هوس الخوف من الانقلاب .. عبد الناصر والانقلاب الديني عليه

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
هوس الخوف من الانقلاب عبد الناصر والانقلاب الديني عليه


مقدمة

تمثل الجندية القاعدة الأساسية لبناء الدولة، ولها الفضل والشرف الكبير، لأن جنودها وهبوا أنفسهم للدفاع عن الدين والنفس والمال والعرض والبلاد. والجندية ركيزة من ركائز الإسلام، ودعامة من دعاماته التي قام عليها، لأن النظريات العسكرية قامت على الإعداد والتخطيط، بعد حسن التربية والإيمان، ولذا وجب على الجندي الذي وهب نفسه للدفاع عن العرض والبلاد أن يتحلى بشيم الأخلاق الإنسانية، والصفات الأساسية التي تجعله يترفع عن الدنايا. ففي كل وطن سواء كان مسلم أو غيره الجميع يعتز بصفته العسكرية والتي لا ينازعها معاني الخيانة أو الجبن.

ولقد أدرك الاستعمار هذه الصفات فعمد إلى تغير العقيدة العسكرية لدى الجنود المسلمين، خاصة حينما انتهت الحرب العالمية الثانية وظهور قوى أخرى متمثلة في أمريكا والاتحاد السوفيتي وتراجع بريطانيا وفرنسا عن الصدارة، وقتها أدرك الجميع أن سياسة الاستعمار المباشر أصبح ليس لها نفع بل تكبد المستعمر الخسائر البشرية والاقتصادية

في ظل صحوة الرأي العام للشعوب، ومن ثم عمد إلى فرض سيطرته بالوكالة، حيث كون ودرب الجيوش العربية وجعله عقيدتها مبنية على أفكاره وتوجهاته وسياساته وخدمة مصالحة، ولذا برز عنصر القوة بين رجال الجيش الذين سعوا لفرض نفوذهم على الجميع بقوة السلاح، بل والانقلاب على الديمقراطية المنتخبة من الشعوب. والدولة العسكرية تعني سيطرة المؤسسة العسكرية (الجيش) على مقاليد الحكم في الدولة، بحيث تكون الكلمة الأولى والأخيرة للرجل العسكري أو لمجموعة الرجال العسكريين الذين يقفون على رأس هذه المؤسسة العسكرية.

يقول المفكر رفيق حبيب:

أنه لا مكان لتداول السلطة أو اختيار الشعب لقيادته السياسية في الدولة العسكرية، وتصادر إرادة الشعب بالقوة التي يملكها العسكريين.

وقد يكون الحكم العسكري متخفّيا في لباس الحكم المدني، وهذا شكل من أشكال الدولة العسكرية المقنعة؛ حيث تمارس فيها الآليات الديمقراطية كتداول السلطة والانتخابات ولكن في إطار مقيّد، يسمح للجيش بالتدخل إذا وجد أنّ الديمقراطية تأتي بنتائج لا تتفق مع علمانية الدولة. العجيب أن التدخل العسكري في الحياة السياسية بالوطن العربي أصبح يثير جدلاً كبيراً، نظرا لتخطيه حدود وظيفته، وتغوله على الحياة العامة للمدنيين، الأمر الذي لا يسمح ببروز دولة متطورة بمؤسسات تشريعية وتنفيذية تكون نتاج صناديق الاقتراع.

العسكر والانقلابات

كانت بداية معرفة العالم العربي بالانقلاب كان في سوريا حينما قام حسني الزعيم بانقلاب عسكري في سوريا عام 1949م – بعد هزيمة الجيوش العربية في حرب فلسطين - وهو الانقلاب الذي شرع للتدخل العسكري في شؤون السياسة والحكم.

يقول أحمد مريسي:

تلا انقلاب الزعيم، أحد عشر انقلابا في الوطن العربي – حتى يومنا هذا 2014- على الملكيات والأنظمة الديمقراطية، كان آخرها الإطاحة بأول رئيس مدني منتخب للشعب المصري في العام 2013، بقيادة الفريق عبد الفتاح السيسي، وذلك قبل أن يدعم عسكر السودان الثورة وينقلب على البشير الذي مكنهم من السلطة.

الثمه الغالبة في الدول العسكرية هي الخوف والفزع من أن يقوم أحد رفقاء السلاح بالانقلاب عليهم، وهذا ما رأيناه في سوريا فقد حدث انقلاب في مارس 1949م ثم وقع انقلاب عليه في أغسطس من نفس العام والذي قام به سامي الحناوي ومعاونه محمد أسعد طلس ضد حسني الزعيم قبل أن ينقلب أديب الشيشكلي في ديسمبر 1949م على سامي الحناوي ثم كان انقلاب 1951 ثم 1954 ثم 1961 وغيرها.

وفي العراق كان انقلاب عبد الكريم قاسم على الملكية عام 1958م وذلك قبل أن ينقلب عليه عارف على قاسم عام 1963م، ثم البعثيين في شهر يوليو من عام 1968م على حكم الرئيس عبد الرحمن عارف الذي جاء به انقلاب 1963م ولكن أحمد حسن البكر وصدام حسين وحردان التكريتي قاموا بحركة أخرى بعد الانقلاب بأيام قليلة 30 يونيو، حين طردوا أبرز العسكريين الذين قاموا بانقلاب 17 يونيو، وذلك قبل أن يتحرك صدام حسين في 22 يوليو 1979م ليطيح برفاقه، حيث كانت هذه الحركة كما يعتبرها الكاتب كريستوفر هيتشنز، "لحظة فاصلة أصبح فيها صدًام سيدًا مطلقًا للعراق وهو ما يقابل ليلة السكاكين الطويلة في ألمانيا النازية"

ففي 22 يوليو عقد صدام حسين الذي أزاح احمد حسن البكر من الرئاسة، اجتماعًا، ادعى فيه أنه كشف خيانات داخل حزب البعث العربي الاشتراكي. وباعترافات القيادي البعثي عبد الحسين، الذي أقر بتعامله مع القيادة السورية آنذاك للانقلاب على صدام، اعترف بـقائمة تحتوي على 68 اسمًا، وبعد قراءة قائمة أسماء "الخائنين"، تمت محاكمتهم وإدانتهم بالخيانة. وحكم على 22 منهم بالإعدام، ليخلو الجو لصدام حسين ويستمر بالحكم حتى خلعه عام 2003م. (1)

عبد الناصر وخوفه والسيسي من الانقلابات

كان أول انقلاب يقوم به العسكر في 23 يوليو 1952م وكان المخطط الرئيسي هو عبد الناصر، حيث أجمع المعاصرين والمؤرخين أنه لم يخطط لهذا الانقلاب بسبب الأوضاع التي وصلت إليها مصر، لكن لرغبته الجامحة في بلوغ السلطة، وهو ما ذكره محمد نجيب وخالد محي الدين وعبد اللطيف البغدادي في مذكراتهم، وظلت هذه النزعة مسيطرة عليه طيلة فترة حكمه، وظل الرعب يتملكه من غدر الأصدقاء مما دفعه للإطاحة بهم واحد تلو الأخر، بل وصل الحال بسجن بعضهم وقتل أخرين.

يقول أحمد ممدوح:

في مكان بعيد داخله أخفى عبد الناصر مخاوفه الحقيقية من الإطاحة به من فوق كرسيه. أخافه تضخم دور عبد الحكيم عامر داخل الجيش، مثلما أفزعته كذلك تحركات الطلبة خاصة في نهاية الستينات غداة الهزيمة إلى حد التفكير في قصفهم بالطائرات. مدفوعًا بالخوف ارتكب الرجل الكثير من الخطايا التي ما زال خصومه يمسكونها عليه إلى اليوم.

لقد أحدث عبد الناصر الكثير التغييرات في سياسته لكن في باطن تلك التغييرات كان عبد الناصر يستهدف خلخلة سلطة رفاقه من زملاء الثورة وعلى رأسهم عبد الحكيم عامر الذي تلقى عرضًا من ناصر أن يشغل منصب نائب رئيس الجمهورية في المجلس الجديد مقابل أن يترك قيادة الجيش لقائد محترف يختاره المجلس. لم يدرك عبد الناصر أن عرضه لعامر كان بداية الشقاق وطي السكاكين خلف الظهور، لأن الأخير أظهر تمسكا كبيرا بقيادة الجيش وكأنها حقًا مكتسبًا، أو نصيبه في تركة البلد من حركة الجيش في 1952.

يكشف عبد الناصر في اجتماع اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي في 3 أغسطس - آب 1967 رد فعل عبد الحكيم فيقول:

"سنة 62 لما كنا عايزين نعمل مجلس رئاسة، واتفقنا أنه يسيب الجيش ونعين قائد محترف، وبعد ما تم الاتفاق قدم استقالة وهرب مني 3 أيام لغاية ما جبته". (2)

ويفسر الدكتور خالد فهمي - أستاذ التاريخ في الجامعة الأمريكية - الشكل الذي انتهت به أزمة 1962م، بأن عبد الناصر كان يخشي انقلابًا عسكريًا، لذلك قبل بالتنازل لعبد الحكيم عامر عن سلطة تعيين الرتب العليا في القوات المسلحة، وهو القرار الذي كان سببا في نكسة 1967م لنقص الخبرات والقدرات القيادية لدى عامر.

يقول مدحت أبو الفضل:

فالخوف من الانقلاب جعل عبد الناصر يسلم الجيش لصديقه المؤتمن وبذلك ضاع الجيش وضاعت معه مملكة عبد الناصر بهزيمة 67م وكما يقول حسين الشافعي أن عبد الناصر مات بالفعل يوم 5 يونيو 1967م.

ويقول ثروت عكاشة في مذكراته:

أن عبد الناصر قال لعامر أنه تعجب من مطالب بعض الضباط الذين رفعوا عريضة ممهورة بتوقيعهم يطالبه فيها بعودة عامر وشمس بدران للجيش بعد هزيمة 67م، فجاء رد عامر: وماذا يضيرك في هذا طالما اتخذت قرارك بالتنحي وانتهى الأمر؟ فأجابه: وهل كنت تريد مني أن أسلم رقبتي لحمزة البسيوني وأمثاله من الضباط المدنسين. (3)

بل يكشف عبد الصمد محمد عبد الصمد - النائب في مجلس الأمة فترة الخمسينات والستينات، وصديق عامر المقرب وابن بلدته في المنيا- في كتاب العشاء الأخير للمشير، عن رغبة عبد الناصر الدائمة في بث روح المنافسة والشقاق بين عبد الحكيم عامر وعبد اللطيف البغدادي كونهما من أقوى رجال الثورة. (4) كان خوف عبد الناصر من أن يحدث عليه انقلاب يسيطر على كل مفاصل حياته حتى من المدنيين خاصة الإخوان، حتى أن خالد محي الدين ذكر أن جمال عبد الناصر طلب من أعضاء مجلس الثورة تكوين تنظيم سري للتخلص من الإخوان والشيوعيين وطبقة الباشوات الرجعية.

كان أيضا تدخل عبد الناصر في كثير من سياسات الدول العربي ومساعدة الضباط على الانقلاب لعسكرة الدولة أو إلغاء الملكية وإعلان الجمهوريات دافعا لخوف عبد الناصر أن يتكاتل عليه الجميع ليدبروا له انقلاب يطيح به. وهو ما جعل شمس بدران وصلاح نصر يرسموا سيناريو انقلاب لتخويف عبد الناصر عام 1965م حيث أوهموه بأن الإخوان يعدون العدة للقيام بالانقلاب عليه، مما سهل لهم تحريكه كيفما شاءوا.

الانقلاب الديني المزعوم

كان عبد الناصر يخاف من كل شيء ويخشى الانقلاب عليه من أي شيء، مما جعله يظل طوال فترة حكمه متوقعا انقلابا عليه حتى ولو كان من بعض المشايخ، وهذا ما نحاول أن نلقى عليه الضوء الآن، فهذا الانقلاب لم يكن انقلابا عسكريا يخطط له ضد عبد الناصر لكنه كان انقلابا دينيا مزعوما.

حاول الدكتور يوسف القرضاوي إلقاء الضوء على هذا الانقلاب المزعوم الذي ضم أعضاء من ذوي المشايخ، حيث تكلم عن الانقلاب الذي قبض عليه بسببه عام 1962م فيقول: بعد أن انتهت السنة الدراسية (1961، 1962م) كان لا بد من العودة إلى القاهرة، بعد عناء سنة دراسية، وبعد رحلة الحج، وبعد العودة كانت المفاجأة وفاة اخي وصديقي محمد الدمرداش مراد، حيث شاركت في عزاءه واتجهت لمنزل خالي وخالتي للجلوس عندهم يومين بصحبة زوجتي والأولاد، غير أنه واحد من قبل عمدة القرية، وهمس في أذن خالي: إنهم في دوار العمدة يحتاجون إلى فضيلة الأستاذ، لمدة خمس دقائق.

ورأيت وجه خالي قد تغير واكفهر، فسألته: ماذا في الأمر؟ فأخبرني الخبر. فقلت له: لا بأس، أذهب إلى دوار العمدة، وهي فرصة للسلام عليه، ولبست حلتي الإفرنجية "البذلة" مستعدًا لهذا اللقاء. وعندما ذهبت إلى دوار العمدة قالوا: الحقيقة أن مركز المحلة هو الذي طلب الأستاذ. وهم ينتظرونه عند المحطة، حتى لا تحدث ضجة في البلد، وأمر العمدة بعربة "الحنطور" أن توصلني إلى المحطة، لكنهم اتجهوا بي إلي طنطا.

وذهبنا إلى تفتيش المباحث العامة في طنطا، وكان رئيسه يعرفني منذ اعتقال سنة (1954م) ، ولما دخلت عليه رحب بي، وسألني في دهشة: هل فعلت شيئًا يا شيخ يوسف في قطر قبل أن تأتي؟ قلت له: لو كنت فعلت شيئًا يؤاخذ به الإنسان في مصر، لبقيت في قطر، ولم أنزل برجلي إلى مصر مختارًا! قال: معقول. طيب، هل فعلت شيئًا في مصر بعد أن وصلت؟ قلت: وهل أنا لحقت أفعل أي شيء؟ إن لي أيامًا معدودة في مصر، شغلت فيها بمرض صديق لي، ثم وفاته ودفنه من يومين.

قال الرجل: فلماذا يطلبك الجماعة في مصر "القاهرة" ؟ وهم يطلبون معك زميلك في قطر: أحمد العسال! على كل حال أعتقد أن الأمر بسيط، ولهذا لم يشددوا في طلبك، وأنت لك خالة هنا أخذناك من بيتها أيام "الهوجة" وتستطيع أن تخرج من هنا، وتذهب إليها، وتبيت عندها، وغدًا في الثامنة صباحًا تكون عندنا. قلت له: أفعل إن شاء الله.

خرجت من تفتيش المباحث، لا متجهًا إلى بيت خالتي، ولكن إلى سنترال الهاتف "التليفون" لأكلم جماعتنا في القرية، فلا بد أنهم في غاية القلق، إذ ذهبت إلى دوار العمدة لخمس دقائق، كما قالوا، ولم أعد، ولا يعرفون ماذا حدث، وليس في منزل خالتي تليفون حتى أتكلم منه، فليس أمامي إلا السنترال، لأكلم منه أقرب تليفون إلى جماعتنا في القرية. وقد عرفت منهم أنهم ذهبوا إلى المحلة بحثًا عني، وأنهم لم يجدوني هناك، وقال لهم بعض الناس: إنهم أخذوني إلى طنطا. كان تليفوني هذا مهمًّا، ولا سيما لزوجتي التي أصابها من الاضطراب والقلق ما أصابها، وهي بعيدة عن منزلها ومستقرها.

طمأنتهم أني بخير، وأني سأبيت عند خالتي لأذهب إلى القاهرة في الصباح، لأجيب عن سؤالهم، ثم أعود في المساء إن شاء الله، وبعد ذلك ذهبت إلى خالتي لأبيت عندها كما اتفقت مع رئيس المباحث. ولم أكد أدخل بيت خالتي، حتى وجدت الجو مكهربًا، والأعصاب متوترة، وقد بادروني بالسؤال: ماذا حدث؟ إن القوم جاءوا يسألون عنك. وعجبت مما جرى، هل غيّر القوم رأيهم بهذه السرعة؟ وقالت خالتي: يمكنك أن تخرج من هنا الآن، لتذهب إلى بيت واحدة من ابنتي خالتك، حتى الصباح.

قلت لها: لا داعي، سأبقى هنا حتى يأتوا ليطلبوني، ولتجر المقادير في أعنتها، ويقضي الله ما يشاء. وما هي إلا دقائق، حتى حضر رجال المباحث، ولم يهنئوني بتناول العشاء، وذهبت معهم إلى تفتيش المباحث، واعتذروا لي بأن الرئاسة في مصر، بعد أن وافقوا على أن تذهب إليهم غدًا، رجعوا فطلبوا إرسالك إليهم على وجه السرعة.

والآن نحن ننتظر زميلك العسال، لنرحلكما معًا إلى القاهرة. وقد أبقوني في حجرة المكتب، وظللت أكثر من ثلاث ساعات، وأنا أتابع بحثهم عن العسال، وكيف لم يجدوه عند أصهاره في طنطا، وبعد مزيد من البحث لم يعثروا له على أثر، فطلبوا من مركز بسيون الاتصال بقريته في الفرستق، وتكيف شيخ الخفراء بالذهاب إلى بيت والده، فإن كان موجودًا أتوا به إلى طنطا فورًا، وأمسكت قلبي بيدي: ماذا سيكون وقع هذا الطلب على والدة العسال، وهم يطلبونه في الساعة الواحدة بعد منتصف الليل؟ وما هي إلا دقائق حتى أبلغ مركز بسيون طنطا: أن العسال ليس في قريته، وأنه غادرها من عدة أيام.

كان مكتب المباحث بطنطا مشغولًا بالبحث عن العسال، ومكتب القاهرة يستعجل وصولنا أنا والعسال، فلما لم يجدوا العسال؛ قرروا أن يرسلوني وحدي، وفي الغد يرسلون صاحبي. ووصلنا إلى القاهرة، وسلمني إلى مكان معين، ومن هذا المكان نقلني إلى موضع آخر، ومنه إلى مكان هو السجن الحربي، ولنا به نسب وصلة قديمة، وقد وصلت إليه مع تباشير الفجر، ووضعت في زنزانة من زنازين الحربي التي جربناها طويلًا من قبل

وفي الصباح ألقوا إليَّ بقطعة خبز جافة صلبة كأنها الحجر، ولا أذكر هل كان معها إدام أو لا؟ ولم يكن عندي رغبة في تناول أي طعام. ثم ما لبث أن جاء حلاق السجن، وعرض عليَّ أن يحلق لحيتي، فأبيت، وظل الرجل يلح عليَّ أن يحلقها لي حتى لا تسبب لي الأذى، كما سببت لآخرين، كلفوا أن ينتفوها بأيديهم، وما زال هذا الحلاق يغريني ويحذرني؛ حتى سلمت له لحيتي فحلقها.

وما هي إلا ساعات، حتى نودي عليَّ للرحيل إلى مكان آخر، وركبت سيارة عسكرية وجدت فيها أخي أحمد العسال، بعد أن جاءوا به، دون أن يستطيع أحدنا أن يكلم الآخر، وأخذنا إلى مكان جديد، لا عهد لنا به من قبل، فليس هو سجن مصر، ولا سجن القناطر، ولا سجن القلعة، ولا طرة، ولا غيرها، ولكنه مبنى في شكل عمارة كبيرة، فيها حجرات كثيرة، وقد وضعت في حجرة منفردة، ووضع أخي العسال في حجرة أخرى بجوارها، وقد عرفت في آخر المدة أنه مبنى المخابرات في منطقة سراي القبة.

وفي المساء نودي عليَّ للتحقيق معي، وأنا لا أدري في أي شيء سيحققون معي، وعن أي شيء سيسألونني؟ ويبدو أن الذين يسألونني من الضباط الذي يلبسون ملابس مدنية، أظنهم كانوا ثلاثة أو أربعة.

وقد بدأوا سؤالي: هل تعرف أحدًا في الدُّقي؟ قلت: نعم أعرف جماعة سعودي: الحاج سعودي وإخوانه.

قالوا: ألا تعرف أحدًا آخر؟

قلت: لا أذكر الآن.

قالوا: ألا تعرف عبد العزيز كامل؟

قلت: بلى، أعرفه جيدًا.

قالوا: فلماذا تنكر، وقد زرته أكثر من مرة.

قلت: لم أنكر، ولو سألتموني مباشرة لأجبت بالإيجاب. وهل في معرفة عبد العزيز كامل أو زيارته تهمة؟

على أن عبد العزيز كامل عاش دهرًا وهو من سكان إمبابة، وهو حديث عهد بسكنى الدقي، ولذا لم يخطر ببالي لأول وهلة.

قالوا: هل تعرف أحدًا من ضباط الجيش؟

قلت: لا أذكر أحدًا غير معروف الحضري، وقد كان معنا في السجن الحربي.

قال: عادتكم تنكرون كل شيء، وليس هناك طريقة تنطقكم غير طريقة حمزة البسيوني والسجن الحربي.

قلت: وماذا أنكرت أنا حتى تقول هذا الكلام؟

قال: ألا تعرف الضابط محمود يونس؟

قلت: بلى، أعرفه.

قالوا: فلماذا ادعيت أنك لا تعرف أحدًا؟

قلت: لو سألتني عن معرفة محمود يونس ما أنكرت، ولكن هذه معرفة قديمة، ولم أره منذ سنين، وصلته بالأخ العسال أقدم وأوثق.

قالوا: وهل تعرف صلة محمود يونس بعبد العزيز كامل؟

قلت: أظنه كان يريد أن يتزوج ابنة أخته أو نحو ذلك، فهذا هو سر صلته به فيما أعلم.

قالوا: أهذا كل صلته بعبد العزيز كامل؟

قلت: هذا كل ما أعلمه عن صلته به، وأي صلة يمكن أن تكون بين يونس وكامل؟

قال أحدهم: هكذا أنتم أيها الإخوان، تتخذون دائمًا سبيل الجحود والإنكار، ما لم تستخدم معكم أدوات تجبركم على الكلام.

قلت له: والله، ما عندي شيء أخفيه.

وسألوني بعض الأسئلة عن قطر، وعن عملي في قطر... ثم أمروني بالانصراف، وأنا لا أدري شيئًا عن هذه الأسئلة التي وجهت إليَّ، ولماذا سئلت عن عبد العزيز كامل ومحمود يونس دون العالمين؟ وهل انتهى التحقيق معي أو لا زالت له بقية؟ كل هذه الأسئلة بقيت معلقة لم أجد لها جوابًا.

ومع هذا بقي وضعي ووضع زميلي معلقًا، لا أدري ما تهمتي؟ وهل أغلق ملف التحقيق معي أو لا يزال مفتوحًا؟ وإن كان أغلق، فلماذا لم يفرج عني؟ وفي أي مكان أنا؟ وما هذه الصرخات والآهات التي أسمعها أحيانًا إذا جن الليل؟ كل هذه الأسئلة ونحوها لا أجد من يجيبني عنها، إلا أنني قضيت حبسي في زنزانة انفرادي، و لقد قال علماء الاجتماع المحدثون: إن الإنسان حيوان اجتماعي

وقال الأقدمون: الإنسان مدني بطبعه، أي لا يستطيع أن يعيش وحده، بل يحيا مع غيره في جماعة. لهذا كان السجن الانفرادي عقوبة في غاية القسوة، ولا سيما إذا طال؛ ومن هنا خلق الله آدم وأسكنه الجنة، ولكنه لم يدعه وحده، بل خلق له من نفسه زوجًا ليسكن إليها، وقال له: "ٱسكُن أَنتَ وَزَوجُكَ ٱلجَنَّةَ" (البقرة: 35) ، إذ لا معنى لجنة يعيش الإنسان فيها منفردًا بلا أنيس ولا جليس.

ومع قسوة هذه الفترة كان لا بد للإنسان أن يرضي نفسه بالواقع، وأن يتصبر ويروض نفسه على الصبر ليصبره الله، كما وعد بذلك الحديث الصحيح: "ومن يتصبر يصبره الله"، وقد بقيت فترة اعتقالي في مبني المخابرات العامة كما علمت من العسكري الذي يعطيني الطعام. وبعد فترة اقتربت من الشهرين اعتقال أفرج عنا من مبني المخابرات وكان بعيدًا عن العمران وسط المزارع، بمنطقة قصر القبة أو سراي القبة، وإن كان اليوم قد أحاط به العمران من كل جانب.

وبعدما عدت تحدثت زوجتي معي حول اعتقالي فقالت: ذهبت أنا وخالك إلى الشيخ الغزالي في وزارة الأوقاف، وإلى الشيخ عبد الله المشد في الأزهر، وإلى غيرهما ممن يعرفونك، ليساعدونا في الوصول إليك، فحاولوا واجتهدوا، ولكنهم عجزوا أن يفعلوا شيئًا، أبدوا لنا أسفهم واعتذارهم، وذرفت الدموع من عيني الشيخ الغزالي، وهو يعتذر إلينا عن عجزه أن يفعل لنا شيئًا، وقال لي: الله معكِ يا بنتي! وثقي أنه إن شاء الله سيعود إليك بخي. (5)

متهم في انقلاب لا أعرف عنه شيئًا

ولقد سألتني زوجتي، وسألني صهري، وسألني خالي، وسألني بعض المقربين من إخواني عن التهمة التي أُخذت فيها، وغيبت عنهم من أجلها: ما هي؟ قلت لهم: علمي والله علمكم، وأنا في الحقيقة لم توجه لي تهمة، ولا أعلم: لماذا أخذوني وحجزوني عندهم هذه المدة؟ وكل ما سألوني عنه شخصان، لا أعلم عنهما شرًّا، ولا أعرف لهما جرمًا، وهما: الأستاذ عبد العزيز كامل، والضابط محمود يونس، ولا أدري سر السؤال عنهما، ولا الربط بينهما.

وما هي إلا أيام حتى عرفت من الناس التهمة التي أُخذتُ بها، وهي شبهة المشاركة في انقلاب ديني الطابع، دبره بعض الضباط في الجيش، مع فئة من القيادات الدينية الصوفية، وعلى رأسهم: الدكتور حسن عباس زكي، وزير الاقتصاد السابق، والأستاذ عمر مرعي، شقيق السيد مرعي، رئيس مجلس الشعب، ومعهما الأستاذ عبد العزيز كامل، وقد قال الأستاذ عبد العزيز الشوربجي، المحامي المعروف: إن هذا الانقلاب لا وجود له إلا على ورقات تحمل مجرد أفكار وتخيلات، لدى بعض الضباط! ولم يثبت التحقيق على أي من هؤلاء ما أخذوا به، وقد أفرج عنهم جميعًا بعد ذلك دون أن يدانوا بشيء.

أما تهمتي أنا والعسال - كما تخيلوها- فهي أننا ممولون من الخليج للانقلاب المزعوم. وذلك لما لنا من صلة بالأستاذ عبد العزيز كامل، والضابط محمود يونس!! وكيف نكون ممولين، ونحن لا زلنا حديثي عهد بالخليج، فلم يمض أكثر من تسعة أشهر لي في قطر، والعسال كان قبلي بسنة دراسية، فماذا عسى أن يكون لنا من مال نسهم به في تمويل انقلاب؟! إنها الأوهام والخيالات التي يركض وراءها أحيانًا رجال الاستخبارات، يحسبون السراب ماء، حتى إذا جاءوه لم يجدوه شيئًا.

وأعتقد أنهم اكتشفوا هذا الخطأ منذ حققوا معنا أول ليلة كنا فيها عندهم، وأننا ليس لنا في الثور ولا في الطحين، بدليل أنهم لم يستدعونا للسؤال مرة أخرى، ولكن الذي أمر باعتقالنا نسينا، أو أهمل أمرنا، حتى مضى علينا نحو خمسين يومًا، بعيدين عن أسرنا وأهلينا. (6) هكذا كانت توضع التهم خوفا ووجلا من أي لفظ يصدر بمعنى الانقلاب على الزعيم الأوحد الذي كان يخشى أن يفقد كرسيه، فجاء خوفه من كل شيء.

وهكذا يسير عبدالفتاح السيسي الذي قام بانقلاب على الرئيس المنتخب محمد مرسي في يوليو 2013م فقد أصبح يخاف من الاطاحة به بأي وسيلة، حيث سارع بالإطاحة بكل من شاركه الانقلاب من القادة العسكريين، ثم فعل مثلما فعل عبد الناصر حينما قتل عامر، سارع السيسي بعد فشل محاولة اغتيال صدقي صبحي بأن أطاح به رغم تحصين الدستور له، وما زال السيسي يرتعب من كلمة انقلاب خوفا على أن يحدث ما لم يكن في الحسبان ويعزل عن كرسي الرئاسة.

المراجع

  1. تمام أبو الخير: تعرف على أبرز الانقلابات في تاريخ العراق، 05/10/2019م
  2. أحمد ممدوح: شيء من خوف الزعيم: الفرص الضائعة في حياة عبد الناصر، 14 يناير 2020م
  3. ثروت عكاشة: مذكراتي في السياسة، دار الشروق- مكتبة الأسرة، القاهرة، 2004م، صـ918.
  4. عبد الصمد محمد عبد الصمد: العشاء الأخير للمشير، مؤسسة دار التعاون للطبع والنشر، القاهرة، 1979م،
  5. يوسف القرضاوي: سيرة ومسيرة، الحلقة 79، موقع القرضاوي
  6. المرجع السابق.