هل للإسماعيلية دور في نشأة دعوة حسن البنا؟
استمرار لمسلسل الكذب الذي انتهجه بعض الصحفيين والإعلاميين والباحثين العاملين وفق إطار منظومة النظام العسكري المصري وشركاءه السعوديين والإماراتيين خاصة في تشويه صورة الإخوان المسلمين عامة ومؤسسها حسن البنا خاصة، والتي من أجلها رصدوا مليارات الدولارات من أجل تحقيق هذا الهدف، على الرغم من النتائج العكسية لكل أعمالهم وتصرفاتهم، وكان أداة - دون أن يدروا - للترويج لجماعة الإخوان المسلمين ومنهجها ووسطيتها.
خرج علينا بعض الكتاب يتسألون بخبث حول مهية اختيار الإسماعيلية لتكون انطلاقه لدعوة الإخوان المسلمين، وأخذوا ينبشون عن أى معلومات أو مواقف تؤيد رؤيتهم، مما اضطرهم إلى لى الحقائق وتصورها على غير واقعها من أجل إثبات صحة ما يقولون وما يزعمون، حيث زعموا أن البنا ألح في العمل في الإسماعيلية بناء على اتفاق بينه وبين الاستعمار الانجليزي والذي هو المؤسس الفعلي لجماعة الإخوان المسلمين وفق ما يدعيه بعض الكتاب الذين اكتشفوا هذا السيل من المعلومات بعد الانقلاب العسكري في مصر عام 2013م.
فنرى مثلا الكاتب علي العميم – أحد كتاب النظام السعودي المهتم بتزيف الحقائق – يستند إلى ما كتبه أحمد السكري عن اتصالات الإخوان وحسن البنا بالقوى الأجنبية في بداية نشأة الجماعة.
كما نرى صحيفة عكاظ السعودية تتناول نفس القضية بنفس المنهج معتمدة أيضا على ما كتبه أحمد السكري دون تمحيص أو وقوف على أدلة سوى ما كتبه أحمد السكري بعدما تم فصله من الجماعة عام 1947م، ولو كان في كلامه دليل ما قال ما قام الإخوان بنشر ما كتب في صحيفة صوت الأمة الوفدية على مواقعهم، ولكن التاريخ لا يكتب بقلم شخص، أو بموقف من المواقف.
كما أدلى إبراهيم عيسى بدلوه في هذا الصدد عبر برنامجه الذي يقدمه من أجل تشويه الإخوان، حيث ذكر أن هذه المدينة عرفت حينها بأنها مقرا للشكرة العالمية لقناة السويس، وكانت محافظة الإسماعيلية وسط بين سيناء والشرقية، وإن حسن البنا روج العديد من الأكاذيب عن محافظة الإسماعيلية التي اختارها لأن تكون منشأ جماعة الإخوان
حيث زعم حسن البنا أن الإسماعيلية منقسمة بين حى الأفرنجى للبريطانيين وحى العربى للفقراء العاملين في قناة السويس – رغم أن حسن البنا لم يروج شيء لكنها الحقيقية الواقعية الثابتة في كتب التاريخ ولدى أهل الإسماعيلية أنفسهم – وأن البنا اختار المقاهي ليسهل خدع الناس بكلامه وخوفه من العلماء رواد المساجد. (1)
وحاول الكتاب السعوديين والمصريين تأكيد الأمر بأن الشيخ حسن البنا سعى إلى لقاء البارون دي بنوا - مدير شركة قناة السويس – من أجل الحصول منه على أموال لبناء مسجد ومدارس الإخوان.
ثم أخذت الصحيفة تؤل الموقف وفق ما ترى حيث ذكرت:
- هذا ما حدث ولا شك أن الهبة الإنجليزية التي تلقاها البنا كانت ضخمة جداً بمعايير ذلك الزمان .. ولم ترق إجابة البنا للسكان المحليين حينها، وكثر الهرج والمرج بين السكان لأنهم يدركون بأن الإنجليز لن يقدموا تلك الأموال بلا مقابل، لذلك ظل البنا يواجه الكثير من الاتهامات إلى أن امتص غضبهم لاحقاً بتأكيده أن تبرعات أهل البلد كانت كافية لإكمال بناء المسجد
- وأن المال الإنجليزي سيذهب إلى دار الإخوان المسلمين تحديداً، وكان هذا المال الإنجليزي السخي هو حجر الأساس في تأسيس "معهد حراء الإسلامي" ومدرسة "أمهات المؤمنين" وعدد من شعب وفروع الجماعة في المناطق المجاورة للإسماعيلية، في شبراخيت والمحمودية وأبو صوير وبورسعيد والبحر الصغير والسويس والبلاح.
وتناقض الصحيفة نفسها بقولها:
- وبالرغم من تنامي الشكوك والاتهامات حول حقيقة نوايا الجماعة وطبيعة أهدافها، بالإضافة إلى تزايد الإشاعات التي شككت في البنا وما يصبو إليه، إلا أن القاعدة الجماهيرية للجماعة كانت تتعاظم وظل الكثير من الأتباع على عهدهم وبيعتهم للمرشد والجماعة لأسباب متعلقة بتأصيل منهج الطاعة العمياء ومحدودية الفكر والمعرفة لدى الشريحة الكبرى منهم، إذ كان غالبية الذين شاركوه في بناء النواة الأولى للتنظيم هم من الطبقات الدنيا القابعة في القاع الاجتماعي والاقتصادي، لتكشف لنا عن طبيعة الأساس الذي نشأت عليه الجماعة في الإسماعيلية.
وأن الإنجليز دعموا الإخوان من أجل مجابهة الوفد الذي كانت تتنامي شعبيته – في ذلك الوقت كان الوفد أفضل حزب يخدم الانجليز ولا دليل أقوى من الدبابات التي حاصرت قصر عابدين 1942م لفرض حكومة الوفد والنحاس باشا حتى أن أحمد ماهر باشا ذكر للنحاس أن حكومته جاءت على أسنة الدبابات. (2)
كما ساقها ياسر حلمى الشاعر في كتابه "التاريخ الأسود للجماعة بين يهودية حسن البنا وماسونية الإخوان" والذي ملأه بالأكاذيب والتأويلات الخبيثة من أجل أن يقدم معلومة إلا أن الكتاب خرج مشوها في صورته المقيتة وكذبه الفواح ... وغيره كتب أيضا الكثير في هذا المضمار سواء كتاب تابعين للنظام أو شيوعيون صبوا جل حقدهم في هذا الأمر دون تقديم دليل أو الحيادية في تناول التاريخ.
لكن لن نهاتر كثيرا مع ما يكتبه هؤلاء لكننا سنحاول دحض فرية أن البنا حرص على اختيار الإسماعيلية دون غيرها للتعين فيها من أجل أن يكون تحت رعاية الإنجليز - كما ذكر هؤلاء.
هل طلب البنا التعيين بالإسماعيلية؟
ولد حسن البنا في مدينة المحمودية بمحافظة البحيرة، وتنقل بين بعض مدنها لاستكمال مراحل تعليمه، وحينما خرج منها خرج إلى القاهرة لاتمام تعليمه الجامعي في دار العلوم بجامعة فؤلاد الأول، وظل هذه الفترة متنقلا بين القاهرة والبحيرة، وبعض مدن كفر الشيخ مثل مدينة دسوق.
فلم يكن البنا رحال حتى يتعرف على البلاد، كما أنه منذ صغره وهو يناصب المستعمر الغربي العداء، إلا أن تربيته الإسلامية جعلته يتمسك بكل ما هو إسلامي، ووضع أهدافه بناء على هذه التربية
والتي لخصها بقوله:
- هو أن أكون مرشدًا معلمًا، إذا قضيت في تعليم الأبناء سحابة النهار ومعظم العام، قضيت ليلي في تعليم الآباء هدف دينهم، ومنابع سعادتهم ومسرات حياتهم، تارة بالخطابة والمحاورة، وأخرى بالتأليف والكتابة، وثالثة بالتجول والسياحة. (3)
كان حسن البنا يحلم بالعمل الإسلامي المنظم الذي يكون حجر عثرة أمام المستعمر الغربي ومخططاته، وهو ما دفعه أن يلازم كبار العلماء أمثال الشيخ يوسف الدجوي والشيخ رشيد رضا والشيخ عبد العزيز الخولي والشيخ محمد العدوي والأستاذ محمد فريد وجدي ويحاججهم من أجل الدفاع عن الدين والوطن والعمل على تشكيل هيئة من العلماء تعطي الدعوة بعض وقتها
ويتخلوا عن كونهم دعاة موظفين من أجل التصدي لحملات التغريب وطمس الهوية التي تجرى على قدم وساق من قبل المستعمر، وفتحه البلاد على مصرعيها أمام حملات التبشير، ونهب ثروات الوطن، حتى كلل ذلك بالنجاح بعدما أنشأوا مجلة الفتح لتكون صوت الدعاة أمام ما يقوم به الإستعمار وأنصاره لطمس الهوية الإسلامية.
تخرج حسن البنا ليكون من أوائل دفعته إلا أنه تفاجأ بتعينه في مدينة الإسماعيلية – والتي لم يكن قد عرفها أو زارها من قبل – وليس كما ادعى البعض أنه اختارها عن علم ودراية واستراتيجية لكونها مقر القوات البريطانية – حيث لم يضع ذلك في اعتباره، ومما يعضض ذلك أنه سعى على موضوع البعثة إلى الحجاز إلا أن الأوضاع السياسية بين مصر والسعودية في ذلك الوقت لم تكن على ما يرام ولم تكتمل إجراءات ابتعاثه إلى السعودية
حيث يقول:
- ولقد وجدت عند بعض الإخوان الكرام فكرة التقدم بطلب الترشيح للبعثة إلى الخارج باعتبار أن ذلك من حق الأول في الدبلوم دائما. لكنها لم تتم حتى فيما بعد.
ويضيف عن طريقة توزيع المتخرجين من دار العلوم على الوظائف – حيث كان ترتيبه الثالث بين المتخرجين - وأراحني من هذا التردد أن دار العلوم لم ترشح لهذا العام أحدا فلم يبق إلا الوظيفة، وكنت أظن أنها لا تعدو أن تكون في مدارس القاهرة، ولكن كثرة المتخرجين في هذا العام وقلة غدد الذين طلبتهم وزارة المعارف - فهي لم تطلب اكثر من ثمانية
وتركت الباقين لمجالس المديريات - لم تجعل لأحد في القاهرة نصيبا وصدرت الأوامر باثنين فقط، هما الأول والثاني، فكان نصيبي الإسماعيلية، وكان نصيب الأستاذ إبراهيم مدكور حينذاك - والدكتور إبراهيم مدكور الآن - الإسكندرية ثم عصفت به السياسة إلى إدفو، فاستقال وسافر إلى أوربا ليتمم دراسته على نفقته، وألحق بعد ذلك بالبعثة الحكومية. وكان نصيب إخواننا الستة الوجه القبلي.
فوجئت بهذا التعيين ولم اكن أدري أين الإسماعيلية بالضبط وذهبت إلى ديوان المعارف معترضا، فلقيني أستاذنا عبد الحميد بك حسني وبدعابته اللطيفة وروحه المرح استطاع أن يهدئ من غضبي، واستعان بفضيلة أستاذنا الشيخ عبد الحميد الخولي - رحمه الله - وكان يزوره حين ذلك
ودخل علينا الأستاذ علي حسب الله، ابن الإسماعيلية البار، فاستشهدا به على أنها من خير بلاد الله، وأنني سأجد فيها الخير والراحة، فهي بلد الهدوء وجمال الطبيعة والإنتاج الوفير، وعدت فاستشرت الوالد، فقال على بركة الله، والخير ما يختاره. فانشرح صدري بذاك، وأخذت أعد العدة لهذا السفر. (4)
وحينما بدأ حسن البنا مشروعه الدعوي لم يقتصر على المقاهي فحسب – كما ادعى البعض – لكنه عمل في كل الأماكن أولا لنشر فكره الإسلامي وثانيا لدراسة هذه الأماكن ومعرفة مدى قبولها للمنهج الإسلامي أو رفضه، فقد دعى رواد المساجد، كما أنه سعى لتعليم التلاميذ شعائر الدين الإسلامي عمليا وليس في نطاق الفصل فحسب، فكان يخرج بهم إلى المساجد ليعلمهم الوضوء والصلاة بطريقة عملية
حتى أن المهندس عثمان أحمد عثمان يذكر جانب من ذلك في مذكراته بقوله:
- كان المرحوم حسن البنا، مدرسًا للغة العربية والدين، في مدرسة الإسماعيلية الابتدائية، وكان شابًا في العشرينات من عمره.. وجدت عنده "رحمه الله" سعة صدر، وعطفًا.. كان يحبنا فأحببناه، وتعلقنا به.
- كان لا يكتفي بما كان يعلمه لتلاميذه داخل قاعة الدرس، ولكن كان يطلب منا أن نحضر كل يوم المدرسة، قبل موعد الدراسة بساعة كاملة، وعندما نحضر كان ينظمنا في شكل طابور، ويسير بنا إلى المسجد القريب من المدرسة، فيعلمنا الوضوء السليم، ثم نصلي فرض الصبح، ويعود بنا بعد ذلك إلى المدرسة مرة أخرى.
- وأذكر أنني كنت أنام وأنا أحلم بذلك اللقاء اليومي الذي أحببته، وكنت أنتظره بفارغ الصبر، ولم يقتصر الأمر عند ذلك الحد، ولكن كان يكرر – رحمه الله – نفس الأمر في موعد كل "فسحة"، كان يطلب منا أن نعود مرة أخرى إلى المدرسة بعد أن نتناول غداءنا في منازلنا، وكنا نجده – رحمه الله – في انتظارنا فيصطحبنا إلى المسجد لكي نؤدي فرض صلاة الظهر، ونعود بعد ذلك لاستكمال حصص اليوم الدراسي. (5)
كما تعرف حسن البنا على مجتمع الأعيان وشرح فكرته عن الإسلام فأعجب به كثير من كبار أعيان الإسماعيلية وعلمائها – وليس كما يدعى المغرضون أن أنصاره من الأمين والفقراء – أمثال الشيخ محمد حسين الزملوط - المقاول الكبير بالإسماعيلية وخال عثمان أحمد عثمان – كما كان في الإسماعيلية في ذلك الحين نادي العمال الذي أنشأته جمعية التعاون، وكان فيه نخبة من الشباب المثقف، وقد انتهز البنا هذه الفرصة، واتصل بهم، وأخذ يلقي بعض المحاضرات الدينية والاجتماعية والتاريخية، التي كانت سببًا في تهيئة نفوس كثير من المثقفين للدعوة المستقبلية.
كما يؤكد عثمان أحمد عثمان أن المجتمع الإسماعيلاوي كان ينقسم شطرين – كما ذكر البنا وذلك تفنيدا لما يسوقه إبراهيم عيسى أن الإسماعيلية لم تكن مقسمة – وأنه كان جزء منها يخص الانجليز فقط لا يدخله المصريين والنصف الثاني للمصريين.
لم يفكر حسن البنا في الإسماعيلية لكن الأقدار ساقته للعمل بها ومن ثم نشط من أجل دينه فعمل وسط جميع أهلها حتى أن الكبير والصغير كان يعرف من هو حسن البنا.
المراجع
- إبراهيم عيسى يكشف أسباب اختراق حسن البنا محافظة الإسماعيلية لإنشاء الإخوان: 23 سبتمبر 2020
- خالد عباس طاشكندي: «البنّا» و«البارون».. مرحلة تأسيس «الجماعة» بالمال الإنجليزي، 18 أكتوبر 2017
- حسن البنا: مذكرات الدعوة والداعية، دار التوزيع والنشر الإسلامية، 2001م، صـ65.
- مذكرات الدعوة والداعية، صـ66.
- عثمان أحمد عثمان: صفحات من تجربتي، المكتب المصري الحديث، 1981م، صـ354، 355.