الإخوان وإصلاح التعليم.. مواجهة التبشير في المدارس الأجنبية
بقلم: عبده مصطفى دسوقي
تحدثنا في الحلقة السابقة عن وضع البلاد التعليمي وما وصلت بها سياسة دانلوب إليه من تدهور وانحدار، وقلة عدد المتعلمين، وحرص هذه السياسة على خلقٍ جيلٍ متخلفٍ لا يعرف من التعليم شيئًا، وإن عرف فيعرف قشوره؛ حتى يظل هذا الجيل تابعًا للمستعمر في سياسته.
ورأينا موقف الإخوان من التعليم ورؤيتهم الإصلاحية ونهجهم النهج العملي في خلق جيل متعلم مثقف الفكر قادر على الكسب، فأنشئوا معهد حراء ومدرسة أمهات المؤمنين في أول خطوةٍ عمليةٍ في إصلاح المنظومة التعليمة بعد نشأة الجماعة عام 1928م.
وفي هذه الحلقة نستكمل جهودهم في التصدي لحملات المستعمر للنيل من التعليم عن طريق زيادة نفوذ المبشِّرين وعملهم على عدة محاور، كمحور التعليم، ومحور الصحة، والمحور الخدمي الاجتماعي.. هذه المحاور التي استطاع المبشرون اختراق المجتمع المصري الفقير والغني عن طريقها، وحاولوا نشر سموم التنصير بهذه الطريقة، خاصةً محور التعليم؛ حيث استطاع أن يخدم الفقراء والأغنياء.
إنَّ لكل أمة وشعب إسلامي سياسة في التعليم وتخريج الناشئة وبناء رجال المستقبل الذين تتوقف عليهم حياة الأمة الجديدة، فيجب أن تُبنَى هذه السياسة على أصول حكيمة تضمن للناشئين مناعة دينية وحصانة خلقية ومعرفة بأحكام دينهم واعتدادًا بمجده الغابر وحضارته الواسعة.
وقد بدأ التعليم الأجنبي في مصر مبكرًا؛ فمع دخول الاحتلال البريطاني مصر عام 1882م انتشرت المدارس الأجنبية في مصر، وساعد على ذلك وجود ما يُسمَّى قانون التعليم الحر الذي كان يتيح لأية هيئة أو جمعية أو دولة أو فرد عمل مدرسة خاصة به، ووضع المناهج لها، وتعيين المدرسين الذين يختارهم كيفما يشاء بدون أي معايير للتدريس في هذه المدارس؛ ولذلك كان في مصر منذ تلك الفترة مدارس أميرية تابعة لإشراف وزارة المعارف، وعدد كبير من المدارس الحرة ابتدائية وثانوية وفنية يمولها ويديرها جمعيات وأفراد، ومن تلك مدارس للجاليات الأجنبية أغلبها تابع للإرساليات الدينية "التبشيرية"، وإن كان بدايةً من سنة 1934م بدأت وزارة المعارف تفرض رقابةً على المدارس الحرة، لكن ظلت هذه الرقابة مقتصرة على توفر الشروط الصحية والفنية والبيئية في هذه المدارس، وكانت رقابة عامة.
وقد بلغت المدارس الأجنبية في مصر في السنة الدراسية 1939- 1940م (421) مدرسة، وقد بلغ عدد التلاميذ في هذه المدارس في العام الدراسي 1945- 1946م 75010 تلاميذ من جملة 398436 تلميذًا في مصر في هذا العام.
وكان التبشير في هذه المدارس يتم بصورة مكثفة؛ حيث كانت تفتح أبوابها للفقراء والعامة في القاهرة والأقاليم، وكان مما يسهل عمليات التبشير بها أنها تتعامل مع أطفال الذين يسهل التأثير فيهم وتشكيلهم، كما كانت بهذه المدارس أقسام داخلية، أي أن التلميذ بعد انقضاء اليوم الدراسي توفر له المدرسة سكنًا داخليًّا بها يبيت فيه، وتوفر له الغذاء والراحة بهذا السكن، إضافةً إلى أنها تفرض تدريس مادة الدين المسيحي على التلاميذ المسلمين الذين يحضرون الصلاة المسيحية ويتلقون طقوسها.
ومن المحزن أن وزير المعارف الدكتور محمد حسين هيكل أشار في مجلس النواب إلى أن الوزارة لا تملك بحكم التشريع القائم "قانون التعليم الحر" أن تمنع مثل هذه الأعمال إذا وقعت، وإنما تستطيع ذلك حين يتم تعديل قانون التعليم الحر تعديلاً يخولها هذه السلطة.
نظر الإخوان إلى هذه الموجة فوجدوها قد طغت واستشرت، فرفعوا العرائض والشكاوى إلى الملك ورؤساء الوزراء وشيخ الأزهر ووزير المعارف ووزير الداخلية؛ علهم يتحركون أو يحدثون شيئًا.
ففي مؤتمرهم الأول عام 1933م بالإسماعيلية رفعوا عريضةً إلى الملك فؤاد يطالبون فيها بحماية الشعب المصري من المبشِّرين، وردع هؤلاء المخربين، واقترحوا فرض الرقابة الشديدة على مدارس المبشِّرين ومعاهدهم ودُورهم، وإبعاد كل مَن يثبت للحكومة أنه يعمل على إفساد العقائد، لكن شيئًا من ذلك لم يتم.
وقد اتخذ الإخوان عددًا من الأساليب لمقاومة النشاط التبشيري في المدارس والمعاهد، سواءٌ التابعة للإرساليات التبشيرية أم في المدارس الأميرية؛ فقد نشطت الشُّعب وقامت بفضح أعمال المبشرين داخل نطاق الشعبة، كما وقفت صحافة الإخوان بالمرصاد للمبشِّرين؛ فكانت الصحافة تتتبع أخبار مدارس المبشرين؛ فقد نشرت مجلة "التعارف": "علمنا أن في منوف مدرسة للإرساليات التبشيرية قد حتمت على الطلبة المسلمين المطالعة في الإنجيل والقيام بالصلاة المسيحية في أوقات الدروس، وأراد بعض أولياء أمور الطلبة منع أبنائهم فأبت عليهم ذلك إدارة المدرسة؛ مما أدى إلى خروج كثيرٍ من التلاميذ من المدرسة، وتم إجراء تحقيق بمعرفة منطقة التعليم بطنطا، ويجب على الوزارة أن تبادر ببسط نفوذ تفتيشها على هذه المدارس؛ حتى لا تكون أوكارًا للإخلال وإفساد عقائد النشء".
كما قام الإخوان بكثيرٍ من الأنشطة العملية؛ فقد وقفوا بكل ما يستطيعون أمام إنشاء المبشِّرين مدارسَ في عديد من الأماكن؛ ففي منطقة أبي حماد بمديرية الشرقية استطاع الإخوان أن يمنعوا الإرساليات التبشيرية من إنشاء مدرسة للبنين كان غرضها الأساسي تكوين أجيال تنادي بمبادئهم وقيمهم وتؤمن بدينهم، وسارعت هذه الإرساليات وأسست مدرسةً للبنات ليدسوا إليهن سمومهم، إلا أنه سرعان ما اجتمع الإخوان بدار الجمعية وأخذوا يقلبون الأمر ليدرءوا هذا الخطر الفادح، وقد خرج هذا الاجتماع بعدة قرارات؛ هي:
أولاً: كتابة عرائض تحذر من خطورة تلك الفتنة على العقيدة الإسلامية، لا سيما وأنهم يضمون إليها أطفالاً دون السادسة، وتُرفع هذه العرائض إلى حضرة صاحب السعادة رئيس مجلس مديرية الشرقية، وحضرة مدير التعليم، وحضرة كبير مفتشي وزارة المعارف لمنطقة الشرقية، وحضرة مفتش المعارف، وحضرة المحترم الشيخ محمد عثمان عضو مجلس مديرية الشرقية، والاتصال بصاحب الفضيلة واعظ المركز للاشتراك مع الجمعية في هذا السبيل.
ثانيًا: كونت الجمعية لجنة من حضرات: الشيخ نور نائب الجمعية، وفهيم أفندي يحيى المدرس بالمدرسة الابتدائية الأميرية وغيرهما، وتعمل هذه اللجنة على الانتشار في المنطقة لتحذير أولياء أمور التلاميذ والتلميذات من مخططات المدارس التبشيرية، وتوضيح حقائق المدارس التنصيرية.
ثالثًا: كتابة منشورات تحذر الناس من سموم المبشِّرين.
ولم يكتفِ الإخوان بكتابة العرائض وتشكيل اللجان لتوعية الناس، بل قاموا بإنشاء العديد من المدارس الإسلامية لإيجاد البديل أمام الأهالي وأولياء الأمور، خاصةً في بعض المناطق التي لا يوجد بها سوى مدارس الإرساليات التبشيرية، كما هي الحال في الصعيد.
وفي بلدتي طما والمراغة بسوهاج قامت مدرسة تبشيرية بإجبار التلميذات المسلمات على حضور مادة الدين المسيحي، ولكن الإخوان بهذه البلدة لم يقفوا مكتوفي الأيدي؛ فقام الحاج أحمد لطفي الزارع رئيس جمعية الإخوان بطما، والأستاذ محمد عبد الله السمان المدرس بالذهاب إلى مدرسة البنات والتحدث مع ناظرة المدرسة مس هوفر؛ فقالت: "الميزانية لا تسمح بمرتب مدرس جديد"، فقالا إنهما مستعدون بالتطوع لتدريس الدين الإسلامي للتلميذات المسلمات، ولو حصةً واحدةً في الأسبوع تحت رعاية إدارة المدرسة، إلا أن رد "مس هوفر" كان مستفزًّا؛ حيث قالت لهم: "إن هولندا بعثتني لإنشاء مدرسة للبنات لنشر الدين المسيحي، لا أن تنفق أموالها لتعليم الدين الإسلامي"، ثم إن لديها إقرارات من أولياء أمور التلميذات موقَّعًا عليها منهم ومؤرخة بأن لا اعتراض على حضور بناتهن درس الدين المسيحي، وعندها قرروا إنشاء مدرسة ابتدائية خاصة للبنات.
كما كان الإخوان يلومون بشدة أي مسئول يحضر احتفالات المدارس التبشيرية أو يقوم بزيارتها، وقد وجه الإخوان إلى معالي الباشا وحضرات الكبار من ضيوف شرف هذه الحفلات جميعًا رسالةً مشيرين فيها إلى أن هذه مؤسسات تبشيرية صميمة تتخذ من العلم وسيلةً لسلخ أبنائنا وبناتنا من عقيدتهم أولاً، ثم تقتل فيهم بعد ذلك كل شعور وطني مصري كريم.
وقد رأى الإخوان أن أفضل الوسائل للقضاء على التبشير في الجانب التعليمي هو تعديل قانون التعليم الحر، خاصةً فيما يتعلق بمراقبة وزارة المعارف على المدارس الأجنبية، وضرورة تدريس الدين الإسلامي واللغة العربية وتاريخ مصر وجغرافيتها باللغة العربية بهذه المدارس، وهو ما لم يكن موجودًا، وإن كان الإخوان قد شكروا للحكومة بعض الخطوات التي اتخذتها نحو تعديل هذا القانون.
كما كان الإخوان يناشدون الأهالي وأولياء الأمور الذين يقذفون بأبنائهم إلى هذه المدارس التبشيرية، وهم يعلمون بلا شك احتقارها لدينهم وسعيها إلى تنصير أبنائهم بتعليمهم الإنجيل والصلاة المسيحية.. أن يخافوا على أبنائهم ويُلحقوهم بالمدارس المصرية المسلمة.
وهذا الأمر أحدث قلقًا عظيمًا في نفوس المبشرين؛ حيث إن الأمر لم يقف عند حد تغيير قانون التعليم الحر، بل نتيجةً لضغط الرأي العام على الحكومة لمقاومة التبشير تم عمل مشروع قانون يحرِّم التبشير، وفي عام 1940م نوقش في مجلس الشيوخ وأحيل إلى لجنة الداخلية، وذكرت مجلة "التبشير الدولية" أن الدوائر المسيحية في مصر تشعر بأن هذا المشروع إذا صار قانونًا يجعل من المستحيل على المنشآت التعليمية التبشيرية القيام بعملها، على الرغم من أن مركزها القانوني ومناهجها قد كفلتها معاهدة منترو المعقودة عام 1937م، لكن الإخوان استمروا في الضغط على ضرورة تعديل قانون التعليم الحر وإقرار قانون منع التبشير.
ونتيجةً لنشر الجرائم التنصيرية للمدارس التبشيرية فقد كتب بعض مفتشي وزارة المعارف تقاريرهم، وأهابوا بالوزارة أن تسرع فتضع حدًّا لهذه الفوضى التي تبثها هذه المعاهد في العقائد والأخلاق، وأوضح الإخوان أن الحكومة أرسلت تستفتي قلم قضايا الحكومة فيما تفعله إزاء ذلك.
وقد رأى محمد العشماوي بك وكيل وزارة المعارف ضرورة المبادرة بإنشاء مدارس مصرية في أمهات المدن الشرقية لمنافسة المدارس التبشيرية، والعمل على القضاء عليها، وكذلك اتفق الرأي على استمالة الصحافة الشرقية لبث روح الوحدة في النفوس.
استمرت سياسة المحتل الإنجليزي في تفريغ التعليم المصري من أهدافه ومضمونه لتخريج أشباه متعلمين لا يصلحون إلا للوظائف الدنيا, وقد وضح ذلك (بالمرستون) الوزير الإنجليزي بقوله: "لا ترضى إنجلترا أبدًا بتقدم مصر ورقيها", فكان من الطبيعي أن توضع المناهج على أساس قشور من العلم؛ لا تسمن ولا تغني من جوع, ولا يقصد من ورائها إلا تخريج آلات كتابية تقوم بعبء الأعمال الحكومية.
وكان المحتل يهدف أيضًا إلى تخرج أناس يدافعون عن الحضارة الغربية، متشدقين بأنها خير لسعادة البشرية, وكان هذا من أثر السياسة التعليمية للمحتل, كما استطاع أن يميز بين التعليم الأزهري والإلزامي، والعمل على تهميش دَور الأزهر وطمس كل ما هو ديني، وقد أدى ذلك إلى سيادة روح التغريب في التعليم وإغفال التربية الخلقية والتراث الثقافي للأمة, كما ظهرت الثنائية بين التعليم الوطني والتعليم الأجنبي.
ومن ثم نهض الإخوان لإصلاح التعليم وإخراج رجالٍ يعرفون قيمة الوطن, ويعملون على طرد المحتل والعمل على تكوين جيل مسلم يتمسك بالعلم والأخلاق؛ ولذا أعدوا الوسائل والبرامج التي تعمل على بناء الشخصية المسلمة وإيجاد هذا الجيل.
وفي الحلقة القادمة نستكمل جهودهم في مكافحة الأمية ومحاربة الفساد في التعليم الإلزامي والأزهري.