دعائم التربية السياسية لدى حسن البنا كما يراها القرضاوي
مقدمة
يعد الدكتور يوسف القرضاوي – عليه رحمة الله - أحد العلماء الذين تأثروا منذ صغرهم بفكر الإمام حسن البنا وطريقته الدعوية الشاملة، حتى أنه أصبح أحد تلامذته، والذي أصبح له مدرسة فكرية وعلمية وسط المدارس الحديثة المؤثرة في قطاعات كثيرة من العالم الإسلامي وغيرهم.
يعتبر القرضاوي من كبار مشايخ الأزهر الشريف المجددين الذين ملئوا الدنيا وشغلوا الناس، ولم يعرف عنه انتماء حركي أو فكري لغير جماعة الإخوان ومدرستها حيث سار في بعض منهاجه على درب معلمه الإمام البنا خاصة مدرسة تيسير الفقه الإخوانية التي قامت على مهمة تقريب الفقه وتبسيطه والتي نجحت في أن تخرج الفقه من الشأن الخاص إلى الشأن العام.
يقول حسام تمام:
- كما مكنت القرضاوي جرأته كفقيه على التعاطي مع عدد من الإشكالات الفقهية التي كانت عقبة أمام تطور الحركة في بعض مراحلها؛ بخاصة مسائل الفقه السياسي، فجاء القرضاوي ليفكك للحركة هذه الإشكاليات ويقدم لها المخرج اللازم مثلما فعلت فتواه بجواز نشأة الأحزاب السياسية وتعددها.
رؤية الإمام البنا للسياسة كما ذكرها القرضاوي
كان حسن البنا - رحمة الله عليه - رجلاً متعدد المواهب والقدرات، فهو عالمٌ وداعيةٌ، ومصلحٌ، ومجدِّدٌ، وقائدٌ وزعيمٌ، وهو كذلك مُرَبٍّ من الطراز الأول.
كان مربيًا بحكم الموهبة، وبحكم الدراسة، وبحكم الممارسة، وكانت لديه كل الأدوات التي يفتقر إليها المربِّي الناجح، من البصيرة النَّيِّرة، والقلب الكبير، والعقل المنفتح، واللسان الفصيح، والوجه البشوش، والفِراسة النادرة، إلى جوار العلم الواسع، والخبرة الفنية والاجتماعية.
فلا غرو أن نراه يؤثر بسرعة في كل من صحبه وعايشه، بل في كل من لقِيَه لقاءً عابرًا، فتراه يذكر له كلمةً معبرةً، أو موقفًا مؤثرًا، أو حكايةً لها دلالة، أو نحو ذلك مما يعرفه الكثيرون عنه. وقد صدق قول الشيخ رحمه الله: "علامة الرجل الصالح أن يترك في كل مكان يحلَّ فيه أثرًا صالحًا"، وهكذا كان.
وكانت التربية في نظر الإمام البنا تتسم بخِصِّيَّتَيْن أساسيَّتَين:
أولاهما: التكامل
وثانيتهما: التوازن
ومعنى "التكامل" أنها تربية شاملة لا تقتصر على جانب دون جانب، فهي تتناول الروح والجسم، والعقل والعاطفة، والضمير والوجدان، وتعمل على تكوين الشخصية المسلمة تكوينًا متكاملاً.. روحيًّا بالعبادة، وبدنيًّا بالرياضة، وعقليًّا بالثقافة، وخُلقيًّا بالفضيلة، واجتماعيًّا بالمشاركة في خدمة المجتمع، وسياسيًّا بالتوعية بقضايا الوطن والأمة.. وهكذا لا تقتصر التربية على جانب دون آخر.
ومعنى "التوازن" أنها تعطي كل جانب من الجوانب حقَّه بلا طغيان ولا إخسار؛ بحيث لا يطغى على غيره من الجوانب، ولا يحرمه حقَّه لحساب غيره، بل يقول لكل من تجاوز حدَّه: قفْ عند حدِّك، والزَم صراطك المستقيم (من أراد التوسع حول هذين الأمرين: (التكامل والتوازن) فليرجع إلى كتابنا (الخصائص العامة في الإسلام) خصيصتي الشمول والوسطية صـ95، 115).
ولا غرو أن كان من أهمِّ أنواع التربية التي عُني بها الأستاذ البنا: التربية السياسية، التي كانت مُغيَّبةً عند كثير من المتدينين، والجمعيات الدينية العاملة في مصر في ذلك الوقت.
ما هي السياسة عند الإمام البنا؟
أجل.. كان من الجوانب المهمَّة التي عُني بها الإمام الشهيد حسن البنا الجانب السياسي، ونعني بهذا الجانب ما يتصل بشئون الحكم، ونظام الدولة، والعلاقة بين الحكومة والشعب، والعلاقة بين الدولة وغيرها من الدول.. إسلاميةً وغيرَ إسلامية، والعلاقة بالمستعمر الغاصب، والموقف من الأحزاب والحزبية، ومن الدستور والقانون والشورى والديمقراطية، وغير ذلك من القضايا المتعددة المتنوعة.
وقد كان هذا الجانب قبل دعوة حسن البنا وقيام مدرسته بعيدًا عن اهتمام الجماعات الإسلامية - وبتعبير أصح الجماعات الدينية في مصر - وخارج نطاق نشاطها وتفكيرها، فقد أصبح مفهوم السياسة مقابلاً لمفهوم الدِّين، كما يقابل الأسود الأبيض، فلا يُتصوَّر اجتماعُهما في شخص أو في جماعة، والناس رجلان: إما رجل دين، وإما رجل سياسة
والجماعات نوعان: إما جماعة دينية، وإما جماعة سياسية، وحرام على رجل الدِّين أن يشتغل بالسياسة، كما يَحْرُم على رجل السياسة أن يشتغل بالدِّين، ومثل ذلك تَدَخُّل الجماعة الدينية في الشؤون السياسية، أو رجال السياسة في شؤون الدِّين، وقد يتجاوز ويتسامح في تدخل رجل السياسة أو الجماعة السياسية في الدِّين، أما الذنب الذي لا يُغتفَر ولا يُتسامَحُ فيه عند الناس يومئذ فهو أن يتدخَّل رجلُ الدِّين أو الجماعة الدِّينية في القضايا السياسية!!
وعلى هذا الأساس قامت في مصر - كما في غيرها - جماعاتٌ دينيةُ الطابع، كالطُرق الصوفية، والجمعيات الدِّينية المختلفة، التي تنصُّ في صُلب لوائحها وأنظمتها الأساسية على أنها لا صلة لها بالسياسة.
وتقابلها تجمعاتٌ أخرى لا شأن لها بالدِّين، وهي التي أُطْلق عليها اسم (الأحزاب) مثل الحزب الوطني، أو حزب الأمة، أو حزب الوفد، وما انشقَّ عنه، وحزب الدُّستور وغيرها، فهذه الأحزاب تشترك كلها في طابعها (المدني) أو (العلماني)، ففكرها النظري وسلوكها التطبيقي قائمان على أساس عَزْلِ الدِّين عن الدولة، وفصْلِ الدولة عن الدِّين، وإن كان بعضها أقرب إلى الاعتدال من بعض، بحسب رؤى زعمائها، فالحزب الوطني كانت له نزعةٌ إسلاميةٌ تمثلت في مؤسسة مصطفى كامل وخلفائه.
كما تؤمن هذه الأحزاب كلها بالوطنية الإقليمية الضيِّقة، التي رأينا كثيرًا منها قامت تُحيِي نزعاتٍ جاهليةً قديمةً، كالفرعونية في مصر، والفينيقية في سوريا، والآشورية في العراق، ومَن لم يؤمن منها بالنزعة الوطنية آمَن بالنزعة القومية مثل: القومية الطورانية في تركيا، والقومية العربية في بلاد العرب، والقومية السورية في سوريا الكبرى.
كان على "حسن البنا" أن يخوض معركةً حاميةَ الوطيس، لمطاردة المفاهيم الخاطئة عن العلاقة بين الدِّين والسياسة .. تلك المفاهيم التي غرسها الجهل والهوى، وتعهَّدها الاستعمارُ الثقافي بالسقي والرعاية، حتى تغلغلت جذورُها وامتدت فروعُها.
وكان لا بد من حرب الفكرة الخاطئة بالفكرة الصحيحة، وهي شمول الإسلام لكل جوانب الحياة، ومنها السياسة، كما دلَّ على ذلك القرآنُ والحديثُ وهَدْيُ الرسول وسيرةُ الصحابة، وعَمَلُ الأمة كلها طوال ثلاثة عشر قرنًا أو تزيد، وحسبنا هنا أن القرآن يحذِّر من إهمال بعض ما أنزل الله تعالى فيقول: ﴿وَأَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ وَلا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ وَاحْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ مَا أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ﴾ (المائدة: من الآية 49)
كما قرَّع القرآن بني إسرائيل على تجزئتهم لكتابهم، وأخْذِ بعضِه دون بعض، فقال سبحانه: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَمَا جَزَاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذَلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ يُرَدُّونَ إِلَى أَشَدِّ الْعَذَابِ﴾ (البقرة: من الآية 85).
وللإمام الشهيد في ذلك كلماتٌ تكاد تكون محفوظةً لدى جمهور الإخوان، من ذلك قوله في إحدى رسائله: "إذا قيل لكم: إلام تدعون؟ فقولوا: نحن ندعو إلى الإسلام الذي جاء به محمد- صلى الله عليه وسلم- والحكومةُ جزءٌ منه، والحريةُ فريضةٌ من فرائضه، فإن قيل لكم: هذه سياسة، فقولوا: هذا هو الإسلام، نحن لا نعرف هذه الأقسام!!" (من رسالة بين الأمس واليوم).
وقال رحمه الله يرد على من يقول إن الإخوان المسلمين قوم سياسيون، ودعوتهم دعوة سياسية:
- "يا قومنا.. إننا نناديكم والقرآن في يميننا، والسنة في شمالنا، وعمل السلف الصالحين من أبناء هذه الأمة قدوتنا، وندعوكم إلى الإسلام وتعاليم الإسلام وأحكام الإسلام، فإن كان هذا من السياسة عندكم فهذه سياستنا، وإن كان من يدعوكم إلى هذه المبادئ سياسيًّا فنحن أعرق الناس- والحمد لله- في السياسة، وإن شئتم أن تسمُّوا ذلك سياسة فقولوا ما شئتم، فلن تضرَّنا الأسماء متى وضحت المسميات وانكشفت الغايات" (من رسالة (دعوتنا).
أركان التربية السياسية عند الإمام البنا
تقوم التربية السياسية لدى مدرسة "حسن البنا" على جملة دعائم أو معالم، نذكر هنا أهمها:
الربط بين الإسلام والسياسة
جاهد الأستاذ حسن البنا جهادًا كبيرًا ليعلِّم المسلمين فكرة (شمول الإسلام)، وبعبارة أخرى: ليُعيد إليهم ما كان مقررًا وثابتًا طوال ثلاثة عشر قرنًا، أي قبل دخول الاستعمار، والغزو الفكري إلى ديارهم، وهو: أن الإسلام يشمل الحياة كلها بتشريعه وتوجيهه.. رأسيًّا منذ يولد الإنسان حتى يتوفاه الله.
وأحبُّ أن ألفت النظر إلى أمرين مهمين:
- أولهما: أن الفارق بعيد بين الحزبية والسياسة، وقد يجتمعان وقد يفترقان، فقد يكون الرجل سياسيًّا بكل ما في الكلمة من معانٍ وهو لا يتصل بحزب ولا يمتُّ إليه، وقد يكون حزبيًّا ولا يدري من أمر السياسة شيئًا، وقد يجمع بينهما فيكون سياسيًّا حزبيًّا أو حزبيًّا سياسيًّا على حدٍّ سواء، وأنا حين أتكلم عن السياسة في هذه الكلمة فإنما أريد السياسة المطلقة، وهي النظر في شئون الأمة الداخلية والخارجية غير مقيَّدة بالحزبية بحال.. هذا أمر.
- وثانيهما: أن غير المسلمين حينما جهِلوا هذا الإسلام، وحينما أعياهم أمرُه وثباتُه في نفوس أتباعه، ورسوخُه في قلوب المؤمنين به، واستعدادُ كل مسلم لتفديته بالنفس والمال.. لم يحاولوا أن يجرحوا في نفوس المسلمين اسم الإسلام ولا مظاهره ولا شكلياته، ولكنهم حاولوا أن يحصروا معناه في دائرة ضيقة تذهب بكل ما فيه من نواحٍ قويةٍ عمليةٍ
- وإن تُرِكت للمسلمين بعد ذلك قشورٌ من الألقاب والأشكال والمظهريات لا تُسمنُ ولا تُغني من جوع، فأفهموا المسلمين أن الإسلامَ شيءٌ والاجتماعَ شيءٌ آخر، وأن الإسلام شيء والقانون شيء غيره، وأن الإسلام شيء ومسائل الاقتصاد لا تتصل به، وأن الإسلام شيء والثقافة العامة سواه، وأن الإسلام شيء يجب أن يكون بعيدًا عن السياسة!
إيقاظ الوعي بوجوب تحرير الوطن الإسلامي
تقوية الوعي، والشعور بوجوب تحرير الأرض الإسلامية أو أرض الوطن الإسلامي، من كل سلطان أجنبي، وإجلاء المستعمر الغاصب عن ديار الإسلام كلها بكل وسيلة مشروعة، ابتداءً بالوطن الصغير، وادي النيل شماله وجنوبه - مصر والسودان - فالوطن العربي الكبير من المحيط إلى الخليج، وأشهد أن هذا التحديد للوطن العربي كان أول ما سمعته من الإمام البنا رضي الله عنه.. فالوطن الإسلامي الأكبر من المحيط إلى المحيط، من الهادي إلى الأطلسي، من أندونيسيا وما جاورها شرقًا إلى مُرَّاكُش غربًا.
وبهذا الفهم اتسع أفق (الأخ المسلم) ليسع الأمة الإسلامية في مشارق الأرض ومغاربها، فضلاً عن الأمة العربية، فلم يحبس نفسه في قُمْقُم الوطنية الضيقة أو القومية المتعصبة، شأن الأحزاب السياسية السائدة في تلك الأيام.
ومن هنا اهتمَّ الإخوان في مصر بقضية بلدهم الذي يعيشون فيه ومطالبه الوطنية، التي تمثلت في جلاء الإنجليز عن مصره وسودانه، ووحدة وادي النيل، وعقد الإخوان لذلك مؤتمرات كبرى في كافة محافظات مصر ومدنها الكبيرة لتوعية أبناء الشعب بمطالبه، وأُعْلِنُ هنا أني لم أفهم هذه المطالب حقَّ الفهم إلا من لسان حسن البنا، حين وقف في مؤتمر طنطا يشرحها ويردُّها إلى أصولها.
ولم ينسَ الإخوان قضايا فلسطين وسوريا ولبنان في المشرق العربي.. ولا قضايا الشمال الإفريقي أو المغرب العربي: تونس والجزائر ومُرَّاكُش، وقد كان المركز العام للإخوان بمثابة (دار العائلة) لزعماء هذه البلاد وقادة التحرير فيها.
إيقاظ الوعي بوجوب إقامة الحكم الإسلامي
إيقاظ الوعي والشعور بفرضية إقامة (الحُكم الإسلامي)؛ إذ هو الغاية من تحرير الوطن، ذلك أن طرد المستعمر، وتحرير الوطن من نِيره واستعباده ليس هدفًا في ذاته، إنما هو وسيلة لتحقيق هدف كبير، هو أن تحقق الأمة ذاتها، وتعيش بعقيدتها ولعقيدتها، وتدبِّر أمر وطنها وِفْق عقائدها وقِيَمها وفلسفتها الخاصة.
وبلادنا الإسلامية لا تحقق ذاتها، بل لا تتحرَّر حقَّ التحرُّر، إلا إذا تخلصت من كل آثار الاستعمار الثقافي والتشريعي والتعليمي والسياسي وغيرها. ومن هنا كانت إقامة الحكم الإسلامي في ذلك الوقت فريضة وضرورة، فهو فريضة شرعية، وضرورة قومية وإنسانية.
إقامة الأمة المسلمة
وإقامة الأمة المسلمة، التي تنتظم شعوب الإسلام في الوطن الإسلامي أو العالم الإسلامي في رابطة واحدة، تحت راية الإسلام، الذي يجمع ولا يفرق، ويُوَحِّد أبناء القبيلة وراء زعامة محمد عليه الصلاة والسلام.
وقد أشار إليها الإمام البنا في الأصل الأول من (الأصول العشرين) - بجانب الدولة والوطن- هو ما يتعلق بالأمة، فالإسلام دولة ووطن أو حكومة وأمة، فكما يُعْنى الإسلام بالسُّلطة الحاكمة: يُعْنى كذلك- بل قبل ذلك- بالأمة التي تختار السلطة، وتنبثق عنها الدولة.
إيقاظ الوعي بوجوب الوحدة الإسلامية
إيقاظ الوعي والشعور بوجوب الوَحدة الإسلامية وضرورتها. فهي أيضا فريضة دينية، وضرورة دنيوية. والإمام البنا لا يرى تنافيًا بين الدعوة إلى الوَحدة الإسلامية، والدعوة إلى الوَحدة الوطنية، أو الوَحدة العربية، إذا فُهِم كل منها الفهم السليم، ووُضِعَت في موضعها الصحيح.
الترحيب بالنظام الدستوري
حرص الإمام البنا على توعية الإخوان بتحديد الموقف من النظام الدستوري أو النيابي بصفة عامة، ومن الدستور المصري بصفة خاصة.
فقد يقع في وهم بعض الناس، وبعض الإخوان:
- أنهم- حين يعلنون ويهتفون: القرآن دستورنا- يرفضون أي دستور وضعي أو بشري، يضعه الناس لأنفسهم ويتفقون عليه.
ولكن الواقع أن المقصود المفهوم من شعار (القرآن دستورنا):
- أنه هو المرجع الأعلى، الذي نردُّ إليه كل أمورنا، فلا يُقبل أي شيء منها إذا عارض القرآن، فهو الذي يعلو ولا يُعلى عليه، ويَحكم ولا يُحكم عليه.
أما أن يضع المسلمون لأنفسهم نظامًا أو دستورًا ينظم العلاقات الأساسية بين الأمة والدولة، أو بين الحاكم والمحكوم، ويبين الحقوق، ويفصِّل الحريات، ويحدِّد الواجبات، ويوزِّع السلطات، ويضع النقاط على الحروف بالنسبة لنظام الحكم وعلاقاته الداخلية والخارجية، فلا يمنع الإسلام من ذلك، بشرط واحد، وهو: ألا يتعارض مع عقائد الإسلام البيِّنة، وشرائعه المُحكمة، وقِيَمه الموجِّهَة، وأن يسير في ضوء تعاليمه، ولا مانع أن يقتبس من الأمم الأخرى في إطار هذا التوجُّه.
والإمام البنا رحمه الله، كان يؤيد النظام الدستوري والنيابي بصراحة، ويرحِّب به، ويراه أقرب الأنظمة إلى الإسلام، ومن المعلوم أن النظام النيابي الدستوري يأخذ برأي الأغلبية، ويتحدث عن الدستور حديث الأنصار لا الخصوم، قال ذلك في رسالة (المؤتمر الخامس) سنة 1936م، وفي رسالة (مشكلاتنا في ضوء النظام الإسلامي) سنة 1948م.
التنديد بالأحزاب والحزبية
والدعامة السابعة من دعائم التربية السياسية عند حسن البنا: تنبيهه وتأكيده على معارضته للأحزاب المصرية القائمة في ذلك الوقت، وما جرَّته على البلاد؛ بسبب تفرقها واختلافها وتنافرها، وذلك ثمرة للنظام الحزبي البغيض عنده، هذا مع أنه يُقِرُّ النظام الدستوري والنيابي ويراه متفقًا مع الإسلام، كما وضحنا ذلك من قبل.
ولهذا كان من عناصر الفكر السياسي الأساسية عند الإمام البنا : تنديده بتعدد الأحزاب المصرية واختلافها، وتهافتها على كرسي الحكم، واستماتتها في الوصول إليه، ولو بالتقرب إلى المستعمر، الذي يحتل البلاد، ويُذل العباد.
وكان الأستاذ البنا يرى أن الإسلام لا يُقرُّ الحزبية، لسبب واضح عنده، وهو: أنها تؤدي إلى تفرقة الأمة- كما هو الواقع المشاهد- وهو يدعو إلى الاتحاد والائتلاف، كما تدل على ذلك آيات القرآن وأحاديث الرسول الكريم.
وبخاصة أن الأحزاب في مصر قد بلغ بها الاختلاف والتدابر والتخاصم حدًّا أمسى يُنذر بخطر على الوطن، ولا يستفيد منه إلا المستعمر المتربص. كما كان الأستاذ يرى أن النظام الدستوري أو البرلماني- الذي يؤيده ويراه متفقًا مع الإسلام- لا يحتاج بالضرورة إلى النظام الحزبي.
حماية الأقليات والأجانب
والدعامة الثامنة من دعائم التربية السياسية عند حسن البنا : التركيز على حسن الصلة بغير المسلمين عموما، ما داموا مسالمين للمسلمين، وعلى المواطنين منهم خصوصًا ممَّن يعيشون في دار الإسلام.
وقد لاحظنا أن حسن البنا تحدث عن الوَحدة الوطنية في مصر، وعن الوَحدة القومية بين بلاد العرب بعضها وبعض، وتحدث عن الوَحدة الإسلامية بين أوطان المسلمين في المشرق والمغرب، لتكون منها (كتلة إسلامية) تردُّ كيد العدو، وتشدُّ أزر الصديق.
حيث يقول:
- "يا صاحبى...يظن الناس أن التمسك بالإسلام وجعله أساسًا لنظام الحياة، ينافي وجود أقليات غير مسلمة في الأمة المسلمة، وينافي الوَحدة بين عناصر الأمة، وهي دعامة قوية من دعائم النهوض في هذا العصر، ولكن الحق غير ذلك تمامًا، فإن الإسلام- الذي وضعه الحكيم الخبير الذي يعلم ماضي الأمم وحاضرها ومستقبلها- قد احتاط لتلك العقبة وذلَّلها من قبل
- فلم يصدر دستوره المقدس الحكيم إلا وقد اشتمل على النص الصريح الذي لا يحتمل لبسًا ولا غموضًا في حماية الأقليات، وهل يريد الناس أصرح من هذا النص: (لا يَنْهَاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة:8).. فهذا نصٌّ لم يشتمل على الحماية فقط، بل أوصى بالبر والإحسان إليهم."
أخيرا
هذه معالم التربية السياسية عند الإمام البنا، إنها تربية جديدة تخالف التربية التي كانت تقوم عليها الأحزاب والمنظمات السياسية، إن صَحَّ أن كان لديها تربية من نوع ما، كما تخالف التربية التي كانت سائدةً عند الجمعيات الدينية والطرق الصوفية في ذلك الوقت؛ حيث كان الاتجاه العام فيها: تحريم الاشتغال بالسياسة.
كانت تربية حسن البنا للإخوان تربيةً إسلاميةً خالصةً؛ لأنها تستمد مقوِّماتها ومفاهيمها من الإسلام وحده، ومعنى إسلامية التربية عند الإمام حسن البنا - رحمه الله: أنها إسلامية المصدر، وإسلامية الغاية، وهذا ما لا خلاف عليه.