أحمد كامل
بقلم: م. عبد الحليم الكناني
تقديم
أتدري لماذا يحيل النظام الحاكم الإخوان الى المحاكمات العسكرية ؟
اتدري لماذا يخافون أن يعرضوهم على محاكم مدنية ؟
إنهم حقيقة خائفون !!!
خائفون من تكرار ماحدث بالأمس القريب حين برأت المحاكم المدنية الإخوان المسلمون، وانضم اليهم القضاة الطبيعيون، وهذه إحدى الحقائق التاريخية العجيبة في تاريخ الإخوان المسلمين.
من يكون؟
لنتعرف أولا على بطل هذه القضية :
المستشار أحمد كامل رئيس محكمة الجنايات الأسبق، تخرج المستشار أحمد كامل من كلية الحقوق سنة 1914م، وقضى بالمحاماة 16 عاما.
ثم انتقل إلى سلك القضاء سنة 1930م، وظل يترقى في سلك القضاء حتى عين مستشارا في محكمة استئناف مصر ثم وكيلا لها ، ثم رئيسا لمحكمة جنايات مصر.
وتوج حياته القضائية بإصدار الحكم التاريخي في قضية السيارة الجيب ذلك الحكم الذي أعاد إلى النفوس الثقة في شرف القضاء المصري ، وأنه يحكم بالعدل حتى على أكبر كبير.
المستشار مع الإخوان
كانت هذه القضية فرصة طيبة تعرف فيها على دعوة الإخوان على لسان الدفاع والخصوم .
وما أن أحيل إلى المعاش في 15-6-1951 حتى توجه إلى جماعة الإخوان بالأسكندرية التي يعيش فيها ، وقابل المسئولين هناك قائلا : " لقد كنت أحاكم الإخوان واليوم أريد أن انضم إليهم فقد كانت قضية السيارة الجيب فرصة درست فيها الدعوة وعرفت حقيقتها السامية ولا أظن أن هناك ميدانا آخر أختم فيه حياتي خيرا من خدمة الإسلام وإحياء تعاليم الله التي تحمل للأمم المنقسمة على نفسها والتي لا تنتهي من حرب إلا لتبدأ حربا أخرى ، تعاليم السماء وقوارير الشفاء ".
فرحب به الإخوان هناك وأحلوه محله اللائق ، ولمسوا منه حرص القاضي الدقيق على حضور الاجتماعات وأداء الواجبات .
وأصبح رئيسا للشعبة القانونية للإخوان بالأسكندرية ، وهي الشعبة التي تولت إصدار مشروع دستور إسلامي للدولة المصرية .
كما أنه تطوع للدفاع في قضية اغتيال الإمام الشهيد حسن البنا رحمه الله .
وبمناسبة هذا الحدث العظيم والفريد .. حدث انضمام المستشار أحمد كامل للإخوان المسلمين ..أجرت صحيفة أخبار اليوم في 12/7/1952 تحقيقاً صحفياً معه نشرته تحت عنوان :
الأسكندرية مكتب " أخبار اليوم ":
بدأ الإخوان المسلمون في تعديل لائحة الجماعة ، وذلك علي أثر صدور حكم مجلس الدولة ببطلان الأمر العسكري الصادر بحل الإخوان . وقرر مكتب الإرشاد العام اتخاذ الأسكندرية حقلا لأول تجارب اجتماعية من نوعها تقوم بها الجماعة . حتى إذا ما نجحت التجربة عممت هذه المشرعات في جميع بلاد القطر .
وقد اختيرت الأسكندرية بالذات لإجراء هذه التجارب الجديدة بعد أن انضم إلي الجماعة سعادة أحمد كامل بك الرئيس السابق لمحكمة جنايات مصر ، الذي أصدر حكمه في قضية سيارة الجيب. وقد اختير سعادته رئيس للجنة الاستشارية للإخوان في العاصمة الثانية , ليبحث وينظم هذه التجارب على ضوء دراساته وتجاربه الماضية. وسيشرف سعادته علي تنفيذ هذه المشروعات التي وضعت لصالح الجماعة وهي :
- الضمان الاجتماعي .
- التأمين الصحي والعلاجي .
- تنظيم جباية الزكاة وإنفاقها في وجوهها الشرعية .
الرجل الذي غير مصير الإخوان
وقبل عامين كان أحمد كامل بك هو الرجل الوحيد في مصر كلها ، بل في العالم العربي كله ، الذي يتحكم في مصير الإخوان المسلمين . وكانت كلمة منه كفيلة بالقضاء علي المستقبل السياسي للجماعة ، وإغلاق فروعها وشعبها في كل قرية ومدينة وفي سوريا ولبنان وباكستان وفي كل قطر إسلامي وقف عنده أو امتدت إليه الدعوة الجديدة .
كلمة واحدة فقط كان يمكن أن تغير مصير الدعوة ، وكان يمكن أن تؤدي إلي تشريد كل من يدين بمبدأ الإخوان .. وأبقي الرجل علي الجماعة حتى قدر له أن يصبح واحدا منها ، يساهم بجهده من أجلها ، بعد أن ظل مصيرها كله معلقا به .
من فوق المنبر العالي
وجلس الرجل فوق المنصة العالية أربعة شهور متتالية ، يدرس برامج الجماعة ، ويتعمق في تحليل حقيقة أهدافها ومراميها ، وتلتقط أسماعه أقوالا متناثرة في ساحة القضاء ، ليصدر بعد ذلك حكمه بأن الإخوان المسلمين جمعية إسلامية تهدف إلي إقامة مجتمع إسلامي مثالي يحكمه الدين .
إذاعة السر
هذه المراحل الثلاث المتضاربة بقيت سرًا مكتوما في ضمير القاضي . حتى فتح قلبه " لأخبار اليوم " هذا الأسبوع ليروي القصة كاملة .. قصة القضية التي غيرت مصير الإخوان ، وغيرت أيضًا مصير القاضي نفسه . بحيث نقلته إلي الصف الأول من صفوف المكافحين ، يجلس بينهم ، بعد أن كانوا جميعا يقفون بين يديه ، وكان ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم رهن كلمة منه .
قصة الماضي
وتبدأ القصة مع الرجل في ماضيه البعيد عام 1930 ، عندما خلع الأستاذ أحمد كامل روب المحاماه بعد ستة عشر عاما ليرتدي وشاح القاضي . وفي المنيا سمع لأول مرة من هيئة دينية جديدة تسمي " الإخوان المسلمين " وكان يظنهم جماعة صوفية تشيع أفرادها بالتعصب الديني وكراهية الأجانب . وتخيل أن عملهم مقصور علي حفلات الذكر .. ولم يحاول أن يصل إلي الحقيقة في هذا الأمر ، فلم يكن يعنيه منه شيء . وما خطر بباله يوما أن الوصول إلي حقيقته سيكون شغله الشاغل .
كانت الفكرة تطاردني
وانتقلت نفس الفكرة معه من المنيا إلي بني مزار . وكلما تقلب بين بلاد القطر كانت الفكرة لا تزال مسيطرة عليه ، أو كما يروي " كانت تتبعني دائما بل كانت تطاردني . هربت منها في إسنا ولكنها لحقتني في أسيوط ، وتعقبت خطواتي كلما ارتقيت درجة في المسلك القضائي ، كانت معي في طنطا ودمنهور والقاهرة .. ولم أكن أعرف أني سألتقي بهذه الفكرة التي رسبت في أعماقي في معركة حاسمة في محكمة جنايات القاهرة " .
اللقاء الأول والأخير
وسرح الرجل بفكره وهو يذكر قصة لقائه الأول بحسن البنا ، وهو اللقاء الأخير أيضا وكان ذلك في الزقازيق عام 1945 وقد أضحي القاضي الشاب مستشارا في محكمة الجنايات وأقيم حينذاك احتفال بالمولد النبوي .
بين العقل والقلب
واستمع في هذا اليوم إلي حسن البنا وهو يتحدث عن العالم الإسلامي كما ينشده الإخوان المسلمون ، وعن المجتمع المثالي كما يتخيلونه إذا نفذت برامجهم . وشعر حينئذ أن الرجل خطيب ممتاز يؤثر في سامعيه . ولم يحاول أن يفاضل بين الخاطر الذي استقر طويلا في عقله ، والخاطر الجديد الذي بدأ يطرق زوايا قلبه طرقا رقيقا هينا ولكن في نغم حلو . وبين العقل والقلب قام الكفاح أربعة أشهر حتى انتهي الاثنان إلي رأي واحد ، بعد أن جمعت أمامه ، بل حشدت له جميع بيانات حسن البنا وخطبه وأحاديثه الدينية ومذهبه السياسي ، جمعتها له النيابة كمستندات ضد اثنين وثلاثين شخصا من الإخوان المسلمين ، أو " الأعضاء الإرهابيين في الجماعات المنحلة " كما أطلق عليهم في ذلك الحين .
الفكرة السجينة
وحلقت خواطر القاضي السابق بعيدا وهو يذكر تلك الأيام من شهر ديسمبر 1950 : " كانت أمامنا أوراق كثيرة ، ربما عشرة آلاف صحيفة ، وربما تزيد علي ضعاف هذا العدد ، وكنا مطالبين بأن نقرأها جميعا . وأقوالها مخلصا . لم يكن يعنينا كثيرا فى هذه الأيام أمر هؤلاء الاثنين والثلاثين متهما الذين وقفوا يحملقون فينا من وراء القضبان ، ما هي ؟ ما حقيقتها ؟ وما وراءها من آمال ومطامع ؟ إن صح أن الدعوة مطامع علي الإطلاق عدا المثالية في مجتمع مأساته الأولي أخلاق بنيه .
كانت الفكرة السجينة هي هدف المحاكمة الأول . كنا نريد أن نحكم لها أو عليها .. فإما أن يتاح لها أن تطل برأسها علي مصر والعالم من جديد ، وإما أن تلفظ أنفاسها صريعة داخل القضبان . حيث يطويها العدم والفناء.
كان يعنينا كثيرا مصير عشرات الألوف بل ومئات الألوف من " رهبان الليل وفرسان النهار " كما قالت عنهم الصحف ووكالات الأنباء ، وكان علينا أن نقرر مرة واحدة وإلي الأبد : هل هؤلاء جميعا يسعون إلي قلب نظام الحكم وإتلاف أسلحة الجيش المصري وتخريب المنشآت الحكومية ونسف الطرق والكبارى والسرقة المسلحة ؟ .. وما أكثر ما وجه إلي هؤلاء الأبرياء .. الذين أصبحت واحدا منهم .
الحقائق مطلقة للقاضي
إن الحقائق نسبية لجميع البشر إلا القاضي . فإنه لا يعرف إلا حقيقة واحدة مطلقة . وأقل شك لديه يغير مصير حياته والحيوات الأخرى المتعلقة بكلمة القدر التي تنطق بها شفتاه . كنت حريصا علي أن اقرأ كل شيء. فتتبعت نشأتهم وأحسست إذ ذاك بروحي تجوب معهم شوارع الإسماعيلية في عام 1928 ، ثم تترك المدينة الضيقة لتضئ كل مكان في مصر ، وحتى في ميدان القتال علي أرض فلسطين . واستمعت إلي أحد الشهود .. ولم أستطع أن أنسي شهادته إلي الآن .. ما أكثر ما ناقشته في تلك الأيام . وكنت أنا وهو حريصين علي أن نصل إلي الحقيقة كاملة .. وعرفنا الحقيقة الكاملة ، أنا وزميلي اللواء أحمد علي المواوي بك قائد حملة فلسطين ، الذي انضم إلي الإخوان المسلمين في الشتاءالماضي عضوا في اللجنة الاستشارية ، ليضع خطوطا جديدة لتحركات الإخوان في الميادين الاجتماعية والرياضية .
من كان يدري ؟
هل كنت أستطيع في ذلك الوقت أن أتنبأ بأني سأضيف إلي مشروعاتهم صفحة جديدة ؟ لا أحد يدري .. وربما كان الاثنان والثلاثون متهما الذين كنت قاضيهم هم آخر من يتوقع ذلك .
القصة غيرت مجري القضية
إن قصة " العسلوج " غيرت كثيرا من مجري القضية .. لقد روي المواوي بك القصة كاملة ، قصة الذين قيل عنهم أنهم أرادوا إتلاف أسلحة الجيش المصري ... لقد نفذت ذخيرة ألف وخمسمائة جندي من الجيش . ولم يستطيعوا التقدم للاستيلاء علي الموقع .. وتقدم خمسة وعشرين من فرسان الليل من كتيبة المرحوم أحمد عبد العزيز ليستولوا علي الموقع ونجحوا في ذلك ... حقيقة كانوا قلة ، ولكن كان لهم شعارهم الخالد ، شعار الأجيال : ( كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله) .
تحررت
وبدأ فكري يتحرر من رواسب سبعة عشر عاما . وبدأت خواطري القديمة عنهم تتلاشي ، وبدأ حسن البنا يفقد في ناظري شخصية شيخ الطريقة المتصوف الذي يعقد حلقات الذكر ، لتحل محلها شخصية قائد الدعوة .
قاضيهم ومحاميهم
كنت مطالبا بأن أكون عقيدة لنفسي قبل أن أكون عقيدة لغيري ، وكان يجب أن أعيش في القضية مكان المتهمين ومكان أعضاء الجماعة ومكان قائد الدعوة ، لأومن بما يؤمنون به ، أو لأكفر بما يعتقدون أنه الحق .. وبين الإيمان والكفر كانت تنظر قضية السيارة الجيب ، لتحدد وإلي الأبد .. مصير الإخوان المسلمين .. ولتحدد بعد ذلك مصيري . فإني أعتقد أن هذه القضية هي وحدها التي هدتني إليهم ، وهي التي دفعتني إلي أن أصبح عضوا عاملا في الجماعة ، أسير معهم ، وأدافع عنهم عندما يحين لقضية " الأوكار " أن تعرض أمام القضاء .
للمزيد
روابط داخلية كتب متعلقة
ملفات وأبحاث متعلقة
|
مقالات متعلقة
متعلقات أخرى
وصلات خارجية
|