يهود المارانوس بين الأندلس ومصر
مقدمة
تعيش الجماعات اليهودية في جميع البلدان حياة انعزالية في كل تصرفاتها، وانغلاق تام على نفسها في أحياء خاصة بهم سميت بالحي اليهودي، والتي انتشرت – خاصة في بلاد الوطن العربي – مما نتج عنه نفور كثير من المجتمعات في التعامل معها، وذلك لأسباب كثيرة لعل أبرزها الطبيعية اليهودية التي لا تميل لغير اليهودي، ولا تجعله يقدم على إقامة علاقات طبيعية مع الغير.
لقد برزت هذه العزلة والانغلاق منذ بداية التاريخ اليهودي – خاصة بعدما رحلوا إلى مصر- حيث فرض عليهم فرعون مصر حياة العزلة والانغلاق، وكان التمييز العنصري واضح بين المصري واليهودي، مما شكل وجدانه خلال السنين، وجعله يعمل في كثير من الأحيان على الحفاظ على هويته من الذوبان في طوفان المجتمعات.
ومع مرور الأيام كان اليهود يعملون جاهدين على الحفاظ على هويتهم، إلا أن بعضهم تخلى عنها حفاظا على المكتسبات والمناصب والثروات التي حققها.
فالتاريخ اليهودي هو تاريخ اليهود وديانتهم وثقافتهم، بتطوراتها وتفاعلاتها مع الأشخاص والأديان والثقافات الأخرى، فبعد تحرر بني إسرائيل من العبودية المصرية، تاهوا وعاشوا في سيناء لفترة بلغت الأربعين عامًا قبل فتح كنعان سنة 1400 ق. م بقيادة يوشع بن نون.
لقد عاش اليهود بين الاضطهاد والتسلط عبر تاريخهم الذي كانوا يصنعونه بأيدهم، فكان بعض الشعوب والملوك الأقوياء يذيقونهم سوء العذاب والاضطهاد لاختلافاتهم الأيديولوجية والدينية مع بقية الشعوب التي يعيشون فيها، مما يدفعهم للعزلة والعيش حياة الضحية التي تنتظر المنقذ الذي يخلصها من هذا العذاب.
ظلت حياة اليهود بين العبودية ومحاولات الاستعلاء في الأرض، حتى تفرقوا في ربوع الأرض جماعات وشيع، فكان يحلوا البقاء لبعضهم في وطن، في الوقت الذي كان يستمر البعض في التنقل بين الشعوب، وبذلك تفرقوا شيعا وجماعات في أماكن كثيرة منها شبه الجزيرة الايبيريه ومصر.
عاش اليهود في هذه الأماكن بين الاضطهاد تارة والرخاء تارة أخرى، إلا أن القاسم المشتركة بينهما كانت تفصل بينهما ما يقرب من خمسة قرون، حيث تترس يهود أيبريا خلف المسيحية للنجاة من محاكم التفتيش، كما تترس يهود مصر بعد ثورة 23 يوليو خلف الأسماء الإسلامية والمصرية للنجاة من قانون عبد الناصر الذي صدر بحق اليهود بسحب الجنسية.
مارانوس أيبيريا
عاش كثير من اليهود حياة الترحال والتنقل، حتى بلغت منهم مجموعة بلاد الأندلس عام 70م، وكان ذلك قبل وصول المسيحية أوروبا. عمل اليهود على الحفاظ على أنفسهم في جيتو يهودي، حتى يواجهوا المتغيرات على أرض الواقع، وظلوا كذلك حتى بلغت المسيحية الأراضي الأوربية (1).
كان انتصار المسيحية في القرن الرابع الميلادي بداية القهر والتمييز بالنسبة لليهود في ديار المسيحية، حيث عارضوا احتكار اليهود للثروة، فعاملوهم كجالية موجودة على أراضيهم ففرضوا عليهم الضرائب، وسنوا القوانين التي تفرق بينهم وبين غيرهم.
ظل اضطهاد اليهود يأخذ أشكالا متعددة، مما دفع اليهود إلى استخدام عملية التقية والاختفاء بعقيدتهم من بطش النصرانية، حتى طرق الإسلام أبواب الأندلس فسارع اليهود للتعاون مع المسلمين – ليس حبا في الإسلام – بقدر ما هو هربا من حياة الذل والاستعباد التي يحيونها.
غير أن اليهود وجدوا حسن المعاملة من المسلمين، فعاشوا وسطهم حياة آمنة، ونتيجة لهذه المعاملة نزح الكثير من يهود أوروبا إلى الأندلس واستوطنوا اشبيلية وقرطبة وطليطة وغيرها، حتى أصبح لهم أحياء مميزة، بل وصل بعضهم لمناصب صنع القرار في البلاد مثل حسداي بن شبروط والذي صار وزيرا للمالية وسفيرا قبل أن يعينه عبد الرحمن الثالث حاخاما أكبر ليهود الأندلس (2).
إلا أن الوضع تبدل في أواخر الدولة الإسلامية، حتى أن اليهود ساعدوا الممالك النصرانية في محاربة الدولة الإسلامية، إلا أن الحال لم يدم كثيرا فقد انقلبت الممالك المسيحية على اليهود بعدما قويت شوكتها، وتمكنت من البلاد، حتى أنه ظهرت في مرحلة متأخرة، مجموعة مختلفة من القوانين تعبر عن تحيز واضح ضد أعضاء الجماعة اليهودية الذين كانوا قد بدأوا يفقدون شيئا من أهميتهم الوظيفية.
وتعكس هذه القوانين بدايات التدهور الذي ألم باليهود، حيث حرم على اليهود مغادرة منازلهم في عيد القيامة، أو أن يكونوا في أي مركز يسمح لهم بالسيطرة على المسيحيين، كما حدد عدد المعابد اليهودية (3).
لم تستمر حياة الرخاء التي ظل اليهود يعيشون فيها أثناء الحكم الإسلامي وبداية الحكم المسيحي فترات طويلة، لكن الحال تغير مع تغير مجريات الواقع.
فما إن فرغت الممالك المسيحية من الوجود الإسلامي حتى تنازعها الوجود اليهود، حيث كان لدى المسيحي عقيدة أن اليهودي يريد قتله وأطفاله لإحياء طقوسهم الدينية.
بدأت الاضطرابات ضد أعضاء الجماعة اليهودية في إسبانيا المسيحية على نطاق واسع عام 1391، ثم انتشرت في كل أرجائها، مما دفع آلاف اليهود للتنصر، وهو ما سبب مشكلة للحكم إذ كان فصل المتنصرين عن بقية اليهود أمرا لا مفر منه، وكذلك التأكد من جدية ولاء المتنصرين حتى لا يتظاهر بعضهم بالمسيحية لتحقيق الحراك الاجتماعي وهم يبطنون اليهودية، وسمي هؤلاء «المارانوس»، وكان هذا دافعا لإقامة محاكم التفتيش.
زاد اضطهاد الطائفة اليهودية في الأندلس (المارانوس) وذلك في عام 1412، حينما صدرت قوانين حرمت على اليهود الاشتغال بالطب أو الحرف أو الاتجار مع المسيحيين، كما ألغت محاكم اليهود الخاصة (4).
ووقعت أحداث وصدمات كثيرة وأزهقت أرواح وزاد التعنت ضدهم مما اضطر كثيرا من اليهود إلى النزوح من إسبانيا والتوجه إلى بلاد الشرق خاصة الدولة العثمانية والتي نعموا بالاستقرار في ظلها.
ظل بعض اليهود في إسبانيا لكنهم اتخذوا قرارا بالتحول إلى النصرانية هربا من الاضطهاد من قبل المسيحيين، ولذا ظهرت للجماعة اليهودية هويتان، الهوية اليهودية الأصلية الباطنية، والأخرى المسيحية الشكلية والتي قادتهم خيانة بعضهم البعض حفاظا على مناصبهم، بل وصل الأمر أن اخترع بعضهم محاكم التفتيش (5).
كانت الظروف مهيأة أمام اليهود للتخلي عن هويتهم ودينهم – ظاهريا – في سبيل العيش والمحافظة على المكتسبات التي تحت أيديهم، ولذا ظهرت فئة المارانوس خاصة بعد زواج فرديناند وإيزابيلا عام 1469م، حيث ظهرت محاكم التفتيش.
وبناء على رغبة إيزبيلا تأسست محاكم التفتيش عام 1471م، حيث أقنع رئيس الرهبنة الدومنيكي الملكة إيزابيلا بأن بعض اليهود الذين تحولوا إلى المسيحية لا يزال يمارس اليهودية سراً فقامت بتشكيل محاكم خاصة للنظر في مصداقية هذا الإدعاء، وقد استجاب لها بابا الكاثوليك (6).
وهو الأمر الذي دفعت يهود المارانوس على الفرار، يقول أحمد صالح عبوش: أن عملية طرد اليهود من إسبانيا والبرتغال " في نهاية القرن الخامس عشر جعل من إنجلترا مكانا للاجئين لعدد من سكانها السابقين من اليهود المعروفين بالمارانوس Marranos والذين شكلوا جاليات خاصة بهم (7).
حاول اليهود التأقلم مع الأوضاع التي كانوا يعيشون فيها لكن مع مرور الزمن، عمدوا لتكوين تنظيمات جديدة ضد أحكام محاكم التفتيش بعدما فشلوا في الاندماج مع المجتمع المسيحي، حيث عارضت هذه الجماعات المجمع المسيحي الكاثوليكي، مثل حركة الإصلاح البروتستانتي وحركة المتنورين والتي تأسست في ألمانيا في 1 مايو 1776م على يد آدم وايسهاوبت (8).
مارانوس مصر
مع مرور الزمن وتلاشي الأخطار التي حاقت باليهود، عمل اليهود على إعادة المارانوس اليهود إلى يهوديتهم الحقيقية بعد زوال الأخطار التي كانوا يتعرضون لها، غير أنه يبدو أنهم كلما تعرضوا للأخطار عادوا وتخندقوا خلف المارانوسية الحديثة، وهذا ما حدث بعد حرب 1948م حيث أصبح بموجبها كيان للصهاينة في فلسطين، مما دفع معظم اليهود في العالم العربي عامة ومصر خاصة إلى النزوح تحت ضغط الأحداث ومجريات الأمور إلى دولتهم الناشئة في فلسطين.
إلا أن من تبقى ورفض النزوح تقوقع داخل الجيتو اليهودي، وتعايش مع المجتمع بعدما قام بتغير جلده واسمه إلى أسماء مصرية بل ومسلمة، ليسهل عليه العيش أو يكون عينا لدولته الناشئة.
فمن المعروف أن اليهود في مصر تواجدوا منذ نزوح يعقوب عليه السلام إلى مصر في عهد ابنه الوزير يوسف عليه السلام، وحينما اضطهدهم الفرعون المصري وخرج بهم موسى عليه السلام بقى البعض راضيا بحياته الجديدة، بينما خرج الباقين الذين عاشوا في فلسطين سنوات وسنوات، إلا أن معظمهم عاد إلى مصر في فترات طويلة هربا من الاضطهاد الذي تعرضوا له منذ وطأت أقدامهم أرض فلسطين، سواء أثناء الغزو الآشوري أو البابلي، حتى أنهم استقروا خلال العصر البطلمي، حول الإسكندرية - وبالأخص في منطقة كفر الدوار الحالية – حيث استمر نفوز اليهود يزداد في الدولة الرومانية حتى قاموا بثورة في الإسكندرية في عهد الإمبراطور ترجان عام 114ق.م، وفرض اليهود سيادتهم لبعض الوقت على مناطق من البلاد قبل أن يقضي جيش تراجان على هذه الانتفاضة، كانت نتيجة ثورات اليهود، أن قلص الرومان امتيازتهم، ففي عام 70 للميلاد، وبالرغم من عدم اشتراك يهود مصر في الثورة التي حدثت في فلسطين، فإن السلطات الرومانية أغلقت معبد اليهود بمنف، كما ألزم اليهود بدفع ضريبة (9).
وظل الحال بهم حتى الحكم الإسلامي حيث ترك لهم مجال العبادة، وبلغت ذروة نفوذهم في عهد الدولة الفاطمية بمصر حيث بلغ منهم الوزراء مثل يعقوب بن كلس.
وبعد افتتاح قناة السويس عام 1869، أقبل اليهود من بلاد كثيرة للاستثمار في مصر وتأسيس البنوك، ومحاولة الاستفادة من الحالة الجديدة التي قفزت إليها مصر بصفتها حاضنة لأهم معبر مائي في العالم، وكان البنك العقاري المصري الذي تأسس عام 1880، أول البنوك وأسسته ثلاث عائلات يهودية هي سوارس ـ رولو ـ قطاوي. وقد لعب هذا البنك دورا خطيرا في الاقتصاد الزراعي المصري فنتيجة القروض التي منحها للملاك الزراعيين، أصبح يتحكم في أكثر من مليون فدان من الأرض المصرية الخصبة. كما أسست تلك العائلات بنكين آخرين هما البنك الأهلي والبنك التجاري، بحيث أصبحت كل أشكال التجارة لابد أن تمر من خلال اليهود، هذا غير العديد من الشركات والبنوك بحيث سيطروا على معظم اقتصاد البلاد.
ظل اليهود في مصر حتى العصر الحديث وبداية إرهاصات تكوين وطن قومي لليهود في أرض فلسطين على حساب سكانها الأصليين، ويبدوا أن معظم زعماء العالم وافقوا على هذا القرار في سبيل نزوح اليهود عن أوطانهم – خاصة أن الشعوب سخطت عليهم – وليكونوا أداة ضد شعوب العالم العربي (10).
نجح اليهود بمصر في الدولة الحديثة من السيطرة على المراكز الرئيسية في الاقتصاد المصري، ومساندة القيادات الفكرية والثقافية. والواقع أن الطائفة اليهودية لم تدخر جهدا في استثمار كافة الظروف لصالح أبناء الطائفة في البداية ثم لخدمة الحركة الصهيونية من خلال شبكة علاقات متعددة، ومن خلال الجمعيات اليهودية مثل جمعية مصر للدراسات التاريخية اليهودية والتي تأسست عام 1925م.
وحينما اندلعت الحرب العالمية الثانية اتسع النشاط الصهيوني في مصر، وفي يناير 1945م انعقد المؤتمر الصهيوني الأول ليهود مصر في الإسكندرية وتم انتخاب يعقوب وايزمان رئيسًا للجنة التنفيذية الصهيونية في مصر.
حيث اهتم الاتحاد الصهيوني بتوجيهات من قيادته في القدس بتنشيط جمع الأموال للصناديق اليهودية عن طريق اللجان التي تشكلت في القاهرة والإسكندرية، وبالفعل تم جمع مبلغ مائة ألف جنيه مصري بين عامي 1943 و1944م، وتم نقلها سرًّا إلى المنظمة الصهيونية ومؤسساتها في فلسطين.
كما اتخذ التجار اليهود قرارًا بعدم إعطاء إعلانات صحفية عن محالهم للجرائد التي تتحامل على الصهيونية.
وليس ذلك فحسب بل بدأت المنظمات الصهيونية تحث اليهود على الهجرة إلى الكيبوتسات (المستوطنات بفلسطين) (11).
امتلك اليهود الصحف التي عبرت عن وجهة نظرهم مثل صحيفة الشمس والتي صدرت عام 1934م وتوقفت عام 1948م وكان صاحبها سعد يعقوب مالكي وكانت هذه الصحيفة لسان حال الصهيونية في مصر, كما أصدروا صحيفة الكليم في فبراير 1945 وكان صاحبها يوسف كمال.
تورط عددًا كبيرًا من يهود مصر في مساندة الصهيونية والدعاية لها وجمع التبرعات من أجلها، فقد اهتمت المنظمة الصهيونية العالمية بالنشاط الصهيوني في مصر، وبدأت منذ صيف 1943م بإرسال مبعوثين إلى القاهرة للعمل على تنشيط الحركة الصهيونية، وقد سهلت قوات الاحتلال البريطاني في مصر عمل هذه البعثات، والتي كانت تهدف إلى جمع الأموال من اليهود في مصر وسرعة إرسالها إلى فلسطين، والتركيز على القطاع الشبابي اليهودي، وفي إطار التركيز على الشباب تكونت ثلاث منظمات شبابية: الأولى: الطلائعي الشاب: وكانت كوادرها الأساسية من أندية المكابي، وتبعتها حركة الكشافة المصرية اليهودية، وكانت حاصلة على ترخيص من وزارة الشئون الاجتماعية في مصر، وبلغ عدد أعضائها عام 1944م حوالي 500عضو، والثانية هي العبري الشاب، وبلغ عدد أعضائها عام 1943م من 500 : 600عضو، والثالثة هي مجموعة بني عقيبا، وكان عدد أعضائها يتراوح بين 120 : 150عضوًا، هذا غير التنظيم الشبابي التابع للمنظمة الصهيونية الجديدة في مصر، والتي أنشأها ألبير شترا سلكي، وكان عدد أعضائها 100عضو حتى عام 1944م (12).
تغيرت الأوضاع بالنسبة لليهود خاصة بعدما أصدر فاروق القرار رقم 138م لسنة 1947م والمختص بأحكام الشركات المساهمة حيث عمد إلى تمصير الشركات بنسبة كبيرة فجاء في المادة الرابعة أن يكون نسبة المصريين 40 % من مجلس الادارة، وفي المادة الخامسة أن لا يقل عدد المصريين العاملين عن 75 %، وكانت المادة السادسة تأكيدا للاتجاه للتمصير والتي جاء فيها تخصيص 51 % للمصريين في أي شركة من الشركات (13).
ومع حرص اليهود على التماسك إلا ان الطبقية كانت متغلغلة في أوساطهم حيث كانت الطبقة الارستقراطية تعيش في الأحياء الراقية سواء الزمالك او جاردن سيتي ومصر الجديدة، لكن الفقراء كانوا يعيشون في حارات اليهود الفقيرة حيث الجيتو اليهودي الاختياري (14).
لقد انكشف القناع عن اليهود في مصر كلما اقتربت حرب فلسطين عام 1948م حيث زادت دعايتهم، ونشطوا في جمع المال وارساله لليهود بفلسطين ليعاونهم على شراء الأراضي ومحاربة الفلسطينيين، بل قام اثنين منهم باغتيال اللورد موين - وزير المستعمرات البريطاني – في الزمالك يوم 6 نوفمبر 1944م بغرض إحراج مصر أمام بريطانيا حيث قبض على الجناة وعلى رأسهم روفائيل سادوفسكي وقدموا للمحاكمة التي حكمت بإعدامهم إلا أن مثل هذه الحوادث أحرجت الطائفة اليهودية في مصر وعلى رأسهم رينيه قطاوي رئيس الطائفة، بالإضافة لذلك أن الحركات الشيوعية التي انتشرت في مصر كان ورائها بعض اليهود (15).
كان كثير من اليهود لا يشعرون بوطنهم مصر حيث كانت تتملكهم الأيديولوجية اليهودية، فكانوا يتحدثون باللغات الأجنبية كما كانت تصدر صحفهم باللغة الأجنبية وليس العربية، وكانوا يعمدون إلى البعد عن مصر والاستعداد لخروج اليهود إلى وطنهم إسرائيل.
زادت نشاطات اليهود بمصر أثناء حرب 1948م وما بعدها، إلا أنهم شعروا بالخطر خوفا من رصد تحركاتهم ودعايتهم لدولتهم الناشئة، مما دفع بعضهم لترك مصر فأدى ذلك لتقلص عدد اليهود في مصر منذ عام 1948 بشكل كبير؛ إذ بلغ عددهم في حينه 75 ألفاً (وبعض المؤرخين يقدر عددهم بـ85 ألفاً).
ومن ثم كان قيام اسرائيل عام 1948 واندلاع الحرب بين اليهود والعرب اثره في تحديد دور طائفة اليهود في مصر، وبعد قيام ثورة يوليو، ازداد الموقف اضطرابا، بعد ان تغيرت موازين القوى بين العائلات اليهودية والسلطة الحاكمة في مصر، فقام معظمهم بتصفية اعماله واملاكه، وهاجر الكثير منهم الى اوروبا واميركا واسرائيل.
عملية لافون ومارانوس القرن العشرين
في وقت من الأوقات على اليهود في مصر علوا عظيما إلا أنهم لم يحافظوا على هذا العلو فكان سقوطهم المدوي أمام قضايا الوطن، وأمام أحداث فلسطين ومحاولة الصهيونية السيطرة عليها، بل أن هرتزل زاد عليهم الأمور تعقيدا بتصريحه السابق: إن سيناء والعريش هي أرض اليهود العائدين إلى وطنهم.
إلا أن الشيخ حسن البنا صرح بأن فلسطين هي خط الدفاع الأول؛ والضربة الأولى نصف المعركة، فالمجاهدون فيها إنما يدافعون عن مستقبل بلادكم وأنفسكم وذراريكم كما يدفعون عن أنفسهم وبلادهم وذراريهم (16).
تسارعت الأحداث حتى وقعت حرب فلسطين، فبدأ يهود مصر في النزوح من مصر، وما أن وقعت ثورة 23 يوليو حتى خرج منها العديد من اليهود – خاصة أرباب المال – إلا أن البعض ظل فيها ممتثلا لأوامر الصهيونية من أجل القيام بعمل تجسسي، وتخريبي داخل مصر مثل الشبكة اليهودية التي تم تشكيلها في صيف 1951، بواسطة الرائد، إفراهام دار، رجل الوحدة "131" التابعة لجهاز المخابرات الإسرائيلية، الذي أرسل إلى مصر في شخصية مزيفة كرجل أعمال بريطاني الجنسية، يحمل اسم، جون دارلينج، لإقامة قاعدة العمليات في مصر.
حيث تمكن من تجنيد جماعات من اليهود المصريين ليقيم بعدها خليتين، واحدة في القاهرة والأخرى في الإسكندرية، وبعد ذلك عاد إلى إسرائيل وانفصل عن العمليات حتى المراحل الأخيرة ليتولى رئاسة الشبكة، أفري إلعاد، خلفا له لكنها انكشفت وهي ما عرفت بقضية لافون، حتى أن الجيش الإسرائيلي حرص على إخفاء أي معلومات عنها، ودار خلاف وقتها عن المسؤول الرئيسي عن إصدار أمر تشكيل الشبكة المخابراتية، ذلك لأن وزير الدفاع نفسه، يتسحاق لافون، المتهم الأساسي في القضية، لم يكن على دراية بموعد تنفيذ العملية (17).
ففي شهر يونيو 1954 شارفت المفاوضات المصرية البريطانية على الانتهاء، بشأن انسحاب القوات البريطانية من قناة السويس، الأمر الذي زاد من المخاوف الإسرائيلية بتمكن الجيش المصري من التمكن واستخدام معسكرات ومطارات الجيش البريطاني المتروكة في شبه جزيرة سيناء وغيرها، ولهذا بحثت أجهزة المخابرات العسكرية الإسرائيلية إمكانيات عرقلة هذا الانسحاب من خلال تفعيل خلية إرهابية يهودية مصرية، للتخريب في مرافق بريطانية وأمريكية ومصالح غربية في مصر والإيعاز بأن هذه العمليات تمت من قبل خلية مصرية، وقد نجحت الخلية والتي ضمت 13 يهودي صهيوني مصري من الإسكندرية بتنفيذ عدة عمليات، ومنها تفجير السينما وغيرها.
فقد انفجرت قنبلة حارقة أمام مكتب الاستعلامات الأمريكي في القاهرة ثم لحقتها قنبلة ثانية انفجرت أمام مكتب الاستعلامات الأمريكي في الإسكندرية واحتجت الولايات المتحدة على الحكومة المصرية بسبب هذه الأضرار التي لحقت بمنشآتها في مصر بسبب مناخ التهييج والإثارة، والغريب أن المصادفات وحدها هي التي سارعت بكشف المخطط الإسرائيلي ففي الساعة السادسة والنصف من مساء يوم 24 يوليو 1954 اشتعلت النار في ملابس يهودي.
وبدأ التحقيق معه فإذا اسمه " فيليب ناتاثون" وإذا هو عضو في شبكة من اليهود, بعضهم من مصر وبعضهم من إسرائيل كلفوا بنسف عدد من المنشآت الأمريكية في مصر واعترف " فيليب ناتاثون " على شركاء له بينهم " فيكتور لافي " و" روبير داسا" ، وفيكتورين نينو الشهيرة بمارسيل وماكس بينيت وإيلي جاكوب ويوسف زعفران وسيزار يوسف كوهين وإيلي كوهين.
وفي 11 ديسمبر عام 1954م حكمت المحكمة على بعضهم بالإعدام وأخرين بالأشغال الشاقة المؤبدة، وفي 31 يناير 1955 تم تنفيذ حكمي الإعدام في موشية مرزوق (دُفن بمقابر اليهود بالبساتين) وصمويل عازار (دُفن بمقابر اليهود بالإسكندرية) (18).
ولقد نشرت روزاليوسف: عدة خطابات أرسلها جهاز الموساد للرئيس جمال عبد الناصر عن طريق ضابط أسير وقد انتهت هذه الرسائل بالإفراج عن المتهمين في فضيحة لافون الشهيرة وتسليم بعض جثث القتلى اليهود ونحو ستة جنود وقعوا في الأسر مقابل الإفراج عن 6000 أسير مصري في عام 1967 وذلك بعيدا كما .ومتبع عن هيئة الصليب الأحمر، وتم الإفراج عام 1968م (19).
غير أن هذه الحادثة وغيرها من الحوادث جعلت السلطة بعد ثورة 23 يوليو تضيق الخناق على اليهود الموجودين في مصر، وزاد التضييق خاصة بعد العدوان الثلاثي عام 1956م بسبب مواقف يهود مصر من العدوان، حتى أن السلطة وجهة لهم تهمة التجسس لصالح إسرائيل ومعاونة المعتدين في معرفة الثغرات أثناء العدوان، بل قام عبد الناصر بطرد بعضهم واضطهاد أخرين – كما زعم محللين السياسيين في الغرب -، بل أن الباحث اليهودي ميشال أم.ليسكر يحاول أن يؤكد على مواجهة اليهود المصريين لحملة عدائية وحملة اعتقالات واسعة في صفوفهم، بل والتهجير القسري خاصة الموجودين بالقاهرة والإسكندرية (20).
ويقول الدكتور نبيل عبد الحميد استاذ التاريخ المعاصر والحديث: كل الظروف تضافرت في اخراج اليهود من مصر بعد الثورة فعبد الناصر كزعيم له مسار وطني شعر أن من واجبه اخراج اليهود، وبخاصة بعد فضيحة لافون، بالإضافة الى ان الفكرة الصهيونية سيطرت على عقول اليهود في مصر، ففي اسرائيل كانوا يروجون لفكرة ارض الميعاد، والاستقرار والوطن القومي، وهذه تيمات عزف عليها الصهاينة لكن الترحيل الفعلي لباقي اليهود تم بعد عام 1961 بعد صدور قرارات التأميم، فلم يعد لليهود مكان في الحياة الاقتصادية ففروا بأموالهم وأنفسهم (21).
وتؤكد إيتى فريسيمو – إحدى اليهوديات بالإسكندرية والتي خرجت من مصر بعد 1956م- «بدأ ذلك في أغسطس 1956، كان عمرى 13 عامًا، بدأ الأمر يسوء بسرعة، شركة والدى تم تأميمها من قبل الحكومة، وطردنا من مصر. لم نكن صهاينة، والنظام المصري هو من أراد ذلك» (22).
مما دفع بعضهم إلى تسمية أنفسهم وأبنائهم بأسماء مصرية ومسلمة، خوفا من أن يلحق بهم الأذى، ومن ثم عودة ظهور طائفة المارانوس في العصر الحديث، حيث عبرت عن ذلك ماجدة هارون – رئيسة الطائفة اليهودية في مصر – حينما سألتها إسعاد يونس في برنامجها صاحبة السعادة على قناة CBC في حلقة خاصة عن " اليهود في مصر عام 2016م [ازاي قدرتوا تعيشوا في مصر وعبد الناصر كان بيعتقلكم ويرحلكم لإسرائيل]، فجاءت إجابتها موضحة التحول المارانوسي في هذه الفترة بقولها: كنا بنعمل بطايق بأسماء مسلمين علشان نقدر نعيش بأمان في مصر (23).
وفي تصريح لليوم السابع عام 2015م ذكر ألبير أريه أن الطائفة اليهودية الموجودة في القاهرة تتكون من 7 أشخاص فقط، وباقي اليهود أسلموا أو ماتوا وأولادهم مسلمون، ومن سخرية القدر أن آخر مرة كانوا عاملين غداء في العيد اللي فات في المعبد كان فيه واحدة يهودية بنتها محجبة وذهبت معها إلى المعبد اليهودي، وامرأة أخرى يهودية أولادها مسلمون هم الذين دفنوها، وفى الإسكندرية حتى رئيس الطائفة اليهودية «يوسف جاعون» أسلم مع أن جده كان ترزي الملك فاروق، وكان يعيش في عمارة على ناصية الشواربى وعندهم أملاك كثيرة (24).
وهكذا عاش من تبقى من يهود مصر بأسماء أخرى للهروب من الاضطهاد الذ شهدته فترات عبد الناصر، وللعمل كجواسيس للكيان الصهيوني تحت مسميات مصرية إسلامية.
المراجع
- محمد بحر عبد المجيد: اليهود في الأندلس، الهيئة المصرية العامة للتأليف والنشر، القاهرة، 1970م، صـ 6
- أمريكو كاسترو: إسبانيا وتاريخها: المسيحيون والمسلمون واليهود، ترجمة على إبراهيم منوفي، المجلس الأعلى للثقافة، 2002م، صـ 541.
- عبد الوهاب المسيري: موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية، دار الشروق، القاهرة، 1999م ، صـ 4574.
- المرجع السابق، صـ 4575
- أمريكو كاسترو: إسبانيا وتاريخها، مرجع سابق، صـ 605.
- رمسيس عوض: من أوراق الحروب الصليبية ومحاكم التفتيش في إيطاليا، طـ1، القاهرة، الشروق، 2011م، صـ71.
- أحمد صالح عبوش: إنجلترا في عهد اوليفر كرومويل 1649-1658 “دراسة تاريخية”، لمكتب العربي للمعارف، مصر، 2015، صـ 184.
- أنظر http://cutt.us/iDACC
- ياسين سويد: التاريخ العسكري لبني إسرائيل من خلال كتابهم: قراءة جديدة للعهد القديم، الجزء الأول: شركة المطبوعات للتوزيع والنشر، لبنان, 1998م.
- زبيدة محمد عطا: اليهود وتجارتهم في مصر الإسلامية، الدار الثقافية للنشر، القاهرة، 2007م، صـ108
- عواطف عبد الرحمن: المشروع الصهيوني (الاختراق الصهيوني لمصر من 1917 – 2017) طـ1، العربي للنشر والتوزيع، القاهرة، نوفمبر 2017م، صـ35 - 38
- محمود سعيد عبد الظاهر: يهود مصر دراسة في الموقف السياسي، سلسلة الدراسات الدينية والتاريخية، مركز الدراسات الشرقية جامعة القاهرة، العدد 17 لسنة 2000م، صـ 113-116.
- أنطون الصغير: محيط الشرائع (1856- 1952) المجلد الثاني، (من ث إلى ش) صـ2286.
- عرفة عبده علي: يهود مصر بارونات وبؤساء، دراسة تاريخية، ايتراك للنشر والتوزيع، القاهرة، 1997م، صـ11.
- المتحف القضائي: حكم القضايا السياسية، قضية اللورد والترموين، جنايات عابدين، رقم 94.
- مجلة النذير، العدد 18، السنة الأولى، 2 شعبان 1357ه- 26 سبتمبر 1938م، صـ3-5.
- عبدالعزيز صبحي: فضيحة لافون.. كيف جمعت كراهية عبدالناصر الإخوان والإسرائيليين؟، موقع دوت مصر، الاثنين، 11 مايو 2015م
- عباس السيسي: في قافلة الإخوان المسلمين، الجزء الثاني، دار التوزيع والنشر الإسلامية، 2000م.
- مجلة روزا اليوسف، العدد رقم 3581، بتاريخ 15 يناير 1997م.
- Michael M. Laskier: From war to war: The Jews of Egypt from 1948 to 1970، 1986، p 111
- الشرق الأوسط: الثلاثـاء 12 جمـادى الاولـى 1423 هـ 23 يوليو 2002 العدد 8638، الرابط
- شهادات يهود مصريين في أمريكا والبرازيل، التهجير كان خوفاً وأمراً بعد العدوان الثلاثي: المصري اليوم: الرابط
- صحيفة الوطن: الرابط
- محمد ثروت - نورهان فتحي: ألبير أريه" أقدم يهودي في مصر يفتح خزائن أسراره لليوم السابع، الرابط