الإمام الشهيد حسن البنا ورؤيته الفكرية للحضارة
الإنسان في طبيعة خلقه هو خليفة الله في أرضه ليعمرها ويسيع فيها معاني العبودية لله الواحد القهار، قال تعالى: (يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ) "ص:26"، وهو المعني الذي ورد على لسان سيدنا رسول الله محمد - صلى الله عليه وسلم - حينما قال فيما رواه أنس بن مالك – رضى الله عنه: "إن قامتِ الساعةُ و في يدِ أحدِكم فسيلةً ، فإن استطاعَ أن لا تقومَ حتى يغرِسَها فليغرِسْها" (رواه أحمد)، وهو ملخص لمفهوم الحضارة الذي يعني الإعمار والإستقرار والتي اختص بها الله سبحانه مخلوقه الإنسان عن بقية المخلوقات.
وحيث أن مصطلح الحضارة مصطلح مستحدث كانت بداية ظهوره مع الحداثة والثورة الفرنسية، وتحديدا في منتصف القرن الثامن عشر، حيث نجده استعمل ربما لأول مرة من طرف ماركي دو ميرابو سنة 1760، وهو مشتق من فعل "تحضر" يتحضر، والمشتق بدور من الحضر أو الحاضرة التي تعني المدينة أو سكان المدينة.
فالحضارة إذا مجموعة مركبة من الظواهر الجماعية التي نتجت عن النشاط الخلاق للإنسان؛ "فكر فلسفي، ديني أو علمي، الأنظمة أو الأنساق الأخلاقية، القانونية المؤسساتية، الإبداعات الفنية، اختراعات علمية"، والتي ميزت الإنسان البدائي الذي عاش حياة التنقل والترحال كل وظيفته البحث عن حياة فحسب، والإنسان الذي استقر فأبدع وأنتج وأنشأ صروحا من التقدم البشري، وترك خلفه نماذج ما زالت شاهدة على إبداع وتقدم الإنسان في الأماكن التي تواجد فيها وأسرار من هذا التقدم ما زال العلم يستنطق مفرداته.
ولقد اختلف العلماء والمفكرين حول معني الحضارة، فكلا منهم يراه بزاوية معينة يراه هو منها ولذا جاء تعريف مصطلح الحضارة مختلف عن بعضه البعض، وعن طبيعة البيئة والمكان الذي نشأ فيه هذا المفكر، فبعض مفكري الحضارة الغربية نظروا إلى الحضارة من النواحي المادية، وهو ما جعلها نظرة مختلفة عن مفكري الحضارة الإسلامية مثل ابن خلدون والذي رأى أنّ جميع الحضارات التي نشأت كانت في بدايتها تعيش حياة بداوة، إلّا أنّها أخذت بالتوسع شيئاً فشيئاً حتى صارت عامرةً ومزدهرةً، ومع مرور الوقت يزول هذا الملك والعمران وينتقل إلى أمم أخرى.
وهو ما نراه قريب الشبه بالتعريف الذي وضعه المفكر الأماني أوسفالد أرنولد غوتفريد شبينغلر حيث رأى الحضارة في كتابه (انحلال الغرب) كالكائن الحيّ الّذي يمرّ بمراحل مختلفة في حياته من طفولة، وشباب، ونضوج، وشيخوخة. وهو التعريف الذي يتوافق مع مراحل حياة الإنسان وذكرها الله سبحانه وتعالى في قوله: "اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِن بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفًا وَشَيْبَةً" (الروم: 54).
والصراع الحضاري، واحدٌ من نواميس وقوانين العمران والاجتماع الإنساني، وهو راسخٌ وقديمٌ، ومنذ نشوء الأمة الإسلامية كدولة متمايزة وقوية له هويتها في شبه الجزيرة العربية، والصراع الحضاري بينها وبين الغرب، وكذلك مع إمبراطوريات الشرق القديم قبل دخول الإسلام إليها، قائمٌ.
ومن الحضارات التي قامت وتركتت إرثا للبشرية الحضارة المصرية الفرعونية والتي نشأت على نهر النيل، وحضارة بلاد الرافدين بالعراق مثل مملكة السّومريين، والآشوريين، والبابليين والتي نشأت على نهري دجلة والفرات، حضارة وادي السند والتي نشأت على ضفاف نهر السند، والحضارة الصينية القديمة، ثم الحضارة الإسلامية والتي امتدت إلى ربوع كثيرة من الكرة الأرضية وتأثرت بها كثير من الحضارات التي نشأت بعدها كالحضارة الغربية.
الإمام البنا بين حضارتين
ولد الشيخ حسن أحمد عبدالرحمن البنا (وشهرته حسن الساعاتي) في ضحى يوم الأحد 25 شعبان 1324هـ الموافق 14 أكتوبر 1906م، بالمحمودية في محافظة البحيرة بمصر، وكان الابن الأكبر لأبوين مصريين من قرية شمشيرة بندر فوه التابع لمديرية الغربية سابقًا ومحافظة كفر الشيخ حاليًا.
وكان ولده الشيخ أحمد عالما بالسنة فقد رتب معظم أسانيد الأئمة الأربعة على أبواب الفقه، وله مؤلفات في السنة، ويعتبر امتداد فكري لمدرسة الإمام محمد عبده، وهي البيئة التي نشأ فيها حسن البنا وتشرب من مناهجها الإسلامية وطبعت على شخصيته بالإضافة لما حباه الله سبحانه من بعض المميزات الشخصية الأخرى.
تخرج في كلية دار العلوم عام 1927م وعمل معلما للغة العربية في مدينة الإسماعيلية – وهي المدينة التي شهدت نشأة جماعة الإخوان المسلمين عام 1928م- ومات حسن البنا مساء يوم السبت 12 من فبراير 1949م الموافق 14 ربيع الثاني في 1368هـ بعد ترك إرثا من الرجال الذين أمنوا بفكرته فانتشرت في كثير من دول العالم. (1)
كان للنشأة التي نشأ فيها الشيخ حسن البنا تأثير عميق على تكوين فكره وطريقه الذي سلكه بعد ذلك في العمل والدفاع عن الحضارة الإسلامية والتصدي للفكر والحضارة الغربية في ثوبها الإستعماري المقيت، وهو ما جعل صراعه النفسي والداخلي بين حضارتين (الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية).
لكن كان واضحا من أفكاره وأعماله أن الشيخ البنا لم يرفض الحضارة الغربية لكنه رفض ما نتج عنها في شكل استعمار للدول الإسلامية والعربية. بل الناظر في كتاباته يراه يدعو لأخذ النافع من الحضارة الغربية والعمل به في الدول الإسلامية
حيث يقول في هذا المعنى:
- وعرض هذه الحضارة الأوروبية عليها فما وافقها قبلناه وما خالفها رفضناه، ونحن لم نجن بعد من هذا التقليد الخاطئ إلا الصعاب والعلقم واضطراب الحياة فى كل ناحية من نواحيها. (2)
لقد أظهر الشيخ حسن البنا حقيقة مدى قبول المسلمين للحضارة الغربية وغيرها من الحضارات الإنسانية، حيث وقف في وجه من دعى إلى الآخذ بكل ما جاءت به الحضارة الغربية، كما وقف في وجه من رفضها جملة وتفصيلا، مما دل على سعة الأفق التي اتسم فكره به، فلم يكن متنطعا في التعامل مع الحضارة الغربية أو – كما يدعى بعض العلمانيين والمستشرقين – أنه يدعو إلى فناء الحضارة الغربية، لكنه دعى إلى أخذ بمحاسنها ورفض مساؤها
فيقول في هذا الصدد:
- والرأى العام العربى يذهب فى هذه الناحية مذهبين مختلفين، فمن الناس من يدعو إلى الحضارة الغربية ويحض على الانغماس فيها وتقليد أساليبها (خيرها وشرها وحلوها ومرها ونافعها وضارها ما يحب منها وما يكره وما يحمد منها وما يعاب). ويرى أنه لا سبيل للنهوض والرقى إلا بها (ومن زعم لنا غير ذلك فهو خادع أو مخدوع).
ومن الناس من ينفر من هذه الحضارة أشد النفير ويدعو إلى مقاومتها أشد المقاومة ويحملها تبعة هذا الضعف والفساد الذى استشرى فى الأخلاق والنفوس، ولا شك أن كلا الطرفين قد تطرف، وأن الأمر فى حاجة إلى دراسة أعمق وأدق، وإلى حكم أعدل وأقرب إلى الإنصاف والصواب. (3)
ثم أمر المجتمعات والشعوب الإسلامية بالتمسك بتعاليم الحضارة الإسلامية الذي سادت العالم مع الأخذ بما هو صالح من الحضارة الغربية الحديثة، وأن تكون العلاقة بين الحضارة الغربية والعالم الإسلامي قائمة على التعاون والتشارك لا على الوصاية
وهو المعني الذي عنه بقوله:
- وجوب تمسك البلاد العربية بقواعد حضارتها التى تقوم على ما ورثت من فضائل نفسانية وأوضاع أدبية ودوافع روحية، على أن تقتبس من الحضارة الغربية كل ما هو نافع مفيد من العلوم والمعارف والصناعات والأساليب، وعلى أن تدعو أمم الغرب إلى الانتفاع بهذا الميراث الروحى الجليل ونبصرها بما فيه من خير، ونذكرها بما يحتويه من نفع وبر، وبذلك تقوم الصلة بيننا وبينهم على أساس من التعاون المشترك، يتآزر فيه العقل والقلب على إنقاذ الإنسانية واستقرار الأمن والسلام. (4)
كان اعتراض الإمام البنا على الحضارة الغربية لبعدها عن تعاليم الدين والأخلاق والانغماس في الترف والاباحية حتى المرأة جعلوها كسلعة كبقية السلع
حيث يقول:
- وامتد أمام الأوربيين رواق العلم، وانفسح مجال الاختراع والكشف، وضاعفت الماكينة الإنتاج ووجهت الحياة وجهة صناعية، وسار ذلك جنبا إلى جنب مع نشأة الدولة القوية، وامتداد سلطانها إلى كثير من البلاد والأقطار، فأقبلت الدنيا على هذه الأمم الأوربية وجبيت إليها ثمرات كل شىء، وتدفقت عليها الأموال من كل مكان
- فكان طبيعيا بعد ذلك أن تقوم الحياة الأوربية والحضارة الأوربية على قاعدة إقصاء الدين عن مظاهر الحياة الاجتماعية وبخاصة الدولة والمحكمة والمدرسة، وطغيان النظرية المادية وجعلها المقياس فى كل شىء... وتبعا لذلك صارت مظاهر هذه الحضارة مظاهر مادية بحتة تهدم ما جاءت به الأديان السماوية، وتناقض كل المناقضة تلك الأصول التى قررها الإسلام الحنيف، وجعلها أساسًا لحضارته التى جمعت بين الروحانية والمادية جميعها. (5)
ولهذا السبب طالب حسن البنا بالعناية بالتاريخ الإسلامى والتاريخ الوطنى والتربية الوطنية وتاريخ حضارة الإسلام من أجل إخراج أجيال تعرف حقيقة حضارتها الإسلامية وتعتز بها وتتمسك بتعاليمها، ولا تذوب أو تفتن بالحضارة الغربية.
بل حاول الشيخ البنا استنهاض الهمم بتذكير الشعوب العربية والإسلامية بماضيها الزاهر فقال:
- إننا فى أخصب بقاع الأرض، وأعذبها ماء، وأعدلها هواء، وأيسرها رزقاً، وأكثرها خيرًا، وأوسطها دارًا، وأقدمها مدنية وحضارة وعلمًا ومعرفة، وأحفلها بآثار العمران الروحى والمادى، والعملى والفنى، وفى بلدنا المواد الأولية، والخامات الصناعية، والخيرات الزراعية، وكل ما تحتاج إليه أمة قوية تريد أن تستغنى بنفسها، وأن تسوق الخير إلى غيرها. (6)
وفي رد قوي على كل من أدعى أن الإمام البنا والإخوان حاربوا الحضارة المصرية القديمة ووصموها بالكفر وهذه المعاني
حيث جاء الرد في كلمات الشيخ البنا في رسالة دعوتنا في طور جديد قال فيها:
- وليس يضيرنا فى هذا كله أن نعتنى بتاريخ مصر القديم، وبما ترك قدماء المصريين من آثار الحضارة والعمران، وبما سبقوا إليه الناس من المعارف والعلوم والفنون. فنحن نرحب بـ"مصر القديمة" كتاريخ فيه مجد، وفيه عزة، وفيه علم ومعرفة. (7)
مرَّت العلاقة بين جماعة الإخوان والغرب بمحطات من عدم الثقة، خاصة أن المنهج الفكري الذي أقرَّه "البنا" للجماعة يقوم على تحميل الغرب المسئولية عن ضياع أرض فلسطين، وإسقاط الخلافة العثمانية، لذا جاءت فكرة تأسيس الجماعة على أساس مواجهة الهيمنة الغربية على المجتمعات المسلمة، بل ومحاولة تقديم بديلًا لها.
فحكام دول الغرب لا تريد لأي دولة إسلامية منافستها الريادة والزعامة، ولا تريد لهذه الشعوب معرفة حقيقة دينها الذي يفرض عليهم عدم الذل والاستعباد لأي أمة من الأمم، كما يفرض عليهم الجد والعمل والسعي وراء العلم للازدهار والتقدم، وهذه أمور تقلق ساسة الغرب الذين يرون في الإسلام مارد سيكون عقبة أمام نفوذهم ويعملون على تخويف شعوبهم منها حتى لا يتغلغل هذا الدين وسطهم.
اختلفت نظرة الإمام البنا إلى الحضارة الغربية من حيث الساسة والاستعماريين وشعوب هذه البلاد، حيث رأى أن الشعوب الغربية مثلها مثل بقية الشعوب أخذت بالأسس العلمية فتقدمت ورسخت معاني الديمقراطية فيما بينها، غير أن حكومات دولهم (ومن أجل توفير سبل الرخاء لهذه الشعوب) سعوا لاحتلال واستغلال ثروات العديد من الشعوب الضعيفة والفقيرة والتي لم تستطع الاستفادة من ثرواتها
ومن ثم أفرخت الحركات الاستعمارية العديد من الحركات التحررية ضد الدول الاستعمارية، والجيوش الرابضة على أراضيها أو التدخل في شئونها الداخلية، أو فرض هوية غير الهوية التي تؤمن بها، ولذا كانت النظرة مختلطة بين الساسة والحكومات الغربية وبين الشعوب الغربية الراضية بما يقوم به السياسة من قتل وإرهاب للشعوب الفقيرة ولذا جاءت معظم الكتابات والنداءات ضد المستعمر الغربي دون تفرقة بين الشعوب وبين الجيوش والسياسة، وهو ما ترك مجالا للفهم الخاطئ في كتابات المصلحين أو الزعماء السياسيين.
المراجع
- جمعة أمين عبدالعزيز: أوراق من تاريخ الإخوان المسلمين، الكتاب الأول، دار التوزيع والنشر الإسلامية، القاهرة، 2003م.
- حسن البنا: هذه الثلاثة من أركان الإسلام، مجلة التعارف، العدد (4)، السنة الخامسة، السبت 30 محرم 1359ه- 9 مارس 1940م، صـ1.
- حسن البنا: جامعة شعوب عربية، جريدة الإخوان المسلمين اليومية، العدد (421)، السنة الثانية، 1ذو القعدة 1366ه - 16 سبتمبر 1947م، صـ5.
- حسن البنا: المرجع السابق، صـ7.
- حسن البنا: رسالة بين الأمس واليوم
- حسن البنا: رسالة المؤتمر السادس.
- حسن البنا: رسالة دعوتنا في طور جديد.