بدأت مدفعيتنا تدق ( ببيروت إسحاق) وكانت مفاجأة شاملة للعدو.. ولقد سمعت غزة لأول مرة في هذه الحرب صوت المدفعية وكانت مدفعية ( فرقتنا ) .. واسترحت لأني صدقت وعدي مع اللجنة القومية ( لغزة).

ودخلنا غزة نحمل أول الشهداء ، وكان بطلا من المتطوعين اسمه ( فتحي )....

لقد عدت منذ قليل من حفلة تأبينه وكنت قد قرت أن نحتفل رسميا بأول شهيد من الجنود وأول شهيد من الضباط.

وها هو أول شهيد من الجنود .. وحضر بعض الأهالي احتفالنا به وخطب ناظر مدرسة غزة ورئيس البلدية ، وتكلمت أنا عن شرف المهمة التي نقاتل من أجلها ..

إني فخور بروح فرقتنا .. لقد سمعت جنديا من المتطوعين يقول لأحد الضباط متحدثا عن الشهيد الأول لنا ( فتحي ) إنه سعيد الحظ وهذا هو الذي أتاح له الفرصة ليكون أول الشهداء .

كان احتفالنا بشهيدنا الأول من الجنود رائعا ... وتذكرت أننا سنحتفل أيضا بأول شهيد من الضباط .. وأجلت النظر في ضباطي وهم وقوف حولي وقلت :" ليحفظهم الله جميعا ".

وأعترف أني شعرت بالحزن لما ساءلت نفسي :" تري أيهم ؟"

وسمعت شيئا في ضميري يهتف بي :" قد تكون أنت " ...

سنترك غزة الليلة ونخرج إلى العراء ... إني أريد أن نختبر أساليب العدو في القتال وأود لو استطعنا أن نحصل على شئ له قيمة للجيش النظامي عندما يتدخل في 15 مايو ..

أعتقد أننا سنستطيع ..

الجمعة 21 مايو 1948

كان يوما من أروع أيام ( فرقتنا ) .

لقد نطحنا كل مستعمرات الجنوب واشتبكنا معها في الأيام الماضية ،

وقد فرغنا فقط من معاركنا مع مستعمرتي ( بيرة ) و( بيت ايشل) ودخلنا ( بئر سبع ) نحمل جثة أول شهيد من الضباط وكان الملازم ( أنور الصيحي ).

لم أستطع حضور الجنازة العسكرية ، فقد خرجنا قبل الفجر نحو الخليل لنؤمن مؤخرة الجيش الرئيسي الواقف على الساحل .

وكان طوافنا حول ( الخليل ) مظاهرة عسكرية رائعة .

ولقد طاف جنودي حول القبر المقدس لسيدنا إبراهيم وهم بملابس الميدان كاملي التسليح ولعمري ما رأيت منظرا كهذا اختلطت فيه معاني القداسة الروحية مع القوة العسكرية .

واستفاد الجنود من الدوران حول قبر الخليل ... وكان لهذا أثره في زحفنا السريع إلى ( بيت لحم) ومن حسن الحظ أن المعركة مع ( راما تراحيل ) كانت تنتظر وصولنا .

" لا تخافوا ولا تهلعوا ..وإنكم على قيد خطوات من السموات العلا " ( ردز فورد)

ألأربعاء 14 يوليو 1948

مرت العاصفة بسلام :

لقد كانت الأيام التي مضت هي أعصب الأيام التي مرت بنا ..

استطاع اليهود في فترة الهدنة التي دامت شهرا أن يضاعفوا استعدادهم وكان من أثر الاجتماعات السياسية الأخيرة في عمان أن الجيش العربي اتخذ شمال القدس المسرح الأول لعملياته ، وترك لنا كل منطقة الجنوب ، ولم يكن هناك مفرا من أن ( نمدد ) خطوطنا في الوقت الذي قام فيه العدو بأعنف هجماته .

وكنا وحدنا نواجه العاصفة .

ومرت بنا لحظات رهيبة .

ولقد كان تفكيري عجيبا في أعنف لحظات المعركة .. ولم أكن أتصور أن الإنسان يمكن وهو في أحرج لحظات حياته أن يسمح لنفسه بالتفكير الخيالي ويسبح في أحلام عديمة القيمة بالنسبة لموقفه ..

كنت واقفا في أحرج الدقائق على الطريق من بيت لحم إلى القدس وكان المفروض أن يكون هذا الطريق هو الهدف الرئيسي للهجوم علينا ..

وكان الطريق ملغوما بشدة .. وقلت لنفسي :

" حتى لو تمكن العدو من التغلب على حقول الألغام فإنه لن يخترق الجبهة "

ونظرت حولي في الخنادق والمراكز المتقدمة وكانت تتراءي على مرمي البصر وكنت ألمح خوذات الجنود داخل الخنادق ..

ويترامي إلى في بعض الأحيان التي تهدأ فيها النيران همساتهم وضحكاتهم ... ونظرت إلى السماء وقلت :

" باركهم يا رب "

وتقدمت على الطريق ووقفت أمام وحده من مدافعي متجهة إلى مواقع اليهود وأمسكت بيدي تليفون الميدان وهو متصل بكل المواقع وكنت أرفع السماعة إلى أذني لأتصل بموقع من المواقع البعيدة التي تتحمل أعنف هبات العاصفة وكان ضابط الموقع يرد على ّ... وكانت النيران الشجاعة والكلمات الحازمة من هؤلاء الشبان ذوي العزم والرجولة تجعلني أقول :

" لا يمكن أن نقهر "

ورميت بصري إلى الطريق والمعركة على أعنف ما تكون والتليفون يحمل إلى كل ثانية أخبار الهجوم على مواقع جديدة .

وتنهدت ولمست الطبنجة المعلقة في حزامي وقلت لنفسي :

ماذا لو تقدم اليهود إلى هنا ؟"

ودار رأسي وقلت :

" أحارب حتى بطلقات الطبنجة ثم أبقي طلق منها لنفسي "

وأجلت النظر فيما حولي ..

دير ماريا الياس الأثري الجميل أمامي على نهاية الطريق والجبل الذي تقع على قمته قرية ( بيت جالة) والوادي تحت أقدامنا والزهور البرية تتضوع عطرا ، وتبدو كما لو كانت تسبح بألوانها الجميلة المتناسقة فوق موجات من أشعة الشمس السائلة ..

وتقبضت يدي على الطبنجة وقلت :

" ومع ذلك فهذه هي أحرج لحظاتنا ".

وتذكرت الناس في الوطن ، ماذا يفعلون الآن وهل تراهم يعرفون ومضت دقيقة أخري وهمست لنفسي شيئا وسمعني ضابط الموقع وقال ومضت دقيقة أخي وهمست لنفسي شيئا وسمعني ضابط الموقع وقال :

أوامر يا أفندم "..

وغمغمت كمن يحدث نفسه :

" كلا .. أعرف أنهم سيتذكرون هذا اليوم وسيتذكرون أننا كنا من الشهداء وسوف يقولون : كانت هذه أروع لحظات حياتهم "

وساءلت نفسي :" هل نستشهد ؟"

ودار في ذهني شريط سريع . ماذا يحدث عندما يرفع ضابط الموقع المجاور لى تليفون الميدان ليتصل بمساعدي ويقول له :

" حضرة البكباشي استشهد يا أفندم "..

ماذا يحدث لضباطي وجنودي ؟.. والناس في الوطن ماذا يقولون ؟

وأسرتي .. كيف يقع النبأ عليها ؟

وألقيت على نفسي أغرب سؤال :" وأنا ... ماذا أقول عندما أستشهد؟"

وضحكن وقلت لنفسي :ط لن تقول شيئا يا أخي . إنك ستكون شهيدا ... قتيلا في عالم آخر لا تستطيع فيه أن تقول شيئا "..

ورد على شئ في ضميري :" كيف ؟ ألا أعرف حتى تطورات هذه المعركة وإلى أين تنتهي ؟ أظن أنه من الضروري أن أعرف "..

وأجلت حولي نظرة أخري وقلت :" يا له من مكان رائع يختتم فيه القدر مسرحية حياتي !"

ونظرت إلى مقعد حجري جميل على الطريق .. كان معدا ليجلس عليه الناس في أيام السلام عندما يدركهم التعب من المشي في ساعات الأصيل على هذا الطريق الشاعري بين الوادي والجبل ..

وقلت : حسنا ... يجئ الذين يزورون قبري ويجلسون هنا فيما بعد يستريحون بعد صعود الجبل... وينظرون إلى تمثالي .. تمثالي ؟ أجل ... لابد أنهم سيقيمون لى تمثالا هنا أو على الأقل لوحة يكتبون فيها اسمي ويوم استشهادي أجل لوحة بسيطة تكفي ولا ضرورة للتمثال .

وسوف يجئ كثيرون .. سيجئ ابني ( خالد) أيضا وسيكون رجلا .. ولن يجلس على المقعد لأنه لن يتعب من الصعود إلى قبري .. وسيقف ويحني رأسه أمام هذا المكان ويقول فخورا :

" هنا استشهد أبي ، ودخل مع الأبطال ".

ولن يبكي ابني ..

ورنت في خاطري كلمة الأبطال .. وذكرت قول نتيشه:

" إن البطل هو الذي يعرف كيف يموت في الوقت المناسب والمكان المناسب ".

ونظرت مرة أخري فيما حولي ..

الوادي الذي يتضوع بعبير الزهور البرية ذات الألوان البهيجة... والطريق الجبلي الجميل وأشجار الزيتون على حوافه .. وقمة الجبل الشامخة

ودير ماريا الياس المقدس أمامي ...

وورائي ( بيت لحم ) مهد المسيح)

ووراءها ( الخليل ) .. قبر إبراهيم وحوله أنبياء كثيرون وغمغمت وقلت لنفسي :" أجل هذا مكان يرضي عنه نيتشة "..

ومرت العاصفة بسلام ...

أحمد عبد العزيز

في مذكرات عبد الله التل

تحدث القائد عبد الله التل في مذكراته الهامة التي نشرها تحت عنوان ( كارثة في الصهيونية ) عن القائد أحمد عبد العزيز في أكثر من موضع ..

وقد ورد اسم بطلنا الشهيد في الصفحات التالية من هذه المذكرات وهي :

( 165، 167، 168، 170، 174، 240، 241، 285، 296، 331، 332، 333و 334، 335).

ونورد هنا النصوص الخاصة بالمعارك التي اشترك فيها البطل أحمد عبد العزيز استكمالا لما في الكتاب من معلومات لتكون مرجعا لكل شئ عن البطل الشهيد .. وفي نفس الوقت هي .. تعليق على هذه المعارك من وجهة نظر عربي آخر ..

وقال القائد عبد الله التل :

وحينما دخل الجيش المصري إلى الصهيونية في 15 / 5/1948 وتوجهت قواته الرئيسية إلى مناطق الساحل مجتازة خان يونس وغزة وكانت مفارز خفيفة قد سلكت في تقدمها طريق الصحراء مارة بعسلوج وبئر السبع ..

ثم تقدمت شمالا إلى الخليل ومنها إلى بيت لحم وبيت سفافا وبيت جالا وذلك بتاريخ 20 / 5/1948 وكانت تلك القوات الخفيفة مؤلفة من عدد قليل من الجنود المصريين ونصف كتيبة من المجاهدين المتطوعين بقيادة البطل المرحوم أحمد عبد العزيز يساعده نخبة من الضباط المصريين التابعين للجيش المصري رسميا عرفت منهم : اليوزباشي كمال الدين حسين واليوزباشي عبد العزيز حماد والملازم حمدي واصف والملازم خالد فوزي والملازم محمود عبده والملازم حسين حجازي وقد زودت تلك القوات بالأسلحة الخفيفة كالبنادق والرشاشات وبعدد قليل من المدافع القوسية من عيار 3 بوصة ( هاون ) والمدافع من عيار رطلين تحملها سيارات عادية ليست مصفحة ولم يكن مع القوة مدرعات ثقيلة أو مدافع ميدان سوي فئة واحدة من مدافع الهاوزر عيار 3،7 مع عدد قليل من القنابل .

وحين وصول القائد أحمد عبد العزيز إلى جنوب القدس ( بيت لحم)

كشف مواقع اليهود وخطوطهم الدفاعية وكانت تمتد من تل بيوت الجنوبية إلى مستعمرة رامات راحيل اليهودية هذا من الجهة الشرقية الجنوبية للقدس ثم تنحرف خطوط اليهود من راما تراحيل غربا مارة بشمال معسكر العلمين وجنوب مستعمر راما تراحيل إلى أن يمر الخط جنوب القطمون ما بين قرية المالحة والقطمون ويتصل بخطوطهم في مستعمراتهم الغربية التي تقع شمال عين كارم وهي ( بيت هاكيرم وشحونات هيبو عاليم وبيت فيجان ويفنون )

ولذا نشر القائد قواته في خط مقابل لخطوط اليهود متعاونا في ذلك مع قوات الجيش العربي البسيطة الموجودة في تلك المنطقة والتي سيأتي ذكرها فيما بعد . وأصبح خط الدفاع للقوات العربية جنوب القدس كما يلي : 1- واقع حربية ما بين تل بيوت الجنوبية وراما تراحيل من جهة وقرية صور باهر العربية من جهة أخري وذلك لحماية هذه القرية .

2- مواقع حربية جنوب راما تراحيل تمهيدا للهجوم عليها وحماية لبيت لحم وكان أهم موقع للقوة في دير ماريا الياس الذي يقع على الطريق العام ما بين القدس وبيت لحم.

3- مواقع حربية شمال قرية صفافا العربية في خط يواجه مستعمرة ميكور حاييم ويمتد هذا الخط إلى المواقع العربية في قريتي النالحة وعين كارم..

قوات الجيش العربي في جنوب القدس

كنا ذكرنا أن السرية الثانية عشرة قد بقيت في منطقة الخليل لأن هذه المنطقة عربية بحسب قرار التقسيم فسكت كلوب باشا عن وجود هذه السرية هناك بعد 15/5/1958 وكان عدد جنود تلك السرية 150 بقيادة الرئيس حكمت مهيار ويساعده من الضباط الملازم الأول قاسم الناصر .. وقد كان حكمت مهيار قائدا لهذه السرية بالاسم فقط ، أما قائدها الحقيقي في مناوشات الجنوب فقد كان الرئيس قسيم محمد ، الذي اضطر إلى البقاء مع السرية بعد انتهاء معركة كفار عصيون حيث كان مرسلا لصرف رواتب الجنود ، والذي أظهر شجاعة فائقة فالتف حوله الجنود وأهملوا قائدهم الرئيس حكمت ..

وبالإضافة إلى هذه السرية النظامية فقد وجد في جنوب القدس سريتان من المناضلين الذين تطوعوا في شرق الأردن للجهاد في الصهيونية وهما :

1- سرية أبي عبيدة : وعدد أفرادها حوالي مائة مقاتل سلاحهم البنادق وعدد قليل من رشاشات الهوشكس القديمة .. وكان يقود تلك السرية المجاهد عبد اللطيف أبو قورة ، ويساعده من الضباط المتطوعين المخلصين ممدوح صرايرة أحد موظفي الجيش المدنيين ومن خيرة الشباب المخلصين ، ومحمد الفايز من رجالات العشائر الشجعان أما خبرة أفراد السرية في القتال فقد كانت ضعيفة لعدم تمرينهم على النظام وأصول الجندية والحرب ..

وقد كان وصول هذه السرية جنوب القدس قبل 15 /5/ 1948 على أثر زيارة وجوه قرية عين كارم والمالحة لجلالة الملك واستنجادهم به .. فأمر بإرسال هذه الحفنة من المناضلين وقد استقرت في قريتي كارم والمالحة .

2- سرية أسامة : وعدد أفرادها كزميلتها وهم من متطوعي الأردن ، كانوا يحملون البنادق ورشاشات الهوشكس البالية ويقودهم المجاهد العبي ( عربي جميل) يساعده المجاهدان أبو عبده فارس ومحمد الشالاتي وقد كان وصول هذه السرية غلى جنوب القدس بعد 15 / 5/ 1948 فوضعت تحت إشراف قائد السرية الثانية عشرة .

هذه هي قوات الجيش العربي التي وزعت في الخطوط الدفاعية جنوب القدس لا تزيد في مجموعها على 350 منهم 200 من المناضلين غير المدربين والباقي وهم جنود السرية النظامية وزعوا على الأماكن التالية : ( الخليل بيت جبرين ، بيت لحم) ولم يكن مع تلك القوات أى نوع من المدافع أو المدرعات إلا مدرعتين بقيتا مع السرية بعد الانتهاء من معركة كفار عصيون .

تعاون القوات الأردنية مع المصرية رغم أنف الإنجليز

كان الوضع في جنوب القدس غريبا كالوضع في شمالها .. فقد وضعت القوات الأردنية في الجنوب تحت أمرة قائد اللواء الرابع المقيم في رام الله ولم تكن لى علاقة بها رسميا ولكن كنت أتدخل في أمرها لعلمي أن قائد اللواء لا يجرؤ على المجئ للقدس لمحاسبتي على مخالفة أوامره وأوامر رؤسائه الإنجليز التي كانت تقضي بعدم اشتراك قوات الجيش العربي في أية عملية حربية تقوم بها القوات المصرية .. وفي اليوم الذي وصل فيه المرحوم أحمد عبد العزيز مع قواته إلى جنوب القدس بعثت إليه أخبره بأن قوات الجيش العربي المرابطة في تلك المنطقة تعتبر تحت تصرفه وله حق في إشراكها في خططه وعملياته .. وعلى هذا الأساس تعاون الضباط والجنود المصريون والأردنيون ووزعوا القوات على المواقع الدفاعية الهامة من صور باهر إلى عين كارم .. وأصبح القائد أحمد عبد العزيز مسئولا عن جميع القوات العربية في جنوب القدس ..

أما هدف قائد اللواء وقائد الفرقة فقد كان واضحا وهو أن لا يكون تحت يدي من القوة ما يقلق أفكارهما ولا يطمئنها على خطة الإنجليز العامة ... فبدلا من جعل السرية الثانية عشرة وهي احدي سرايا الكتيبة السادسة عند بدء تشكيلها تابعة لقيادتي كما تقضي بذلك أبسط النظم الحربية فقد تخطياتي وجعلاها مربوطة بقيادة اللواء في رام الله.

معركة راما ت راحيل

كانت هذه المستعمرة تشكل نتوءا قويا في خطوط الدفاع العربية بجنوب القدس .. وقد زاد في خطورتها موقعها الحربي الهام على رابية عالية تطل على صور باهر وطريق ( القدس – بيت لحم) كما أن منازلها الكبيرة قد بنيت من الحجر الصلد فتحولت المستعمرة إلى حصن منيع شأنها شان جميع المستعمرات اليهودية ..

وحينما فكر القائد أحمد عبد العزيز في احتلال هذه المستعمرة وجد استعدادا كبيرا من قوات الجيش العربي للتعاون معه .. فتقر القيام بالهجوم يوم الاثنين 24/5/1948 على أن تشترك الوحدات التالية من الجيش العربي مع القوات المصرية .

1- 50 جنديا وثلاثة ضباط من السرية الثانية عشرة مع مدرعتين.

2- 70 مناضلا من سرية أسامة .

3- ما يمكن توفيره من سرية أبي عبيدة المرابطة في عين كارم .

وبعث الرئيس قسيم محمد يستشيرني في الأمر فوافقت على الاشتراك في العملية وتعهدت بتقديم المساعدة اللازمة في الوقت المحدد وهي رمي الأحياء اليهودية بقنابل الهاون والهاوزر لشغلها وتحويل أنظارها عن الهجوم ومنعها من إرسال النجدات إلى المستعمرة .. وفي اليوم المحدد بدأت المدافع المصرية في جنوب القدس بقصف المستعمرة واشتركت معها المدرعتان التابعتان للجيش العربي وقد مهدت المدافع لهجوم المشاه ونجحت في تخريب أغلب البيوت المحصنة وما حولها من خنادق استحكامات..

وقامت مدفعيتي بواجبها ، فقصفت الأحياء اليهودية في القدس الجديدة حسب الخطة المرسومة وحينما انتهي رمي المدفعية زحف المشاة المصريون والأردنيون يتقدمهم حاملوا الألغام الذين استطاعوا الوصول إلى أغلب أهدافهم فدمروها .. وقد كانت خطة القائد أن يدمر المستعمر تدميرا تاما لأنه أدرك صعوبة احتلالها وتعرض المشاة للخسائر الفادحة ، وحينما توسطت الشمس السماء كان المشاة قد وصلوا إلى جميع أهدافهم إلا منزلا واحدا احتموا فيه اليهود وأخذوا يدافعون عن أنفسهم ..

وفي أثناء ذلك وقع ما اعتاد العرب القيام به في كل مرة يكون النصر حليفهم .. فما أن شعر العرب في تلك المنطقة بانتصار الجيش واحتلال المستعمرة حتى أخذوا يفدون إلى منطقة القتال بالمئات وهمهم كسب المغانم .. وقد نجحوا في مهمتهم هذه ونقلوا جميع ما في المستعمرة من أثاث وأبقار وأرزاق وياليتهم فعلوا ذلك دون نشر العدوى إلى القوات المقاتلة .. فحينما شاهد الجنود الأردنيون والمناضلون أن إخوانهم من غير المحاربين يغنمون وينقلون الأموال الكثيرة أصيبوا بحمي الطمع والحسد ، ومن هنا نشأت خطورة السماح للمدنيين بالاقتراب من ميادين القتال وقد ثبت أنه لم يكن من السهل منعهم في ذلك القطاع من الميدان بسبب قربهم من المستعمرة وتحمسهم لمساعدة القتال .. وفي دقائق معدودة تحول الهجوم عن الهدف الذي رسمه القائد ، وشرع الجنود الأردنيون والمناضلون يجمعون الغنائم أسوة بغير المحاربين .. وحاول القائد أن يمنع تحول المحاربين عن أهدافهم الرئيسية وهى احتلال المستعمرة وتطهيرها من اليهود ، ثم تثبيت المراكز قبل أن يقوم العدو بهجوم معاكس . .

ولكن جهوده ذهبت أدراج الرياح لأن المحاربين بدأوا يعودون مثقلين بالغنائم وهدفهم تأمين إيصالها إلى المؤخرة ، فصار منظر الميدان مخزيا ولم يذق مرارته سوي القائد أحمد عبد العزيز وضباطه والرئيس قسيم محمد والملازم قاسم الناصر من ضباط الجيش العربي ... وبقيت الحالة على هذا المنوال إلى أن أسدل الليل ستارة فلم يبق في المستعمرة إلا حفنة من الجنود المصريين والأردنيين ومعهم القائد أحمد عبد العزيز وضباطه والرئيس قسيم محمد وفي تلك الأثناء وصلت الأخبار إلى رام الله فثارت ثائرة الزعيم لاش وأمر أحمد صدقي قائد اللواء الرابع أن يعيد جنود الجيش العربي إلى مواقعهم في بيت لحم فلبي قائد اللواء أمر سيده ووردت الأوامر للرئيس حكمت مهيار في بيت لحم أن يسحب جنوده من المستعمرة وكان الرئيس حكمت ينتظر مثل هذا الأمر فأمر جنوده بالعودة من المستعمرة تنفيذا لأوامر القيادة ..

ودارت بينه وبين ضباطه مشادة كاد الجنود يتدخلون فيها ضده ، وحينما رأي القائد أحمد عبد العزيز أن جنود الجيش العربي قد انسحبوا ومعهم جميع المناضلين أمر بسحب بقية جنوده إلى مراكزهم الأصلية على أمل أن يعودوا لاحتلال التل في الصباح ولكن اليهود كانوا أسرع من العرب فاستغلوا الموقف وأرسلوا في طلب النجدات فجاءتهم ليلا بعد أن كان الرعب قد دب في قلوب سكان الأحياء اليهودية المجاورة حتى أن سكان تل بيوت والبقعة قد نزحوا عنهما في تلك الليلة .. وفي الصباح وجد أحمد عبد العزيز أن الوضع قد تغير لأن اليهود قد عادوا واستحكموا في المستعمرة ولابد لإخراجهم بهجوم منظم جديد ولكن الفرصة قد ضاعت ولم يعد في استطاعة الرئيس قسيم محمد أن يقنع قائد السرية حكمت مهيار بالتعاون مع القوات المصرية من أجل القيام بهجوم كبير ولهذا فقد اقتصرت العمليات في تلك المنطقة على مناوشات كبيرة بين العرب واليهود ولم يعد العرب لاحتلال المستعمرة مع أنهم دمروا جميع منازلهم ما عدا واحدا اعتبره اليهود نواة لمستعمرة جديدة أتموا اليوم بناءها .

ثم يقول عبد الله التل :

"وقد فعل القائد أحمد عبد العزيز كما فعلت فزود قوات الجيش العربي بكل ما كانت تحتاج إليه غير عابئ بنوايا قادة الجيش العربي من الإنجليز .. ولا عجب في هذا فقد كان رحمه الله يعمل جنديا شريفا يدفعه شرفه العسكري لمساعدة إخوانه الأبرياء إخوانه في السلاح الذين أرسلوا إلى الميدان ليضحوا بأنفسهم على مذبح الدسائس والخيانة .

ثم يتحدث عبد الله التل عن الاجتماع الأول الذي تم بينه وبين البطل أحمد عبد العزيز .. قال :

" حالما أعلنت الهدنة المشئومة زارني للتهنئة في مقر قيادتي بالروضة قائد قوات جنوب القدس أحمد عبد العزيز ورفقته مساعده الرئيس كمال الدين حسين قائد المدفعية والملازم الأول حمدي واصف وكان لقاؤنا مؤثرا إذ لم نجتمع من قبل وإنما كنا نلتقي بروحينا ويعيش كلانا في نشوة أداء الواجب وإرضاء المضير .. وجلسنا طويلا نتبادل الآراء والمقترحات بعد أن كانت مقتصرة فيما مضي على الرسائل البرقية المختصرة .

ولقد وجدت في زميلي أحمد عبد العزيز جنديا مؤمنا مجاهدا في سبيل الله والشرف والكرامة اتصف بالصب والشجاعة وحسن التقدير للمواقف الحربية و وبعد أن درسنا الموقف كاملا على ضوء التجارب الماضية وإمكانيات كل منا قررنا اتخاذ موقف الدفاع فقط للأسباب التالية :

1- بالنسبة لما كان عنده من قوات خفيفة لا تكفي للقيام بأي عملية هجومية.

2- عدم إمكان تعزيز قواته بوحدات أخري من مشاة الجيش المصري .

3- موقف حكومة عمان والإنجليز في الجيش العربي من الكتيبة السادسة بالقدس واستحالة وضع قوات أخري تحت قيادتي .

4- خطة الجيش العربي العامة التي قضت بعدم احتلال القدس كلها .

5- استحالة القيام بهجوم تشترك فيه الكتيبة السادسة وحدها مع القوات المصرية الخفيفة وحدها لأن عدد المحاربين في هذه القوات يقل كثيرا عن ربع قوات العدو وعن نصف منزل الأحياء اليهودية المطلوب احتلالها .

6- وجود المدفعية الثقيلة التي تساند أى هجوم في أيدي الإنجليز في الجيش العربي .

وقد اقتصر اتفاقنا على تبادل المعونة في الحدود الضيقة التي بها ظروف كل منا فمثلا عندما نتعرض منطقة جنوب القدس لهجوم اليهود نهب الكتيبة السادسة لضرب الأحياء اليهودية بجميع أسلحتها لتخفف الضغط على الجنوب وتكبد اليهود خسائر جسيمة وبالعكس عندما يقع الهجوم على البلدة القديمة تهب قوات جنوب القدس لمناوشة اليهود وضربهم بجميع أسلحتها .. ثم اتفقنا على تبادل المعونة فيما يتعلق بالذخائر الحربية التي تنفد من جهة وتكون متوفرة في أخري وقد نفذت هذه الاتفاقية غير المكتوبة في جميع مراحل النزاع في الصهيونية دون أن يكون لقيادة الجيش العربي أى تدخل فيها أو تأثير .

كما جاء في مذكرات التل صفحة أخري عن البطل الشهيد تبين مدي ما كان الاستعمار الإنجليزي يضعه من عقبات وعراقيل وكيف كان عملاء الاستعمار وأذناب الإنجليز يتصرفون في المعركة..

" في يوم الأحد الموافق 25/7/ 1948 أبرقت قيادة الجيش إلى سرية أبي عبيدة المرابطة في منطقة بيت لحم باستئجار سيارات لتعود بها إلى عمان وهذه صيغة البرقية .

من القيادة الـ : الرقم ق 3/ 17/ 2557 بتاريخ 25 / 7 / 2948 (.) أرجو أن توعزوا إلى سرية أبي عبيدة لتستأجر سيارات وتعود رأسا إلى معسكر عمان بكامل موجودها حالا ".

وحينما كررنا البرقية إلى سرية أبي عبيدة ووصل عملها إلى القائد أحمد عبد العزيز هاله الأمر فبعث إلى بالبرقية التالية :

" من أحمد عبد العزيز إلى عبد الله التل ( .) مكتوب بتاريخ 25 /7/ 1958 (.) لعدم وجود من يحل محل سرية أبي عبيدة نرجو إبقاءها في مراكزها لإشعار آخر (.) أفد قبل الساعة السادسة صباحا ( .)

عندما اتصلت بعبد القادر باشا الجندي وكررت طلب قائد القوات المصرية المبني على الضرورة الملحة فأصر الباشا على سحب أمر كلوب وأرسل برقية يقول فيها أنه أمر بسحب السرية لأسباب عسكرية ؟ ولم يسعني إلا أخبار السرية والقائد أحمد عبد العزيز بما جاء في أوامر عمان .. وقد سحبت السرية في الوقت المعين بعد أن تدبر أحمد عبد العزيز الأمر وسد الفراغ الذي أحدثه انسحاب مائه مجاهد من الخطوط "

ثم جاء في مذكرات التل فاصل عن اجتماع المراقبين بالضباط العرب واليهود في دير السريان بالقرب من باب العمود وحضره أحمد عبد العزيز ويقول القائد عبد الله التل :

" بعد الانتهاء من الاجتماع دعوت البطل أحمد عبد العزيز وضباطه لتناول طعام الغداء فاعتذر لأن الوقت كان متأخرا ولأنه مضطر إلى العودة لقيادته مبكرا و:انما كانت المنية تدفع القائد إلى الإسراع لملاقاتها في الوقت المحدد .. وحينما وصل رحمه الله إلى مقر قيادته في بيت لحم أنهي بعض الأعمال المستعجلة وواصل سيره مع زميله اليوزباشي صلاح سالم قاصدا القيادة المصرية في المجدل .. ولما وصل بالقرب من مواقع الجيش المصري في الفالوجة أطلق أحد الخفراء النار على سيارته الجيب بعد أن اشتبه في أمرها فأصاب القائد في صدره ونقل إلى غزة ثم ما لبث أن أسلم الروح الطاهرة نافضا عن كاهله حملا ثقيلا يشهد الله بأنه كان يقوم به خير قيام وهكذا استشهد أحمد عبد العزيز ودفن في مقبرة الشهداء في غزة وبوفاته خسر الجيش المصري ، لا بل الجيوش العربية قائدا من خيرة قوادها .. وكان استشهاده رحمه الله في ليلة 22 / 8/ 1948.

وحينما وردتني أنباء هذه المأساة لم أصدقها في بادئ الأمر وقلت إنه يستحيل أن يذهب أحمد عبد العزيز ضحية رصاصة مصرية طائشة ... ثم تأكد النبأ وشعرت بأنني فقدت أخا وسندا ... فأبرقت للقوات المصرية في جنوب القدس معزيا وجاءني الرد برسالتين برقية وخطية .

أما البرقية فهي :

" من قائد القوات المصرية في جنوب القدس إلى عبد الله التل 24 / 8/ 1948 (. ) تلقينا بمزيد الشكر تعزيتكم في فقيدنا الشهيد أحمد عبد العزيز ونحن نعاهد الله أن نستمر في الطريق الذي رسمه حتى نصل جميعا إلى غايتنا السامية والله ولي التوفيق "

وأما الرسالة الثانية فكانت

بسم الله الرحمن الرحيم

" بيت لحم في 24 / 8/ 1948 :

حضرة القائد المبجل عبد الله بك التل

السلام عليكم ورحمة الله وبركاته وبعد :

فقد أبلغنا مندوب الصليب الأحمر الدولي مبلغ تأثركم لفقد قائدنا الشهيد أحمد عبد العزيز الذي اختاره الله إلى جواره وهو يؤدي واجبه .

وإني باسم فكري بك الموجود الآن بمأمورية وباسم جميع الضباط والجنود نشكركم على شعوركم النبيل ونرجو من الله أن يعوضنا جميعا عنه خيرا بأن نصل إلى هدفنا السامي المشترك في القريب العاجل إن شاء الله .

وتفضلوا عزتكم بقبول فائق الاحترام

(يوزباشي)

كمال حسين

وقد بر الضباط المصريون بوعدهم وساروا في الطريق الذي رسمه أحمد عبد العزيز وإذا كانت مؤامرات السياسة في قضية الصهيونية قد حالت دون تحقيق أهداف الضباط والجنود الأبرياء فليس الذنب ذنبهم أقوال الصحف

هذا هو البطل بقلم توفيق الحكيم

كتب الأستاذ توفيق الحكيم تحت عنوان " هذا هو البطل " يقول :

رأيت أحمد عبد العزيز عندما جاء إلى دار أخبار اليوم في زيارة خاطفة ليعود بعدئذ إلى حيث يواجه قدره .. رأيته وأصغيت إليه وهو يتحدث ببساطة عن الحياة والموت .. حديثا لا نستطيع نحن الفنانين أن نعرف له غورا أو نردك له قرارا ... يخيل إليك عند سماع حديثه في هذا الموضوع بأن الحاجز بين العالمين قد انهدم أمام وطنيته المتدفقة وإيمانه العارم ... فهم يتحرك بجهاده في مناطق غريبة تجهل لغتها كلمة الموت .. وهذا هو البطل قلتها في نفسي وهو إلى جانبي يتكلم بصوته الهادئ النبرات .. من يكون البطل غير الذي استطاع ان يقهر في نفسه فكرة الموت... ذلك الذي استطاع أن يقول للموت :" لن تنال مني .

فقد تحولت إلى " معني " قيام فوق الزمن يشيع في الناس حياة .. ويبعث في النفوس عقيدة ، قال لنا بعض إخوانه أنه كان " مثاليا " في كل عمل من أعماله وفي كل لحظة من وجوده .. عندئذ آمنت بخلوده .. فالمثالية كاسمها لا ينقطع أثرها بانقطاع أعمالها .. بل تبقي بما تخرجه هذه الأعمال من " مثل " .. يعيش منفصلا ويسعي مستقلا يشحذ الأذهان ويلهب العزمات .. بينما الواقعية أيضا كاسمها لا يتعدي أثرها العمل الذي وقع والزمن الذي وقعت فيه .. كان " أحمد عبد العزيز" مثاليا فكتب له أن يعيش في كل زمان .. اختفي منه الجثمان .. ولكن " المثل " فيه حي دائما كما كان .. يصدر الأوامر ويحفز الهمم ويشعل الحماسة ويحرك الجيوش ..

( توفيق الحكيم)

قائد الكوماندوس المصري يتكلم لمحمد حسنين هيكل

في عدد أخبار اليوم الصادر في 29 مايو 1948 نشر محمد حسنين هيكل أول حديث له مع البطل أحمد عبد العزيز قائد الكوماندوس المصري وكان ذلك في بيت لحم وإنني أورد هنا نص هذا الحديث :

نحن الآن على أبواب القدس .. والجيش المصري يدك حصون مستعمرتي " راما تراحيل" و" تل بيوت " ليقتحم الطريق الجنوبي للقدس ...

لنتأخر الآن بضع خطوات إلى الوراء .. إلى القيادة الأمامية للجيش المصري الزاحف ..

ولنصعد الطريق الجبلي الشاهق إلى بيت لحم مركز هذا الهجوم الذي تشنه القوات المصرية لتحرير القدس .

إن أول ما يطالعك من بيت لحم لافتة كتب عليها " بلدية بيت لحم"

ثم تتوقف .. وتفرك عينيك لتتأكد أن ما تراه حقيقة واقعة وليس حلما من الأحلام ..

في الناحية الأخرى المواجهة للافتة " بلدية بيت لحم" سلم واسع مرتفع يؤدي بك إلى مهد المسيح في بيت لحم وعلى أول درج من السلم جلس اثنان من الجنود المصريين وحولهم خمسة أو ستة من شباب " بيت لحم"

جنود مصر يتحدثون عن المعارك التي خاضوها ..،

وشبان " بيت لحم " يسمعون في لهفة ظاهرة ... وينهض أحدهما ويقترب ..

ثم يتساءل في دهشة :

من مصر ؟

اجل

ويقول وهو يشد قامته :

أنا من جنود الجيش المصري ويمد يده وتمر سيارة جيب عليها العلم الأخضر ويقول :

نركب إلى مقر القيادة .. نحن نغير مقر قيادتنا كل يوم ..

وتنطلق السيارة الجيب على الكورنيش الجبلي إلى شمال المدينة ثم تتوقف أمام فندق " وينستون الصغير الجميل حيث تلتقي بالبكباشي أحمد عبد العزيز قائد الطابور المتحرك السريع الذي يسبق قوات الجيش المصري الرئيسية .

كل ما حول الفندق الصغير الجميل من مصر .. المدافع الثقيلة المتجهمة والمصفحات والدبابات الرابطة تحت الأشجار .. ومن مصر والجنود الذين تعكس عيونهم أطياف المجد ... من مصر .. والضباط ذوو البسمات المرحة .. والقامات الممشوقة التي أشرفت علي صناعة مئات الأساطير في ميدان القتال .. من مصر .

ثم تدخل الغرفة التي يجلس فيها الرجل الذي يقود أولي الفرق المتقدمة من جيش مصر ... وتطالعك قامته الطويلة وملامحه المتناسقة وشعره الأبيض ثم تسمع صوته الملئ بالحزم والرجولة يخاطب وفدا من أهل بيت لحم فيهم رجال وسيدات من أسرة الجعبري رئيس بلدية " بيت لحم"

- إني آسف ... هدايا أهل بيت لحم إلى جنود الجيش المصري على عيني ورأسي وأنا أقدر العاطفة النبيلة التي أوحت بها إليكم ، وكلن الأوامر التي تقليتها من القيادة العليا صريحة في الاعتذار عن قبول الهدايا بأى شكل من الأشكال .

وتقول احدي السيدات

- ولكننا نريد أن نظهر شعورنا نحو الجيش المصري ..

ويبتسم القائد الذي لوحت شمس الصحراء وجهه ثم يقول :

- أعرف يا سيدتي ولكن الأوامر تحتم علينا أن ندفع ثمن كل ما يقدم لجنودنا ..

ولا تيأس السيدة فتقول :

- إذن اقبلوا هدايانا هذه المرة لقد أعددناها وانتهينا .

- وللمرة الثانية يبتسم القائد ثم يقول عيناه تلمعان :

- يا سيدتي في بيت لحم فقراء كثيرون .. أرسليها إليهم وقولي لهم إنها هدايا من جيش مصر .. أول الأبطال .

وتخرج مع القائد لتطوف بالمواقع .. أول مواقع الجيش المصري في الصهيونية وتكون المدفعية قد بدأت تضرب مستعمرة " راما تراحيل "

وعلى ربوة عالية تسمع لأول مرة كيف اندفع الطابور الأول من طوابير مصر في حركة سريعة مفاجئة من بئر سبع إلى بيت لحم .

ويقول القائد ونحن على ربة عالية وهو يراقب دانة مدفع تطير إلى مستعمرة " راما تراحيل" ثم يرفع منظاره يراقب آثار ضرب المدفعية في حصون المستعمرة .

وفي منطقة بئر سبع بدأنا هجوما على مستعمرة " بيت ايشل" وكان ضابط المدفعية أنور الصيحي يدك بمدفعه مواقع العدو .. وفجأة سمع رصاصا يطلق على جنوده من الوراء .. وصعد أنور بنفسه إلى مكان عال ليؤمن مؤخرة جنوده وصاده أحد قناصة الهاجانة وقضي ساعات في بئر سبع ثم استشهد رحمه الله ... وقررت أن تكون جنازته عسكرية وقمنا بعمل ترتيبات الجنازة .. وعند الفجر جاءني نبأ تقدم قوات الجيش التي تزحف على الساحل إلى الخليل .. بأسرع ما يمكن ..

كان معني هذا أ،ه يتعين علينا أن نندفع إلى الخليل بأسرع ما يمكن .

ولم يكن هناك مجال للتردد ، ناديت قائد الحامية التي كنت قررت إبقاءها في " بيت لحم " وقلت :

- أنت تقوم بباقي شعائر الجنازة ..

- وأخذت باقي القوات واندفعنا شمالا إلى الخليل ..

وطفت بجنودي حول قبر الخليل .. ثم واصلنا الاندفاع إلى هنا ودوت قنبلة .. ورفع القائد منظاره يتابع دانات المدافع ثم حول المنظار إلى ناحية المستعمرة حيث بدأ أحد جدرانها يتهاوي ثم قال :

كان بودي أن أحضر الجنازة العسكرية لهذا البطل .. ولكن خير تحية له أننا ندك الآن راما تراحيل .

ملحمة رائعة

وتعرف لأول مرة قصة هذا الطابور المتحرك السريع .. ملحمة رائعة تنتظر شاعرا عبقريا ..

منذ البداية تحرك هذا الطابور نحو مستعمرة كفارديروم ، وقاومت المستعمرة وتطوع الضباط الحضري ليدخل المستعمرة بمشقة لنسف الحصون ..

وتقدموا أمام الطابور زحفا والتفت الضابط يقول لجنوده " تقدموا " وأصيب برصاصة في رأسه وكانت قوته – بعد إصابته – مهددة على الأقل بالارتباك ..

وأصدر القائد أمره أن تتقدم مدفعية الميدان لموقع ضرب نار مباشر وترجع الجنود تحت حمايتها ثم عادت المدفعية تصب نيرانها ولم تمض ساعات حتى اقتحمت المستعمرة ..

واندفع الطابور السريع شمالا وخرجت قوة يقودها اليوزباشي حسن فهمي عبد المجيد تستكشف وعادت ومعها قافلة كاملة من السيارات المدرعة واليهودية استولت عليها وواصل الطابور السريع سيره فدخل غزة واقتحم مستعمرة ديروط إسحاق واقترحت القيادة العليا أن يستريح هذا الطابور ويعود قليلا إلى الخطوط الخلفية ويقوم بحماية المواصلات .

وتوسل الطابور كله قائدا وضباطا وجنودا بقوله : لقد كنا في الخط الأول منذ البداية فلماذا الآن نعود إلى الخطوط الخلفية ..

ويقول القائد أحمد عبد العزيز:

وقلنا لمجموعة الجيش الرئيسية حظا سعيدا واندفعنا نحو الهدف التالي بئر سبع.

واقترحت القيادة أن يستريح الطابور .. ولكنه استطاع أن يقتحم الطريق إلى بئر سبع وسط عشرات مستعمرة " بيرة " ويستولي عليها . ثم عاد جنوبا والتف بالليل حول العوجة ثم واصل اندفاعه شمالا في المستعمرات في طريق نسفت كل جسوره .. وعند الغروب كان الطابور المتحرك السريع يطرق أبواب بئر سبع .. وفي المساء نفسه لم تنم " بئر سبع " وظلت ساهرة تلوح بالأعلام للطابور المنتصر .

أمام راما تراحيل

ومن " بئر سبع " اندفع الطابور فجرا إلى الخليل .. ثم بيت لحم.. وبدأ يهاجم مستعمرة " راما تراحيل" ... وفي مواجهة عواصف من النيران تقدم الطابور إلى " دير ماريا الياس " على منتصف الطريق بين بيت لحم " وراما تراحيل " وبدأ يدك المستعمرة ذات الحصون الضخمة الجبارة .

ويسأل القائد أحمد عبد العزيز :

هل تريد أن تتقدم إلى برج المراقبة في " دير ماريا الياس "

أجل ..

وتركب بجواره سيارة مصفحة تندفع في الطريق إلى المستعمرة التي بدأت المدفعية الثقيلة تركز عليها نيرانها .

وتندلع من ناحية "رامات راحيل" نيران ودخان

ويقول أحمد عبد العزيز:

كانت لى في حياتي آمال ثلاثة .

الأمل الأول : أن أكون بطل العالم في الفروسية .. وكنت قريبا من تحقيق هذا الأمل .. ولكن الظروف لم تشأ ..

وكان أملي الثاني : أن أحقق مجدا عسكريا في حرب من الحروب ..

ثم سكت قليلا وأشار إلى مستعمرة راما تراحيل التي تحترق ثم قال :

أظن أن هذه الحرب مقدسة ..

واستطرد .. والأمل الثالث : أن أؤلف كتابا عسكريا يعيش إلى الأبد كما عاش كتاب " كلازوتيز" المشهور " عن الحرب "

واندفعت المصفحة إلى " دير ماريا الياس " ورفع القائد منظاره وأمسك جهاز اللاسلكي يخاطب مدفعيته في بيت لحم : - إلى الشمال قليلا ..

- وإلى الشمال قليلا" بدأت القنابل تنهال .. ونحي القائد منظاره وهو يقول :

- لقد بدأت فعلا أولف الكتاب الذي كنت أحلم بتأليفه ..

كتبت منه عدة فصول واخترت اسمه بالفعل ..

وانهار حائط من حصون " راما تراحيل " وقال القائد

- لقد أسميته .... المفاجأة ".

أبو كمال :

ويشتد الضرب فوق المستعمرة وتركز المدفعية نيرانها فوقها ويمسك أحمد عبد العزيز ميكروفونه ويقول :" برافو يا كمال "

ونظرت إليه في فضول .. ويقول أحمد عبد العزيز

- أبو كمال هو قائد مدفعيتي اسمه كمال الدين حسين هو برتبة يوزباشي .

- وتستقبل المستعمرة أمطار من القنابل .

ويقول أحمد عبد العزيز :

- كان " أبو كمال " يدي اليمني دائما .. عمره ما تردد..

- وعمره ما أخطأ في إصابة هدف .. كان يجب أن تروه وهو يدك مستعمرة " كفارديروم" ..

- وأمسك القائد مرة أخري بميكروفونه وهمس :

- أبو كمال ... يكفي هذا .. وهدأت المدفعية .. وقال القائد :

- نعود إلى بيت لحم..

- واستطرد :

- في كفارديروم" تسلخت أقدامه وهو يزحف ويهدر وراء مدافعه ورجوته أن يستريح ورفض أن يستقر دقيقة واحدة في مكان واحد...

- ووصلت السيارة إلى فندق وينستون وسأل أحمد عبد العزيز :

- هل عاد " أبو كمال "

وقال أحد الضبط :

- لقد عاد من دقيقة .. وهو هنا في الداخل ..

وينادي القائد وهو يدخل :

- أبو كمال ..

ولا تسمع ردا على ندائه ..

ويسبقك القائد إلى احدي الحجرات ويقف أمامه ويبتسم ثم يقول:

- هذا هو أبو كمال وتنظر داخل الحجرة وإذا قائد المدفعية راكع على ركبتيه يصلي .

باقي الأبطال :

وتخرج إلى شرفة الفندق حيث جلس الضباط بعد المعركة ويقول أحمد عبد العزيز :

هل عرفتم باقي ضباطي ..

هذا هو الصاغ حسن فهمي عبد المجيد .. كان يوزباشي فقط وصاد لنا قافلة كاملة من مصفحات اليهود ... وكنا وقتها في قوة المتطوعين .. وقررت ترقيته إلى رتبة الصاغ في المعركة .

وتنظر إلى الضابط بعيونه الزرق وشواربه الطويلة الشقراء .. وتتأمله وتسأل : أما تقابلنا من قبل .

ويضحك ويقول : كثيرا في حمام السباحة بالنادي الأهلي

ويتدخل أحمد عبد العزيز ويقول :

الآن فقط أصدرت أمرا إلى الجنود أن لا يسيروا مع الأهالي في أى مكان أنا أ‘لم أن معظمهم مخلصون ، ولكن فيهم من استطاع العدو أن يشتريهم وكيف أفرق بين هؤلاء وهؤلاء ... ومن هنا لم يكن أمامي إلا إصدار هذا الأمر لجنودي .

ويرفع القائد يده ملوحا لسيارة مصفحة اندفعت في رحلة استكشافية ثم يشير إلى ضابط يقترب ويقول ضاحكا :

وهذا هو طبيبنا : محمد حسين غراب . إنه يتحكم فينا .

ويقول الطبيب : وهل أمامي غير هذا إني لا أدع واحدا منهم جنودا أو ضباطا يأكل شيئا لا أراه .. ويشير إلى مستعمرة " رامات راحيل " تحترق :

من يدري ؟ إنهم لا يتورعون عن أى شئ .

الأسود السمر : ونتعرف على باقي الأبطال ... كل منهم له لقب يكفل له مدي الحياة خلودا ومجدا ..

الملازم أول حمدي واصف أول من اقتحم راما تراحيل وليس الأبطال كلهم ضباطا على أى حال ..

وينادي القائد أحد الجنود :" مرجان "

ويقترب " مرجان " بوجهه الذي لوحته أشعة الشمس ويقول أحمد عبد العزيز إنه أشهر من نار على علم هنا في الصهيونية لقد تخصص في اصطياد المصفحات اليهودية بطريقة لا يعرف سرها إلا هو ما أن تظهر أمامه مصفحة .. ويناديه ضابط :" مرجان "..

وينطلق " مرجان " بأى شئ في يده .. قنبلة يدوية . أو مدفع رشاش ... أو بندقية .. وبعد قلائل تتعطل المصفحة ويعود مرجان يجر ثلاثة أو أربعة من " الهاجانة " كأنهم بط صاده من إحدى برك الصيد..

ويؤدي مرجان التحية لقائده ثم ينصرف وعلى شفتيه ابتسامة مرحة ويشير القائد إلى جندي آخر ثم ينادي :

- يا هيبة ..

ويجئ " هيبة بقامته الطويلة ووجهه العابس .. ويقول أحمد عبد العزيز :

- إن هيبة يستطيع أن يفعل كل شئ يخطر على بال مخلوق . قدم الضباط في صباح أمس " أكلة فول مدمس " لا أحد يدري كيف أعدها .. وفي الظهر كان بين المهاجمين لراما تراحيل .. وفي الليل كان مع فرقة من الفدائيين تسللت بالديناميت لتنسف حد أوكار اليهود..

م إن " لهيبة " أيضا حكمه سليمان الحكيم ..

وخلع القائد غطاء أسه واقترب من سور الشرفة وهو يشرف على الميدان كله وهبت نسمات من الهواء داعبت شعره الأبيض وبدا وجهه النحاسي كأنه تمثال لأحد الأبطال الإغريق .. ثم قال :

- من حق مصر أن تفخر بجنودها . . كل جنود الدنيا إذا اقتحموا بلدا عجزت أى قوة في الأرض عن منعهم من سلبه .. وهنا أصدرنا الأمر ولا يستطيع مخلوق أن يقول إن أحدهم سلب قشة ..

ومن سوء الحظ أن كثيرين من العرب يتسللون مع قواتنا خصيصا من أجل السلب .. وتنشب بينهم معارك على الغنائم .. وتقف قواتنا الضاربة

حائرة أمامهم لا هي تستطيع ضربهم لأنهم عرب .. ولا هي تستطيع السكوت على السلب والنهب .

سليمان الحكيم

وأشار القائد " هيبة" وقال :

- كنت أقول إن " هيبة" قام أيضا بدور " سليمان الحكيم " اختلف بعض الناهبين العرب فيما بينهم على بقرة وتطور الخلاف إلى حد أن كلا منهم بدأ يطلق الرصاص على زميله .. وأنقذ " هيبة" الموقف .. فأطلق الرصاص على البقرة موضوع الخلاف ..

- إن كل ما يعثر عليه جنودنا من طعام أو ملابس يرسل إلى أقرب قرية عربية ونقول لعمدة القرية :

- وزعه على فقراء بلدتكم وقل لهم : هدية من الجيش المصري "

ويبدأ طابور مصفح صغير يتحرك إلى الأمام ويجري أحد الجنود يلحق بإحدى السيارات وهو يحمل مدفع برن وأشار إليه أحمد عبد العزيز وقال :

- الناس كلهم يهربون من الموت إلا " عبد السلام" إن الموت يهرب منه ..

تطوع ست مرات بدء الحملة للتسلل في الظلام ونسف حصون اليهود بالديناميت ومرة وهو في عودته خرج عليه ستة من الهاجانة " وصادهم " عبد السلام " جميعا .. وها هو دائما ... في مقدمة كل زحف وفي أول خط النار ..

وسكت أحمد عبد العزيز ثم قال باسما :

سألته أمس : يا عبد السلام كم من الهاجانة قتلت ؟

وقال لى عبد السلام بعد تردد .

يجى ميه .

وهز أحمد عبد العزيز رأسه ثم قال : وأنا شخصيا أقول إنهم مائتان المعركة :

واقترب أحد الضباط وهز أحمد عبد العزيز رأسه ، وفجأة اجتاحت الميدان موجة من الحركة برزت المدافع من تحت الأشجار ورفعت هاماتها وهدرت المصفحات تطل منها مدافع الماكينة القوية .

وهمس أحمد عبد العزيز :

- سنشن الليلة هجوما قويا .. إني أرجو أن أفرغ بسرعة من " رامات راحيل " و" تل بيوت" لأفتح الطريق إلى القدس وخرج من باب الفندق ضابط يجري مسرعا إلى الميدان وكان " أبو كمال " ومرت دقائق والساحة الشمالية من بيت لحم تعج بحركات القوات ثم فجأة تكلم أبو كمال وبدأت المدافع تدك" راما تراحيل " والدانات المشتعلة للقنابل تتسابق إليها .

وبدأت راما تراحيل ترد ... واندفعت بعض السيارات المصفحة وأشار إليها أحمد عبد العزيز وقال : - ليساعدهم الله .. إنهم ذاهبون إلى مهمة خطيرة ..

ومرت دقائق وهذا الجزء الشمالي من بيت لحم قد حول إلى قطعة من الجحيم ودلفت سيارة تحمل قائد الجيش الأردني الذي كان أول من التقي بالقوات المصرية وهو القائد حكمت المهيار ... ورفع منظاره المكبر نحو " رامات احيل" الملتهبة ثم قال :

هذا قصف لم يسبق له مثيل..

ومرت دقائق .. والوادي يردد زئير المدفعية كأنه هزيم الرعد ..

وفجأة دوي من ناحية " راما تراحيل" انفجار هائل وبدأ أحد حصونها يتداعي ..

وهتف أحمد عبد العزيز : لقد نجحوا في مهمتهم .

وبدأت المصفحات تتقدم .. ونزل أحمد عبد العزيز يشترك بنفسه في المعركة وهز يده ملوحا وهو يصعد إلى المصفحة ثم قال :

إن أمامنا الليلة عمل كثير ... ويبدو أنني لن أستطيع أن أكتب شيئا جديا في كتابي  :" المفاجأة " ( محمد حسنين هيكل )

وتحققت الأمنية ..!

كما كتب الأستاذ حسنين هيكل في الذكري الأولي كلمة تحت عنوان " ومضي عام ... كانت أمنية أحمد عبد العزيز أن يموت في الميدان وتحققت الأمنية ...!

كان أحمد عبد العزيز شهابا .. وكالشهاب لمع أحمد عبد العزيز في حياة بلده ومر مرورا خاطفا .. ثم مضي ..

ولقد مضي اليوم عام منذ اختفي " الشهاب " ... ومع ذلك ما أكث الضوء الذي تركه وراءه .

إنه ما زال حتى الآن ينير الطريق لكثيرين ..

وسوف ينير غدا ... وبعد غد ... وإلى الأبد ما بقيت في حياة مصر مثل عليا ..

البطل يستشهد :

في الساعة الثامنة من مساء يوم 22 محمد سالم عبد السلام سنة 1948 سجلت الوثائق الرسمية للقيادة المصرية أول حرف في قصة استشهاد البطل ...

رسالة بالشفرة من الفالوجة نصها :

" إلى المستشفي العام : جهزوا حجرة عمليات . أحمد عبد العزيز جرح "

وأحدثت الرسالة ارتباكا في القيادة....

كيف جرح أحمد عبد العزيز ... وما الذي أتي به إلى الفالوجة ومن الذي أصابه .. ما مبلغ خطورة الإصابة ؟

وفي مقر القيادة العليا في المجدل جلس اللواء المواوي يتحدث مع هيئة أركان حربه عن الرسالة المثيرة .. وكان القلق يخيم على الغرفة ..

وبعد دقائق ... دخل ضابط الإشارة في القيادة يبكي وكان يحمل في يده برقية ناولها للقائد العام ... وأمسك القائد العام بالرسالة وكانت ألفاظها عادية .. ومع ذلك ما كان أقسي النبأ الذي تحمله .. كان نصها :

" إلى المستشفي العام :

لا لزوم لغرفة عمليا . استشهد أحمد عبد العزيز "

تنفيذ بالأمر :

وتشهد السجلات الرسمية عدة وثائق سجلت في اللحظات التي تلت هذه البرقية ..

بين هذه الوثائق برقية صادرة من المجدل في الساعة العاشرة و49 دقيقة إلى قيادة القوات الخفيفة ببيت لحم.

" من القيادة العامة:

يعين البكباشي فكري محل البكباشي أحمد عبد العزيز . يتواجد برياسته الجديدة بأول فرصة ممكنة باكر"

وتصور ضباط أحمد عبد العزيز – وكانوا يعلمون أن كل شئ لم يكن يسير على ما يريد أحمد عبد العزيز – تصوروا أن الضيق دفعه إلى طلب نقله فإذا مقر القيادة في المجدل يتسلم من ضباط أحمد عبد العزيز في الساعة الحادية عشرة و22 دقيقة الرسالة التالية :

" نرجو عدم تغييرك ولا نقبله "

وتضطر القيادة .. ولم تكن تريد أن تذيع النبأ بعد .. ن تعود فتبرق إلى ضباط أحمد عبد العزيز ما نصه :

" من القيادة العامة برقيتنا 10،49 نفذ بالأمر "

القائد الأردني يستفسر

وفي غمرة الارتباك في القيادة وصلت برقية جديدة من عبد الله التل بك القائد الأردني في القدس :

" من عبد الله التل – 285

أرجو إعلامنا عن صحة استشهاد القائد أحمد عبد العزيز الذي أذيع عن استشهاده الآن في الإذاعة اليهودية ".

وبعد قليل تلقي عبد الله التل بك البرقية التالية :

" إلى عبد الله التل يحزننا أن نؤيد نبأ استشهاد العقيد بنوع الخطأ ولم يكن هناك مبرر لإخفاء النبأ بعد ذلك..

هذه هي قصة استشهاد أحمد عبد العزيز من الوثائق الرسمية ولكن هذه الوثائق لا تروي كل القصة .

كان يعلم

والقصة الحقيقية لاستشهاد أحمد عبد العزيز بدأت قبل ذلك بأسبوعين .. بدأ يتصرف ويتكلم كما لو كان يعلم أنه سيموت ويريد ذلك فعلا .. كان يقضي أجازة في القاهرة ولم تكن أجازة بالمعني المفهوم وإنما كانت كفاحا ..

وليس سرا الآن أنه كان على وشك أن يجن في هذه الفترة بسبب ملابس الشتاء اللازمة لقوته .

برد الشتاء :

كان المفروض أن الجامعة – وهي التي تتولي الإنفاق على قوات المتطوعين – ستوفر له هذه الملابس ..

وتأخر وصول الملابس إلى أحمد عبد العزيز فطلب أجازة وعاد إلى القاهرة يباشر المسألة بنفسه .

وفي الجامعة العربية في القاهرة أحيل أحمد عبد العزيز من قسم إلى آخر ومن مكتب إلى مكتب ومن إدارة إلى إدارة ..

ثم اقترب العيد وأذكر أن أحمد عبد العزيز قال لي في هذه الفترة :

إني مضطر إلى السفر لأقضي العيد مع جنودي ..

قلت : ابق هنا واقض العيد مع أولادك وانتهز الفرصة واحسم مسألة ملابس الشتاء ..

وذهبت أودعه قبل أن يسافر وفجأة أمسك بيدي وقال لى :

- اسمع هناك وصية .. لا تنس أن تهتم بملابس الشتاء لجنودي واذهب إلى عزام باشا وذكره بحديثه معي ..

ودهشت .. وقلت له : لا تقل هذا الكلام .

وقال أحمد عبد العزيز : أنا أعلم أني سأموت !

مذكرات أحمد عبد العزيز

وبعد أيام لحقت بأحمد عبد العزيز في بيت لحم ... وكانت أخبار اليوم " تريد أن تحصل على مذكراته ..

ووافق أحمد عبد العزيز بعد مجهود عنيف.

وقال لى : سأكتبها على أجزاء .. وسأعطيك بعد غد جزءا منها ..

وبقيت في " بيت لحم " حتى يفرغ من هذا الجزء الأول .

وفي صباح اليوم المحدد دخل أحمد عبد العزيز الحجرة التي كنت أنام فيها في مقر قيادته في فندق ونستون .. وقال لى وهو يناولني كراسة صغيرة .. خذ .. واقرأها الآن وقل لى رأيك فيها ..

وبدأت أقرأ المذكرات ..

ثم توقفت عند آخر يوم فيها .

وكان يوم 14 يوليه سنة 1948 وقدم أحمد عبد العزيز لهذا بكلمة " رذرفورد "

" لا تخافوا ولا تهلعوا ... إنكم على قيد خطوات من السموات العلي " ( رذفورد)

الأربعاء 14 يوليه 1948

لقد كانت الأيام التي مضت هي أصعب الأيام التي مرت بنا ..

وكنا وحدنا نواجه العاصفة .

ومرت بنا لحظات رهيبة .

ولقد كان تفكيري عجيبا في أعنف لحظات المعركة .. ولم أكن أتصور أن الإنسان يمكن وهو في أحرج لحظات حياته أن يسمح لنفسه بالتفكير الخيالي ويسبح في أحلام عديمة القيمة بالنسبة لموقفه ..

كنت واقفا في أحرج الدقائق على الطريق من بيت لحم إلى القدس وكان المفروض أن يكون هذا الطريق هو الهدف الرئيسي للهجوم علينا وكان الطريق ملغوما بشدة .. وقلت لنفسي :

" حتى لو تمكن العدو من التغلب على حقول الألغام فإنه لن يخترق الجبهة "

ونظرت حولي في الخنادق والمراكز المتقدمة وكانت تتراءى على مرمي البصر وكنت ألمح خوذات الجنود داخل الخنادق .. ويترامي إلى في بعض الأحيان التي تهدأ فيها النيران همساتهم .. وضحكاتهم .. ونظرت إلى السماء وقلت :

- " باركهم يا رب ".

ورميت بصري إلى الطريق والمعركة على أعنف ما تكون والتليفون يحمل إلى كل ثانية أخبار الهجوم على مواقع جديدة .

وتنهدت ولمست الطبنجة المعلقة في حزامي وقلت لنفسي :

- " ماذا لو تقدم اليهود إلى هنا ؟.

ودار أسي وقلت :

-" أحارب حتى بطلقات الطبنجة ثم أبقي طلقة منها لنفسي ".

وأجلت النظر فيما حولي ..

دير ماريا الياس الأثري الجميل أمامي على نهاية الطريق ، والجبل الذي يقع على قمته قرية ( بيت جالة ) الوادي تحت أقدامنا ، والزهور البرية تتضوع عطرا وتبدو كما لو كانت تسبح بألوانها الجميلة المتناسقة فوق موجات من أشعة الشمس السائلة ..

وتقبضت يدي على الطبنجة وقلت :

ومع ذلك فهذه هي أحرج لحظاتنا "

وتذكرت الناس في الوطن . ماذا يفعلون الآن ، وهل تراهم يعرفون .. ومضت دقيقة أخري وهمست لنفسي وسمعني ضابط الموقع وقال " أوامر يا أفندم"

وغمغمت كمن يحدث نفسه :

- " كلا .. أعرف أنهم سيتذكرون هذا اليوم .. وسيتذكرون أننا كنا من الشهداء وسوف يقولون : كانت هذه أروع لحظات حياتهم "

- وساءلت نفسي :" هل نستشهد؟"

ودار في ذهني شريط سريع ماذا يحدث عندما يرفع ضابط الموقع المجاور تليفون ليتصل بمساعدي ويقول له :

" حضرة البكباشي استشهد يا أفندم "..

ماذا يحدث لضباطي وجنودي ؟ والناس في الوطن ماذا يقولون ؟ ... وأسرتي كيف يقع النبأ عليه ؟

وألقيت على نفسي أغرب سؤال :" وأنا .. ماذا أقول عندما استشهد ؟"

وضحكت وقلت لنفسي :" لن تقول شيئا يا أخي . إنك ستكون شهيدا .. قتيلا في عالم آخر لا تستطيع فيه أن تقول شيئا "...

ورد على شئ في ضميري :" كيف ؟ ألا أعرف حتى تطورات هذه المعركة وإلى أين تنتهي ؟ أظن أنه من الضروري أن أعرف "

وأجلت حولي نظرة أخري وقلت :" يا له من مكان رائع يختم فيه القدر مسرحية حياتي "!

ونظرت إلى مقعد حجري جميل على الطريق .. كان معدا ليجلس عليه الناس في أيام السلام عندما يدركهم التعب من المشئ في ساعات الأصيل على هذا الطريق الساعي بين الوادي والجبل ..

وقلت : حسنا .. يجئ الذين يزرون قبري ويجلسون هنا فيما بعد يستريحون بعد صعود الجبل .. وينظرون إلى تمثالي .. تمثالي ؟ أجل .. لابد أنهم سيقيمون لى تمثالا أجل .. لابد أنهم سيقيمون لى تمثالا هنا .

أو سيضعون على الأقل لوحة يكتبون فيها اسمي ويوم استشهادي . أجل لوحة بسيطة تكفي ولا ضرورة للتمثال .

وسوف يجئ كثيرون .. سيجئ ابني ( خالد) أيضا وسيكون رجلا .. ولن يجلس على المقعد لأنه لن يتعب من الصعود إلى قبري .

وسيقف ويحني رأسه أمام هذا المكان ويقول فخورا :

- هنا استشهد أبي ، ودخل مع الأبطال ".

ولن يبكي ابني ..

ورنت في خاطري كلمة الأبطال .. وذكرت قول نيتشه :" إن البطل هو الذي يعرف كيف يموت في الوقت المناسب والمكان المناسب "

ونظرت مرة أخري فيما حولي ..

لوادي الذي يتضوع بعبير الزهور البرية ذات الألوان البهيجة والطريق الجبلي الجميل وأشجار الزيتون على حوافيه .. وقمة الجبل الشامخة ودير ماريا الياس المقدس أمامي ..

وورائي ( بيت لحم) مهد المسيح ..

ووراءها ( الخليل) ... قبر إبراهيم وحوله أنبياء كثيرون وغمغمت وقلت لنفسي :" أجل هذا مكان يرضي عنه نيتشه "

ومرت العاصفة بسلام ..

ما رأيك ؟

وفرغت من القراءة وأنا أحس بانقباض عجيب وبادرني أحمد عبد العزيز :

- ما رأيك؟

قلت ك أنت شديد التشاؤم .

وابتسم وقال : إني أتمني أن أموت في الميدان !

الحياة هي الخطر

وكنت سأغادر بيت لحم في اليوم التالي .. ثم قام اليهود بهجوم على " صور باهر " واستيقظت في اليوم التالي فلم أجد أحمد عبد العزيز وقال لى جندي الإشارة محمد شعبان:

- لقد حدث بالليل أن اتصلت بنا مواقع " صور باهر " تقول إن الذخيرة نفدت وكان جناب البكباشي – أحمد عبد العزيز – ساهرا .. فأبلغته الإشارة وقلت له:

- هل أوقظ أحد من الضباط ؟

- فقال : لا .. لو لم يكونوا متعبين لما استغرقوا في النوم.

- ثم نزل بنفسه إلى المخزن فحمل وحده عربته الجيب بالذخائر صم انطلق بها بنفسه – وحده – إلى مواقع صور باهر .

لا تنس أباك

وقبل أن أغادره قلت له :

- لماذا تخاطر بنفسك إلى هذا الحد.. أما كان أحد الضباط يستطيع أن يحمل الذخيرة إلى المواقع في صور باهر !

وقال أحمد عبد العزيز : إن الحياة هي الخطر .. ثم ألم أقل لك إنني أتمني أن استشهد في الميدان ..

- وسألني أحمد عبد العزيز فجأة :

- لقد اشتريت لزوجتي قطعة قماش مشغولة بالقصب فهل تأخذها معك وتسلمها لها في مصر ؟

- قلت له : بالطبع ..

قال : وخذ هذين الخطابين لها أيضا .. وإذا استطعت أن تري خالدا ابني فقبله وقل له :" لا تنس أباك"!

وكالشهاب ولي

ووصلت إلى القاهرة .. وبعد ثلاثة أيام .. كانت مصر كلها تبكي على الشهاب الذي برق في سمائها .. وكالشهب ولي مسرعا !

إحسان عبد القدوس يكتب عن أحمد عبد العزيز

جنودي وضباطي هم كل شئ أحمد عبد العزيز

كما كتب الأستاذ إحسان عبد القدوس مقالا آخر بعنوان " جنودي وضباطي هم كل شئ " قال فيه:

" قبل أن يشترك الجيش المصري في حملة الصهيونية سألت أحد ضباط سلاح الفرسان الملكي :" ما رأيك في قومندان الخيالة ؟"

فأجاب الضابط باختصار :

" راجل دغري !!"

وكان قومندان الخيالة هو البكباشي أحمد عبد العزيز .

ودخل الجيش المصري بعد ذلك الصهيونية وكان أحمد عبد العزيز أول من دخلها على رأس جنوده المتطوعين م قابلته في مكان ما بالشرق الأوسط مقابلة خاصة طويلة وبعد الدقيقة الأولي حكمت أنه " راجل دغري !!"

إنه يتكلم فتخرج كلماته متقطعة متتابعة كأنها طلقات مدفع متر ليوز،ثم يصمت ريثما يضع على لسانه ذخيرة جديدة من الآراء يقذفها في خط مستقيم فتصيب الهدف !

ويخيل إليك عندما تستمع إليه أنك إلى شاب في العشرين من عمره فآراؤه كلها هي آراء الجيل الجديد المتحمس المندفع المقدام وهو لا يحاول أن يبدو أمامك عظيما ولا يحاول أن يوهمك بأن هناك أسرار عليا يقصر عنها فهمك أو أن هناك ظروفا وملابسات لا يتسع لها عقلك فكل مشكلة ليس لها في نظره سوي حل واحد بسيط هو ( الحرب ) !!

عندما يذكر كلمة الحرب تلتمع عيناه وتنطبق شفتاه ويخيل إليك أنه يشد أنفاسه ليملأ خياشمه برائحة البارود!

وكل من عمل مع أحمد عبد العزيز أحب فيه قسوته .. فهي قسوة في الحق قسوة تحس أنها من أجلك لا عليك .

وعندما دخل الصهيونية أذاع على أهالي المنطقة الجنوبية نداء مطبوعا بتاريخ 15 مايو جاء فيه .

" أيها الأهالي :

إن الجهاد طويل الأمد وفي سبيل الحصول على النصر الأخير لا يهتم القائد بالمدن ومظاهر النص .. بل يهتم بالطرق التي تخدع العدو وتؤدي إلى إفنائه فلا يثبط هممكم سقوط أى بلدة أو مدينة ، وثقوا في أعمال القيادات العسكرية وأدوا واجبكم في محيط أعمالكم فقط .

أيها الإخوان :

إن ندائي إليكم هو أن تقتلوا العدو وتتفننوا في قتله بأسلحتكم ولا تفكروا إلا في كيفية قتله وليشترك أبناؤكم ونساؤكم في هذا الجهاد ولا تخافوا من انتقام العدو ، ولا تهنوا ولا تحزنوا أنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين.

إلى الأمام إلى القتل والإبادة "

وفي سطور هذا النداء تستطيع أن تري صورة أحمد عبد العزيز على حقيقتها صورة الجل العسكري " الدغري " القاسي !

وهذه الروح العسكرية في أحمد عبد العزيز ليست مكتسبة بل وراثية فوالده الأميرألاي محمد بك عبد العزيز ، وقد اشترك في حملة السودان وعاد وعلى صدره سبعة أوسمة وشقيقه عمر عبد العزيز كان من ضحايا ثورة عام 1919 ، وقد أصابته رصاصة إنجليزية في ضلعه الأيسر مات بعدها بأيام وشقيقه الثاني صلاح عبد العزيز ضابط في الجيش يتبع خطي والده وأخيه .. وهو نفسه أحمد عبد العزيز – فدائي منذ أحس أن له روحا يستطيع أن يقدمها فداء لوطنه ، ولذلك اشترك في ثورة 1919 واتهم في احدي القضايا الوطنية فلما أخطأه الاستشهاد في الثورة وضع روحه بين كفيه وراح يبحث عن مكان يستشهد فيه !

وقد حدثني أحمد عبد العزيز عن – الموت – وهو لا يسميه إلا استشهاد فخيل إلى وأنا أستمع إليه أني أريد الموت .

وأني أحب الموت ! بل أحسست أني سأقفز من مكاني لأختطف أقرب سلاح وأهجم به على أقرب مستعمرة يهودية وأحسست أني بهذا السلاح أستطيع أن أفني المستعمرة ومن فيها فإنك عندما لا تخاف الموت تشعر أن كل من حولك يخافك حتى الموت !!

وقال أحمد عبد العزيز

" كان أحد جنودي قد استشهد في الميدان وحمله زملاءه إلى الخطوط الخلفية وغطوا وجهه ببطانية فجئت وكشفت عن وجهه الغطاء ، فإذا بي أبهت .. كان وجهه جميلا .. جميلا.. يشع منه نور تكاد تري الله في خيوطه ، وكانت عيناه مفتوحتين .. لا كما رأيت عيون الموتي المفتحة بل كأنتا وكأنهما تنظران إلينا من علو نظرات سمحة هادئة كان صاحبها قد اعتلي عرش الجنة .. وصدقوني إنه كان يبتسم لنا فابتسمنا من حوله ثم دفناه في الميدان بثيابه العسكرية بلا كفن ولا تغسيل .. فإن الشهيد أطهر من أن يمسه التراب بسوء ".

هكذا وصف لنا أحمد عبد العزيز الموت .. فصحنا من حوله :" يا بخته " وصاح بعضنا : اللهو أوعدنا " ونظرت إلى القائد فإذا به يتمتم بالشهادتين .. وتلاوة الشهادتين لازمة من لوازم أحمد عبد العزيز فهو يتلوهما في كل خطوة يخطوها وكأنه يعد نفسه دائما لاستقبال الموت .

وكانت مهمة أحمد عبد العزيز في العمليات الحربية هي أن يكون هو وجنوده دائما في المقدمة .. وقد كان الوصول إلى المقدمة هو أمنية أحمد عبد العزيز منذ نشأ.

فقد كان أول دفعته في الكلية الحربية وكان أول فارس مصري اشترك في مباراة عامة لقفز السدود .. وكان ذلك عام 1933 وكانت هذه المباريات قاصة على فرسان الجيش الإنجليزي وحدهم وقد فاز بالجائزة الأولي .. ثم بالجائزة الأولي في كل مباراة اشترك فيها على ظهر حصانه " فهد" وهو حصان لا يزال سلاح الفرسان يحتفظ به إلى اليوم رغم كبر السن الذي أعجزه عن عدم الاشتراك في أية مباراة .

وأخيرا فاز أحمد عبد العزيز بالجائزة الأولي في مباراة فاروق الأولي للموضوعات العسكرية وكان موضوعها " مصر والسودان وقد كتب في مقدمة الرسالة التي تقدم بها إلى المباراة:

" ما أطول تاريخ مصر وما أوفر محصوله وأغزر عظاته وإرشاداته ولكن ما أكثر الأيدي العابثة التي شوهت صفحاته والنفوس المغرضة التي حرفت معانيه وطمست حقائقه حتى اختفت عنا أصول المعرفة والتبس على الكثيرين طريق الحق والراشد ، وعجز قادة مصر أنفسهم عن رسم الخطوط المستقيمة الصحيحة اللازمة لتوجيه تاريخنا الوطني .

هذا هو أحمد عبد العزيز قائد الكوماندوس المصريين وقد قال لى في آخر مرة قابلته فيها :

أرجوك لا تكتب عني شيئا فإني لا شئ وجنودي وضباطي هم كل شئ فاكتب عنهم إن أردت أن تكتب فهؤلاء هم أبطالكم الحقيقيون قلت :

إني عندما أقول أحمد عبد العزيز فإنما أعني جنوده وضباطه وعندما أمجد أعماله فأنا أمجد أعمال جنوده وضباطه فالقائد هو رمز لجيشه لا رمز لشخصه وعندما كان الإنجليز يهتفون لمونتجمري إنما كانوا يهتفون الجيوش البريطانية وعندما كانت أمريكا تمجد الجيش الأمريكي فكل كلمة تكتب عن أحمد عبد العزيز إنما تكتب عن كل رجل عمل تحت قيادة أحمد عبد العزيز ..

وأجاب في هدوء ورجاء :

أفضل أن تكتب عن رجالي فيفهم من ذلك أنك تعنيني !.. ولكل رجل من رجال أحمد عبد العزيزأحمد عبد العزيز صفحات هي أوسمة التاريخ على صدر مصر.

وكانت هذه هي آخر مرة قابلت فيها أحمد عبد العزيز .. واكتفيت بعد ذلك بتتبع أخبار انتصاراته إلى أن فجعت بخير استشهاده استشهد بنفس الطريقة التي استشهد بها أخوه عمر عبد العزيز في عام 1919 فأصابته كما أصابت أخاه – رصاصة ..رصاصة خاطئة!!

واستشهاد أحمد عبد العزيز فجيعة لمصر ، ولكن الاستشهاد في نظره كان أملا والشهداء – كما يقول – يعتلون عرش الجنة .. وقد رفع الله أحمد عبد العزيز ليضعه على عرش الجنة .

( إحسان عبد القدوس ) أحمد عبد العزيز قذيفة من قذائف الجيل الجديد

كما كتب الأستاذ إحسان عبد القدوس في مجلة الاثنين في العدد الصادر في 30 محمد سالم عبد السلام 1948 يقول تحت عنوان " أحمد عبد العزيز قذيفة من قذائف الجيل الجديد:

"مرتان في حياتي تمنيت فيهما أن أكون ضابطا في الجيش مرة وأنا في السادسة عشرة من عمري ، ومرة في شهر يونيو الماضي عندما قابلت أحمد عبد العزيز ..

وكانت أمنيتي في المرة الأولي تنحصر في مجرد التفاخر بالزي العسكري ، وكانت أمنيتي في المرة الثانية أن أموت شهيدا ، فقد أقنعني أحمد عبد العزيز بالموت .. أقنعني أن مجرد الاستسلام للحياة جبن وأن الروح هي سلاح المرء والجسد هو طلقة السلاح ، طلقة يجب أن تطلقها في أول مناسبة وإلا انعدمت قيمة السلاح..

وكان معنا شاب صديق تقدم إلى أحمد عبد العزيز يطلب التطوع بين جنوده ووعده بقبول تطوعه .. فتململ الشاب في جلسته وكأنه يريد أن يقول شيئا لا يجب أن يقوله ثم تكلم أخيرا فقال إنه برغم تقدمه للتطوع إلا أنه أحيانا يحس بالخوف من الموت وأنه أحيانا يفكر في أن يفر من روحه التي تدعوه للقتال ،، وأحيانا يسمع بأذن الوهم صوت طلقات الرصاص فيكاد يصرخ .. وهو ليس جبانا ولكنه لا يستطيع أن ينكر أنه يخاف الموت ..

ورد عليه أحمد عبد العزيز وكأنه كان ينتظر السؤال وأعد الجواب :

إنك تخاف من المجهول ، كلنا يخاف المجهول . ولكن الاستشهاد ليس مجهولا فهو انتقال إلى عالم وصفه الله في كتابه الكريم "

وبدأ أحمد عبد العزيز يتلو آيات من القرآن عن نصيب الشهداء في الآخرة ولما انته منها قال إنه أحس بالخوف مرة ، وكان ذلك عندما اشتك في ثورة 1919 ، ولكنه كان خوفا لم يدم إلا ريثما أطلق الإنجليز عليه وعلى زملائه الرصاص .. وبعدها فقد تعلقه بالحياة لأنه آمن بأنه لن تكون له الحياة التي يريدها طالما أ، هناك عدوا يريد أن يغتصب حياته ..

وأحمد عبد العزيز عندما يتكلم لا يختار ألفاظه ، ولا يتعمد التأثير عليك وبرغم ذلك فإنك تشع أن كل كلمة من كلماته تدعوك إلى القتال ، فإذا قال لك " ازيك" خيل إليك أنه يقول لك " قف " وإذا قال لك " أهلا " خيل إليك أنه يقول لك " تقدم " وإذا قال لك وحشتنا " خيل إليك أنه يقول لك " اضرب "

وقد كان لكلماته أثر كبير في معارك الصهيونية فقد كان يخطب في رجاله قبل كل معركة وكان في كل خطبة قاس صارم لا يعد رجاله إلا بالجزاء عند الله .. وكانت هذه الخطب تثير في رجاله من القوة ما يعوضه عن قوة تحصينات العدو وكثرة عدده وكانت قواته كلها غير نظماية وكان يقابل بها قوات نظامية وبرغم ذلك فقد كان ينتصر لأن كل رجاله كانوا ينتظمون في كل خطبه من خطبه ..

وقد كان يصمم على إلقاء الخطب حتى أنه اضطر أن يتنقل بين ستة مواقع في خلال ثلاث ساعات ليلقي في كل موقع خطبة .. وكان رجاله خليطا من المصريين والطرابلسيين والسودانيين والسعوديين تختلف لهجاتهم حتى ليكاد كل فريق لا يفقه الآخر وبرغم ذلك فقد كانوا جميعا يفقهون كلمات أحمد عبد العزيز ، وكانوا جميعا يحسون بها تدق صدورهم وتشد أعصابهم فيندفعون والإيمان هاد لهم.

وكان أحمد عبد العزيز عندما يخاطب المتطوعين المصريين يناديهم " يا أبناء الفراعنة" .. ثم تبرق عيناه فتري فيها صورة للمجد القديم وتنطبق شفتاه في قسوة وكأنه يؤكد لك أن هذا المجد سيعود ، ويضرب بيده في الهواء وكأنه يبدد جيوش الزمن ليكشف عن الإمبراطورية المصرية ..

وعندما يتكلم أحمد عبد العزيز عن الحرب تحس أنه يتكلم عن الشئ الوحيد الذي يؤمن به .. حدثته مرة عن السودان فأتي بخريطة جغرافية وأخذ يبني لى النقط الإستراتيجية والمواقع الحربية التي يمكن أن تدور في السودان ثم قدم لى نسخة من التقرير الذي وضعه عن وحدة مصر والسودان ونال به الجائزة الأولي في مباراة فاروق الأول للمواضيع العسكرية وحدثته عن الجلاء عن مصر فحدثني عن مستقبل الجيش المصري .. وحدثته في أكثر من موضوع هام ..

مواضيع ليس من حقي الآن – حتى بعد وفاته – أن أسجلها وكان حلها الوحيد في نظره المسدس وأحمد عبد العزيز محارب فنان ، إذ كان لا تنقصه الجرأة وكذلك لا ينقصه الفن باعتراف اليهود أنفسهم .

وحدث عند أول دخول الصهيونية وبينما كان يقود بنفسه احدي دوريات الاستكشاف أن هاجمته قوة كبيرة من اليهود حتى اضطر أن ينبطح مع رجاله على الأرض ليتجنبوا الرصاص الذي يتناثر من حولهم ويصرخ في آذانهم ثم لم يأمر رجاله بإطلاق النار على العدو بل إطلاقه في كثبان الرمال .. وأثارت الطلقات كثبان الرمال وارتفع ستار من الأتربة بينهم وبين العدو الذي عجز عن تقدير قوة أحمد عبد العزيز وظنها قوة كبيرة إذ تثير طلقاتها كل هذه العاصفة الرملية ..ففر.

وحدث في معركة دير البلح أن قبض رجال أحمد عبد العزيز على جاسوس عربي كان يحمل تليفونا لا سلكيا وجاءوا به إلى قائدهم فلم يأمر بضربه بالرصاص طبقا لقوانين الحرب ، بل أخذ يحدثه في هدوء قائلا إنه لا يؤمن بأن هنالك عربيا يخون العرب إلا تحت ضغط شديد وأنه يعتقد فيه أى هذا الجاسوس – أنه لا زال في قرارة نفسه عربيا مخلصا لأن دم العرب يجر في عروقه ، ولذلك فهو صفح عنه بل وأكثر من ذلك فهو يضمه إلى قواته ..

وقبل الجاسوس العربي . سواء عن إخلاص أم عن خوف – أن ينضم إلى قوات أحمد عبد العزيز ولم تمض دقيقة واحدة حتى صدر إليه الأمر الأول وهو أن يتصل بمركز قيادة اليهود ويطلب منها باسم مستعمرة دير البلح التي تحاصرها قوات المتطوعين – مددا كبيرا من ذخائر وسيارات وآلات ثم يستعلم من مركز القيادة عن موعد قيام القافلة التي ستحمل هذا المدد والطريق الذي ستسلكه ..

وفي صباح اليوم التالي كانت قوات أحمد عبد العزيز قد رابطت للقافلة التي تحمل المدد واستولت عليها وكانت مكونة من خمس عشرة سيارة مصفحة محملة بالذخائر وتحرسها دبابة وقد قاومت القوات هذه الدبابة وتغلبت عليها ببندقية " بويرز" مضادة للدبابات .. وهي بندقية بطل استعمالها في الحروب منذ عام 1939 !

وهذا هو فن أحمد عبد العزيز .. أما جرأته فستنقضي سنوات قبل أن تكف الأقلام عن ذكر شواهدها .. وأحمد عبد العزيز رغم قسوته على رجاله وعلى نفسه إلا أن كل واحد ممن عملوا تحت قيادته يعلم أن هذه القسوة تخفي تحتها قلبا إيمانا عميقا وإخلاصا شديدا لكل واحد منهم .. بل إنه أخلص لجواده " فهد" وقد كان أول جواد يشتك به ضابط مصري في مباريات قفز السدود فلم يتخل عنه بعد أن أعجزه الكبر أى الجواد عن القفز بل احتفظ به في سلاح الخيالة مكتفيا أن يمتطيه في الحفلات الاستعراضية وأخلص أحمد عبد العزيز لمسدسه الطبنجة فظل يحمله - حتى وفاته – نفس المسدس الذي منح له عقب تخرجه في الكلية الحربية وقد قلت له مرة .

- لم لا تحمل مسدسا أحدث طرازا تحمل " تومي جن " وأنت تنتقل في ميادين القتال وتتعرض في كل لحظة لهجوم مفاجئ ؟ فضرب بيده على مسدسه وقال البركة في دي.

- إن مصر قد خسرت أحمد عبد العزيز وخسرت أنا رجلا من القلائل الذين آمنت بهم .. رجلا وجدت فيه صدي لآمال مصر .. وقذيفة من قذائف الجيل الجديد.. وروحا فدائية في وطن يعوزه الفداء .. وكل تعزيتي أن أحمد عبد العزيز قد تنرك وراءه جيشا كل جندي فيه تطوع ليكون أحمد عبد العزيز .

أحمد عبد العزيز ينال أمنيته!

كما كتب الأستاذ حلمي سلام في المصور تحت عنوان أحمد عبد العزيز ينال أمنيته .. فقال:

" كن كريما مع وطنك ، وثق إنه سيرد لك

ما بذلت- حيا أو ميتا – أضعافا مضاعفة "..

لكل إنسان في هذه الدنيا مطامعه وآماله .. وليس لى يا صديقي مطمع سو أن أموت شهيدا في ميدان قتال !! ولماذا هذه الأمنية بالذات ؟!

- لأنها الأمنية التي لا يصح لمن تشرف بحمل السيف أن يتجاوزها إلى غيرها من رخيص الأماني ، وليس هناك هوان يصيب رجل الحرب أشد من أن يموت راقدا على سري في بيته !

وخيل إلى عندما سمعت هذه الكلمات ينطلق بها لسان أحمد عبد العزيز وأنا أجالسه منذ سنوات خلت أنني أحلم ..! وفتحت عيني جيدا لأتأكد من أنني لست حالما ، ولأري أن الذي يتحدث إلى إنما هو ضابط مصري لا يحمل من علامات الرتب العسكرية سوي تاج صغير يكاد كتفه العريض أن يبتلعه !

وعدت أتأمل وجه أحمد عبد العزيز من جديد وأنظر في عينيه في عمق !

أحمد عبد العزيز ينال أمنيته!

لم يكن الرجل غريبا على فقد عرفته قبل هذا الحديث بسنوات ولكن الذي راعني منه في هذه المرة أن رأيته يخرج عن صمته المألوف، فإذا هو كالمدفع الذي يصمت طويلا ثم ينطلق فجأة فيحدث دويا يهز الأرض هزا ! وتنبه أحمد عبد العزيز إلى أنني استغربت أمنيته .

فانطلق يتكلم في بساطة رائعة وبغير أن تحمل طريقة كلامه قوة الكلام نفسه :

- لا تستغرب يا صديقي .. إن أمنيتي طبيعية جدا ، وكل ما ارجوه أن أجد كثيرين يتمنونها مثلي فعندئذ تستطيع أن تطمئن إلى أن مصر التي أنامها المستعمرون 65 عاما قد استيقظت ولن يعاودها النوم مرة أخري !..

- إنني أشبه مصر بشجرة جف عودها ولن يعود إلى هذا العود اخضراره إلا إذا رويناه بدمائنا !

- أعتقد أنه ليس بيننا من يضن ببذل دمه من أجل مصر إذا ما طلبت منه مصر ذلك! ثم تغيرت سحنة أحمد عبد العزيز ؟ وتجهم وجهه ، وقال :

- هذا هو الكلام الذي لا يعجبني .. لا أتردد في بذل دمي من أجل مصر إذا ما طلبت مني ذلك ! – وضغط على العبارة الأخيرة ضغطا فيه قسوة لا .. يا صديقي أنا لا أرضي لنفسي أن أظل جامدا حتى تهيب بي مصر " أن أتحرك ".. بل يجب أن أقدم لها نفسي بنفسي .. فالرجل منا يتصف بالكرم عندما يقدم لضيفه ما يريد قبل أن يطلبه ، أما إذا انتظر على الضيف حتى يطلب هو ما يريد فأنت تعرف الصفة التي ينبغي أن يتصف بها .. فكن كريما وطنك هو ما يريد فأنت تعرف الصفة التي ينبغي أن يتصف بها فكن كريما مع وطنك .

وثق أنه سيرد لك ما بذلت – حيا أو ميتا – أضعافا مضاعفة وطويت على هذا الحديث " مفكرتى".. وتركت أحمد عبد العزيز وأنا أردد قوله " كن كريما مع وطنك وثق أنه سيرد لك ما بذلت أضعافا مضاعفة "!

- ومضت على هذه الجلسة التي لن أنساها مع أحمد عبد العزيز أيام وشهور طويلة وكنت كلما لقيته داعبته قائلا :

- أما زلت ثائرا ؟

- لن أهدأ إلا بواحدة من اثنتين : أن أحقق أهدافي أو أن أموت في سبيلها !

- وخيل إلى مرة أن الرجل يهول في تصوير أمانيه ، ودارت هذه الفكرة برأسي حتى دفعتني إلى أن أسأل أحد الذين يعملون معه هذا السؤال :

- ما رأيك في أحمد عبد العزيز ؟

- فأجابني قائلا :

- إنه رجل شجاع جدا .. وجري جدا .. وهذه الصفحات كلها تجعل بعض الناس يظنون أنه " ثائر " والحقيقة أنه ليس كما يظنون أبدأ وكل ما هناك أنه رجل له مثل عليا يؤمن بها إيمانا لا حد له و ويعرف الطريق التي توصله إليها .

ولا يعنيه إذا كان الموت سيقف له في منتصف هذا الطريق أم سيخليه له !

ومضت الأيام في عدوها حتى وقفت عند يوم 10 مايو سنة 1948 فإذا بي أسمع من بعض أصدقائي الضباط أن أحمد عبد العزيز طلب إحالته إلى الاستيداع ليقود المتطوعين للدفاع عن الصهيونية .. لم أدهش عندما سمعت بهذا الخبر .. فقد كانت المقدمات كلها تدل على وصول أحمد عبد العزيز إلى هذه النتيجة .. أو لم يقل لى : قدم نفسك لوطنك بنفسك قبل أن يطلبك ؟

ومضي أحمد عبد العزيز إلى الصهيونية فإذا به يخلع قلوب اليهود خلعا وإذا بالرجل الذي كان في السفح يصبح على حين غرة في القمة .. ولم تكن هذه القمة بكثيرة عليه ، فقد صعد إليها ساعيا على قدميه ، ولم يعبأ بالموت الذي كان يتربص به في كل خطوة وهو في طريقه إليها !

قابلته مرة – وكان عائدا من الميدان لتوه – فكان أشعث الشعر مغبر الوجه فقلت له : - مالك مغبر الوجه هكذا ؟

فضحك وقال :

- إنني مغبر الوجه فعلا ولكنني أشم لهذا الغبار عطرا لا يضارعه إلا عطر التراب الذي ترتاح عليه رؤوس شهدائنا !

- يا الله من هذا الرجل الذي لا يتحدث إلا عن الموت ، ولا يمل الحديث عنه كأنه أمنية من الأماني ! وغاب أحمد عبد العزيز عنا غيبة طويلة كانت أعماله المجيدة تصله بنا خلالها وتدينه من قلوبنا ، وتجعل اسمه لا يغيب على لسان إلا لينتقل إلى لسان ..

وعلى حين غرة منا وبينما اسم أحمد عبد العزيز أنشوده في فم الدنيا قال النعاة :

" يستشهد أحمد عبد العزيز"..

لقد تحققت أمنية الضابط البطل .. ومات على الصورة التي لا تنبغي – كما قال - لمن حمل السيف في جنبه أن يموت بغيرها ..!

ففي سبيل الله هذا البطل الذي حرص على الموت فوهبت له الحياة سلام عليه يوم جاهد ويوم مات ، ويوم يبع حيا

( حلمي سلام) الأديب عبد المنعم الصاوي استشهد أسد الميدان

وكتب الأستاذ عبد المنعم الصاوي في 24 محمد سالم عبد السلام 1948 مقالا تحت عنوان " استشهد أسد الميدان " يقول فيه :

بقلب لا يلين الحديد والنار فتحطم الحديد وانطفأت النار .

هل مضي أحمد عبد العزيز إلى العالم الآخر صرعته حقيقة رصاصة طائشة و فجعلته اليوم خبرا يرويه الرواة وسطورا من نور في صفحات التاريخ ؟

إنه لعزيز على أن أصدق هذا وقد كان آخر ما يخطر بالذهن ، وأن يموت هذا الوحش الكاسر ، الذي خط على كل حبة من حبات الرمال قصة ، وسجل على كل قطعة من الحصي تاريخا وترك في كل شبر من أرض السلام أثرا لا تمحوه الأيام .

لقد عاشرت هذا البطل وهو يخوض معركة الصهيونية وكان أول لقاء بيني وبينه في مفر قيادته ... جلست أنتظره في فناء القيادة وكانت الشمس قد غربت وخلفت على منطقة بيت لحم بقاياها قطعا حمراء منثورة بين السحاب .

ودخل رجل أبيض الوجه لامع النظرات جميل الطلعة ثابت الخطوات متئد الحركة معتد بنفسه إلى أقصي حدود الاعتداد .

وعرفت من أول وهلة أنه أحمد عبد العزيز فتقدمت إليه وصافحته وإذا هو عبد العزيز بعينه .

إن الرجل الفذ النادر لا يمكن أن تخطئه بين آلاف الرجال

وكانت كفه ، وهي تصافحني ، تحمل إلى آلاف الذكريات.

وكانت بسمته الرطبة العذبة ، توقفك على قوة نفسية لا توصف .

وجلس يسألني عن أخبار الأزهر والروح المعنوية بين الشعب المصري فقلت له إن ملايين المصريين معكم هنا في الميدان ، يقبون بطولتكم ويباركونها .

فابتسم ابتسامته العذبة وأخذ يقول : إننا نؤدي واجبنا ونحن لا نريد من الشعب المصري إلا أن يصبر فالصبر وحده وسيلة الانتصار .

وانطلقت المدافع تقصف اليهود حول منطقة بيت لحم ، بحمم لا تنتهي فقال البطل :

- أتسمع .. إن حي القطامون وميكور حاييم تئن تحت هذه الطلقات ... لابد لنا من تحطيم قوي اليهود المقيمين في القدس الجديدة..

وعض الرجل شفته السفلي وهو يقول :

- آه لو أحكمنا حصارها قبل أن تصلها إمدادات ، إذن لسلمت لنا من غير قيد ولا شرط.

وسألته عن الحالة بصفة عامة فصاح يقول :

- لن يكون من نصيبنا شئ إلا النصر .. إننا مؤمنون بحقنا واثقون من انتصارنا ، ولن يفل عزمنا شئ في الوجود .

ورجوته أن يحدثني كيف دخل الصهيونية وهو وقواته من فرقة الكوماندوز، قبل أن تدخل الجيوش بحوالي شه فسرد على قصة نادرة لا يلجأ إليها إلى كل طاغية جبار .

قال : لقد قدمنا إلى العريش فإذا القوات الإنجليزية تقف حائلا بيننا وبين الأرض الالصهيونيةية وإذا نحن أمام أمرين : إما أن تقف ، وإما أن تحارب القوات الإنجليزي ، وعز على أن نرحل من الأزهر لدخول الصهيونية ، ثم تقف عند العريش .

وكنت قد دبرت أمرا في نفسي وأزمعت أن أنفذه عندما يلقي الليل أستاره على المكان .

وما أن انتصف الليل حتى أمرت قواتي بالتقدم ، وتقدمنا وما أن أصبح الصباح حتى كنا قد نصبنا معسكرا خاصا قرب غزة وكتبنا على منافذه " معسكر حربي"، ممنوع الدخول ".

وما أن أصبح الصباح حتى كان البطل الشجاع ، يقود سيارته الجيب بنفسه ، وقد جلست أنا بجواره ، وخلفنا جلس الحارس بمدفعه الرشاش والسائق بمسدسه .

وحينما وصلنا إلى منطقة " صور باهر " وقف أحمد عبد العزيز عن القيادة ثم قال :" هذه مدفعيتنا تقصف بهم "

ومضي يقول :" سننزل هنا لنسي على أقداما . البس هذه الخوذة "

ولبس خوذته ، ولبست خوذة أخري ولبس الحارس كذلك خوذة ونزل الرجل يعدو في خطوط ملتوية وهو يصيح بي :

" اتبعني خطوة خطوة، فإذا أحنيت رأسي فقلدني تماما إن الحركة الملتوية تجعلك في غير مواطن الخطر لأنك لا تكون في هذه الحالة هدفا صالحا للعدو "

وفي حركة ميكانيكية فقدت فيها التفكير أخذت أقلد وحش الصحراء ولم أدرك كم قطعنا ، ولا كم مر من الوقت ، وكل ما أدركته هو أنه حينما وصل إلى منخفض من المنخفضات استلقي هو وأمرني بالاستلقاء بجواره وخلفنا الحارس بمدفعه الصغير .

كنت ألهث فقال في صوت حنون :" لقد تبعت ، أتري إذن أضرار التدخين ؟"

وأعطاني منظارا مكبرا وأمسك هو بمنظاره وطلب من الحارس تليفون الميدان ، ووضعه بجواره ووجه منظاره إلى المعركة .

وأصبحنا بين المدفعية المصرية واليهود القابعين في مستعمرات القدس الجديدة قنابل المدفعية تمر من فوق رؤؤسنا ورصاص الأعداء يطير من فوقنا .

اليوم يختم أحمد عبد العزيز طوافه بعد أن روي أرض السلام بدم ستكتب به يوما التاريخ الأبيض الناصع . بل اليوم ينتقل أحمد عبد العزيز إلى عالم الخلود بعد أن خلد في سجل الزمن، أقوي نشيد وأبرع أغنية ترتلها الأجيال .. جيلا بعد جيل .

( عبد المنعم الصاوي) معروف الحضري البطل الذي فقدناه

كما كتب الأستاذ معروف الحضري في الذكري الأولي لوفاة البطل مقالا عن ذكرياته قال فيه :

أول محمد سالم عبد السلام سنة 1948

هجم اليهود اليوم هجوما عنيفا في منطقة جبل المكبر وكلية الزراعة اليهودية ودار الحكومة على الحدود التي تفصل بيننا وبين القدس القديمة للوصول إلى الطريق الذي يفصل بين قواتنا والقوات الأردنية داخل المدينة القديمة .

إن اختراق هذه الثغرة معناه وضع إسفين قوي بيننا وبين الجيش العربي وفشل أى حركة نقوم بها مستقبلا بالتعاون بين قواتنا وجنود الجيش العربي الأردني .

وقد استيقظت من نومي على صوت المدفعية المصرية وهي تضرب مواقع الأعداء تحت قيادة زميلنا الضابط كمال حسين ( أبو كمال ) لقد أخذت مدافع تضرب اليهود طول اليوم ضربات قاصمة بينما أخذ الأسلحة الصغيرة تستعد لتقوم بجولتها التالية .. لم تكن هذه المنطقة تحت قيادتي وإن كانت تحد من جانبي الأيمن ولذا اتصلت بالقيادة العليا بالتليفون لأستفسر من البكباشي أحمد عبد العزيز عن موقفي من هذه العمليات التي بدأها الصهيونيين رغم الهدنة .. وقد حذرني القائد من أن يقوموا بهجوم فعلي على مواقعي وأمرني بألا أبارح مواقعي وإن استعد استعداد كاملا .. وقال إنه يخشي أن تكون المعركة الدائرة في منطقة جبل المبكر هي " كومو فلاج"

لهجوم يهودي مخادع يوجهون فيه جميع قواتهم الرئيسية على قواتي .

2 محمد سالم عبد السلام 1948

ما زالت قوات المدفعية في صراع ر هيب مع اليهود في منطقة جبل صور باهر وجبل المكبر .. وقد اشتدت رحي المعركة . وعانت بيت لحم – حيث تقع القيادة العامة – من نتائج هذا الهجوم اليهودي العنيف .

وقد دهشت عندما لم يقدم الجيش العربي الأردني أية معاونة لقواتنا بحجة احترام الهدنة بالرغم من أن المسافة بين مواقعنا ومواقعه لا تزيد على الكيلو مترين بحيث تستطيع مدفعيته مساعدة مدفعيتنا هذا فضلا عن أن تحقيق اليهود للأغراض التي شنوا هجومهم من أجلها تهدد مواقع الأردنيين تهديدا مباشرا .

ولا يجب أن ننسي في هذا المقام أن منطقة جبل المكبر هي الناحية التي نفذت منها قوات أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى القدس فهي منطقة مرتفعة للغاية وتشرف على مختلف نواحي القدس بقسميها الجديدة والقديمة وإن واجبنا لحماية مقدسات المدينة يدعونا إلى الدفاع عنها دفاع المستميت وعدم وقوعها في أيدي اليهود بأية تضحية .

قصدت اليوم إلى المكان الذي يشرف منه أبو كمال على معركته فوجدته محتميا بإحدى الغرف بالدور الأعلى من احد المنازل العربية بمنطقة صور باهر .. وكان من هذه الغرفة يحدد أهدافه للمدفعية ويبلغها إليها تليفونيا أولا بأول .. إن أبو كمال يري المعركة كلها تدور من أسفله كما أن نظراته الحديدية كفيلة بأن تكشف جميع حركات اليهود احتشادا تهم ومتابعتها بسيل من القنابل التي تفرق شملها و تدب الذعر بين صفوفها ، وكان أبو كمال بين الآونة والأخرى ينادي خالدا شاويش المدفعية في بوقه ليحدد له هدفه وسرعان ما تندفع القذائف المصري لتدك أوكار الصهيونيين .

وجاءنا القائد البطل أحمد عبد العزيز وظل واقفا بجوار أبو كمال في انتظار نتيجة ما تتمخض عنه المعركة.. وكان يجو أن تكون هزيمتهم عاملا على احترامهم الهدنة التي فرضت علينا وما رغبنا فيها .

كان يقول لنا : إن الوقت هو عامل أساسي من عوامل كسب المعركة وها هو العالم يتألب علينا فيعطي اليهود وقتا كافيا يستعدون فيه للانقضاض علينا في أية لحظة وبدون سابق إنذار ، وبين الآونة والأخرى يتمتم بقوله لعنة الله على الهدنة .

إن عيني أحمد عبد العزيز احمرتا نتيجة لسهر الليلتين السابقتين وقد تبعثر شعره وعف التراب وجنتيه وملابسه .

وأخيرا تمكنت مشاتنا بفضل نشاط مدفعيتنا من تكبيد الصهيونيين نحو 2000 رجل من بينهم نحو ألف قتلتهم المدفعية وحدها .

عرف أحمد عبد العزيز نتيجة المعركة وإذا بالقائد الوقور ينهال على " أبو كمال " يقبله .. وعلى حين غرة شد قائدنا قامته ورفع يديه يحيي أبو كمال ثم صافحه مهنئا .. وقال : إن قبلاتي هي كل ما لدي لأهنئك على إخلاصك وتفانيك في تأدية واجبك .

وجاءت أنباء أخري بأن قواتنا أسرت من الصهيونيين كميات كبيرة من الذخائر والأسلحة الأوتوماتيكية وأنها وجدت بأكملها صالحة للاستعمال وفي حالة جيدة وأن أغلبها صنعت في ألمانيا أو الولايات المتحدة .

اضطر اليهود للانسحاب أمام مواقعنا الحصينة على منطقة جبل المكبر وصور باهر وتحصنوا في مستعمرة تل بيوت و والكلية الزراعية اليهودية المواجهة لمواقعنا انتظارا لهجوم قواتنا عليهم .. ولكن أحمد عبد العزيز لم يكن بالرجل الذي يقع في الشرك فتركهم يحصون خسائرهم الفادحة ..

4 محمد سالم عبد السلام 1948

قدم اليوم إلى مركز القيادة العليا عدد كبير من مراقبي الهدنة وقد استقبلهم البكباشي أحمد عبد العزيز باحتقار مقرون بعتابه على إهمالهم في تسجيل حوادث خرق اليهود للهدنة وقال لهم : أهكذا يحترم اليهود الهدنة .... أو هكذا تكبلوننا بالأغلال وتتركونهم يضربوننا وكانت جميع إجاباتهم تملصا ووعدا .

ووصف أحمد عبد العزيز لمراقبي الهدنة وعودهم قائلا : إنه لم يعد يثق بوعودهم وكل ما يستطيع أن يقول ردا عليها انه وجميع قواته مستعدون في أية لحظة لاستئناف القتال .

ثم ذكر لهم بعض تفصيلات المعركة الأخيرة على سبيل المثال قائلا : هكذا كانت نتيجة المعركة التي خسرها اليهود وهم البادئون بالهجوم .

وقبل أن يغادر رجال الهدنة مركز القيادة اتفقوا مع القائد على عقد مؤتمر غدا بدار الحكومة على أن يحضره مندوبون عن كل من القوات المصرية والأردنية واليهودية ومندبون عن هيئة رقابة الهدنة وذلك للعمل على تخطيط منطقة جبل المكبر حتى يتبين مستقبلا الطرف الذي يبدأ في العدوان ونقض الهدنة .

عدت مساء اليوم إلى مقر القيادة حيث عقد القائد اجتماعا حضره جميع ضباطه .. ثم أخذنا في وضع تقرير وضعنا فيها تفصيلات المعركة ونتائجها لنبعث به إلى رئاسة القوات .

5 محمد سالم عبد السلام 194 8

وصل اليوم إلى بيت لحم البكباشي إسماعيل شيرين ( القائم مقام إسماعيل شيرين بك) ومعه اليوزباشي صلاح سالم موفدين من القيادة العليا للاشتراك مع القائد في المناقشة التي ستدور بين الجنرال رايلي والكولونيل كوكس مندوبي لجنة الهدنة وبين ممثلي القوات العسكرية الثلاثة من مصرية وأردنية ويهودية .. وبعد أن اجتمع بهما القائد فترة من الوقت صحبهما معه إلى دار الحكومة حيث عقد الاجتماع في مقر الصليب الأحمر الدولي ..

6 محمد سالم عبد السلام 1948

جاء اليوم البكباشي أحمد عبد العزيز إلى مركز قيادتي وبصحبته أحد مندوبي الهدنة ثم صحباني إلى مواقعنا الأمامية حيث سمع مراقب الهدنة بنفسه بعض الطلقات السريعة التي كان اليهود يطلقونها بين كل لحظة وأخري وكان القائد يصف لمراقب الهدنة خرق اليهود للهدنة قائلا إنهم جبناء ولم يحاول القائد أن ينبطح أو يختفي من نيران اليهود بالرغم من أن وجهه وشكله قد أصبح مألوفا لديهم لا أعلم ماذا يكون موقفي وأنا أتخيل القائد وهو بجواري يسقط جريحا أو قتيلا .. ولهذا حذرته مرارا وحاولت أن أرهبه فقال لى : إنني أشجع منك يا معروف ، ومهما كان الفارق في سننا كبيرا إلا أنني ما زلت أكرر أنني أشجع منك فاتركني وشأني، إنني أريد أن أري بعيني جنودي وهم في خطوط النار الأمامية .

وليعطني القائد درسا ذهب إليهم في الخط .. وهنالك وجد بعض أخطاء وقعت فيها تحصينات الدفاع فأنبني كثيرا قائلا إنه يريد دفاعات أحسن وأعظم مما هي عليه .. فسكت صاغرا ولم يكن بيدي من حيلة .

وفي الخطوط الأمامية قال لي أنه اتفق مع مراقبي الهدنة على أن يجتمع مع مندوبي اليهود عند آخر منزل من مواقع دفاعنا أمام القدس الجديدة لقد وعد القائد فلم أستطع أن أحول دون تقدمه في وضح النهار إلى هذا المنزل ومعنا أحد مراقبي الهدنة لقد كنت أنا شخصيا أصل إلى هذا المنزل متسللا أثناء الليل وإذا بأحمد عبد العزيز يضطرني إلى أن أتقدم إليه في أوضح ساعات النهار :

كنت أسير وأنا أبتهل إلى الله حتى لا يفاجئنا اليهود بنيران كثيفة يصلون بها هذا المنزل أو يعمدون إلى هجوم غادر لقتل نمر الجنوب أو أسره . ذهب القائد تحرسه عناية الله إلى هذا المنزل ... وهنالك تقابلنا على الحدود الفاصلة بين المنازل ومن حولنا كانت المنطقة ملغمة بآلاف الألغام !

كان المنظر رهيبا ... نمر الجنوب ينظر لمندوبي اليهود وقد وقف معهم أحد مراقبي الهدنة نظرة كلها جبروت وقسوة... وإنه يضع يديه في وسطه ويتحدث إليهم بكل احتقار ..

وبعد أن حددنا الحدود بيننا وبينهم التفت إلى قائلا : هيا بنا يا ولدي لكي نعود لقد أدي واجبه فلم يعد هنالك حاجة للبقاء .

وقبل أن نمرح عائدين صافح أحمد عبد العزيز مراقب الهدنة في الجانب اليهودي ثم استدار عائدا فما كان من المراقب إلا أن قال له :" ألا تصافح المندوب اليهودي "

ويبدو أن مراقب الهدنة استفزه بهذه الكلمة واحمرت وجنتا أحمد عبد العزيز في الحال سرعان ما وضع يديه في خاصرته قائلا ما تعودت أصافح أعداء بلادي بينما قواتنا في حرب معهم .

20 محمد سالم عبد السلام 1948

عقد اليوم أحمد عبد العزيز اجتماعا في مقر قيادته في بيت لحم وقال لنا :" لقد نجح مندوبو الهدنة بالاشتراك مع اليهود في أن يشغلونا منذ يوم معركة جبل المكبر التي خسرها الصهيونيين بتخطيط خطوط الهدنة الفاصلة بيننا وبين اليهود .. وقد علمت اليوم من مصدر وثيق أنهم سيشنون هجوما على مواقعنا في اللحظات الأخيرة قبل الانتهاء من تخطيط الحدود فإياكم والارتداد شبرا وإياكم والتواكل وإياكم والنوم هذه الأيام فإذا هاجمونا فوصيتي لكم أن تقاتلوهم واصمدوا في مواقعكم وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين ".

21 محمد سالم عبد السلام 1948

قدمنا اليوم اليوزباشي صلاح سالم موفدا من رئاسة القوات وقال لأحمد عبد العزيز إن القيادة تلقت إشارة بأن اجتماعا أخيرا سيعقد بدار الحكومة اليوم للإنتهاء من عملية تخطيط الخطوط ثم صحب اليوزباشي صلاح سالم القائد ومعه اليوزباشي حسن فهمي إلى مقر الاجتماع .

وعدت كعادتي بعد أن تفقدت مواقعي إلى مقر القيادة ساعة الغروب لأرفع تقريري إلى القائد وأتلقي منه إرشاداته فعلمت أنه لم يعد بعد من دار الحكومة .

وفي الساعة العاشرة مساء طلبني القائد بنفسه تليفونيا من مركز قيادتاه وقال لى :" رغبت أن أحذرك من اليهود مرة أخري فاحذرهم يا معروف لأني أتوقع منهم اليوم أو غد هجوما غادرا .

22 محمد سالم عبد السلام 1948

قصد القائد في ساعة مبكرة من صباح اليوم إلى دار الحكومة وبصحبته اليوزباشي صلاح سالم فاجتمعا بالجنرال رايلي ثم عادا ساعة الظهيرة بعد أن انتهت مباحثاتهم .

انتهيت من عملي متأخرا اليوم فقررت العودة إلى مركز القيادة لأري القائد وأعرف منه آخر تطورات الموقف وفي بيت لحم وجدته واقفا في الشارع المؤدي إلى مركز القيادة وبجواره اليوزباشي صلاح سالم وكان القائد يقف وبيده ساندوتش يأكله .

أوقفت سيارتي وقلت له : إلى أين ؟ فقال : إلى المجدل ... فسألته عما يحمله على الذهاب إليها في مثل هذه الساعة ؟ فقال لإنهاء موضوع التخطيط ولمسائل متعلقة بمراقبي الهدنة وبعض الشكايات الأخرى . وأضاف قائلا : ربما طلبت في هذه المرة إعفائي من منصبي فقد ضقت ذرعا بعدم إجابة مطالبي ... إنني حريص عليكم وأود لكم النصر ولكن هذه متاعبي سأسردها للقيادة العامة .

كان ما يزال يأكل الساندوتش بينما التف حوله جميع ضباطه تقريبا قائلين له إن الليل قريب ولا داعي لسفرك الآن ولتسافر في ساعة مبكرة من صباح الغد فرفض قائلا إنه يرغب في كسب الوقت ليتمكن من العودة في الصباح الباكر وأضاف : لا تعب في سبيل الله وفي سبيل الوطن والملك وفي سبيلكم ولكي أطمئن وأستريح !

وقبل أن يستقل سيارة الجيب قال موجها الكلام إلينا : كونوا على حذر الليلة . وكونوا رجالا في غيبتي فإذا هاجم اليهود مراكزكم صدوهم .

إني أتوقع منهم غدرا قبل توقيع تخطيطات الهدنة ... إني أتوقعها الليلة أعتمد على الله وعلى شجاعتكم !

وحينئذ تذكرت الأوامر التي صدرت إلينا بإرسال احدي وحدات المشاة إلى منطقة بئر سبع فذكرته بها فقال لى  : يجب أن ترسلها في الصباح الباكر وأنا أعلم احتياجك إلى هذه الوحدة ، ولكن تأكد أن جماعة من المتطوعين سيصلون إليك ، وقد طالت مناقشتنا في هذا الموضوع فقال : ثق أن هنالك متطوعين من ذوي القلوب الحديدية سيصلون إليك حالا .

ثم ودعناه فسار على بركة الله ومعه اليوزباشي صلاح سالم وسائق سيارة الجيب .

23 محمد سالم عبد السلام 1948

لم أنم هذه الليلة وكنت ساهما قلقا فهل كان شعورا بالحادث الرهيب الذي ذهب ضحيته قائدنا العزيز كنت أمينا على نصائحه الأخيرة فتفقدت جميع مراكزي الأمامية وفي الصباح الباكر ذهبت إلى مركز قيادة السرية التي ستسافر إلى بئر سبع حي ودعت جنودها وقلت لهم : إن هذا يوم أغبر ويوم أسود في حياتي لأنني أفارق وحداتي التي أعزها وأحبها لبسالتها في الجهاد.

لا أدري لم قلت هذه الكلمة.. ولكني ما كدت أعود لعربتي لأتوجه بها إلى منطقة شرفات حتى فوجئت بأحد المجاهدين العرب وهو الحاج أبو زيدان وكان مغبر الوجه مكلوم الجسد ويتجلي الحزن على جميع جوارحه فقال لى عوضنا على الله وإلى اللقاء يا أحمد.

ولو كان والدي حقا الذي مات لما بكيته ولما تأثرت بأكثر مما شعرت به لفقد قائدن أحمد عبد العزيز .

قصدت إلى مركز القيادة العامة حيث عقدنا مؤتمرا عسكريا كان يسوده الوجوم .

وتكلم البكباشي وليم عبد المسيح بصفته أقدم ضابط فعزانا وهو يبكي وقال :" احجزوا هذا الخبر عن الجنود حتى لا يصدموا بمثل ما صدمنا "

لقد كنا جميعا مستعدين لتحمل نبأ فقد قائدنا فكيف لجنودنا أن نخفي عنهم نبأ استشهاده وماذا ستكون النتيجة لو انتهز اليهود المناسبة وشنوا علينا هجوما مركزا !

بالرغم من ذلك فقد صارحت قواتي بالحقيقة الأليمة وقلت لهم :" إن اليهود سينتهزون هذه الفرصة فلنقضي عليهم تخليدا لذكري أحمد عبد العزيز وإنني لأقسم ولم أجفف دمعي على أحمد عبد العزيز إنه لو هجمت علينا اليوم شياطين الدنيا والآخرة لقضينا عليهم قضاء مبرما ".

عدت إلى نفسي بعد ذلك أتذكر اللحظة الآخرة في حياة أحمد عبد العزيز وكيف ذكرني بواجبي فاضطررت أن أرضخ

رجل عاشت التضحية في قلبه كما صدرت في الذكري الأولي الصحف تقول :

" كم من المصريين- والعرب – يذكر اليوم هذا الاسم ويذكر صاحبه الذي مر على استشهاده الرائع عام كامل ؟

رجل عاشت التضحية النبيلة في قلبه ، وانطلق الفداء الكريم في عروقه مع دمائه الأبية ... رجل عرف أن التضحية أخت الصمت والتواضع وأدرك أن الفداء أبو المكرمات ، فحمل رأسه على كفه ، في أخطر ساعة من ساعات التاريخ المصري الحديث ، وانطلق كالشهاب في ميدان البطولة ، رائدا في ساحة الجهاد وبطلا في ساعة الشدة رجل نمته مصر ، أرض المعجزات ومشى – وقد دقت الساعة – إلى أشرف غاية وأجل قصد وعلى رأس عصبة من الشباب مرفوعة هاماتهم بفضله متقدة قلوبهم بنار غيرته ..

شباب ألهمهم إيمانه وألهبتهم حماسته يرونه صانع معجزة فيصنعون المعجزات ويبنون كما يبني الباقيات الخالدات ويكتب ويكتبون على رمال الصهيونية أنضر الصفحات .

أتذكره وقد مر العام ، أم نسيناه ..؟!

أتذكر تلك الربوة البعيدة في ثري الصهيونية وذلك القبر البسيط القائم وسط عشرات القبور في كل قبر بطل ، وعلى كل قبر سحابة من رضوان الله ..؟!

وكيف تنسي مص ابنها العظيم طليعة المجد الطريف ، وعنوان البعث الكبير وكاتب تلك الصفحة الخالدة المشرقة في كتاب الوعي المصري المجيد ؟

إننا نذكر أحمد عبد العزيز ولا ننساه..

نذكر جهاده في سبيل الله وكفاحه في سبيل الوطن واستشهاده في ساحة الفخار .. نذكره شهابا ساطعا ، وفدائيا صامتا وبطلا رائدا.. نتذكره ونذكر القبر المتواضع الجاثم على تلك الربوة البعيدة في ظل من رحمة الله ورضوانه القبر الذي ضم فات شهيد صنع لمته المجد ثم لحق راضيا بالأبرار الأطهار من بناة التاريخ .

حية هي ذكراه العاطرة ..

حية في قلوبنا إلى آخر الزمان !"

البطل الشهيد

كما كتب الأستاذ محمود عيسي مقالا في مجلة الجيش قال فيه

في مثل هذا اليوم من عام 1948 ، صار أحمد عبد العزيز في عداد التاريخ !..

ولكن بعد أن ترك من خلفه تراثا من الذكري والقدوة والتضحية في دنيا الأثرة والنفاق والمجون .

وبذل دمه وقلبه وروحه رخيصة ليقيم مجدا لجيشه ، وشهرة لأمته وتاريخا لوطنه وسمعة لمواطنيه .

فلا شئ كان يملأ بصره غي الكفاح المنزه ولا شئ يستهوي حياته سوي ميتة الشهيد.

فدورة الزمن ينبغي أن تعاد والإمبراطورية الموعودة يتعين أن تقام والراية المصرية يقتضي أن تتألق .

ولا يتطلب هذا كله إلا أن تملأ القلوب ب" الإيمان" وتحشد الرءوس بـ العلم " ويستفز الشبيبة بـ" الحماس " وترسم الخطوط في " القيادة"

أما الكلام في عصر " العمل " والضعف في عالم " القوة والتملل في دنيا" السرعة " فمعناه الخذلان والانهيار والموت الذي لا يرجي بعده بعث .

على مثل هذا الضوء هيا خطته ، ومن مراجعه الماضي كون فكرته وفي الطريق الموعود شق خطواته..

وبدأ يعمل لا لينتظر الرجل الذي يقود شبابه وإنما لكي يكون الشاب الذي يقود الرجال .. فلم لا يكون هو " المعجزة" التي تحول السيل وتحطم القيود ، وتنقذ الوطن . لم لا يتغلب على القدر الجاثم على ضفاف الوادي ، لم لا يكون رجل الحرب هو المنظم لمستقبل الوطن طالما فشل الآخرون .

إذن فليستوعب حركات التاريخ الكبرى ويستذكر مأساة مصر ويستلهم كبار القادة ويعيش على تجارب المؤلفين يتلقي إيحاء الفلاسفة .

أما القرآن فينبغي أن يحفظه ويجيد قراءته ، ويفهم تفسيراته ويهضم مثله وليكن له أسلوب في الحديث فيضغط على كلماته بعنف ويصور معانيه بقوة ويغير ملامحه بتغير موضوع حديثه ، وليقل عنه الناس ما يقولون وليتخذ لنفسه طريقة في العمل تنزهه عن السفاف وسبيلا في المعاملة يرفعه بين المتعاملين .

أما إذا مشي على الأرض فليدق على صدرها وليسع في جنباتها ليكن وقع خطواته منتظما أشبه بألحان الموسيقي سواء أكان في فترات فراغه أو وسط جنده وليرفع هامته نحو السماء ليتذكر الله وليحدث في أغوار الفضاء ليبحث عن نجوم الأمل وليتسامي عن الإطراء حتى لا تتريه روح المذلة.

وتطمح نفسه في الارتواء من مناهل المعرفة فيطرق أبواب كلية أركان قراءاته ويفهم تفسيراته ، ويهضم مثله ، وليكن له أسلوب في الحديث فيضغط على كلماته بعنف ويصور الحرب ويتخرج فيها في طليعة الخريجين ويكبر فيه أساتذته روح الابتكار كما يشيدون بامتياز المثالية .

ويعكف على الكتابة والتأليف ويمسك بالقلم ليكتب من أغوار قلبه وينتزع الأفكار من رأسه وينشر على القراء حديثه .

ويتطلع الناس إلى الضابط الكاتب ويرمونا بنوع من الزهو ، فلا يعبأ بما يرمي به ولا يكترث طالما هو نفسه يعرف دخيلته ويؤمن برسالته وعلى صفحات " مجل الجيش " نشر مقالاته وأبحاثه التي اتسمت بالأفكار المدروسة والأسلوب الأدبي الرصين وحرارة الوطنية الخالصة .

واشترك في مسابقتين اثنتين من مسافات الموضوعات العسكرية فلم يستطع واحد من الراسخين في الكتابة والصحافة أن يزحزحه عن الجائزة ويحرمه منها فقد نالها بتفوق في المرتين وكانت الأولي موضوعا عسكريا صرفا اسمه " المفاجأة " والثانية عن مصر والسودان وفي هذه المباراة الأخيرة استطاع الكاتب البارز أن يبرز شخصية الضابط ويتكلم بلغة المؤمن بحق بلاده – شمالها وجنوبها – في الوحدة استنادا لروابط الطبيعة والجنس واللغة والدين .

ومن رسائل الثقافة العسكرية التي تحمل اسمه " رجال السيف ورجال القلم " و" التربية العسكرية " وقد شاكته في كتاب غريب من نوعه أطلقنا عليه " النجاة من الموت "

وظل في منصبه العسكري يحترق شوقا إلى معمعمة القتال لكي يجرد السيف الذي علاه الصدأ ويختبر الأفكار التي طالعها في الكتب .

ولكن مثل هذه الأمنية لم تحقق إلا يوم فارق البريطانيون الصهيونية والتقت كلمة العرب على إنقاذها من اليهود !

فكان أول ضابط يعلن عن رغبته لمقاومة الخطر اليهودي ويتنحي عن منصبه الرسمي ويتقدم لكي يقود الفدائيين العرب لمناهضة العصاة ! ولم يفكر في زوجته الشابة ، ولا أولاده الصغر إنما فكر في الواجب الذي يستحثه والدم المراق الذي ينبغي أن يثار له .

واستطاع القائد الشاب أن ينال حب رجاله وإعجابهم فوضعوا أرواحهم بين كفيه ... وقالوا له :" ولو ألقيت بنا إلى جهنم فإنك ستجدنا صاغرين ! "

وتقدم بهم وسط النيران يمهد الطريق ويطهر الأوكار ويفترس الأعداء ..

وتعرض للموت أكثر من مرة ولكن في كل مرة كان الموت يخطئ والهدف ويصيب سواه ويتقدم القائد كما لو يتقدم في نزهة على شاطئ النيل !

وقاد الفدائيين إلى النص معركة واحدة لم يفقدها ، وهدف واحد لم يتحول عنه فالإصرار على التقدم من خطته والقضاء على الغريم آية نفسه ..

واستغاث اليهود منن قادة الحرب الألمان ليواجهوا القائد المصري الشاب .. ولكن لم يستطيعوا أمامه سوي العجز وصد اليهود آلاف الجنيهات مقابل أس القائد المصري لكي يتخلصوا من جبروته ..

ورقد البطل تحت الثري في احدي مقابر غزة بين عشرات الضحايا ورحل أحمد عبد العزيز الذي قال يوما :

" نحن نريد أن نتحدى الموت .. لا لكي نعيش وترصع صدورنا بالأوسمة أو تكلل رؤوسنا بأكاليل الغار ، بل لكي نحقق الهدف الذي هجرنا بلادنا وأولادنا من أجله ، أما بعد ذلك فمرحبا بالموت في أى ساعة يجئ .. بل لعل الموت في هذه الساحة ، وبعد بلوغ الهدف – هو أشف وسام يمكن أن يطمع فيه الواحد منا" في الذكري الرابعة

كما كتب الأستاذ عبد المنعم الصاوي في الذكري الرابعة يقول

" في مثل هذه الأيام منذ أربع سنوات استشهد البطل المصري أحمد عبد العزيز في الساحة المقدسة بأرض السلام.

وتاريخ أحمد عبد العزيز لا يمكن أن يكتب كما تكتب تواريخ العظماء الآخرين .

لا يمكن أن يؤرخ تاريخ الرجل بأنه ولد في تاريخ معين ودخل الكلية الحربية في تاريخ معين وترقي إلى رتب معينة في تواريخ معينة

إن هذا الأسلوب في التاريخ لا يتفق مع طبيعة البطل المصري الشجاع الذي طلب أن يحال إلى الاستيداع ثم كون فرقة الفدائيين اقتحم بها أرض الصهيونية مصمما على أن يخلصها بدمه من العار .

وعلى أبواب الصهيونية عسكر الرجل بقوته ، يتحين الفرصة للدخول وكانت القوات البريطانية قبل منتصف مايو 1948 وفجأة يفتح أفراد المعسكر البريطاني الضخم عيونهم ذات صباح ليجدوا أحمد عبد العزيز وقواته وقد وثبوا من أمامهم إلى خلفهم في خفة الطائر ، وسرعة الفدائي المدرب .

لقد قاد الرجل بنفسه أول سيارة من سياراته المصفحة المعدودة ومشي بها على شريط سكة حديد الصهيونية وما كان يخطر بذهن بشر أن فدائيا من الفدائيين يفكر في هذا ليفلت من الحصار

ونجح أحمد عبد العزيز فأخذ ينتقل من تبة إلى تبة ومن جبل إلى جبل ومن بلد إلى بلد أسه فوق كفه وكتاب الله فوق قلبه .

كنت مهمته شاقة وكان طريقه وعرا مليئا بالأشواك ولكن أقدام أحمد عبد العزيز كانت تتحمل هذه الأشواك ..

حارب وكافح وألحق بالإسرائيليين خسائر فادحة ، وظن يثب من مكان إلى مكان بقوته الصغيرة المحدودة وسلاحه الخفيف السريع حتى وصل إلى بيت لحم ، وكانت قوات الجيش المصري قد دخلت غزة .

وهناك في بيت لحم عسكر بجنده وأخذ يكيل للقدس الجديدة ضربات قاصمات خيلت لقوات إسرائيل أن الرجل قادم بجيش جرار ولم يكن الجيش الجراء سوي قلب من حديد .

حتى قضي الحظ العاثر أن يستشهد أحمد عبد العزيز على الأرض التي حارب فيها واستبسل واستمات وكانت آخر كلمات لفظها :" أوصيكم بجنودي أوصيكم بأولادي " . وأطبق جفنيه إلى الأبد..

ولكنه ترك وراءه مجدا وفخارا .

وترك قبل هذا وذاك مثلا للبطل .. مثلا يحتذيه الأبطال وما أحوجنا إلى الأمثال ".

( عبد المنعم الصاوي )

قصة استشهاد بطل كما كتبت المصور قصة استشهاده فقالت :

" في مثل هذه الأيام من أربع سنوات فقدت مصر بطلا من كرم أبطالها ، ومجاهدا من خيرة مجاهديها هو القائد الشهيد " أحمد عبد العزيز الذي لقي حتفه في معركة الصهيونية في ظروف غامضة .

ولعل هذا المقال الذي استقينا معلوماته من أحد رفاق الشهيد يكشف للقارئ كيف استشهد البطل ..

معركة صور باهر

كانت معركة " صور باهر " هي آخر معركة خاضها البطل الشهيد " أحمد عبد العزيز " وقد أدمت هذه المعركة قلب اليهود وأدارت رؤوسهم وتركتهم يتخبطون كالسكاري بعد أن ظلوا أكثر من شهر يجاهدون جهاد المستميت لاستعادة " صور باهر " التي تسيطر على مستعمراتهم المحيطة بالقدس الجديدة والتي تهدد الطريق المؤدي إلى القدس من الجنوب .

وكان – رحمه الله – يوزع جهوده بين قطاعات مواقعه ، ويدير دفة النيران التي أذابت الهجوم الصهيوني بعد أن زادت ضحايا العدو على مائتي قتيل بخلاف الجرحى الذين سحبهم العدو إلى قواعده كما هي عادته وحتى بعد أن هدأت وانتهت المعركة بارتداد اليهود ظل أحمد عبد العزيز مستيقظا وقضي الهزيع الأخير من الليل يمر على مواقع رجاله مطمئنا ومشجعا .

يوم 20 محمد سالم عبد السلام

فلما أصبح الصباح تسلم القائد البطل إشارة عن طريق مندوب الهدنة الأمريكي المرافق له بأن هناك فكرة ترمي إلى عقد اجتماع يضم القائد المصري والقائد اليهودي ، ومندوب الهدنة الجنرال " رايلي " رئيس المراقبين بمنطقة القدس ومندوبي الصليب الأحمر الدولي للنظر في المشاكل التي نجمت عن احتلال اليهود للمنطقة المرحمة الخاضعة لهيئة الصليب الأحمر الدولية ، وأنه قد تحدد لهذا الاجتماع موعد هو يوم الجمعة الموافق 20 محمد سالم عبد السلام في الساعة العاشرة صباحا بمدينة القدس ... فوافق الرجل فقد كان يتسلح بالحق والقوة معا لم يخامره أى شك في أن من المصلحة العامة أن يحضر هذا الاجتماع ليبسط حجته ويدافع عن سلامة موقفه ويشرح اعتداءات اليهود في الحوادث التي خرقوا بها الهدنة .. حتى إذا ما حان موعد رحيله لحضور الاجتماع أعد عدته وجمع خرائطه ويمم شطر القدس ، لكنه لم يستطع مواصلة سيره إذ أطلق اليهود النيران عليه رغم وجود علامة الأمان على سيارته ووضع العلم الأبيض في مقدمتها وغم إخطارهم عن طريق مندوب الهدنة بكف الضرب في هذا الموعد فاضطر إلى العودة وأرسل إشارة احتجاج واعتذار عن عدم استطاعته حضور هذا المؤتمر وقضي يومه في المرور على مواقعه دون أن يعطي لبدنه لحظة واحدة يستريح فيها من عناء المعركة الأخيرة التي استمرت ثلاثة أيام .

البطل يحضر المؤتمر !

وفي يوم الأحد 23 محمد سالم عبد السلام استطاع رحمه الله – أن يحضر هذا المؤتمر وقد كان هناك كل من عبد الله التل قائد منطقة القدس العربية ومندوبي الهدنة المرافقين للقوات المصرية والقوات العربية والقوات اليهودية وهم جميعا برئاسة الجنرال " رايل" وكان معهم أيضا الدكتور " لينهر" مندوب الهيئة الدولية للصليب الأحمر .. وكان مقررا أن ينعقد الاجتماع في الساعة العاشرة صباحا من نفس اليوم في دار القنصلية البريطانية وهناك دار البحث في اعتداء اليهود على هذه المنطقة المحرمة ونهب أثاث وأدوات الكلية العربية التي تقدر بعدة ملايين من الجنيهات واحتلالهم لعدة مبان أخري ..

وكان قائد قوات الهاجانة الذي شهد المؤتمر هو الكولونيل " باييم هالبين " البولندي ، وقد استمرت المناقشات والمجادلات حتى قدم الجنرال " رايلي " اقتراحه الخاص بعدم إطلاق النيران من الجانبين في هذه المنطقة المحرمة لحين صدور إجابة الطرفين على النقط التي دار البحث حولها في المؤتمر .

اعتداء اليهود

وقد طلب الفقيد أن يسجل المؤتمر اعتداء اليهود على الأموال العربية بجانب اعتدائهم من الناحية العسكرية فقال الجنرال رايلي إن مسئولية ضياع مهمات وأثاثات الكلية العربية التي كانت في عهدة الصليب الأحمر الدولي تقع على عاتق اليهود ... وأيده الدكتور " لينهر" مندوب الصليب الأحمر في ذلك قائلا إنه يحمل اليهود مسئولية ضياع كل هذه الأموال والمهمات.

انتهي الاجتماع وكان مفوضا أن يبقي البطل في مركز رئاسته وأن يرسل بنتيجة هذا المؤتمر إلى الرئاسة العامة للقوات المصرية بالصهيونية ولكنه فضل أن يذهب بها بنفسه رغم اقتراب المساء ورغم خطورة المرور في الظلام .. وكان رحمه الله يهدف من وراء مخاطرته أن يشرح وجهة نظره بجانب ما يشرحه من تطورات المؤتمر على أن يعود في صباح اليوم التالي حاملا معه رأي القائد العام ليحدد موقفه على ضوء ما يتفق معه عليه .

في الطريق إلى مركز القيادة

وغادر أحمد عبد العزيز قاعة المؤتمر بدار القنصلية البريطانية في الساعة الرابعة مساء قاصدا إلى " بيت لحم" فوصلها في الساعة السادسة مساء إذ كان عليه أن يتخذ طريقا غير الطريق الذي يخترق القدس الجديدة والذي يشرف عليه اليهود .. ثم غادر" بيت لحم" إلى مركز القيادة العامة فلم يكد يصل إلى منطقة " عراق المنشية" حتى كان بعض اليهود قد سبقوه إليها متنكرين في زي الأعراب فنشبت بينهم وبين المدافعين معركة قصيرة انتهت قبل وصول القائد بقليل . طلق ناري :

وفجأة دوي في الفضاء طلق ناري خرج من اتجاه مستعرة " جات" التي لا تبعد عن الطريق أكثر من 1200 ياردة وإذا بالرصاصة تستقر في كبد الفقيد ، وإذا به يسقط من العربة بعد أن أمسك بسلاحه ليستعد للدفاع عن نفسه وعمن معه من إخوانه الذين انتشروا حول العربية إذ كان وحده المصاب دونهم ..!

واستمر جرحه ينزف وهو يقوم تارة ويرقد تارة أخري .. إلا أن هذا الألم لم ينسه أن يوجه زملاءه إلى المكان المستتر الذي يمكنهم الاختفاء فيه من النيران الطائشة التي كانت تنهال عليهم من مواقع المناضلين المدافعين إلى أن استطاع أحد زملائه أن يتسلل إلى مواقع هؤلاء المناضلين ليكشف لهم عن شخصية القائد وليأمرهم بإيقاف إطلاق النار !..

وقد تعلل المدافعون يومئذ بأنهم لم يكونوا وحدهم الذين يطلقون النار وأنهم سمعوا طلقات آتية من يمين الطريق فاضطروا لإطلاق النيران في اتجاهها ردا عليها إذ ظنوا أنها موجهة إليهم !

ولم يستطع زملاء الفقيد عمل شئ سوي ربط الجرح برباط الغيار الميداني ولكن النزيف كان من السرعة والقوة بحيث ضاع كل أمل في نجاه القائد الجريح حتى صعدت روحه الكريمة إلى بارئها وهو على صدر أحد زملائه يوصيه بالمتطوعين أولا وبأولاده ثانيا !..

عجائب المصادفات

ولعل من أعجب المصادفات أن القائد اليهودي الذي اشترك مع الفقيد في مؤتمر القدس لقي حتفه هو الآخر في نفس الوقت الذي مات فيه بطلنا الشهيد !

وهكذا قدر للقائدين أن يغادرا المؤتمر السالف الذكر ليلقي كل منهما حتفه ويذهب إلى عالمه الآخر ... فعجبا للأقدار !!"

أتمني أن تكون نهايتي في معركة

وفي الذكري الرابعة كتبت مجلة الإذاعة

الشهيد:

"..... سأموت الآن وكنت أتمني أن تكون نهايتي في معركة أوصيكم جميعا بأولادي ".

تلك كانت آخر كلمات البطل أحمد عبد العزيز .. قالها وهو يلفظ أنفسه الأخيرة ودماؤه الزكية تنزف منه غزيرة تخضب رمال الصحراء وتروي شجرة الحرية التي تظل مصر اليوم.

ومات أحمد عبد العزيز لا في احدي المعارك التي خاض غمارها لأنه كان دائما منتصرا ، لا برصاص اليهود لأنهم لم يستطيعوا أبدا أن ينالوه ولكنه مات شهيدا برصاصة طائشة !!

كان ذلك في مثل هذا اليوم منذ أربع سنوات خلت ، حيث كان عائدا من مؤتمر بالقدس حضره مندوبا عن القوات المصرية لبحث المشاكل الخاصة بخطوط الهدنة .

وانقضي الاجتماع والشمس تميل وراء الأفق ، وظلمة الليل تزحف وئيدة تنشر ستارا قاتما على الصحراء والبطل يقود سيارته الجيب وإلى جانبه الصاغ صلاح سالم أحد أركان حربه ، وكان أحمد عبد العزيز في طريقه إلى القيادة العامة ليخطرها بما دار في الاجتماع فطلب إليه مرافقة أن يؤجل ذلك لليوم التالي لأنهما لا يعلمان كلمة " سر الليل " ولكن شجاعته أبت عليه أن ينتظر الغد. فدفعت به إلى مصيره المحتوم إذ أطلق عليه أحد الحراس طلقة إنذاريه ولكنها أصابت الشهيد واستقرت في الكبد ، ووري جثمانه الطاهر في المنطقة المجاورة لمقبرة شمشون الجبار في غزة .

واليوم .. يحتفل ركن الجيش بذكراه الثالثة فيقدم الأستاذ محمود عيسي في الخامسة والنصف حديثا بعنوان " قصة بطل" ثم يقدم الأستاذ صالح جودت والبكباشي كمال عبد الحميد زيارة للميكرفون لمقبرة الشهيد..

رحم الله البطل أحمد عبد العزيز وأنزله مكانة الصديقين والشهداء فقد وافاه الأجل المحتوم بعد أن سطر صفحة مجيدة في تاريخ الجيش المصري الباسل وضرب أروع الأمثلة في البطولة والشجاعة والتضحية. ابن أحمد عبد العزيز

يريد أن يكون بطلا كأبيه

وفي الذكرى الخامسة لاستشهاد البطل كتبت آخر ساعة تحقيقا صحفيا تحت عنوان :" ابن أحمد عبد العزيز يريد أن يكون ضابطا كأبيه ":

" تحتفل أسرة القائمقام أحمد عبد العزيز بالذكري الخامسة لاستشهاده في يوم 23 محمد سالم عبد السلام الجاري .

وعند فجر هذا اليوم سيذهب أخوه الصاغ صلاح الدين شريف بسيارته الجيب ليضع باقة من الزهو على قبر أخيه البطل بمقبرة الشهداء في الخفير .

ثم يعود أن يقرأ الفاتحة على روحه .

وفي نفس اليوم ستزور مقرة الشهداء ثلاث سيدات متشحات بالسواد لتضع كل منهن باقة من الزهور على قبر أخيهن البطل .

وفي هدوء ستحتفل الأسرة بذكري أحمد عبد العزيز دون أن يشعر بها أحد .

ولكن أين مصر التي هللت للبطل في كل موقعة من مواقعه . أين مصر التي لبست الحداد يوم استشهاده .. أليس من حقها أن تساهم في هذه الذكري ؟

خمس سنوات تمر على استشهاد أحمد عبد العزيز وفي كل عام تحتفل الأسرة وحدها بذكري البطل في هدوء وكان أخوه يذهب إلى غزة لينوب عن أهله من الترحم على الفقيد العزيز ..

ولكن اليوم .. في ذكراه الخامسة ... وفي عهد الثورة .. أليس من حق مصر أن تساهم في الاحتفال بهذه الذكري لتقدم إلى جيش الفدائيين أروع أمثلة التضحية وإنكار الذات من قائد الفدائيين في حرب الصهيونية  !

لقد كان أول ضابط أعلن عن رغبته في مقاومة الخطر الصهيوني وتنحي عن منصبه في الجيش .. ثم تقدم في الصهيونية ليقود جيش الفدائيين ولم يفكر أحمد عبد العزيز في زوجته الشابة ولا في طفليه الصغيرين وكان أحدهما رضيعا لم يتجاوز الثانية من عمره .

وذهب .. وهو يفكر في الواجب الذي يستحثه ويناديه .

وفي عزيمة وإيمان شق طريقه .. واستطاع أن ينال ثقة رجاله وإعجابهم وقالوا له :" سنكون طوع أوامرك ولو ألقيت بنا في جهنم "..

آخر رسالة إلى زوجته

وفي الأزهر .. كانت زوجته على أحر من الجمر .. تنتظر في كل لحظة خبرا جديدا عن زوجها الذي تتناقل الصحف أنباء مخاطراته على رأس الفدائيين .

وكانت الزوجة البارة في قلق مستمر.. وضاعف من قلقها مرض والدتها التي كانت في النزع الأخير ..

وكان أحمد عبد العزيز يعرف مقدار القلق الذي يساور زوجته فكان يبعث إليها برسالة في كل أسبوع من بيت لحم ..

وتلقت الزوجة فجيعتها في زوجها الحبيب بثبات عجيب .. وتقول بعض سيدات أسرتها .. أنها بكت كثيرا ولكنها كانت تعرف أن البكاء لن يعيد إليها أحمد عبد العزيز...

وفي اليوم التالي لنبأ الفجيعة .. وكانت سيدات الأسرة مجتمعات حولها يقمن بمواساتها .. حمل البريد إلى السيدة " حوروم " زوجة الشهيد رسالة منه وكانت آخر رسائله من بيت لحم ..

يوصيها بولديه

وكان أحمد عبد العزيز يوصي زوجته في هذه الرسالة بولديه خالد الذي تركه في الساعة من عمره ووليد وكان في الثانية يحبو على قدميه .

بعد 3 أسابيع ماتت حماته

وبعد ثلاثة أسابيع من استشهاد أحمد عبد العزيز أصيبت الزوجة البارة بفجيعة أخري في والدتها .. وهي سيدة تركية تزوجت في مصر من حفيد على باشا مبارك وأنجبت زوجة أحمد عبد العزيز وثلاثة من أشقائها .

ولا يعرف كثيرون أن السيدة والدة زوجة الشهيد كانت تعارض في زواج ابنتها من أحمد عبد العزيز..

وأصر الشهيد ... وأصرت زوجته .. بل إنها اختارته من بين أكثر من خمسة تقدموا لخطبتها .. وتغلب الاثنان في النهاية على عناد والدتها فقبلته زوجا لابنتها .

وكان قلب السيدة العجوز قد تفتح لشهيد بعد زواجه من ابنتها لما لمسته من رجولته ومتانة خصاله .. وخشيت الأسرة أن يتسرب نبأ استشهاده إليها وهي في فراش مرضها ولكنها عرفت بالفجيعة من خادمة في منزلها .. ولم تتحمل النبأ فأصيبت بأزمة قلبية .. ثم ساءت حالتها وماتت بعد ثلاثة أسابيع .

وعاشت الزوجة بعد لذل ك .. وقد اتخذت من رسالة زوجها الأخيرة وصية خالدة تتحكم في كل خلجة من تصرفاتها .

فهي تعيش اليوم من أجل ولديها .. بعد أن أصبحا كل شئ في حياتها .

خالد يريد أن يصبح ضابطا

وتقول أسرة الشهيد .. إن خالدا الابن الأكبر للشهيد عرف بفجيعته في والده في نفس اليوم الذي عرفته فيه والدته .

فقد كان في الساعة .. وأدرك أن والده لن يعود ثانية .

ويشبه خالد والده إلى حد كبير .. ويقول عمه الصاغ صلاح شريف .. إنه يريد أن يصبح ضابطا كوالده ..

وقبل حركة الجيش .. حاول عمه أن يثنيه عن رأيه .. وكان يعمل على أن يحببه في أن يكون طبيبا .

ولكن كان خالدا عنيدا... وكان يصر على أن يصبح ضابطا كأبيه بعد أن يشب ويكب ..

أما وليد .. فهو يقلد أخاه في كل شئ .. ويريد أن يصبح مثله حتى في مستقبله .

الفدائيون في الزمالك

وفي منزل الأسرة بالزمالك .. يحتفظ خالد في حجرة نومه بالحزام الذي كان يرتديه والده يوم مصرعه .. وهو حزام من القماش السميك وقد تلطخ ببقع من دم الشهيد .

وحاول عمه أن يأخذ منه الحزام ليحتفظ به كذكري لأخيه .

وعده بأن يحتفظ به ثم يعطيه إياه عندما يكبر ويصبح ضابطا .. و

ولكن خالدا رفض .. وأصر على أن يبقي الحزام في حجرته .. وقال لعمه :

- أريد هذا الحزام حتى ألبسه عندما أصبح ضابطا في الجيش ..

- ويتكلم خالد الفرنسية والتركية والعربية بطلاقة .. وقد تعلم التركية عن والدته وجدته .. والعربية عن أبيه .

- أما الفرنسية فقد تعلمها في المدرسة حيث يدرس في مدرسة اللويسية .. وقد نجح هذا العام ليتقدم للحصول على شهادة الابتدائية من القسم الفرنسي في العام المقبل .

- وأما المنزل في شارع حشمت بالزمالك يلعب خالد وأخوه وليد مع أبناء الجيران ..

- وفي العام الماضي نجح خالد في أن ينظم من أبناء الجيران جيشا يتكون من عشرين طفلا ..

- وفي هذا العام قبل أن يسافر إلى تركيا سمع عن الفدائيين فأطلق على جيشه اسم " جيش الفدائيين ونصب نفسه قائدا أعلي لهذا الجيش ..

- وكان عمه يزور بيت أخيه .. وإذا به يفاجأ بخالد وهو يقول له :

- يا عمي .. الجيش بتاعي أصبح مستعدا عاوزنا نحارب فين ! وضحك الصاغ صلاح شريف وقال لزوجة أخيه :" إن خالدا يشبه والده إلى حد كبير .. ومن شابه أباه فما ظلم ""!

- وسمع خالد ما قاله عمه .. فقال له:

- بابا كان بطل .. مفيش حد يشبهه !

- وسكتت والدته .. ثم خرجت من الحجرة لتمسح دمعة ترقرقت في عينها .

- لقد أثارتها الذكري ... هي التي ترفض أن تتزوج ووهبت نفسها لتربي ولديها من أحب عزيز إليها وهو أحمد عبد العزيز "

قصة عمرها عشر سنوات

كما كتب الأستاذ حلمي سلام في مجلة الإذاعة المقالة التالية تحت عنوان :" قصة عمرها عشر سنوات .. شهيد يكتب عن شهيد وتظل القصة ناقصة ":

" عندما كانت حرب الصهيونية دائرة ، كان من حظي كإنسان وكمصري أنني عشتها عشتها معركة.. وطلقة طلقة .. وبلاغا بلاغا .. لم أحارب مع المقاتلين في ميدانها ولكني حاربت من ورائهم ..

وحاربت من أجلهم وحاربت لحسابهم .. كانت انتصاراتهم تهزني وتهز معي قلمي .. وكانت هزائمهم تستثيرني وتستثير معي قلمي بل الحق أن قلمي لم يكن يملك أ، يثور مثلما كانت تثور نفسي .. وربما يكون من الخير أن أعترف لك الآن أنني كثيرا ما كذبت . ..كذبت وأنا أكتب عن حرب الصهيونية مقاتلينا في حرب بالصهيونية .. ولم يكن معقولا حينذاك أن لا أكذب ولقد كان الصدق في مثل تلك الظروف التي ذهب جيشنا إلى أرض الصهيونية ليحارب من أجلها بغض النظر عن الظروف التي ذهب فيها الجيش إلى هناك .. وبغض النظر كذلك عن مدي قوته ، وعن مدي استعداده للمعركة التي صدرت إليه الأوامر فجأة .. وبأى إعداد ولا مقدمات بان يخوضها !

ولكن .. لماذا كذبت ؟

الآن أستطيع أن أقول لكم ..

المؤكد أنني لم أكذب لكي أخون .. وإنما كذبت لكي أقوم بدوري في المحافظة على معنويات المقاتلين في أول معركة يخوضونها ولكي أقوم بدوري في المحافظة على معنويات الشعب الذي كان المقاتلون .. يعتبرون قطعة من قلبه ، وكانوا زهرة أمانيه وآماله .

وكذبت لأحمي المقاتلين أنفسهم من أن يفقدوا الأمل بالشعب الذي كانوا يقاتلون وقد أحاطت بهم هالة كبيرة من مؤازرته وحماسه.

كنت أعرف أخبار الذخيرة الفاسدة ، والاستعداد الفاسد ، والقيادات الفاسدة .

كنت أعرفها حرفا حرفا وتفصيلا من ورائه تفصيل لكنني والمعركة دائرة لم أكن لأسمح لنفسي بأن ألمح إلى شئ من كل ذلك ، حتى ولا مجرد تلميح وإنما استطعت أن أنتصر على نفسي .. استطعت أن أنتظر وعندما سكت دوي المدافع وتوقفت تماما طلقات الرصاص ... تكلمت ..

قلت – في سلسلة من المقالات تجاوزت العشرين مقالا – كل ما لم يكن جائزا قوله والقتال دائرا وشرف جيشنا يتأرجح في مهب الريح !

كفرت عن كذبي الذي شاء الله له ألا يطول ونفثت عن صمتي الذي كان قد أوشك أن يحرقني .

فأخرجت إلى النور كل الحقائق التي كنت قد حبستها عامدا داخل صدري ورضيت نفسي في وقت ما أن أسي بها بين مواطني كما يسير حامل الميكروب بين الناس يحسبونه صحيحا وليس به في الحقيقة من شبهات الصحة قليل ولا كثير !!

لقد كانت حرب الصهيونية درسا وكانت تجربة واستطاعت بعد ذلك أن تكون وهذا هو الأهم – نقطة تحول خطيرة في تاريخنا فبين نيرانها ولدت فكرة الثورة .... الثورة على الطغيان والفساد والظلم ..

وبين نيرانها ورمادها كبرت هذه الفكرة ، ونضجت ، وتبلورت. وعادت من أرض القتال وقد أصبحت حقيقة .. حقيقة قوية كبيرة تعرف كيف تستفيد من كل يوم ، ومن كل ساعة .. من كل خطأ يقع فيه الحكام ومن كل خطيئة يرتكبونها ، لتفرض نفسها على من كان بهم شئ من التردد في تقبلها أو شئ من التردد في الاستجابة إلى ما تريد أن تلقيه على أكتافهم من تبعات جسام ؟

وكما تشق السكين طريقها في قالب الزبد .. شقت الفكرة .. فكرة الثورة التي ولدت بين النار والرماد في أرض الصهيونية طريقها إلى قلوب الأحرار في جيشنا الضباط الذين اكتوت نفوسهم هناك بالذخيرة الفاسدة والقيادات الفاسدة والاستعداد الفاسد !!

وكل ما حدث بعد ذلك .. أنت تعرفه .

لكن الذي لا تعرفه هو أنني عدت في الأسبوع الماضي وبمناسبة مرور عشر سنوات على حرب الصهيونية فعشت المعركة مرة ثانية ، عشتها ذكريات قديمة ، وأوراقا قديمة كالذكريات .

إن بعض ما في هذه الأوراق نشرته في زمن مضي وبعضه أستطيع الآن أن أنشره ويضعه الآخر لا أستطيع أن أنشره قبل أن تمر على هذه الحرب عشرون سنة أخري وربما ثلاثون وربما لا يؤذن على الإطلاق ، أوان نشره !!

وبين هذه الأوراق التي جعت إليها لأقلب بمناسبة مرور عشر سنوات على تلك المعركة . وجدتها ورقة صغيرة جدا ، كتب فيها وبالقلم الرصاص بضعة سطور قليلة ، كتبها صاحبها لتكون – فيما أظن – بداية لقصة .

قصة عن شهيد من أبطالنا .. عن أحمد عبد العزيز .

ثم شاء القدر ألا يتم الكاتب قصته .

لقد استدعاه الواجب إلى ميدان القتال فذهب إليه .

وكأحمد عبد العزيز .. لم يعد من هناك!!

وأمسكت بالورقة الصغيرة التي شاءت الصدف الغريبة أن تحملها سطورا دامية .

سطورا كتبها شهيد هو البطل أحمد فهيم بيومي عن شهيد آخر هو البطل أحمد عبد العزيز وتركها بناقصة تحتاج لمن يكملها !

أمسكت بهذه الورقة الصغيرة الغريبة ومضيت أتأمل ما كتبه فيها البطل الشهيد..

لقد جعل عنوانها :" الراحة الكبرى " وتحت هذا العنوان الغريب الذي كتبه أحمد فهيم بيومي دون أن يحس إنه هو نفسه كان مقدما على هذه " الراحة الكبرى" مضي يقول .

" كان صاحبنا يطالع جرائد الصباح كعادته يوميا وإذا به يبصر بين قرارات مجلس الوزراء قرارا بتعليم أبناء فقيد الوطن مجانا حتى التعليم الجامعي فتمتمت شفتاه رغما عنه مناجيه هذا الشهيد الراحل قائلا :" لتنم الآن هادي البال يا أحمد فقد رعي الله أولادك ".

" والحق .. لقد كان صاحبنا حائرا طوال أيامه السابقة كانت كلمات الفقيد الأخيرة لا تزال ترن في أذنيه إنه ليذكر ذلك اليوم العصيب الذي قضاه وإياه في القدس في احدي المؤتمرات مع مندوبي الهدنة من أجل إقرار بعض المطالب . لكم أصر الفقيد على مطالبه ، وألح في سرعة البت فيها رغم أنه لم يكن لديه الوقت الكافي ليتصل برئاسته فاضطر وقد أسدل الليل ستاره أن يأخذ العربة وإياه ليصلا إلى الرئاسة قبل منتصف الليل كي يطلعا القائد العام على كل ما هو مطلوب ، ولم يكن هذا الشهيد يعرف إنه يسعي لحتفه !"

لقد ركب بجوار صاحبنا ومرقا – ومن معهما بالعربة – مروق السهم لا تخفيهم ظلمة الليل ، ولا وعورة الطريق . لقد أمنا من كل خوف ، لأنهما في الأراضي التي تحتلها قواتنا المصرية ولكن .. يؤتي الحذر من مأمنه ، فما كادا يقطعان نصف الطريق حتى سدت إليهما طلقة واحدة .. نفذت في قلب الفقيد !!

لكم حار صاحبنا في تصاريف القدر فقد كان " أحمد " يميل عليه ليحادثه ولو أنه كان معتدلا في جلسته لمرت الطلقة دون أن تصيبه !!

وسرعان ما أوقف صاحبنا العربة إذ توالت – بعد ذلك الطلقات المنذرة ونزلوا جميعا منها ليحتموا خلفها لقد همس " أحمد " في أذنه :

لتعمل لى شيئا يا صلاح ، من أجل أولادي !!

إنها آخر كلمات فاه بها الفقيد وما زالت ترن في أذنيه .. ولكم حار وقتئذ في أمره، إنه لا يقوي على عمل أى شئ فالرصاص منهمر عليهم انهمار الغيم ولكن هذه الكلمات ..كلمات الشهيد دفعته إلى النهوض والتقدم تحت وابل هذه الطلقات ليصيح في الجنود :

" إننا ضباطكم " ولكن أني لهم أن يستمعوا إليه لقد ضاع صوته وسط أصوات الرصاص !!

وظل صاحبنا يقترب من مراكز الجنود وهو دهش من أمره إن أول طلقة أطلقها هؤلاء الجنود قد أصابت زميله ثم هاهي ذي الطلقات تتوالي عليه فلا يصيبه منها شئ !! إنها تصاريف القدر وأحكامه التي لا تخيب !!

وظلت كلمات الفقيد ترن في أذنيه ".. من أجل أولادي من أجل أولادي " فصارت تدفعه دفعا حتى تمكن من إفهام الجنود أنهم من ضباطهم وأن أحدهم قد أصيب !!

وعندما سكن المكان وصمتت المدافع والبنادق علا صراخ الأمة المصرية المكتوم .. لقد فجعت في فلذة كبدها ، وأعز أبنائها لقد فاضت روحه إلى خالقها !

وهناك .. في أحد المواقع النائية الهادئة ظل جثمانه مسجي وكلماته ترن في أذن صاحبنا " من أجل أولادي .."

لقد تخيل هذين الشبلين وقد تناهي إلى أسماعهما نبأ استشهاد والدهما ورآهما وهما ..

وعند هذا الحد توقف فهيم بيومي فلم يكمل .. لم يكمل ما أراد أن يقوله عن أولاد زميله البطل أحمد عبد العزيز ..؟!

فلماذا لم يكمل فهيم القصة ..؟

لا أدري .

هل ناداه الواجب العسكري ساعة أن كان ماضيا في كتابتها فنحي قلمه جانبا وقام مسرعا فارتدي ملابس الميدان ، ثم ذهب إلى هناك ليصبح - خلال أيام فصار – كأحمد عبد العزيز شهيدا لا يعود ؟

ربما ..

ولكن ... ما الذي جاء إلى أنا بهذه السطور الناقصة الباقية من حرب الصهيونية وفي أى الظروف أخذتها من كاتبها ؟

لقد كان فهيم بيومي من هواة الكتابة ، والأدب ، والصحافة وكثيرا ما أعطاني ما كان يكتبه لأقول له رأيي فيه .

ولكنه لم يكن يعطيني إنتاجه ناقصا أبدا ، كان دائما ينتظر إلى أن يكمله ثم يعطيه لى ، وهذه القصة قصة الظروف التي استشهد فيها البطل أحمد عبد العزيز ليست كاملة ، إنها ناقصة كما قد رأيت وستظل إلى الأبد ناقصة فلماذا دفع بها بيومي إلى قبل أن تكمل وفي أى الظروف دفع بها إلى ؟

لا أدري ...!

لكن الأغرب من هذا كله ، الأغرب من هذه القصة التي كتبها شهيد عن شهيد ثم تركها ناقصة لا تجد من يكملها ، ولا تجد من يستطيع حتى أن يستنتج ماذا كان يريد أن يقول فيها .

الأغرب من هذا ، هو ذلك التوافق العجيب في الظروف التي جمعت بين الشهيدين في حياتهما وفي استشهادهما .

فأحمد عبد العزيز كان يحمل رتبة البكباشي عندما استشهد في ميدان القتال ، ثم أنعم على اسمه برتبة القائمقام بعد استشهاده ونفس الشئ حدث لفهيم بيومي

وأحمد عبد العزيز كان خريج كلية أركان الحرب وأستاذا بالكلية الحربية وكذلك كان فهيم بيومي كان خريج كلية أركان الحرب وكان أستاذا بها عندما استدعاه الواجب إلى ميدان القتال .

وأحمد عبد العزيز استشهد بينما كان يستقل عربة " جيب " وهو في طريقه إلى قائد عام القوات وكذلك استشهد فهيم بيومي كل الفرق أن أحمد عبد العزيز قتل خطأ برصاص جنودنا ، وفهيم بيومي قتل عمدا برصاص اليهود الذين انقضوا على سيارته عندما كان في طريقه من رفح إلى غزة تلبية لدعوة لاسكلية تلقاها من قائد عام القوات !!

وأحمد عبد العزيز تستطيع أن تقرأ اسمه في لوحة الشرف بالكلية الحربية بوصفة طالبا متفوقا فيها وفي نفس اللوحة .. لوحة الشرف ، سوف تجد اسم الشهيد الآخر أحمد فهيم بيومي .

إن أحمد عبد العزيز لم يكن من دفعة فهيم بيومي ولم يكن من سلاحه ولم يكونا صديقين .

فما الذي حرك قلمه ليكتب عن أحمد عبد العزيز ثم لا يكمل القصة ..؟

لقد كان يجب أن أكون أنا أكثر من يعرف .

فقد كنت صديقا للشهيدين وبين أوراقي وجدت القصة الناقصة التي فكر أحدهما في أن يكتبها عن الآخر ثم بدأها ولم يتمها ! ومع ذلك أنت تري أنني لا أكاد أعرف من كل ذلك شيئا !

وبعد فإنها ليست أول ورقة صغيرة عمرها عشر سنوات احتفظت بها بين أوراقي فبين هذه الأوراق .. أوراقي ما يعتبر أقل من هذه قيمة وأصغر منها شأنا ولكنني مع ذلك احتفظت به فمن يدري ماذا ستصنع الظروف غدا بهذه الأوراق الصغيرة التي قد لا يكون لها اليوم قيمة ولا تحرك في الإنسان خاطرا ولا توحي إليه بمعني كبيرا أو صغير !!

لقد علمتني التجربة أن لكل ورقة ، لكل سطر لكل حرف قيمته .... قيمته التي إن لم تنفعني اليوم .. فلابد أن تنفعني غدا .

وكثيرا ما كدت أتمزق غيظا لأن ظروفا معينة ذكرتني بأوراق كنت أعرف أنني محتفظ بها فلما عدت أبحث عنها وجدتني قد مزقتها .

ولعله من حسن الحظ أنني لم أمزق ، فيما مزقت هذه القصة الناقصة التي كتبها بطل عن بطل .. وشهيد عن شهيد "!

( حلمي سلام)

اسم سيظل مع الزمن

كما كتب السيد محمد عبد العزيز التبشتي الواعظ بالجيش عن البطل أحمد عبد العزيز قائلا :

" اسم سيظل مع الزمن .. ويذكر كلما ذكرت حملة الصهيونية .. طلب إحالته إلى الاستيداع قبل تحرك الجيش إلى الصهيونية .

قاد المتطوعين الفدائيين وهجم بهم على مستعمرة دي البلح ثم تقدم إلى غزة وسار بهم حتى اقتحم مستعمرة كفار عصيون ومستعمرة راما تراحيل ثم استرجعها اليهود ، فعاود الهجوم عليها من جديد..

وصل في زحفه إلى الخليل وبئر سبع وبيت لحم فريض فيها يكيل للصهيونية في القدس الجديدة ما أثار إعجاب العرب وفزع اليهود

صاحب فلسفة في الحرب والجهاد ... كان يتحدث إلى جنوده عن الموت فوصلوا إلى حد الرغبة فيه واعتمد في عملياته الحربية على خفة الحركة والمفاجأة فكان قبسا من روح الحق يصرع الباطل فيهوي به إلى العدم بل كان المثال الحي الذي تضربه الإنسانية الناهضة لتعلم الناس كيف يكون الجهاد الحق في سبيل الذود عن حمي الأوطان ، كان إيمانه قويا ملا قلبه واستحوذ على مشاعره ، وكان المصحف الشريف لا يفارق ملابسه العسكرية يتلو آيات الله قبل نومه وعند يقظته ووقت فراغه .. وإذا ابتدأت عملياته الحربية تقدم جنوده بهذا الإيمان القوي .

في أثناء المعارك التي دارت في عين كارم والملحة تقدم بسيارته ( الجيب ) ومعه مساعده نحو الخطوط الأمامية ، ثم والي المسير تاركا جنوده وراءه غير عابئ بالرصاص الذي كان يتطاير حوله ولما نبهه مساعده إلى الخطر نظر إليه مبتسما وهو يقول ( قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا)

جاءه خبر بأن الأعداء وضعوا الألغام في طريق احدي السرايا التي بعثها للهجوم على احدي المستعمرات اليهودية وخشي منها على أفراد السرية فذهب بنفسه من طريق آخر ومعه مفجر الألغام فطهر الطريق قبل وصول السرية ، ولما حدثوه عن خطورة عمله قال :" أتستكثرون على أن أطهر موضع أقدامكم مرحبا بالموت في سبيل نصركم ؟"

كان عليه أن يعرض أمرا هاما على القائد العام للقوات المصرية بالصهيونية في المجدل ، فغادر بيت لحم عصر يوم 22 / 8 / 1948 ، لم يصغ لنصيحة ضباطه بتأجيل سفره إلى صباح الغد .. فالأمر في نظره هام يتطلب حتى المغامرة وفي المساء كانت العربة التي تقله تسير على مقربة من عراق المنشية - المنطقة التي دأب اليهود فيها دائما على خرق الهدنة – وكانت أوامر قائد المنطقة ( البطل السيد بك طه ) صريحة بضرب كل عربة تمر على الطريق في ظلام الليل ، وهكذا استشهد البطل أحمد عبد العزيز بطلقة طائشة اخترقت الكبد.

حزنت عليه الأمة المصرية والشعوب العربية ، والعالم الإسلامي ورثاه الحلفاء بعبارات الأسف البالغة ونعاه الأعداء بعبارات التقدي والاحترام .

كان البطل أحمد عبد العزيز عظيما في كل نواحيه ... كان مدرسة يحتاج إلى كتابه عنوانه :" البطولة الحية تحاك فيه قصصه ومغامراته ليكون نبراسا للشباب الحر الجرئ .

و زال قبره في غزة يحج إليه الألوف من المجاهدين وغيرهم ينثرون فوقه الورود والرياحين ويتمثلون عنده أروع أمثلة البطولة وقد كتبها بدمه الزكي الطاهر لأجيال العروبة المقبلة فسلام عليه يوم ولد ويوم جاهد ويوم مات ويوم يبعث مع الشهداء حيا ..

تكريم أحمد عبد العزيز تمثال للبطل يتسلمه نائب المشير عامر

وفي كل عام وفي ذكري استشهاد البطل العربي تقام حفلات لتكريمه وكانت آخر هذه الحفلات قبيل إصدار هذا الكتاب تلك التي أقيمت بقاعة الغرفة التجارية في مساء السبت 17 / 9/ 1960 وحضرها اللواء عبد الله الغزولي نائبا عن المشير أركان حرب عبد الحكيم عامر نائب رئيس الجمهورية والقائد العام للقوات المسلحة وأزاح فيها الستار عنه تمثال نصفي للبطل الشهيد وهو بملابس الفدائيين .

وقد تقرر أن يتسلم سيادته هذا التمثال لتحتفظ به القوات المسلحة بعد أن رفض قادة الجيش في عهود الظلم والطغيان والملكية العمياء أن يتسلموه .

لقد خافوا من تمثاله ..

وقد تحدث في هذا الحفل الدكتور محمد مندور قائلا :

" ما من شك في أن أحمد عبد العزيز قد ضرب مثلا رائعا في البطولة والفدائية وأنه لحبيب إلى نفس كل مواطن أن لا ينسي مثل هذا الشهيد وأن يحقق رجاءه في أن يقام هذا التمثال في قلب الصهيونية ونلتقي حوله بعد أن نحرر الصهيونية ..

ثم قال :

وإذا كان تاريخ هذا الشهيد العظيم لم تكتب تفاصيله حتى اليوم فإني استطعت أن أستشف روحه العالية وإدراكه الناضج الغزير "

ثم تحدث السيد عبد المجيد صالح مدي عام الغرفة التجارية بالنيابة عن مجلس إدارتها وموظفيها عن دور البطل في معركة الصهيونية .

وألقي الشاعر على الجمبلاطي كلمة الشبان المسلمين محدثا عن أحمد عبد العزيز عبقري الشجاعة والوجدان .

ثم تحدث اللواء طبيب أحمد توفيق عن ذكرياته مع الشهيد منذ أن كان طالبا في الكلية الحربية قائلا :

" إن أحمد عبد العزيز كان عدوا للصهيونية مؤمنا تمام الإيمان بقوميته العربية ، وكان مجرد ذكر اسم أحمد عبد العزيز يلقي الرعب في قلوب اليهود ، وإنهم يوم استشهاده أقاموا في نيويورك احتفالا كبيرا أقيم مثله في الصهيونية "

ثم تحدث الدكتور محمد غنيم الأستاذ بجامعة القاهرة عن بطولة أحمد عبد العزيز الإنسانية قائلا :

" إن أحمد عبد العزيز لم يذهب إلى ميدان المعركة إلا عن اقتناع ذهب مؤمنا بقضيته إيمانا ثابتا لا يتزعزع ولا تؤثر فيه الأحداث وهذا الإيمان بالعقيدة هو الذي يكسب الحياة معني "

ثم تحدث السيد جميل عرفة ، مستشار حكومة الصهيونية وسكرتير جيش الكفاح عن معركة الصهيونية ودور البطل أحمد عبد العزيز قائلا :

" الصهيونية الأرض الطيبة التي استأثرت بدماء الأبطال لتظل صياحتها داوية من تلك الربوع التي تئن الآن تحت أقدام الصهيونية الغادرة .

ثم تحدث المجاهد الليبي صالح بوصيري وربط بين استشهاد أحمد عبد العزيز واستشهاد عمر المختار فقد كان أحرار ليبيا يحتفلون في نفس اليوم الذي استشهد فيه أحمد عبد العزيز ، بالشهيد العربي عمر المختار عندما وصلهم خبر استشهاد أحمد عبد العزيز .

وقال :

" إنني مؤمن تمام أن الصهيونية عائدة لا محالة إلى العرين العربي قطرا عربيا قويا".

وبعد ذلك ألقي العقيد صلاح الشريف كلمة أسرة البطل قائلا " إن البطل أحمد عبد العزيز كان يؤمن بأن حياة العرب في الوحدة "

استكمال المسيرة

اللواء أكان حرب صلاح شريف

شقيق البطل أحمد عبد العزيز

بقلم نجله رجال الأعمال العقيد مهندس بالمعاش / يحيي يونس شريف صلاح شريف .

لقد انطبعت صفات النبل والبطولة في أفراد هذه الأسرة المصرية.

فالوالد الأميرالاي محمد عبد العزيز بطل المواجهة مع الاحتلال البريطاني أثناء ثورة 1919 وشقيقه عمر عبد العزيز الشهيد في مظاهرات ثورة 1919 وأحمد عبد العزيز بطل حرب الصهيونية .

أما هو فقد سار في طريق خدم الوطن حتى أصبح قائدا لسلاح المدرعات المصرية حتى آخر لحظة في حياته يوم 21 يوليو 1972 حيث فارق الحياة في مستشفي القوات المسلحة بالمعادي لإصابته بمرض خبيث من أثر كدمة في فخده الأيسر أثناء وجوده بجبهة القنال ، ولم يمهله المرض سوي عدة أشهر كان يسابق الموت خلالها لإنجاز أكثر ما يستطيع لإعداد القوات المدرعة لحرب تحري سيناء .

لقد صعدت روحه إلى بارئها وسط أسرته وزملائه من قادة القوات المسلحة وعلى رأسهم نائبه اللواء أركان حرب كمال حسن على الذي أصبح فيما بعد قائدا عاما للقوات المسلحة ووزيرا للدفاع ثم رئيسا للوزراء.

وقبل وفاته حضر لزيارته الفريق محمد صادق القائد العام ومعه رئيس الأركان سعد الدين الشاذلي وقال له يا صلاح لقد قمت بإعادة بناء المدرعات من الصفر بعد يونيو 67 كما أعدت الثقة إلى الضباط وأطقم الدبابات وقمت بتدريبهم وتجهيزهم حتى أصبحوا على أتم استعداد للمعركة لقد أديت ما عليك إلا أن فقدانك خسارة للقوات المسلحة المصرية .

بطولته أثناء حرب الصهيونية

لأنه لم يكن يحب التحدث عن نفسه فلم أعرف عن مآثره سوي ما سمعته عن طريق زملائه وتلامذته من ضباط القوات المسلحة ..

ويوم الوفاة وبعد الجنازة العسكرية المهيبة أصر الفريق محمد صادق وقادة القوات المسلحة على الحضور إلى المنزل لتلقي العزاء من الضباط الذين لم يتمكنوا من الوصول في موعد الجنازة لبعد وحداتهم عن القاهرة .

وبينما أتلقي العزاء وصل السيد اللواء محمد نجيب رئيس الجمهورية السابق وعانقني بشدة وهو يبكي ويعتذر لعدم لتمكنه من الوقوف على قبر أبي لأنه يسكن في ضاحية المرج وتصله الجرائد الصباحية متأخرة واستغربت من ترديده عدة مرات ( ياليتني كنت أستطيع أن أفديك بروحي يا صلاح حتى أرد لك جميلك على ).

وحين جلس في البهو وسط الحاضرين قال .. لقد ضحي صلاح بحياته مختارا ليهبني الحياة ومع ذلك لم يقبل مني حتى الشكر .

عندما كنت قائدا للقوة المصرية في الفالوجة بحرب الصهيونية عام 1948 وكان صلاح في مستشفي القبة بالقاهرة حيث يعالج من إصابة في الرئة ولم يكتمل شفائه بعد وفور علمه باستشهاد شقيقه البطل أحمد عبد العزيز ترك المستشفي واتجه للجبهة بدون تصريح .

ولحالة الإعياء الشديد البادية عليه أبلغته بأنه لا يمكنني أن أدفع به إلى الخطوط مع العدو ولكني سأعينه قائدا لحملة سيارات المستشفي الميداني في الفالوجة ليكون تحت الرعاية الشخصية للدكتور مظهر عاشور قائد المستشفي .

وأثناء القتال قامت القوات الإسرائيلية بحصار الفالوجة نتيجة لتقاعس القوات العربية عن القتال وتركها للجيش المصري وحده لمواجهة قوات تتفوق عليه بعدة مرات .

وأثناء قيامي بالاستطلاع على خط المواجهة ، تم تبادل لإطلاق النار وأصبت في صدري ، وتم نقلي إلى المستشفي والدم ينزف مني بغزارة، وكنت في حالة أشبه بالإغماء ولا أدري كثيرا مما يدور حولي ، ثم سمعت صوتا يقول أين الأميرالاي محمد نجيب .

وأحسست بقطرات من الماء تقع على وهي ففتحت عيني ، وإذا بصلاح ينظر إلى وهو يبكي .

وبمجرد أن رأي عيناي تفتحان أسرع يستدعي الطبيب ليقوم بإسعافي وسمعته يشتبك معه ويعنفه بشدة كيف كتب في تقريره أنه لا يوجد نبض ، ثم وضعني مع القتلى ؟ ورد الطبيب بأني في حكم الميت فلا توجد إمكانيات بالمستشفي أو بلازما لعمل جراحة لاستخراج الرصاصة كما أن المستشفي محاصر ولا يمكنه عمل أى شئ وخلال ساعتين أو ثلاث أكون قد توفيت .

وانطلق صلاح وأحضر عربة إسعاف وأبلغ قائد المستشفي بأنه سيقودها وحده وسيخترق الحصار على مسئوليته ، وعندما حاول أن يثنيه لاستحالة المرور وسط العدو.

أجاب بأنه مستعد للتضحية بحياته لإنقاذ قائده ، أما بالنسبة إلى الأميرالاي محمد نجيب فإن لم يخرج به من الحصار فورا فسيموت .

ووافق قائد المستشفي ، فانطلق بالسيارة في وضح النهار وسط أزيز الطلقات وانفجارات قذائف المدفعية من حوله حيث قامت جميع المواقع الإسرائيلية بفتح نيرانها عليه وبفضل الله تمكن بأعجوبة من اختراق الحصار حتى عبر القنال ووصل إلى مدينة الإسماعيلية وكنت قد فقدت الوعي تماما نتيجة للنزيف .

وفي الإسماعيلية أدرك بأنني لن أستطيع الصمود حتى القاهرة ويجب دخولي مستشفي بها إمكانيات لإنقاذي لهذا أتوجه إلى مستشفي هيئة قناة السويس الفرنسية ، وعندما رفضوا استقبالي بحجة كونها هيئة أجنبية ، دخل على مديرها ووجه المسدس إليه وهدده ، إن لم يأمر بدخولي إلى غرفة العمليات فورا سيطلق عليه النار ثم يطلق على نفسه .

وأدخلوني غرفة العمليات تحت التهديد وبعد أن انتهيت العملية وتم إخراج الرصاصة من صدري واطمأن أنهم قاموا بالواجب أعطي سلاحه إلى المدير الفرنسي وقال له أنني استسلم لك فافعل بي ما شئت لكن الرجل تأثر بشجاعته ووطنيته وإخلاصه لقائده وأعاد إليه المسدس قائلا ( إنني أحني رأسي لمن بمثل رجولتك وشجاعتك ووطنيتك"

وشفاني الله وعاد صلاح إلى سلاح الفرسان وكلما حاولت الاتصال به لشكره كان يتهرب مني إلا أن القيادة العامة قامت بتكريمه والإنعام عليه بأعلى وسام للشجاعة وقتها وهو نجمة محمد على القرمزية .

وقامت ثورة 23 يوليو وأصبحت رئيسا لمجلس قيادة الثورة ورئيسا للجمهورية وأصدرت تعليمات بإحضار صلاح إلى مكتبي ، وعاتبته على تهربه مني وقلت له إنني أحتل أعلي مركز في البلد ولأنني مدين لك بحياتي فاطلب ما شئت مني أحققه لك.

فظهر الغضب على وجهه ورد قائلا ، إنني كنت أقوم بواجبي لإنقاذ قائدي في الميدان وما أرجوه من سيادتك الآن هو أن تتركني في حالي ولا تقوم بمساعدتي بأى صورة كانت إذ أري في ذلك إهانة لي .

وبالفعل خشيت أن أقوم بمساعدته بأى صورة حتى لا يغضب ثم تبدلت الأحوال وتم اعتقالي واحتجازي لسنوات بفيلا بالمرج ، وعلمت أنه تعرض للمضايقة والاضطهاد فقد ظنوا أنه من رجالي .. لقد أنقذ حياتي ورفض أن أجازيه على صنيعه ثم تعرض للضرر بسببس فياليتي أفدية الآن بروحي ..

هذا ما قاله المرحوم اللواء محمد نجيب عن صلاح شريف أمام جميع الحاضرين ولم أكن قد سمعته منه طوال حياتي معه .

موقفه من الضباط الأحرار وثورة 23 يوليو

لأنه شقيق البطل أحمد عبد العزيز ومن الضباط البارزين والمحبوبين في سلاح الفرسان كما استطاع الحصول على شهادة الأركان حرب وهي أعلي دراسة في الجيش وكان برتبة اليوزباشي ( النقيب ) فقد سعي الضباط الأحرار لضمه لصفوفهم وخاطبه في ذلك عبد الحكيم عامر إلا أنه اعتذر لأنه يفضل البقاء في عمله حيث يعتقد بأن القسم الذي أداه عند التخرج من الكلية الحربي للولاء للملك لا يمكن الرجوع عنه إلا في حالة الاستقالة وترك الخدمة كضابط عامل . ورغم عدم انضمامه لتنظيم الضباط الأحرار كانوا على ثقة بشرفه وأنه لن يقوم بالوشاية بهم والتبليغ عن نشاطهم .

وهذا الموقف كان سببا في إنقاذه من السجن فيما بعد ففي عام 1957 تم اعتقاله بتهمة الاشتراك في محاولة انقلاب في المدرعات ضد عبد الناصر وكانت التهمة أنه علم ولم يبلغ ..

وأثناء المحاكمة طلب شهادة المشير عبد الحكيم عامر الذي استجاب لطلبه وحضر للمحكمة وبين للقاضي بأن المتهمين عرضوا عليه الفكرة ولكنه عارضهم كما حدث قبل في ثورة 23 يوليو ... فلو كان من الوشاة كان المشير قد ذهب للمشنقة ولم يصبح القائد العام وتمت براءته والإفراج عنه إلا أن هذا الحادث لم يمر ببساطة .

في العدوان الثلاثي 1956

كان الجيش المصري عام 56 لا يمتلك سوي آلاي واحد ( 60 دبابة )

من المدرعات الثقيلة المسماة جوزيف استالين وهي تعد أقوي المدرعات في الاتحاد السوفيتي وكانت قد وصلت قبل الحرب بفترة قصيرة

وكان برتبة ( البكباشي) أى المقدم عندما تم تعيينه قائد لهذه الوحدة فهو الوحيد الذي يستطيع القيادة وتدريب الضباط والجنود على هذا الطراز وفي وقت قياسي .

وعندما بدأت إسرائيل العدوان في 29 سبتمبر 1956 تم دفع وحدته لعبور قناة السويس كقوة ضارية للجيش وبمجرد دخوله لسيناء حدث التدخل الفرنسي البريطاني وأخذت الطائرات القاذفة الفرنسية والبريطانية تضرب القوات المصرية شرق وغرب القناة وتم استدعائه للعودة فورا وبأي ثمن وبأي قدر من الخسائر للدفاع عن القاهرة .

ولأن الطائرات المغيرة كانت تبحث بإصرار عن هذه الدبابات لتدميرها وعدم تمكينها من العودة والرجوع للقاهرة والاحتماء داخل الكتل السكنية فليس لديها سوي طريق واحد للعودة هو طريق المعاهدة ( القاهرة الإسماعيلية ) والذي تحده الأشجار من الجانبين ولهذا كانت الطائرات المعادية تحوم فوقه نهارا وتسقط قنابل الإضاءة ليلا لتدمير أى مركبة تتحرك على هذا الطريق .

ولخداع العدو أمر أطقم الدبابات بقطع أشجار من الحدائق بالضفة الغربية من القناة وتثبيت الجزع داخل فتحة برج الدبابة حتى تقوم الأفرع والأوراق بحجب الرؤية من أعلي ، وسار في الطرق حتى وصل القاهرة وعجزت الطائرات المعادية أن تكتشف دباباته حيث ظنتها أشجار على الطريق وبهذه الحيلة استطاع أن يعود بدون خسارة دبابة واحدة.

الإقصاء عن القيادة

في عام 1957اتهم زورا بالاشتراك في محاولة انقلاب بالمدرعات وبعد اعتقاله لمدة ثلاث أشهر ومحاكمته ثم الإفراج عنه للبراءة ونقله من منصب مدير مدرسة المدرعات إلى مكتب تجنيد طنطا والذي كان يديره نقيب شرف وأعتقد الحاقدين عليه في القيادة أنه سيعتبر ذلك إهانة ويتقدم بنفسه بطلب إعفائه من الخدمة ، إلا أن ذلك لم يثبط همته ، حيث اتخذت مجهوداته منحا آخر لقد كن يؤمن بأنه يعمل للوطن، وعاهد نفسه ببذل أقصي طاقته للرفع من شأن العمل الذي كلف به مهما كان يبدو متواضعا ولا يلائمه ولأن القيادة العامة كانت لا تستغني عن خدماته قررت إن تستفيد منه مع منعه من تولي الوظائف القيادية ، حيث خلصت إلى أنه رجل خطير يستطيع يكتسب حب من تحت قيادته من الضباط والجنود مما يشكل تهديدا للنظام فقد كان الولاء والمحسوبية هي الأساس لاختيار القيادات في ذلك الوقت.

ولهذا لم يحال إلى المعاش عند ترقيته لرتبة العقيد عام 1959 وتم نقله إلى منصب أركان حرب إدارة التجنيد بالقاهرة وخلال عمله شعر أن قانون التجنيد كان غير متزن وجائز وبه العديد من الثغرات فاتصل بعدد من القضاة وأساتذة الجامعة والتشريعيين لعمل مسودة لقانون جديد لتجنيد وظل يعمل نهارا في مكتبه وليلا في بيته حتى أنجزه في وقت قياسي ورفعه للقيادة وتم اعتماده وهو القانون الذي لا يزال ساريا حتى الآن .

وعام 61 كانت القوات المسلحة تقوم بإنشاء أول فرقة مدرعة ( الفرقة الرابعة) وتم اختيار اللواء طلعت حسن قائدا لها .

وطلب من صلاح أن يساعده في تأسيس هذه الفرقة وبدلا من أن يكون قائدا للواء مدرع تم تعيينه رئيسا للشؤون الإدارية بالفرقة وكان ذلك مفروضا على اللواء طلعت حسن نتيجة للتقارير الأمنية .

موقفه من حرب اليمن

عندما نشبت حرب اليمن تنافس كثير من الضباط للذهاب هناك نظرا للعائد المادي والعلاوات إلخ ، إلا أنه رغم احتياجه كان يري ن الاشتراك في قتال مسلمين لا يكون حلالا في حالة طلبه من أجل تحسين الحالة المادية إلا أن يكون بأمر من القيادة ولهذا لم يشترك في حرب اليمن وكان رأيه أن دفع الجيش النظامي في مقابل شراذم وعصابات من المقاتلين في الجبال هو إخراجه عن وظيفته القتالية وتحطيم لمعنوياته سيعود بالضرر الجسيم مستقبلا .

تدريب القوات ما قبل هزيمة 67

عندما ترقي لرتبة العميد تم نقله إلى هيئة تدريب القوات المسلحة ليعد البرامج وليشرف على تدريب القوات البرية .

وكان كثير الشكوى من عدم استكمال الوحدات للبرامج التدريبية والمناورات لتذرع القادة بحجة عدم صلاحية المعدات والتي وصلت أحيانا إلى ستون بالمائة أو للاعتبارات الأمنية حيث تخاف القيادة من وجود ذخيرة حية لدي الوحدات إن كانت لأغراض التدريب.

وكان يحكي أحد النوادر بأنه استطاع أن يعتمد جائزة مادية لأحسن طاقم في المدفعية على التعامل مع الطائرات المعادية .

وكانت التدريب بأن تصوب المدافع على طائرة مروحية صغيرة معدة لهذا الغرض ويقودها لاسكيا طيار من الأرض ، ورغم أن هذا الهدف قليل السرعة والمناورة إلا أنه لم تستطيع أى وحدة إصابته فقام بإعطاء الجائزة للطيار الذي يحركه.

في جبهة سيناء مايو 1967

بعد إعلان الطوارئ وسحب قوات الأمم المتحدة واندفاع القوات المصرية لسيناء تم تعيينه مفتشا للقوات المصرية من هيئة التدريب تحت قيادة الفريق كامل المرتجي قائد الجبهة وكنت في ذلك الوقت نقيب مهندس صيانة الطائرات في اللواء 65 للقاذفات الثقيلة بقيادة العقيد طيار أركان حرب محمد حسني مبارك والذي كان متمركزا بقاعدة بني سويف الجوية وعندما التقيت بوالدي صدفه أثناء مروري بالمنزل في مأمورية بالقاهرة أخبرني بأننا سنتورط في حرب لسنا مستعدين لها وعندما حاولت مجادلته حسب معلوماتي المحدودة وما نسمعه من الدعاية أظهر لى خطابا وطلب مني قراءته .

وقد كان تقريرا موجها منه للمشير عبد الحكيم عامر القائد العام للقوات المسلحة بواسطة الفريق أول المرتجي قائد الجبهة ، والخطاب يذكر فيه موقف القوات بسيناء وعدم استعدادها للقتال والنقص في كل شئ حتى هناك العديد من الجنود يلبسون الجلاليب لعدم وجود الملابس العسكرية وهناك وحدات بدون ذخيرة وأخري وصلت لها ذخيرة من نوع مخالف ، والخلاصة أن ما يوجد في سيناء هو مظاهرة سياسية وليست جيشا للقتال ، ولاحظت أن أغلب الفقرات تحتها خط بالحبر الأحمر وتعقيب أسفل الخطاب بخط الفريق المرتجي هل يعقل رفع هذا التقرير للسيد المشير يا صلاح ثم توقيعه ، وأعطاني الخطاب وقال لى أخفيه بعيدا عن منزلي فإذا حدثت الحرب فستكون هزيمة مريرة .

وسيسعون لتقديم كبش فداء ، فلو قتلت أو قبض على ثم حاولوا اتهامي بالمسئولية لما سيحدث فاظهر هذا الجواب .

الهزيمة في 5 يونيه وحرب الاستنزاف .

في يوم الخامس من يونيه الساعة الثامنة صباحا قامت الطائرات الإسرائيلية بالهجوم على القواعد الجوية ومنها قاعدة بني سويف وتدمير جميع الطائرات على الأرض حدث ذلك بالرغم من تأكيد الفريق أول صدقي محمود قائد القوات الجوية لنا في اجتماع بالقاعدة قبلها بيومين بأن مدي الطائرات الإسرائيلية لا يصل لبني سويف ويوم 9 يونيه تلقيت تعليمات بالذهاب إلى مطار القاهرة الجوي لانتظار طائرات قد تصل من روسيا ومررت على المنزل في طريقي للمطار وكان عندي أمل بأن القوات البرية ستستطيع الصمود رغم تدمير الوات الجوية على الأرض وإذا بوالدي يدخل المنزل ووجهه وملابسه ملطخة بالهباب ، ولم يلق على السلام وجلس على كرسي ووضع وجهه بين يديه فلأول مرة في حياتي أراه يجهش بالبكاء وهو يقول غضب الله ، غضب الله ده انتقام ربنا من اللي عملناه في اليمن .

فسألته ألم يبق لدينا قوات تحارب ؟ فرد بأن معظم جيشنا قد دمر ولو عبر اليهود القناة لن يجدوا قوات تصدهم ،وأبلغني بأنه سيغير ملابسه ويعود للجبهة ولم التق به بعدها لمدة شهيرين.

إعادة بناء القوات المدرعة المصرية غرب القناة

بعد استقالة المشير عبد الحكيم عارم من منصبه وتعيين الفريق أول محمد فوزي قائدا عاما للقوات المسلحة , صدرت في شهر يوليه 1967 نشرة الترقيات والمعاشات وفيها تم إحالة جميع قادة الجيش برتبة فريق أول وفريق والغالبية من رتبة والعميد للمعاش , ولم تتم الترقية لرتبة اللواء إلا لشخص واحد هو العميد صلاح شريف .

وتم تعيينه قائدا لمدرعات الجبهة ليقوم بإعادة بناء هذه القوات وجمع ما تبقي من شراذم متفرقة بعد الانسحاب من سيناء ثم إنشاء خط دفاعي غرب القناة وقد نجح في وقت قياسي في إنشاء قوة مدرعة قامت بقصف الضفة الشرقية مما أثني الإسرائيليين عن فكرة عبور القناة

قيادة القطاع الشمالي للجبهة في بور سعيد

عندما أدركت القيادة أن مدينة بور سعيد أصبحت في موضع خطير طلبت من الاتحاد السوفيتي إرسال قطع بحرية للوقوف في الميناء لمنع الإسرائيليين من اقتحامها وقبل وصولها حاولت القوات الإسرائيلية استغلال الفرصة والتقدم شرق القناة إلى مدينة بور فؤاد عن طريق منطقة رأس العش جنوبا والهجوم شمالا على الطريق الساحلي للاستيلاء عليها ثم عزل وحصار مدينة بور سعيد لعدم تمكين القطع البحرية السوفيتية من الرسو.

وعندها قامت القيادة بتكليفه بقيادة المنطقة الشمالية في بور سعيد لصد هذا الهجوم وكان أول عمل قام به هو نقل مقر قيادته من داخل مدينة بور سعيد إلى خط المواجهة في بور فؤاد مما رفع الروح المعنوية للجنود لوجود القائد بجوارهم وتم صد الهجوم وانسحاب القوات الإسرائيلية من هذا القطاع .

وفي حيد مقابلاتي معه قال لي إن الروح المعنوية العالية والثقة في القيادة هي مفتاح النصر وعلى سبيل المثال موقفه مع كتيبة الصواريخ التي تقوم بالدفاع الجوي عن مدينة بور سعيد فلم يكن لها تأثير يذكر على الطيران الإسرائيلي لدرجة إن اليهود اعتادوا قصفها على ارتفاع منخفض في ساعة محددة يوميا وهي حوالي الثانية عشر ظهرا واتصل بقائد الكتيبة وأبلغه بأنه سيزور وحدته قبل الظهر فطلب القائد تقديم أو تأخير الموعد لأن هذا هو موعد الغارة اليومية.

ووصل بالفعل إلى الكتيبة قبل موعد الغارة بفترة وجيزة وكان الجو لطيفا فاختار موضع مكشوف وسط الكتيبة وطلب إحضار كرسي ومنضدة وكوب قهوة, ثم أخرج صحيفة وبدأ يقرأ فيها.

وأخذ القائد والضباط يتوسلون إليه أن يدخل إلى المخبأ لأنه بهذا الشكل معرض للإصابة , فقال لهم أنه لن يموت إلا إذا انتهي أجله , وليذهبوا إلى أعمالهم ولا يلتفتوا له , وعندما يئس القائد من زحزحته عن مكانه جمع الضباط والجنود وقال لهم , أن قائد القطاع في كتيبتهم ويجلس مكشوفا وأنه وعار عليهم جميعا إذا حدث له مكروه , مع اقتراب موعد الغارة أسرع الجميع إلى مدافعهم وصورايخهم وأقبلت الطائرات المغيرة فلم يغادر أى جندي موقعه واستقبلوها بوابل من النيران الكثيفة فاشتعلت النيران في اثنتين منها وفر الباقي .

انطلق الجنود بالتهليل والتكبير فلم يسبق لهم إسقاط أى طائرة للعدو. وأقبلوا عليه يهنئونه وقال له القائد إن أفراد الوحدة اعتادوا الاحتماء عند الغارة إلاا أنهم استماتوا في قتال الطائرات من أجل حمايته , فقد ضرب لهم المثل في الشجاعة حيث يرتشف القهوة ويقرأ الصحيفة والعدو فوق رأسه والقذائف تتطاير من حوله فرد عليه بأنه خائفا فعلا , لكن الواجب ألزمه البقاء في مكانه وكذلك فعل الجنود فأسقطوا طائرات العدو , وبعد هذا الموقف أصدر تعليمات لكافة الوحدات التي تمر أمام موقع الكتيبة أن تؤدي لهم التحية العسكرية ومن وقتها أصبحت كتيبة الدفاع الجور ببور سعيد تمثل رعبا للطائرات الإسرائيلية حتى نهاية الحرب عام 73

إنشاء الفرقة 21 المدرعة

بعد انتهاء الخطر على مدينة بور سعيد تم تكليفه بتشكيل الفرقة المدرعة الثانية للجيش المصري وقد أطلق عليها اسم 21 تيمنا بالفرقة المدرعة التي كانت تحت فقيادة الفريق روميل ثعلب الصحراء في الحرب العالمية الثانية والذي أرعب البريطانيين وكانت مهمة في غاية الصعوبة لتكوين هذه الفرقة تحت النيران أثناء حرب الاستنزاف مع الانتشار في رقعة كبيرة من الصحراء غرب القناة .

وأذكر واقعة في هذه الفترة عندما كان يشتكي من كسر طاقم أسنانه الصناعي لوجود حصوات رمال في الأرز الذي يأكل منه في الجبهة , فقلت له كيف وأنت قائد الفرقة ولديك طباخ خاص , فقال أنه قام بالاستغناء عنه ويأكل حاليا في الخنادق مع الجنود ... وذلك بسبب حادث أثناء مروره وتفقده للوحدات المتطرفة بالفرقة مع هيئة قيادته حيث خرج أحد الجنود من الخندق وهو يسأل عن قائد الفرقة , فلما أقبل إليه وإذا بالجندي يعلو صوته بالسباب وأسرع الحراس وانقضوا عليه فقال لهم اتركوه وأحضروه إلى , وسأله هل تعرفني من قبل ؟ فقال له لا , فقال ولماذا تسبني , فبكي الجندي وهو يقول إنه منذ أيام ولم يصل طعام طازج إلى موقعه , فقال له يا بني لك حق أن تسبني لهذا التقصير , بدلا من معاقبته كافأة بترقيته إلى رتبة الرقيب , ثم أصدر تعليمات بغلق كافة المطاعم للضباط وهو أولهم وأن يأكل جمع القادة مع الجنود في المواقع وبذلك يضمن أن لا يتكرر هذا الخطأ ,

قائد سلاح المدرعات

بعد الانتهاء من بناء الفرقة 21 المدرعة وقيامها بواجباتها على الوجه الأكمل أثناء حرب الاستنزاف , ومع وقف القتال على الجبهة بعد مبادرة ( روجرز) عام 1970 رأت القيادة ترقيته لمنصب قائد سلاح المدرعات وذلك للإعداد للعبور وتحرير سيناء .

وظل يعمل بلا كلل حتى أثناء إصابته ومرضه وقبل وفاته بساعات كان يؤدي عمله وكأنه في مكتبه وقام بتوصية نائبه اللواء كمال حسن على باستكمال المسيرة حتى النصر والتفت إلى أسرته يودعها وقال لى أنه كان يتمني أن يترك لنا بعض المال , فقط لو كان تجاوز قليلا عن مبدئه , إلا أنه لم يطعم أسرته يوما لقمة من مال حرام كما أنه وحتى آخر حياتنا , لن نجد من يقوم بذمه أو يشكك في أمانته وحسن قيادته ممن عرفهم طوال حياته .

أبناء البطل أحمد عبد العزيز

خالد ومحمد ( وليد) أبناء البطل عملا لفترة في المجال الفندقي ثم تركاه للعمل في مجال كتب التراث الإسلامي وهما الآن من الخبراء المعروفين على المستوي ع العربي في هذا المجال.

وقد رزقوا بأنجال وأحفاد ويقيم خالد في نفس منزل البطل شارع أحمد حشمت بالزمالك.

وأما الوالدة فلم تتزوج ونذرت نفسها لتربية أبنائها وتوفيت إلى رحمة لله بعد حياة مديدة .

ولقد قامت القوات المسلحة مشكورة بدعوتها وأبنها خالد لأداء فريضة الحج على نفقة الدولة تكريما للبطل خاتمة ومع مرور عدة عقود منذ وفاته فكل كلمة قالها كانت في محلها , وفي عدة مناسبات وعندما التقيت ببعض القادة الكبار والذين كانوا ضباطا صغار أثناء قيادته فرحوا بلقائي , وأجمعوا بأنهم اتخذوا منه مثلا أعلي يسيرون على خطاه وأن صورته لن تبرح ذاكرتهم مهما طال الزمن وفي مقابلة حديثة مع الفريق سعد الدين الشاذلي رئيس أركان القوات المسلحة أثناء حرب أكتوبر 73 قال لى إن صلاح شريف كان من آخر القادة العظماء الذين حظيت بهم مصر , رحمه الله ورحم والده وأخويه

مذكرات أحمد عبد العزيز

وبعد أيام لحقت بأحمد عبد العزيز في بيت لحم ... وكانت أخبار اليوم " تريد أن تحصل على مذكراته ..

ووافق أحمد عبد العزيز بعد مجهود عنيف.

وقال لى : سأكتبها على أجزاء .. وسأعطيك بعد غد جزءا منها ..

وبقيت في " بيت لحم " حتى يفرغ من هذا الجزء الأول .

وفي صباح اليوم المحدد دخل أحمد عبد العزيز الحجرة التي كنت أنام فيها في مقر قيادته في فندق ونستون .. وقال لى وهو يناولني كراسة صغيرة .. خذ .. واقرأها الآن وقل لى رأيك فيها ..

وبدأت أقرأ المذكرات ..

ثم توقفت عند آخر يوم فيها .

وكان يوم 14 يوليه سنة 1948 وقدم أحمد عبد العزيز لهذا بكلمة " رذرفورد "

" لا تخافوا ولا تهلعوا ... إنكم على قيد خطوات من السموات العلي " ( رذفورد)

الأربعاء 14 يوليه 1948

لقد كانت الأيام التي مضت هي أصعب الأيام التي مرت بنا ..

وكنا وحدنا نواجه العاصفة .

ومرت بنا لحظات رهيبة .

ولقد كان تفكيري عجيبا في أعنف لحظات المعركة .. ولم أكن أتصور أن الإنسان يمكن وهو في أحرج لحظات حياته أن يسمح لنفسه بالتفكير الخيالي ويسبح في أحلام عديمة القيمة بالنسبة لموقفه ..

كنت واقفا في أحرج الدقائق على الطريق من بيت لحم إلى القدس وكان المفروض أن يكون هذا الطريق هو الهدف الرئيسي للهجوم علينا وكان الطريق ملغوما بشدة .. وقلت لنفسي :

" حتى لو تمكن العدو من التغلب على حقول الألغام فإنه لن يخترق الجبهة "

ونظرت حولي في الخنادق والمراكز المتقدمة وكانت تتراءى على مرمي البصر وكنت ألمح خوذات الجنود داخل الخنادق .. ويترامي إلى في بعض الأحيان التي تهدأ فيها النيران همساتهم .. وضحكاتهم .. ونظرت إلى السماء وقلت :

- " باركهم يا رب ".

ورميت بصري إلى الطريق والمعركة على أعنف ما تكون والتليفون يحمل إلى كل ثانية أخبار الهجوم على مواقع جديدة .

وتنهدت ولمست الطبنجة المعلقة في حزامي وقلت لنفسي :

- " ماذا لو تقدم اليهود إلى هنا ؟.

ودار أسي وقلت :

-" أحارب حتى بطلقات الطبنجة ثم أبقي طلقة منها لنفسي ".

وأجلت النظر فيما حولي ..

دير ماريا الياس الأثري الجميل أمامي على نهاية الطريق ، والجبل الذي يقع على قمته قرية ( بيت جالة ) الوادي تحت أقدامنا ، والزهور البرية تتضوع عطرا وتبدو كما لو كانت تسبح بألوانها الجميلة المتناسقة فوق موجات من أشعة الشمس السائلة ..

وتقبضت يدي على الطبنجة وقلت :

ومع ذلك فهذه هي أحرج لحظاتنا "

وتذكرت الناس في الوطن . ماذا يفعلون الآن ، وهل تراهم يعرفون .. ومضت دقيقة أخري وهمست لنفسي وسمعني ضابط الموقع وقال " أوامر يا أفندم"

وغمغمت كمن يحدث نفسه :

- " كلا .. أعرف أنهم سيتذكرون هذا اليوم .. وسيتذكرون أننا كنا من الشهداء وسوف يقولون : كانت هذه أروع لحظات حياتهم "

- وساءلت نفسي :" هل نستشهد؟"

ودار في ذهني شريط سريع ماذا يحدث عندما يرفع ضابط الموقع المجاور تليفون ليتصل بمساعدي ويقول له :

" حضرة البكباشي استشهد يا أفندم "..

ماذا يحدث لضباطي وجنودي ؟ والناس في الوطن ماذا يقولون ؟ ... وأسرتي كيف يقع النبأ عليه ؟

وألقيت على نفسي أغرب سؤال :" وأنا .. ماذا أقول عندما استشهد ؟"

وضحكت وقلت لنفسي :" لن تقول شيئا يا أخي . إنك ستكون شهيدا .. قتيلا في عالم آخر لا تستطيع فيه أن تقول شيئا "...

ورد على شئ في ضميري :" كيف ؟ ألا أعرف حتى تطورات هذه المعركة وإلى أين تنتهي ؟ أظن أنه من الضروري أن أعرف "

وأجلت حولي نظرة أخري وقلت :" يا له من مكان رائع يختم فيه القدر مسرحية حياتي "!

ونظرت إلى مقعد حجري جميل على الطريق .. كان معدا ليجلس عليه الناس في أيام السلام عندما يدركهم التعب من المشئ في ساعات الأصيل على هذا الطريق الساعي بين الوادي والجبل ..

وقلت : حسنا .. يجئ الذين يزرون قبري ويجلسون هنا فيما بعد يستريحون بعد صعود الجبل .. وينظرون إلى تمثالي .. تمثالي ؟ أجل .. لابد أنهم سيقيمون لى تمثالا أجل .. لابد أنهم سيقيمون لى تمثالا هنا .

أو سيضعون على الأقل لوحة يكتبون فيها اسمي ويوم استشهادي . أجل لوحة بسيطة تكفي ولا ضرورة للتمثال .

وسوف يجئ كثيرون .. سيجئ ابني ( خالد) أيضا وسيكون رجلا .. ولن يجلس على المقعد لأنه لن يتعب من الصعود إلى قبري .

وسيقف ويحني رأسه أمام هذا المكان ويقول فخورا :

- هنا استشهد أبي ، ودخل مع الأبطال ".

ولن يبكي ابني ..

ورنت في خاطري كلمة الأبطال .. وذكرت قول نيتشه :" إن البطل هو الذي يعرف كيف يموت في الوقت المناسب والمكان المناسب "

ونظرت مرة أخري فيما حولي ..

لوادي الذي يتضوع بعبير الزهور البرية ذات الألوان البهيجة والطريق الجبلي الجميل وأشجار الزيتون على حوافيه .. وقمة الجبل الشامخة ودير ماريا الياس المقدس أمامي ..

وورائي ( بيت لحم) مهد المسيح ..

ووراءها ( الخليل) ... قبر إبراهيم وحوله أنبياء كثيرون وغمغمت وقلت لنفسي :" أجل هذا مكان يرضي عنه نيتشه "

ومرت العاصفة بسلام ..

ما رأيك ؟

وفرغت من القراءة وأنا أحس بانقباض عجيب وبادرني أحمد عبد العزيز :

- ما رأيك؟

قلت ك أنت شديد التشاؤم .

وابتسم وقال : إني أتمني أن أموت في الميدان !

الحياة هي الخطر

وكنت سأغادر بيت لحم في اليوم التالي .. ثم قام اليهود بهجوم على " صور باهر " واستيقظت في اليوم التالي فلم أجد أحمد عبد العزيز وقال لى جندي الإشارة محمد شعبان:

- لقد حدث بالليل أن اتصلت بنا مواقع " صور باهر " تقول إن الذخيرة نفدت وكان جناب البكباشي – أحمد عبد العزيز – ساهرا .. فأبلغته الإشارة وقلت له:

- هل أوقظ أحد من الضباط ؟

- فقال : لا .. لو لم يكونوا متعبين لما استغرقوا في النوم.

- ثم نزل بنفسه إلى المخزن فحمل وحده عربته الجيب بالذخائر صم انطلق بها بنفسه – وحده – إلى مواقع صور باهر .

لا تنس أباك

وقبل أن أغادره قلت له :

- لماذا تخاطر بنفسك إلى هذا الحد.. أما كان أحد الضباط يستطيع أن يحمل الذخيرة إلى المواقع في صور باهر !

وقال أحمد عبد العزيز : إن الحياة هي الخطر .. ثم ألم أقل لك إنني أتمني أن استشهد في الميدان ..

- وسألني أحمد عبد العزيز فجأة :

- لقد اشتريت لزوجتي قطعة قماش مشغولة بالقصب فهل تأخذها معك وتسلمها لها في مصر ؟

- قلت له : بالطبع ..

قال : وخذ هذين الخطابين لها أيضا .. وإذا استطعت أن تري خالدا ابني فقبله وقل له :" لا تنس أباك"!

وكالشهاب ولي

ووصلت إلى الأزهر .. وبعد ثلاثة أيام .. كانت مصر كلها تبكي على الشهاب الذي برق في سمائها .. وكالشهب ولي مسرعا !

إحسان عبد القدوس يكتب عن أحمد عبد العزيز

جنودي وضباطي هم كل شئ أحمد عبد العزيز

كما كتب الأستاذ إحسان عبد القدوس مقالا آخر بعنوان " جنودي وضباطي هم كل شئ " قال فيه:

" قبل أن يشترك الجيش المصري في حملة الصهيونية سألت أحد ضباط سلاح الفرسان الملكي :" ما رأيك في قومندان الخيالة ؟"

فأجاب الضابط باختصار :

" راجل دغري !!"

وكان قومندان الخيالة هو البكباشي أحمد عبد العزيز .

ودخل الجيش المصري بعد ذلك الصهيونية وكان أحمد عبد العزيز أول من دخلها على رأس جنوده المتطوعين م قابلته في مكان ما بالشرق الأوسط مقابلة خاصة طويلة وبعد الدقيقة الأولي حكمت أنه " راجل دغري !!"

إنه يتكلم فتخرج كلماته متقطعة متتابعة كأنها طلقات مدفع متر ليوز،ثم يصمت ريثما يضع على لسانه ذخيرة جديدة من الآراء يقذفها في خط مستقيم فتصيب الهدف !

ويخيل إليك عندما تستمع إليه أنك إلى شاب في العشرين من عمره فآراؤه كلها هي آراء الجيل الجديد المتحمس المندفع المقدام وهو لا يحاول أن يبدو أمامك عظيما ولا يحاول أن يوهمك بأن هناك أسرار عليا يقصر عنها فهمك أو أن هناك ظروفا وملابسات لا يتسع لها عقلك فكل مشكلة ليس لها في نظره سوي حل واحد بسيط هو ( الحرب ) !!

عندما يذكر كلمة الحرب تلتمع عيناه وتنطبق شفتاه ويخيل إليك أنه يشد أنفاسه ليملأ خياشمه برائحة البارود!

وكل من عمل مع أحمد عبد العزيز أحب فيه قسوته .. فهي قسوة في الحق قسوة تحس أنها من أجلك لا عليك .

وعندما دخل الصهيونية أذاع على أهالي المنطقة الجنوبية نداء مطبوعا بتاريخ 15 مايو جاء فيه .

" أيها الأهالي :

إن الجهاد طويل الأمد وفي سبيل الحصول على النصر الأخير لا يهتم القائد بالمدن ومظاهر النص .. بل يهتم بالطرق التي تخدع العدو وتؤدي إلى إفنائه فلا يثبط هممكم سقوط أى بلدة أو مدينة ، وثقوا في أعمال القيادات العسكرية وأدوا واجبكم في محيط أعمالكم فقط .

أيها الإخوان :

إن ندائي إليكم هو أن تقتلوا العدو وتتفننوا في قتله بأسلحتكم ولا تفكروا إلا في كيفية قتله وليشترك أبناؤكم ونساؤكم في هذا الجهاد ولا تخافوا من انتقام العدو ، ولا تهنوا ولا تحزنوا أنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين.

إلى الأمام إلى القتل والإبادة "

وفي سطور هذا النداء تستطيع أن تري صورة أحمد عبد العزيز على حقيقتها صورة الجل العسكري " الدغري " القاسي !

وهذه الروح العسكرية في أحمد عبد العزيز ليست مكتسبة بل وراثية فوالده الأميرألاي محمد بك عبد العزيز ، وقد اشترك في حملة السودان وعاد وعلى صدره سبعة أوسمة وشقيقه عمر عبد العزيز كان من ضحايا ثورة عام 1919 ، وقد أصابته رصاصة إنجليزية في ضلعه الأيسر مات بعدها بأيام وشقيقه الثاني صلاح عبد العزيز ضابط في الجيش يتبع خطي والده وأخيه .. وهو نفسه أحمد عبد العزيز – فدائي منذ أحس أن له روحا يستطيع أن يقدمها فداء لوطنه ، ولذلك اشترك في ثورة 1919 واتهم في احدي القضايا الوطنية فلما أخطأه الاستشهاد في الثورة وضع روحه بين كفيه وراح يبحث عن مكان يستشهد فيه !

وقد حدثني أحمد عبد العزيز عن – الموت – وهو لا يسميه إلا استشهاد فخيل إلى وأنا أستمع إليه أني أريد الموت .

وأني أحب الموت ! بل أحسست أني سأقفز من مكاني لأختطف أقرب سلاح وأهجم به على أقرب مستعمرة يهودية وأحسست أني بهذا السلاح أستطيع أن أفني المستعمرة ومن فيها فإنك عندما لا تخاف الموت تشعر أن كل من حولك يخافك حتى الموت !!

وقال أحمد عبد العزيز

" كان أحد جنودي قد استشهد في الميدان وحمله زملاءه إلى الخطوط الخلفية وغطوا وجهه ببطانية فجئت وكشفت عن وجهه الغطاء ، فإذا بي أبهت .. كان وجهه جميلا .. جميلا.. يشع منه نور تكاد تري الله في خيوطه ، وكانت عيناه مفتوحتين .. لا كما رأيت عيون الموتي المفتحة بل كأنتا وكأنهما تنظران إلينا من علو نظرات سمحة هادئة كان صاحبها قد اعتلي عرش الجنة .. وصدقوني إنه كان يبتسم لنا فابتسمنا من حوله ثم دفناه في الميدان بثيابه العسكرية بلا كفن ولا تغسيل .. فإن الشهيد أطهر من أن يمسه التراب بسوء ".

هكذا وصف لنا أحمد عبد العزيز الموت .. فصحنا من حوله :" يا بخته " وصاح بعضنا : اللهو أوعدنا " ونظرت إلى القائد فإذا به يتمتم بالشهادتين .. وتلاوة الشهادتين لازمة من لوازم أحمد عبد العزيز فهو يتلوهما في كل خطوة يخطوها وكأنه يعد نفسه دائما لاستقبال الموت .

وكانت مهمة أحمد عبد العزيز في العمليات الحربية هي أن يكون هو وجنوده دائما في المقدمة .. وقد كان الوصول إلى المقدمة هو أمنية أحمد عبد العزيز منذ نشأ.

فقد كان أول دفعته في الكلية الحربية وكان أول فارس مصري اشترك في مباراة عامة لقفز السدود .. وكان ذلك عام 1933 وكانت هذه المباريات قاصة على فرسان الجيش الإنجليزي وحدهم وقد فاز بالجائزة الأولي .. ثم بالجائزة الأولي في كل مباراة اشترك فيها على ظهر حصانه " فهد" وهو حصان لا يزال سلاح الفرسان يحتفظ به إلى اليوم رغم كبر السن الذي أعجزه عن عدم الاشتراك في أية مباراة .

وأخيرا فاز أحمد عبد العزيز بالجائزة الأولي في مباراة فاروق الأولي للموضوعات العسكرية وكان موضوعها " مصر والسودان وقد كتب في مقدمة الرسالة التي تقدم بها إلى المباراة:

" ما أطول تاريخ مصر وما أوفر محصوله وأغزر عظاته وإرشاداته ولكن ما أكثر الأيدي العابثة التي شوهت صفحاته والنفوس المغرضة التي حرفت معانيه وطمست حقائقه حتى اختفت عنا أصول المعرفة والتبس على الكثيرين طريق الحق والراشد ، وعجز قادة مصر أنفسهم عن رسم الخطوط المستقيمة الصحيحة اللازمة لتوجيه تاريخنا الوطني .

هذا هو أحمد عبد العزيز قائد الكوماندوس المصريين وقد قال لى في آخر مرة قابلته فيها :

أرجوك لا تكتب عني شيئا فإني لا شئ وجنودي وضباطي هم كل شئ فاكتب عنهم إن أردت أن تكتب فهؤلاء هم أبطالكم الحقيقيون قلت :

إني عندما أقول أحمد عبد العزيز فإنما أعني جنوده وضباطه وعندما أمجد أعماله فأنا أمجد أعمال جنوده وضباطه فالقائد هو رمز لجيشه لا رمز لشخصه وعندما كان الإنجليز يهتفون لمونتجمري إنما كانوا يهتفون الجيوش البريطانية وعندما كانت أمريكا تمجد الجيش الأمريكي فكل كلمة تكتب عن أحمد عبد العزيز إنما تكتب عن كل رجل عمل تحت قيادة أحمد عبد العزيز ..

وأجاب في هدوء ورجاء :

أفضل أن تكتب عن رجالي فيفهم من ذلك أنك تعنيني !.. ولكل رجل من رجال أحمد عبد العزيزأحمد عبد العزيز صفحات هي أوسمة التاريخ على صدر مصر.

وكانت هذه هي آخر مرة قابلت فيها أحمد عبد العزيز .. واكتفيت بعد ذلك بتتبع أخبار انتصاراته إلى أن فجعت بخير استشهاده استشهد بنفس الطريقة التي استشهد بها أخوه عمر عبد العزيز في عام 1919 فأصابته كما أصابت أخاه – رصاصة ..رصاصة خاطئة!!

واستشهاد أحمد عبد العزيز فجيعة لمصر ، ولكن الاستشهاد في نظره كان أملا والشهداء – كما يقول – يعتلون عرش الجنة .. وقد رفع الله أحمد عبد العزيز ليضعه على عرش الجنة .

( إحسان عبد القدوس ) أحمد عبد العزيز قذيفة من قذائف الجيل الجديد

كما كتب الأستاذ إحسان عبد القدوس في مجلة الاثنين في العدد الصادر في 30 محمد سالم عبد السلام 1948 يقول تحت عنوان " أحمد عبد العزيز قذيفة من قذائف الجيل الجديد:

"مرتان في حياتي تمنيت فيهما أن أكون ضابطا في الجيش مرة وأنا في السادسة عشرة من عمري ، ومرة في شهر يونيو الماضي عندما قابلت أحمد عبد العزيز ..

وكانت أمنيتي في المرة الأولي تنحصر في مجرد التفاخر بالزي العسكري ، وكانت أمنيتي في المرة الثانية أن أموت شهيدا ، فقد أقنعني أحمد عبد العزيز بالموت .. أقنعني أن مجرد الاستسلام للحياة جبن وأن الروح هي سلاح المرء والجسد هو طلقة السلاح ، طلقة يجب أن تطلقها في أول مناسبة وإلا انعدمت قيمة السلاح..

وكان معنا شاب صديق تقدم إلى أحمد عبد العزيز يطلب التطوع بين جنوده ووعده بقبول تطوعه .. فتململ الشاب في جلسته وكأنه يريد أن يقول شيئا لا يجب أن يقوله ثم تكلم أخيرا فقال إنه برغم تقدمه للتطوع إلا أنه أحيانا يحس بالخوف من الموت وأنه أحيانا يفكر في أن يفر من روحه التي تدعوه للقتال ،، وأحيانا يسمع بأذن الوهم صوت طلقات الرصاص فيكاد يصرخ .. وهو ليس جبانا ولكنه لا يستطيع أن ينكر أنه يخاف الموت ..

ورد عليه أحمد عبد العزيز وكأنه كان ينتظر السؤال وأعد الجواب :

إنك تخاف من المجهول ، كلنا يخاف المجهول . ولكن الاستشهاد ليس مجهولا فهو انتقال إلى عالم وصفه الله في كتابه الكريم "

وبدأ أحمد عبد العزيز يتلو آيات من القرآن عن نصيب الشهداء في الآخرة ولما انته منها قال إنه أحس بالخوف مرة ، وكان ذلك عندما اشتك في ثورة 1919 ، ولكنه كان خوفا لم يدم إلا ريثما أطلق الإنجليز عليه وعلى زملائه الرصاص .. وبعدها فقد تعلقه بالحياة لأنه آمن بأنه لن تكون له الحياة التي يريدها طالما أ، هناك عدوا يريد أن يغتصب حياته ..

وأحمد عبد العزيز عندما يتكلم لا يختار ألفاظه ، ولا يتعمد التأثير عليك وبرغم ذلك فإنك تشع أن كل كلمة من كلماته تدعوك إلى القتال ، فإذا قال لك " ازيك" خيل إليك أنه يقول لك " قف " وإذا قال لك " أهلا " خيل إليك أنه يقول لك " تقدم " وإذا قال لك وحشتنا " خيل إليك أنه يقول لك " اضرب "

وقد كان لكلماته أثر كبير في معارك الصهيونية فقد كان يخطب في رجاله قبل كل معركة وكان في كل خطبة قاس صارم لا يعد رجاله إلا بالجزاء عند الله .. وكانت هذه الخطب تثير في رجاله من القوة ما يعوضه عن قوة تحصينات العدو وكثرة عدده وكانت قواته كلها غير نظماية وكان يقابل بها قوات نظامية وبرغم ذلك فقد كان ينتصر لأن كل رجاله كانوا ينتظمون في كل خطبه من خطبه ..

وقد كان يصمم على إلقاء الخطب حتى أنه اضطر أن يتنقل بين ستة مواقع في خلال ثلاث ساعات ليلقي في كل موقع خطبة .. وكان رجاله خليطا من المصريين والطرابلسيين والسودانيين والسعوديين تختلف لهجاتهم حتى ليكاد كل فريق لا يفقه الآخر وبرغم ذلك فقد كانوا جميعا يفقهون كلمات أحمد عبد العزيز ، وكانوا جميعا يحسون بها تدق صدورهم وتشد أعصابهم فيندفعون والإيمان هاد لهم.

وكان أحمد عبد العزيز عندما يخاطب المتطوعين المصريين يناديهم " يا أبناء الفراعنة" .. ثم تبرق عيناه فتري فيها صورة للمجد القديم وتنطبق شفتاه في قسوة وكأنه يؤكد لك أن هذا المجد سيعود ، ويضرب بيده في الهواء وكأنه يبدد جيوش الزمن ليكشف عن الإمبراطورية المصرية ..

وعندما يتكلم أحمد عبد العزيز عن الحرب تحس أنه يتكلم عن الشئ الوحيد الذي يؤمن به .. حدثته مرة عن السودان فأتي بخريطة جغرافية وأخذ يبني لى النقط الإستراتيجية والمواقع الحربية التي يمكن أن تدور في السودان ثم قدم لى نسخة من التقرير الذي وضعه عن وحدة مصر والسودان ونال به الجائزة الأولي في مباراة فاروق الأول للمواضيع العسكرية وحدثته عن الجلاء عن مصر فحدثني عن مستقبل الجيش المصري .. وحدثته في أكثر من موضوع هام ..

مواضيع ليس من حقي الآن – حتى بعد وفاته – أن أسجلها وكان حلها الوحيد في نظره المسدس وأحمد عبد العزيز محارب فنان ، إذ كان لا تنقصه الجرأة وكذلك لا ينقصه الفن باعتراف اليهود أنفسهم .

وحدث عند أول دخول الصهيونية وبينما كان يقود بنفسه احدي دوريات الاستكشاف أن هاجمته قوة كبيرة من اليهود حتى اضطر أن ينبطح مع رجاله على الأرض ليتجنبوا الرصاص الذي يتناثر من حولهم ويصرخ في آذانهم ثم لم يأمر رجاله بإطلاق النار على العدو بل إطلاقه في كثبان الرمال .. وأثارت الطلقات كثبان الرمال وارتفع ستار من الأتربة بينهم وبين العدو الذي عجز عن تقدير قوة أحمد عبد العزيز وظنها قوة كبيرة إذ تثير طلقاتها كل هذه العاصفة الرملية ..ففر.

وحدث في معركة دير البلح أن قبض رجال أحمد عبد العزيز على جاسوس عربي كان يحمل تليفونا لا سلكيا وجاءوا به إلى قائدهم فلم يأمر بضربه بالرصاص طبقا لقوانين الحرب ، بل أخذ يحدثه في هدوء قائلا إنه لا يؤمن بأن هنالك عربيا يخون العرب إلا تحت ضغط شديد وأنه يعتقد فيه أى هذا الجاسوس – أنه لا زال في قرارة نفسه عربيا مخلصا لأن دم العرب يجر في عروقه ، ولذلك فهو صفح عنه بل وأكثر من ذلك فهو يضمه إلى قواته ..

وقبل الجاسوس العربي . سواء عن إخلاص أم عن خوف – أن ينضم إلى قوات أحمد عبد العزيز ولم تمض دقيقة واحدة حتى صدر إليه الأمر الأول وهو أن يتصل بمركز قيادة اليهود ويطلب منها باسم مستعمرة دير البلح التي تحاصرها قوات المتطوعين – مددا كبيرا من ذخائر وسيارات وآلات ثم يستعلم من مركز القيادة عن موعد قيام القافلة التي ستحمل هذا المدد والطريق الذي ستسلكه ..

وفي صباح اليوم التالي كانت قوات أحمد عبد العزيز قد رابطت للقافلة التي تحمل المدد واستولت عليها وكانت مكونة من خمس عشرة سيارة مصفحة محملة بالذخائر وتحرسها دبابة وقد قاومت القوات هذه الدبابة وتغلبت عليها ببندقية " بويرز" مضادة للدبابات .. وهي بندقية بطل استعمالها في الحروب منذ عام 1939 !

وهذا هو فن أحمد عبد العزيز .. أما جرأته فستنقضي سنوات قبل أن تكف الأقلام عن ذكر شواهدها .. وأحمد عبد العزيز رغم قسوته على رجاله وعلى نفسه إلا أن كل واحد ممن عملوا تحت قيادته يعلم أن هذه القسوة تخفي تحتها قلبا إيمانا عميقا وإخلاصا شديدا لكل واحد منهم .. بل إنه أخلص لجواده " فهد" وقد كان أول جواد يشتك به ضابط مصري في مباريات قفز السدود فلم يتخل عنه بعد أن أعجزه الكبر أى الجواد عن القفز بل احتفظ به في سلاح الخيالة مكتفيا أن يمتطيه في الحفلات الاستعراضية وأخلص أحمد عبد العزيز لمسدسه الطبنجة فظل يحمله - حتى وفاته – نفس المسدس الذي منح له عقب تخرجه في الكلية الحربية وقد قلت له مرة .

- لم لا تحمل مسدسا أحدث طرازا تحمل " تومي جن " وأنت تنتقل في ميادين القتال وتتعرض في كل لحظة لهجوم مفاجئ ؟ فضرب بيده على مسدسه وقال البركة في دي.

- إن مصر قد خسرت أحمد عبد العزيز وخسرت أنا رجلا من القلائل الذين آمنت بهم .. رجلا وجدت فيه صدي لآمال مصر .. وقذيفة من قذائف الجيل الجديد.. وروحا فدائية في وطن يعوزه الفداء .. وكل تعزيتي أن أحمد عبد العزيز قد تنرك وراءه جيشا كل جندي فيه تطوع ليكون أحمد عبد العزيز .

أحمد عبد العزيز ينال أمنيته!

كما كتب الأستاذ حلمي سلام في المصور تحت عنوان أحمد عبد العزيز ينال أمنيته .. فقال:

" كن كريما مع وطنك ، وثق إنه سيرد لك

ما بذلت- حيا أو ميتا – أضعافا مضاعفة "..

لكل إنسان في هذه الدنيا مطامعه وآماله .. وليس لى يا صديقي مطمع سو أن أموت شهيدا في ميدان قتال !! ولماذا هذه الأمنية بالذات ؟!

- لأنها الأمنية التي لا يصح لمن تشرف بحمل السيف أن يتجاوزها إلى غيرها من رخيص الأماني ، وليس هناك هوان يصيب رجل الحرب أشد من أن يموت راقدا على سري في بيته !

وخيل إلى عندما سمعت هذه الكلمات ينطلق بها لسان أحمد عبد العزيز وأنا أجالسه منذ سنوات خلت أنني أحلم ..! وفتحت عيني جيدا لأتأكد من أنني لست حالما ، ولأري أن الذي يتحدث إلى إنما هو ضابط مصري لا يحمل من علامات الرتب العسكرية سوي تاج صغير يكاد كتفه العريض أن يبتلعه !

وعدت أتأمل وجه أحمد عبد العزيز من جديد وأنظر في عينيه في عمق !

أحمد عبد العزيز ينال أمنيته!

لم يكن الرجل غريبا على فقد عرفته قبل هذا الحديث بسنوات ولكن الذي راعني منه في هذه المرة أن رأيته يخرج عن صمته المألوف، فإذا هو كالمدفع الذي يصمت طويلا ثم ينطلق فجأة فيحدث دويا يهز الأرض هزا !

وتنبه أحمد عبد العزيز إلى أنني استغربت أمنيته .

فانطلق يتكلم في بساطة رائعة وبغير أن تحمل طريقة كلامه قوة الكلام نفسه :

- لا تستغرب يا صديقي .. إن أمنيتي طبيعية جدا ، وكل ما ارجوه أن أجد كثيرين يتمنونها مثلي فعندئذ تستطيع أن تطمئن إلى أن مصر التي أنامها المستعمرون 65 عاما قد استيقظت ولن يعاودها النوم مرة أخري !..

- إنني أشبه مصر بشجرة جف عودها ولن يعود إلى هذا العود اخضراره إلا إذا رويناه بدمائنا !

- أعتقد أنه ليس بيننا من يضن ببذل دمه من أجل مصر إذا ما طلبت منه مصر ذلك! ثم تغيرت سحنة أحمد عبد العزيز ؟ وتجهم وجهه ، وقال :

- هذا هو الكلام الذي لا يعجبني .. لا أتردد في بذل دمي من أجل مصر إذا ما طلبت مني ذلك ! – وضغط على العبارة الأخيرة ضغطا فيه قسوة لا .. يا صديقي أنا لا أرضي لنفسي أن أظل جامدا حتى تهيب بي مصر " أن أتحرك ".. بل يجب أن أقدم لها نفسي بنفسي .. فالرجل منا يتصف بالكرم عندما يقدم لضيفه ما يريد قبل أن يطلبه ، أما إذا انتظر على الضيف حتى يطلب هو ما يريد فأنت تعرف الصفة التي ينبغي أن يتصف بها .. فكن كريما وطنك هو ما يريد فأنت تعرف الصفة التي ينبغي أن يتصف بها فكن كريما مع وطنك .

وثق أنه سيرد لك ما بذلت – حيا أو ميتا – أضعافا مضاعفة وطويت على هذا الحديث " مفكرتى".. وتركت أحمد عبد العزيز وأنا أردد قوله " كن كريما مع وطنك وثق أنه سيرد لك ما بذلت أضعافا مضاعفة "!

- ومضت على هذه الجلسة التي لن أنساها مع أحمد عبد العزيز أيام وشهور طويلة وكنت كلما لقيته داعبته قائلا :

- أما زلت ثائرا ؟

- لن أهدأ إلا بواحدة من اثنتين : أن أحقق أهدافي أو أن أموت في سبيلها !

- وخيل إلى مرة أن الرجل يهول في تصوير أمانيه ، ودارت هذه الفكرة برأسي حتى دفعتني إلى أن أسأل أحد الذين يعملون معه هذا السؤال :

- ما رأيك في أحمد عبد العزيز ؟

- فأجابني قائلا :

- إنه رجل شجاع جدا .. وجري جدا .. وهذه الصفحات كلها تجعل بعض الناس يظنون أنه " ثائر " والحقيقة أنه ليس كما يظنون أبدأ وكل ما هناك أنه رجل له مثل عليا يؤمن بها إيمانا لا حد له و ويعرف الطريق التي توصله إليها .

ولا يعنيه إذا كان الموت سيقف له في منتصف هذا الطريق أم سيخليه له !

ومضت الأيام في عدوها حتى وقفت عند يوم 10 مايو سنة 1948 فإذا بي أسمع من بعض أصدقائي الضباط أن أحمد عبد العزيز طلب إحالته إلى الاستيداع ليقود المتطوعين للدفاع عن الصهيونية .. لم أدهش عندما سمعت بهذا الخبر .. فقد كانت المقدمات كلها تدل على وصول أحمد عبد العزيز إلى هذه النتيجة .. أو لم يقل لى : قدم نفسك لوطنك بنفسك قبل أن يطلبك ؟

ومضي أحمد عبد العزيز إلى الصهيونية فإذا به يخلع قلوب اليهود خلعا وإذا بالرجل الذي كان في السفح يصبح على حين غرة في القمة .. ولم تكن هذه القمة بكثيرة عليه ، فقد صعد إليها ساعيا على قدميه ، ولم يعبأ بالموت الذي كان يتربص به في كل خطوة وهو في طريقه إليها !

قابلته مرة – وكان عائدا من الميدان لتوه – فكان أشعث الشعر مغبر الوجه فقلت له :

- مالك مغبر الوجه هكذا ؟

فضحك وقال :

- إنني مغبر الوجه فعلا ولكنني أشم لهذا الغبار عطرا لا يضارعه إلا عطر التراب الذي ترتاح عليه رؤوس شهدائنا !

- يا الله من هذا الرجل الذي لا يتحدث إلا عن الموت ، ولا يمل الحديث عنه كأنه أمنية من الأماني ! وغاب أحمد عبد العزيز عنا غيبة طويلة كانت أعماله المجيدة تصله بنا خلالها وتدينه من قلوبنا ، وتجعل اسمه لا يغيب على لسان إلا لينتقل إلى لسان ..

وعلى حين غرة منا وبينما اسم أحمد عبد العزيز أنشوده في فم الدنيا قال النعاة :

" يستشهد أحمد عبد العزيز"..

لقد تحققت أمنية الضابط البطل .. ومات على الصورة التي لا تنبغي – كما قال - لمن حمل السيف في جنبه أن يموت بغيرها ..!

ففي سبيل الله هذا البطل الذي حرص على الموت فوهبت له الحياة سلام عليه يوم جاهد ويوم مات ، ويوم يبع حيا

( حلمي سلام) الأديب عبد المنعم الصاوي استشهد أسد الميدان

وكتب الأستاذ عبد المنعم الصاوي في 24 محمد سالم عبد السلام 1948 مقالا تحت عنوان " استشهد أسد الميدان " يقول فيه :

بقلب لا يلين الحديد والنار فتحطم الحديد وانطفأت النار .

هل مضي أحمد عبد العزيز إلى العالم الآخر صرعته حقيقة رصاصة طائشة و فجعلته اليوم خبرا يرويه الرواة وسطورا من نور في صفحات التاريخ ؟

إنه لعزيز على أن أصدق هذا وقد كان آخر ما يخطر بالذهن ، وأن يموت هذا الوحش الكاسر ، الذي خط على كل حبة من حبات الرمال قصة ، وسجل على كل قطعة من الحصي تاريخا وترك في كل شبر من أرض السلام أثرا لا تمحوه الأيام .

لقد عاشرت هذا البطل وهو يخوض معركة الصهيونية وكان أول لقاء بيني وبينه في مفر قيادته ... جلست أنتظره في فناء القيادة وكانت الشمس قد غربت وخلفت على منطقة بيت لحم بقاياها قطعا حمراء منثورة بين السحاب .

ودخل رجل أبيض الوجه لامع النظرات جميل الطلعة ثابت الخطوات متئد الحركة معتد بنفسه إلى أقصي حدود الاعتداد .

وعرفت من أول وهلة أنه أحمد عبد العزيز فتقدمت إليه وصافحته وإذا هو عبد العزيز بعينه .

إن الرجل الفذ النادر لا يمكن أن تخطئه بين آلاف الرجال

وكانت كفه ، وهي تصافحني ، تحمل إلى آلاف الذكريات.

وكانت بسمته الرطبة العذبة ، توقفك على قوة نفسية لا توصف .

وجلس يسألني عن أخبار الأزهر والروح المعنوية بين الشعب المصري فقلت له إن ملايين المصريين معكم هنا في الميدان ، يقبون بطولتكم ويباركونها .

فابتسم ابتسامته العذبة وأخذ يقول : إننا نؤدي واجبنا ونحن لا نريد من الشعب المصري إلا أن يصبر فالصبر وحده وسيلة الانتصار .

وانطلقت المدافع تقصف اليهود حول منطقة بيت لحم ، بحمم لا تنتهي فقال البطل :

- أتسمع .. إن حي القطامون وميكور حاييم تئن تحت هذه الطلقات ... لابد لنا من تحطيم قوي اليهود المقيمين في القدس الجديدة..

وعض الرجل شفته السفلي وهو يقول :

- آه لو أحكمنا حصارها قبل أن تصلها إمدادات ، إذن لسلمت لنا من غير قيد ولا شرط.

وسألته عن الحالة بصفة عامة فصاح يقول :

- لن يكون من نصيبنا شئ إلا النصر .. إننا مؤمنون بحقنا واثقون من انتصارنا ، ولن يفل عزمنا شئ في الوجود .

ورجوته أن يحدثني كيف دخل الصهيونية وهو وقواته من فرقة الكوماندوز، قبل أن تدخل الجيوش بحوالي شه فسرد على قصة نادرة لا يلجأ إليها إلى كل طاغية جبار .

قال : لقد قدمنا إلى العريش فإذا القوات الإنجليزية تقف حائلا بيننا وبين الأرض الالصهيونيةية وإذا نحن أمام أمرين : إما أن تقف ، وإما أن تحارب القوات الإنجليزي ، وعز على أن نرحل من الأزهر لدخول الصهيونية ، ثم تقف عند العريش .

وكنت قد دبرت أمرا في نفسي وأزمعت أن أنفذه عندما يلقي الليل أستاره على المكان .

وما أن انتصف الليل حتى أمرت قواتي بالتقدم ، وتقدمنا وما أن أصبح الصباح حتى كنا قد نصبنا معسكرا خاصا قرب غزة وكتبنا على منافذه " معسكر حربي"، ممنوع الدخول ".

وما أن أصبح الصباح حتى كان البطل الشجاع ، يقود سيارته الجيب بنفسه ، وقد جلست أنا بجواره ، وخلفنا جلس الحارس بمدفعه الرشاش والسائق بمسدسه .

وحينما وصلنا إلى منطقة " صور باهر " وقف أحمد عبد العزيز عن القيادة ثم قال :" هذه مدفعيتنا تقصف بهم "

ومضي يقول :" سننزل هنا لنسي على أقداما . البس هذه الخوذة "

ولبس خوذته ، ولبست خوذة أخري ولبس الحارس كذلك خوذة ونزل الرجل يعدو في خطوط ملتوية وهو يصيح بي :

" اتبعني خطوة خطوة، فإذا أحنيت رأسي فقلدني تماما إن الحركة الملتوية تجعلك في غير مواطن الخطر لأنك لا تكون في هذه الحالة هدفا صالحا للعدو "

وفي حركة ميكانيكية فقدت فيها التفكير أخذت أقلد وحش الصحراء ولم أدرك كم قطعنا ، ولا كم مر من الوقت ، وكل ما أدركته هو أنه حينما وصل إلى منخفض من المنخفضات استلقي هو وأمرني بالاستلقاء بجواره وخلفنا الحارس بمدفعه الصغير .

كنت ألهث فقال في صوت حنون :" لقد تبعت ، أتري إذن أضرار التدخين ؟"

وأعطاني منظارا مكبرا وأمسك هو بمنظاره وطلب من الحارس تليفون الميدان ، ووضعه بجواره ووجه منظاره إلى المعركة .

وأصبحنا بين المدفعية المصرية واليهود القابعين في مستعمرات القدس الجديدة قنابل المدفعية تمر من فوق رؤؤسنا ورصاص الأعداء يطير من فوقنا .

اليوم يختم أحمد عبد العزيز طوافه بعد أن روي أرض السلام بدم ستكتب به يوما التاريخ الأبيض الناصع . بل اليوم ينتقل أحمد عبد العزيز إلى عالم الخلود بعد أن خلد في سجل الزمن، أقوي نشيد وأبرع أغنية ترتلها الأجيال .. جيلا بعد جيل .

( عبد المنعم الصاوي) معروف الحضري البطل الذي فقدناه

كما كتب الأستاذ معروف الحضري في الذكري الأولي لوفاة البطل مقالا عن ذكرياته قال فيه :

أول محمد سالم عبد السلام سنة 1948

هجم اليهود اليوم هجوما عنيفا في منطقة جبل المكبر وكلية الزراعة اليهودية ودار الحكومة على الحدود التي تفصل بيننا وبين القدس القديمة للوصول إلى الطريق الذي يفصل بين قواتنا والقوات الأردنية داخل المدينة القديمة .

إن اختراق هذه الثغرة معناه وضع إسفين قوي بيننا وبين الجيش العربي وفشل أى حركة نقوم بها مستقبلا بالتعاون بين قواتنا وجنود الجيش العربي الأردني .

وقد استيقظت من نومي على صوت المدفعية المصرية وهي تضرب مواقع الأعداء تحت قيادة زميلنا الضابط كمال حسين ( أبو كمال ) لقد أخذت مدافع تضرب اليهود طول اليوم ضربات قاصمة بينما أخذ الأسلحة الصغيرة تستعد لتقوم بجولتها التالية .. لم تكن هذه المنطقة تحت قيادتي وإن كانت تحد من جانبي الأيمن ولذا اتصلت بالقيادة العليا بالتليفون لأستفسر من البكباشي أحمد عبد العزيز عن موقفي من هذه العمليات التي بدأها الصهيونيين رغم الهدنة .. وقد حذرني القائد من أن يقوموا بهجوم فعلي على مواقعي وأمرني بألا أبارح مواقعي وإن استعد استعداد كاملا .. وقال إنه يخشي أن تكون المعركة الدائرة في منطقة جبل المبكر هي " كومو فلاج"

لهجوم يهودي مخادع يوجهون فيه جميع قواتهم الرئيسية على قواتي .

2 محمد سالم عبد السلام 1948

ما زالت قوات المدفعية في صراع ر هيب مع اليهود في منطقة جبل صور باهر وجبل المكبر .. وقد اشتدت رحي المعركة . وعانت بيت لحم – حيث تقع القيادة العامة – من نتائج هذا الهجوم اليهودي العنيف .

وقد دهشت عندما لم يقدم الجيش العربي الأردني أية معاونة لقواتنا بحجة احترام الهدنة بالرغم من أن المسافة بين مواقعنا ومواقعه لا تزيد على الكيلو مترين بحيث تستطيع مدفعيته مساعدة مدفعيتنا هذا فضلا عن أن تحقيق اليهود للأغراض التي شنوا هجومهم من أجلها تهدد مواقع الأردنيين تهديدا مباشرا .

ولا يجب أن ننسي في هذا المقام أن منطقة جبل المكبر هي الناحية التي نفذت منها قوات أمير المؤمنين عمر بن الخطاب إلى القدس فهي منطقة مرتفعة للغاية وتشرف على مختلف نواحي القدس بقسميها الجديدة والقديمة وإن واجبنا لحماية مقدسات المدينة يدعونا إلى الدفاع عنها دفاع المستميت وعدم وقوعها في أيدي اليهود بأية تضحية .

قصدت اليوم إلى المكان الذي يشرف منه أبو كمال على معركته فوجدته محتميا بإحدى الغرف بالدور الأعلى من احد المنازل العربية بمنطقة صور باهر .. وكان من هذه الغرفة يحدد أهدافه للمدفعية ويبلغها إليها تليفونيا أولا بأول .. إن أبو كمال يري المعركة كلها تدور من أسفله كما أن نظراته الحديدية كفيلة بأن تكشف جميع حركات اليهود احتشادا تهم ومتابعتها بسيل من القنابل التي تفرق شملها و تدب الذعر بين صفوفها ، وكان أبو كمال بين الآونة والأخرى ينادي خالدا شاويش المدفعية في بوقه ليحدد له هدفه وسرعان ما تندفع القذائف المصري لتدك أوكار الصهيونيين .

وجاءنا القائد البطل أحمد عبد العزيز وظل واقفا بجوار أبو كمال في انتظار نتيجة ما تتمخض عنه المعركة.. وكان يجو أن تكون هزيمتهم عاملا على احترامهم الهدنة التي فرضت علينا وما رغبنا فيها .

كان يقول لنا : إن الوقت هو عامل أساسي من عوامل كسب المعركة وها هو العالم يتألب علينا فيعطي اليهود وقتا كافيا يستعدون فيه للانقضاض علينا في أية لحظة وبدون سابق إنذار ، وبين الآونة والأخرى يتمتم بقوله لعنة الله على الهدنة .

إن عيني أحمد عبد العزيز احمرتا نتيجة لسهر الليلتين السابقتين وقد تبعثر شعره وعف التراب وجنتيه وملابسه .

وأخيرا تمكنت مشاتنا بفضل نشاط مدفعيتنا من تكبيد الصهيونيين نحو 2000 رجل من بينهم نحو ألف قتلتهم المدفعية وحدها .

عرف أحمد عبد العزيز نتيجة المعركة وإذا بالقائد الوقور ينهال على " أبو كمال " يقبله .. وعلى حين غرة شد قائدنا قامته ورفع يديه يحيي أبو كمال ثم صافحه مهنئا .. وقال : إن قبلاتي هي كل ما لدي لأهنئك على إخلاصك وتفانيك في تأدية واجبك .

وجاءت أنباء أخري بأن قواتنا أسرت من الصهيونيين كميات كبيرة من الذخائر والأسلحة الأوتوماتيكية وأنها وجدت بأكملها صالحة للاستعمال وفي حالة جيدة وأن أغلبها صنعت في ألمانيا أو الولايات المتحدة .

اضطر اليهود للانسحاب أمام مواقعنا الحصينة على منطقة جبل المكبر وصور باهر وتحصنوا في مستعمرة تل بيوت و والكلية الزراعية اليهودية المواجهة لمواقعنا انتظارا لهجوم قواتنا عليهم .. ولكن أحمد عبد العزيز لم يكن بالرجل الذي يقع في الشرك فتركهم يحصون خسائرهم الفادحة ..

4 محمد سالم عبد السلام 1948

قدم اليوم إلى مركز القيادة العليا عدد كبير من مراقبي الهدنة وقد استقبلهم البكباشي أحمد عبد العزيز باحتقار مقرون بعتابه على إهمالهم في تسجيل حوادث خرق اليهود للهدنة وقال لهم : أهكذا يحترم اليهود الهدنة .... أو هكذا تكبلوننا بالأغلال وتتركونهم يضربوننا وكانت جميع إجاباتهم تملصا ووعدا .

ووصف أحمد عبد العزيز لمراقبي الهدنة وعودهم قائلا : إنه لم يعد يثق بوعودهم وكل ما يستطيع أن يقول ردا عليها انه وجميع قواته مستعدون في أية لحظة لاستئناف القتال .

ثم ذكر لهم بعض تفصيلات المعركة الأخيرة على سبيل المثال قائلا : هكذا كانت نتيجة المعركة التي خسرها اليهود وهم البادئون بالهجوم .

وقبل أن يغادر رجال الهدنة مركز القيادة اتفقوا مع القائد على عقد مؤتمر غدا بدار الحكومة على أن يحضره مندوبون عن كل من القوات المصرية والأردنية واليهودية ومندبون عن هيئة رقابة الهدنة وذلك للعمل على تخطيط منطقة جبل المكبر حتى يتبين مستقبلا الطرف الذي يبدأ في العدوان ونقض الهدنة .

عدت مساء اليوم إلى مقر القيادة حيث عقد القائد اجتماعا حضره جميع ضباطه .. ثم أخذنا في وضع تقرير وضعنا فيها تفصيلات المعركة ونتائجها لنبعث به إلى رئاسة القوات .

5 محمد سالم عبد السلام 194 8

وصل اليوم إلى بيت لحم البكباشي إسماعيل شيرين ( القائم مقام إسماعيل شيرين بك) ومعه اليوزباشي صلاح سالم موفدين من القيادة العليا للاشتراك مع القائد في المناقشة التي ستدور بين الجنرال رايلي والكولونيل كوكس مندوبي لجنة الهدنة وبين ممثلي القوات العسكرية الثلاثة من مصرية وأردنية ويهودية .. وبعد أن اجتمع بهما القائد فترة من الوقت صحبهما معه إلى دار الحكومة حيث عقد الاجتماع في مقر الصليب الأحمر الدولي ..

6 محمد سالم عبد السلام 1948

جاء اليوم البكباشي أحمد عبد العزيز إلى مركز قيادتي وبصحبته أحد مندوبي الهدنة ثم صحباني إلى مواقعنا الأمامية حيث سمع مراقب الهدنة بنفسه بعض الطلقات السريعة التي كان اليهود يطلقونها بين كل لحظة وأخري وكان القائد يصف لمراقب الهدنة خرق اليهود للهدنة قائلا إنهم جبناء ولم يحاول القائد أن ينبطح أو يختفي من نيران اليهود بالرغم من أن وجهه وشكله قد أصبح مألوفا لديهم لا أعلم ماذا يكون موقفي وأنا أتخيل القائد وهو بجواري يسقط جريحا أو قتيلا .. ولهذا حذرته مرارا وحاولت أن أرهبه فقال لى : إنني أشجع منك يا معروف ، ومهما كان الفارق في سننا كبيرا إلا أنني ما زلت أكرر أنني أشجع منك فاتركني وشأني، إنني أريد أن أري بعيني جنودي وهم في خطوط النار الأمامية .

وليعطني القائد درسا ذهب إليهم في الخط .. وهنالك وجد بعض أخطاء وقعت فيها تحصينات الدفاع فأنبني كثيرا قائلا إنه يريد دفاعات أحسن وأعظم مما هي عليه .. فسكت صاغرا ولم يكن بيدي من حيلة .

وفي الخطوط الأمامية قال لي أنه اتفق مع مراقبي الهدنة على أن يجتمع مع مندوبي اليهود عند آخر منزل من مواقع دفاعنا أمام القدس الجديدة لقد وعد القائد فلم أستطع أن أحول دون تقدمه في وضح النهار إلى هذا المنزل ومعنا أحد مراقبي الهدنة لقد كنت أنا شخصيا أصل إلى هذا المنزل متسللا أثناء الليل وإذا بأحمد عبد العزيز يضطرني إلى أن أتقدم إليه في أوضح ساعات النهار :

كنت أسير وأنا أبتهل إلى الله حتى لا يفاجئنا اليهود بنيران كثيفة يصلون بها هذا المنزل أو يعمدون إلى هجوم غادر لقتل نمر الجنوب أو أسره . ذهب القائد تحرسه عناية الله إلى هذا المنزل ... وهنالك تقابلنا على الحدود الفاصلة بين المنازل ومن حولنا كانت المنطقة ملغمة بآلاف الألغام !

كان المنظر رهيبا ... نمر الجنوب ينظر لمندوبي اليهود وقد وقف معهم أحد مراقبي الهدنة نظرة كلها جبروت وقسوة... وإنه يضع يديه في وسطه ويتحدث إليهم بكل احتقار ..

وبعد أن حددنا الحدود بيننا وبينهم التفت إلى قائلا : هيا بنا يا ولدي لكي نعود لقد أدي واجبه فلم يعد هنالك حاجة للبقاء .

وقبل أن نمرح عائدين صافح أحمد عبد العزيز مراقب الهدنة في الجانب اليهودي ثم استدار عائدا فما كان من المراقب إلا أن قال له :" ألا تصافح المندوب اليهودي "

ويبدو أن مراقب الهدنة استفزه بهذه الكلمة واحمرت وجنتا أحمد عبد العزيز في الحال سرعان ما وضع يديه في خاصرته قائلا ما تعودت أصافح أعداء بلادي بينما قواتنا في حرب معهم .

20 محمد سالم عبد السلام 1948

عقد اليوم أحمد عبد العزيز اجتماعا في مقر قيادته في بيت لحم وقال لنا :" لقد نجح مندوبو الهدنة بالاشتراك مع اليهود في أن يشغلونا منذ يوم معركة جبل المكبر التي خسرها الصهيونيين بتخطيط خطوط الهدنة الفاصلة بيننا وبين اليهود .. وقد علمت اليوم من مصدر وثيق أنهم سيشنون هجوما على مواقعنا في اللحظات الأخيرة قبل الانتهاء من تخطيط الحدود فإياكم والارتداد شبرا وإياكم والتواكل وإياكم والنوم هذه الأيام فإذا هاجمونا فوصيتي لكم أن تقاتلوهم واصمدوا في مواقعكم وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين ".

21 محمد سالم عبد السلام 1948

قدمنا اليوم اليوزباشي صلاح سالم موفدا من رئاسة القوات وقال لأحمد عبد العزيز إن القيادة تلقت إشارة بأن اجتماعا أخيرا سيعقد بدار الحكومة اليوم للإنتهاء من عملية تخطيط الخطوط ثم صحب اليوزباشي صلاح سالم القائد ومعه اليوزباشي حسن فهمي إلى مقر الاجتماع .

وعدت كعادتي بعد أن تفقدت مواقعي إلى مقر القيادة ساعة الغروب لأرفع تقريري إلى القائد وأتلقي منه إرشاداته فعلمت أنه لم يعد بعد من دار الحكومة .

وفي الساعة العاشرة مساء طلبني القائد بنفسه تليفونيا من مركز قيادتاه وقال لى :" رغبت أن أحذرك من اليهود مرة أخري فاحذرهم يا معروف لأني أتوقع منهم اليوم أو غد هجوما غادرا .

22 محمد سالم عبد السلام 1948

قصد القائد في ساعة مبكرة من صباح اليوم إلى دار الحكومة وبصحبته اليوزباشي صلاح سالم فاجتمعا بالجنرال رايلي ثم عادا ساعة الظهيرة بعد أن انتهت مباحثاتهم .

انتهيت من عملي متأخرا اليوم فقررت العودة إلى مركز القيادة لأري القائد وأعرف منه آخر تطورات الموقف وفي بيت لحم وجدته واقفا في الشارع المؤدي إلى مركز القيادة وبجواره اليوزباشي صلاح سالم وكان القائد يقف وبيده ساندوتش يأكله .

أوقفت سيارتي وقلت له : إلى أين ؟ فقال : إلى المجدل ... فسألته عما يحمله على الذهاب إليها في مثل هذه الساعة ؟ فقال لإنهاء موضوع التخطيط ولمسائل متعلقة بمراقبي الهدنة وبعض الشكايات الأخرى . وأضاف قائلا : ربما طلبت في هذه المرة إعفائي من منصبي فقد ضقت ذرعا بعدم إجابة مطالبي ... إنني حريص عليكم وأود لكم النصر ولكن هذه متاعبي سأسردها للقيادة العامة .

كان ما يزال يأكل الساندوتش بينما التف حوله جميع ضباطه تقريبا قائلين له إن الليل قريب ولا داعي لسفرك الآن ولتسافر في ساعة مبكرة من صباح الغد فرفض قائلا إنه يرغب في كسب الوقت ليتمكن من العودة في الصباح الباكر وأضاف : لا تعب في سبيل الله وفي سبيل الوطن والملك وفي سبيلكم ولكي أطمئن وأستريح !

وقبل أن يستقل سيارة الجيب قال موجها الكلام إلينا : كونوا على حذر الليلة . وكونوا رجالا في غيبتي فإذا هاجم اليهود مراكزكم صدوهم .

إني أتوقع منهم غدرا قبل توقيع تخطيطات الهدنة ... إني أتوقعها الليلة أعتمد على الله وعلى شجاعتكم !

وحينئذ تذكرت الأوامر التي صدرت إلينا بإرسال احدي وحدات المشاة إلى منطقة بئر سبع فذكرته بها فقال لى  : يجب أن ترسلها في الصباح الباكر وأنا أعلم احتياجك إلى هذه الوحدة ، ولكن تأكد أن جماعة من المتطوعين سيصلون إليك ، وقد طالت مناقشتنا في هذا الموضوع فقال : ثق أن هنالك متطوعين من ذوي القلوب الحديدية سيصلون إليك حالا .

ثم ودعناه فسار على بركة الله ومعه اليوزباشي صلاح سالم وسائق سيارة الجيب .

23 محمد سالم عبد السلام 1948

لم أنم هذه الليلة وكنت ساهما قلقا فهل كان شعورا بالحادث الرهيب الذي ذهب ضحيته قائدنا العزيز كنت أمينا على نصائحه الأخيرة فتفقدت جميع مراكزي الأمامية وفي الصباح الباكر ذهبت إلى مركز قيادة السرية التي ستسافر إلى بئر سبع حي ودعت جنودها وقلت لهم : إن هذا يوم أغبر ويوم أسود في حياتي لأنني أفارق وحداتي التي أعزها وأحبها لبسالتها في الجهاد.

لا أدري لم قلت هذه الكلمة.. ولكني ما كدت أعود لعربتي لأتوجه بها إلى منطقة شرفات حتى فوجئت بأحد المجاهدين العرب وهو الحاج أبو زيدان وكان مغبر الوجه مكلوم الجسد ويتجلي الحزن على جميع جوارحه فقال لى عوضنا على الله وإلى اللقاء يا أحمد.

ولو كان والدي حقا الذي مات لما بكيته ولما تأثرت بأكثر مما شعرت به لفقد قائدن أحمد عبد العزيز .

قصدت إلى مركز القيادة العامة حيث عقدنا مؤتمرا عسكريا كان يسوده الوجوم .

وتكلم البكباشي وليم عبد المسيح بصفته أقدم ضابط فعزانا وهو يبكي وقال :" احجزوا هذا الخبر عن الجنود حتى لا يصدموا بمثل ما صدمنا "

لقد كنا جميعا مستعدين لتحمل نبأ فقد قائدنا فكيف لجنودنا أن نخفي عنهم نبأ استشهاده وماذا ستكون النتيجة لو انتهز اليهود المناسبة وشنوا علينا هجوما مركزا !

بالرغم من ذلك فقد صارحت قواتي بالحقيقة الأليمة وقلت لهم :" إن اليهود سينتهزون هذه الفرصة فلنقضي عليهم تخليدا لذكري أحمد عبد العزيز وإنني لأقسم ولم أجفف دمعي على أحمد عبد العزيز إنه لو هجمت علينا اليوم شياطين الدنيا والآخرة لقضينا عليهم قضاء مبرما ".

عدت إلى نفسي بعد ذلك أتذكر اللحظة الآخرة في حياة أحمد عبد العزيز وكيف ذكرني بواجبي فاضطررت أن أرضخ

رجل عاشت التضحية في قلبه كما صدرت في الذكري الأولي الصحف تقول :

" كم من المصريين- والعرب – يذكر اليوم هذا الاسم ويذكر صاحبه الذي مر على استشهاده الرائع عام كامل ؟

رجل عاشت التضحية النبيلة في قلبه ، وانطلق الفداء الكريم في عروقه مع دمائه الأبية ... رجل عرف أن التضحية أخت الصمت والتواضع وأدرك أن الفداء أبو المكرمات ، فحمل رأسه على كفه ، في أخطر ساعة من ساعات التاريخ المصري الحديث ، وانطلق كالشهاب في ميدان البطولة ، رائدا في ساحة الجهاد وبطلا في ساعة الشدة رجل نمته مصر ، أرض المعجزات ومشى – وقد دقت الساعة – إلى أشرف غاية وأجل قصد وعلى رأس عصبة من الشباب مرفوعة هاماتهم بفضله متقدة قلوبهم بنار غيرته ..

شباب ألهمهم إيمانه وألهبتهم حماسته يرونه صانع معجزة فيصنعون المعجزات ويبنون كما يبني الباقيات الخالدات ويكتب ويكتبون على رمال الصهيونية أنضر الصفحات .

أتذكره وقد مر العام ، أم نسيناه ..؟!

أتذكر تلك الربوة البعيدة في ثري الصهيونية وذلك القبر البسيط القائم وسط عشرات القبور في كل قبر بطل ، وعلى كل قبر سحابة من رضوان الله ..؟!

وكيف تنسي مص ابنها العظيم طليعة المجد الطريف ، وعنوان البعث الكبير وكاتب تلك الصفحة الخالدة المشرقة في كتاب الوعي المصري المجيد ؟

إننا نذكر أحمد عبد العزيز ولا ننساه..

نذكر جهاده في سبيل الله وكفاحه في سبيل الوطن واستشهاده في ساحة الفخار .. نذكره شهابا ساطعا ، وفدائيا صامتا وبطلا رائدا.. نتذكره ونذكر القبر المتواضع الجاثم على تلك الربوة البعيدة في ظل من رحمة الله ورضوانه القبر الذي ضم فات شهيد صنع لمته المجد ثم لحق راضيا بالأبرار الأطهار من بناة التاريخ .

حية هي ذكراه العاطرة ..

حية في قلوبنا إلى آخر الزمان !"

البطل الشهيد

كما كتب الأستاذ محمود عيسي مقالا في مجلة الجيش قال فيه

في مثل هذا اليوم من عام 1948 ، صار أحمد عبد العزيز في عداد التاريخ !..

ولكن بعد أن ترك من خلفه تراثا من الذكري والقدوة والتضحية في دنيا الأثرة والنفاق والمجون .

وبذل دمه وقلبه وروحه رخيصة ليقيم مجدا لجيشه ، وشهرة لأمته وتاريخا لوطنه وسمعة لمواطنيه .

فلا شئ كان يملأ بصره غي الكفاح المنزه ولا شئ يستهوي حياته سوي ميتة الشهيد.

فدورة الزمن ينبغي أن تعاد والإمبراطورية الموعودة يتعين أن تقام والراية المصرية يقتضي أن تتألق .

ولا يتطلب هذا كله إلا أن تملأ القلوب ب" الإيمان" وتحشد الرءوس بـ العلم " ويستفز الشبيبة بـ" الحماس " وترسم الخطوط في " القيادة"

أما الكلام في عصر " العمل " والضعف في عالم " القوة والتملل في دنيا" السرعة " فمعناه الخذلان والانهيار والموت الذي لا يرجي بعده بعث .

على مثل هذا الضوء هيا خطته ، ومن مراجعه الماضي كون فكرته وفي الطريق الموعود شق خطواته..

وبدأ يعمل لا لينتظر الرجل الذي يقود شبابه وإنما لكي يكون الشاب الذي يقود الرجال .. فلم لا يكون هو " المعجزة" التي تحول السيل وتحطم القيود ، وتنقذ الوطن . لم لا يتغلب على القدر الجاثم على ضفاف الوادي ، لم لا يكون رجل الحرب هو المنظم لمستقبل الوطن طالما فشل الآخرون .

إذن فليستوعب حركات التاريخ الكبرى ويستذكر مأساة مصر ويستلهم كبار القادة ويعيش على تجارب المؤلفين يتلقي إيحاء الفلاسفة .

أما القرآن فينبغي أن يحفظه ويجيد قراءته ، ويفهم تفسيراته ويهضم مثله وليكن له أسلوب في الحديث فيضغط على كلماته بعنف ويصور معانيه بقوة ويغير ملامحه بتغير موضوع حديثه ، وليقل عنه الناس ما يقولون وليتخذ لنفسه طريقة في العمل تنزهه عن السفاف وسبيلا في المعاملة يرفعه بين المتعاملين .

أما إذا مشي على الأرض فليدق على صدرها وليسع في جنباتها ليكن وقع خطواته منتظما أشبه بألحان الموسيقي سواء أكان في فترات فراغه أو وسط جنده وليرفع هامته نحو السماء ليتذكر الله وليحدث في أغوار الفضاء ليبحث عن نجوم الأمل وليتسامي عن الإطراء حتى لا تتريه روح المذلة.

وتطمح نفسه في الارتواء من مناهل المعرفة فيطرق أبواب كلية أركان قراءاته ويفهم تفسيراته ، ويهضم مثله ، وليكن له أسلوب في الحديث فيضغط على كلماته بعنف ويصور الحرب ويتخرج فيها في طليعة الخريجين ويكبر فيه أساتذته روح الابتكار كما يشيدون بامتياز المثالية .

ويعكف على الكتابة والتأليف ويمسك بالقلم ليكتب من أغوار قلبه وينتزع الأفكار من رأسه وينشر على القراء حديثه .

ويتطلع الناس إلى الضابط الكاتب ويرمونا بنوع من الزهو ، فلا يعبأ بما يرمي به ولا يكترث طالما هو نفسه يعرف دخيلته ويؤمن برسالته وعلى صفحات " مجل الجيش " نشر مقالاته وأبحاثه التي اتسمت بالأفكار المدروسة والأسلوب الأدبي الرصين وحرارة الوطنية الخالصة .

واشترك في مسابقتين اثنتين من مسافات الموضوعات العسكرية فلم يستطع واحد من الراسخين في الكتابة والصحافة أن يزحزحه عن الجائزة ويحرمه منها فقد نالها بتفوق في المرتين وكانت الأولي موضوعا عسكريا صرفا اسمه " المفاجأة " والثانية عن مصر والسودان وفي هذه المباراة الأخيرة استطاع الكاتب البارز أن يبرز شخصية الضابط ويتكلم بلغة المؤمن بحق بلاده – شمالها وجنوبها – في الوحدة استنادا لروابط الطبيعة والجنس واللغة والدين .

ومن رسائل الثقافة العسكرية التي تحمل اسمه " رجال السيف ورجال القلم " و" التربية العسكرية " وقد شاكته في كتاب غريب من نوعه أطلقنا عليه " النجاة من الموت "

وظل في منصبه العسكري يحترق شوقا إلى معمعمة القتال لكي يجرد السيف الذي علاه الصدأ ويختبر الأفكار التي طالعها في الكتب .

ولكن مثل هذه الأمنية لم تحقق إلا يوم فارق البريطانيون الصهيونية والتقت كلمة العرب على إنقاذها من اليهود !

فكان أول ضابط يعلن عن رغبته لمقاومة الخطر اليهودي ويتنحي عن منصبه الرسمي ويتقدم لكي يقود الفدائيين العرب لمناهضة العصاة ! ولم يفكر في زوجته الشابة ، ولا أولاده الصغر إنما فكر في الواجب الذي يستحثه والدم المراق الذي ينبغي أن يثار له .

واستطاع القائد الشاب أن ينال حب رجاله وإعجابهم فوضعوا أرواحهم بين كفيه ... وقالوا له :" ولو ألقيت بنا إلى جهنم فإنك ستجدنا صاغرين ! "

وتقدم بهم وسط النيران يمهد الطريق ويطهر الأوكار ويفترس الأعداء ..

وتعرض للموت أكثر من مرة ولكن في كل مرة كان الموت يخطئ والهدف ويصيب سواه ويتقدم القائد كما لو يتقدم في نزهة على شاطئ النيل !

وقاد الفدائيين إلى النص معركة واحدة لم يفقدها ، وهدف واحد لم يتحول عنه فالإصرار على التقدم من خطته والقضاء على الغريم آية نفسه ..

واستغاث اليهود منن قادة الحرب الألمان ليواجهوا القائد المصري الشاب .. ولكن لم يستطيعوا أمامه سوي العجز وصد اليهود آلاف الجنيهات مقابل أس القائد المصري لكي يتخلصوا من جبروته ..

ورقد البطل تحت الثري في احدي مقابر غزة بين عشرات الضحايا ورحل أحمد عبد العزيز الذي قال يوما :

" نحن نريد أن نتحدى الموت .. لا لكي نعيش وترصع صدورنا بالأوسمة أو تكلل رؤوسنا بأكاليل الغار ، بل لكي نحقق الهدف الذي هجرنا بلادنا وأولادنا من أجله ، أما بعد ذلك فمرحبا بالموت في أى ساعة يجئ .. بل لعل الموت في هذه الساحة ، وبعد بلوغ الهدف – هو أشف وسام يمكن أن يطمع فيه الواحد منا" في الذكري الرابعة

كما كتب الأستاذ عبد المنعم الصاوي في الذكري الرابعة يقول

" في مثل هذه الأيام منذ أربع سنوات استشهد البطل المصري أحمد عبد العزيز في الساحة المقدسة بأرض السلام.

وتاريخ أحمد عبد العزيز لا يمكن أن يكتب كما تكتب تواريخ العظماء الآخرين .

لا يمكن أن يؤرخ تاريخ الرجل بأنه ولد في تاريخ معين ودخل الكلية الحربية في تاريخ معين وترقي إلى رتب معينة في تواريخ معينة

إن هذا الأسلوب في التاريخ لا يتفق مع طبيعة البطل المصري الشجاع الذي طلب أن يحال إلى الاستيداع ثم كون فرقة الفدائيين اقتحم بها أرض الصهيونية مصمما على أن يخلصها بدمه من العار .

وعلى أبواب الصهيونية عسكر الرجل بقوته ، يتحين الفرصة للدخول وكانت القوات البريطانية قبل منتصف مايو 1948 وفجأة يفتح أفراد المعسكر البريطاني الضخم عيونهم ذات صباح ليجدوا أحمد عبد العزيز وقواته وقد وثبوا من أمامهم إلى خلفهم في خفة الطائر ، وسرعة الفدائي المدرب .

لقد قاد الرجل بنفسه أول سيارة من سياراته المصفحة المعدودة ومشي بها على شريط سكة حديد الصهيونية وما كان يخطر بذهن بشر أن فدائيا من الفدائيين يفكر في هذا ليفلت من الحصار

ونجح أحمد عبد العزيز فأخذ ينتقل من تبة إلى تبة ومن جبل إلى جبل ومن بلد إلى بلد أسه فوق كفه وكتاب الله فوق قلبه .

كنت مهمته شاقة وكان طريقه وعرا مليئا بالأشواك ولكن أقدام أحمد عبد العزيز كانت تتحمل هذه الأشواك ..

حارب وكافح وألحق بالإسرائيليين خسائر فادحة ، وظن يثب من مكان إلى مكان بقوته الصغيرة المحدودة وسلاحه الخفيف السريع حتى وصل إلى بيت لحم ، وكانت قوات الجيش المصري قد دخلت غزة .

وهناك في بيت لحم عسكر بجنده وأخذ يكيل للقدس الجديدة ضربات قاصمات خيلت لقوات إسرائيل أن الرجل قادم بجيش جرار ولم يكن الجيش الجراء سوي قلب من حديد .

حتى قضي الحظ العاثر أن يستشهد أحمد عبد العزيز على الأرض التي حارب فيها واستبسل واستمات وكانت آخر كلمات لفظها :" أوصيكم بجنودي أوصيكم بأولادي " . وأطبق جفنيه إلى الأبد..

ولكنه ترك وراءه مجدا وفخارا .

وترك قبل هذا وذاك مثلا للبطل .. مثلا يحتذيه الأبطال وما أحوجنا إلى الأمثال ".

( عبد المنعم الصاوي )

قصة استشهاد بطل كما كتبت المصور قصة استشهاده فقالت :

" في مثل هذه الأيام من أربع سنوات فقدت مصر بطلا من كرم أبطالها ، ومجاهدا من خيرة مجاهديها هو القائد الشهيد " أحمد عبد العزيز الذي لقي حتفه في معركة الصهيونية في ظروف غامضة .

ولعل هذا المقال الذي استقينا معلوماته من أحد رفاق الشهيد يكشف للقارئ كيف استشهد البطل ..

معركة صور باهر

كانت معركة " صور باهر " هي آخر معركة خاضها البطل الشهيد " أحمد عبد العزيز " وقد أدمت هذه المعركة قلب اليهود وأدارت رؤوسهم وتركتهم يتخبطون كالسكاري بعد أن ظلوا أكثر من شهر يجاهدون جهاد المستميت لاستعادة " صور باهر " التي تسيطر على مستعمراتهم المحيطة بالقدس الجديدة والتي تهدد الطريق المؤدي إلى القدس من الجنوب .

وكان – رحمه الله – يوزع جهوده بين قطاعات مواقعه ، ويدير دفة النيران التي أذابت الهجوم الصهيوني بعد أن زادت ضحايا العدو على مائتي قتيل بخلاف الجرحى الذين سحبهم العدو إلى قواعده كما هي عادته وحتى بعد أن هدأت وانتهت المعركة بارتداد اليهود ظل أحمد عبد العزيز مستيقظا وقضي الهزيع الأخير من الليل يمر على مواقع رجاله مطمئنا ومشجعا .

يوم 20 محمد سالم عبد السلام

فلما أصبح الصباح تسلم القائد البطل إشارة عن طريق مندوب الهدنة الأمريكي المرافق له بأن هناك فكرة ترمي إلى عقد اجتماع يضم القائد المصري والقائد اليهودي ، ومندوب الهدنة الجنرال " رايلي " رئيس المراقبين بمنطقة القدس ومندوبي الصليب الأحمر الدولي للنظر في المشاكل التي نجمت عن احتلال اليهود للمنطقة المرحمة الخاضعة لهيئة الصليب الأحمر الدولية ، وأنه قد تحدد لهذا الاجتماع موعد هو يوم الجمعة الموافق 20 محمد سالم عبد السلام في الساعة العاشرة صباحا بمدينة القدس ... فوافق الرجل فقد كان يتسلح بالحق والقوة معا لم يخامره أى شك في أن من المصلحة العامة أن يحضر هذا الاجتماع ليبسط حجته ويدافع عن سلامة موقفه ويشرح اعتداءات اليهود في الحوادث التي خرقوا بها الهدنة .. حتى إذا ما حان موعد رحيله لحضور الاجتماع أعد عدته وجمع خرائطه ويمم شطر القدس ، لكنه لم يستطع مواصلة سيره إذ أطلق اليهود النيران عليه رغم وجود علامة الأمان على سيارته ووضع العلم الأبيض في مقدمتها وغم إخطارهم عن طريق مندوب الهدنة بكف الضرب في هذا الموعد فاضطر إلى العودة وأرسل إشارة احتجاج واعتذار عن عدم استطاعته حضور هذا المؤتمر وقضي يومه في المرور على مواقعه دون أن يعطي لبدنه لحظة واحدة يستريح فيها من عناء المعركة الأخيرة التي استمرت ثلاثة أيام .

البطل يحضر المؤتمر !

وفي يوم الأحد 23 محمد سالم عبد السلام استطاع رحمه الله – أن يحضر هذا المؤتمر وقد كان هناك كل من عبد الله التل قائد منطقة القدس العربية ومندوبي الهدنة المرافقين للقوات المصرية والقوات العربية والقوات اليهودية وهم جميعا برئاسة الجنرال " رايل" وكان معهم أيضا الدكتور " لينهر" مندوب الهيئة الدولية للصليب الأحمر .. وكان مقررا أن ينعقد الاجتماع في الساعة العاشرة صباحا من نفس اليوم في دار القنصلية البريطانية وهناك دار البحث في اعتداء اليهود على هذه المنطقة المحرمة ونهب أثاث وأدوات الكلية العربية التي تقدر بعدة ملايين من الجنيهات واحتلالهم لعدة مبان أخري ..

وكان قائد قوات الهاجانة الذي شهد المؤتمر هو الكولونيل " باييم هالبين " البولندي ، وقد استمرت المناقشات والمجادلات حتى قدم الجنرال " رايلي " اقتراحه الخاص بعدم إطلاق النيران من الجانبين في هذه المنطقة المحرمة لحين صدور إجابة الطرفين على النقط التي دار البحث حولها في المؤتمر .

اعتداء اليهود

وقد طلب الفقيد أن يسجل المؤتمر اعتداء اليهود على الأموال العربية بجانب اعتدائهم من الناحية العسكرية فقال الجنرال رايلي إن مسئولية ضياع مهمات وأثاثات الكلية العربية التي كانت في عهدة الصليب الأحمر الدولي تقع على عاتق اليهود ... وأيده الدكتور " لينهر" مندوب الصليب الأحمر في ذلك قائلا إنه يحمل اليهود مسئولية ضياع كل هذه الأموال والمهمات.

انتهي الاجتماع وكان مفوضا أن يبقي البطل في مركز رئاسته وأن يرسل بنتيجة هذا المؤتمر إلى الرئاسة العامة للقوات المصرية بالصهيونية ولكنه فضل أن يذهب بها بنفسه رغم اقتراب المساء ورغم خطورة المرور في الظلام .. وكان رحمه الله يهدف من وراء مخاطرته أن يشرح وجهة نظره بجانب ما يشرحه من تطورات المؤتمر على أن يعود في صباح اليوم التالي حاملا معه رأي القائد العام ليحدد موقفه على ضوء ما يتفق معه عليه .

في الطريق إلى مركز القيادة

وغادر أحمد عبد العزيز قاعة المؤتمر بدار القنصلية البريطانية في الساعة الرابعة مساء قاصدا إلى " بيت لحم" فوصلها في الساعة السادسة مساء إذ كان عليه أن يتخذ طريقا غير الطريق الذي يخترق القدس الجديدة والذي يشرف عليه اليهود .. ثم غادر" بيت لحم" إلى مركز القيادة العامة فلم يكد يصل إلى منطقة " عراق المنشية" حتى كان بعض اليهود قد سبقوه إليها متنكرين في زي الأعراب فنشبت بينهم وبين المدافعين معركة قصيرة انتهت قبل وصول القائد بقليل . طلق ناري :

وفجأة دوي في الفضاء طلق ناري خرج من اتجاه مستعرة " جات" التي لا تبعد عن الطريق أكثر من 1200 ياردة وإذا بالرصاصة تستقر في كبد الفقيد ، وإذا به يسقط من العربة بعد أن أمسك بسلاحه ليستعد للدفاع عن نفسه وعمن معه من إخوانه الذين انتشروا حول العربية إذ كان وحده المصاب دونهم ..!

واستمر جرحه ينزف وهو يقوم تارة ويرقد تارة أخري .. إلا أن هذا الألم لم ينسه أن يوجه زملاءه إلى المكان المستتر الذي يمكنهم الاختفاء فيه من النيران الطائشة التي كانت تنهال عليهم من مواقع المناضلين المدافعين إلى أن استطاع أحد زملائه أن يتسلل إلى مواقع هؤلاء المناضلين ليكشف لهم عن شخصية القائد وليأمرهم بإيقاف إطلاق النار !..

وقد تعلل المدافعون يومئذ بأنهم لم يكونوا وحدهم الذين يطلقون النار وأنهم سمعوا طلقات آتية من يمين الطريق فاضطروا لإطلاق النيران في اتجاهها ردا عليها إذ ظنوا أنها موجهة إليهم !

ولم يستطع زملاء الفقيد عمل شئ سوي ربط الجرح برباط الغيار الميداني ولكن النزيف كان من السرعة والقوة بحيث ضاع كل أمل في نجاه القائد الجريح حتى صعدت روحه الكريمة إلى بارئها وهو على صدر أحد زملائه يوصيه بالمتطوعين أولا وبأولاده ثانيا !..

عجائب المصادفات

ولعل من أعجب المصادفات أن القائد اليهودي الذي اشترك مع الفقيد في مؤتمر القدس لقي حتفه هو الآخر في نفس الوقت الذي مات فيه بطلنا الشهيد !

وهكذا قدر للقائدين أن يغادرا المؤتمر السالف الذكر ليلقي كل منهما حتفه ويذهب إلى عالمه الآخر ... فعجبا للأقدار !!"

أتمني أن تكون نهايتي في معركة

وفي الذكري الرابعة كتبت مجلة الإذاعة

الشهيد:

"..... سأموت الآن وكنت أتمني أن تكون نهايتي في معركة أوصيكم جميعا بأولادي ".

تلك كانت آخر كلمات البطل أحمد عبد العزيز .. قالها وهو يلفظ أنفسه الأخيرة ودماؤه الزكية تنزف منه غزيرة تخضب رمال الصحراء وتروي شجرة الحرية التي تظل مصر اليوم.

ومات أحمد عبد العزيز لا في احدي المعارك التي خاض غمارها لأنه كان دائما منتصرا ، لا برصاص اليهود لأنهم لم يستطيعوا أبدا أن ينالوه ولكنه مات شهيدا برصاصة طائشة !!

كان ذلك في مثل هذا اليوم منذ أربع سنوات خلت ، حيث كان عائدا من مؤتمر بالقدس حضره مندوبا عن القوات المصرية لبحث المشاكل الخاصة بخطوط الهدنة .

وانقضي الاجتماع والشمس تميل وراء الأفق ، وظلمة الليل تزحف وئيدة تنشر ستارا قاتما على الصحراء والبطل يقود سيارته الجيب وإلى جانبه الصاغ صلاح سالم أحد أركان حربه ، وكان أحمد عبد العزيز في طريقه إلى القيادة العامة ليخطرها بما دار في الاجتماع فطلب إليه مرافقة أن يؤجل ذلك لليوم التالي لأنهما لا يعلمان كلمة " سر الليل " ولكن شجاعته أبت عليه أن ينتظر الغد. فدفعت به إلى مصيره المحتوم إذ أطلق عليه أحد الحراس طلقة إنذاريه ولكنها أصابت الشهيد واستقرت في الكبد ، ووري جثمانه الطاهر في المنطقة المجاورة لمقبرة شمشون الجبار في غزة .

واليوم .. يحتفل ركن الجيش بذكراه الثالثة فيقدم الأستاذ محمود عيسي في الخامسة والنصف حديثا بعنوان " قصة بطل" ثم يقدم الأستاذ صالح جودت والبكباشي كمال عبد الحميد زيارة للميكرفون لمقبرة الشهيد..

رحم الله البطل أحمد عبد العزيز وأنزله مكانة الصديقين والشهداء فقد وافاه الأجل المحتوم بعد أن سطر صفحة مجيدة في تاريخ الجيش المصري الباسل وضرب أروع الأمثلة في البطولة والشجاعة والتضحية. ابن أحمد عبد العزيز

يريد أن يكون بطلا كأبيه

وفي الذكرى الخامسة لاستشهاد البطل كتبت آخر ساعة تحقيقا صحفيا تحت عنوان :" ابن أحمد عبد العزيز يريد أن يكون ضابطا كأبيه ":

" تحتفل أسرة القائمقام أحمد عبد العزيز بالذكري الخامسة لاستشهاده في يوم 23 محمد سالم عبد السلام الجاري .

وعند فجر هذا اليوم سيذهب أخوه الصاغ صلاح الدين شريف بسيارته الجيب ليضع باقة من الزهو على قبر أخيه البطل بمقبرة الشهداء في الخفير .

ثم يعود أن يقرأ الفاتحة على روحه .

وفي نفس اليوم ستزور مقرة الشهداء ثلاث سيدات متشحات بالسواد لتضع كل منهن باقة من الزهور على قبر أخيهن البطل .

وفي هدوء ستحتفل الأسرة بذكري أحمد عبد العزيز دون أن يشعر بها أحد .

ولكن أين مصر التي هللت للبطل في كل موقعة من مواقعه . أين مصر التي لبست الحداد يوم استشهاده .. أليس من حقها أن تساهم في هذه الذكري ؟

خمس سنوات تمر على استشهاد أحمد عبد العزيز وفي كل عام تحتفل الأسرة وحدها بذكري البطل في هدوء وكان أخوه يذهب إلى غزة لينوب عن أهله من الترحم على الفقيد العزيز ..

ولكن اليوم .. في ذكراه الخامسة ... وفي عهد الثورة .. أليس من حق مصر أن تساهم في الاحتفال بهذه الذكري لتقدم إلى جيش الفدائيين أروع أمثلة التضحية وإنكار الذات من قائد الفدائيين في حرب الصهيونية  !

لقد كان أول ضابط أعلن عن رغبته في مقاومة الخطر الصهيوني وتنحي عن منصبه في الجيش .. ثم تقدم في الصهيونية ليقود جيش الفدائيين ولم يفكر أحمد عبد العزيز في زوجته الشابة ولا في طفليه الصغيرين وكان أحدهما رضيعا لم يتجاوز الثانية من عمره .

وذهب .. وهو يفكر في الواجب الذي يستحثه ويناديه .

وفي عزيمة وإيمان شق طريقه .. واستطاع أن ينال ثقة رجاله وإعجابهم وقالوا له :" سنكون طوع أوامرك ولو ألقيت بنا في جهنم "..

آخر رسالة إلى زوجته

وفي الأزهر .. كانت زوجته على أحر من الجمر .. تنتظر في كل لحظة خبرا جديدا عن زوجها الذي تتناقل الصحف أنباء مخاطراته على رأس الفدائيين .

وكانت الزوجة البارة في قلق مستمر.. وضاعف من قلقها مرض والدتها التي كانت في النزع الأخير ..

وكان أحمد عبد العزيز يعرف مقدار القلق الذي يساور زوجته فكان يبعث إليها برسالة في كل أسبوع من بيت لحم ..

وتلقت الزوجة فجيعتها في زوجها الحبيب بثبات عجيب .. وتقول بعض سيدات أسرتها .. أنها بكت كثيرا ولكنها كانت تعرف أن البكاء لن يعيد إليها أحمد عبد العزيز...

وفي اليوم التالي لنبأ الفجيعة .. وكانت سيدات الأسرة مجتمعات حولها يقمن بمواساتها .. حمل البريد إلى السيدة " حوروم " زوجة الشهيد رسالة منه وكانت آخر رسائله من بيت لحم ..

يوصيها بولديه

وكان أحمد عبد العزيز يوصي زوجته في هذه الرسالة بولديه خالد الذي تركه في الساعة من عمره ووليد وكان في الثانية يحبو على قدميه .

بعد 3 أسابيع ماتت حماته

وبعد ثلاثة أسابيع من استشهاد أحمد عبد العزيز أصيبت الزوجة البارة بفجيعة أخري في والدتها .. وهي سيدة تركية تزوجت في مصر من حفيد على باشا مبارك وأنجبت زوجة أحمد عبد العزيز وثلاثة من أشقائها .

ولا يعرف كثيرون أن السيدة والدة زوجة الشهيد كانت تعارض في زواج ابنتها من أحمد عبد العزيز..

وأصر الشهيد ... وأصرت زوجته .. بل إنها اختارته من بين أكثر من خمسة تقدموا لخطبتها .. وتغلب الاثنان في النهاية على عناد والدتها فقبلته زوجا لابنتها .

وكان قلب السيدة العجوز قد تفتح لشهيد بعد زواجه من ابنتها لما لمسته من رجولته ومتانة خصاله .. وخشيت الأسرة أن يتسرب نبأ استشهاده إليها وهي في فراش مرضها ولكنها عرفت بالفجيعة من خادمة في منزلها .. ولم تتحمل النبأ فأصيبت بأزمة قلبية .. ثم ساءت حالتها وماتت بعد ثلاثة أسابيع .

وعاشت الزوجة بعد لذل ك .. وقد اتخذت من رسالة زوجها الأخيرة وصية خالدة تتحكم في كل خلجة من تصرفاتها .

فهي تعيش اليوم من أجل ولديها .. بعد أن أصبحا كل شئ في حياتها .

خالد يريد أن يصبح ضابطا

وتقول أسرة الشهيد .. إن خالدا الابن الأكبر للشهيد عرف بفجيعته في والده في نفس اليوم الذي عرفته فيه والدته .

فقد كان في الساعة .. وأدرك أن والده لن يعود ثانية .

ويشبه خالد والده إلى حد كبير .. ويقول عمه الصاغ صلاح شريف .. إنه يريد أن يصبح ضابطا كوالده ..

وقبل حركة الجيش .. حاول عمه أن يثنيه عن رأيه .. وكان يعمل على أن يحببه في أن يكون طبيبا .

ولكن كان خالدا عنيدا... وكان يصر على أن يصبح ضابطا كأبيه بعد أن يشب ويكب ..

أما وليد .. فهو يقلد أخاه في كل شئ .. ويريد أن يصبح مثله حتى في مستقبله .

الفدائيون في الزمالك

وفي منزل الأسرة بالزمالك .. يحتفظ خالد في حجرة نومه بالحزام الذي كان يرتديه والده يوم مصرعه .. وهو حزام من القماش السميك وقد تلطخ ببقع من دم الشهيد .

وحاول عمه أن يأخذ منه الحزام ليحتفظ به كذكري لأخيه .

وعده بأن يحتفظ به ثم يعطيه إياه عندما يكبر ويصبح ضابطا .. و

ولكن خالدا رفض .. وأصر على أن يبقي الحزام في حجرته .. وقال لعمه :

- أريد هذا الحزام حتى ألبسه عندما أصبح ضابطا في الجيش ..

- ويتكلم خالد الفرنسية والتركية والعربية بطلاقة .. وقد تعلم التركية عن والدته وجدته .. والعربية عن أبيه .

- أما الفرنسية فقد تعلمها في المدرسة حيث يدرس في مدرسة اللويسية .. وقد نجح هذا العام ليتقدم للحصول على شهادة الابتدائية من القسم الفرنسي في العام المقبل .

- وأما المنزل في شارع حشمت بالزمالك يلعب خالد وأخوه وليد مع أبناء الجيران ..

- وفي العام الماضي نجح خالد في أن ينظم من أبناء الجيران جيشا يتكون من عشرين طفلا ..

- وفي هذا العام قبل أن يسافر إلى تركيا سمع عن الفدائيين فأطلق على جيشه اسم " جيش الفدائيين ونصب نفسه قائدا أعلي لهذا الجيش ..

- وكان عمه يزور بيت أخيه .. وإذا به يفاجأ بخالد وهو يقول له :

- يا عمي .. الجيش بتاعي أصبح مستعدا عاوزنا نحارب فين ! وضحك الصاغ صلاح شريف وقال لزوجة أخيه :" إن خالدا يشبه والده إلى حد كبير .. ومن شابه أباه فما ظلم ""!

- وسمع خالد ما قاله عمه .. فقال له:

- بابا كان بطل .. مفيش حد يشبهه !

- وسكتت والدته .. ثم خرجت من الحجرة لتمسح دمعة ترقرقت في عينها .

- لقد أثارتها الذكري ... هي التي ترفض أن تتزوج ووهبت نفسها لتربي ولديها من أحب عزيز إليها وهو أحمد عبد العزيز "

قصة عمرها عشر سنوات

كما كتب الأستاذ حلمي سلام في مجلة الإذاعة المقالة التالية تحت عنوان :" قصة عمرها عشر سنوات .. شهيد يكتب عن شهيد وتظل القصة ناقصة ":

" عندما كانت حرب الصهيونية دائرة ، كان من حظي كإنسان وكمصري أنني عشتها عشتها معركة.. وطلقة طلقة .. وبلاغا بلاغا .. لم أحارب مع المقاتلين في ميدانها ولكني حاربت من ورائهم ..

وحاربت من أجلهم وحاربت لحسابهم .. كانت انتصاراتهم تهزني وتهز معي قلمي .. وكانت هزائمهم تستثيرني وتستثير معي قلمي بل الحق أن قلمي لم يكن يملك أ، يثور مثلما كانت تثور نفسي .. وربما يكون من الخير أن أعترف لك الآن أنني كثيرا ما كذبت . ..كذبت وأنا أكتب عن حرب الصهيونية مقاتلينا في حرب بالصهيونية .. ولم يكن معقولا حينذاك أن لا أكذب ولقد كان الصدق في مثل تلك الظروف التي ذهب جيشنا إلى أرض الصهيونية ليحارب من أجلها بغض النظر عن الظروف التي ذهب فيها الجيش إلى هناك .. وبغض النظر كذلك عن مدي قوته ، وعن مدي استعداده للمعركة التي صدرت إليه الأوامر فجأة .. وبأى إعداد ولا مقدمات بان يخوضها !

ولكن .. لماذا كذبت ؟

الآن أستطيع أن أقول لكم ..

المؤكد أنني لم أكذب لكي أخون .. وإنما كذبت لكي أقوم بدوري في المحافظة على معنويات المقاتلين في أول معركة يخوضونها ولكي أقوم بدوري في المحافظة على معنويات الشعب الذي كان المقاتلون .. يعتبرون قطعة من قلبه ، وكانوا زهرة أمانيه وآماله .

وكذبت لأحمي المقاتلين أنفسهم من أن يفقدوا الأمل بالشعب الذي كانوا يقاتلون وقد أحاطت بهم هالة كبيرة من مؤازرته وحماسه.

كنت أعرف أخبار الذخيرة الفاسدة ، والاستعداد الفاسد ، والقيادات الفاسدة .

كنت أعرفها حرفا حرفا وتفصيلا من ورائه تفصيل لكنني والمعركة دائرة لم أكن لأسمح لنفسي بأن ألمح إلى شئ من كل ذلك ، حتى ولا مجرد تلميح وإنما استطعت أن أنتصر على نفسي .. استطعت أن أنتظر وعندما سكت دوي المدافع وتوقفت تماما طلقات الرصاص ... تكلمت ..

قلت – في سلسلة من المقالات تجاوزت العشرين مقالا – كل ما لم يكن جائزا قوله والقتال دائرا وشرف جيشنا يتأرجح في مهب الريح !

كفرت عن كذبي الذي شاء الله له ألا يطول ونفثت عن صمتي الذي كان قد أوشك أن يحرقني .

فأخرجت إلى النور كل الحقائق التي كنت قد حبستها عامدا داخل صدري ورضيت نفسي في وقت ما أن أسي بها بين مواطني كما يسير حامل الميكروب بين الناس يحسبونه صحيحا وليس به في الحقيقة من شبهات الصحة قليل ولا كثير !!

لقد كانت حرب الصهيونية درسا وكانت تجربة واستطاعت بعد ذلك أن تكون وهذا هو الأهم – نقطة تحول خطيرة في تاريخنا فبين نيرانها ولدت فكرة الثورة .... الثورة على الطغيان والفساد والظلم ..

وبين نيرانها ورمادها كبرت هذه الفكرة ، ونضجت ، وتبلورت. وعادت من أرض القتال وقد أصبحت حقيقة .. حقيقة قوية كبيرة تعرف كيف تستفيد من كل يوم ، ومن كل ساعة .. من كل خطأ يقع فيه الحكام ومن كل خطيئة يرتكبونها ، لتفرض نفسها على من كان بهم شئ من التردد في تقبلها أو شئ من التردد في الاستجابة إلى ما تريد أن تلقيه على أكتافهم من تبعات جسام ؟

وكما تشق السكين طريقها في قالب الزبد .. شقت الفكرة .. فكرة الثورة التي ولدت بين النار والرماد في أرض الصهيونية طريقها إلى قلوب الأحرار في جيشنا الضباط الذين اكتوت نفوسهم هناك بالذخيرة الفاسدة والقيادات الفاسدة والاستعداد الفاسد !!

وكل ما حدث بعد ذلك .. أنت تعرفه .

لكن الذي لا تعرفه هو أنني عدت في الأسبوع الماضي وبمناسبة مرور عشر سنوات على حرب الصهيونية فعشت المعركة مرة ثانية ، عشتها ذكريات قديمة ، وأوراقا قديمة كالذكريات .

إن بعض ما في هذه الأوراق نشرته في زمن مضي وبعضه أستطيع الآن أن أنشره ويضعه الآخر لا أستطيع أن أنشره قبل أن تمر على هذه الحرب عشرون سنة أخري وربما ثلاثون وربما لا يؤذن على الإطلاق ، أوان نشره !!

وبين هذه الأوراق التي جعت إليها لأقلب بمناسبة مرور عشر سنوات على تلك المعركة . وجدتها ورقة صغيرة جدا ، كتب فيها وبالقلم الرصاص بضعة سطور قليلة ، كتبها صاحبها لتكون – فيما أظن – بداية لقصة .

قصة عن شهيد من أبطالنا .. عن أحمد عبد العزيز .

ثم شاء القدر ألا يتم الكاتب قصته .

لقد استدعاه الواجب إلى ميدان القتال فذهب إليه .

وكأحمد عبد العزيز .. لم يعد من هناك!!

وأمسكت بالورقة الصغيرة التي شاءت الصدف الغريبة أن تحملها سطورا دامية .

سطورا كتبها شهيد هو البطل أحمد فهيم بيومي عن شهيد آخر هو البطل أحمد عبد العزيز وتركها بناقصة تحتاج لمن يكملها !

أمسكت بهذه الورقة الصغيرة الغريبة ومضيت أتأمل ما كتبه فيها البطل الشهيد..

لقد جعل عنوانها :" الراحة الكبرى " وتحت هذا العنوان الغريب الذي كتبه أحمد فهيم بيومي دون أن يحس إنه هو نفسه كان مقدما على هذه " الراحة الكبرى" مضي يقول .

" كان صاحبنا يطالع جرائد الصباح كعادته يوميا وإذا به يبصر بين قرارات مجلس الوزراء قرارا بتعليم أبناء فقيد الوطن مجانا حتى التعليم الجامعي فتمتمت شفتاه رغما عنه مناجيه هذا الشهيد الراحل قائلا :" لتنم الآن هادي البال يا أحمد فقد رعي الله أولادك ".

" والحق .. لقد كان صاحبنا حائرا طوال أيامه السابقة كانت كلمات الفقيد الأخيرة لا تزال ترن في أذنيه إنه ليذكر ذلك اليوم العصيب الذي قضاه وإياه في القدس في احدي المؤتمرات مع مندوبي الهدنة من أجل إقرار بعض المطالب . لكم أصر الفقيد على مطالبه ، وألح في سرعة البت فيها رغم أنه لم يكن لديه الوقت الكافي ليتصل برئاسته فاضطر وقد أسدل الليل ستاره أن يأخذ العربة وإياه ليصلا إلى الرئاسة قبل منتصف الليل كي يطلعا القائد العام على كل ما هو مطلوب ، ولم يكن هذا الشهيد يعرف إنه يسعي لحتفه !"

لقد ركب بجوار صاحبنا ومرقا – ومن معهما بالعربة – مروق السهم لا تخفيهم ظلمة الليل ، ولا وعورة الطريق . لقد أمنا من كل خوف ، لأنهما في الأراضي التي تحتلها قواتنا المصرية ولكن .. يؤتي الحذر من مأمنه ، فما كادا يقطعان نصف الطريق حتى سدت إليهما طلقة واحدة .. نفذت في قلب الفقيد !!

لكم حار صاحبنا في تصاريف القدر فقد كان " أحمد " يميل عليه ليحادثه ولو أنه كان معتدلا في جلسته لمرت الطلقة دون أن تصيبه !!

وسرعان ما أوقف صاحبنا العربة إذ توالت – بعد ذلك الطلقات المنذرة ونزلوا جميعا منها ليحتموا خلفها لقد همس " أحمد " في أذنه :

لتعمل لى شيئا يا صلاح ، من أجل أولادي !!

إنها آخر كلمات فاه بها الفقيد وما زالت ترن في أذنيه .. ولكم حار وقتئذ في أمره، إنه لا يقوي على عمل أى شئ فالرصاص منهمر عليهم انهمار الغيم ولكن هذه الكلمات ..كلمات الشهيد دفعته إلى النهوض والتقدم تحت وابل هذه الطلقات ليصيح في الجنود :

" إننا ضباطكم " ولكن أني لهم أن يستمعوا إليه لقد ضاع صوته وسط أصوات الرصاص !!

وظل صاحبنا يقترب من مراكز الجنود وهو دهش من أمره إن أول طلقة أطلقها هؤلاء الجنود قد أصابت زميله ثم هاهي ذي الطلقات تتوالي عليه فلا يصيبه منها شئ !! إنها تصاريف القدر وأحكامه التي لا تخيب !!

وظلت كلمات الفقيد ترن في أذنيه ".. من أجل أولادي من أجل أولادي " فصارت تدفعه دفعا حتى تمكن من إفهام الجنود أنهم من ضباطهم وأن أحدهم قد أصيب !!

وعندما سكن المكان وصمتت المدافع والبنادق علا صراخ الأمة المصرية المكتوم .. لقد فجعت في فلذة كبدها ، وأعز أبنائها لقد فاضت روحه إلى خالقها !

وهناك .. في أحد المواقع النائية الهادئة ظل جثمانه مسجي وكلماته ترن في أذن صاحبنا " من أجل أولادي .."

لقد تخيل هذين الشبلين وقد تناهي إلى أسماعهما نبأ استشهاد والدهما ورآهما وهما ..

وعند هذا الحد توقف فهيم بيومي فلم يكمل .. لم يكمل ما أراد أن يقوله عن أولاد زميله البطل أحمد عبد العزيز ..؟!

فلماذا لم يكمل فهيم القصة ..؟

لا أدري .

هل ناداه الواجب العسكري ساعة أن كان ماضيا في كتابتها فنحي قلمه جانبا وقام مسرعا فارتدي ملابس الميدان ، ثم ذهب إلى هناك ليصبح - خلال أيام فصار – كأحمد عبد العزيز شهيدا لا يعود ؟

ربما ..

ولكن ... ما الذي جاء إلى أنا بهذه السطور الناقصة الباقية من حرب الصهيونية وفي أى الظروف أخذتها من كاتبها ؟

لقد كان فهيم بيومي من هواة الكتابة ، والأدب ، والصحافة وكثيرا ما أعطاني ما كان يكتبه لأقول له رأيي فيه .

ولكنه لم يكن يعطيني إنتاجه ناقصا أبدا ، كان دائما ينتظر إلى أن يكمله ثم يعطيه لى ، وهذه القصة قصة الظروف التي استشهد فيها البطل أحمد عبد العزيز ليست كاملة ، إنها ناقصة كما قد رأيت وستظل إلى الأبد ناقصة فلماذا دفع بها بيومي إلى قبل أن تكمل وفي أى الظروف دفع بها إلى ؟

لا أدري ...!

لكن الأغرب من هذا كله ، الأغرب من هذه القصة التي كتبها شهيد عن شهيد ثم تركها ناقصة لا تجد من يكملها ، ولا تجد من يستطيع حتى أن يستنتج ماذا كان يريد أن يقول فيها .

الأغرب من هذا ، هو ذلك التوافق العجيب في الظروف التي جمعت بين الشهيدين في حياتهما وفي استشهادهما .

فأحمد عبد العزيز كان يحمل رتبة البكباشي عندما استشهد في ميدان القتال ، ثم أنعم على اسمه برتبة القائمقام بعد استشهاده ونفس الشئ حدث لفهيم بيومي

وأحمد عبد العزيز كان خريج كلية أركان الحرب وأستاذا بالكلية الحربية وكذلك كان فهيم بيومي كان خريج كلية أركان الحرب وكان أستاذا بها عندما استدعاه الواجب إلى ميدان القتال .

وأحمد عبد العزيز استشهد بينما كان يستقل عربة " جيب " وهو في طريقه إلى قائد عام القوات وكذلك استشهد فهيم بيومي كل الفرق أن أحمد عبد العزيز قتل خطأ برصاص جنودنا ، وفهيم بيومي قتل عمدا برصاص اليهود الذين انقضوا على سيارته عندما كان في طريقه من رفح إلى غزة تلبية لدعوة لاسكلية تلقاها من قائد عام القوات !!

وأحمد عبد العزيز تستطيع أن تقرأ اسمه في لوحة الشرف بالكلية الحربية بوصفة طالبا متفوقا فيها وفي نفس اللوحة .. لوحة الشرف ، سوف تجد اسم الشهيد الآخر أحمد فهيم بيومي .

إن أحمد عبد العزيز لم يكن من دفعة فهيم بيومي ولم يكن من سلاحه ولم يكونا صديقين .

فما الذي حرك قلمه ليكتب عن أحمد عبد العزيز ثم لا يكمل القصة ..؟

لقد كان يجب أن أكون أنا أكثر من يعرف .

فقد كنت صديقا للشهيدين وبين أوراقي وجدت القصة الناقصة التي فكر أحدهما في أن يكتبها عن الآخر ثم بدأها ولم يتمها ! ومع ذلك أنت تري أنني لا أكاد أعرف من كل ذلك شيئا !

وبعد فإنها ليست أول ورقة صغيرة عمرها عشر سنوات احتفظت بها بين أوراقي فبين هذه الأوراق .. أوراقي ما يعتبر أقل من هذه قيمة وأصغر منها شأنا ولكنني مع ذلك احتفظت به فمن يدري ماذا ستصنع الظروف غدا بهذه الأوراق الصغيرة التي قد لا يكون لها اليوم قيمة ولا تحرك في الإنسان خاطرا ولا توحي إليه بمعني كبيرا أو صغير !!

لقد علمتني التجربة أن لكل ورقة ، لكل سطر لكل حرف قيمته .... قيمته التي إن لم تنفعني اليوم .. فلابد أن تنفعني غدا .

وكثيرا ما كدت أتمزق غيظا لأن ظروفا معينة ذكرتني بأوراق كنت أعرف أنني محتفظ بها فلما عدت أبحث عنها وجدتني قد مزقتها .

ولعله من حسن الحظ أنني لم أمزق ، فيما مزقت هذه القصة الناقصة التي كتبها بطل عن بطل .. وشهيد عن شهيد "!

( حلمي سلام)

اسم سيظل مع الزمن

كما كتب السيد محمد عبد العزيز التبشتي الواعظ بالجيش عن البطل أحمد عبد العزيز قائلا :

" اسم سيظل مع الزمن .. ويذكر كلما ذكرت حملة الصهيونية .. طلب إحالته إلى الاستيداع قبل تحرك الجيش إلى الصهيونية .

قاد المتطوعين الفدائيين وهجم بهم على مستعمرة دي البلح ثم تقدم إلى غزة وسار بهم حتى اقتحم مستعمرة كفار عصيون ومستعمرة راما تراحيل ثم استرجعها اليهود ، فعاود الهجوم عليها من جديد..

وصل في زحفه إلى الخليل وبئر سبع وبيت لحم فريض فيها يكيل للصهيونية في القدس الجديدة ما أثار إعجاب العرب وفزع اليهود

صاحب فلسفة في الحرب والجهاد ... كان يتحدث إلى جنوده عن الموت فوصلوا إلى حد الرغبة فيه واعتمد في عملياته الحربية على خفة الحركة والمفاجأة فكان قبسا من روح الحق يصرع الباطل فيهوي به إلى العدم بل كان المثال الحي الذي تضربه الإنسانية الناهضة لتعلم الناس كيف يكون الجهاد الحق في سبيل الذود عن حمي الأوطان ، كان إيمانه قويا ملا قلبه واستحوذ على مشاعره ، وكان المصحف الشريف لا يفارق ملابسه العسكرية يتلو آيات الله قبل نومه وعند يقظته ووقت فراغه .. وإذا ابتدأت عملياته الحربية تقدم جنوده بهذا الإيمان القوي .

في أثناء المعارك التي دارت في عين كارم والملحة تقدم بسيارته ( الجيب ) ومعه مساعده نحو الخطوط الأمامية ، ثم والي المسير تاركا جنوده وراءه غير عابئ بالرصاص الذي كان يتطاير حوله ولما نبهه مساعده إلى الخطر نظر إليه مبتسما وهو يقول ( قل لن يصيبنا إلا ما كتب الله لنا)

جاءه خبر بأن الأعداء وضعوا الألغام في طريق احدي السرايا التي بعثها للهجوم على احدي المستعمرات اليهودية وخشي منها على أفراد السرية فذهب بنفسه من طريق آخر ومعه مفجر الألغام فطهر الطريق قبل وصول السرية ، ولما حدثوه عن خطورة عمله قال :" أتستكثرون على أن أطهر موضع أقدامكم مرحبا بالموت في سبيل نصركم ؟"

كان عليه أن يعرض أمرا هاما على القائد العام للقوات المصرية بالصهيونية في المجدل ، فغادر بيت لحم عصر يوم 22 / 8 / 1948 ، لم يصغ لنصيحة ضباطه بتأجيل سفره إلى صباح الغد .. فالأمر في نظره هام يتطلب حتى المغامرة وفي المساء كانت العربة التي تقله تسير على مقربة من عراق المنشية - المنطقة التي دأب اليهود فيها دائما على خرق الهدنة – وكانت أوامر قائد المنطقة ( البطل السيد بك طه ) صريحة بضرب كل عربة تمر على الطريق في ظلام الليل ، وهكذا استشهد البطل أحمد عبد العزيز بطلقة طائشة اخترقت الكبد.

حزنت عليه الأمة المصرية والشعوب العربية ، والعالم الإسلامي ورثاه الحلفاء بعبارات الأسف البالغة ونعاه الأعداء بعبارات التقدي والاحترام .

كان البطل أحمد عبد العزيز عظيما في كل نواحيه ... كان مدرسة يحتاج إلى كتابه عنوانه :" البطولة الحية تحاك فيه قصصه ومغامراته ليكون نبراسا للشباب الحر الجرئ .

و زال قبره في غزة يحج إليه الألوف من المجاهدين وغيرهم ينثرون فوقه الورود والرياحين ويتمثلون عنده أروع أمثلة البطولة وقد كتبها بدمه الزكي الطاهر لأجيال العروبة المقبلة فسلام عليه يوم ولد ويوم جاهد ويوم مات ويوم يبعث مع الشهداء حيا ..

تكريم أحمد عبد العزيز تمثال للبطل يتسلمه نائب المشير عامر

وفي كل عام وفي ذكري استشهاد البطل العربي تقام حفلات لتكريمه وكانت آخر هذه الحفلات قبيل إصدار هذا الكتاب تلك التي أقيمت بقاعة الغرفة التجارية في مساء السبت 17 / 9/ 1960 وحضرها اللواء عبد الله الغزولي نائبا عن المشير أركان حرب عبد الحكيم عامر نائب رئيس الجمهورية والقائد العام للقوات المسلحة وأزاح فيها الستار عنه تمثال نصفي للبطل الشهيد وهو بملابس الفدائيين .

وقد تقرر أن يتسلم سيادته هذا التمثال لتحتفظ به القوات المسلحة بعد أن رفض قادة الجيش في عهود الظلم والطغيان والملكية العمياء أن يتسلموه .

لقد خافوا من تمثاله ..

وقد تحدث في هذا الحفل الدكتور محمد مندور قائلا :

" ما من شك في أن أحمد عبد العزيز قد ضرب مثلا رائعا في البطولة والفدائية وأنه لحبيب إلى نفس كل مواطن أن لا ينسي مثل هذا الشهيد وأن يحقق رجاءه في أن يقام هذا التمثال في قلب الصهيونية ونلتقي حوله بعد أن نحرر الصهيونية ..

ثم قال :

وإذا كان تاريخ هذا الشهيد العظيم لم تكتب تفاصيله حتى اليوم فإني استطعت أن أستشف روحه العالية وإدراكه الناضج الغزير "

ثم تحدث السيد عبد المجيد صالح مدي عام الغرفة التجارية بالنيابة عن مجلس إدارتها وموظفيها عن دور البطل في معركة الصهيونية .

وألقي الشاعر على الجمبلاطي كلمة الشبان المسلمين محدثا عن أحمد عبد العزيز عبقري الشجاعة والوجدان .

ثم تحدث اللواء طبيب أحمد توفيق عن ذكرياته مع الشهيد منذ أن كان طالبا في الكلية الحربية قائلا :

" إن أحمد عبد العزيز كان عدوا للصهيونية مؤمنا تمام الإيمان بقوميته العربية ، وكان مجرد ذكر اسم أحمد عبد العزيز يلقي الرعب في قلوب اليهود ، وإنهم يوم استشهاده أقاموا في نيويورك احتفالا كبيرا أقيم مثله في الصهيونية "

ثم تحدث الدكتور محمد غنيم الأستاذ بجامعة القاهرة عن بطولة أحمد عبد العزيز الإنسانية قائلا :

" إن أحمد عبد العزيز لم يذهب إلى ميدان المعركة إلا عن اقتناع ذهب مؤمنا بقضيته إيمانا ثابتا لا يتزعزع ولا تؤثر فيه الأحداث وهذا الإيمان بالعقيدة هو الذي يكسب الحياة معني "

ثم تحدث السيد جميل عرفة ، مستشار حكومة الصهيونية وسكرتير جيش الكفاح عن معركة الصهيونية ودور البطل أحمد عبد العزيز قائلا :

" الصهيونية الأرض الطيبة التي استأثرت بدماء الأبطال لتظل صياحتها داوية من تلك الربوع التي تئن الآن تحت أقدام الصهيونية الغادرة .

ثم تحدث المجاهد الليبي صالح بوصيري وربط بين استشهاد أحمد عبد العزيز واستشهاد عمر المختار فقد كان أحرار ليبيا يحتفلون في نفس اليوم الذي استشهد فيه أحمد عبد العزيز ، بالشهيد العربي عمر المختار عندما وصلهم خبر استشهاد أحمد عبد العزيز .

وقال :

" إنني مؤمن تمام أن الصهيونية عائدة لا محالة إلى العرين العربي قطرا عربيا قويا".

وبعد ذلك ألقي العقيد صلاح الشريف كلمة أسرة البطل قائلا " إن البطل أحمد عبد العزيز كان يؤمن بأن حياة العرب في الوحدة "

استكمال المسيرة

اللواء أكان حرب صلاح شريف

شقيق البطل أحمد عبد العزيز

بقلم نجله رجال الأعمال العقيد مهندس بالمعاش / يحيي يونس شريف صلاح شريف .

لقد انطبعت صفات النبل والبطولة في أفراد هذه الأسرة المصرية.

فالوالد الأميرالاي محمد عبد العزيز بطل المواجهة مع الاحتلال البريطاني أثناء ثورة 1919 وشقيقه عمر عبد العزيز الشهيد في مظاهرات ثورة 1919 وأحمد عبد العزيز بطل حرب الصهيونية .

أما هو فقد سار في طريق خدم الوطن حتى أصبح قائدا لسلاح المدرعات المصرية حتى آخر لحظة في حياته يوم 21 يوليو 1972 حيث فارق الحياة في مستشفي القوات المسلحة بالمعادي لإصابته بمرض خبيث من أثر كدمة في فخده الأيسر أثناء وجوده بجبهة القنال ، ولم يمهله المرض سوي عدة أشهر كان يسابق الموت خلالها لإنجاز أكثر ما يستطيع لإعداد القوات المدرعة لحرب تحري سيناء .

لقد صعدت روحه إلى بارئها وسط أسرته وزملائه من قادة القوات المسلحة وعلى رأسهم نائبه اللواء أركان حرب كمال حسن على الذي أصبح فيما بعد قائدا عاما للقوات المسلحة ووزيرا للدفاع ثم رئيسا للوزراء.

وقبل وفاته حضر لزيارته الفريق محمد صادق القائد العام ومعه رئيس الأركان سعد الدين الشاذلي وقال له يا صلاح لقد قمت بإعادة بناء المدرعات من الصفر بعد يونيو 67 كما أعدت الثقة إلى الضباط وأطقم الدبابات وقمت بتدريبهم وتجهيزهم حتى أصبحوا على أتم استعداد للمعركة لقد أديت ما عليك إلا أن فقدانك خسارة للقوات المسلحة المصرية .

بطولته أثناء حرب الصهيونية

لأنه لم يكن يحب التحدث عن نفسه فلم أعرف عن مآثره سوي ما سمعته عن طريق زملائه وتلامذته من ضباط القوات المسلحة ..

ويوم الوفاة وبعد الجنازة العسكرية المهيبة أصر الفريق محمد صادق وقادة القوات المسلحة على الحضور إلى المنزل لتلقي العزاء من الضباط الذين لم يتمكنوا من الوصول في موعد الجنازة لبعد وحداتهم عن القاهرة .

وبينما أتلقي العزاء وصل السيد اللواء محمد نجيب رئيس الجمهورية السابق وعانقني بشدة وهو يبكي ويعتذر لعدم لتمكنه من الوقوف على قبر أبي لأنه يسكن في ضاحية المرج وتصله الجرائد الصباحية متأخرة واستغربت من ترديده عدة مرات ( ياليتني كنت أستطيع أن أفديك بروحي يا صلاح حتى أرد لك جميلك على ).

وحين جلس في البهو وسط الحاضرين قال .. لقد ضحي صلاح بحياته مختارا ليهبني الحياة ومع ذلك لم يقبل مني حتى الشكر .

عندما كنت قائدا للقوة المصرية في الفالوجة بحرب الصهيونية عام 1948 وكان صلاح في مستشفي القبة بالقاهرة حيث يعالج من إصابة في الرئة ولم يكتمل شفائه بعد وفور علمه باستشهاد شقيقه البطل أحمد عبد العزيز ترك المستشفي واتجه للجبهة بدون تصريح .

ولحالة الإعياء الشديد البادية عليه أبلغته بأنه لا يمكنني أن أدفع به إلى الخطوط مع العدو ولكني سأعينه قائدا لحملة سيارات المستشفي الميداني في الفالوجة ليكون تحت الرعاية الشخصية للدكتور مظهر عاشور قائد المستشفي .

وأثناء القتال قامت القوات الإسرائيلية بحصار الفالوجة نتيجة لتقاعس القوات العربية عن القتال وتركها للجيش المصري وحده لمواجهة قوات تتفوق عليه بعدة مرات .

وأثناء قيامي بالاستطلاع على خط المواجهة ، تم تبادل لإطلاق النار وأصبت في صدري ، وتم نقلي إلى المستشفي والدم ينزف مني بغزارة، وكنت في حالة أشبه بالإغماء ولا أدري كثيرا مما يدور حولي ، ثم سمعت صوتا يقول أين الأميرالاي محمد نجيب .

وأحسست بقطرات من الماء تقع على وهي ففتحت عيني ، وإذا بصلاح ينظر إلى وهو يبكي .

وبمجرد أن رأي عيناي تفتحان أسرع يستدعي الطبيب ليقوم بإسعافي وسمعته يشتبك معه ويعنفه بشدة كيف كتب في تقريره أنه لا يوجد نبض ، ثم وضعني مع القتلى ؟ ورد الطبيب بأني في حكم الميت فلا توجد إمكانيات بالمستشفي أو بلازما لعمل جراحة لاستخراج الرصاصة كما أن المستشفي محاصر ولا يمكنه عمل أى شئ وخلال ساعتين أو ثلاث أكون قد توفيت .

وانطلق صلاح وأحضر عربة إسعاف وأبلغ قائد المستشفي بأنه سيقودها وحده وسيخترق الحصار على مسئوليته ، وعندما حاول أن يثنيه لاستحالة المرور وسط العدو.

أجاب بأنه مستعد للتضحية بحياته لإنقاذ قائده ، أما بالنسبة إلى الأميرالاي محمد نجيب فإن لم يخرج به من الحصار فورا فسيموت .

ووافق قائد المستشفي ، فانطلق بالسيارة في وضح النهار وسط أزيز الطلقات وانفجارات قذائف المدفعية من حوله حيث قامت جميع المواقع الإسرائيلية بفتح نيرانها عليه وبفضل الله تمكن بأعجوبة من اختراق الحصار حتى عبر القنال ووصل إلى مدينة الإسماعيلية وكنت قد فقدت الوعي تماما نتيجة للنزيف .

وفي الإسماعيلية أدرك بأنني لن أستطيع الصمود حتى القاهرة ويجب دخولي مستشفي بها إمكانيات لإنقاذي لهذا أتوجه إلى مستشفي هيئة قناة السويس الفرنسية ، وعندما رفضوا استقبالي بحجة كونها هيئة أجنبية ، دخل على مديرها ووجه المسدس إليه وهدده ، إن لم يأمر بدخولي إلى غرفة العمليات فورا سيطلق عليه النار ثم يطلق على نفسه .

وأدخلوني غرفة العمليات تحت التهديد وبعد أن انتهيت العملية وتم إخراج الرصاصة من صدري واطمأن أنهم قاموا بالواجب أعطي سلاحه إلى المدير الفرنسي وقال له أنني استسلم لك فافعل بي ما شئت لكن الرجل تأثر بشجاعته ووطنيته وإخلاصه لقائده وأعاد إليه المسدس قائلا ( إنني أحني رأسي لمن بمثل رجولتك وشجاعتك ووطنيتك"

وشفاني الله وعاد صلاح إلى سلاح الفرسان وكلما حاولت الاتصال به لشكره كان يتهرب مني إلا أن القيادة العامة قامت بتكريمه والإنعام عليه بأعلى وسام للشجاعة وقتها وهو نجمة محمد على القرمزية .

وقامت ثورة 23 يوليو وأصبحت رئيسا لمجلس قيادة الثورة ورئيسا للجمهورية وأصدرت تعليمات بإحضار صلاح إلى مكتبي ، وعاتبته على تهربه مني وقلت له إنني أحتل أعلي مركز في البلد ولأنني مدين لك بحياتي فاطلب ما شئت مني أحققه لك.

فظهر الغضب على وجهه ورد قائلا ، إنني كنت أقوم بواجبي لإنقاذ قائدي في الميدان وما أرجوه من سيادتك الآن هو أن تتركني في حالي ولا تقوم بمساعدتي بأى صورة كانت إذ أري في ذلك إهانة لي .

وبالفعل خشيت أن أقوم بمساعدته بأى صورة حتى لا يغضب ثم تبدلت الأحوال وتم اعتقالي واحتجازي لسنوات بفيلا بالمرج ، وعلمت أنه تعرض للمضايقة والاضطهاد فقد ظنوا أنه من رجالي .. لقد أنقذ حياتي ورفض أن أجازيه على صنيعه ثم تعرض للضرر بسببس فياليتي أفدية الآن بروحي ..

هذا ما قاله المرحوم اللواء محمد نجيب عن صلاح شريف أمام جميع الحاضرين ولم أكن قد سمعته منه طوال حياتي معه .

موقفه من الضباط الأحرار وثورة 23 يوليو

لأنه شقيق البطل أحمد عبد العزيز ومن الضباط البارزين والمحبوبين في سلاح الفرسان كما استطاع الحصول على شهادة الأركان حرب وهي أعلي دراسة في الجيش وكان برتبة اليوزباشي ( النقيب ) فقد سعي الضباط الأحرار لضمه لصفوفهم وخاطبه في ذلك عبد الحكيم عامر إلا أنه اعتذر لأنه يفضل البقاء في عمله حيث يعتقد بأن القسم الذي أداه عند التخرج من الكلية الحربي للولاء للملك لا يمكن الرجوع عنه إلا في حالة الاستقالة وترك الخدمة كضابط عامل . ورغم عدم انضمامه لتنظيم الضباط الأحرار كانوا على ثقة بشرفه وأنه لن يقوم بالوشاية بهم والتبليغ عن نشاطهم .

وهذا الموقف كان سببا في إنقاذه من السجن فيما بعد ففي عام 1957 تم اعتقاله بتهمة الاشتراك في محاولة انقلاب في المدرعات ضد عبد الناصر وكانت التهمة أنه علم ولم يبلغ ..

وأثناء المحاكمة طلب شهادة المشير عبد الحكيم عامر الذي استجاب لطلبه وحضر للمحكمة وبين للقاضي بأن المتهمين عرضوا عليه الفكرة ولكنه عارضهم كما حدث قبل في ثورة 23 يوليو ... فلو كان من الوشاة كان المشير قد ذهب للمشنقة ولم يصبح القائد العام وتمت براءته والإفراج عنه إلا أن هذا الحادث لم يمر ببساطة .

في العدوان الثلاثي 1956

كان الجيش المصري عام 56 لا يمتلك سوي آلاي واحد ( 60 دبابة )

من المدرعات الثقيلة المسماة جوزيف استالين وهي تعد أقوي المدرعات في الاتحاد السوفيتي وكانت قد وصلت قبل الحرب بفترة قصيرة

وكان برتبة ( البكباشي) أى المقدم عندما تم تعيينه قائد لهذه الوحدة فهو الوحيد الذي يستطيع القيادة وتدريب الضباط والجنود على هذا الطراز وفي وقت قياسي .

وعندما بدأت إسرائيل العدوان في 29 سبتمبر 1956 تم دفع وحدته لعبور قناة السويس كقوة ضارية للجيش وبمجرد دخوله لسيناء حدث التدخل الفرنسي البريطاني وأخذت الطائرات القاذفة الفرنسية والبريطانية تضرب القوات المصرية شرق وغرب القناة وتم استدعائه للعودة فورا وبأي ثمن وبأي قدر من الخسائر للدفاع عن القاهرة .

ولأن الطائرات المغيرة كانت تبحث بإصرار عن هذه الدبابات لتدميرها وعدم تمكينها من العودة والرجوع للقاهرة والاحتماء داخل الكتل السكنية فليس لديها سوي طريق واحد للعودة هو طريق المعاهدة ( القاهرة الإسماعيلية ) والذي تحده الأشجار من الجانبين ولهذا كانت الطائرات المعادية تحوم فوقه نهارا وتسقط قنابل الإضاءة ليلا لتدمير أى مركبة تتحرك على هذا الطريق .

ولخداع العدو أمر أطقم الدبابات بقطع أشجار من الحدائق بالضفة الغربية من القناة وتثبيت الجزع داخل فتحة برج الدبابة حتى تقوم الأفرع والأوراق بحجب الرؤية من أعلي ، وسار في الطرق حتى وصل القاهرة وعجزت الطائرات المعادية أن تكتشف دباباته حيث ظنتها أشجار على الطريق وبهذه الحيلة استطاع أن يعود بدون خسارة دبابة واحدة.

الإقصاء عن القيادة

في عام 1957اتهم زورا بالاشتراك في محاولة انقلاب بالمدرعات وبعد اعتقاله لمدة ثلاث أشهر ومحاكمته ثم الإفراج عنه للبراءة ونقله من منصب مدير مدرسة المدرعات إلى مكتب تجنيد طنطا والذي كان يديره نقيب شرف وأعتقد الحاقدين عليه في القيادة أنه سيعتبر ذلك إهانة ويتقدم بنفسه بطلب إعفائه من الخدمة ، إلا أن ذلك لم يثبط همته ، حيث اتخذت مجهوداته منحا آخر لقد كن يؤمن بأنه يعمل للوطن، وعاهد نفسه ببذل أقصي طاقته للرفع من شأن العمل الذي كلف به مهما كان يبدو متواضعا ولا يلائمه ولأن القيادة العامة كانت لا تستغني عن خدماته قررت إن تستفيد منه مع منعه من تولي الوظائف القيادية ، حيث خلصت إلى أنه رجل خطير يستطيع يكتسب حب من تحت قيادته من الضباط والجنود مما يشكل تهديدا للنظام فقد كان الولاء والمحسوبية هي الأساس لاختيار القيادات في ذلك الوقت.

ولهذا لم يحال إلى المعاش عند ترقيته لرتبة العقيد عام 1959 وتم نقله إلى منصب أركان حرب إدارة التجنيد بالقاهرة وخلال عمله شعر أن قانون التجنيد كان غير متزن وجائز وبه العديد من الثغرات فاتصل بعدد من القضاة وأساتذة الجامعة والتشريعيين لعمل مسودة لقانون جديد لتجنيد وظل يعمل نهارا في مكتبه وليلا في بيته حتى أنجزه في وقت قياسي ورفعه للقيادة وتم اعتماده وهو القانون الذي لا يزال ساريا حتى الآن .

وعام 61 كانت القوات المسلحة تقوم بإنشاء أول فرقة مدرعة ( الفرقة الرابعة) وتم اختيار اللواء طلعت حسن قائدا لها .

وطلب من صلاح أن يساعده في تأسيس هذه الفرقة وبدلا من أن يكون قائدا للواء مدرع تم تعيينه رئيسا للشؤون الإدارية بالفرقة وكان ذلك مفروضا على اللواء طلعت حسن نتيجة للتقارير الأمنية .

موقفه من حرب اليمن

عندما نشبت حرب اليمن تنافس كثير من الضباط للذهاب هناك نظرا للعائد المادي والعلاوات إلخ ، إلا أنه رغم احتياجه كان يري ن الاشتراك في قتال مسلمين لا يكون حلالا في حالة طلبه من أجل تحسين الحالة المادية إلا أن يكون بأمر من القيادة ولهذا لم يشترك في حرب اليمن وكان رأيه أن دفع الجيش النظامي في مقابل شراذم وعصابات من المقاتلين في الجبال هو إخراجه عن وظيفته القتالية وتحطيم لمعنوياته سيعود بالضرر الجسيم مستقبلا .

تدريب القوات ما قبل هزيمة 67

عندما ترقي لرتبة العميد تم نقله إلى هيئة تدريب القوات المسلحة ليعد البرامج وليشرف على تدريب القوات البرية .

وكان كثير الشكوى من عدم استكمال الوحدات للبرامج التدريبية والمناورات لتذرع القادة بحجة عدم صلاحية المعدات والتي وصلت أحيانا إلى ستون بالمائة أو للاعتبارات الأمنية حيث تخاف القيادة من وجود ذخيرة حية لدي الوحدات إن كانت لأغراض التدريب.

وكان يحكي أحد النوادر بأنه استطاع أن يعتمد جائزة مادية لأحسن طاقم في المدفعية على التعامل مع الطائرات المعادية .

وكانت التدريب بأن تصوب المدافع على طائرة مروحية صغيرة معدة لهذا الغرض ويقودها لاسكيا طيار من الأرض ، ورغم أن هذا الهدف قليل السرعة والمناورة إلا أنه لم تستطيع أى وحدة إصابته فقام بإعطاء الجائزة للطيار الذي يحركه.

في جبهة سيناء مايو 1967

بعد إعلان الطوارئ وسحب قوات الأمم المتحدة واندفاع القوات المصرية لسيناء تم تعيينه مفتشا للقوات المصرية من هيئة التدريب تحت قيادة الفريق كامل المرتجي قائد الجبهة وكنت في ذلك الوقت نقيب مهندس صيانة الطائرات في اللواء 65 للقاذفات الثقيلة بقيادة العقيد طيار أركان حرب محمد حسني مبارك والذي كان متمركزا بقاعدة بني سويف الجوية وعندما التقيت بوالدي صدفه أثناء مروري بالمنزل في مأمورية بالقاهرة أخبرني بأننا سنتورط في حرب لسنا مستعدين لها وعندما حاولت مجادلته حسب معلوماتي المحدودة وما نسمعه من الدعاية أظهر لى خطابا وطلب مني قراءته .

وقد كان تقريرا موجها منه للمشير عبد الحكيم عامر القائد العام للقوات المسلحة بواسطة الفريق أول المرتجي قائد الجبهة ، والخطاب يذكر فيه موقف القوات بسيناء وعدم استعدادها للقتال والنقص في كل شئ حتى هناك العديد من الجنود يلبسون الجلاليب لعدم وجود الملابس العسكرية وهناك وحدات بدون ذخيرة وأخري وصلت لها ذخيرة من نوع مخالف ، والخلاصة أن ما يوجد في سيناء هو مظاهرة سياسية وليست جيشا للقتال ، ولاحظت أن أغلب الفقرات تحتها خط بالحبر الأحمر وتعقيب أسفل الخطاب بخط الفريق المرتجي هل يعقل رفع هذا التقرير للسيد المشير يا صلاح ثم توقيعه ، وأعطاني الخطاب وقال لى أخفيه بعيدا عن منزلي فإذا حدثت الحرب فستكون هزيمة مريرة .

وسيسعون لتقديم كبش فداء ، فلو قتلت أو قبض على ثم حاولوا اتهامي بالمسئولية لما سيحدث فاظهر هذا الجواب .

الهزيمة في 5 يونيه وحرب الاستنزاف .

في يوم الخامس من يونيه الساعة الثامنة صباحا قامت الطائرات الإسرائيلية بالهجوم على القواعد الجوية ومنها قاعدة بني سويف وتدمير جميع الطائرات على الأرض حدث ذلك بالرغم من تأكيد الفريق أول صدقي محمود قائد القوات الجوية لنا في اجتماع بالقاعدة قبلها بيومين بأن مدي الطائرات الإسرائيلية لا يصل لبني سويف ويوم 9 يونيه تلقيت تعليمات بالذهاب إلى مطار القاهرة الجوي لانتظار طائرات قد تصل من روسيا ومررت على المنزل في طريقي للمطار وكان عندي أمل بأن القوات البرية ستستطيع الصمود رغم تدمير الوات الجوية على الأرض وإذا بوالدي يدخل المنزل ووجهه وملابسه ملطخة بالهباب ، ولم يلق على السلام وجلس على كرسي ووضع وجهه بين يديه فلأول مرة في حياتي أراه يجهش بالبكاء وهو يقول غضب الله ، غضب الله ده انتقام ربنا من اللي عملناه في اليمن .

فسألته ألم يبق لدينا قوات تحارب ؟ فرد بأن معظم جيشنا قد دمر ولو عبر اليهود القناة لن يجدوا قوات تصدهم ،وأبلغني بأنه سيغير ملابسه ويعود للجبهة ولم التق به بعدها لمدة شهيرين.

إعادة بناء القوات المدرعة المصرية غرب القناة

بعد استقالة المشير عبد الحكيم عارم من منصبه وتعيين الفريق أول محمد فوزي قائدا عاما للقوات المسلحة , صدرت في شهر يوليه 1967 نشرة الترقيات والمعاشات وفيها تم إحالة جميع قادة الجيش برتبة فريق أول وفريق والغالبية من رتبة والعميد للمعاش , ولم تتم الترقية لرتبة اللواء إلا لشخص واحد هو العميد صلاح شريف .

وتم تعيينه قائدا لمدرعات الجبهة ليقوم بإعادة بناء هذه القوات وجمع ما تبقي من شراذم متفرقة بعد الانسحاب من سيناء ثم إنشاء خط دفاعي غرب القناة وقد نجح في وقت قياسي في إنشاء قوة مدرعة قامت بقصف الضفة الشرقية مما أثني الإسرائيليين عن فكرة عبور القناة

قيادة القطاع الشمالي للجبهة في بور سعيد

عندما أدركت القيادة أن مدينة بور سعيد أصبحت في موضع خطير طلبت من الاتحاد السوفيتي إرسال قطع بحرية للوقوف في الميناء لمنع الإسرائيليين من اقتحامها وقبل وصولها حاولت القوات الإسرائيلية استغلال الفرصة والتقدم شرق القناة إلى مدينة بور فؤاد عن طريق منطقة رأس العش جنوبا والهجوم شمالا على الطريق الساحلي للاستيلاء عليها ثم عزل وحصار مدينة بور سعيد لعدم تمكين القطع البحرية السوفيتية من الرسو.

وعندها قامت القيادة بتكليفه بقيادة المنطقة الشمالية في بور سعيد لصد هذا الهجوم وكان أول عمل قام به هو نقل مقر قيادته من داخل مدينة بور سعيد إلى خط المواجهة في بور فؤاد مما رفع الروح المعنوية للجنود لوجود القائد بجوارهم وتم صد الهجوم وانسحاب القوات الإسرائيلية من هذا القطاع .

وفي حيد مقابلاتي معه قال لي إن الروح المعنوية العالية والثقة في القيادة هي مفتاح النصر وعلى سبيل المثال موقفه مع كتيبة الصواريخ التي تقوم بالدفاع الجوي عن مدينة بور سعيد فلم يكن لها تأثير يذكر على الطيران الإسرائيلي لدرجة إن اليهود اعتادوا قصفها على ارتفاع منخفض في ساعة محددة يوميا وهي حوالي الثانية عشر ظهرا واتصل بقائد الكتيبة وأبلغه بأنه سيزور وحدته قبل الظهر فطلب القائد تقديم أو تأخير الموعد لأن هذا هو موعد الغارة اليومية.

ووصل بالفعل إلى الكتيبة قبل موعد الغارة بفترة وجيزة وكان الجو لطيفا فاختار موضع مكشوف وسط الكتيبة وطلب إحضار كرسي ومنضدة وكوب قهوة, ثم أخرج صحيفة وبدأ يقرأ فيها.

وأخذ القائد والضباط يتوسلون إليه أن يدخل إلى المخبأ لأنه بهذا الشكل معرض للإصابة , فقال لهم أنه لن يموت إلا إذا انتهي أجله , وليذهبوا إلى أعمالهم ولا يلتفتوا له , وعندما يئس القائد من زحزحته عن مكانه جمع الضباط والجنود وقال لهم , أن قائد القطاع في كتيبتهم ويجلس مكشوفا وأنه وعار عليهم جميعا إذا حدث له مكروه , مع اقتراب موعد الغارة أسرع الجميع إلى مدافعهم وصورايخهم وأقبلت الطائرات المغيرة فلم يغادر أى جندي موقعه واستقبلوها بوابل من النيران الكثيفة فاشتعلت النيران في اثنتين منها وفر الباقي .

انطلق الجنود بالتهليل والتكبير فلم يسبق لهم إسقاط أى طائرة للعدو. وأقبلوا عليه يهنئونه وقال له القائد إن أفراد الوحدة اعتادوا الاحتماء عند الغارة إلاا أنهم استماتوا في قتال الطائرات من أجل حمايته , فقد ضرب لهم المثل في الشجاعة حيث يرتشف القهوة ويقرأ الصحيفة والعدو فوق رأسه والقذائف تتطاير من حوله فرد عليه بأنه خائفا فعلا , لكن الواجب ألزمه البقاء في مكانه وكذلك فعل الجنود فأسقطوا طائرات العدو , وبعد هذا الموقف أصدر تعليمات لكافة الوحدات التي تمر أمام موقع الكتيبة أن تؤدي لهم التحية العسكرية ومن وقتها أصبحت كتيبة الدفاع الجور ببور سعيد تمثل رعبا للطائرات الإسرائيلية حتى نهاية الحرب عام 73

إنشاء الفرقة 21 المدرعة

بعد انتهاء الخطر على مدينة بور سعيد تم تكليفه بتشكيل الفرقة المدرعة الثانية للجيش المصري وقد أطلق عليها اسم 21 تيمنا بالفرقة المدرعة التي كانت تحت فقيادة الفريق روميل ثعلب الصحراء في الحرب العالمية الثانية والذي أرعب البريطانيين وكانت مهمة في غاية الصعوبة لتكوين هذه الفرقة تحت النيران أثناء حرب الاستنزاف مع الانتشار في رقعة كبيرة من الصحراء غرب القناة .

وأذكر واقعة في هذه الفترة عندما كان يشتكي من كسر طاقم أسنانه الصناعي لوجود حصوات رمال في الأرز الذي يأكل منه في الجبهة , فقلت له كيف وأنت قائد الفرقة ولديك طباخ خاص , فقال أنه قام بالاستغناء عنه ويأكل حاليا في الخنادق مع الجنود ... وذلك بسبب حادث أثناء مروره وتفقده للوحدات المتطرفة بالفرقة مع هيئة قيادته حيث خرج أحد الجنود من الخندق وهو يسأل عن قائد الفرقة , فلما أقبل إليه وإذا بالجندي يعلو صوته بالسباب وأسرع الحراس وانقضوا عليه فقال لهم اتركوه وأحضروه إلى , وسأله هل تعرفني من قبل ؟ فقال له لا , فقال ولماذا تسبني , فبكي الجندي وهو يقول إنه منذ أيام ولم يصل طعام طازج إلى موقعه , فقال له يا بني لك حق أن تسبني لهذا التقصير , بدلا من معاقبته كافأة بترقيته إلى رتبة الرقيب , ثم أصدر تعليمات بغلق كافة المطاعم للضباط وهو أولهم وأن يأكل جمع القادة مع الجنود في المواقع وبذلك يضمن أن لا يتكرر هذا الخطأ ,

قائد سلاح المدرعات

بعد الانتهاء من بناء الفرقة 21 المدرعة وقيامها بواجباتها على الوجه الأكمل أثناء حرب الاستنزاف , ومع وقف القتال على الجبهة بعد مبادرة ( روجرز) عام 1970 رأت القيادة ترقيته لمنصب قائد سلاح المدرعات وذلك للإعداد للعبور وتحرير سيناء .

وظل يعمل بلا كلل حتى أثناء إصابته ومرضه وقبل وفاته بساعات كان يؤدي عمله وكأنه في مكتبه وقام بتوصية نائبه اللواء كمال حسن على باستكمال المسيرة حتى النصر والتفت إلى أسرته يودعها وقال لى أنه كان يتمني أن يترك لنا بعض المال , فقط لو كان تجاوز قليلا عن مبدئه , إلا أنه لم يطعم أسرته يوما لقمة من مال حرام كما أنه وحتى آخر حياتنا , لن نجد من يقوم بذمه أو يشكك في أمانته وحسن قيادته ممن عرفهم طوال حياته .

أبناء البطل أحمد عبد العزيز

خالد ومحمد ( وليد) أبناء البطل عملا لفترة في المجال الفندقي ثم تركاه للعمل في مجال كتب التراث الإسلامي وهما الآن من الخبراء المعروفين على المستوي ع العربي في هذا المجال.

وقد رزقوا بأنجال وأحفاد ويقيم خالد في نفس منزل البطل شارع أحمد حشمت بالزمالك.

وأما الوالدة فلم تتزوج ونذرت نفسها لتربية أبنائها وتوفيت إلى رحمة لله بعد حياة مديدة .

ولقد قامت القوات المسلحة مشكورة بدعوتها وأبنها خالد لأداء فريضة الحج على نفقة الدولة تكريما للبطل

خاتمة

ومع مرور عدة عقود منذ وفاته فكل كلمة قالها كانت في محلها , وفي عدة مناسبات وعندما التقيت ببعض القادة الكبار والذين كانوا ضباطا صغار أثناء قيادته فرحوا بلقائي , وأجمعوا بأنهم اتخذوا منه مثلا أعلي يسيرون على خطاه وأن صورته لن تبرح ذاكرتهم مهما طال الزمن وفي مقابلة حديثة مع الفريق سعد الدين الشاذلي رئيس أركان القوات المسلحة أثناء حرب أكتوبر 73 قال لى إن صلاح شريف كان من آخر القادة العظماء الذين حظيت بهم مصر , رحمه الله ورحم والده وأخويه