شهادات عربية

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
شهادات عربية

شهادات عربية

الأستاذ محمد عبد القادر حمزة بك


في ذكرى الإمام البنا

على الرغم من أنني أتحدث عن المرحوم الشيخ حسن البنا غير مرة واحدة ؛ لأنني لا أقابل الناس كثيرا فقد كانت هذه المرة كافية لأتصور في نفسي ولنفسي مبلغ ما كان يعمر قلب هذا الرجل من قوة ذاتية خلقت حركة لعلها من الحركات الفريدة في تاريخ الحركات الإسلام ية الحديثة ,إنها تأتي مباشرة بعد حركة المرحوم السيد محمد علي جناح لإنشاء الباكستان,وعلى من يريد أن يدرك مقدار تغلغل حركة الإخوان المسلمين في أعماق كثير من الناس , أن ينظر إليها في الريف المصري وفي البلاد الإسلام ية الشقيقة الواقعة شمال إفريقيا .

ولقد كنت في طنجة في مثل هذا الوقت من العام الماضي تقريبا , فرأيت مبلغ إيمان الشباب المراكشيين هناك بحركة الإخوان المسلمين واعتناقهم لها , وقبل هذا مبلغ حبهم لذكرى منشئ هذه الحركة المرحوم الشيخ حسن البنا .

ولقد رأيته يخطب في هذه المرة الوحيدة التي قابلته فيها , وكان ـ رحمه الله ـ يلقي خطبته في جمع من أعوانه وأعضاء جماعته , وفي عدد من الصحفيين الأجانب استهوتهم سرعة انتشار حركة الإخوان المسلمين في مصر , فذهبوا ليروا هذا الرجل الذي جعل من تعاليم الإسلام حركة ايجابية نشطة تدعو إلى التعلق بهذه المبادئ , وجعلها أساسا لنهضات المسلمين ولحكمهم , ولقد خطب الشيخ البنا باللغة العربية وبطريقته الساحرة , فكان تأثيره في الناس كافيا للتأثير في هؤلاء الصحفيين الأجانب لم يكونوا يعرفون كلمة واحدة مما قال ولكنهم كانوا يرون مبلغ أثره ؛ فيمن كان يفهم كلامه .

ولقد دخلت السجن بعد هذا , وشغل المرحوم الشيخ البنا بما أصاب جماعة الإخوان من اضطهاد , ثم لقي ربه مقتولا برصاص غادر , ولكن الحركة استمرت ؛ لأنها حركة وجت لتعيش وتنمو بإذن الله.

الأستاذ محمد محمود جلال بك
حسن البنا الذي عرفته

بعث الخليفة الأمين العباسي كتابا إلى أخيه المأمون بخراسان يسترضيه ويستقدمه إلى بغداد ـ بعد أن نكث عهد أبيه وأعلن سقوط ولاية العهد عنه ـ فرد المأمون بكتاب أذكر منه قوله " وهل أحد فارق الحق في فعله ؛ فترك للمتبين ثقة في قوله ".

وهكذا لا تفلح دعوة للإصلاح متى فارق داعيها ما تقضي من سلوك ، وليس يكفي للنجاح سلامة المبدأ في ذاته إذا تعثر بما يناقضه من سلوك دعاته .

وقد عرفت الفقيد العزيز الشيخ حسن البنا ـ عليه رحمة الله ورضوانه ـ مستقيما واسع الصدر شجاعا , فكان بهذا الخلق سندا لما يدعو إليه .

سحر أتباعه وأشياعه بقوة بيان مستمد من قوة الينبوع ,وهو حقيقة الإسلام , يرمي إلى حل مشكلات الحياة كلها عن طريق الأسس الإسلام ية , وهي كنوز خفيت عن أكثرية معتنقيه , ولعلها لم تظفر بتطبيق حق إلا في سني حياة الرسول الكريم ـ عليه صلاة الله وسلامه ـ وخلافة السيدين العظيمين ؛ أبي بكر وعمر , وأيام قليلة من حياة سيدنا عثمان ـ عليهم رضوان الله , فالمهمة شاقة لما انطمس خلال الأجيال من معالم وبادئ .

ومع ذلك ظهر فريق من الشباب يحرص على أداء الفرائض , ويتفهم نظم الإسلام , ويطرح الميوعة التي تردي إليها أهل زمننا .

لا أذكر أنه تخلف مرة واحدة عن الاجتماعات التي كانت تعقد في داري خلال الحرب , وفي عهد الأحكام العرفية نعالج فيها قضية البلاد ومشكلات المستقبل , وفي ذكريات الزعيمين العظيمين :مصطفى كامل ومحمد فريد , في وقت كان يتخلف فيه كثيرون , وما رأيته يغضب في مناقشة أحد , بل يبتسم ويتحدث تحدث المؤمن الذي لا يفقد الأمل .

هذا التناسق وحده برهان ودعوة , فليس ينقص الشرق علم ولا ذكاء , وإنما ينقصه ثبات وإيمان . الأقدار الكريمة التي تتيح لي الفرصة المواتية , فقد كان مؤتمر الدولي يفتتح أولى جلساته في الساعة الخامسة بعد ظهر اليوم نفسه في قاعة جمعية التشريع والاقتصاد بشارع الملكة بالقاهرة , وكان المفروض أن ترأس المؤتمر شخصية أمريكية .

اتفقت مع "زميل" على " خطة " تتلخص في أن نطبع تذاكر ونوزعها على مائة شاب على الأقل ليستطيعوا دخول قاعة المؤتمر دون أن يمنعهم البوليس , وينبثوا في القاعة في جهات متفرقة , وكان في برنامج الاحتفال أن يتكلم رئيس المؤتمر " الأمريكاني " عن حقوق الإنسان , فقررنا أن نستمع لكلمة الرجل حتى إذا ما انتهى منها يقف أحد الزملاء ويقول ما معناه : إننا استمعنا للمحاضرة القيمة التي ألقاها رئيس المؤتمر عن حقوق الإنسان , ولكننا نرى أنها تتعارض مع ما فعلته دولته اليوم من الاعتراف بدولة إسرائيل المزعومة , وينهي كلمته بالهتاف بسقوط أمريكا وسقوط ترومان , ثم نرسل برقيات للخارج تبين أن مؤتمر القانون الدولي الذي انعقد في القاهرة نادى بسقوط ترومان وأمريكا , فيكون في ذلك أبلغ احتجاج كان الوقت ضيقا , ولم يبقى على موعد الافتتاح إلا أربع ساعات فكيف نجمع الشباب المائة ؟هنا قال لي الأخ الزميل : لنعرض الأمر على فضلية الأستاذ حسن البنا لتحل المشكلة ,اتصلنا بفضيلته تلفونيا , ثم ذهبنا إليه مباشرة فوجدناه بمكتبه في انتظارنا, وبعد أن رحب بنا قال ـ رحمه الله: " حدثني عن تفاصيل الخطة " , فأخذت أبين الفكرة , وهو صامت ولا يتكلم , وأخيرا قال متى تستطيع أن تحضر التذاكر ؟ قلت في الرابعة والنصف , فقال " ستجد المائة ـ إن شاء الله ـداخل القاعة قبل الخامسة , وفعلا انبث شبا الإخوان داخل قاعة جمعية التشريع والاقتصاد , وكانت الخطة على وشك الإخفاق , لولا فضل الله ؛ لأن رئيس الجلسة الأمريكي أجل إلقاء كلمته للجلسة التالية , ولكن الأمل تجدد عندما وقف أستاذنا الدكتور حلمي بهجت بدوي و وكان السكرتير العام للمؤتمر , وأراد أن يشكر السفارة الأمريكية ؛ لأنها تفضلت " بطبع رسائل المؤتمر , وما أن انتهى سيادته من كلمة الشكر التي ألقاها بالفرنسية ثم بالعربية , حتى وقف أحد الشبان , وألقى كلمة وطنية رائعة اختتمها بالهتاف بسقوط ترومان وأمريكا , فارتجت القاعة بالهتافات , وفوجئ مندوب الملك ـ وكان الأستاذ عدلي أندراوس , وكذلك وزير العدل وباقي المدعوين من رجال الهيئات السياسية الأجنبية , واندفعوا في ذعر ظاهر إلى الباب الخارجي , فخرجنا وراءهم والهتافات تدوي , وكأنها مظاهرة يتصدرها مندوب ملك مصر , ولم تمض بضع دقائق حتى كانت برقيات وكالات تنقل للعالم احتاج مؤتمر القانون الدولي على أمريكا ورئيسها ترومان .

كنت أتصور أن يتشرف " فاروق " بما أداه الإخوان في تلك الليلة , إذا كانت ملخصا حقا لبلاده وقضية فلسطين , ولكن لعل تلك الحادثة كانت السبب الأول , كما اتضح فيما بعد , لثروة فاروق وحاشيته على الإمام الشهيد حسن البنا وأتباعه .

قلت مرة للإمام الشهيد : " إنك تحارب في ثلاث جهات " فقال ـ رحمه الله : أنا لا أهتم إلا بمحاربة الأفعى البريطانية , وقد وعدنا الله بالنصر ", وهذا الإلهام الصادق , بل هذه الوطنية العميقة كانت تقض مضاجع دهاة الاستعمار , وقد سمعت ذلك بأذني من أكبر الأفاعي في إحدى ليالي فبراير من عام 1948م , فقد جمعتني حفلة عشاء بمنزل شخصية أجنبية كانت تسكت بشارع بولس حنا بالعجوزة , وهناك قابلت الجنرال " كلايتون " , وكان يومها يعتبر أخطر شخصية بريطانية في الشرق , وانتحى بي الرجل في شرفة المنزل , وأخذ يحدثني عن رأيه في زعماء مصر والعرب , وفجأة وجه إلي سؤالا أدهشني و قال : إذا أجريت انتخابات في مصر فمن ينجح ؟ النحاس والوفد , أم النقراشي والحكومة , أم حسن البنا وأنصاره ؟

لقد هفا القلب , قلب القلم إلى ذكرى الشهيد الإمام , وإن ذكرى فقيد الإسلام لتبعث الشجن الدفين , وتحرك الجرح الذي كان قد سكن , أما يوم مصرعه فقد تخليت جنازته , وكيف منعوا القلوب أ، تحزن , والدموع أن تذرف , فوثبت إلى ذهني هذه الأبيات القديمة :

ولو أني قدرت على القيام

بفرضك والحقوق الواجبات

ملأت الأرض من نظم القوافي

ونحت بها خلاف النائحات

ولكني أصبر عنك نفسي

مخافة أن أعد من الجناة

عليك تحية الرحمن تترى

برحمات غواد رائحات
الدكتور نور الدين علي طراف

حسن البنا ..

رحم الله الشيخ حسن البنا وأسمنه واسع جناته , فلقد كان واحدا من هؤلاء الأفذاذ الذين حبتهم العناية الإلهية بالقدرة على اكتساب قلوب الناس واكتساب ثقتهم , وسلحتهم بمضاء الإيمان يذلل لهم الصعوبات , ويمضون به في سبيلهم لتحقيق رسالتهم في الحياة .

عرفت المغفور له الشيخ حسن البنا في مطالع عام 1937 م , وتوثقت بيني وبينه مودة كنت أحرص عليها , وأعتز بها , وكان أقوى ما يحببني فيه ما كان يتصف به من رحابة الأفق وسعة التفكير , واعتزازه الشامل بما في الإسلام من مبادئ سبقت أحدث ما تطلبه وتريده النظم الديمقراطية الحديثة .

وظللت أراقب دعوته تنتشر ,, وأنصاره ومحبيه يزدادون ويتضاعفون على مر الأيام وكر الأعوام , ولم أكن أعجب لهذا فإن القدر الذي كان يتمتع به من صفات الزعماء والقادة ؛ كان يقطع بأن الشيخ حين البنا لا بد أن يتبوأ ما هو أهل له من مكان الصدارة والزعامة .

لقد كان خطيبا مفوها , ومحدثا حلو الحديث , سريع العارضة , قوي الحجة , عميق الدراسة الدينية , ملما بكل ما في الدين الإسلام يمن نواح تثير اعتزاز وفخر المسلمين , وكان كتلة من النشاط الذي لا يهدأ , أو يسكن , أو يستقر , فهو عمل متصل , وكان يملك تلك الخاصة النادرة , خاصة القدرة على التنظيم , واختيار الشخص المناسب للمكان المناسب , وكانت ذاكرته القوية تعي أسماء كل أنصاره ومديريه على كثرتهم وضخامة عددهم .

لقد اغتيل الشيخ البنا , وانتهت حياته بهذه الصورة المفجعة التي انتهت بها , والأمة في أوج ارتقابها لمجهوده , وفي أقصى تطلعها إليه وإلى جماعته الضخمة , ولا يعزينا اليوم عنه إلا أن نرى الروح التي كان يصدر عنها , والدوافع الوطنية التي كانت تحركه تسير وتنتشر , وتأخذ مكانها بين المصريين .

الأستاذ مريت بطرس غالي

في ذكرى الإمام الشهيد

عرفت المغفور له الأستاذ البنا منذ سنوات عدة , فعرفت فيه الرجولة التامة , ورأيت فيه ـ على الدوام ـ رجلا فذا من الناحيتين :الخلقية والإنسانية , وقد كان ـ رحمه الله ـ على ثقافة واسعة , يتمتع بشخصية جذابة , ويأخذ بأسباب القلوب , ولا شك هذه طباعه وتلك كفايته كان ذخرا قيما لبلاده , فجاء مصرعه خسارة كبيرة , ويزيد الخسارة فداحة أن وقع فريسة اغتيال مدبر , وقد تفشى بيننا داء الاغتيال السياسي البغيض منذ أوائل هذا القرن .

وهؤلاء الذين يقيمون من أنفسهم مدعين وقضاة ومنفذين وجلادين بدافع من هواهم , أو رأيهم الشخصي إنما هم أخطر الناس على النظام والاستقرار والمدنية , ولا بد أن يؤخذوا أخذة رابية يعتبر بها الغير , حتى لا يتطلعوا إلى اغتصاب حق الدولة وحدها في مظاهرة العدالة والاقتصاص من كل من يتهج عليها .

اللواء محمد صالح حرب
كان حسن البنا قليل المثال نادر النظير

إنما المرء حديث بعده

ما أصدق هذه الكلمة , وما أحق تلك الكلمة بالخلود .

يعيش الإنسان في هذه الحياة ما قدر له أن يعيش , ويأتي من الأعمال ما يأتي , ثم يصل إلى خاتمة المطاف وهي الرحلة من دار الفناء إلى دار البقاء , فلا يترك خلفه من زينة الحياة الدنيا إذا أحسن ـ إلا الذكرى الطيبة والثناء الحميد ـ ولقد كان فضيلة المرشد المرحوم الشيخ حسن البنا رجلا داعية , مجاهدا في دعوته بذل ما بذل في دنياه , ورحل كريما إلى الدار الآخرة , مخلفا وراءه ذكرا حميدا , وأثرا طيبا وحديثا مرويا عن شخصه وجهاده .

وعندي أن البيئة كان لها أحسن الأثر في تكوين المرشد الشهيد , فقد نشأ في أسرة كريمة فاضلة متدينة , تعمل لترضي ربها في دينها وأخلاقها , فكان لهذه الأسرة آثارها العميقة في نفس المرشد ـ عليه رحمة الله ـ ثم درس المرشد دراسة إسلامية أخلاقية صوفية من أول الطريق , وأخذ نفسه منذ فجر حياته بآداب الإسلام وتعاليمه التهذيبية , وكان لهذا التعيين المبكر أثره الفعال في أن يحيا المرشد ـ رحمه الله ـ داخل دائرة تحيط بها العفة والصيانة , وتشملها رعاية الله و هدايته .

ولقد كان ـ رحمه الله ـ قليل المثال ، نادر النظير في دراسته للإسلام وحفظه للقران ، وتذوقه له ، وتعمقه في فهم أسراره ، وإحاطته بالسنة , وبراعته في الفقه , وكانت هذه الثروة العلمية عنده أشبه بالينبوع الذي لا يجف ولا ينقطع عن الجريان معينه

وأعتقد أن هذه الذخائر الثمينة التي حصلها المرشد الشهيد في حياته , وبخاصة أيام شبابه من كتب السنة والسيرة والفقه والتاريخ الإسلام ي , كانت أكبر معين له على الدعوة والإرشاد , فكان في حديثه وخطابته وكتابته يغرف من بحر واسع لا يخشى أن يجف أو يجف أو ينفد ماؤه .

وإذا ذكرت الخطابة الدينية المثالية ذكر الشهيد حسن البنا , فقد وهبه الله قدوة فذة على الخطابة , وطول نفس العجيب في الارتجال , سواء أكان في المسجد , أو النادي , أو المؤتمر , وسواء بين العامة أو بين الخاصة , وهو أحيانا يعلو في خطابته حتى يكون أسلوبا بليغا رائع , ويتوسط حتى يفهم عنه الجميع , وينزل في تعبيره إلى مستوى العامة إذا اقتضى الموقف ذلك , وكان ـ رحمه الله ـ يدرس نفسيات الجماهير قبل مخاطبتها ؛ ولذلك كان نجح في خطابها والتأثير عليها .

وهناك ناحية أخرى لا تنسى في حياة المرشد ـ عليه الرضوان ـ فقد كان حركة دائبة , لا يعرف الكلل أو الممل , فهو يرتحل ويسافر , ويخطب ويحاضر , ويتحدث ويحاور , وينظم الليل والنهار , ولا يعرف الراحة أو الاستجمام , وذلك شأن الداعية الحريص على أن يصل بدعوته إلى ما يريد , فلا بد له أ، يبذل في سبيلها كل ما يستطيع , وقد فعل .

رحمه الله وأرضاه بقدر ما جاهد وعمل من أجل الإسلام والمسلمين .

الفريق عزيز المصري باشا
الداعية الواعي

عرفت الشهيد حسن البنا أول مرة بعد عودتي من لندن 1937 م حينما كنت في معية سمو ولي العهد , وذلك حينما وجدت في انتظاري ثلاثة قالوا لي : إنهم من الإخوان المسلمين , ونظرا لان ملابسهم كانت من المتعارف على أنها إسلامية , إلا أنها في نظري بعيدة عن الإسلام , قلت لهم : إنني لا أريد مقابلتهم ؛ لأنني أريد أن أرى الإخوان المسلمين يمثلون فكرة التجديد والبعث حتى في أزيائهم فتكون مبسطة ولو جاكتة مقفلة وبنطلونا , وبدلا من " المسابح " يمسك كل منهم في يده كتابا يناقشني فيه .

وأشد ما كانت دهشتي جاءني في الغد أحد هؤلاء الثلاثة , وقال لي ك إنه حسن البنا , وإنه مؤمن بكل ما قلت , ولكن الرجعية التي تردي فيها المسلمون تجعلنا نطرق هذا الباب حتى نعيدكم إلى الفكرة الإسلام ية الصحيحة التي تجعل من المسلم شعلة للعلم والتقدم و الهداية للإنسانية , فأكبرت الرجل وعرفت فيه الداعية الواعي , وقد كنت أتوقع ألا أراه بعد المقابلة الشديدة التي قابلتهم بها .

ومنذ ذلك اليوم توثقت الصلة بيني وبينه , وكنا نتقابل بين حين وآخر , وأرى في وجهه علامات الإيمان بادية , وآيات الصدق والإخلاص مرتسمة , مما زادني فيه ثقة وإيمانا .

وحينما كنت بسجن الأجانب إبان استشهاده جاءني أحد الضباط وعلى وجهه علامات الأسى , مخالفا الأوامر ومبلغا إياي ذلك النبأ المفجع , فأحسست بخنجر أصابني في صدري لفقد ذلك الرجل العظيم .

رحمه الله رحمة واسعة , وألهم خلفاءه والإخوان حسن السير على منواله , وإتمام الرسالة التي بدأها .

مكرم عبيد باشا
الإمام الشهيد

تفضلت مجلة " الدعوة " الغراء فطلبت إلي أن أكتب كلمة في ذكرى الراحل الكريم , الذي شاءت له رحمة الله أن يغادر هذه الدنيا الغادرة , إلى جوار ربه الرحمن الرحيم , كما شاءت لنا نحن رحمة الله أن يظل الراحل الذي فقدناه , ماثلا بيننا بذكراه , وبتقواه .

وهل هذا الراحل الماثل , إلا فضيلة المرشد ـ المغفور له ـ الشيخ حسن البنا ؟

إي نعم , فإذا كنتم أيها الإخوان المسلمون , قد فقدتم الحاكم الأكبر , الخالد الذكر , فحسبكم أن تذكروا أن هذا الرجل الذي أسلم وجهه لله حنيفا ، قد أسلم روحه للوطن عفيفا ، حسبكم أن تذكروه حيا في مجده ، كلما ذكرتموه ميتا في لحده .

وإذا كان الموت والحياة يتنازعان السيطرة في مملكة الإنسان , ويتبادلان النصر فيتساويان , فالغلبة للحياة مع الذكرى , وللموت مع النسيان و ولهذا فالميت حي لديك إذا ذكرته , والحي ميت لديك إذا نسيته .

وما من شك أن فضيلة الشيخحسن البناهو حي لدينا جميعا في ذكراه ، دين هدى ربه ، فف كيف لا يحيا ,ويخلد في حياته رجل استوحى في الدين هدى ربه , ففي ذكره حياة له ولكم .

ومن ذا الذي يقول بهذا ؟ هو مكرم عبيد صديقه المسيحي الذي عرف في أخيه المسلم الكريم الصد ق والصداقة معا , ولئن ذكرت ؛ فكيف لا أذكركم تزاورنا وتآزرنا إبان حياته ؟ ولئن شهدت , فكيف لا أشهد بفضله بعد مماته ؟ وما هي ـ و أيم الحق ـ إلا شهادة صدق أشهد عليها ربي ؛ إذ ينطق بها لساني من وحي قلبي .

بل هي شهادة رجل يجمع بينه وبين الفقيد العزيز الإيمان بوحدة ربه , وبوحدة شعبه , والتوحيد في جميع الأديان المنزلة لا يكفي فيه أن نوحد الله , بل يجب أن نتوحد في الله ، كما أ، وحدة الوطن لا يكفي فيها وحدة أرجائه , بل يجب أن تتوافر لها قبل كل شئ وحدة أبنائه .

ولقد كان الإخوان المسلمين والكتلة الوفدية هما الهيئتين الوحيدتين اللتين تبادلتا الزيارة في دار الإخوان ونادي الكتلة و بل كان لي الحظ أ، يزورني ـ رحمه الله ـ في منزلي , وأن نتبادل خلال حديث طويل المشاعر الشخصية والوطنية , وكنت أراه في حديثه أبعد ما يكون عن الشكليات والصغائر ، مما جعلني أعتقد أنه رجل قل مثيله بيننا في التعمق تفكيرا , وفي التنزه ضميرا .

ولقد زرته ـ رحمه الله ـ إثر موته في منزله , فكانت زيارة لن أنسى ـ ما حييت ـ أثرها الفاجع والدامع , ولقد هالني أ، أجد قوة من البوليس تحاصر الشارع الذي به منزل الفقيد , ولولا أ، ضابط البوليس عرفني فسمح لي بالمرور لما تيسر لي أ، أؤدي واجب العزاء .

ولئن نسيت , فلن أنسى كيف كان والده الشيخ البار متأثرا بهذه الزيارة , حتى أنه قص علينا ـ والدمع يفيض من عينيه ـ كيف منعوا الناس من تشييع جنازة الفقيد , ولم يسمح لغير والده بالسير وراء نعشه , كما لم يسمح للمعزين بالعزاء في منزله ، وراح الوالد الكريم يشكرني , ويدعو لي دعواته المباركات التي ما زلت أتبرك بها ، ولو أني قلت له : إن واجب العزاء هو فرض واجب الأداء , فإذا ما قصرت فيه أنا وأي مصري كان في ذلك تنكر لتقاليد وأولويات الوفاء .

إخواني :

إي نعم ؛ فأنتم إخواني أيها الإخوان المسلمون .

أنتم إخواني وطنا وجنسا , بل إخواني نفسا وحسا , بل أنتم لي إخوان , ما أقربكم إخوانا ؛لأنكم في الوطنية إخواني إيمانا , ولما كانت الوطنية من الإيمان , فنحن إذن إخوان في الله الواحد المنان .

وإذا ما ذكرتم اليوم الفضيلة في قبرها , فاذكروا أيضا ما كان يذكره هو على الدوام ؛ إذ يذكر الحرية في سجنها .

فلنطالب إذن بتحرير بلادنا , وتحرير أولادنا المساجين المساكين ، فإن الإفراج عنهم عزاء , وجزاء في وقت معا .

الشيخ السيد القمي
دار التقريب تذكر الإمام الفقيد

ماذا فقد الإسلام بفقد الأستاذ حسن البنا ؟ والله إني لأشعر بفراغ كبير في جوانب نفسي , وأشعر بالدار موحشة من حولي منذ فقدت جماعة التقريب جهوده المباركة في التقريب بين المذاهب الإسلام ية المختلفة .

لقد كان الخلاف وتشتت الرأي هو عدوه اللدود , وكانت الوحدة السليمة من أعز أمانيه التي يعمل لها جاهدا صادقا .

ولقد كان مذهبه في التقريب أن يتعاون الجميع لتحقيق الأصول المعترف بها منهم أنها حق , وأن يعذر بعضهم بعضا فيما وقع فيه الخلاف , على أن يحاول كل فريق من جهته أن يضيق شقة الخلاف بينه وبين أخيه ، مستهديا بروح المحبة الإسلام ية , والوحدة التي هب لب الإيمان , وسر القوة والعزة .

وبعد فلعل أكثر الناس لا يعرفون إن الأستاذ حسن البنا هو صاحب الفكرة الأولي في تكوين جماعة التقريب بين المذاهب الإسلام ية ، رحمه الله رحمة واسعة ، ورضي عنه ،وأحسن مثوبته ، واعلي منزلته ،وعوض المسلمين عنه خيرا.

الأستاذ أمين الحسيني
قدوة صالحة للعالمين

الحمد لله الذي خلق الموت والحياة ليبلونكم أيكم أحسن عملا وهو العزيز الغفور ، ورحم الله فقيد الإسلام العظيم الشهيد ، والمربي الكبير ، الأستاذ المرشد الجليل الشيخ " حسن البنا ", فلقد كان من أحسن العاملين وصفوة المربين البنائين , وخيرة الصالحين المخلصين , ولقد أحسن في هذه الحياة , وهو الآخرة من المكرمين , تغمده الله برحمته , واسكنه فسيخ جنته .

وإني لأذكر أن هـ رحمه الله ـ بعث إلي برسالة في عام 1347ه يعلمني فيها بتأسيس جماعة الإخوان المسلمين فأجبته مبديا ابتهاجي , وداعيا لهذه الغرسة الجديدة بالنمو والنجاح , ولم أكن حينئذ أنتظر كل هذا التوفيق الذي لاقته هذه الجماعة ؛ لأني كنت أظنها كسائر ما عهدنا من الجمعيات لتي تبتدئ حتى تنتهي , ولا تكاد تسلم حتى تودع , ولكن ما آتاه الله لمؤسسها صاحب النفس الزكية والأخلاق المحمدية , من شديد الإخلاص وكريم الأخلاق , ورجاحة العقل , وغزارة العلم , وفرط الذكاء , مع وفرة التواضع , والدأب مع الصبر , والرقة و الحزم والأناة والعزم , ومن طيبة القلب مع عميق الغور , وغير ذلك من الصفات النادرة التي قلما تجتمع في رجل واحد , كل هذه المزايا التي منحها الله للشهيد الجليل , طيب الله ثراه , مكنت لهذه الشجرة الطيبة أن تثبت أصولها , وأن تنتشر فروعها ، وأن تؤتي أكلها بإذن ربها ، رغم ما لاقت من المصاعب ومن الدساس والكوارث , ومن الأعداء المستعمرين ، ومن ظلم الأقربين الغافلين .

وقد لمست نجاح عمل الشهيد الكريم حين شبت ثورة فلسطين سنة 1936 م ؛ إذ كان فريق من أبنائه وتلامذته في طليعة من أنجد وكافح , وجاهد واستشهد , ثم رأينا آية أخرى من صنع يديه يوم اجتمع المؤتمر البرلماني العربي في القاهرة سنة 1938 م ؛ إذ قامت جماعة الإخوان حينئذ بقادته بكثير من الأعمال المبرورة والجهود المشكورة , ولم تزل تتوالى أعمال هذه الجماعة النافعة إلى أن تجلت رائعة باهرة في حرب فلسطين , فلقد قدمت من ضروب الإخلاص وروائع الشجاعة والتضحية ما جعل العدد القليل من الإخوان يتغلبون على أضعافهم من جنود اليهود المدربين , مما أقض مضاجع المستعمرين الظالمين , وجعلهم يتوجسون خفية من الإخوان المسلمين ومن قائدهم الفذ الذي عرف كيف يربي التربية الإسلام ية الصحيحة على النهج النبوي القويم ، تلك التربية لو عمت البلاد الإسلام ية , وأعادت المسلمين إلى صراطهم المستقيم لاستحال على المستعمرين أن يجدوا لهم موطئ قدم في دار الإسلام , فشمروا عن ساعد الجد يدسون لهذه الجماعة وقائدها , ويكيدون لهم ، ويوغرون الصدور عليهم , ويفترون عليهم شتى الأكاذيب والتهم , ويحرضون أولى الأمر , ويحضون ذوي السلطان ويضغطون عليهم , ويهددون ؛ إلى أن تم لهم ما أرادوا من اضطهاد الجماعة واعتقال أفرادها ,وزجهم في السجون , والفتك بقائدهم الشهيد الجليل ـ عليه الرحمة والرضوان ـ وبغيره من جنود الحق والإيمان , وشردوا بقيتهم في الآفاق , وظنوا أنهم بذلك قضوا عليهم القضاء المبرم ، ولكن الله خيب آمال الظالمين , ومحص المؤمنين , وثبت قلوبهم , وأخرجهم من المحنة أصلب عودا , وأشد إيمانا , وأمضى عزيمة , وأقو نصيرا , وخلد روح قائدهم الشهيد العظيم في دار النعيم مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا .

وإن في ذكرى استشهاده لعبرة لأولى الأبصار , وفي حياته قدوة صالحة للعاملين الأبرار, (ولينصرن الله من ينصره إن الله لقوي عزيز (40 ) الذين إن مكناهم في الأرض أقاموا الصلاة واتوا الزكاة وأمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر ولله عاقبة الأمور ) (الحج: 40 ،41)

الأمير محمد بن عبد الكريم الخطابي

دعوة حسن البنا زادت من أمل المسلمين

حينما نذكر الشهيد المرشد الأستاذ حسن البنا نذكر أمجاد الإسلام ورجاله الأبرار الذين كرسوا حياتهم لخدمته والذود عن حياضه .

ولقد كان للفكرة الإسلام ية النقية التي دعا إليها الأستاذ البنا صدى كبير في العالم الإسلام ي زاد الآمال في عودة الإسلام إلى مجده السالف وعزته الماضية .

وإن العالم الإسلام ي ليرقب اليوم مصر العزيزة ـ التي نعدها لوطننا ـ في عهدها الجديد ونهضتها المباركة ، فيرجو لها ـ كما نرجو ـ كل تقدم ونهضة وسؤود , أما الإمام الشهيد فحسبه أنه قضى في سبيل أسمى فكرة ، وأنبل غاية ، وهي الدفاع عن الإسلام والدعوة إليه والموت في سبيله .

( ولا تحسبن الذين قتلة في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرزقون (169) فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون (170) يستبشرون بنعمة من الله وفضل وأن الله لا يضيع أجر المؤمنين ) ( آل عمران : 169 ـ 171)

رحم الله حسن البنا بقدر ما جدد للدعوة الإسلام ية رواءها , ولفكرتها نقاءها وسموها .

الأستاذ محمد هارون المجددي
لابد للحق أن ينتصر

كان الإمام الشهيد حسن البنا ـ رضي الله عنه وأرضاه ـ صورة طيبة لخيرة أتباع قائدنا الأعظم سيدنا محمد رسول الله (صلى الله عليه وسلم ) , فقد ملكت مبادئ الإسلام المثالية قلبه , وفكره في كل لحظة من لحظات حياته , وكان لا يعيش لنفسه , بل يعيش لهذه الأمة الإسلام ية التي توالت عليها المحن ورانت عليها صروف الزمن فأفقدتها شخصيتها , وظنت أن الخلاص هو في اعتناق مبادئ الغرب بمختلف ألوانها , وكان التيار الإلحادي يجرف في لجيه الشبيهة المثقفة , وهي خلاصة الأمة وقلبها النابض الذي يحرك نشاطها ذات اليمين وذات الشمال , ولكن الله تعالى الذي بشرنا بقوله : ( وعد الله الذين امنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا ) ( النور :55 ) ، ألهم الشهيد الإمام حسن البنا بما ألهم به خيرة دينهم ودنياهم , وغرس في قلوبهم تعليم تعاليم القران الخالدة , وأنه لا نجاح لمسلم في الحياة إلا إذا كان روحه صافيا والرب عنه راضيا ، وأن العزة لله ولرسوله وللمؤمنين .

وهكذا عادت الأمة إلى رشدها وبدأت تنهل من المنهل العذب الذي أعده الإمام الشهيد سائغا للشاربين .

إنه لابد للحق أن ينتصر , ولابد للباطل أن ينحدر , ولابد للتاريخ أن يعد الإمام الشهيد من الشخصيات الخالدة التي أدت غلى الإسلام أجل الخدمات .

نسأل الله ـ تبارك وتعالى ـ أ، يجيزه عنا خير الجزاء , وأن يلهمنا دوما السير في طريق الهدى الذي أناره لنا , وأرشدنا إليه .

الأستاذ الفضيل الورتلاني
حسن البنا .. الرجل الذي تخليه صوفيا فإذا به شخصية متكاملة

كنت قبل عام 1938 اسمع عن الأستاذ الإمام ، وعن الإخوان المسلمين ، كهيئة إسلامية تعمل كغيرها من الهيئات في جانب من جوانب الحياة.

ولما حضرت إلى القاهرة , وكان أول لقاء بيني وبين الإمام في جمع من الناس , ودار الحديث في ذلك الوقت عن أمور روحية صوفية تخيلت عندها الأستاذ البنا رجلا صوفيا لا أكثر ولا أقل .. وكنا حينذاك في الجزائر نحارب البدع التي أدخلها من يدعون التصوف على المجتمع الإسلام ي .

وجرى بيني وبين المرشد نقاش حول هذه المعان ي, لمست فيه علم الرجل وتأثره بما يعلم , ولكن صورة أخرى عنه غير الصورة الصوفية لم تخطر نفسي .

وكثرت الاجتماعات بيننا بعد ذلك وتوطدت الصلة , فتعارفنا جيدا , وتصادقنا , ثم تآخينا في اله أخوة كاملة , فعرفت في حسن البنا معاني أخرى كثيرة غير المعنى الذي لمسته فيه أول مرة , وهو المعنى الصوفي , والذي شبهته فيه بابن القيم .

كان ل حسن البنا صفات تفرقت في الناس , وقلما اجتمعت في شخص واحد , الهم إلا طائفة نادرة من أولى العزم من الناس ففي الناحية العلمية كانت للرجل طاقة علمية ينفرد الناس في ناحية من نواحيها , ولا تجتمع لهم ؛فإذا حدثه الفقيه وجد فيه الفقيه الممتاز , وتخيل أن هذه صفته , وإذا اجتمع به الأديب توهم أن صفته هذه , وما لهمن غيرها إنما هو مكمل , وإذا لقيه السياسي وجد فيه سياسيا من طراز فريد , وحسب أن ما له من الصفات الأخرى إنما هو جزء يسير , وإذا استمع إليه الناس ظنوه خطيبا فحسب ... الخ , ما اجتمع ل حسن البنا من الصفات التي يختص بواحدة منها العباقرة من الناس , والتي كان يتوهمه على واحدة منها كل من نظر إليه من الزاوية التي يفهمها , والحق أن حسن البنا هو تلك الصورة الضخمة التي تجمع تلك الصفات جميعا , وبحظ وافر يوازي ـ إن لم يزد ـ ما للمتخصصين فيها من حظ .

أما طاقته العلمية فكانت فريدة , فهو يعمل ليل نهار دون أن يبدو عليه أثر من جهد أو كلل , بل كان هناك من يلقاه و يمضي معه الليل يظن أن في الصباح راحته , وهناك من يلقاه في الصباح , ويظن أنه قد أخذ حظه من الراحة ليلا , ولكنه كان في الحالين يعمل .

وكان مؤمنا برسالته , وبأن المسلم يجب أن يكون صورة من الرسول ( صلوات الله عليه ) ؛ فهو يأخذ نفسه بما علمه وعرفه عن الرسول , وما أكثر ما علم وعرف عنه ، ولهذا استعذب كل شئ . أما ما اجتمع له من مرونة الخلق ورقته فذلك لم يتح لأحد , فكثير من الناس كان يأتي إليه ليناقشه في أمور , ويعتقد أن نهاية المناقشة أحد أمرين ، إما عداوة سافرة , وإما خلاف دائم .

وإنني لأدعو شباب المسلمين أن يتخذوا من حياة حسن البنا محلا لدراسة عميقة ليروا كيف نجح , وكيف توفرت له هذه المزايا التي ذكرت بعضا منها حتى ينسجوا على منواله , فيتموا ما أبدأ , ويصلوا إلى ما لم يمهله " القدر في الوصول إليه ".

الأستاذ أحمد حسن الزيات
أقوال عن الإمام البنا

وجدت فيه ما لم أجد في قبيله أو أهل جيله : من إيمان بالله راسخ رسوخ الحق , لا يزعزعه غرور العلم , ولا شرود الفكر , وفقه في الدين صاف صفاء المزن , لا يكدره ضلا ل العقل , ولا فساد النقل , و قوة في البيان مشرقة إشراق الوحي , ولا تحسبها عقدة اللسان , ولا ظلمة الحس , إلى حديث يتصل بالقلوب , ومحاضرة تمتزج بالأرواح وجاذبية تدعوك إلى أن تحب , وشخصية تحملك على أن تذعن فقلت في نفسي بعد أن ودعني ومضى : (عجيب ) هذا الشاب : نشأ كما ينشأ كل طفل في ريف مصر , وتعلم كما يتعلم كل طالب في دار العلوم , وعمل كما يعمل كل مدرس في وزارة المعارف , فعمن ورث هذا الإيمان , وممن اقتبس هذا البيان , ومن أين اكتسب هذا الخلق ؟ إن الشذوذ عن قواعد البيئة الجاهلية , والنشوز عن أنظمة المجتمع الفاسد , والسمو على الأخلاق العصر الوضيع , من خصائص الرسول أو المصلح ، فإن الله يعلم حيث يجعل رسالته ,يريد أن يصنع النبي أو المصلح على عينه ليظهر في وقته المعلوم , فيجدد ما رث من حبله , ويوضح ما اشتبه من سبيله , والفطرة التي فطر عليها حسن البنا ، والحقبة التي ظهر فيها تشهدان بأنه المصلح الذي اصطنعه الله لهذا الفساد الذي صنعه الناس .

ولم يكن إصلاحه ـ رضوان الله عليه ت من نوع ما جاء به ابن تيمية , وابن عبد الوهاب , ومحمد عبده ، فإن هؤلاء قصروا إصلاحهم على ما أفسدته البدع والأباطيل من جوهر العقيدة , أما هو فقد نهج في إصلاحه منهج الرسول نفسه : دع إلى إصلاح الدين والدنيا , وتهذيب الفرد والمجتمع , وتنظيم السياسة ولحكم , فكان أول مصلح ديني فهم الإسلام على حقيقته ، وأمضى الإصلاح على وجهه , لم يفهم الإسلام الذي طهر الأرض وحرر الخلق , وقرر الحق على أنه عبادات تؤدي , وأذكار تقام , وأوراد تتلى ، وإنما فهمه كما فهمه محمد وعمر وخالد نورا للبصر والبصيرة ودستورا للقضاء والإدارة , وجهادا للنفس والعدو .

ولقد كان النهج الذي قبسه ( البنا ) من القران وعززه بالعلم ونشره بالبيان وأيده بالمعاملة كان من الجد والصدق والعزيمة ، بحيث زلزل أقدام المستعمر , وأقض مضاجع الطاغية , وخيب آمال المستغل , فتناصرت قوى الشر على الدعوة العظيمة , وهي تجدد في مصر , كما تناصرت قوى الشرك عليها وهي تولد في الحجاز , ولما كان حسن البنا فكرة ولا صورة , ومبدأ لا شخصا , فإن الفكرة الصالحة تنمو نماء النبت , والمبدأ الحق يبقى بقاء الحق .

الأستاذ علي الغاياتي
الشهيد الخالد

إذا صح ما قاله المغفور له الملك عبد الله الهاشمي من "إن الإخوان المسلمين هم معجزة القران في هذا الزمان ", فمما لا شك فيه أن مؤسس جماعتهم وراعي نهضتهم ومرشدهم العام المرحوم الأستاذ حسن البنا هو " رب هذه المعجزة " , فهي من علمه وهديه , ونشاطه وروحه , وإيمانه وإسلامه . استمدت هذه الجماعة ما سمت به من عظيم الصفات , وما قلت به جليل الإعمال .

كان ـ رحمه الله وطيب ثراه ـ أمة في رجل تعددت نواحيه النافعة , وفاضت نفحاته الساطعة في كل جانب من جوانب الحياة الإسلام ية في مصر وسائر أنحاء الوطن الإسلام ي .

ولقد كان شديد الاهتمام بشئون المسلمين أينما حلوا وأقاموا , وأذكر أنه سمع منذ بضعة أعوام أنني أفكر في الهجرة إلى أمريكا لبث الدعوة , ونشر الفكرة هناك ، فحضر مع الأخ الكريم صالح عشماوي إلى دار " منبر الشرق " , وأخبرني أن كثيرا من المسلمين في أمريكا الجنوبية حائرون في أمر تربية أبنائهم تربية عربية إسلامية ، وهم يخشون عليهم من المستقبل إذا لم يتداركوا المرشدون الهادون بإرشادهم وهدايتهم , ووجه نظري إلى الاهتمام بهذه الناحية إذا سافرت إلى هناك , ووعد بالعمل على إمدادي إذا استطاع بما قد يدعو إليه الحال من مال ورجال , ولم يشأ الله أن أهاجر , فبقيت بمصر , ودامت صلة الود بيننا خالصة قوية , حتى أنني عرضت عليه يوما أن يصدر " المنبر " عن دار الإخوان المسلمين , كما تصدر صحف أخرى عن دور زميلاتها في السلوك والسياسة , فرحب بهذا الاقتراح , ووعد بتنفيذه متى تم الاستعداد اللازم لذلك .

وحدث ما حدث في 8 من ديسمبر سنة 1948 م من حل الإخوان , ووقف نشاطهم , وتعطيل صحفهم وأراد الله ـ سبحانه وتتعالى ـ أ، يبقى " منبر الشرق " مستقلا , ليرفع الراية عند سنوح الفرصة , ويدافع عن الإخوان بعد أ، سكتت الأقلام , وبمجرد ذكرى الشهيد الخالد بعد عام واحد من وفاته ( عليه الرحمة والرضوان ) , هيأ الله السبيل بعد ذلك للإخوان , فأصدروا " المباحث " , ثم تركوها وأسسوا " الدعوة " الغراء التي يسرني أ، أهنئها بعامها الثاني , وأن أدعو لها وللقائمين عليها بكل نجاح وتوفيق .

ولا ريب في أن كل هذه الحركة المباركة التي نراها في محيط الإخوان هي من غرس يدي حسن البنا , وكل الاتجاه الروحي الديني الطاهر الذي نراه في كثير من الشباب الجامعيين والأزهريين , وغيرهم في المدن والقرى في مصر وغير مصر , هو ثمرة التربية الإسلام ية التي بثها وعلمها , والتي كان من نتائجها ما شهداه في فلسطين وفي القتال من بسالة وفداء وإيمان , ولولا الدسائس والعراقيل الخارجية والداخلية لفاز المؤمنون بنصر الله الذي وعد به عباده الصالحين .

ومما لا مراء فيه أن الروح المحمدية السامية , التي تعهدها ورعاها حسن ستبقى ون تزول , وستقوى على مر الأيام والأعوام , وسيعود بفضلها مجد وشبا ب الإسلام ـ إن شاء الله.

الأستاذ مصطفى أمين
عرفت المرشدين الأربعة

" الرجال مواقف , تعرف حقيقتهم في لحظات المحن والابتلاء " , الكاتب الكبير مصطفى أمين عاش مع الاخوان في ليمان طرة عدة سنوات , يقول عنهم ؛ كانوا بحق رجالا ؛ أعجبت بصفات جليلة فيهم .

حسن البنا زعيم المعارضة

مصطفى أمين كتب عن إمامنا الشهيد حسن البنا حتى قبل أن يراه , توقع له أن يكون زعيم المعرضة في البرلمان سنة 1942 م , إذا خاض الانتخابات التي أجريت ونجح فيها , كان قد زار مدينة الإسماعيلية التي نشأت فيها جماعة الإخوان , فرأى الجميع هناك يتحدثون عن خصائصه المميزة ومواهبه .

يقول كاتبنا الكبير في ذلك : أنا أول من رشح حسن البنا زعيما للمعارضة , كان ذلك في مارسسنة 1942 / , كان الوفد قد جاء إلى الحكم قبل ذلك بشهر , وبدأت الاستعدادات لإجراء انتخابات جديدة , كتبت في "مجلة الاثنين " ـ وكنت رئيس تحريرها , وكانت أوسع المجلات انتشارا في ذلك الوقت ـ مقالا يوم 2 من مارسسنة 1942 م بالصفحة الخامسة تحت عنوان : " من يكون زعيم المعارضة ؟" قلت فيه بالحرف الواحد : متأكدون أ، زعيم المعارضة في مجلس النواب سيكون واحدا من اثنين , عبد الرحمن عزام باشا ، أو الأستاذ حسن البنا ـ رئيس جمعية الإخوان المسلمين , وهو شخصية سياسية جديدة , ويقدر المراقبون أنه سيكتسح مدينة الإسماعيلية فله فيها أنصار كثيرون , وأهالي المدينة يعتقدون أن ترشيحه مسألة كرام لهم , وهم الذين دفعوا له مبلغ التأمين , واستضافوه , وقدموا سياراتهم وبيتهم لتكون مركز الدعاية له , وهو خطيب مفوه يتزعم إصلاحية , ونتنبأ له بأنه سيشق طريقه بسرعة إلى الصفوف الأولى.

وبعد ذلك بأسابيع ثلاثة عاد مصطفى أمين يكتب في نفس الموضوع , فنشر يوم 23 من مارسسنة 1942 م مقالا تحت عنوان " الإسماعيلية " , قال فيه : أبرز مرشحي هذه الدائرة حسن البنا ـ المرشد العام للإخوان المسلمين ـ وهذه الجمعية تتألف من فئات الشعب في مختلف أنحاء القطر وأغلبية المنتمين غليها من المثقفين من المحامين والأطباء والموظفين والطلاب ومن إليهم , ويمتاز بأنه خطيب مفوه ساحر , يستطيع أن يخطب عدة ساعات دون أن يتعب مع أنه نحيف وضعيف البنية , وقد يحسب البعض أنه شيخ أزهري ، ولكنه شاب تخرج في دار العلوم , وعمل في المدارس الحكومية ، ثم ألف جمعيته مع بعض إخوانه ، وأصبحت بسرعة أكبر الجمعيات في مصر والشرق .

وقد أحدثت هذه المقالات ضجة ـ كما يقول مصطفى أمين ـ وتعجب الناس لهذه التنبؤات , ودهش لها حسن البنا نفسه ، فم أكن قد التقيت به قبل ذلك , ومع ذلك توقعت له أن يكون زعيم المعارضة دون أن أعرفه .

وطلب حسن البنا مقابلتي , وفعلا تم ذلك في مراكز الجماعة بالحلمية كتبت بعدها مقالا في " مجلة الاثنين " نشر في 27 من أبريل سنة 1942 م قلت فيه : نشأت جماعة الإخوان المسلمين دون ضجة , ونمت رويدا رويدا حتى ملأت جوانب المدن , وتغلغلت في القرى ، وهي دعوة للدين السمح الكريم .

وأمل الجماعة الأعظم ينطوي في كفاحها الدائم , وتكاد تلمسه في أحاديث رئيسها الذي يقول :" منذ اليوم الأول الذي نشأت فيه جماعتنا نؤمن بأن الغد سوف يخصنا بتبعاته".

ورئيس الإخوان المسلمين لا يسمى رئيسا , بل مرشدا , وقد قصد بذلك ألا يكون رئيس ومرؤوس ، بل إخوة متحابون ، وأشد ما تحرص عليه الجماعة هو الصلة الروحية بين أعضائها وتقويتها بشتى السبل , والمرشد العام هو شعلة متقدة من النشاط والهمة , وهو يوصي دائما بأن تكون الإخوة الإسلام ية ممثلة في كل حركة للجماعة , وجماعة الإخوان تخلص كله لفضيلة المرشد العام , وأعتقد أن مستقبل هذه الجماعة يفوق حساب كل متفائل .

وقد تنبه الاستعمار البريطاني إلى خطورة حسن البنا على مصالحه , فأرسل إنذارا إلى الحكومة المصرية بألا يرشح مرشد الإخوان المسلمين نفسه في البرلمان , هذا ما أكده حسن البنا لكاتبنا الكبير في أول لقاء معه .

سألت مصطفى أمين : بعد أ، تعرفت على إمامنا الشهيد حسن البنا واختلطت به ، ما الذي أعجبك فيه ؟

أجابني : إيمانه بفكرته ، كان يؤمن بها بطريقة عجيبة ، ويرى أن المستقبل لها ، وقد انعكس ذلك على سلوكه ، فكانت له قدرة فائقة على إقناع الغير بذلك , كان خطيبا مفوها قادرا على التأثير في آلاف الناس ، كما كان شديد التأثير على كل من يجل سمعه أيا كان تفكيره , كان يقنع العامل ويحدثه بأسلوبه ، وكذلك يفعل مع الطالب ، وكبير والصغير , والغني والفقير ، وساكن الريف والمدينة ، وكل طبقات الشعب .

أعجبني كذلك في حسن البنا أن إيمانه بفكرته لم يكن عاطفيا فقط ، بل كان محسوب بالخطوات مدروسا .

الدكتور الطاهر أحمد مكي
صورة إنسانية بعيدة عن السياسة .. حين البنا كما عرفته

لم أكن أدرك ـ يوم رأيته للمرة الأولى في قرية نائية من قرى مركز إسنا محافظة [[قنا]] ، في أعلى الصعيد ، تسكنها قبائل عرب المطاعنة التي أنتمي إليها ـ شيئا مهما عن الساسة والكفاح ومساوئ الاستعمار والاحتلال الانجليزي وجبروته ، والهجمة الشرسة على الإسلام دينا , في القاهرة والمدن الكبرى ، وحبائل جمعيات التبشير ، وأجهزة الإعلام الأجنبية ، وفيض الكتب والنشرات التي توزعها مؤسسات تتخفى وراء العلاج والتعليم , وتوزع مع العلم والصحة الإلحاد والزيغ ، وفتنة المسلمين عن دينهم .

ولكني أيضا ، لم أكن بعيدا عن ذلك ، فقد كنت من نابهي الأطفال الذين يترددون على كتاب القرية ، والمدرسة الإلزامية ، وموقوفا عليهما ، لا عمل لي غير القراءة والمذكرة وحفظ القران الكريم ، على حين أن جل أبناء بلدتي يساعدون أهليهم في الزراعة ومتطلبات العيش , وكان على في لحظات الفراغ أن أقرأ للناس ـ وهم أميون في جملتهم ـ في صحيفة الأهرام ، الجريدة الوحيدة التي تبلغ القرية ، اشتراكا يتقاسمه ضابط النقطة ، وعمدة القرية ، وخال لي ، وكنت أعي بعض ما أقرأ ، من أسماء الوزراء والأحداث على الأقل ، وأفهم قدرا يسيرا من التعليقات ، وقليلا جدا من المقالات ، أما الجانب الأكبر فكنت أراه طلاسم لا تعني شيئا ، ولا زلت أذكر حتى الساعة مقالا كبيرا في الصفحة المخصصة للأدب والثقافة ، عن" التشاؤم والتفاؤل " رحت أقرؤه مرة ومرة ، فلم أفهم شيئا مما يقول .

في تك الأيام سمعت أن حسن البنا ـ المرشد العام للإخوان المسلمين ـ حل ضيفا على ديوان عائلتي في كيمان المطاعنة ، على بعد كيلو مترات .

من محل إقامتي ، وفيها كان يسكن والدي أيضا ، فشددت رحيلي إليها مأخوذا برؤية شخصية قادمة من القاهرة , يظهر اسمها في الصحف بين حين وآخر , ويكتب المقال الافتتاحي في مجلة " لنذير " ، وكانت تقع في يدي أحيانا ؛ يجلبها خالي حين يذهب إلى السوق في المدينة ، كان في أواخر شهر أغسطس من عام 1938 م .

بدأت أتأمله من على بعد أولا , ومون قريب فيما بعد ، هذا الضيف الوافد ، يرتد ي ملابس بيضاء فضفاضة ، بسيطة ونظيفة ، ويلف فوق طربوشه شاشا ، معتدل القامة والبنية ، أبيض مشربا بحمرة ، مرسل اللحية ، نافذ البصر والبصيرة ، يتحرك وسط جموع الريفيين البسطاء كأنه هالة من نور ، وهم حوله فرحون به ، يعرف كيف يملك قلوب المئات الذين توافدوا من النجوع التي حول القرية ، بعضهم طلاب في الأزهر ، والغالبية فلاحون ، جاءوا مدعوين ، أو ليسلموا عليه ، أو مستطلعين .

كيف يمضي؟

أمضي حسن البنا وقتها في كميان المطاعنة ليلة ويومين ، زار فيها دواوين بطون العائلة في القرية ، حتى أولئك الذين كانوا علي خلاف مع أهلنا ، أو الذين يرتبطون بأحزاب سياسية لا تتعاطف مع الإخوان المسلمين ، وفي زيارته يصلح بين المتخاصمين ، ويجمع الناس علي كلمة خير ، يفعل ذلك في الصباح علي امتداده بعد إفطار بسيط، رغم وفرة ما يقدم وتنوعه ، فإذا انتصف النهار صلي بالناس الظهر في المسجد ، وأمهم في الصلاة ، وبعدها يتناول الغداء علي بسط مفروشة علي الطريقة العربية وجموع المدعوين علي شرفه ، فإذا انتهى الطعام أرسل شكره في دعاء طيب ، لا أزال أذكر لفظه ، ويرن صداه في أذني كأنه قيل بالأمس ، في لغة نقية رصينة ، وامتنان صادق مؤثر : "أكل طعامكم الأبرار ، و صلت عليكم ملائكته الرحمن ، وذكركم الله فيمن عنده" .

وبعد الغداء يستريح قليلا من وهج حر الظهيرة ، حيث الشمس شديدة والحر قوي في أعلي صعيد مصر ، حتى إذا حانت صلاة العصر أم الناس في مسجد القرية ، وكان يومها متواضعا ، مفروشا بالحصر ، تعلوه قبة خفيفة من التراب ، وتطوقه الشمس من كل جهاته ، ومع ذلك لم يضق بشئ من هذا ، وما ضجر ولا تأفف ، وإنما ظل فيه بعد الصلاة يلقي حديثا دينيا استهله بحديث : " وما اجتمع قوم في بيت من بيوت الله ، يتلون كتابه ، ويتدارسون آياته ، إلا حفتهم الملائكة ، وغشيتهم الرحمة .." ، ثم يمضي يفسر بعضا من أي القران ، و يربطها بواقع الناس ، ولا اذكر الآن من تفاصيل الحديث شيئا ، وان بقيت الصورة حية متوهجة في عقلي وقلبي.

فإذا جن الليل بعد رحلة مرهقة ببين دواوين بطون القبيلة المختلفة , واوي الناس إلى مضاجعهم ، انفرد هو بنفسه ، في صمت ومن غير ضجيج ، يقرأ ورده ، ويؤدي ما اعتاد من صلواته .

كان له رفيق في هذه الرحلة "أ.ح" , وكان يومها شابا فارعا ،في مقتبل العمر ، موفور الجسد ،قوي البنيان ، تخرج في الأزهر حديثا ، يرتدي الزى الأزهري كاملا :عمامة وقفطانا وكاكولة ، وأذكر واعيا أن الناس لم يرتحلوا إليه ، رأوا في حركاته تصنعا وافتعالا ، وفي حديثه عجبا وخيلاء ، وكلها ـ كما يرون ـ أشياء لا تليق بالعلماء ، ولا تعكس ملامح وجهه شيئا من نور الصالحين وتقاهم ، وبدا لهم كأنه يطل عليهم من عل ، فتركوه فردا ضائعا في ضجيج المتزاحمين حول البناء ، وإن أعطوه حق الضيافة كاملا .

ومن كيمان المطاعنة إلى أصفوان المطاعنة، حل ضيفا على عائلة فراج طايع ، وكان عميدها قد أمضى أعواما يدرس في الأزهر ، دون أن ينال شهادة ما ، على عادة الناس في تلك الأيام ، وأصبح عضوا في مجلس الشيوخ عن الدائرة ، بعد عهد غلى الشيخ محمد الأخير أن يقيم شعبة للإخوان في القرية ، وكان هذا أيضا قد درس عامين في الأزهر ، ولم يكمل دراسته ، لأسباب خارجة عن إرادته ، واستعاض عن حرمانه هذا بأن أخذ على عاتقه حث الناس في القرية على تعليم أبنائهم بإرسالهم إلى المدارس والمعاهد والكليات في القاهرة ، ويصحبهم أحيانا بنفسه ، على ما في ذلك من جهد ومشقة ، وصدق في جهده .

جولة في الصعيد

وفي العام التالي ، في شهر سبتمبر 1939م ، جاء حسن البنا في رحلة ثانية ، شملت الصعيد كله في هذه المرة ، جاء يؤكد صلته بالناس ، ويدعم شعب الأخوان التي أقيمت ، وإذا توثقت علاقته بقوم ، حاول أن يحل مشكلاتهم الاتصالية والعائلية ، وأن يوجههم نحو الخير، وأن يصرفهم عن بعض ما يقومون به من عادات ، يسمع بها ولم يرها ، كالثأر والتشاحن والعصبية القبلية ، وكان احتفاء الناس به كبيرا في هذه المرة ، وقوبل بإطلاق البنادق في الهواء زيادة في التكريم .

في هذه المرة رأيته عن قرب أكثر ، فقد كبرت عاما ، وازداد اهتمامي بمعرفته ، ولم يغير هو شيئا في برنامجه ، أو عبادته ، أو ملابسه ، غير أنه صحب شابا أزهريا آخر ، ولازلت أذكر اسمه ، رغم أنني لم أره بعد هذه المرة أبدا ، هو الشيخ عبد المعز عبد الستار ، وكان طالبا وصاحبه قد قدما إلينا في هذه المرة من أصفون المطاعنة ، فلما أنهيا إقامتهما غادرا إلى إسنا ، ليوصلا رحلتهما في بقية مدن أعلى الصعيد .

في العاصمة .. قنا

في العام التالي ذهبت إلى قنا عاصمة المديرية ، تلميذا في معهدها الابتدائي ، وكانت منطفئة ، تبذل جهدا لكي تحصل فيها على صحيفة أو كتاب ، وأمضيت عامي الأول صبيا غرا ، أسكن أطرافها ، دون أن أهبطها لغير السينما ليلة الجمعة من كل أسبوع ، فلم أعرف خلال عامي هذا من الحياة العامة فيها شيئا ، حتى إذا كان عامي التالي اتخذت سكني في شارعها الرئيسي ، وبدأت أتعرف على نواحي النشاط فيها ، فكنت أتردد من حين لآخر على جمعية الشبان المسلمين ، التي قصرت نشاطها على بعض المهرجانات الدينية ، في المواسم المعتادة ، مثل رأس السنة الهجرية ، والمولد النبوي ، وغزوة بدر ، وشيء من النشاط الرياضي ، وفي تلك الأيام كان الناس يتخذون من المناسبات الدينية وسيلة لتغذية الشعور العام ، وإيقاظ روح الوطنية والنضال ضد المستعمر ، دون أ، يستطيع منعهم أو التصدي لهم ، ويحضر مثل هذه الاحتفالات كبار الموظفين عادة ، وتلقي فيها خطبة رئيسة تعرض لتاريخ المناسبة ، وتحاول استخراج العظة ، وتحث المسلمين على استرداد مجدهم ، تتلوها قصائد يلقيها شعراء من أهل الإقليم عادة ، متوسطة الجودة في خيرها ، تناجي الرسول (عليه الصلاة والسلام ) ، تبكي المجد الذاهب ، تأسي على الماضي المفقود ، وتأمل في غد أفضل حالا .

وكان المعهد الديني يقيم بدوره يقيم حفلا فخيما ، ويتميز بأن المدير نفسه ، وهو ما يعدل وظيفة المحافظ الآن ، يحضره بشخصه ، يصل برفقة شيخ المعهد ، ويسبقه هذا في خطوه بوصفه رجل دين ، رغم أنه مرءوس له بوصفه موظفا طبقا للوائح والقوانين ، وهو اعتداد كان الأزهر يومها يدين به لشيخه العظيم محمد مصطفى المراغي عالما ، وكرامة الهيئة التي يرأسها شيخا ، لم يحن رأسه لحظة أمام أي مخلوق .

ولكن قنا الهادئة ، تحولت عام 1940 م إلى مدينة صاخبة تضج بالحركة والجند والسلاح والسيارات والمصفحات ، جنود من كل جنس ولون ، جاءوا من شتى أطراف الدنيا ، من بريطانيا ، والهند ، ودول أفريقيا وأستراليا وأوروبا ، وألوف من العمال المصريين معهم ، يتلقون أجورا عالية ، ويعملون في مد خطوط السكك الحديدية والكهرباء والماء بين قنا والقصير على البحر الأحمر ، فقد اندلعت الحرب العالمية الثانية قبل ذلك بعام ، وعانى الانجليز من هزائم مريرة في شمال مصر على الحدود الليبية ، وحصار عنيف في البحر الأحمر ؛ إذ سيطرت عليه الغواصات الألمانية والايطالية ، فأرادوا أ، يتلقوا إمداداتهم عن طريق البحر الأحمر ، وهو أكثر أمنا لهم ، ويتيح لهم الانسحاب بخسائر أقل في حالة الهزيمة الكاملة .

وجاء الجنود ومعهم كل الإمراض : الجريمة، والسوق السوداء ، والسرقات ، وأزمة الإسكان ، والتضخم ، وقلة الموارد التموينية ، والملاريا .

في تلك الأيام أحسست ، وأنا على أبواب الشباب أن جمعية الشبان المسلمين مكان طيب لقضاء الوقت ، والتدرب على الخطابة ، ولكنها بلا غايات سياسية واضحة وصريحة ، وأن تحرير الوطن لن يجئ عن طريقها ، وكان منظر الجنود الأعاجم من كل الجنسيات والألوان سكارى في الليل يثيرنا ، ويلهب في أعماقنا الحماسة والتمرد ، ويدفعنا إلى الاصطدام بهم دفعا .

وساقتني قدماي صدفة إلى شعبة الإخوان المسلمين ، وكانت تشغل الدور الأرضي من عمارة ميدان المديرية ، وهو الرئيس في المدينة ، وتطل عليه مباشرة ، وتتكون من قاعة معدة للمحاضرات تحو لإلى مصلي في أوقات الصلاة ، ومكتب ، وغرفة ثالثة ، إلى جانب المرافق ، وانضممت إليها في الحال ، وفي ذاكرتي صورة هذا الرجل العبقري الذي رأيته في ديواننا منذ عامين .

كان نشاط الإخوان المسلمين متنوعا ، يشمل المحاضرات والدروس ، والتدريب على الخطابة ، والرحلات ، وكل ضروب التعاون على الخير ، والمنضمون إليها من المدرسين في الثانوية والمعلمين ، ومن الصغار الموظفين في جملتهم ، وبعض طلاب المعهد الديني ، أما أساتذة المعهد فاثروا أن يظلوا على الحياد ، وأن يقتنعوا بالوعظ والخطابة في جمعية الشبان المسلمين .

وفي 20 من مايو 1941م أصدر حسين سري ـ رئيس الوزراء ـ قرارا بنقل حسن البنا من مدرسة عباس الأول الابتدائية بالقاهرة إلى مدرسة قنا الابتدائية ، وكان ذلك مع نهاية العام الدراسي ، ولعله جاء ليتسلم العمل فقط ، ثم سافر ثانية ؛ لأنني لم أره في هذا العام ، فقد كنت مشغولا أيضا بامتحاناتي ، أما في العام التالي ، وجاء مع بدئه ، فقد كنت إلى جوار البنا جل وقتي .

البنا معلما

كان نموذجا في دقته ، موظفا على ذكاء شديد ، وقدرة فائقة في تحيل المواقف لصالحه ، وحين جاءت الأوامر السرية لناظر المدرسة بأن يرهقه بلا عمل ، فيوكل إليه أقصى قدر من الساعات ، والمدارس يومها تجري على نظام اليوم الكامل ، من السابعة والنصف حتى الرابعة بعد الظهر ، لم يتململ البنا من هذا ، وكل ما هنالك أنه رغب في أن يقوم بتدريس الخط العربي ، وسعدت المدرسة برغبته ، وسعد بها زملاؤه ، فقد كان المدرسون يهربون من هذه المادة ؛ لأنهم يرونها أدنى من غيرها ،ولعزوف الطلاب عنها ، واعتمادها على الموهبة وحدها ، وعدم اعتناء المفتشين بها ، فأعطوها له شاكرين .

أما البنا نفسه فكان يهدف من وراء هذه الرغبة إلى غايتين ، أولاهما : أن الساعات المقررة للخط أسبوعيا ساعتان ، ومعنى هذا أنه سوف يدرس لكل تلاميذ المدرسة التي يبلغ عدد فصولها 15 فصلا ، وسوف يلتقي بكل هؤلاء الصغار ، وهم على أبواب الشباب ، فيصنع منهم الرجل الذي يريده لبلاده ، وهو ما حدث فعلا ، فهذا المدرس البشوش ، المبتسم دائما ، العطوف في هدوء ، والحنون في وقار ، جعل من حصة الخط شيئا جميلا ، يبل عليها الصغار فريحين ، فهو يتباسط معهم في القول ؛ ويحدثهم عن كثير من شئونهم ،ولا يبعد بهم عن عالمهم ، ويسألهم في غير إحراج أو تأنيب : من الذي صلى منهم الصبح فيكافئه ويطريه ، ومن الذي يحفظ شيئا من القران فيسمعه منه ويصحح له ، فإذا جاءت فسحة وسط النهار تواعد معهم على اللقاء في مصلى المدرسة .

وبعد شهر واحد كان أحب الأساتذة إلى كل تلاميذ المدرسة بلا استثناء .

أما الغاية الثانية : فهي أن حصة الخط تنتهي انقضاء وقتها ، فلا تصحيح بعدها ، ولا تحضير لها ، فيفيد بالقليل الذي تبقى له من اليوم وبقية الليل في الدعوة ونشرها ، واكتساب أنصار لها ، وفي القراءة والعبادة .

كان البنا ينزل في " لوكاندة الجبلاوي الجديدة "،وهي أرقي فندق في قنا في تلك الأيام ، ولا يزال مبناها قائما إلى يومنا ، وإن تدهور حاله ، وبرنامجه اليومي لا يكاد يختلف : يعود إليها مع الرابعة ليستريح قليلا ، ويغير ملابسه ، ثم يأتي إلى شعبة الإخوان فيصلي المغرب جماعة بمن فيها ، صلاة وقورة خاشعة ، لا يطيل فيها فترهق ، ولا يجعل منها مجرد أداء واجب فيختصر ، وينصرف بعدها إلى تصريف شئون الجماعة ، ولقاء الزوار ،أو زيارة من علي موعد منهم من أهل البلد ، أو الهيئات الأخرى إسلامية ومسيحية ، ثم يعود إلى صلاة العشاء ، وبعدها يلقي درسا دينيا هو قراءة في كتاب " إحياء علوم الدين " للإمام الغزالي ، وكان يثني عليه كثيرا ، وهو أول من لفت نظرنا إليه .

أما ليلة الجمعة ، فكان يعقب صلاة العشاء بمحاضرة عامة ، يأتيها الجمهور من ك لأنحاء المدينة ، من المنتسبين إلى الإخوان وغيرهم ، وتدور حول قضايا الساعة التي تهم الجماهير ، ولكنها تتخذ من الدين منطلقا .

قلب يعمره حب الناس والطبيعة

أتاح لي القرب من البنا على امتداد تلك الشهور القليلة أن أتبين فيه أشياء كثيرة : الذاكرة القوية ، فما رأيته مرة إلا وسألني عن أهلي بأسمائهم فردا فردا ، حتى أولئك الذين لقيهم لدقائق قليلة ، أو ذكرت أسماؤهم أمامه مرة واحدة ، وقدرته الفائقة على أن يتكلم العربية الصحيحة والبسيطة والواضحة دوما ، وعفة لسانه ، فما رأيته مرة يخوض في سيرة أحد ، أو يذكر شخصا بسوء ، معارضا أو عدوا ،وإنما ينقد ما يراه من زيف وباطل ، أو خروج عل قواعد الدين ، نقدا موضوعيا ، يشخص الداء ويعمل على أ، يجمع ويوحد ويؤلف ، ويردد باستمرار : "نعمل سويا فيما اتفقنا عليه ، ويعذر بعضنا بعضا فيما اختلفنا فيه " .

ورأيته يسع بقلبه الناس جميعا ، من يكبرونه سنا ، ومن يفوقونه في الوظائف درجات ، فضلا عمن دونه عمرا ومقاما ، يهتم بأمرهم ، ويعينهم على تجاوز ما يعترضهم من صعاب ، وفيما بعد سوف يضم المركز العام للإخوان المسلمين في القاهرة إدارة للعلاقات العامة مهمتها معاونة الإخوان على مستوى القطر المصري أولا ، ثم العالم الإسلام ي فيما بعد ، على حل مشكلاتهم اليومية والحياتية ، ويحرص على أن يجمع الإخوان في أي مكان على الحب والود والتعاون ، وأول ما يبدأ به أي خطبة له زائرا ،أن يذكر مستمعيه بأنه يحمل لهم تحيات الإخوان في المكان القادم منه .

وكان يشده جمال الطبيعة ، ومنظر النيل ، وغروب الشمس ، ومهابة الجبال ، ويرى فيها بديع صنع الله ، وما أكثر ما صحبنا في جولات ونزهات إلى غابة قنا ، وكانت قد أنشئت في تلك الأيام على حافة المدينة ، فوق جزء من الصحراء ، وهناك نصلي المغرب ، لا يحد بصرنا جدران ، ولا يعزلنا عن السماء ستار .

ولم تمض غير شهور قلية حتى أحست إنجلترا المستعمرة ، ولها في قنا قوت ومخابرات ، والحكومة المصرية التي كانت تتحرك في إطارها ـ أحست أ، حسن البنا في الصعيد أخطر منه في القاهرة ، فهو يتحرك في مجال بكر مفتوح ، ويتلقى بأناس خلص ، لم تفسدهم الحضارة ،ولم تعرف الطراوة طريقها إلى قلوبهم أو أبدانهم ، فردته إلى القاهرة من جديد .

وقبل أن يرحل البنا من قنا أراد أن يفيد من مكانته ، ومن حب الناس له ، وتعلقهم له ، فتمنى عليهم أن تكون دار الإخوان خاصة بهم وملكا لهم ، وليست شقة مستأجرة في عمارة ، فانهالت التبرعات من كل طبقات السكان ، وبنوها في أفضل مكان من المدينة وضمت الكثير من المؤسسات العلمية والاجتماعية :قاعة محاضرات وعيادات وكتبة ، ومصلى ، ونزلا للقادمين من الإخوان ، وأصبح أعضاؤها وروادها من خيرة موظفي المدية ممن يعلمون في الإدارات المختلفة .

بعض من عرفت

لا زالت بعض الصور ثابتة في ذاكرتي ، وإن نسيت بعض الأسماء ، أذكر الشيخ محمد عبد الظاهر ، وكان مأذونا وصاحب مكتبة ، وحركة لا تهدأ ، وسوف يقضي حياته سجينا في الهجمة على الإخوان المسلمين ، والفنان سعد الشاذلي ، وكان مصورا موهوبا ، وخلقا عطرا ، ومات في التعذيب ، ومستشارا فاضلا من رجال القضاء ، كان يجيئنا في الدار ، ويؤمنا في الصلاة ، ويفسر معنا بعض آي القران ، وإذا بي أكتشف أنه يحفظ القران ، ولا تند منه آية ، وكان محمد القرط المشرف علي المجزر إذا صلي بنا المغرب أو العشاء يقرأ القران في عذوبة خاشعة يرق لها الصخر ، وطه عبد السلام لا يكلف بشئ إلا قام به راضيا مهما يكن شاقا ، وسوف يكون لحسين رشدي المدرس في صنايع قنا دور خطير سأعرض له فيما بعد ،وكان هناك أحمد السنهوري ، وظل وفيا لمبدئه حتى يومنا ، وإبراهيم دهمش ،ولم يكتمل رحلته في التعليم أو في الإخوان .

في القاهرة

ولم يكد البنا يصل إلى القاهرة ويستقر فيها حتى كشفت وزارة حسين سري باشا عن نواياها ، فصادرت مطبوعاتهم ، وتمالك الإخوان أعصابهم دون أن يداخلهم خوف أو رعب ، وفي تلك الأيام ـ ولعلها كانت أواخر شهر ديسمبر من عام 1941 م ـ هبط قنا في القطار الذي يصلها في السابعة مساء مع أول الليل ، وافد من القاهرة هو المناضل ، والتقى المضحي المرحوم الأستاذ صالح عشماوي ، والتقى بالإخوان بعيدا عن عيون الحكومة والانجليز ، في فيلا تقع على هامش المدينة ، صلى فيها الإخوان لعشاء ، وتذاكروا أمورهم ، وحمل إليهم القرارات : لا نستفز الحكومة ، ولكن إذا دعت الحال سوف نواجهها ، ومع الفجر عاد إلى المحطة ، وأخذ القطار الذي يغادرها فجرا دون أن يحس به أحد .

وأذكر أننا بعدها تدارسنا كيف نواجه لانجليز في كل مواقع المدينة المهمة ، مراكز تجمع الكهرباء والهاتف ، وكيف يمكن أن نقطعها في دقائق فنعزل المدينة ، ونغرقها في الظلام ، ومن يقوم بهذه المهمة وكيف ، وجاءنا العاملون في الإدارات المتصلة بهذه الخدمات بالخرائط كاملة ، وتولى حسين رشدي تدريبنا على طريقة فصل الكهرباء في مجمعاتها دون أن نصاب بأذى ، ودرسنا تجمعات القوات البريطانية ، ومخازن سلاحها ، وكيفية مواجهتها إذا هي تدخلت ، ولا أدري ما الذي كان يحدث في القاهرة يومها ، ولكن م تمض غير أيام قليلة حتى أفرج عن حسن البنا ، وألغي قرار حل الإخوان ومنع اجتماعاتهم ، فعادوا يمارسون نشاطهم بأقوى مما كان بعد أن اكتسبوا شعبية هائلة .

ورغم نشاط الإخوان المتسع في قنا إلا أ، الدراسة في المعهد لم تكن مفيدة أو حتى مسلية ، فقد كان مستوى المدرسين هابطا ، ومعلوماتهم التربوية منعدمة ، وليس لهم تخصص محدد يعنون به ، وكل مدرس يدرس كل شئ ، والحياة الثقافية في المدينة متخلفة ، وفي تلك الأيام جاء المعهد معينا جديدا الشيخ كامل عجلان ، وكان صحفيا أديبا ، فزلزل بأسلوبه وطريقته في الحياة والتعامل والفهم ما جمد من أفكارنا ، وحثني على ترك هذا الجو الخانق ، وهكذا قررت أن أرحل إل القاهرة ، وأن أقضي مرحلة التعليم الثانوي فيها .

في 9 من أكتوبر 1944 م وصلت القاهرة ، وهي تموج بالمظاهرات من كل شكل ولون ، فقد أقيلت وزارة الوفد بعد صراع مرير مع القصر الملكي ، وجاء فاروق بأحمد ماهر باشا رئيسا للوزراء ، فحل البرلمان ، وبدأ يختط سياسة ؛ يمثل رأي مركز الثقل فيها .

وابتلعتني القاهرة بصخبها ، ومظاهراتها الطلابية التي لم تكن تتوقف وندواتها الثقافية العديدة ، الجمعيات ، والنقابات ، والجامعات ، وبعضها كنا نحضره مقابل ثمن يعدل ثمن تذكرة السينما ، وهكذا احتجت لبعض الوقت لكي تعرف قدمي طريقها إلى المركز العام لجماعة الإخوان المسلمين ، وكان يقع في أهم ميدان من الحلمية الجديدة ، وتجئ في وسط القاهرة تماما ، وكانت في مطلع هذا القرن مسكن علية القوم .

كان الإخوان في الميدان داران ، إحداهما قديمة متواضعة ، من طابقين ، شغلها المركز العام زمنا ، وتحتلها جريدة الإخوان ، والثانية قصر منيف ، اشتراه الإخوان حديثا من تبرعات عمت القطر المصري كله لهذا المقر ولإصدار الصحيفة اليومية ، وشارك فيها المواطنون من كل الطبقات ، الأغنياء والفقراء ، المثقفون والعمال ، الرجال والنساء والأطفال ، بما يملكون من مدخرات بسيطة أو جواهر وحلي ، وفي القاعة العربية من هذا القصر ،وكانت بالغة الفخامة والروعة ، رأيت حسن البنا للمرة الأولى في القاهرة ، وحوله حشد من الناس ، يسلمون على الجمهور إثر اجتماع حافل من الاجتماعات التي تقام لنصرة قضية فلسطين ، وعرفت بينهم للوهلة الأولى الحاج أمين الحسيني ـ مفتي فلسطين الأكبر ، واللواء صالح حرب ـ رئيس جمعية الشبان المسلمين .

وانتظرت حتى انتهت الجموع ، فتقدمت إليه ، تذكرني في الحال ، ورحب بي ، وسألني كالعادة عن أهلي ، فردا فردا ، وعن حالي وسكني ودراستي، وأن يراني من حين لأخر ، وبدأت أتردد على المركز العام ، وعرفت أن الأستاذ المرشد ـ وكان هذا لقب البنا ـ يلقي كل ثلاثاء حديثا ، يبدأ عقب صلاة العشاء ، ويمتد حسب الظروف ، ساعتين وأحيانا ثلاث ساعات ، وتتدفق الجماهير لسماعه من كل أنحاء القاهرة ، ومن المدن والقرى القريبة ، وتملأ ساحة القصر والميدان ، وتشغل الشوارع التي أمامها ، يحملون مقاعدهم ، احتراسا ، أو يقفون على أقدامهم في انتظار أن يسمعوا هذا الرجل الملهم ، إنه يعرف ببلاغة لا نظير لها ، عمادها الصدق أولا ، كيف يأخذ طريقه إلى قلوب الجماهير ، وكان الحديث متنوعا ، في الدين والسياسة ، والاقتصاد والاجتماع ، وكل ما يمس الحياة ، وفي نهاية المحاضرة يتقدم إليه جمهور المستمعين بما يرون استيضاحه ، ولأن أعدادهم تمتد إلى نصف كيلو متر تقريبا ، فهم يكتبونها في أوراق يسلمها لمن أمامه حتى تبلغ البنا في النهاية ، ثم تأتيه الإجابة عنها علانية ، عبر مكبرات الصوت ، مهما كانت خطورة السؤال .

ثقافته الجامعة

أوتي البنا من جوامع الكلم ، وكان خير من يطبق القاعدة البلاغية القديمة : لكل مقام مقال ، فعنده حديث لكل مستوى ، ولمشكلات كل لحظة ، وهو يملك ناصية اللغة ، معجما وقاعد ، ويحفظ القران كله ، ويلم بالحديث في مجمله ، ويدرك أسراهما واعيا ، ويستخدم ذلك كله في مهارة إلى ثقافة معاصرة بلا حدود ، يحار المرء معهما :كيف وأين ومتى حصلها ؟ فهي لا تقف عند الثقافة الإسلام ية وحدها ، وإنما تتجاوزها إلى الصراعات العالمية ، السياسية والمذهبية ، والاجتماعية ، والمنجزات الاجتماعية على امتداد العالم كله ، إلى شجاعة فائقة ، غير متهورة ولا مترددة .

وفي حديث منها جاءه سؤال عما يقال عن أموال دفعها إسماعيل صدقي باشا ـ رئيس الوزراء ـ للإخوان كي يستميلهم إلى سياسته ، فكان رده :أولا ، المنطق أن على من اتهم أن يثبت ، فالبينة على من ادعى ، فإذا لج في الخصم ، فدعوه وأمره ، وقولوا له :ليكن ما تقول ، فإن صدقي لم يدفع من جبيه ، والإخوان لا ينفقون (جماعة ) في غير ما ترون وما تعرفون من المؤسسات الإسلام ية ، وهم قبل ذلك ومن بعد ، لا يحيدون عن دعوتهم و لا منهجهم قيد أنملة ، ولو بملء الأرض ذهبا .

وكان هناك حديث آخر أقل شهرة ، عرف باسم حديث الخميس لطلاب الجامعة ومن في مستواهم ، وهو إلى الحوار والبحث أقرب منه إلى العرض والوعظ ، ويدور حول موضوع واحد ،وقضية محددة ، يتدارسها المجتمعون وهو اتجاه لم يعمر طويلا :لأن صاحبه سوف يغيب عن الحياة بعد قي .

وذات يوم جاء القاهرة قريب لي ، هو الشيخ محمد الأمير ، ومعرفته ب البنا وثيقة ، فذهبنا لرؤيته في المركز العام ، ولأن الرجل كان مشغولا , فقد ضرب لنا موعدا في صباح اليوم التالي في الساعة التاسعة صباحا .

وفي الموعد المحدد ذهبنا إليه ، كان يسكن في الحلمية أيضا ، على مقربة من المركز العام في سكة سنجر الخازن ، في الطابق فوق الأرضي ، من بيوت القاهرة القديمة ، فقابلنا في غرفة الاستقبال ، وتفتح على السلم مباشرة كعادة البيوت في تلك الأيام ، وفي صمت رحت أتأمل بيت الرجل الذي يهز المشاعر الألوف حين يتحدث ، ويلتف حوله المجاهدون العرب ، وتتعلق به آمال المواطنين ، فإ1ا به غاية في البساطة ، تشغل المكتبة جدارين منه ، وفي جانب آخر مكتب متواضع ، وإمامه كرسيان خيزران ، جلسنا عليهما ، على حين جلس هو على مكتبه ، وجاء الشاي لنا جميعا ، ودار بينهما حديث عن الناسف بالصعيد ، وعن تنظيم شعب الجماعة في قراه ، وعن رعاية أبنائهم الوافدين للتعليم في القاهرة .

لم تكن جماعة الإخوان يومها مجرد تجمع ديني أو سياسي ، أو هما معا ، وإنما قوة ظاهرة ، تسيطر على الشارع والمصنع والجماعة ، ويحكم حركتها نام دقيق ، وتوجه أمورها إدارات متخصصة ، وهي أول مؤسسة في مصر اهتمت بالعالمين :العربي والإسلام ي باطراد ، وفي ضوء منهج محكم ، وأقامت لذلك إدارة متخصصة تتبع مشاغله وهيئاته ، وتغذي كفاحه بما تستطيع

انسجام الفكر والموقف

في تلك الأيام استقلا حسن البنا من عمله دون معاش ، ليعطي كل وقته لشئون الدعوة ، وحتى يواجه بنفسه متطلبات حياته المتواضعة ، أصدر مجلة "المسلمون " المتخصصة ، امتيازها له ، ويكتب فيها ويعاونه نخبة من أفاضل العلماء والباحثين ، ويأخذ من فائض دخلها ما يعينه على العيش دون زيادة .

كان البنا رأيته نموذجا لا يتكرر بسهولة ، سلوكه ينسجم مع فكره ، ومواقفه تتفق وما يدعو إليه ، وشغل حبي له وإيماني به قائدا ملهما الجانب الأكبر من تفكيري يومها ، وكنت أرى في المرحوم صالح عشماوي ـرئيس تحرير مجلة "النذير " ثم الدعوة " من بعد ـ صورة قريبة من البنا ، وإن لم يوهب بلاغته وانطلاقه وحكمته ، فقد كان التفاني مجسما ، والإخلاص بشرا يتحرك على الأرض .

على أن شابا في مثل سني ، لم يكن يومها يساق بما يعرف فحسب ؛ لأن ما يعرف لا شئ في الحقيقة ، وإنما يستجيب أيضا لنبض القلب ، وأمور القلب لا تخضع دوما لحكم العقل ، ومن ثم لم أكن ـ على بساطة تجربتي وتفاهتها ـ راضيا عن مواقف عدد من كبار الإخوان .

اثنان نفر منهما قلبي

رأيت أحمد السكري ـ وكيل الإخوان ، ورئيس تحرير الجريدة اليومية ـ فلم ترتح نفسي له ، دون تعامل معه ، وقد كتب يومها في صدر الصحيفة أنه استقال من وظيفته ليتفرغ لشئون الدعوة ، ويعطيها والصحيفة كل وقته وكان ذلك صحيحا ف يجانب منه ، أما الجانب الآخر فهو أنه ترك وظيفته في الدرجة السابعة ، ومرتبها يومها لا يعدو عشرة جنيهات ، وأخذ راتبا في صحيفة الإخوان يبلغ مائة وخمسين جنيها ، وهو الراتب الذي كانت تدفعه كبريات الصحف يومها لرؤساء تحريرها ، وهم موظفون مهنيون ، لا يزعمون أنهم أصحاب دعوة ولا متفرغون لها ، وساعتها أحسست أن في الأمر خداعا لآلاف البسطاء من الإخوان الذين أسهموا في جريدة مبدأ ، ليس غايتها الريح ، وواقعا لن تربح شيئا ، وإنما أرادوها سلاحا في النضال من أجل ما يؤمنون به ، وتمنيت يومها لو اكتفى بما يعينه على مواجهة مطالب العيش ، خصوصا وأن الحياة كانت سهلة ميسرة ، وأن راتب الوظيفة التي تركها كان بسيطا ومحدودا .

كذلك نفر قلبي من " أ.ح " بعد لقائين ؛ إذ رأيت فيه عجبا وتصنعا لا يتفقان مع خلق المؤمن القوي ، ثم خبرته مدرسا في معهد القاهرة لا يلتزم بوقت لدرس ، وإذ التزم به لا يقوم بمهمته مدرسا ، وإنما يحدثنا عن أمجاده ، في قيادة المظاهرات الأزهرية لإسقاط الشيخ الظواهري ، والمناداة بالإمام المراغي شيخا للأزهر ، وأشياء أخرى من لغو الحياة وباطلها ، وأسفت أ، يكون مثله عضوا بارزا في جماعة الإخوان المسلمين .

تدخل بريطاني سافر

كان الإخوان المسلمون في السنوات التالية لإنهاء الحرب يمثلون قوة رهيبة وثقلا سياسيا ملحوظا في الشارع المصري ، ولا يمكن تجاهله ، ويدفعون الجماهير ويقودها ، لمطالبة بإجلاء الانجليز ، ولعبوا دورا قتاليا بارزا ، وبالغ الأهمية في حرب فلسطين الأولى ، قبل أن تدخلها الجيوش النظامية في 15 من مايو عم 1948 م ، وفي نوفمبر من العام نفسه ، عقد قناصل إنجلترا وفرنسا وأمريكا اجتماعيا في قرية فايد ، وكانت تحتلها القوات البريطانية إلى جانبي ضفتي قناة السويس على امتدادها ، كلفوا السفير البريطاني بأن يطلب من النقراشي باشا ـ رئيس وزراء مصر ـ إصدار قرار بحل جماعة الإخوان المسلمين ، وأرسل جورج أوبريان ـ السكرتير السياسي للقائد العام للقوات البريطانية في الشرق الأوسط ـ ومقره فايد أيضا ، خطابا إلى إدارة المخابرات التابعة للقوات البريطانية في مصر وشرقي البحر المتوسط يخبرها بما دار في الاجتماع ، والنتيجة التي انتهى إليها ، وأن السفارة البريطانية في القاهرة سوف تتخذ الإجراءات اللازمة لحل جمعية الإخوان المسلمين .

وجاء الرد سريعا بعد أسبوعين تقريبا من هذا الاجتماع ، ففي 8 من ديسمبر 1948 م أصدر النقراشي باشا بوصفه حاكما عسكريا عاما ـ أمر بحل جماعة الإخوان المسلمين ، ومصادرة شعبها وممتلكاتها ، وكل مؤسساتها وأموالها ، وتعطيل صحفها, واعتقال الألوف من أعضائها .

وحاول حسن البنا أن يلتقي مع رئيس الوزراء على حل ، فلم يكن راغبا في المواجهة ، ومع أن قوة الإخوان المسلمين وما أفادوه من تجارب قتالية في حرب فلسطين يجعل منهم قوة قادرة على مواجهة الحكومة ، والانتصار عليها ، إلا أن الرجل كان يعرف ويعي جيدا أن أكثر من مائة ألف جندي بريطاني يعسكرون في منطقة القناة ، في انتظار الفرصة المواتية ، ومتأهبون لاحتلال مصر من جديد ، وبذلك يوأدون النهضة الوليدة في فجرها .

لم يرد لمأساة أحمد عرابي أن تكرر ثانية غير أن النقراشي كان حريصا على أن يظل في الحكم ، وبقاؤه قيه مرتبط برضا فاروق والانجليز عنه ، فركب رأسه ، وأصم أذنيه عن أية وساطة أو محاولة إيجاد حل ، وفي 28 من ديسمبر 1948 م ، أي بعد عشرين يوما من قرار الحل ، أطلق طالب في كلية الطب البيطري الرصاص عليه أثناء دخوله وزارة الداخلية بعد أن تخفى الطالب في زى ضابط شرطة فأراده قتيلا .

حادثة 12 من فبراير 1941 م

وجاء إبراهيم عبد الهادي ضعيفا خانا ، مضطربا حرصا على الحياة ، وأصبح رئيسا للوزراء بعد أن كان رئيسا للديوان الملكي ، وأغرق مصر في موجة الاعتقالات والمحاكمات العسكرية ، بلا تحقيق ولا تثبت ، وعرفت مصر لأول مرة في تاريخها الحديث تعذيب المعتقلين على نحو بشع ، وهناك أكثر من جهة يهمها أن تتخلص من المرشد العام للإخوان المسلمين ، وعلى رأسهم فاروق ، ولم ينس أن مصر دفعت بقوتين في حرب بقوتين في حرب أوامرها من حسن البنا ، وأنها أرقى تدريبا ، وأحسن تسليحا ، وأشد فعالية وقابلية للتضحية والفداء ، وأنها لم تهزم في معركة ، فبات يخشاهم من قلبه ، ومعه الانجليز ، والصهيونية نفسها بعد أن خبرت شبابهم في القتال ، فتجمعوا كلهم ، ودفعوا بحكومة إبراهيم عبد الهادي نفسها لاغتيال حسن البنا في يوم 12 من فبراير من عام 1949 م، في الساعة الثامنة مساء ، ومع أنه تمالك نفسه ، ونزل من سيارة الأجرة التي كان يستقلها ، واتجه إلى هاتف جمعية الشبان المسلمين ، حيث كان هناك نفسه ، ونزل من سيارة الأجرة التي يستقلها ، واتجه إلى هاتف جمعية الشبان المسلمين ، حيث كان هناك ، وأدار رقمين من مكالمة حاول أن يطلبها قبل أن يغمى عليه ، إليه أنه نقل إلى مبنى الإسعاف على بعد دقائق ، ثم إلى قصر العيني ، وهناك أجهزوا عليه تماما (رحمه الله ).

في صبيحة اليوم التالي كنت أقف في نافذة البيت الذي أيكنه في ميدان السيدة عائشة ، وبه يمر الطريق إلى مقابر الإمام الشافعي ، فرأيت سيارة الموتى ، تطوقها قوات ضخمة من الشرطة مدججة بالسلاح ، وتتبعها عربات مصفحة تنطلق بسرعة ، لا أحد أمامها غير العسكريين ، ولا معها ولا وراءها ، ولم يخالجني أدنى شك في أنها تحمل جثمان الشهيد .

ولم أبك ، فقد جف الدمع في عيني ، وتوزعتني هموم غامرة ، عما سوف ينتهي إليه وطني في مستقبله القريب والبعيد ، ثم قرأت على روحه الفاتحة .

علي ماهر باشا
رجل مصر يتحدثون عن الإمام الشهيد

ما أنفع الذكرى ، وما أضيق برزخ الحياة .

حين طلبت صحيفة "الدعوة "الغراء أن اشترك في إحياء ذكرى المغفور له الشيخ حسن البنا ، عادت بي الذاكرة إلى عام 1935 م ، حين زارني الفقيد الكريم مع بعض أصدقائه بمناسبة انتقاله بجماعته من الإسماعيلية إلى القاهرة ، متحدثا في بعض الشئون العامة ، وكان حديثه يشرح صدري ، وأسلوبه يشهد بموفور الثقافة الإسلام ية والبصر بشئون الأمم العربية ، وبراعة المنطق وقوة الحجة ، وكان إلى ذلك شديد الإيمان بأنه يؤدي رسالة إنسانية سامية ، دعائمها الإخاء والمحبة والسلام بين سكان البلاد جميعا .

وفي مارسسنة 1939 م ، بارحت لندن بالطائرة ، إثر مؤتمر فلسطين ، ووصلت إلى القاهرة في مستهل الهزيع الأخير من ليلة لا أنساها ، ورأيت فيها جموع الإخوان تملأ فضاء محطة العاصمة ، وتوج بهم أرصفتها ، وسمعت نداءهم :" الله أكبر ولله الحمد " يدوي عاليا ، فيأخذ طريقه إلى القلوب ، ويملأ النفوس إيمانا بالله ، وتجردا للمثل العليا.

وتتابعت الأيام والسنون ، وتوالت أحداثها ، وأخذت الدعوة تنتقل من وسط إلى وسط ، في هدوء حينا ، وفي كفاح حينا آخر ، حتى ذاعت في هذه البلاد ، وفي كثير من البلاد العربية .

وكان مما أعجبني في دعوة الإخوان أنها اتجهت في حدود إمكانياتها إلى بعض الشئون الاجتماعية والاقتصادية .

والواقع أن ما لقيته هذه الدعوة كان مرجعه أنها قامت على أساس روحي ، حين طغى سلطان المادة ، واستشرت آفاتها ،واستغرق الناس في الحياة الدنيا ، ومست الحاجة إلى المعان الروحية والمبادئ .

وهذه المعاني والمبادئ يفتقدها الناس في الشرائع ، ويتلمسون فيها ما يملأ قلوبهم ثقة واطمئنانا وأملا وإيمانا ، ويهديهم في شئون دينهم ودنياهم .

رحم الله المغفور له الشيخ حسن البنا ، وأجزل مثوبته ، وهدانا التوفيق والرشاد ، وهيأ لوطننا الخالد أسياج القوة والعزة والمجد .

الشيخ حسنين مخلوف
الأئمة في مختلف العهود كانوا أعلام دين وسياسة

الشيخ حسن البنا ـ أنزله الله منازل الأبرار ـ من أعظم الشخصيات الإسلام ية في هذا العصر ، بل هو الزعيم الذي جاهد في الله حق الجهاد ، واتخذ لدعوة الحق منهاجا صالحا ، وسبيلا واضحا استمده من القران والسنة النبوية ومن روح التشريع الإسلام ي ، وقام بتنفيذه بحكمة وسداد وصبر وعزم ، حتى انتشرت الدعوة الإسلام ية في آفاق مصر غيرها من بلاد الإسلام ، واستظل برايتها خلق كثير .

عرفته ـ رحمه الله ـ منذ سنتين وتوثقت الصداقة بيننا في اجتماعات هيئة وادي النيل العليا لإنقاذ فلسطين الجريحة ، وتحدثنا كثيرا في حاضر المسلمين ومستقبل الإسلام ، فكان قوي الأمل في مجد الإسلام وعزة المسلمين إذا اعتصموا بحبل القران المتين ، واتبعوا هدى النبوة الحكيم ، وعالجوا مشاكلهم الاجتماعية والسياسية وغيرها بما شرعه الله في دينه القويم .

ففي الإسلام من المبادئ السامية والتعاليم الحكيمة والتعاليم الحكيمة ما فيه شفاء من كل مرض ، وعلاج لكل داء ، وحل لكل مشكلة ، وفيه من الأحكام ما لو نفذت ، ومن الحدود والعقوبات ما لو أقيمت لسعد الناس في كل زمان ومكان بالاستقرار والاطمئنان ، وعاد المسلون إلى سيرتهم الأولى يوم كانوا أعزاء أقوياء .

تلك لمحة من حديثه ، وهي عقيدة كل مسلم ، وأمل كل غيور على الإسلام ، غير أن العلماء حبسوا هذا العلم الزاخر في الصدور ، ولم يرددوه إلا في حلقات الدروس ، وفي زوايا الدور .

أما الشيخ البنا ـ رحمه الله ـ فقد أخذ على نفسه عهدا أن يرشد العامة إلى الحق ، وينشر بين الناس هذه الدعوة ، وينظم طرائقها ، ويعبد سلبها ، ويربي الناشة تربية إسلامية تنزع من نفوسهم خواطر السوء وأخطار الهواجس ، وتعرفهم بربهم وتدنيهم من دينهم الذي ارتضاه الله لهم ، فكان له ما أراد ، وتحمل في ذلك المشاق والمتاعب ، بما لا قبل باحتماله إلا للرجل الصبور، والمؤمن الغيور الذي يبغي ربه بما يعمل ، ويشعر بدافع نفسي قوى إلى إنقاذ أمته من شر وبيل وذل مقيم .

من الطبيعي ـ وهذه دعوته ـ أن يمس السياسة عن قرب ، وأن يأخذ في علاج مختلف الشئون على ضوء التعاليم القرآنية ، وهنا يقول الأستاذ بحق ما نقوله نحن ، ويقوله كل مدرس الإسلام وأحاط خبرا بالقران :إن الإسلام دين ودنيا وسياسة ودولة ، والمسلم الحق هو الذي يعم ل للدين معا ، فقد جاء القران بالعقائد الحقة ، وبالإحكام الراشدة في العبادات والمعاملات ، ونظم الدولة السياسة والاقتصادية والاجتماعية والثقافية ، وجاء بالأوامر والنواهي ، وما يصونها من العقوبات والزاجر ، وألزم المسلمين كافة لعملها ، وإقامة الدولة على أساسها ، فإذا دعا الشيخ حسن البنا إلى ذك فقد دعا إلى ما دعا إليه الله ورسوله ،ودعا إليه الصحابة والتابعون وسائر الأئمة والفقهاء وزعماء الإسلام في كل زمان .

يعيب عليه بعض الناس أنه توغل في السياسة ، وقد نوهت بالرد على ذلكم في عدة أحاديث أذعتها في مناسبات شتى ، فالسياسة الراشدة من صميم الدين ، والصدارة فيها من حق العلماء ، بل من وجبهم الذي لا يدفعهم عنه أحد ، وما أصيب العلماء بالوهن والضعف ، وما استعلى عليهم الأدنون ، وتطاول عليهم الارذلون إلا من يوم أن استكانوا لأولئك الذين يحاولون احتكار السياسة ، ويستأثرون بالسلطان في الشعوب والأمم الإسلام ية قضاء للبناتهم واغتصابا للحقوق .

وإذا صح فصل الدين عن السياسة ، أو بعبارة أخرى الحجر على رجال الدين والاشتغال بسياسة الدولة ـ بالنسبة لسائر الأديان فلا يصح بالنسبة للدين الإسلام ي الحنيف الذي يمتاز على غيره بالتشريع الكفيل بسعادة الدين والدنيا معا .وقد كان الأئمة في مختلف عهود الإسلام أعلام دين وسياسة ، فما بال الناس اليوم ينكرون على علماء الإسلام أن يعنوا بشئون الشعوب الإسلام ية ، ويغضبوا لكرامها ، ويجاهدوا لإعزازها ، ورفع نير الاستبعاد عن أعناقها ، وتبصير الناس بما يموه به الاستعماريون من حيل ، ويدبرون من فتن ، ويدسون من سموم ؟ وما الذي خولهم حق احتكار السياسة والحكم ؟إن ن حق العلماء ـ وأعني بهم القائمين بالدعوة إلى الله لا خصوص واضح الأثر الأول في التشريع والتنفيذ .

إن الدعوة في جوهرها دعوة واضحة المعالم ، والقلوب قد انعطفت إليها ، والشعب قد امن بها ، ومن إنكار الحقائق أن يزعم زاعم انصراف السواد الأعظم من الأمة عنها .

وكلما أمعنت السياسة في توهينها ازدادت قوة وذيوعا ، وأيقن الناس بما فيها من خير وصلاح ، ومن الإخلاص لولاة الأمور الصدق في القول والأمانة في الأداء ، فليعلموا أ، الدعوة عقيدة استقرت في النفوس ، وأن مقاومة السياسة لها ولدعاتها لا يزيدها إلا ثباتا ورسوخا ، وإن من الراسخ في العقائد أن اليهود ومن ورائهم الدولة الغاصبة والدول الاستعمارية هم الذين يكيدون لها ، ويبذلون كل ما في استطاعتهم لاستئصالها ، ولكن هيهات ما يريدون .

وبعد فإنا نسأل الله ـ تبارك وتعالى ـ للمسلمين خيرا عميما ، ورشدا مبينا ، وتوفيقا سديدا لكل من يدعو إلى خير ورشاد ، ورحمة واسعة للأستاذ العظيم .

السيد أبو الحسن علي الحسني الندوي
مذكرات الداعية

الحمد لله وسلام على عباده الذين اصطفى :

يسعد كاتب هذه السطور ويشرفه أن يكتب تصديرا أو مقدمة لكتاب " مذكرات الدعوة والداعية " للإمام الشهيد حين البنا ـ رحمه الله ـ ويعتبر ذلك من الإعمال التي يتقرب بها إلى الله ، ويحسن بها إلى نفسه قبل أ يحسن بها إلى غيره ،فهو كتاب ليس ككل كتاب ، ومؤلفه ليس كالمؤلفين ، وموضوعه ليس كالموضوعات التي يعالجها الكتاب ويتناولها المؤلفون المحترفون في كل حين وفي كل مكان ، ويتهيب رجل مثلي في قلة بضاعته في العلم والعمل ، وفي تخلفه في ميدان الإصلاح والكفاح ، وفي مجال التربية والإخراج ، وفي حلبة التضحية والمحنة ، أن يتقدم للكتابة والتعليق على هذا الكتاب ومؤلفه العظيم ، ولذلك تأخرت كتابة هذه السطور مدة استطالت حتى بلغ حرج النفس كل مبلغ ، وحتى غدوت أخشى وزر احتمال مزيد من التأخير ، ومن حرمان الشباب المسلم وجنود الدعوة ورواد الإصلاح من خير وافر غزير .

كفى برهانا خلود الإسلام وعلى أنه دين الله المختار الذي صنع ليعيش إلى آخر الزمن ، وعلى خلود هذه الأمة ، وعلى أنها الأمة الأخيرة ، وعلى أنها منجبة منتجة ، مورقة مزهرة ، وعلى أنها كنانة الله التي لا تنفد سهامها ولا تخطئ مراميها ، كفى برهانا غلى ذلك وجود هؤلاء المصلحين والمجاهدين والعباقرة والنوابغ ، والموهوبين والمؤيدين والمربين ، وقادة الاصطلاح الموفقين الذين ظهروا ونبغوا في أحوال غير مساعدة ، وفي أجواء غير موافقة ، بل في أزمة مظلمة حالكة ، وفي بيئات قاتلة فاتكة ، وفي شعوب أصيبت بشلل الفكر ، وخواء الروح ، وخمود العاطفة ، وضعف الإرادة وخور العزيمة ، وسقوط الهمة ، ورخاوة الجسم ، ورقة العيش ، وفساد الأخلاق ، والإخلاد إلى الراحة ، والخضوع للقوة ، واليأس من الإصلاح ، وأصبح الجيل المعاصر كله كأنه لعبة واحدة من كتاب واحد خرجت من مطبعة متقنة لا تختلف نسخها وصحائفها ، فحسبك أن تقرأ كتابا وتقيس عليه الباقي ، فلا تنوع ولا اختلاف ، ولا طموح ولا استشراف ، ولا قلق ولا اضطرب ، ولا تفرد ولا شذوذ ولا جدة ولا طرافة ، ولا شئ غير المعتاد ولا شئ فوق المستوى ، وأصبحت الحياة قطارا موحدا تجره قاطرة واحدة ، هي قاطرة المادة والمعدة ، أو قاطرة الغرض والمصلحة ، أو قاطرة اللذة والمنفعة والغلبة ، ويدل كل شئ على هذه الحياة قصة واحدة ، أو مسرحية قد أ حكم وضعها وإخراجها ، ويعاد تمثيلها على مسرح الإنسانية ، أو على مسرح التاريخ الإسلام ي ، ويلعب كل بطل من أبطال هذه الرواية دوره الخاص الذي أسند غليه بكل مهارة ولباقة ، ثم تنتهي هذه القصة في تصفيق المعجبين دموع المتألمين ، وبينما يواصل هذا الركب سيره ، هذا القطار سفره في غايات محدودة ، ومنازل معروفة ، وأصوات مألوفة ، ونغمات مكررة ، إذا بشخصية تقفز من وراء الأستار ، أو من ركام الأنقاض والآثار ، وتفاجئ هذا الركب الهادئ الذي لا يعرف غير الوصول إلى غايته المرسومة المحدودة ، ولا يهتم إلا بقوت اليوم ، وزاد الطريق ، وأمن السبيل ، وراحة الأبدان . تفاجئه بالدعوى إلى الإصلاح ، والحاجة إلى استئناف النظر ، والتفكير في الأوضاع العامة ، ومصير الإنسانية ، ومسئولية الأمة التي أخرجت للناس ، والثورة على الأوضاع الفاسدة والأخلاق الرذيلة والعقائد الضالة ، والعادات الجاهلية ، وعبادة البطون والشهوات ، وعبودية القوة والسلطات ، ويدعو إلى حياة كريمة فاضلة ، وغلى مدينة سليمة صالحة ، وإلى مجتمع رشيد عادل ، وإيمان عميق جديد ، وإلى إسلام قوي حاكم ، ويرفع بكل ذلك صوتا مدويا عاليا يضطرب به الركب وتهتز به مشاعره وعواطفه وقيمه ومفاهيمه ، ولا يستطيع أن يتغافل عنه أو يتجاهله أو يستخف به ويستمر في سيره غير مقبل عليه أو ملتفت إليه ، بل يخضع لعدد كبير من أعضائه فينشقون عنه ويلتحقون بهذا الداعية ، فيجعل منهم ركبا جديدا يثق بنصر الله ، ويسير على بركة الله .

إن لهؤلاء الثائرين والدعاة المصلحين قائمة مشرقة ومشرفة يتجمل بها تاريخ الإصلاح والدعوة ، ولا يخلو منهم زمان ومكان ، وقد كان صاحب هذا الكتاب الذي أتشف بتقديمه من هذه الشخصيات التي هيأتها القدرة الإلهية ، وصنعتها التربية الربانية ، وأبرزتها في أوانها ، وإن كل من يقرأ هذا الكتاب سليم الصدر ، مجرد الفكرة ، وبعيدا عن العصبية والمكابرة ، يقتنع بأنه رجل موهوب مهيأ ، من سوانح الرجال ولا صنيعة بيئة أو مدرسة ، ولا صنيعة تاريخ أو تقليد ، ولا صنيعة اجتهاد ومحاولة وتكلف ، ولا صنيعة تجربة وممارسة ، إنما هو من صنع التوفيق والحكمة الإلهية والعناية بهذا الدين وبهذه الأمة ، والغرس الكريم الذي يهيأـ لأمر عظيم ، ولأمل عظيم ؛ في زمن تشتد إليه حاجته وفي بيئة تعم فيها قيمته .

إن الذي عرف الشرق العربي الإسلام ي في فجر القرن العشرين ، وعرف مصر بصفة خاصة ، وعرف ما أصيب به هذا الجزء الحساس الرئيس من جسم العالم الإسلام ي من ضعف في العقيدة والعاطفة ، والأخلاق والاجتماع ، والإرادة والعزم ، القلب والجسم ، وعرف الرواسب التي تركها حكم المماليك وحكم الأتراك وحكم الأسرة الخديوية ،وما زاد خذا الطين بلة من ضعف العلماء وخضوعهم للمادة والسلطة ، وتتنازل أكثرهم عن منصب الإمامة والتوجيه ، وانسحابهم عن ميدان الدعوة والإرشاد والكفاح والجهاد ، واستسلامهم " للأمر الواقع " ، وخفوت صوت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، زد إلى ذلك كله نشاط دعاة الفساد والهدم ، والخلاعة والمجون ، والإلحاد والزندقة ، وتزعم الصحف والمجلات الواسعة الانتشار ، القوية التأثير ، للدعوات المفسدة ، والحركات الهادمة والاستخفاف بالدين وقيمه ، والأخلاق وأسسها ، وما آل إليه الأمر ، ووصلت إليه الأقطار العربية بصفة عامة ، والقطر المصري بصفة خاصة من التبذل والإسفاف ، والضعف والانحطاط ، والثورة والفوضى ، والانهيار الخلقي والروحي في الثلث الأول من هذا القرن الميلادي ، ورأي كل ذلك مجسما مصورا في أعداد "الأهرام" و"المصور" ، وفي كتب كان يصدرها أدباء مصر وكتابها المفضلون المحببون إلى الشباب ، ورأى ذلك مجسما مصورا في أعياد مصر ومهرجاناتها ، وحفلاتها وسهراتها ، واستمع الشباب الجامعي في نواديهم ومجالسهم ، وزار الإسكندرية وشواطئها ومصايفها ، ورافق فرق الكشافة والرياضة والمباراة ، ودخل دور السينما ، ورأى الأفلام الأجنبية والمحلية ، واطلع على الروايات التي تصدرها المكتبة العربية في مصر بين حين وآخر ، ويتهافت عليها الشباب بنهامة وجشع ، وعاش متصلا بالحياة والشعب ، وتتبع الحوادث ، ولم يعش في برج عاجي ، وفي عالم الأحلام والأوهام، عرف رزية الإسلام والمسلمين ، ونكبة الدعوة الإسلام ية في هذا الجزء الذي كان يجب أن يكون زعيما للعالم العربي كله ، وزعيما للعالم الإسلام ي عن طريقه ، وقد بقي قرونا كنانة الإسلام ، مصدر العلم والعرفان ، وأسعف العالم العربي وأنجده ، بل أنقذه في فترات دقيقة عصيبة في التاريخ الإسلام ي ، ولا يزال يحتضن الأزهر الشريف أكبر مركز ثقافي إسلامي وأقدمه .

إن كل من عرف ذلك عن كثب وعاش متصلا به ، عرف فضل هذه الشخصيات التي قفزت إلى الوجود ، فاجأت مصر ثم العالم العربي والإسلام ي كله بدعوتها وتربيتها وجهادها وقوتها الفذة التي جمع الله فيها مواهب وطاقات قد تبدو متناقضة في عين كثير من علماء النفس والأخلاق ، ومن المؤرخين والناقدين ، في العقل الهائل النير ، والفهم المشرق الواسع ، والعاطفة القوية الجياشة ، والقلب المبارك الفياض ، والروح المشبوبة النضرة ؟ واللسان الذرب البليغ ،والزهد والقناعة دون عنت في الحياة الفردية ، والحرص وبعد الهمة ، ودونما كلل في سبيل نشر الدعوة والمبدأ ، والنفس الولوعة الطموح ، والهمة السامقة الوثابة ؟والنظر النافد البعيد ظن والإباء والغيرة على الدعوة ، والتواضع في كل ما يخص النفس تواضعا يكاد يجمع على الشهادة عارفوه ، حتى لكأنه ـ كما حدثنا كثير منهم ـ مثل رفيف (بريق ) الضياء :لا ثقل ولا ظل غشاوة .

وقد عاونت هذه الصفات والمواهب في تكوين قيادة دينية اجتماعية ، لكم يعرف العالم العربي وما وراءه قيادة دينية سياسية أقوى وأعمق تأثيرا وأكثر إنتاجا منها منذ قرون ، وفي تكوين حركة إسلامية يندر أن تجد فيدنيا العرب خاصة حركة أوسع نطاقا ، وأعظم نشاطا ، وأكبر نفوذا تغلغلا في أحشاء المجتمع ، وأكثر استحواذا على النفوس منها .وقد تجلت عبقرية الداعي مع كثرة جوانب هذه العبقرية ومجالاتها ، في ناحيتين خاصتين لا يشاركه فيهما إلا القليل النادر من الدعاة والمربين والزعماء المصلحين ، أولاهما : شغفه بدعوته ، واقتناعه بها وتفانيه فيها ، وانقطاعه إليها بجميع مواهبه وطاقاته ورسائله ، وذلك هو الشرط الأساسي ، و السمعة الرئيسة للدعاة والقادة الذين يجري الله على أيديهم الخير الكثير ، والناحية الثانية : تأثيره العميق في نفوس أصحابه وتلاميذه ونجاحه المدهش في التربية والإنتاج ، فقد كان منشئ جيل ، ومربي شعب ، وصاحب مدرسة علمية فكرية خليقة ، وقد أثر في ميول من اتصل به من المتعلمين والعاملين ، وفي أذواقهم ، وفي مناهج تفكيرهم ، وأساليب بيانهم ولغتهم وخطابتهم تأثيرا بقي على مر السنين والأحداث ، ولا يزال شعارا وسمة يعرفون بها على اختلاف المكان والزمان ،لقد فاتني أن أسعد بلقائه في مصر وفي غير مصر ، فقد كان العام الأول الذي كتب الله لي فيه الحج والزيارة ، وخرجت من الهند لأول مرة ، وهو عام 1947 م ، وهو العام الذي تغيب فيه الشهيد عن الحجاز ولم يغادر مصر ، وقد كان يحضر الموسم في غالب الأعوام ، ويحرص على نشر دعوته ، والحديث إلى وفود بيت الله الحرام ، وعلة السعي المجهد الحثيث في توثيق الصلات والعهود مع الوافدين من أنحاء عالم الإسلام كله . بيد أن قابلت بعض تلاميذه ودعته ، فلمست فيهم آثار القائد العظيم والمربي الجليل ، فلما قدر لي أن أزور مصر سنة 1950 م كانت رحمة الله قد استأثرت به ، ولما يجاوز عمره بعد الثانية والأربعين ، إثر حادث استشهاده الذي أدمى نفوس ملايين المسلمين ، وحرم العالم الإسلام ي هذه الشخصية التاريخي الفريدة ، ولا أزال أتحسر على هذه الخسارة التي كتبت لي ، ولكني اتصلت بتلاميذه اتصالا وثيقا ، وعشت فيهم كعضو من أعضاء أسرة واحدة ، وزرت والده العظيم ـ رحمه الله ـ واستقيت منه معلومات وأخبارا سجلتها في مذكراتي ، وقابلت زملاءه وأبناءه ، وأجمعت لنفسي من كل هذه الآثار والأخبار من ملامح الصورة العظيمة لصاحب هذه الدعوة ، ومؤسس هذه المدرسة ، أنا واثق بأنها صورة صادقة مطابقة .

وفي تلكم الرحلة وقع إلى هذا الكتاب "مذكرات الدعوة والداعية " فألفيته كتابا أساسيا ، ومفتاحا رئيسا ، لفهم دعوته وشخصيته ، وفيه يجد القارئ منابع قوته ، ومصادر عظمته ، وأسباب نجاحه ، واستحواذه على النفوس :وهي سلامة الفطرة ، وصفاء النفس ، وإشراق الروح ، والغيرة على الدين ، والتحرق للإسلام ، والتوجع من استشراء الفساد ، والاتصال الوثيق بالله تعالى ، والحرص على العبادة وشحن "بطارية اقلب " بالذكر والدعاء والاستغفار ، والخلوة في الأسحار ، والاتصال المباشر بالشعب وعامة الناس في مواضع اجتماعهم ومراكز شغلهم ، وهواياتهم والتدبر ومراعاة الحكمة في الدعوة والتربية ، والنشاط الدائم والعمل الدائب ، وهذه الخلال كلها في أركان دعوة إسلامية ربانية ، وحركة دينية تهدف إلى أن تحدث في المجتمع ثورة إصلاحية بناءة ، وتغير مجرى الحوادث والتاريخ ؛ لذلك كان أصحاب دعوى الإسلام وحملة أمانته ، بل والعاملون في مختلف حقول الإصلاح بحاجة دائمة إلى دراسة هذا الكتاب ، وإعادة التأمل العميق فيه الفنية بعد الفنية ، فلا عجب أن يعقد العزم على تجديد طبعه ونشره في الناس ، بل العجب أن تخلوا منه مكتبة من مكتبات المسلمين .

أما بعد ؛ فقد كانت محاولة القضاء على آثار هذه الدعوى التي أعادت إلى الجيل الجديد في العالم العربي الثقة بصلاحية الإسلام وخلود رسالته ، أنشأت في نفوسه وقلوبه إيمانا جديدا ، وقاومت " مركب النقص " في نفوسهم ، والهزيمة الداخلية التي لا هزيمة أشنع منها وأكبر خطرا ، والميوعة وضعف النفوس والانسياق تحت ربقة الشهوات والطغيان ، وخلقت ـ كما يقول شاعر الإسلام الدكتور محمد إقبال ـ : في جسم الحمام الرخو الرقيق قلب الصقور والأسود " ، حتى استطاع هذا الجيل أن يصنع عجائب في الشجاعة والبسالة والاستقامة والثبات .

لقد كانت محاولة القضاء على آثار هذه الحركة وطمس معالمها ، وتعذيب جنودها ، وتشريد رجالها ، جريمة لا يغتفرها التاريخ الإسلام ي ، ومأساة لا ينساها العالم الإسلام ي ، وإساءة إلى العالم العربي لا تعدلها إساءة ، ولا تكفر عنها أية خدمة للبلاد ، وأي اعتبار من الاعتبارات السياسية ، إنها جريمة لا يوجد لها نظير إلا في تاريخ التتار الوحوش ، وفي تاريخ الاضطهاد الديني ومحاكم التفتيش في العالم المسيحي القديم ، ولا حول ولا قوة إلا بالله .

مولد العملاق .. الرجل الذي جمع الناس على المصحف

أ ـ أنور الجندي

قال الملك لصاحبه ، وهما يتناجيان على طرف السماء :

ماذا دهى الأرض يا صاحبي الليلة .. إن السنة اللهيب ، وشواظ النيران ، وأعمدة الدخان ، تتكاثف وتتصاعد ، وتغمر القضاء كله ، حتى تكاد تخفى أعمدة النور ، وإني أرهن أذني فأسمع صياحا وجلبة وضوضاء :أنما هي صراخ الثعالب ، وفحيح الأفاعي ، وضحكات الشياطين ؟

قال صاحبه : لست أدري ، علم ذلك عن ربي ، بيد أنها علامة من علامات الكأس المحطمة ، والدم المطلول.

لعل روحا من تلك الأرواح الربانية الإلهية في طريقها إلى الرفيق الأعلى ، فدقق النظر ؛ لعلك تراها وهي ترف في موكب الأعراس والحور ، وطفق الملكان ينظران ، وجاء شيطان يسترق السمع ، فأتبعه شهاب ثاقب .

حركات الإصلاح

ظهرت خلال هذا القرن في الهند ومصر والسودان وشما لأفريقيا حركات إصلاحية متعددة ، وقد أحدثت هزات لا بأس بها ، ولكنها لم تنتج آثارا إيجابية ثابتة ، وذلك لسببين :

الأول: عجز بعض المصلحين عن ضبط أعصابهم في مواجهة الأحداث ، واندفاعهم إلى الحد الذي وصل بهم إلى مرتبة الجرح قبل أن يتم البناء ، والثاني : قصورهم عن الاتصال بالشعب وتكوين رأي عام مثقف .

وقد اختفت هذه الدعوات قبل أن يكتب لها النضوج والكمال ، وبقيت عبارات على الألسن ، وكلمات في بطون الكتب ، حتى قيض لها أن تنبعث من جديد ، وان تستوفي شرائطها ومعالمها ، وأن تأخذ فترة الحضانة الكافية لنضوجها .

كانت حركة جمال الدين الأفغاني دعوة صالحة ، وكان لا ينهى يهدأ مرة ، قطر من الأقطار ليجمع أمره على عمل كامل حتى تتفلت منه الكلمة الجريئة التي تلقي به خارج البلاد.

ولم يتصل جمال بالشعب ، ولم يتحدث إليه ، وكان يكتفي بطائفة من أحبابه الذين يجتمعون معه في مقهى "متاتيا " لينفث فيهم آماله ورغباته .

وكانت حركة مصطفى كمال حركة جريئة ، ولكنها قصرت على السياسة .

وترك جمال ضياء جديدا ، وترك مصطفى نورا قويان وترك قادة النهضة الإسلام ية كالمهدي والسنوسي خيوطا مبعثرة تتطلع التي تجمعها وتربطها .

وظهرت على اثر ذلك حركات التغريب والإلحاد التي كانت حملة مرتبة على الإسلام والدين والتاريخ ، ولم ، ولم يستطع العاملون في الحقل الإسلام ي أن يقوموا هذه الحملة أو يوقفها ، فقد كانت أساليبهم قيمة من شأنها أن تصرف عن حقهم بالرغم من قوته .

وكان على رأس فريق البعث السلفي مدرسة المنار ، وكانت تهدف إلى تطهير " العقيدة " من الخرافات والوثنيات التي انسدت إلى الفكرة الإسلام ية خلال العصور الأخيرة ، ومحاربة كل أنواع البدع المسرفة .

وبذلك أخذت تجابه ضمير الشعب بما يكره ، إذ قلما ترضي الشعوب عمن يردها عن تقاليدها وعاداتها ، ولا سيما يتصل بالروحية والدين .

وفجأة لمع نور من ذلك السراج بدا خافتا .. ثم أخذ يزدهي ويستفيض ، وكانت أساليبه في الإصلاح تختلف كل الاختلاف عن أساليب من سبقوه ، كانت تحمل نفس الأسلحة التي يستعملها المجددون ، وكانت لا تقف مفكرا معاديا لما أسموه بالنهضة الحديثة ، بل كانت تسعى لأن تمزج بين الحديث والقديم ، مزجا من شأنه أن يحفظ روح الشرق ، وتكسب كل جديد يمكن أن تطعم به حضارة الشرق لتنبعث من جديد ولتتألق و تأخذ مكانها الحق .

نستطيع أن نقول : إن حسن البنا ، كان يريد ما يريده " ابن تيمية " و "الغزالي " وما يريده " صلاح الدين " وما يطمع فيه " جمال الدين " .

ولكنك لا تستطيع مطلقا أن تقول : إن واحدا من هؤلاء اتجه إلى الوسائل والأساليب التي اصطنعها أو نفذ الخطوات العلمية التي استطاع هذا الرجل أن يقطعها .

واجه " ابن تيمية " الطوائف المختلف التي عاشت في عصره بما تكره ، واجهها في قسوة ، وأعلن خصومته لها في عنف ، ودخل معها في معارك ألقت به في السجن أكثر من مرة ، خاصم الصوفية والفقهاء والعلماء والفلاسفة ، وصارعهم وحاربهم أعظم الحرب ، ولقي من اضطهاد أصحاب السلطان صنوفا من العنت والإرهاق .

ومات حين مات ، ولم يترك سوى كتبه وآثاره ، وبقيت أفكاره مدفونة مئات السنين ، إذ غلب خصومه على الأمر .. حتى عادت الموازين مرة أخرى إلى الاعتدال ، فعرف الناس قدره .

أما الغزالي فقد هرب من دنيا الصراع إلى صومعته في منارة مسجد دمشق ، بعد أن ترك بغداد والنظامية ، وهناك كتب " الإحياء " وانطوت صفحته كمجاهد .

و" الشعراني" جمع في زاويته طوائف ، ولكنه لم يعمل شيئا ، بعد أن انحسر عن ميدان الجهاد .

أما " صلاح الدين " فقد شغله صراع الصليبيين .

أما " جمال الدين " فقد همت الحدة فيه ما بنته الفطنة ـ كما قال عنه زميله الشيخ محمد عبده ـ فقد كان ثائرا ، وكانت طاقته الروحية القوية ، تتصرف في مجرى الحديث .

أما الشيخ محمد عبده ؛ فقد عاد من الاعتقال ، وقد اثر أن لا يخاصم ، وأن ينهج طريق العمل في حدود ما تسمح به الظروف التي كانت تغيرت .

وجاء دور " حسن البنا " وقد كاد هذا الميراث أن يضيع ، وكاد أن يطوى .

وأفاد الرجل من تاريخ من سبقوه ، من تاريخ القادة والمفكرين والزعماء الذين حملوا لواء الإسلام ، ولم يقنع بأن يكون مثلهم ، فذهب إلى آخر الشوط .

أراد أن يستمد من أبي بكر وعمر وخالد .

وكان أثر في كل حادثة ، وفي أشدها وأخطرها ، قضية فلسطين وحربها الأخيرة .

وقام بدوره في إيقاف توقيع معاهدة صدقي ـ بيجن ، وكان موسم الحج الأخير في حياته ، والتقى هناك بأية الله كاشاني ، ويبدو أنهما تفاهما ، ووصلا إلى نقط رئيسة لولا أنه عوجل . وأن كل ما قاله " أية الله " كان يقوه " حسن البنا ويطلب تحقيقه .

حياة في عمر الزهر

تعد هذه الحياة القصيرة ، التي تشبه عمر الزهر ، فجرا صادقا للنهضة الحقة في الشرق ، فلن تستطيع مجاهد أو وطني أو كاتب أو مؤرخ أن ينسى أن الرجل قد وضع أحجار الأساس لحياة جديدة يسترد بها الشرق مكانه الحق ..

اختلف الناس في شأن العظماء والعباقرة ، ولم يجتمعوا على رأي فيهم ماداموا أحياء ، ولكن الموت يحسم الأمر ، ويصرف عن صدور الناس أوهامها ، ويردها إلى الحق ، فتحكم دون هوى .

وظني أنه كان من الضروري أن يختلف الناس في شأن هذا الرجل ، وكان حتما أن تمتلئ نفوسهم بالحقد والحسد نحو رجل استطاع أن يجمع حوله الناس ، وأن يؤلف بين طائفة ضخمة من الإتباع بسحر حديثه ، وجمال منطقه ، وروعة بيانه ، فتنصرف هذه المجموعة من حول الأحزاب ، وتنفض عن الجماعات والفرق الصوفية ، وتنضوي تحت لوائه ، وتؤمن له وتثق به ، ويبلغ بها الإعجاب والتقدير إلى حد الفناء .

كان هذا ـ ولا شك ـ مثار حسد الناس وحقدهم ، وكان خليقا بهمم أن ينقموا ويحسدوا هذا الرجل "المتجرد الفقير " الذي استطاع أن يصرف الناس عنهم وأن يجمعوا إليه .

لقد خيل إلي بعد أن انطوت حياة الرجل على هذه الصورة العجيبة وثار حولها ذلك الغبار الكثيف .. أن وقتا طويلا يجب أن يمر قبل أن يقول التاريخ كلمته ، ويروي المؤرخ النزيه قصته .. ولكن يبدو أنني قد أخطأت التقدير ؛ فإن الصحف التي كانت تهاجم الرجل العظيم بل استشهاده ـ وعلى أثره ـ هجوما عنيفا ، وتنتشر المفتريات والأباطيل عنه ، سرعان ما عادت إلى ذكره في هالة من عبارات التمجيد والتقدير .

وهكذا أراني وقد أتيح لي أن أكتب الفصل الأول من تاريخ هذا الرجل الذي قضى وهو في سن الأربعين ، والذي جمع الناس مرة على المصحف ، والذي أتيح له في عشرين عما أن يكتب كلمة الإسلام بحروف من نار ونور في قلوب نصف مليون مسلم .

..نام الوزراء في انتظار انتهاء الحرب ، واشتغل الرجل الحديدي الأعصاب الذي كان يعمل أكثر من عشرين ساعة لا يتعب ولا يجهد ، كأن أعصابه من فولاذ ، كان يحب فكرته حبا يفوق الوصف ، لم يكن في صدره شئ يزحم هذه الدعوة ، كان يعشق فكرته كما يعشق إنسان عظيم فكرة عظيمة .

كان يعمل لها ليل نهار ، لا يتعبه السفر ولا يجهده السهر ، وقد أوتيت ذلك العقل العجيب ، الذي يعرف الأمور في يسر ، ويفتي فيها بسرعة ، ويقضي فيها قي يقظة .

كان تفكيره مرنا غاية المرونة ، وكان لا يحتاج إلى الإسهاب ليفهم أي أمر ، كأنما لديه أطرافه الأولى ، بل كان يجهر أحيانا بما تريد أن تقو ل ، وكان يفتي لك فيما تريد أن تسأله عنه ..

فقد كان ثاقب العين والبصيرة ، يرى ما وراء الأشباح ، فيه من ذلك السر الإلهي الصادق قبس .

كان يلتهم كل شئ ، ليس علم ولا فكر ولا نظرية جديدة في القانون أو الاجتماع أو السياسة أو الأدب لم يقرأها ولم يلم بها ، ولم يحاول أن يستفيد منها .

ليس فكرة أو دعوة أو رسالة ، أو نزعة من النزعات العالمية التي ظهرت في الشرق أو في الغرب ، في القديم والجديد ، لم يقرأ عنها ، ولم يدرس أشخاصها وخططهم وأعمالهم ، ولم يحمل منها إلى تجاربه وعمله ما يعينه .

كان يوجه الكلام إلى فرد وهو يقصد دبه غيره ، ولم يكن يفاجئ إنسانا بنا يكره أو يجبهه بنقد . يلقي إليك التوجيه كأنما هو رأيك أنت .

يضع بين يديك الخطوط الأولى ، ويدعك تتصرف ، قلما استمع إليه إنسان ولم يعجب به .

وقلما حاول إقناع معرض ولم يقتنع .

له قدرة على أن يحدث كلا بلغته وفي ميدانه ، وعلى طريقته ، وفي حدود هواه ، وعلى الوتر الذي يحس به ، وعلى الجرح الذي يثيره .

له مع الأزهريين لغتهم ، ومع الجامعيين ، والأطباء ، والمهندسين ، والوفية ، وأهل السنة ، والإقليمية ، والصعايدة ، والبحاروة ، كل بلغته ولهجته .

لم يعتمد يوما على الخطابة ، ولم يكن متحمسا ، إنما تراه هادئا لا يثير العواطف ولا يهيجها ، وإنما يستثير العاطفة بإقناع العقل ، ويلهب الروح بالمعنى لا باللفظ ، وبالهدوء لا بالثورة .

كان الحديث إلى الناس في نظر بعض الناس آيته الكبرى ، ولكنني بعد أن اتصلت به بدا لي أنها أخر مواهبه

وتعجب حين أقول لك بان هذا الرجل قد كسب هذه المجموعات فردا فردا ، وأصاب منابع أرواحها هدفا ه\فا ، وأنه لم يكسبها مجموعة ، وأنه استطاع أن ينقلها بحصافته وقوته من عقائدها الأولى ، إلى الإيمان بفكرته فتنسى ذلك الماضي ، ببل وتستغفر الله عنه ، وتراه كأنما كان إثما .

نقل الإيمان بالوطن إلى فكرة روحية ، وجعل حبه والعمل له جزءا من العاطفة الروحية ، فأعلى قدر الأوطان ،وأعز قيمة الحرية .

جعل مابين الغني والفقير " حقا " وليس إحسانا وما بين الرئيس ومرءوس ط صلة ط وليس رئاسة ، وبين لا عالم والجاهل " واجبا " وليس سيادة ، وبين الحاكم والشعب " مسئولية " وليس تسلطا ز

كان الصراع بين السياسي في الأقطار الإسلام ية وبين الاستعمار يدفع بعض كتاب الغرب إلى التبكير في أمر النهضة ، ويفزع أمثال جب وغيرهم من أن يقوم زعيم يتوحد على يديه الشرق ن فيصمد جراحه ، ويمسح على آلامه ، ويقضي على خلافاته ، ويجمعه تحت لواء واحد.

وخشي الغرب أن يكون هذا الرجل قد وجد فعلا ، ولأول مرة ، بعد أن ثبت أن ط حسن البنا " لا يخضع للمغريات ، ولا يحني رأسه أمام الرغبات.

وأخذوا يدرسون حياته وتركيب جسمه ، ويعرضونه على العلوم الحديثة من الناحية السيكولوجية والبيولوجية ، ويقدرون له كم من العمر يعيش ، وماذا سيفعل ، وغير هذا مما يطوف بالذهن الغربي المشغوف بالإحصاء .

ويبدو أن القدر جعل الأمور تسير وفق ما يريد الغرب الذي يتربص الدوائر ، وينتظر الخيط الأول ، وجاءت حرب فلسطين فأعطته تلك الصورة المزعجة العجيبة الخارقة .

وعجب الغرب ؛ كيف يمكن أن تقوم في الشرق فئة نفسها للموت بهذه الصورة

وما كان بعد ذلك من أمر الأحداث التي شملت أكثر من أربعة آلاف شاب من اعتقال وتشريد وتعذيب ، وفي صدر هذه المأساة : مقتل الشهيد الأعزل .

فتحت المعتقلات أبوابها ، والسجون والأقسام ، وفتحت محطات الإذاعة والصحف أبواقها على أوسع نطاق ، ووقف الرجل وسط النيران ؛ ليشهد هذا البناء وهو يتحطم ، ولا أقول ينهار .. حجرا حجرا .. يتحطم في عالم المادة وحدها .

وجاء حكم هذه القضية سيارة الجيب بعد ثلاث سنوات شهادة مشرفة انهارت معها تلك الاتهامات الباطلة التي أثيرت حول الرجل .

كان الحكم في هذه القضية باقة من الأزهار الندية توضع على قبر الشهيد الذي كيل له الاتهام .

مات في عمر ازخر النضير ، وقضى وهو يسطع ويتألق ، والموت ـ كما يقول المازني ـ حق ح ولكن وضعه يختلف ، فإن الجنود غير القادة ، والهباء من الناس غير ذوي الوزن والرجحان ، واللواء المرفوع إذا خر صاحبه لم يحسن حمله بعده إلا صنوه وقريعه ، ولم يقو على إبقائه مرفوعا خفاقا إلا الند والقرين ، والزمن بهؤلاء الممتازين ضنين كأنما الواحد منهم يمتص ما في تربة جيله من عناصر القوة والصلاح ، فيحتاج الأمر إلى زمن كاف لسد النقص .وتكوين هذه العناصر من جيد بالمقادير الكافية لإخراج فرد ممتاز .

والحق أن حكمة الموت لتكبر أحيانا حتى يعجز الأفهام وتقحم الباحثين ،فقد يموت الرجل وهو معقد آمال أمته ، وقد يموت الشباب وهم يتألقون ويشرقون ن وتجري أسماؤهم على الألسنة مجرى الإعجاب والتقدير ، وكم من عبقريات طواها الردى ، وهي في فجرها المشرق البسام ، وأحيانا يصل العذر إلى الإعجاز في الموت ، فيموت الرجل وهو في ميدان الوغى ، يناضل ويجاهد ، وقد أصبح بينه وبين الظفر خطوة أو خطوات .

أما حسن البنا فيخيل إليك أن الدنيا قد تجمعت كلها للقضاء عليه ، ولوضع خاتمة حياته ، بعدان عجزوا عن محاكمته واتهامه .

ومع ذل فلم يحن الجل رأسه ، ولم يتراجع ، ولم يتردد في أن يعلن أنه على الحق .

حاول لك فريق أن يطويه أو يضمه إليه ، فكان أصلب عودا ن وكانت سياسته ايجابية محضة ، لا يجابه بالخصومة إلا من يعترض طريق الامتداد الطبيعي لدعوته ، وكان يدخر قوته للوطن ، ويكبر نفسه على ن يعمل للصراع الداخلي ن وكان هذا مظنة الضعف فيه ، وما كان ذلك كذلك فإن الرجل لا يحب العمل في معركة جانبية ، ولا يقبل توزيع قواه .

وكان هذا يزعج الدخيل ، فهي سياسة جديدة تعلو على مطامع الفردية وتتعالى على الأغراض الذاتية ، وتنقى جوها من الدوافع الشخصية .

وكان الرجل مع هذه القدرة على ضبط الأعصاب كيسا في مواجهة الأمور ، لبقا في استقال الأزمات .

وكان إلى هذا غاية في الاعتدال ، فكان يعيش براتبه المحدود ، وبين يديه الأموال المعروضة من أتباعه ، وحوله من العاملين معه من يصل إلى ضعف ما يحصل عليه هو .

وكان في بيته مثال الزهادة ، وف ملبسه مثلا البساطة ، وكنت تلقاه في تلك الحجرة المتواضعة الفراش ، ذات السجادة العتيقة ، والمكتبة الضخمة ، فلا تراه يختلف عن أي إنسان عادي ، إلا ذلك الإشباع القوى والبريق اللامع الذي تبعثه عيناه ، والذي لا يقوى الكثيرون على مواجهته

فإذا تحدث سمعت من الكلمات القليلة المعدودة موجزا واضحا للقضايا المطولة التي تحويها المجلدات ، وكان إلى هذه الثقافة الضمة الواسعة قديرا على فهم الأشخاص ، لا يفاجئك بالرأي المعارض ، ولا يصدمك بما يخالف مذهبك وإنما يحتال عليك حتى يصل إلى قلبك ، ويتصل إلى قلبك ، ويتصل بك فيما يتفق معك عليه ، ويعذرك فيما يختلف فيه معك ز

وهو واسع الأفق إلى أبعد حد ، يفتح النوافذ للهواء الطلق فلا يكره حرية الرأي ، ولا يضيق بالرأي المعارض .

وهو يمتاز بأنه يمتاز بأنه يجمع بين ثقافة الكتب وثقافة الناس ، ويمزج هذا بذلك في دقة ولباقة ، فلم يصطدم بالجماهير مرة ، مع أنه يحمل إليهم ما يتعارض من آرائهم ، ويختلف مع مورثاتهم .

وكان صوته الجهير ، الذي تتمثل فيه القوة والعاطفة معا ، وبيانه الذي يصل إلى نفوس الجماهير ، ولا تنبؤ عنه نفوس المثقفين ، وتلك اللياقة والحنكة والمهارة في إجارة الحديث ، وفي الإقناع وفي كسب الأنصار ، وفي تحويل وجهات النظر دون ارتطام أو صراع .

كل هذا كان من أدوات نجاحه كداعية ومصلح وبهذا السمت البسيط ، وتلك اللحية الخفيفة ، ذلك المظهر الذي لا تجد فيه تكلف بعض العلماء ولا " عنجهية "المتظاهرين بأنهم من أهل السنة ، ولا سذاجة الصوفية .. كان الرجل ملتقى النفسيات المنوعة في ثقافتها ودراستها : من تعلم في الأزهر أو الجامعة ن ومن تعلم في مصر أو مصر أو الخارج عرف الأحزاب أو الجمعيات أو الطرق .

فيه من الساسة دهاؤهم ، ومن القادة رصانتهم ، ومن العلماء قوة حجتهم ، ومن الصوفية إيمانهم ، ومن الرياضيين سماحتهم ، ومن الفلاسفة مقاييسهم ، ومن الخطباء لباقتهم ، ومن الكتاب رصانتهم ز

فيه لمحات روحية من الأنبياء والصحابة والأبطال والزعماء الذين مروا في تاريخ الإسلام .

واستطاع في سنوات قليلة أن يجمع إليه طائفة ضخمة من الشباب المثقف ، ومن الشعب النقي الصدر .. وفي سنوات قليلة ـ أقل مما كان يظن هو ـ اعتدل الميزان ، وعلت كلمة الإسلام ، ونشطت الروحية ، وتجمع الناس على الدين بعد أن فرقتهم السياسة والحزبية .

وتراجعت في نفوس الشباب ، جاءت نقية من الأخطاء المطبعية ومن اللهو ومن الأوهام ومن الميوعة الرخيصة ، ووجد الشباب متنفسا نقيا يدفع عنهم العواطف والزلزلات النفسية التي كان قد أصيبوا بها مؤخرا .

ويبدو أن هذا الاتجاه العلمي الذي صنعه البنا باسم الإسلام كان خطيرا ، ولا شك أنه كان أقصر طريق إلى الحرية التي ينشدها الشرق ، فكان لا بد من إيقاف هذا الخطر الزاحف باسم الإسلام .

لم تكن كل وسيلة تقرب من الهدف مقبولة عنده ، ولم يقبل شراء النجاح بأي ثمن .. وإنما حرص طوال لحياته على أن يحقق هدفه على أساسا ثابت وقواعد راسية .

ولذلك كان طريقه مليئا بالأشواك .. وكان أية متاعبه أنه يعم لفي مجرى تراكمت فيه الجنادل والصخور ، فقد كان عليه أن يدفع أتباعه إلى التسامي ، وأن يحملهم على التغلب على مغريات الدنيا والاستعلاء على الشهوات ..لم يكن يريد أن يصل إلى أنصاف الحلو ل.. أو يقبل المساومة ، أو يجزئ الحق المقدس في الحرية والوطنية والسيادة ، ولذلك استهدف لألوان من الإيذاء وصنوف من الآلام .

واستدنى قوم ممن حوله الثمرة.. وقالوا : ما لنا لا نقبل ما يعرض علينا من منصب أو جاه أو مال .. وعجزت أعصابهم عن أن تقاوم البريق .. فسقطوا في منتصف الطريق .. ومضى الركب .

كان يؤمن بالواقعية ، ويفهم الأشياء على حقيقتها مجردة من الأوهام ، وكان يبدو حين تلقاه هادئا غاية الهدوء ، وفي قلبه مرجل يغلي ، ولهيب يضرم ، فقد كان الرجل غيورا على الوطن الإسلام ي ، يتحرق كلما سمع أن جزءا منه قد أصابه سوء ، ويضيق كلما أصابت المتاعب جناحيه ، ولكنه لا يصرف غضبه في مصارف الكلام أو الضجيج أو الصياح ، ولا ينفس على نفسه بالأوهام وإنما يسعى إلى العمل والإنشاء والاستعداد لليوم الذي يمكن أن تتحرر فيه هذه الشعوب .

وكان في عقله مرونة ، وفي تفكيره انطلاق ، وفي روحه إشراق، وفي أعماقه إيمان قوي جارف ، وكان متفائلا يكره الميكافيلية والانتهازية ، ولا يراهما صالحين لإقامة بناء حق .

وكان متواضعا ، تواضع من يعرف قدره ، وعف اللسان ، عف القلم ، لا يحل لنفسه أن يجري في مجرى وهو في هذا كان يرمي إلى أن نضيف مادة الأخلاق إلى صميم السياسة بعد أن انتزعت منها ، وكان يبغي من ذلك أن تسمو السياسة عن الخداع والتضليل .

وكان يطمع في أن يعيد ـ وفي صورة عصية توافق روح الجيل ـ الأخلاق والمثل العليا التي عرفها الإسلام وانتصر بها .

وكان بالإضافة إلى هذا يريد أن يقول : إنه آن الأوان للشرق ألا يقبل أفكار الغرب كما هي ، أو يعتنقها على علاتها ، وأن عليه أن يمحصها .. ببعد أن غدت في نظر أصحابها أقل قوة مما كانت .

كان يرى أن علينا أن نغربل هذه القيم التي تقدم عليها الحضارة ، وان نثق بأنفسنا ، وأن نعتقد أن ما عندنا لا يقل عما عند الغرب ، أو على الأقل لا يستحق الإهمال ، وكنت لا أتعرض لأمر من أمور الحضارة الحديثة لا رده إلى مصادره في الحضارة الإسلام ية ، وفي القران والسنة زفي تاريخ الإسلام .

وكان يؤمن بأن الإسلام قوة نفسية قائمة في ضمير الشرق ، وأنها تستطيع أن تمده بالحيوية التي تمكن له في الأرض ، وتتيح له الزحف إلى قواعده واستخلاص حقوقه .

كان يؤمن بأن الشرق وحدة قائمة كاملة ، وانه لو استطاع أن يتخلص من مناورات السياسة ، ومن الخلاف الفردي ، وحاول أن يسمو على المطامع الشخصية لا تحد وائتلف ، وقاوم وصارع ، و... كون الجبهة الثالثة .

وكان حسن البنا إلى ذلك كله يفهم دعوته على أوسع نطاق ، ويؤمن بها أصدق إيمان ، وكان هو صورة من التطبيق بخلقه وحماسته وهدوئه وتصرفاته .

والرجال وعاء المبادئ والبرامج ، وما المذاهب إلا كلمات مسطورة في بطون الكتب ، ليست العبرة بنصوصها بقدر ما تكون العبرة بتنفيذها ..

رضي الله عنه وأسكنه فسيح جناته

ثانيا : شهادات ورؤى غربية

لمحات من شخصية حسن البنا
من منظور الوثائق البريطانية
أ ـ د / صلاح عبد المتعال

سمات شخصيته

حسن البنا ( 1906 م ـ  1949 م ) مدرس له احترامه ، إلا أن حياته الخاصة لا يعلم عنها شئ . ومن الجلي أن طبيعته تسير بتريث دون أن يلفت الانتباه نحو الهدف الذي وهب نفسه له . فهو خطيب مفوه ، شديد الحذر إلى درجة الخشية إزاء سلوكه الخاص . ولو أنه لا يملك بشكل طبيعي أن يفرض هذا الحذر والحيطة المبالغ فيهما على عشرات الآلاف من أتباعه . وغالبا ما تترك بساطته انطباعا لمن يقابله بطموحه وبراعته ، وقد أثبت قدرته على التنظيم ؛ فقد أسس جمعية الإخوان المسلمين تقريبا في سنة 1930 م .

"قد نستبق المواقف والأحداث التي احتشدت منذ مطلع الأربعينيات وخلال الحرب العالمية الثانية ، ونبسط رؤى حسن البنا السياسية والاجتماعية ، وذلك في إطار ما ورد في الوثائق البريطانية عن حوار أجري مع حسن البنا مع جريدة ( البورص إيجيبسبان ) بتاريخ 2 من مارساستشهد به مستر بووكر في السفارة البريطانية في القاهرة " .

تحت عنوان "نشاطات الإخوان المسلمين " ، والتي عقبت عليه إدارة الشئون الشرقية بأن إجابات حسن البنا اتسمت بلا تزان إلى درجة كبيرة ، وقد أرسلت صورة هذه الرسالة إلى سعادة ممثلينا في بغداد والقدس وبيروت والحاكم العام في السودان ومكتب شئون الشرق الأوسط ومركز المخابرات السياسية للشرق الأوسط .

يقرر حسن البنا أن الجماعة تناضل من أجل تحرير وادي النيل والأقطار العربية والأمة الإسلام ية ، وتدعيم الجامعة العربية ، وتشجيع التعاون الدولي ، وفي إجابته عن سؤال حول حجج الطموحات السياسية . أجاب بأن الجماعة تأمل أن تبقى في صفو فالشعب حتى يحصل على حريته كاملة . إذا ما تحقق ذلك ؛ فإن " الإخوان المسلمين " تكون قد حققت وجهة نظرها التي تحرم وجهة نظرها التي تحترم إدارة الأمة .

انتقد حسن البنا النظام الحزبي في مصر ، مردفا أن جميع الأحزاب الداخلية لها نفس الأهداف ، وأن ميولهم أو اتجاهاتهم شخصية أكثر منها سياسية .

أما بالنسبة لاتجاه الجماعة نحو الأقليات والأجانب ؛ فإن "الإخوان المسلمين " تأخذ في اعتبارها ضرورة وأهمية التعاون الشامل لمختلف فئات المجتمع لتحقيق سعادة الجميع . وانتقد حسن البنا الظلم الذي يمارسه بعض الأجانب الذين يبدون عدم الاحترام للشعور الوطني ، ويعملون فقط لاستنزاف موارد الوطن دون محاولة لرفع مستوى المعيشة بين الطبقات العاملة .

واستمر حسن البنا في حديثه عن أن الإخوان المسلمين يؤيدون بقوة الجامعة العربية ، وينظرون إليها كغاية في ذاتها ، ووسائل لتوثيق الروابط بين الأقطار الإسلام ية ، فضلا عن ذلك فهي تدعيم لمنظمات الأمن الدولية .وقد تجنب الإجابة بشكل عن سؤال حول تفضيله لإحياء الخلافة الإسلام ية .

بالإشارة إلى التشريع ؛ فغن حسن البنا يؤكد أن الأقطار الأجنبية يجب ألا تخشى من إحياء أو تطبيق الشريعة الإسلام ية في مصر ، وأنه بذل كل الجهد ليعمل دعاية مكثفة لإقناعهم بهذه الحقيقة .

سياسة البنا لتشكيل الجماعة وخبراته السياسية

ارتبط تشكيله لجماعة الإخوان المسلمين الأهداف التي نشدها ، ومن أهمها : السعي لإقامة حكومة مصر ومؤسساتها على هي من المبادئ القرآنية الخالصة ، وإحياء قوانين الشريعة الإسلام ية بديلة عن القوانين الحالية التي تأثرت صياغتها بقوانين نابليون ، مستبعدة جميع عناصر الثقافة الغربية التي ينظرون إليها على أنها قوانين دخيلة ضررها أكثر من نفعها . ويقفز إلى أذهاننا ( البريطانيين ) بالضرورة مماثلة بين هذه الجماعة والحركة الوهابية ، إلا أن الأكثر احتمالا تقاربها بشكل مواز مع سياسة غاندي في قيادة الفلاحين الهنود ، بعدم التعاون مع الانجليز .

" وقد تكون سياسة البنا إزاء الحكومات التي تعامل معها ، خاصة خلال الحرب العالمية الثانية تسير على هدى عدم الصدام المباشر ، سواء بالنسبة لحكومات السعديين والوفديين وحكومة حسين سري باشا التي له معها سابق خبرة "

فقد بلغت به الجرأة في مطلع سنة 1941 م ، أن يوجه النقد كتابة لحكومة حسين سري باشا المحافظة لبعدها عن الحكم بمبادئ القران . وكان ذلك فوق طاقة رئيس وزراء ، وهو مهندس متغرب قوي الشكيمة ، أن يتسامح فيما قاله حسن البنا ، ونقل البنا إثر ذلك إلى مدينة قنا التي تبعد نحو 300 ميل جنوب مصر العليا . وهي المدينة التي يستبعد أو ينفى إليها الموظفون الحكوميون جزاء وتكفيرا عن مخالفتهم أو اتهاماتهم . وبعد فترة وجيزة اعتقل أحمد السكري نائب الرئيس ( وكيل الجماعة ) بسبب الدعاية المضادة للحكومة . وتم بعد ذلك في يونيو 1941 م إعادة البنا إلى وظيفته بالقاهرة ، وكذلك الإفراج عن السكري .

" لقد استفاد حسن البنا بهذه المواجهة السياسية الناعمة من أجل تحقي مكاسب لبقاء واستمرار الجماعة " ، ورغم ذلك لم يستطع أمر اعتقال رئيس الوزراء للبنا في زمن الحرب العالمية أن يتفادى مزيدا منت الحرص ، وتجنبه إظهار مرارة عداوته لبريطانيا . وإن كان ذلك لم يمنع اندفاع أتباعه وحماسهم لإظهار الشعور بالعداوة ، إلا أنه استثمر اعتقاله بشكل واضح عندما أعلن أن ذلك يرجع إلى غيرة البريطانيين المسيحية إزاء النجاح في العمل من أجل الإسلام ، ثم خيم الهدوء المعتد لعلى الإخوان خلال شهري ديسمبر ويناير ، وإن كانت التقارير تفيد فيض أحاديثهم بالعداوة ضد بريطانيا خاصة في الأقاليم (المحافظات ) ، في نفس الوقت لم تنقطع لم تنقطع مخططاتهم لتخريب المصالح البريطانية .

وتوجهت بعض من طاقاتهم ( في وقت الهدوء المعتدل ) إلى الصراع ضد منافسيهم مثل حزب مصر الفتاة ، وجماعة شباب محمد . " ويبدو أن إعلان حسن البنا عن أهداف جماعة الإخوان المسلمين ، وتميزها بوضع فريشة الجهاد في ذروة الأساليب والسبل لنشر الدعوة والتحرر من الاستعمار والاحتلال الرابض على ارض البلاد كان يشكل أشد الأساليب جاذبية لاستقطاب أعضاء جدد ؛ قد يكون البعض منهم من أعضاء التنظيمات السياسية والجماعات الدينية التقليدية الأخرى " ، وقد ترتب على ذلك أن "الإخوان المسلمين " تستميل إلى عضويتها ، بشكل أكرب، المتعلمين من أبناء أبسط المطبقات الوسطى ، خاصة من معلمي المدارس الذي تستهويهم أصالة المثل العليا غير الواقعية مثلما تستهويهم الطبيعة الصارمة في علمهم الاجتماعي والتعليمي والتربوي ، بينما نجد على الجانب الآخر حركة مصر الفتاة المتمردة الشباب من أبناء الأسر الثرية الذين أنصب اهتمامهم على حركتهم السياسية الخاصة أكثر من الإصلاح الاجتماعي الذي يبتغيه الإخوان .

وثبت أن الإخوان جماعة في غاية التنظيم بفروعها المنتشرة عبر أقاليم مصر . وهي قادرة وعلى كفاءة للقيام بقدر له أهميته في تطوير مستقبل مصر السياسي . وقد اختلف في تقدير عدد أفراد الإخوان ما بين خمسمائة ألف والمليون عضو . وتعتمد عضوية الحركة على الطبقة العاملة التي تستمد أساسا من المدن العمالية الصغيرة .كما تضم أيضا العناصر الأرقى تعليميا من آخر سلم للطبقة المتوسطة ، خاصة من المعلمين الذين يحملون مثلا أصيلة غالبا ما تؤثر في أدائهم وعملهم الاجتماعي والتربوي ، هذا فضلا عن عضوية أعداد صغيرة من الطلاب .وهناك أيضا كثير من الشواهد على انضمام فلاحين للإخوان تخلو عن عضويتهم عند اكتشافهم أن التنظيم له علاقات سياسية ، مما قد يورطهم في معارضة الحكومة والسلطات المحلية . أما لملاك فإنهم غير متحمسين للانضمام ، حيث إنهم يخشون فقدان سيطرتهم على الفلاحين إذا اكتسب الإخوان القدرة على توجيههم .

ويعتقد أن التنظيم العالم يسير على الاتجاهات التالية : تقسم مصر ، باستثناء القاهرة ، غلى عدد من الأقاليم وكل إقليم له مديره أو رئيسه ، وفي كل إقليم عشرون شعبة أ أكثر ، ويزعم أن هناك نحو خمسمائة شعبة على مستوى القطر . وتبقى منطقة القاهرة تحت الإشراف المباشر ل حسن البنا ، ويقال : إنها تضم أكثر من أربعين شعبة فيما عدا الجوالة الطلاب الذين يشكلون قسما مستقلا عن الشعب . ولكل شعبة لها كتيبتها ( وجمعها كتائب ) ، والتي تتشكل من أكثر الأعضاء حماسا وإخلاصا . واعتاد حسن البنا أن يكون له كتيبته الخاصة المكونة من أربعين عضوا اختارهم بنفسه . وثمة ما يشير إلى وجود عناصر من الكتائب تشكل قوة انتحارية ( استشهادية ) وعلة أية حال ؛ فإنه يبدو أن مبدأ الكتائب قد سقط في محظور سوء الاستعمال .

وكما أفاد أحد المراقبين الذين كانوا يدرسون الحركة بعيد نشوب الحرب عن مدى قدرته " وإخوانه " الفائقة على التنظيم ، وتأكيدهم على الطابع العسكري ( الجهادي ) لمنظورهم الإسلام ي وهذا الجهاد ، في رأي المراقب ، متجه بحسم واضح ضد الوجود الأجنبي ، ويعني بدون أدنى شك الوجود البريطاني ، العدو الرئيسي الذي يتزايد خطه بشدة ، رغم وضعه الاستثنائي في مصر ،، واستطاع بإعمال قدرته التنظيمية ، أن ينتقل من النشاط الاجتماعي إلى المسرح السياسي ، حيث شرع في الاتصال بعلي ماهر الذي يزعم بأنه المخلص لمصر ، وقت أن كان رئيسا للوزراء . ولم تكن هذه العلاقة أو الاتصال وثيقا للغاية ، كما يظن البعض . وإذا كان حسن البنا ما زال حذرا في أحاديثه وخطبه العامة ، فإن أتباعه أقل حذرا منه في تصريحاتهم العدائية نحو بريطانيا وهناك من التقارير التي تدل على أن الإخوان يقومون بجمع المعلومات حول تحركات القوات البريطانية . ولهم اتصالات بالعالمين في مرفق السكك الحديدية وورش ومستودعات الجيش البريطاني . ويشتبه بأنهم يعدون الخطط للقيام بعمليات تدمير معسكراتنا وتخريب خطوط الاتصالات . لقد توالت التقارير التي تشير إلى قدر الدعاية التي يقوم بها الإخوان ضدنا ، دون تأكيد حاسم بذلك ، ولكن بمزيد من الإيعاز والقلق فإن خطط التخريب ـ المزمع القيام بها ـ أدت إلى مطالبة السلطات البريطانية لاعتقال البنا والسكري . وقد أدى اعتقالهما في 16 من أكتوبر 1941 م إلى إثارة حمية الغضب وشجب التصرف البريطاني نحو الإخوان ، وذلك في أوساط الإخوان ، ونشر الذعر بين دوائرهم في القاهرة . وتلقي الملك ورئيس الوزراء سيلا من التماسات الإفراج عنهما . وألقت الشرطة في 12 من نوفمبر القبض على 16 طالبا حاولوا عقد اجتماع للاحتجاج على هذه الاعتقالات ، في وقت حظرت عقد مثل هذه الاجتماعات ، مما أصاب رئيس الوزراء بالقلق ، فأفرج عن القائدين ( البنا والسكري ) في اليوم التالي مباشرة ، ثم أدلى بتصريح له ب " أنه لا يمكن ضمان الاستقرار العام وقت افتتاح البرلمان الذي سيفتتح بعد يومين ط . لقد أصبح الإخوان من القوة بمكان لدرجة تهديده المباشر لحكومة حسين سري التي لا تتمتع بتأييد برلماني وفقدان تأييد الملك لها في نفس الوقت ، مدركة تماما مدى ضعفها . ومن الجلي أن تعليمات القصر ترتب عليها سعي رئيس الوزراء والشرطة إلى تبرئة ساحة الإخوان في عيون السلطات البريطانية .

وقد عرف من تاريخ الإخوان قيامهم بدراسة التنظيمات النازية والفاشية . واتخذوا من ذلك نموذجا في جزء من تنظيمهم ،ويقع الاختيار على الجوالة من الأعضاء الملتزمين بالنظام والتدريب ،وربما يكون ذلك أشبه بتنظيم ، أما تنظيم الكتائب ، وهم الصفوة من أهل الثقة من رجالهم ، فقد يماثل تنظيم .هذا فضلا عن تكون الفرق الانتحارية ( الاستشهادية ) ، رغم أن أعضائها لم يحصلوا على الفرص الكافية للتدريب .

ويظهر بما لا يدع مجالا للشك أن الإخوان يسعون بجد لشراء الأسلحة ، مما يشجع تكوين فدائية تقوم بمهامها وقت الاضطرابات . وأشار حسن البنا ، سبتمبر 1941 م ، في خطاب له أن لديه ألفين من الشبان المسلحين على استعداد تام ، وطوع بنان أوامره ، ويحتمل أنه كان يشير إلى كتائب الإخوان .

" ويولي حسن البنا اهتمامه في رؤيته الاجتماعية بتخفيف المعاناة على البسطاء من الشعب " بتقديم الخدمات عن طريق سعي الحكة لتنظيم القيام بأعمال الخير والخدمات الاجتماعية والتعليمية بين المسلمين في ربوع مصر ، وتعتمد لتمويل ذلك على دوائر إسلامية شديدة الكرم وحسنة السمعة . لقد وضعت جماعة الإخوان نصب أعينها . في مختلف الأزمنة ، مشروعات صممت لتحسين أحوال أعداد وفيرة من فقراء المسلمين ، ولكن قليلا من هذه المشروعات تم تطويرها ، بينما لم تقدر الأخرى على الانطلاق . ومن بين هذه المشروعات المتصورة : المحاضرات والفصول التعليمية والكشافة والنوادي الرياضية والمدارس الأولية والابتدائية ، والجمعيات التعاونية والعيادات الطبية المجانية . وقد تصاب هذه المشروعات بفشل نسبي إذا ما وضعت بشكلها النظري على أساس عملي بسبب ضعف مقوماتها في المجتمع ، كما أ، الحركة لديها القليل لتقدمه لأعضائها باستثناء الوعود الخاصة مستقبل غامض

ويتمك توزيع المهام على بعض أعضاء الجماعة للإشراف إلى فروع ولحان ( أقسام النشاط الثقافي والرعاية الصحية في الإحياء الشعبية ، وكذلك الأنشطة التعليمية والتربية البدنية والفصول المسائية للعمال . ويعتقد أن حسن البنا قد اختار حلقات قيادية بديلة إثر القبض على القيادات الحالية في الأقاليم والقاهرة. ويدير الحركة تنظيميا هيئة مركزية تنفيذية ( مكتب الإرشاد ) وهو المسئول عن اتخاذ القرارات . ويبدو حسن البنا بسبب ضغوط من النحاس باشا يحاول اتخاذ بعض الإجراءات لتنفيذ سياسة لا مركزية ، وذلك بتعيينه رؤساء للشعب في الأقاليم وإسناد مسئوليات على المستويات المحلية .

" ولم يشأ حين البنا أن يدخل في مواجهات مع حكومات تلك الفترة بسبب أزمان داخلية واضعا هدفه الأسمى انتشارا دعوة الإخوان على عموم القطر المصري ، فضلا عن أولويات مقاومة المستعمر البريطاني " فقد تزامنت أزمة عدم توفر الخبز في يناير 1942 م من (عجيلا ) إلى ( درنا ) ، مما ترتب عليه اندلاع اضطرابات ومظاهرات أدت إلى سرعة سقوط حكومة سري باشا . ويبدو بشكل واضح أن الإخوان قد تلقوا أوامر بعدم التورط في مثل هذه الاضطرابات إلا أن رد فعلهم التلقائي كان عدوانيا عندما أجبرنا ( بمحاصرة قصر عابدين ) الملك في 4 من فبراير على تكليف الوفد بالحكم وتبين من آرائهم وقراراتهم الاتجاه المضاد للوفد والتأييد لعلي ماهر .

"قد يكون النحاس باشا أضمر ردة الفعل العارضة للإخوان إثر أحداث 4 من فبراير ، فضلا عن ضغط النفوذ البريطاني عليه ، فكان معارضا تماما لأي مبادرة ل حسن البنا وجماعته لوجود باب الحياة النيابية " ، إذ قرروا بالنسبة للانتخابات ترشيح عدد متواضع لغ 17 مرشحا . ورشح حسن البنا نفسه في دائرة الإسماعيلية تحت شعار الإسلام وراية القران ، مبقيا في نفس الوقت على مبادئ الوفد . وتضمنت إحدى المقالات الصحفية احتمال حسن البنا جبهة المعارضة . ولكن لم يتوفر العدد الكافي من الأصوات المؤيدة للمسلمين الطيبين ، وأيضا لصالح مرشحي النبيل عباس حليم الذي أسند إليه القصر موالاة حزب العمل بقدر ما يستطيع ؛ يضاف إلى ذلك طرح أصوات الأقباط جانبا . واستنكر إزاء هذه الظروف المجتمعة ، من خلصاء الحركة الدينية دخول قائدهم في حلبة السياسة . وامتلأت خطب أتباعه الانتخابية بأهمية الحاجة إلى قوانين الشريعة الإسلام ية وضرورتها ، دون أن يهاجموا البريطانيين ، إلا أن دعايتهم المضادة للبريطانيين ظلت تحت سطح هذه الخطب .

وهدد النحاس باشا سنة 1942 م حسن البنا بتحجيم الإخوان إذا ما أصر على عد الانسحاب من الترشيح في الانتخابات التالية لتولي الوفد للسلطة . في نفس الوقت الذي قدم فيه النحاس عرضه لمساعدة الإخوان إذا ما أقدموا للعمل معه . فأعلن حسن البنا ولاءه للحكومة وتأييده للمعاهدة الانجليزية المصرية ، ولكن يظل ولاءه للأمرين يحتاج للبرهان واليقين ، وقد فسر البعض ذلك بأنه نوع من الاستسلام المخجل ، مما جلب عليه نقدا عريضا من قبل أتباعه . فتعرضت شجاعته للتساؤل ، إذ قيل : إن النحاس هدده بنشر الادعاءات الخاصة بإداراته لأموال الإخوان ، أو إحالته للمحاكمة بتهمة الجاسوسية أمام المحاكم العسكرية . وتعرضت جماعة الإخوان مؤقتا ( إثر هذه المواقف ) للانقسام ، وتأثرت بذلك أنشطتها بالفعل ، رغم جهود البنا تبري تصرفه بإلقاء اللائمة على النفوذ البريطاني ، وموقف النحاس المضاد له . وفد أغضب الإخوان القبض على علي ماهر ، في أوائل أبريل فكانت بمثابة ضربة موجعة لهم ، غير أنهم استطاعوا خلال سنتين من مناصرته لهم اتخاذ بعض الإجراءات التي كفلت الاعتماد على أنفسهم . وبدأ دعم القصر للإخوان مرة أخرى بعد أن كان متوفقا بسبب استسلام البنا للنحاس . وهناك تقارير تدل على اتفاق أبرم ، يصطبغ بالنقمة المعارضة للوفد ، بين البنا والنقراشي ، وهو ثاني القيادات المتطرفة في حزب السعديين .

ومن الواضح أن هذه تسعى جاهدة لغلق ملف الأخوان مع الوفد ورأب الصدع الذي سببه القبض على علي ماهر . وقد التأم الجرح تدريجيا الذي خلفه تبرم الإخوان من استسلامه لنحاس ، وبدأ يستعيد عافيته بالصعود والتمكن من قيادة الحركة مرة أخرى ، ثم حدثت هدنة بين الإخوان والوفد على أساس من احتمال المتبادل ، وإذ كان البنا قد أدرك أن النحاس يمكنه سحقه هو وحركته ، فإن رئيس الوزراء ( النحاس باشا ) يقدر أن الإخوان يمكن أن يشكلوا له مشكلة مؤرقة في حالة تحديهم له . وكان البنا يعتمد ، في ذلك الوقت ، على تعاطف نسبة لها اعتبارها من رجال الشرطة والموظفين الحكوميين ، خاصة في الاقاليم ، ويزعم ( البنا ) مفتخرا في أغسطس 1942 م مدى تأثير الإخوان الفعال على جميع الرتب في الجيش المصري .

كان واقع العلاقة فعلا بين الإخوان والوفد في حلة هدنة . وتبرير الاحتفاظ بالعلاقة الطيبة مع الوفد أن معارضته قد تؤدي إلى إغلاق الشعب واعتقلا القيادات ، وأن مستقبل الحركة قد يتعرض إلى الضياع . وأنجز حسن البنا بوعده أمام الناس والملأ بأنه كف عن نقده اللاذع للحكومة ، وإن كان يغير اتجاهه الفكري في هذا الشأن .

أما الوفد من جهته ، فقد ظل ناظرا إلى أنشطة الجماعة بعين الريبة والشك ، مراقبا عن قرب أنشطتها . وقد تبين بمتابعة التقارير ، أنه في نهاية يناير 1943 م ، انغمست شعب الإخوان في النشاط السياسي والدعية ضد الوفد ، فأصدر النحاس باشا أمرا إداريا بحظر جميع اجتماعات الإخوان ، فيما عدا اجتماعات المركز العام بالحلمية الجديدة بالقاهرة ، كما صدرت التعليمات أيضا بإغلاق الشعب بالأقاليم . وقد ألغيت هذه الأوامر في أبريل 1943 م وقت أزمة الكتاب الأسود كرغبة الوفد لاكتساب مساندة الإخوان واستخدامهم لتهديد الأقباط المؤيدين لمكرم عبيد . وقد اغتنم حسن البنا هذا المثقف لتكثيف حشده للإخوان وقدر كل من الطرفين أن هذا التقارب مجرد شأن من الملاءمة السياسية لكل منهما .

" استطاع حسن البنا أن يلج باب الدبلوماسية على المستوى الداخلي ، فلم يطرق أبواب القصر الملكي إلا من خلال مخاطبته للملوك والرؤساء في العالم العربي في شكل رسائل ، ولكنه طرق باب ولي العهد محمد علي ، فقام بزيارته لعلمه بحسن ظن الأمير بجماعة الإخوان المسلمين " .

ومن أهم الرسائل التي بعث بها إلى الملك فاروق الخاصة بقضية فلسطين في 5 / 11 / 1945 م ، والمواجهة إلى السفارة البريطانية من المرشد العام للإخوان المسلمين والمرفوعة منه إلى صاحب الجلالة الملك فارو ق، وأيضا إلى صاحب السعادة السفير البريطاني بالقاهرة بخصوص قضية فلسطين والإفراج عن قيادتها الوطنية ، ولفضيلته كل الثقة أن تلقي هذه المسألة جد رعايتكم . والنسخة المرفقة وممضاة باسم حسن البنا حسن البنا المرشد العام للمنظمة المذكورة . ويؤكد أن "الإخوان المسلمين " يخالجها دائما المزيد من القلق نحو استمرار بقاء العلاقات الحميمة بين الأقطار العربية وبريطانيا العظمى ـ القائمة على المساواة والتعاون . ويعتبر القضية الفلسطينية إحدى هذه القضايا التي تؤثر في تهديد هذه العلاقات ، وان جماعة الإخوان في الوقت الراهن في غاية السرور أن ترى الحكومة البريطانية راغبة في حل هذه القضية على أسس عادلة تضمن للعرب حريتهم وكراتهم ، ذلك بالمضي في المفاوضات مع الفلسطيني والأقطار العربية الأخرى . ويعترف الفلسطينيون بأن المفتي بأن المفتي الحاج أمين الحسيني هو الشخص الوحيد الذي يمثلهم بالفعل ، ومن ثم ، فإن الخطوة الأولى نحو الوصول إلى تفاهم كامل مع بريطانيا العظمى والعرب هو الإفراج عن المفتي والقيادات الوطنية الأخرى ، إذ ليس هناك أي سبب يبرر اعتقالهم وسجنهم بعد انتهاء بعد انتهاء الحرب التي انتهت بانتصار بريطانيا العظمى ، وأن الإخوان على ثقة تامة بأن الحكومة البريطانية الحريصة على الاحتفاظ بالعلاقات الطيبة مع العرب ، لن ترفض هذا الطلب الملح للفلسطينيين والأقطار العربية والإسلام ية الأخرى بعودة المفتي إلى فلسطين والإفراج عن باقي العربية الفلسطينية . ويلتمسون من هذا المطلب ، المقدم باسم الإخوان المسلمين للسفارة البريطانية وبتوصية من سعادة السفير بالموافقة على عودة المفتي والقيادات العربية الأخرى ؛ فإن ذلك يمكن من تحقيق قواعد الصداقة ، ويعزز العلاقات بين بريطانيا العظمى والعرب من أجل مصلحة البلدين ، وكذلك مصالح السلام والتقدم الإنساني .

" وكان تناول جهود حسن البنا الدبلوماسية المستويين : الداخلي والخارجي على قدر سواء ، فحاول طرق باب ولي العهد محمد علي ، فقام بزيارته لعلمه بحسن ظن الأمير بجماعة الإخوان المسلمين " ، فذكر البنا له عند لقائه بالأمير محمد على أنه مثقل بمرارة العدوان واتهام الباطل من قبل البريطانيين . وأعلن الشيخ أن هذه الريبة والشك والاتهام الباطل ليس له ما يبرره ، وأنه لذلك بالغ القلق من أجل أن يبدد هذا الشك والاتهام .ويذكر أن سمو الأمير على اتصال منذ زمن طويل مع الإخوان المسلمين . زهو ببساطة حريص على هذا الاتصال بسبب اعتقاده أن هؤلاء الإخوان المتدينين يمكنهم بممارستهم الأخلاق الحميدة أن يؤثروا بعقيدتهم الخاصة على عموم الناس في القطر عندما يكون ذلك ضروريا .

وعلى مستوى الدبلوماسية بالسياسة البريطانية لم يمانع وساطة أحمد جلال أفندي ـ أحد أعضاء جماعة الإخوان ـ بالمستشار البريطاني للشئون الشرقية سر دبليو سمارت الذي أفاد بدهشته البالغة من اتهام الإخوان المسلمين النفوذ البريطاني بالتدخل وطلبهم من السلطات المصرية الحيلولة دون انتخاب المرشحين منهم في الانتخابات القادمة للمجلس النيابي . ورغم أن مصالحنا متشابهة فإنه في الاضطرابات التي تعقب الحرب وتوقع الخطر البلشفي القادم فالإخوان المسلمون ، فوق ذلك كله ، قادرون على التصدي لذلك باستقامة عقيدتهم الدينية ، وبالاستقرار الاجتماعي الذي نبتغيه جميعا .. وأشار سير سمارت إلى أننا لم نتخذ أي إجراء معاد بأي حال ضد الإخوان المسلمين منذ سنتين ، وحسب علمه ؛ فإن الصراع كان قائما بين الإخوان والسلطات الأمنية .

ومن رسالة مستر بوكر إلى أرنست بيفن ـ وزير الخارجية البريطاني ـ مؤداها ؛ إبلاغه أن الأستاذ حسن البنا ـ المرشد العام لجماعة الإخوان المسلمين ـ قام بزيارة لمستشار الشئون الشرقية الذي سرد وقائع هذه المقابلة كالتالي : " قام حسن البنا بزيارتي يوم 17 من أكتوبر ، لقد طالب بضرورة اتخاذ إجراء كالتالي :" قام حسن البنا بزيارتي يوم 17 من أكتوبر بضرورة اتخاذ إجراء لمنع هجرة 100000 يهودي إلى فلسطين " ، وأردف قائلا : " إن عرض الرئيس ترومان أشبه لمن يضع النار بجوار برميل بارود " . فقلت لهه ، كما تأكد ذلك بما نشر في الصحف : إن هذه المسالة تروماتن أشبه لمن يسطع النار بجوار برميل بارود " ، فقلت له : إن ذلك خارج نطاق اختصاصي ، ومن ثم ناشد بأهمية الاستجابة للمطالب المصرية ، وتساءل عما إذا كانت سياسية بريطانيا العظمى تريد التعامل مع عالم عربي قوي موحد ، أم أنها تبغي تقسيمه من أجل أن يتيسر لها التحكم فيه ؟ فرددت قائلا : إن تصريحي مشتر إيدن في حد ذاتهما لدليل كاف لتعاطفنا مع الوحدة بين أصدقائنا المصريين ـ العرب . وهذه التصريحات لكافية تماما على برهنة أنه لا سبيل لتقسيم العالم العربي والتحكم فيه فإذا كان ذلك واضحا فليتفق كلانا على المبادئ ، أما الباقي فإنها فقط مسألة تفاصيل يمكن أن نعاجها فيما ببيننا على أسس من التقدير والمودة المتبادلة . انتهزت الفرصة لأذكر حسن البنا بأنني عندما قابلته آخر مرة منذ 18 شهرا شرح لي بحماسه الشديد أن مقاصد الجماعة ، دينية وثقافية واجتماعية ،

إلا أن الإخوان المسلمين في اجتماعها القريبة تدعو بوضوح إلى أهداف سياسية . فأجاب حسن البنا بأن الأهداف الدينية في الإسلام لا مناص من أن تكون سياسية في نفس الوقت . وضرب مثلا بالدفاع والذود عن الأقطار الإسلام ية مثل فلسطين ، والتمسك بحقوق المسلمين ... الخ ، قلت له : إنه يبدو أننا نناقش المبدأ التقليدي الإسلام ي بأن " الدين والدولة هما توأم " ، بناء على هذا المبدأ فإن كل أمر سياسي يمكن أ، يكون دينيا . ولا يبدو لي على أي حال أن هذا الدفع الأصولي يبرر للإخوان المسلمين انغماسهم في تفاصيل الأنشطة السياسية . فأجاب بأن ذلك لم يكن مقصدهم ؛ فغنهم لا ينتمون إلى أي حزب سياسي . لق وهبوا أنفسهم للمصالح العامة للشعوب الإسلام ية . واسترد في حديثه مستخفا بالمجلس الاستشاري الذي اعتبره رئيس الوزراء من الآمال القومية التي يطمح إليها الرأي العام . وأوضح أن هذا المجلس ربما يشكل من أشخاص لهم قدرهم ، ولكنهم لا يمثلون الشعب بأي حال من الأحوال . فالشعب حسب قوله : لا يؤيد مثل هؤلاء الزعماء ، وليس للإخوان أية نية لمساندة أي هؤلاء أي من هؤلاء الزعماء ، سواء كان النحاس أو النقراشي .واستطرد في ذلك الحين مكررا نظريته القديمة ، على وجه التحديد ، وهي أن الإخوان المسلمين أكثر الحلفاء نفعا في مجتمع مهدد بالانحلال . إذ هم يمثلون أضخم الحواجز ضد الشيوعية ، وأقوى العوامل المؤدية إلى الاستقرار ، فطالما كان الإسلام ديمقراطيا فهو أيضا قوة للبقاء والصمود .

لقد تعرف الشيخ على سير دبيلو سمارت ، الذي أوصى بإمكانية إتاحة فرصة مستقبلا للمقابلة معه مرة أخرى . ولكن في واقع الأمر كان العداء مستحكما وواضحا بين الحكومة الحالية والإخوان المسلمين ، فلا ينصح بتكرار هذه الاتصالات مثل ما حدث في هذا اللقاء . وفضلا عن ذلك هناك دائما الخوف من احتمال قيام الإخوان المسلمين بلعبتهم المعتادة ، محاولة الحصول على مساندتنا ، وعلى الأقل لتجريدنا من عداوتنا ، من أجل تدعيمهم وتقويتهم وصدعهم للقيام بعمل مضاد ضدنا في المستقبل .

التظاهر والمسيرات كأسلوب سياسي وباكورة استعراض القوة

تعددت أساليب حسن البنا وجماعة الإخوان المسلمين لمقاومة الاحتلال في العالم عامة ، ومصر خاصة ؛ فبدءا من المواجهات للحكومات المهادنة للاستعمار البريطاني ومحاولات الاتصال مع رموز الملكية والمندوب البريطاني للشئون الشرقية إلى جمع المعلومات عن قوات الاحتلال وتجهيز قو المقاومة وتقليب الرأي العام ضد قوات الاحتلال بإطلاق المسيرات والمظاهرات الطلابية والعمالية ؛ فإن الأسلوب الأخير ( التظاهرات ) كان الأكثر انتشارا ووسيلة الضغط على الحكومات المهادنة ، فضلا على الوجود البريطاني في مصر في مصر والمشروع الصهيوني في فلسطين أو الاحتلال الفرنسي في ربوع الشام أو المغرب العربي ، ونظرا للإحكام العرفية التي فرضت أثناء الحرب العالمية الثانية ، وتحمي بها التظاهر ضد الاحتلال الانجليزي ؛ فإن حسن البنا ـ من وجهة نظري حاول الالتفات ، ووجه المظاهرات ضد الاستعمار الفرنسي الرابض في سوريا ولبنان والمغرب العربي ".

لقد نظم حسن البنا عدة مظاهرات ضد الوجود الفرنسي في المغرب العربي ، كان أهمها اشتراك الإخوان المسلمين في مظاهرة الأزهر ضد فرنسا ، وذلك في الأول من يونيو . وقد قرروا يومئذ أن ينظموا وظاهرة لحسابهم يوم 4 يونيو تزامنا مع اجتماع ممثلي الدول العربية . فأصدرت الحكومة ، فور سماع هذا العرض ، أوامرها للشرطة ، بعدم السماح للمتظاهرين تجاوز المسيرة ميدان الأوبرا المفترض تجمعهم فيه ، ثم ألغيت هذه الأوامر ، في الساعة الثالثة مساء 4 من يونيو استجابة لوجهة نظر القصر ، حسبما تأكد تقريره . " تجمع في الساعة الخامسة إلا الربع يوم 4 من أبريل نحو ألفين من الإخوان المسلمين وخمسمائة من العمال في ميدان الأوبرا . ورفعت الأعلام و( اليافطات ) التي حملت عددا من الشعارات والعبارات .. مثل : تسقط فرنسا ، يسقط ديجول ، عاش الملك فاروق ، وعلت الهتافات التي تنادي بسقوط الاحتلال ، لا ظلم بعد اليوم ، العرب أمة واحدة ، لا مكان للمحتل . وكان حسن البنا أول من استهل الخطب أمام هذا الحشد مستعملا مكبرا للصوت . لم يقتصر في خطابه على إبلاغ رسالة الإخوان إلى مصر وحدها ، بل وجهها إلى كافة الأقطار الإسلام ية ، بما فيها الجزائر والمغرب .. إلخ ، فالاحتلال هو البغي بعينه ، ولا يقبل به ( المحمديون ) ..ويعتبر تحمل الإخوان لمسئولية (مثل هذه المظاهرة ) نوعا من الإثبات لوجودهم واتخاذ خطوات سريعة لإشعار الآخرين بقوتهم ، وتلا الخطابة أحمد السكري الذي تكلم على نفس المنوال ، ثم انبرى رئيس مجلس النواب السوري بقوله : إنه في غاية الدهشة وكبير الامتنان للتعاطف والتأييد الواضح من شعب مصر نحو تحقيق الاستقلال لسوريا ، وأردف قائلا : إن السوريين لا يرضون بأقل من إجلاء القوات الفرنسية الكامل عن سوريا ن وقد تتابعت الخطب بعد ذلك من شخصيات أقل أهمية ، حيث أكدوا جميعهم على الظلم البين للاحتلال الأجنبي القائم على البلاد العربية . اتجهت المظاهرة بعد ذلك إلى ميدان عابدين ، حيث علت الهتافات بحياة الملك فاروق ، وألقيت خطب أخرى أهممها كلمة حسن البنا أمام المتظاهرين ، مكررا ضرورة طرد الأجانب من البلدان العربية .وقال أيضا : إن المصريين قد أعدوا أنفسهم للقتال بجانب إخوانهم السوريين ضد الفرنسيين . ( وبعد انتهاء إلقاء الكلمات ) أمر حسن البنا المتظاهرين ، نحو الساعة السادسة والربع ، بالانفضاض والعودة إلى بيوتهم ، وقد أطاعوا أوامره على التو واللحظة .

في 4 من يونيو 1945 م ـ إضافة إلى تقرينا 2002 م بتاريخ الأمس ـ فإنه يمكن إضافته تقرير مأمور قسم شرطة الدرب الأحمر : اتصل مساعد الحكمدار بمساعد الفرقة ، وأعلمه بأن بعض الإخوان المسلمين دعوا إلى التجمع في صلاة الجمعة بالأزهر ، وتنظيم مظاهرة بعد ذلك لتأييد شعب المغرب في كفاحه ضد الاستعمار الفرنسي . وقد صدرت إيه الأوامر بمنع مثل هذه المظاهرة ، وان يخاطب ذوي الشأن بمنع الخطب داخل المسجد بعد الصلاة . وقد أخبرني ضابط المباحث C.I.D بالقسم بهذا الموضوع . وذهبت إثر ذلك مع مفتش الفرقة (السيد السيسي) لتنفيذ هذا الأمر بالأزهر .كما وصل مساعد الفرقة والسيد المعاون عبد العظيم فهمي ، وفرقة من بولك النظام . شاهدنا بعد انتهاء الصلاة بعض الإخوان المسلمين الطلاب الغباء ، وقد شرعوا في القيام بمظاهرة داخل صحن المسجد وقريبا من المدخل الرئيسي قاصدين الخروج منه هاتفين ( الله أكبر ولله الحمد ) . فقمت مع مساعد الفرقة وضابط المباحث الجنائية بإبداء النصح لهم بالتفرق ، باعتبار أن التظاهر ممنوع . فقاموا بالتفرق ، إلا أن أحدهم ويدعى سليمان مصطفى عيسى ، وهو طالب بالمعهد العالي في شارع الإنشاء رفض الانصياع للأمر مصرا على المضي قدما وهو حامل ليافطتين كتب عليهما ( عاشت الجزائر وتسقط فرنسا ) ، فألقينا القبض عليه وصادرنا اليافطتين . وعندما تدخل في هذا الأمر ، ومصرا عليه ، محمد عبد السميع الغنيمي ـ موظف المستخدمين بوزارة الصناعة والتجارة ، والعضو بجماعة الإخوان المسلمين ـ قمنا بالقبض عليه . كما قبض ضابط المباحث الجنائية على أحمد إدريس الوزاني ـ الطالب التونسي بكلية اللغة العربية ، حيث كان يوزع نسخا من كتيب بعنوان ( مأساة المغرب ) صادرنا منه اثنتي عشرة نسخة كانت في حيازته . وقد أفرج عن الثاني والثالث السابق ذكرهما بعد التحقق من شخصيتهما ، إلا أن المندوب العسكري أمر بإرسال المتهم الأول إلى القسم لإجراء التحقيق معه واصطحابه بعد التحقيق في الصباح الباكر إلى مقر المندوب العسكري .

مظاهرات أخرى للإخوان المسلمين

بالإشارة إلى الرسالة الواردة رقم ( ) في السادس من فبراير 1945 م نرفع تقريرا ورد البنا من مكتب الأمن حول موضوع المظاهرة التي نظمها الإخوان المسلين في 4 من يونيو بالقاهرة ، وإن كانت المظاهرة موجهة أساسا ضد فرنسا ، تؤكد التقارير بصفة عامة بزوغ الاتجاهات الوطنية ، وقد أرسلت نسخا من هذا الخطاب إلى الرسميين في الشرق الأوسط ، سعادة السفراء بجدة ، بغداد ، بيروت ، والمفوض السامي في فلسطين .

أرسل السفير هاردل فاركو هاري ونستون تشرشل وزير الخارجية البريطانية ـ في 12 من يونيو 1945 م : فهو لشرف عظيم أن أرسل هذا التقرير الوارد من إدارة الدفاع والأمن عن المظاهرة التي نظمها الإخوان المسلمون يوم 4 من يونيو بالقاهرة لتأييد المندوبين المجتمعين بمجلس الجامعة العربية .

وإن كانت هذه المظاهرة موجهة أساسا ضد الفرنسيين ؛ فإن هذا التقرير يبسط بوضوح الاتجاه العدواني ضد الوجود الأجنبي والذي عبرت عنه الهتافات ؛ بسقوط الاحتلال ، لا ظلم بعد اليوم ، العرب أمة واحدة ، لا للوجود الأجنبي . وقد توالت الخطب التي بدأها حسن البنا ، ثم آخرون غيره مؤكدين المطالبة بطرد الأجانب من الأراضي العربية .

2 ـ كان الاجتماع منظما ولم تسجل أية حوادث تذكر .

أرسل نسخا من هذه الرسالة إلى الوزير المقيم في الشرق الأوسط ، وإلى فخامة السفير في بغداد ، ومعالي الوزراء في جدة وبيروت والمفوض السامي في فلسطين .

محاولة الإخوان المسلمين لتنظيم مظاهرة ، بالإشارة إلى التقرير الأسبوعي ( ) 134 مرفق صورة من التقرير الوارد من شرطة مدينة القاهرة مؤداه أن السلطات المختصة اتخذت من الإجراءات الحاسمة لتفريق مظاهرة يحاول الإخوان المسلمون تنظيمها ضد السياسة الفرنسية في شمال أفريقيا.

بالإشارة إلى الفقرة الرابعة من تقرير السفارة الأسبوعي السياسي والاقتصادي رقم ( )المؤرخ في 30 من يونيو، والتي بسطت محاولة جماعة الإخوان المسلمين تنظيم مظاهرة ضد السياسة الفرنسية في شمال أفريقيا . فلي عظيم الشرف أن أرفع الصورة المرفقة لتقرير شرطة القاهرة الذي يفيد باتخاذ السلطات المختصة إجراءات حاسمة لتنظيم هذه المظاهرة. ومرسل صورة من هذه الرسالة إلى الوزير المقيم وسعادة السفير بباريس وسعادة القنصل العام في الجزائر .

" تنوعت أساليب المقاومة لدى حسن البنا ضد الاستعمار والنفوذ البريطاني والخطر الصهيوني، فبدأ من المقاومة السلمية ضد الإنجليزي المحتل بدءا من التعبير في الصحف والمنشورات السياسية والمظاهرات وحوادث العنف الفردية بفندق الملك جورج في الإسماعيلية وغيرها- إلى إرسال الكتائب القتالية إلى أرض فلسطين للهجوم على المستعمرات الإسرائيلية، كان ذلك معبرا عن شخصية متعددة المواهب في المناورات السياسية والاقتراب من الجماهير من خلال مناهج الدعوة والإرشاد والتربية الإسلام ية والتقدم بالمشروعات الاجتماعية الطبية والتعليمية وغيرها عن طريق الجمعيات الأهلية المساندة له في دعوته وحركته".

" في ظل ظروف الاحتقان السياسي بعد اغتيال أمين عثمان – وزير المالية في حكومة الوفد- قام الإخوان المسلمون" بالحد من النشاط إثر التحقيق في اغتيال أمين عثمان، واستثمار هذه الفترة للتقارب مع السعودية، والقيام بجولة في الأقاليم، ثم الإعداد لمظاهرة كبرى، وتستخلص الخارجية البريطانية أن الإخوان قد تقوم والجماعات المهدمة في سياق هذا الحدث بممارسة عادتهم للصيد في الماء العكر.

وبناء على تعليمات من حسن البنا قللت جميع شعب الإخوان المسلمين من أنشطتها أثناء مراحل التحقيق في اغتيال أمين عثمان باشا. لقد دفعت ذكريات النقراشي الخاصة باتخاذ إجراء قمعي إثر اغتيال أحمد ماهر باشا، بأن يحمل جماعة حسن البنا أن تحد من نشاطها خلال زيارة الملك آل سعود لمصر. واستمرت مع ذلك اللجنة التنفيذية (بالحلمية الجديدة) في العمل بكل طاقاتها. وقد نما إلينا من مصدر أكيد أن حسن البنا قد سعى بجد لعقد لقاءين خاصين مع الملك آل سعود، وذلك لتوضيح أهداف جماعة الإخوان المسلمين وقد أبلغه مدير مراسم آل سعود، بعد أن طرح عليه عدة تساؤلات اهتمام جلالته وتشجيعه له وطلب منه أن يبذل غاية الجهد من أجل مجد الإسلام .

وطبقا لعدة تقارير وردت إلينا، أنه في نفس الوقت: فإن الحماس للنشاط قد فرت منذ عهد قريب في مناطق الدلتا ومصر العليا، وتشير تقارير أخرى إلى أن قيادات ورؤساء الشعب المعنيين قد امتثلوا لأمر حسن البنا الذي أعلن إمكانية اتخاذ إجراء جزائي لما من ثبت تقاعسه عن العمل. وعلى اقتراب نهاية الشهر، غادر حسن البنا القاهرة للقيام بجولة في مصر العليا، وعاد سريعا يوم 27 من يناير عندما لاح في الأفق احتمال سقوط مجلس الوزراء الحالي، لذلك اختصر جولته ويبدو في الوقت الراهن- بصرف النظر عن روح التقاعس- أنه يعمل جاهدا لإعداد شعب الأقاليم للمشاركة في مظاهرة كبرى احتجاجا ضد المذكرة البريطانية التي يعتقد الإخوان المسلمون أنها قد أعدت في مرحلة مبكرة من شهر فبراير.

أرسل حسن البنا – المرشد العام للإخوان المسلمين- بمملكة وادي النيل برقيتي احتجاج في 1 من مارسو 6 من مارس1946م يعبر فيهما عن استيائه من التصريحات التي أبداها لورد أديسون بمجلس اللوردات والبرلمان البريطاني.، وعلى أثر ذلك أعلن حسن البنا لكفاح الدائم من أجل الاستقلال والوحدة، وكان ذلك نداء من جماعة الإخوان المسلمين في مملكة وادي النيل.

وتشير التقارير التي بعث بها مستر بووكر إلى الخارجية البريطانية في أول مارس1946م إلى أن الإخوان المسلمين يبعثون مندوبيهم دون شك إلى الأقاليم وإلى القرى من أجل تأجيج المشاعر ضد بريطانيا، والتي لم (أعيد لم) تتعمق هناك بعد. ويستمر صدقي باشا للعمل مع الإخوان المسلمين وأيضا مصر الفتاة، إلى المدى الذي منح رخصة إصدار صحيفة للإخوان المسلمين ومكانا مخصصا للطباعة.

في رسالة من مستر بووكر رقم 121 بتاريخ 15 من سبتمبر 1947م وبها استخلاصات عن الموقف المصري من التقارير الصحفية تذكر:

1-تقارير صحيفة تناشد جميع الأحزاب المصرية وإلى كل شعب وادي النيل للاستعداد والوحدة للكفاح القادم ضد البريطانيين.

2-وجهت القيادة العامة للإخوان المسلمين نداء إلى شعب وادي النيل للتأهب والتوحد من أجل الكفاح القادم،

3-وفي نفس الوقت يتوجه حسن البنا إلى الحكومة المصرية ويناشد الأحزاب السياسية وزعماءها للاستعداد لمواجهة الموقف، وتأسيس جبهة متحدة من أجل الكفاح، وإذا ما تحققت بنجاح مثل هذه النداءات فإن مصر تكون قد حققت أهدافها، ومن ناحية أخرى سيفصح الإخوان عن خططهم الخاصة ولديهم أساليبهم الخاصة لتحقيق ذلك.

4-وبلغت المناشدة إلى درجة القول: إن مصر أجبرت على التفاوض مع البريطانيين وانتظرنا النتيجة، ولكن سرعان ما انكشف أن مثل هذه المفاوضات هي مجرد مناورات سياسية تفضي دائما إلى الخلاف وعدم الاتفاق واكتساب البريطانيين كثيرا من الوقت. وعندما طالبت مصر باللجوء إلى التحكيم الدولي، فإنها أرادت فقط أن تظهر للعالم أنه قد طرقت كل إمكانات سبل السلام لتحسم النزاع م بريطانيا، وكانت النتيجة هي فشل مجلس الأمن للتوصل إلى اتفق، أو يستقر على حل مرضي للمشكلة، إن السبيل الوحيد الذي ما زال قائما لمصر هو محاولة النضال، حيث يتطلب الكفاح فيه مشروعات تفصيلية وتخطيطا دقيقا وتضحية بالغة، حتى يمكن الحصول على حقوقنا، ومن الخطأ البين أن نظن أن نضال الشعب هو نضال مؤقت، أو بسبب التعصب.

5-وقد طالب صالح حرب باشا من موقع جدارته كرئيس لجمعية الشبان المسلمين ، وزير الدفاع بأن يمد هذه المنظمات بالسلاح والذخيرة اللازمة للتدريب.

6-وتؤكد برقية أرسلت إلى رئيس مجلس الوزراء المصري المسئول نشرت في 15 من سبتمبر مؤداها أهمية الحفاظ على النظام والأمن العام حتى يكون عونا كبيرا لوطننا لاستمرار الجهود لتحقيق آمالنا الوطنية.

7-وصرح المدير العام للأمن للأهرام بأننا بصدد نقطة تحول تاريخي في مصر، وأن قيام المظاهرات ستضر بالقضية، وأضاف أن أحسن السبل لخدمة قضية الوطن هو الاحتفاظ بالهدوء التام وضبط النفس.

8-بالإشارة إلى البرقية رقم 1863 (الفقرة 2 في 12 من سبتمبر : اضطرابات) فإن مندوب الخدمات الأمنية أفاد بأنه لم تتوجه قوات مصرية إلى بور سعيد في 12 من سبتمبر.

أفادت برقية من سي آر كامبل من السفارة البريطانية بالقاهرة إلى الخارجية البريطانية رقم 127 في 19 من سبتمبر 1947 م نصها : انفجرت بالأمس قنبلة في فندق الملك جورج بالإسماعيلية الذي يملكه أشخاص يونانيون، مما تسبب في إصابة 11 شخصا بالجروح من الأوربيين والمصريين، وطبقا لما أفادت به السلطات الأمنية المصرية، فإن الشخص المسئول عن هذا الانفجار هو العريف رفعت عبد الرحمن النجار من القوات الجوية المصرية، والذي استجوبته الشرطة المصرية، فاعترف بوضعها لقنبلة في قاعة الغذاء بالفندق من أجل بلده مصر، وهذا الرجل قد تغيب بدون إذن من وحدته لمدة ثلاثة أيام، وهو الآن قيد الحجز والتحقيق وهو عضو في الإخوان المسلمين ويبدو أن القنبلة مصنوعة من مادة الجليجنات ، وفي مذكرة بخط اليد تعقيبا على الحادث باحتمال مرجح أن تكون التفجيرات من أفعال الإخوان المسلمين. إن ولاء العريف رفعت النجار للملك ليس بقوة ولائه للإسلام والإخوان.

" ولا يألو حسن البنا جهدا في تنويع أساليب المقاومة وتكثيف مشاعر العداوة ضد الإنجليزي المحتل محاولا ضرب رموز اختراقه الثقافي، حيث خطط قسم الطلاب بقيادة الأستاذ فريد عبد الخالق لشن حملة للتخلص من نفوذ المدرسين والمفتشين والإنجليز لتدخلهم في شئون التعليم المصري، فضلا عن حريق بعض المطبوعات الإنجليزية احتجاجا على الممارسات القهرية التي تقوم بها قوات الاحتلال، حيث ثم إشعال حرائق صغيرة في الميادين العامة في عدد من مديريات (محافظات) القطر المصري، وتبث السفارة البريطانية في القاهرة بتقارير تشير إلى مظاهر ومؤشرات المقاومة بين صفوف الشباب والطلاب في المدارس والجامعات مشيرة إلى دور الإخوان المسلمين في تنمية مشاعر العداوة ضد الغاصب الإنجليزي لي على مستوى المدنيين الطلاب والعمال، بل بين صفوف الفلاحين في القرى والنجوع".

باكورة تنظيم التمرد الطلابي ضد الاحتلال

ومن سفارة موسكو إلى سفارة القاهرة في 5 مارس1946م حيث أفادت صحيفة برافدا في 4 من مارسما نقلته وكالة تاس نقلا عن تقارير وكالة رويتر، أن طلاب جامعة فاروق (الإسكندرية حاليا) أحرقوا كتبهم الإنجليزية وقيل : إن طلاب الإسكندرية طالبوا المكتبات التجارية بسحب طلبات الشراء من دور الإعلانات البريطانية صاحبة حق الامتياز.

يرفض الطلاب منذ 21 من فبراير الانتظام في الفصول التي يقوم المدرسون الإنجليز بالتدريس بها. وقد طلب الناظر الحالي من وزير المعارف العشماوي بك إصدار أمره للطلاب يحذرهم بوجوب نجاحهم في اللغة الإنجليزية هذا العام، لكن العشماوي بك رفض أن يفعل ذلك. وسأل هذا الناظر أيضا العشماوي أن يمنح سلطة معاقبة الطلاب الذين يضربون عن الانتظام في الدراسة أو يحدثون الاضطراب. أجاب العشماوي: إن الناظر عليه أن يفعل ذلك على مسئوليته الخاصة. فإن الناظر لا يستطيع فعل ذلك، فإذا حدثت حالة من الشجار أو الفوضى أو الاضطراب فإنه بالطبع يتحمل المسئولية، ويمكن أن يفصل (المسبب لذلك)، لم يفعل العشماوي أي شيء غير ممالأة دور الطلاب، ولم يقم بأي جهد لأن يوقفهم عند حدودهم، إن أغلبية الطلاب وأولياء الأمور ضد حركة الغياب من المدرسة، ولكنهم لا يمكنهم الوقوف ضد الأقلية المتمردة. ويخطط الطلاب للبدء بإحداث اضطرابات خطيرة، بدءا من 15 من مارس(يوم الاستقلال الوطني)، وسيوضع في الاعتبار للدراسة فيما بعد، احتمال تعرض العساكر وأعضاء السفارة للقتل.

تكونت الآن في كل مدرسة ثانوية لجنة منظمة منتخبة، لكنها مكونة من اثني عشر طالبا من المتشددين الذين يفرضون أنفسهم على الآخرين. ويمثل كل لجنة طالب واحد يتعاون مع منظمة الطلاب بالجامعة. ويسعى الطلاب المنظمون في المدارس الثانوية والجامعة لإحداث اضطراب وتخريب مادي، وفضلا عن ذلك فهم مسلحون بالمسدسات وزجاجات (مولوتوف) الحارقة التي أعدها طلاب قسم الصيدلة بكلية الطب. إذ استنسخ الطلاب طرق رب العصابات الروسية بإعدادهم للزجاجات الحارقة المكونة من البنزين والمغلفة بالقطن لإلقائها على عربات اللوري الإنجليزية. وقد تم مناشدة الطلاب لإحضار عديد من الزجاجات الفارغة بقدر الإمكان، وتعالت صيحة شراء الأسلحة والذخائر بين الطلاب.

يمثل الوفد الآن أقلية في المدارس والجامعات، إلا أن الإخوان المسلمين أصبحوا أقوى إلى حد بعيد . أما جبهة مصر أي منظمة على ماهر فإنها ما زالت قوية تماما. لقد اعترى ناظر مدرسة ثانوية الدهشة عندما ترامى إلى سمعه أحد الأيام أثناء المظاهرات هتافات بسقوط النحاس، حيث سام الطلاب تراجع الوفد في مجال الحياد الحكومي والانتخابات الحرة..الخ، من ناحية أخرى، فإن الملك فاروق لم يعد محبوبا شعبيا، كما كان. وهناك عدد معين من الطلاب الشيوعيين إلا أنهم ليسوا بكثيرين في الوقت للراهن، وتشكل الدعاية الشيوعية في الوقت الراهن في المنشورات ، وليس من خلال التنظيم المباشر والدفع بعناصر مشاكسة إلى جانب ذلك فإن الدعاية الشيوعية والفرنسية تمارسأيضا الدعاية ضد بريطانيا. وهناك لجنة من الطلاب باسم اللجنة الفرنسية تطالب بتدعيم المطالب الوطنية المصرية، أعلنت ضرورة إحالة القضية إلى مجلس الأمن حتى تضم القضية مع القضية السورية- اللبنانية والمطالبة بجلاء القوات الفرنسية من الدول الشرقية والقوات البريطانية من مصر في نفس الوقت. إن الشعور العدائي ضد بريطانيا لم ينتشر بعد بدرجة كبيرة، فهو كائن عمليا بين الطلاب، ويمكن الحد منه إذا ما أعدت الحكومة اتخاذ إجراء مناسب، ومع ذلك فإن صدقي باشا له ماض كئيب ضد الوطنيين يريد أن يمحوه في أخريات أيامه، خاتما لخدمته بهالة من الوطنية . أما الملك فاروق فإنه أيضا لا يمارسنفوذه ليضع نهاية للإثارة الطلابية بسبب خشيته من فقدان تأييد الطلاب. لقد أحس جلالته كيف فقد كثيرا من الأرضية بين الطلاب عندما لاحظ اتجاه الطلاب أثناء حفل افتتاح المدينة الجامعية. ولم يقتصر جهد الطلاب على العناصر المنظمة للتمرد في المدن، بل قاموا أيضا بتنظيم حملات تعليمية بين الفلاحين إنه من الجوهري أننا يجب أن نمارسنفوذنا لحمل الحكومة على إيقاف هذا الهراء بين الطلاب. لأنه قد يتعدى أحداث الاضطرابات وتنتشر وتصبح النتيجة مزيدا من الفوضى على مستوى قد يؤدي إلى نزول القوات البريطانية إلى الشارع للحفاظ على النظام.

ويشير مستر بووكر من السفارة البريطانية في 11 من مارس1946م إلى (اضطرابات في مصر) في تقرير سري من أحد النظار المصريين لمدرسة ثانوية كبرى بالقاهرة يستعرض فيه الاضطرابات الأخيرة مقررا أنها من تدبير اللجنة التنفيذية التي توجه الطلاب، وفي الوقت الذي يمالئهم فيه صدقي باشا فإن المزيد من الفوضى لا مرد له، ويشير أيضا على أن لدينا معلومات من مصادر أخرى تشير على صعوبة الموقف الذي نواجهه بالنسبة للمدرسين البريطانيين في المدارس المصرية، والأمر السيئ أن تسليح الطلاب واقع قائم، وثمة معتقد أن صدقي هناك ناشد بالمحافظة على النظام، ولكن هناك شيئا أكثر من المناشدة نحتاج إليه معروفا على أي حال، فإذا كان هناك مزيد من الفوضى فإن القوات البريطانية يمكنها أن تقوم بإجراءات دفاعية.

ومن بووكر أيضا بالسفارة البريطانية إلى أرنست بيفن وزير الخارجية البريطانية أتشرف بأن أرسل هذه الصورة للتقرير المهم الملتزم بسريته لوزير الشئون الشرقية، والذي أعده أحد النظار المصريين بإحدى المدارس الثانوية الكبرى في القاهرة. وأتجرأ بالتأكيد لكم بعدم استخدام معلومات هذا التقرير بأي طريقة قد تكشف عن مصدره، لقد لفت انتباه المدير العام للأمن العام ما احتواه التقرير مؤكدا حمل الطلاب للسلاح. وقد أنكر ذلك مثلما أنطك صدقي باشا في أول الأمر، لكنه أردف أن معلوماته الآن تؤكد معلوماتنا. ومنذ أن سأل سير والترس مارت الغزالي بك، هل يمكنه تأكيد ما ورد في بذور المقاومة المسلحة والتقرير إلى النتيجة التي مؤداها أن طلاب كلية الزراعة قرروا عدم انتظامهم قبل نهاية السنة الأكاديمية الحالية، وأيضا ينخرطون في نفس الوقت في التدريب العسكري، أجاب الغزالي بك في أول الأمر بأنه ليس لديه معلومات عن هذه الواقعة ، ولكنه تبعا لذلك أفاد وزير الشئون الشرقية بأن هذا ليس حادثا في كلية الزراعة فقط، بل في جميع الكليات بهذه الجامعة، وأن ثمة خطوات قد اتخذت بالفعل لانخراط الطلاب في تدريب عسكري عام.

" لقد استشعرت السياسة البريطانية بخطورة حسن البنا في قدرته الكاريزمية على توجيه موجات المقاومة بطرقها السلمية وغير السلمية فاستنبتت بذور مشروع الاغتيال الذي ورد في نفس الوثائق، وأرسل منه صور إلى جهات بريطانية متعددة ومعتمدة في الشرق الأوسط، فضلا عن الملحق العسكري الأمريكي، كما هو موضح في الفقرة التالية، ومفاد الرسالة أن الطابع العسكري للإخوان وحذرهم البالغ من الأجنبي، أو شكهم فيه، وحقيقة حيازتهم لعدد ضخم من الأسلحة على مستوى القطر المصري، يمكن استخدامها فإن ذلك يفيض من الشعور بأن الإخوان خطر محتمل لا يمكن استبعاده . ومع ذلك فإن نقطة الضعف في الإخوان هو في قيادتها، فليس فقط حسن البنا هو القائد (المرشد) الذي لا ينازعه أحد في قيادة الإخوان، بل إنه الشخصية الوحيدة المرموقة. فالجماعة تعتمد عليه كلية، ولو أنه قد يبدو خطيرا بسبب قوة نفوذه وبراعته وقدرته على السيطرة بنجاح، فإن اعتماد الإخوان على قيادته لهم قد يكون سببا من أسباب الانهيار، فإذا ما أقصى حسن البنا لأي سبب من الأسباب ، فإن الإخوان في حالة غياب أي خليفة له مماثل له في الطموح، وقوة الحركة والدفع قد يؤدي بالجماعة إلى التفكك أو الانهيار.

تم توزيع نسخ من هذا التقرير على 14 جهة: السكرتير الخاص لوزير الدولة، سيركروفت، مكتب وزير الدولة، مستر هاملتون كولينيل، لاسيل، سكرتير لجنة الدفاع، حيفا (فلسطين) بريجادير كلايتون، مكتب وزير الدولة، السفارة البريطانية، القاهرة، السفارة البريطانية، بغداد، السكرتير الأول للحكومة بفلسطين، ماجور لاندال، قسم الدعاية، السفارة البريطانية، القاهرة، السفارة البريطانية، القاهرة، كولينيل هيليويل الملحق

" تداعت الأحداث بشكل متسارع بعد حرب فلسطين الأولى، واستشعر الاستعمار ونظام الحكم المهادن في عهد النقراشي باشا خطورة كيان جماعة الإخوان بعدما أبلت كتائب المتطوعين من الإخوان بلاء حسنا أنبأ عن إقبالهم على التضحية وعدم المهابة من الموت والاستشهاد. ، فأصبح حل جماعة الإخوان المسلمين متوقعا نتيجة توالي حوادث العنف والانفجارات التي كان يقوم بها النظام الخاص ضد المنشآت التجارية اليهودية، وفي قلب حارة اليهود في سوط المدينة، وقبلها ضد القوات الإنجليزية المتجولة، وإصدار أحكام إدانة قضائية ضد من حملوا سلاحا لمقاومة الاحتلال، مما أثار بعضهم فاندفعوا بقتل القاضي الخازندار الذي أصدر هذه الأحكام، ثم ضبط سيارة جيب تحمل وثائق وأسرار النظام الخاص ورسومات وخرائط لمنشآت اليهود والإنجليز التي حكم فيها القضاء المصري بعد سنتين ببراءة بعض المتهمين والحكم بالحد الأدنى للعقوبة للبعض الآخر، والتي بررت فيها المحكمة أفعال المتهمين بنبل الغاية وشرف المقصد".

" تحمل حسن البنا في نهاية مطاف مسيرته الجهادية في الدعوة ومقاومته للاستعمار والمشروع الصهيوني، ما هو فوق طاقته كمرشد أ رئيس للجماعة، من حيث حمل العبء من داخل الجماعة، أما أعداؤه فكان قادرا عليهم. ترتب على ثنائية القيادة بين النظام العام والنظام الخاص عدد من المتناقضات أدت إلى سلسلة من الأعمال العنيفة التي دبرت بليل دون علمه كاغتيال القاضي الخازندار والنقراشي- رئيس الوزراء- وحادث الشروع في نسف محكمة الاستئناف، مما فرض عليه إصدار بيان استنكار، وشجب لهذه الأعمال "ليسوا إخوانا وليسوا مسلمين" وقد سبق هذه الأحداث كشف الاستعمار والصهيونية الخطورة المحتملة ل حسن البنا وتنظيمه الجهادي الذي كشف عن قوته في حرب فلسطين الأولى، مما أدى إلى اتفاق الإرادتين: إرادة إنجليزية- صهيونية، وإرادة القصر الملكي، ونظام الحكم الداخلي المهادن للنفوذ البريطاني على التخلص منه".

" كانت توابع حل جماعة الإخوان المسلمين اعتقالا جميعا شاملا لأعضاء الجماعة، ثم اغتيال النقراشي وحادثة محكمة الاستئناف، وإصدار حسن البنا بيانه الاستنكاري المشار إليه سلفا الذي بدت فيه نغمة المصالحة مع الحكومة، كما يتضح ذلك من مراسلات السفارة البريطانية إلى الخارجية البريطانية" في مذكرة بخط اليد نصها " ليس من الممكن أن نثق بظاهر الاتجاه نحو المصالحة (الاستعطاف) التي يبديها الشيخ حسن البنا ، أن العضوية في الإخوان المسلمين تتسع الجماعة فيها لبضع مئات من الآلاف، ومن ثم فإن القبض على مائة لا يؤدي إلى سحق الجماعة بكفاءة إمضاء ( )

ويبعث أرنست أندزوز إلى وزير خارجيته أرنست بيفن في 18 من يناير 1948م بالإشارة إلى الرسالة رقم ( ) في 26 من ديسمبر 1948م بشأن الإخوان المسلمين: أتشرف بأن أرفق مع هذا صورة من مقال نشر في جريدة البورص إيجبسيان في 11 من يناير يلخص البيان الأخير للشيخ حسن البنا:

1-إن نغمة المصالحة التي بدت في البيان وتم نشرها في الصحافة القومية لدليل لكل من له صلة بالمرحوم النقراشي باشا، والحض على كل شيء ممكن لمساعدة الحكومة على حفظ النظام والأمن، ولكن حسن البنا شخص انتهازي ومقصده تهدئة السلطات بمشاعر أمنية كاذبة على أمل أن يخففوا من قبضتهم تدريجيا عن تحطيم الإخوان، ومن ناحية أخرى فقد أخبرني رئيس الوزراء المصري عن انطباعه بالنسبة للبيان والانطباع بين صفوف الشعب، بأن حسن البنا قد بدا يلين في مواجهة تدبير الحكومة.

2-أخبرني رئيس الوزراء أيضا أنه على ثقة بالانتصار على الإخوان، وفي سبيله للقضاء عليهم كلية. وقد ألقت الحكومة القبض على خمسة من أهم الأعضاء تطرفا أحدهم من الإسماعيلية، حيث كان مختفيا في مستشفى لبعض الوقت، كما ضبط في منزله كمية ضخمة من الأسلحة والمتفجرات، وأبدى رئيس الوزراء أهمية كبرى على هذه التطورات وأخبرني على التو بأن مئات من أهم أعضاء الإخوان قد ألقي القبض عليهم. ( وحسب ما جاء في تقرير إس إس آر فإن كثيرين سيقبض عليهم بمجرد إعداد أماكن ملامة للاعتقال) وأن قرار اعتقال عدد كبير من الإخوان قد أخذ بلا شك نتيجة للاعتداء الأخير الذي ذكر في البرقية رقم 86 بتاريخ 13 من يناير، خاصة أن مرتكب الجريمة كان قد أطلق سراحه قبل ذلك بعد الاشتباه فيه.

3-أرسل هذه الصورة المرفقة إلى المكتب البريطاني للشرق الأوسط.

" مشروع اغتيال حسن البنا" يشير إليه خطاب 15 فبراير 1949م إلى الخارجية البريطانية : تم عقد اجتماع بعد مقتل النقراشي باشا بالنادي السعدي بشارع سليمان باشا بالقاهرة حضره فريق على مستوى من العناصر السعدية البارزة، وقرروا أن مقتل النقراشي يجب الثأر له، وأسفر ذلك عن مخطط لاغتيال البنا بمباركة القصر باشتراك:

أ-عبد ارحمن بك- وكيل أول يو.إس أس. بوزارة الداخلية.

ب-محمود عبد المجيد بك- رئيس شعبة البحث الجنائي بوزارة الداخلية.

جـ-كامل الدمياطي- مدير مكتب رئيس الوزراء. تلقى عمار بك عديدا من التهديدات بالقتل من إخوان متطرفين قبل ومنذ مقتل النقراشي . وبناء على ذلك أحيط بحراسة خاصة، واتخذت احتياطات استثنائية لحمايته. كان عبد المجيد بك ريسا سابقا لشرطة مديرية جلاجا في نفس الوقت الذي كان عمار مديرا لنفس المديرية، واشتهر عبد المجيد بتدبير حملات قتل لعدد من الأشقياء (المطاريد) في مديرية جرجا عندما كان لا يتوفر وجود أدلة إدانة يحاكمون على أساساها وعندما تم ترقية عمار إلى وكيل وزارة، يسر له سبل نقل عبد المجيد ليصبح مساعدا له.

الاغتيال: نشرة سياسية من القاهرة إلى ديوان الخارجية من سير آر. كامبل أس 14، 11 صباحا في 13 من فبراير مرفق رقم ( ) الإخوان المسلمون توفي حسن البنا- المرشد العام للإخوان المسلمين- في الصباح الباكر نتيجة إصابته بجروح بسبب إطلاق عدة رصاصات عليه في ساعة من ليلة البارحة، وذلك بمسدس من مسافة قريبة، وقد هرب المعتدي.

الإخوان المسلمون قصاصة من جريدة التايمز 6/ 1015 / 1122 في 17 من فبراير 1949 م ، نص ما ورد في قصاصة جريدة التايمز 14 من فبراير 1949م القاهرة وفي 13 من فبراير من مراسلنا الخاص : توفي الشيخ حسن البنا- المرشد العام للإخوان المسلمين المحظورة- في هذا الصباح الباكر بعد أربع ساعات منذ إطلاق الرصاص عليه من قاتل هرب تحت جنح الظلام في وسط من الذهول. كان الشيخ وأحد أصدقائه يتجولان قريبا من مقر جمعية الشبان المسلمين بالقاهرة، عندما أطلق عليهما من الخلف، على مدى مرمى النار، عدة طلقات غادرة، وقد فشلت عملية نقل الدم للمصاب. وقد أفاد الشيخ قبل اغتياله أنه تلقى مؤخرا خطابات تهديد بالقتل إذا ما حاول كشف أسرار جماعة الإخوان المحظورة للسلطات، خاصة بالنسبة لمخازن الأسلحة. لقد حل الإخوان منذ عهد قريب في ديسمبر رئيس الوزراء النقراشي باشا الذي اغتيل منذ ثلاثة أسابيع بيد أحد أعضاء المنظمة.

السفارة البريطانية آر . كامبل أر 11,04 صباحا في 13 من فبراير (16/ 19151/533: جيه).

م يوم 12 من فبراير 1941م R e f371-73463977 DS-e رقمPublic record office

1-كما ورد بالصحف: فإن حسن البنا قد أصيب بجراح مميتة إثر اعتداء مجهول في نحو الساعة 8,30 مساء يوم 12 من فبراير عندما كان يغادر مقر جمعية الشبان المسلمين بشارع الملكة نازلي بالقاهرة، حيث كان مكان انعقاد الاجتماع. وقد توفي بسبب جراحه نحو الساعة الثانية صباح يوم 13 من فبراير، وقد تم دفنه في ذلك اليوم. شيعت الجنازة بهدوء دون وقوع أي حادث ، حيث طوقت السلطات بكردون كثيف حول الأماكن المجاورة لمسكنه.

2-لا يوجد الآن ما ينم إيجابيا عن هوية القاتل، ولو أن الصحافة عرضت تمثيلية تشير إلى العثور على محفظة بها أوراق شخصية تخص خدم أحد المنازل. ويبدو أن هذا ليس له أي علاقة بالقضية. ويمكن أن يقال بين الناس المحايدين بشكل عام إن اغتيال حسن البنا قد استدعى بعض مشاعر التعاطف واتهام الحكومة بشكل عام.

3-جمعنا حتى الآن ملاحظان سريعة تتعلق بالحادث، وخطط حسن البنا المباشرة قبل اغتياله:

أ-لقد خطط حسن البنا قبيل اغتياله بفترة قصيرة حسب ما علمناه من مصدر موثوق به، أنه عزم على الانسحاب إلى الأقاليم حتى يستمر إشرافه على أتباعه هناك، ويقال: إنه اتخذ هذا القرار بعدما علم أن بعض الشبان السعديين مثل : كامل الدمياطي والنيكلاوي، قد أقسموا اليمين عند جثمان النقراشي بالانتقام لمقتله بإطلاق النار على الشيخ حسن البنا خلال أربعين يوما من مقتل النقراشي. وقد قتل حسن البنا في اليوم السابع والأربعين بعد مقتله.

ب-ويقال أيضا: إن حسن البنا قد هدد من بعض مؤيديه الذين يعتقدون أنه قد سرب معلومات لوزير الداخلية تفصح عن وجود جهاز للإذاعة اللاسلكية دبليومتي ومخزن للأسلحة.

جـ-هناك بعض الصحفيين لديهم الإحساس وباقتناع منطقي أن الحكومة مسئولة عن اغتياله.

د-قال مصدر مسئول لا يشك في روايته: إن حسن البنا عزم على الانضمام إلى جمعية الشبان المسلمين مع بعض أصدقائه وأتباعه، وهذا الاقتراح قد أبداه له أحمد حسين – مصر الفتاة- وأفاد مصدر جديد: أن حسن البنا ارتأى صيغة توفيقية مع الحكومة، ولكن دون جدوى. وانحصر بعد ذلك اختياره بين انضمامه إلى قوة جمعية الشبان المسلمين أو مع مصر الفتاة. وقد وجد أن البديل الأخير غير مناسب، لأنه لا يتفق في العمل مع أحمد حسين.

هـ-أفاد مصدر موثوق به أنه بعد معركة إطلاق الرصاص مباشرة توجه أحمد حسين على مقر جمعية الشبان المسلمين واستحث الأعضاء الحاضرين على ضرورة اتخاذ إجراء ، إلا أن صالح حرب طلب منه مغادرة المقر.

4-من الصعوبة بمكان تقييم ردود أفعال أو النتائج المحتملة في المرحلة الحالية، ولدينا ثمة ملاحظة أو اثنتان سريعتان:

أ-أعلن مصدر خاص أنه في حوالي الساعة التاسعة من مساء يوم 12 من فبراير أن الملك عندما كان يقامر- في هذه الليلة- في نادي السيارات الملكي بالقاهرة، تسلم مذكرة بها أخبار عن الهجوم، كما تسلم مذكر أخرى في ساعات الصباح الأولى. ولوحظ عليه في كلتا الحالتين ارتسام ابتسامة صفراء على وجهه، وبقي الملك على موائد القمار حتى الساعة السادسة من صبح الأحد.

ب-يبدو أن ثمة شعورا عاما بالرضا بمصرع الشيخ حسن البنا. فهناك شعور مميز بالارتياح في الجهات الرسمية، ومن ناحية أخرى بشكل ملحوظ في دوائر الوفد ترى أن الاغتيال مؤشر لارتكاب سلسلة من الاغتيالات السياسية، وأن ثمة هواجس أفصح عنها بعض المتطرفين كأعضاء مصر الفتاة وبقايا من الإخوان المسلمين بإمكانية اتخاذ ذلك ذريعة لإعلان النضال السري وتكثيف حملتهم العدائية ضد الحكومة والعناصر السياسية المعتدلة.

5-يمكننا في الوقت الراهن- حسبما يخبئه القدر في جعبته- أن نجازف بالتخمين التالي: أن مقتل حسن البنا وتشييع جنازته لم ينجم عنهما أي رد فعل عنيف بين أتباعه، ويستشعر ذلك على الأقل في مناطق القاهرة. ولا يقتضي في النهاية اعتبار شدة الخطر في المستقبل القريب، وقد يبدو مع ذلك واضحا أن حسن البنا يمكن أن يكون قد اغتيل بيد مجهول، إلا أنه في نظر أتباعه مات شهيدا على أيادي حكومة رجعية. إن اتجاه بعض أتباعه النشطين هو أن التمسك بالحرية يحتاج إلى الثبات والصمود، إن هذا القتل بمنظور عريض يحمل فيه الشعب الحكومة المتربعة على السلطة مسئولياتها عن القتل، وإن الدوائر السياسية تميل إلى إدانة الاغتيال السياسي وإنزال العقاب بمرتكبيه ( إذا ما احتاج ذلك بعض التبرير) كوسائل للوصول إلى الهدف.

" فعلا لم يكن ثمة ردة فعل عنيف بين أتباع حسن البنا لأنهم كانوا بين أسوار السجون والمعتقلات تحت مظلة الأحكام العرفية التي احتمت بها حكومة الحزب السعدي برئاسة إبراهيم عبد الهادي. والتي حاصرت قوات أمية جثمان الشهد، ولم يشيعه إلى مثواه الأخير في مقابر الإمام الشافعي، إلا والده وابنه سيف الإسلام حسن البنا، واقتحم السياسي القبطي المخضرم مكرم عبيد باشا حصار العسكري، وقدم التعازي لوالد الشهيد، ولم يجرؤ أحد من الجمهور على التطوع لحمل الجثمان ، كما جرى العرف على ذلك خشية من رجال الشرطة الذي يحيطون بمسار الجنازة".

" قد يتصور البعض أن الشهيد حسن البنا قد مات غريبا، ولكن شهادته في سبيل استنهاض الأمة بحركة الإخوان المسلمين كانت على مفترق طرق حضاري لم يستطع أن يكره أعداء الإحياء لروح الإسلام في الأمة. فهو شهيد حي بعمله وجهاده الذي لم ينقطع بفضل استمرار وإصرار جماعته بعد استشهاده، بل انتشر – رغم قسوة الضربات الروحية المتتابعة على جماعة الإخوان المسلمين- من السلطات المستبدة المعادية لاستنهاض الأمة ولسائرة في فلك التبعية لعلمانية الغرب وعولمة الرأسمالية الأمريكية- الصهيونية المتوحشة".

" كان حسن البنا من أهم الإشراقات الحضارية التي ظهرت في حقب الضمور الحضاري التي حلت بالأمة بسبب الوهن السياسي والإنتاجي والثقافي والانفلات الأخلاقي الذي سبق وواكب الغزو الاستعماري بأشكاله المختلفة، العسكري والاقتصادي والثقافي. كان حسن البنا حلقة واصلة في مسلسل إشراقات الإصلاح منذ رفاعة الطهطاوي (1801- 1873م ) وخير الدين التونسي (1810- 1990م) وسيد أحمد خان (الهند) (1817- 1889م) ، وجمال الدين الأفغاني ( 1838- 1897م) ، والإمام محمد عبده ( 1849- 1905م) ، ومحمد رشيد رضا (1865- 1935م)، وعبد العزيز الثعالبي(تونس) (1876- 1944م) ، وعبد الحميد باديس (الجزائر ) (188- 1940م) / ثم هو حسن البنا (1906- 1949م).

حسن البنا .. الرجل القرآني
روبير جاكسون

في فبراير (شباط ) 1946م، كنت في زيارة للقاهرة.. وقد رأيت أن أقابل الرجل الذي يتبعه نصف مليون شخص، وكتبت (في النيويورك كرونيكل) بالنص:

" زرت هذا الأسبوع رجلا قد يصبح من أبرز الرجال في التاريخ المعاصر، وقد يختفي اسمه إذا كانت الحوادث أكبر منه، ذلك هو الشيخ حسن البنا زعيم الإخوان.

وقد صار الإخوان عاملا مهما في السياسة المصرية، ويقال: إن جملة الإخوان (80%) من لجان العمال والطلبة الذين كانوا في طليعة الحوادث الأخيرة في مصر. ويقول الأستاذ البنا: إن حركة الإخوان فوق الأحزاب، وسبيلها هو العودة إلى القرآن، وغايتها جمع كلمة المسلمين في كل أرجاء الأرض".

هذا ما كتبته منذ خمس سنوات ، وقد صدقتني الأحداث فيما ذهبت إليهن فقد ذهب الرجل مبكرا، وكان أمل الشرق في صراعه مع المستعمر، وأنا أفهم جيدا أن الشرق يطمح إلى مصلح يضم صفوفه، ويرد له كيانه، وغير أنه في اليوم الذي بات فيه مثل هذا الأمل قاب قوسين أو أدنى انتهت حياة الرجل على وضع غير مألوف وبطريقة شاذة.

هكذا الشرق لا يستطيع أن يحتفظ طويلا بالكنز الذي يقع في يده.. لقد لفت هذا الرجل نظري بصورته الفذة، عندما كنت أزور القاهرة، بعد أن التقيت بطائفة كبرى من زعماء مصر ورؤساء الأحزاب فيها.

كان هذا الرجل خلاب المظهر، دقيق العبارة، بالرغم من أنه لا يعرف لغة أجنبية، لقد حامل أتباعه الذين كانوا يترجمون بيني وبينه أن يصوروا لي أهداف هذه الدعوة، وأفاضوا في الحديث على صورة لم تقنعني.

وظل الرجل صامتا، حتى إذا بدت له الحيرة في وجهي قال لهم: قولوا له شيئا واحدا، هل قرأت عن محمد؟ قلت : نعم. قال: هل عرفت ما دعا إليه وصنعه؟ قلت: نعم، قال : هذا هو ما نريده.

وكان في هذه الكلمات القليلة ما أغناني عن الكثير مما حاول البعض من أنصار البنا أن يقولوه لي.

لفت نظري إلى هذا الرجل سمته البسيط، ومظهره العادي، وثقته التي لا حد لها بنفسه، وإيمانه العجيب بفكرته.

كنت أتوقع أن يجيء اليوم الذي يسيطر فيه هذا لرجل على الزعامة الشعبية، لا في مصر وحدها بل في الشرق كله.

وسافرت من مصر بعد أن حصلت على تقارير ضافية عن الرجل وتاريخه، وأهدافه وحياته، وقد قرأتها جميعا، وأخذت أقارن بينه وبين جمال الدين الأفغاني ، ومحمد عبده، ومحمد أحمد المهدي، والسيد السنوسي، ومحمد بن عبد الوهاب، فوصل بي البحث إلى أن الرجل قد أفاد من تجارب هؤلاء جميعا، وأخذ خير ما عندهم، وأمكنه أن يتفادى ما وقعوا فيه من أخطاء، ومن أمثلة ذلك أنه جمع بين وسيلتين متعارضتين، جرى على إحداهما الأفغاني، وارتضى الأخرى محمد عبده.

كان الأفغاني يرى الإصلاح عن طريق الحكم، ويراه محمد عبده عن طريق التربية، وقد استطاع حسن البنا أن يدمج الوسيلتين معا، وأن يأخذ بهما جميعا، كما أنه وصل إلى ما لم يصل إليه، وهو جمع صفوة المثقفين من الطبقات والثقافات المختلفة إلى مذهب موحد، وهدف محدد.

ثم أخذت خطوات الرجل بعد أن عدت على أمريكا وأنا مشغول به حتى أثير حوله غبار الشبهات حينا، ثم انتهى الأمر إلى اعتقال أنصاره، وهي مرحلة كان من الضروري أن يمر بها أتباعه، ثم استشهاده قبل أن يتم رسالته.

وبالرغم من أنني كنت اسمع في القاهرة أن الرجل لم يعمل شيئا حتى الآن، وأنه لم يزد على جمع مجموعات ضخمة من الشباب حوله، غير أن معركة فلسطين، ومعركة التحرير الأخيرة في القناة، قد أثبتتا بوضوح أن الرجل صنع بطولات خارقة، قل أن تجد لها مثيلا إلا في تاريخ العهد الأول للدعوة الإسلام ية.

كل ما أستطيع أن أقوله هنا: إن الرجل أفلت من غوائل المرأة والمال والجاه، وهي المغريات الثلاث التي سلطها المستعمر على المجاهدين، قد فشلت كل المحاولات التي بذلت في سبيل إغرائه.

وقد أعانه على ذلك صوفيته الصادقة، وزهده الطبيعي ، فقد تزوج مبكرا، وعاش فقبرا، وجعل جاهه في ثقة أولئك الذين التفوا حوله، وأمضى حياته القصيرة العريضة مجانبا لميادين الشهرة الكاذبة، وأسباب الترف الرخيص.

وكان يترقب الأحداث في صبر، ويلقاها في هدوء، ويتعرض لها في اطمئنان، ويواجهها في جرأة.

لقد شاءت الأقدار أن يرتبط تاريخ ولادته وتاريخ وفاته بحادثين من أضخم الأحداث في الشرق، فقد ولد عام 1906م وهو عام دنشواي، ومات عام 1949م وهو عام إسرائيل، التي قامت شكليا سنة 1948م وواقعيا سنة 1949م.

وكان الرجل عجيبا في معاملة خصومه وأنصاره على السواء، كان لا يهاجم خصومه ولا يصارعهم بقدر ما يحاول إقناعهم وكسبهم على صفه، وكان يرى أن الصراع بين هيئتين لا يأتي بالنتائج المرجوة.

وكان يؤمن بالخصومة الفكرية، ولا يحولها على خصومة شخصية، ولكنه مع ذلك لم يسلم من إيذاء معاصريه ومنافسيه ، فقد أعلنت عليه الأحزاب حربا عنيفة.

كان يقتفي خطوات عمر وعلي ويصارع في مثل بيئة الحسين، فمات.

لقد سمعت الكثير من خصومه، وكان هذا طبيعيا، بل كان من الضروري أن يختلف الناس في رجل استطاع أن يجمع حوله هذا الحشد الضخم من الناس بسحر حديثه وجمال منطقه، وقد انصرف هؤلاء من حول الأحزاب والجماعات والفرق الصوفية والمقاهي ودور اللهو..

وكان لابد أن يصبح هذا مثار حقد بعض الناس الذين أدهشهم أن يستطيع هذا الرجل المتجرد الفقير أن يجمع إليه مثل هؤلاء الشباب.

ومن الأمور التي لفتت نظري أنه أخذ من عمر خصلة من أبرز خصاله، تلك هي إبعاد الأهل عن مغانم الدعوة، فقد ظل عبد الرحمن، ومحمد، عبد الباسط وهم إخوته بعيدين عن كبريات المناصب، ولطالما كان يحاسبهم كما كان عمر يحاسب أهله ، ويضاعف لهم العقوبة إذا قصروا.

وقد أتيح لي أن ألتقي بوالده الوقور الشيخ أحمد عبد الرحمن الساعاتي، وسمعته يتحدث مع بعض الإخوان ، بأنه كان يتمنى لو أن ابنه وضع الكتب في أمر الإسلام واكتفى بذلك، وقد رد عليه الأستاذ البنا بأنه منشرح الصدر لمعالجة الإسلام عن طريق تأليف الرجال.

النشأة المؤثرة

... في الأزقة الضيقة في أحشاء القاهرة، في حارة الروم، وسوق السلاح وعطفة نافع، وحارة الشماشرجي.. بدأ الرجل يعمل، وتجمع حوله نفر قليل ، وكان حسن البنا الداعية الأول في الشرق الذي قدم للناس برنامجا مدروسا كاملا، لم يفعل ذلك أحد قبله، لم يفعله جمال الدين ولا محمد عبده، ولم يفعله زعماء الأحزاب والجماعات الذين لمعت أسماؤهم بعد الحرب العالمية الأولى...

وأستطيع بناء على دراساتي الواسعة أو أقول: إن حياة الرجل وتصرفاته كانت تطبيقا صادقا للمبادئ التي نادى بها، وقد منحه الإسلام كما كان يفهمه ويدعو إليه حلة متألقة، قوية الثر في النفوس، لم تتح لزعماء السياسة ولا لرجال الدين.

لم يكن من الذين يشترون النجاح بثمن بخس، ولم يجعل الوسيلة مبررة للغاية، كما يفعل رجال السياسة، ولذلك كان طريقه مليئا بالأشواك، وكانت آية متاعبه أنه يعمل في مجرى تراكمت فيه الجنادل والصخور، وكان ها مما يدعوه على أن يدفع أتباعه إلى التسامي ، ويدفعهم على التغلب على مغريات عصرهم والاستعلاء على الشهوات التي ترتطم بسفن النجاة فتحول دون الوصول على البر.

كان يريد أن يصل إلى الحل الأمثل مهما طال طريقه، ولذلك رفض المساومة، وألغى من برنامجه أنصاف الحلول، وداوم في إلحاح القول بأنه لا تجزئة في الحق المقدس في الحرية والوطنية والسيادة، وكان هذا مما سبب له المتاعب والأذى.

وراعت بعض من حوله الثمرة، وعجزت أعصابهم عن أن تقاوم البريق فسقطوا في منتصف الطريق.

كان يؤمن بالواقعية، ويفهم الأشياء على حقيقتها مجردة من الأوهام، وكان يبدو- حين تلقاه- هادئا غاية الهدوء. وفي قلبه مرجل يغلي، ولهيب يضطرم، فقد كان الرجل غيورا على الوطن الإسلام ي، يتحرق كلما سمع بأن جزءا منه قد أصابه سوء أو ألم به أذى، ولكنه لم يكن يصرف غضبته- كبعض الزعماء- في مصارف الكلام أو الضجيج أو الصياح، ولا ينفس عن نفسه بالأوهام، وإنما يوجه هذه الطاقة القوية إلى العمل والإنشاء والاستعداد لليوم الذي يمكن أن تتحقق فيه آمال الشعوب.

وكان في عقله مرونة، وفي تفكيره تحرر، وفي روحه إشراق، وفي أعماقه إيمان قوي جارف.

وكان متواضعا تواضع من يعرف قدره، متفائلا، عف اللسان، عف القلم، يجل نفسه عن أن يجري مجرى أصحاب الألسنة الحداد.

بين الأخلاق والسياسة

كان مذهبه السياسي أن يرد مادة الأخلاق إلى صميم السياسة بعد أن نوعت منها، وبعد أن قيل: إن السياسة والأخلاق لا يجتمعان.

وكان يريد أن يكذب قول (تاليران) : " إن اللغة لا تستخدم إلا لإخفاء آرائنا الحقيقية" فقد كان يكر أن يضلل السياسي سامعيه أو أتباعه، وأمته. وكان يعمل على أن يسمو بالجماهير ورجل الشارع فوق خداع السياسة، وتضليل رجال الأحزاب.

وكأنما أراد أن ينشئ للشرق روحا جديدة من المثل العليا: هذه المادة الضائعة التي هزم بها الشرق الدنيا، والاستعباد.

كان يريد أن ينشئ القوة التي تصمد في وجه الخطرين الداهمين اللذين يهددان العالم وهما: الإلحاد والاستعباد

كان يريد أن يجعل من الإسلام قوة تدفع الشيوعية الضالة والرأسمالية الزائغة، وكان يطمع في أن يرفع الإسلام ويسمو به عن أن يكون خدما للاستعمار باسم الديمقراطية، أو للشيوعية باسم الاشتراكية، وإنما كان يرى الإسلام نظاما كاملا فوق الشيوعية والديكتاتورية والرأسمالية جميعا.

وكان يوم الثلاثاء يوما مشهودا يتجمع فيه بضع مئات من أنحاء القاهرة، ليستمعوا إلى هذا الرجل الذي يصعد المنصة في جلبابه الأبيض وعباءته البيضاء، وعمامته الجميلة، فيجيل النظر في الحاضرين لحظة بينما تنطلق الحناجر بالهتاف.

ولأول مرة خاطب الجماهير زعيم بما يفتح العيون على الحقائق، ووضع دعوته على المشرحة، وقبل أن يسأل عن أدق الأشياء فيها وفي حياته الخاصة.

ولا تدهشك خطابته بقدر ما تدهشك إجابته عن الأسئلة التي كان بعضها يتصل بشخصيته وحياته وأسرته، وقد سئل مرة بعد أن ترك عمله في الحكومة ، ورف مرتب الجريدة الضخم الذي كان يبلغ مائة جنيه : مم يأكل؟ فقال في بساطة: كان محمد صلى الله عليه وسلم يأكل من مال خديجة، وأنا آكل من مال (أخو خديجة) يقصد صهره.

جهاد وصبر

وكان أعجب ما في الرجل صبه على الرحلات في الصعيد... هذه الرحلات التي لا تبدأ إلا في فصل الصيف، حيث تكون البلاد الوجه القبلي في حالة غليان، وفي أحشائها ينتقل الرجل بالقطار والسيارة والدابة، وفي القوارب وعلى الأقدام.

وهناك تراه غاية في القوة واعتدال المزاج., لا الشمس اللافحة، ولا متاعب الرحلة تؤثر فيه، ولا هو يضيق بها. تراه منطلقا كالسهم، منصوب القامة، يتحدث إلى من حوله ويستمع، ويفصل في الأمور..

وقد أمدته هذه الرحلات في خمسة عشر عاما، زار خلالها أكثر من أربعة آلاف قرية، وزار كل قرية بضع مرات، بفيض غزير من العلم والفهم للتاريخ القريب والبعيد، للسر والعائلات والبيوتات وأحداثها وأمجادها. وما ارتفع منها وما انخفض، وألوانها السياسية، وأثرها في قراها وبلادها ورضا الناس عنها أو بغضهم لها، وما بين البلاد أفرادا أو أحزابا وهيئات وطوائف من خلافات أو حزازات.

كان يزور أحيانا بلدا من البلاد بلغت فيه الخصومة بين عائلتين مبلغاها، وكل عائلة تود أن تستأثر به لتنتصر على الأخرى، فيقصد إلى المسجد مباشرة، أو يغير طريق سفره فلا يستقبله أحد إلا بعد أن يكون قد قصد إلى دار عامل فقير في البلد.

وكنت إذا قلت له فلان... الحسيني مثلا أو الحديدي أو الحمصاني قال لك: إن هذا الاسم تحمله خمس أسر أو أربع... إحداها في القاهرة، والثانية في دمنهور، والثالثة في الزقازيق، والرابعة في ... فأيها تقصد؟

وكنت هذه الزيارات المتوالية طوال هذه السنوات المتتالية، قد كونت له رأيا في الناس. فقل أن تكون قرية في مصر لا يعف الرجل شبابها وأعيانها ووزراءها ورجال الأحزاب والدين والمتصوفة فيها... ولا يكون قد تحدث إليهم واستمع منهم، وعرف آمالهم ورغباتهم.

وكان الرجل من خلال هذه الأحاديث الواسعة المستفيضة يستكنه الشعب المصري ، على صورة قلما أتيحت لزعيم أو داعية من قبل. فإذا أضفت إلى هذا قراءته الواسعة أو اطلاعه الضخم، والتهامه لكل ما يكتب في العربية عن الشرق والغرب، ونظريات العلماء والفلاسفة، عجبت لهذه القوة الكبرى التي فقدها الشرق يوم غيب الثرى هذا الرجل، ودهشت كيف يمكن أن يمل هذا الفراغ أو يسد هذا النقص.

وفي خلال هذه الزيارات كنت ترى الرجل بسيطا غاية البساطة، ينام في الأكواخ أحيانا، ويجلس على (المصاطب) ويأكل ما يقدم له... لا يحرص إلا على شيء واحد هو ألا يفهم الناس عنه أنه شيخ طريقة، أو من الطامعين في المنفعة العاجلة.

ولقد حدثني بأنه كلن يدخل بلدا من البلاد أحيانا لا يعف فيه أحدا فيقصد إلى المسجد، فيصلي مع الناس، ثم يتحدث بعد الصلاة عن الإسلام .. وأحيانا ينصرف الناس عنه، فينام على حصير المسجد، وقد وضع حقيبته تحت رأسه والتف بعباءته.

ولا شك أن هذا لجهد الضخم قد أتاح له أن يلتقي بعشرات الآلاف من الناس خصوما وأنصارا شيوخا وشبابا، مثقفين وغير مثقفين، وأنه قد استمع إليهم وحدثهم، وأفاد منهم خبرة ضخمة واسعة أضافها إلى علمه وثقافته.

وإنني على ثقة بأن حسن البنا رجل لا ضريب له في هذا العصر، وأنه قد مر في تاريخ مصر مرور الطيف العابر الذي لا يتكرر.

صانع التاريخ

كان لابد أن يموت هذا الرجل الذي صنع التاريخ، وحول مجرى الطريق شهيدا، كما مات عمر وعلي والحسين، فقد كان الرجل يقتفي أثرهم.

مات في عمر الزهر النضير، وفي السن نفسها التي مات فيها كثير من العباقرة ورجال الفكر والفن، وقضى وهو يسطع ويتألق.

وعاش الركل كل لحظة من حياته، بعد أن عجزت كل وسائل الإغراء في تحويله عن نقاء الفكرة وسلامة الهدف.

لم يحن رأسه ولم يتراجع ولم يتردد أمام المثبطات ولا المهددات . وكان الرجل قذى في عيون بعض الناس. وحاول الكثيرون أن يفيدوا من القوة التي يسيطر عليها، فقال لهم:

" إن أنصاره ليسوا عصا في يد احد، وإنهم لله وحده"

وحاول البعض أ يضموه إليهم أو يطووه، فكان أصلب عودا من أن يخدع أو ينطوي.

وكان على بساطته التي تظهر للمتحدث إليه، بعيد الغور إلى الدرجة التي لا تفلت متصلا به أو متحدثا إليه من أن يقع في شركه، ويؤمن بالفكرة التي يدعو إليها.

وكان لا يواجه إلا من يعترض طريق دعوته، وكان يستر من لم يكشف خصومته، وكان لا يهاجم عهدا ما دام هذا العهد لا يحول دون الامتداد الطبيعي لدعوته، وكان يدخر قوته للوطن، ويكبر نفسه ودعوته من أن يكون أداة صراع داخلي.. ون بعض الناس أن هذا ضعف ولين ومسايرة، وما كان كذلك فالرجل بطبيعته لم يكن يحب الصراع في معركة جانبية، ولا يقبل توزيع قواه، وإنما يؤمن بالتطور والانتقال من مرحلة إلى مرحلة ومن دور إلى دور على أساس النضج والتكامل، وكان هذا يزعج خصومه الذين لم يعهدوا سياسة تعلو على المطامع الفردية، وتتعالى على الأغراض الذاتية، وتنقي جوها من الدوافع الشخصية الخاصة.

وكان الرجل على قدرته الفائقة في ضبط أعصابه كيسا في مواجهة الأمور، لبقا في استقبال الأحداث والأزمات.

وإلى هذا كله كان غاية في الاعتدال، فكان يعيش براتب لا يزيد على راتبه المدرسي المحدود، وبين يديه الأموال الضخمة المعروضة من أتباعه، وحوله من العاملين معه من يصل دخله إلى ضعف أو أضعاف ما يحصل عليه .

كان في بيته مثال الزهادة، وفي ملبسه مثال البساطة، وكنت تلقاه في تلك الحجرة المتواضعة الأثاث ذات السجادة العتيقة والمكتبة الضخمة، فلا تراه يختلف عن أي إنسان عادي، إلا ذلك الإشعاع القوي والبريق اللامع الذي تبعثه عيناه، والذي لا يقوى الكثيرون على مواجهته، فإذا تحدث سمعت من الكلمات القليلة المعدودة موجزا واضحا للقضايا المطولة التي تحتويها المجلدات.

وكان إلى هذه الثقافة الواسعة الضخمة قديرا على فهم الأشخاص، لا يفاجئك بالرأي المعارض، ولا يصدمك بما يخالف مذهبك، وإنما يحتال عليك حتى يصل إلى قلبك، ويتصل بك فيما يتفق معك عليه، ويعذرك فيما تختلفان فيه.

وهو واسع الأفق إلى ابعد حد، يفتح النوافذ للهواء الطلق، فلا يكره حرية الرأي ولا يضيق بالرأي المعارض، وقد استطاع أن يحمل الرأي الجديد إلى الجماهير دون أن يصطدم بهم.. هذا الجديد الذي لو عرض بغير لباقة لوقفوا ضده وحاربوه.. لقد نقلهم من وراثياتهم، وغير فهمهم للدين، وحول اتجاههم في الحياة، وأعطاهم الهدف، وملأ صدورهم بالأمل في الحرية والقوة.

وكان له من صفت الزعماء صوته الذي تتمثل فيه القوة والعاطفة، وبيانه الذي يصل على نفوس الجماهير فحول وجهات نظرها، وتلك اللباقة والحنكة والمهارة في إدارة الحديث والإقناع.

وبهذه الصفات جميعها استطاع كسب هذه الطائفة الضخمة من الأنصار في هذا الوقت القصير من الزمن، فحول وجهات نظرها، ونقلها نقلة واسعة دون ارتطام أو صراع.

كان سمته البسيط، ولحيته الخفيفة، وذلك المظهر الذي لا تجد فيه تكلف بعض العلماء، ولا العنجهية ولا السذاجة قد أكسبه الوقار.

ولقد كانت شخصية حسن البنا جديدة على الناس... عجب لها كل من رآها واتصل بها كان فيها من الساسة دهاؤهم، ومن القادة قوتهم، ومن العلماء حججهم، ومن الصوفية إيمانهم، ومن الرياضيين حماسهم، ومن الفلاسفة مقاييسهم، ومن الخطباء لباقتهم ومن الكتاب رصانتهم.

وكان كل جانب من هذه الجوانب يبرز كطابع خاص في الوقت المناسب، ولكل هذه الصفات التي تقرؤه في كتب الشمائل الصحابة والتابعينـ لم يكن مقدرا أن يعيش طويلا في الشرق... وكان لابد أن يموت باكرا، فقد كان غريبا عن طبيعة المجتمع، يبدو كأنه الكلمة التي سبقت وقتها أو لم يأت وقتها بعد.

ولك يكن الغرب ليقف مكتوف اليدين أمام مثل هذا الرجل الذي أعلى كلمة الإسلام على نحو جديد، وكشف لرجل الشارع حقيقة وجوده ومصيره، وجمع الناس على كلمة الله، وخفت بدعوته ريح التغريب والجنس ونزعات القومية الضيقة ، واعتدلت لهجات الكتاب، وبدأ بعضهم يجري في ركب (الريح الإسلام ية).

الشمولية في الدعوة

لم تكن هناك دعوة ولا نزعة ولا رسالة، مما عرف العالم في الشرق أو في الغرب، في القديم أو في الحديث ، لم يبحثها أو يقرأها أو يدرس أبطالها وحظوظهم من النجاح أو الفشل، أو يحمل منها ما يصلح لتجاربه وأعماله .

كان يقول كل شيء، ولا تحس أنه له جرح أو أساء، وكان يوجه النقد في ثوب الرواية أو التمثيل، وكان يضع الخطوط ويترك لتباعه التفاصيل.

كان قديرا على أن يحدث كلا بلغته، وفي ميدانه وعلى طريقته، وفي حدود هواه، وعلى الوتر الذي يحس به، وعلى (الجرح) الذي يثيره.

ويعرف لغات الأزهريين والجامعيين والأطباء والمهندسين والصوفية وأهل السنة، ويعرف لهجات الأقاليم في الدلتا، وفي الصحراء ، وفي مصر الوسطى والعليا وتقاليدها، بل إنه يعرف لهجات الجزارين والفتوات، وأهالي بعض أحياء القاهرة الذين تتمثل فيهم صفات متينة بارزة، وكان في أحاديثه إليهم يروي لهم من القصص ما يتفق مع ذوقهم وفنهم

بل كان يعرف لغة اللصوص وقاطعي الطريق والقتلة، وقد ألقى إليهم مرة حديثا. س

وهو يستمد موضوع حديثه- أثناء سياحاته في الأقاليم وفي كل بلد- من مشاكلها ووقائعها وخلافاتها، ويربطه في لباقة مع دعوته ومعالمها الكبرى، فيجيء كلامه عجبا يأخذ بالألباب.

كان يقول للفلاحين في الريف:" عندنا زرعتان: إحداهما سريعة النماء كالقثاء، والأخرى طويلة كالقطن"

لم يعتمد يوما على الخطابة ولا تهويشها، ولا إثارة العواطف على طريقة الصباح الهياج... ولكنه يعتمد على الحقائق، وهو يستثير العاطفة بإقناع العقل ، ويلهب الروح بالمعنى لا باللفظ، وبالهدوء لا بالثورة وبالحجة لا بالتهويش.

ويعد (الحديث) عند بعض الناس آيته الكبرى، غير أنني علمت من بعض المتصلين به أنها آخر مواهبه، فقد كانت أبلغ مواهبه على الإقناع، وكسب (الفرد) بعد (الفرد) فيربطه برباط ى ينفصم، فيراه صاحبه صديقا خاصا، وتقوم بينه وبين كل فرد يعرفه صداقة خاصة خالصة، يكون معها في بعض الأحيان مناجاة وتنتقل للتعرف على شئون الوظيفة والعمل والأسرة والأطفال.

وهذه أقوى مظاهر عظمته، فهو قد كسب هؤلاء الأتباع فردا فردا، وأصاب منابع أرواحهم هدفا هدفا، وإن لم يكسبها جملة، ولا على صفة جماعية، وقد استطاع بحصافته وقوته وجبروته أن ينقلها من عقائدها وأفكارها – سواء أكانت سياسية أم دينية- إلى مذهبه وفكرته ، فتنسى ذلك الماضي بل وتستغفر الله منه وتراه كأنما كان إثما أو خطأ.ز

ومن برز أعمال هذا الرجل، أنه جعل حب الوطن جزءا من العاطفة الروحية، فأعلى قدر الطن وأعز قيمة الحرية، وجعل ما بين الغني والفقير حقا وليس إحسانا، وبين الرئيس والمرءوس صلة وتعاونا وليس سيادة، وبين الحاكم والشعب مسئولية وليس تسلطا.

وتلك من توجيهات القرآن، غير أنه أعلنها هو على صورة جديدة لم تكن واضحة من قبل.

لم يكن الرجل القرآني، فيما علمت يسعى إلى فتنة، أو يؤمن بالطفرة ولكنه كان يريد أن يقيم مجتمعا صالحا قويا حرا ، وينشئ جيلا فيه كل خصائص الأصالة الشرقية .

لقد ظهرت حركات إصلاحية كثيرة خلال هذا القرن .. في الهند ،ومصر ، والسودان ، وشمال أفريقية وقد أحدثت هات لا بأس بها ، ولكنها لم تنتج آثارا إيجابية ثابتة .

وقد جاء هذا نتيجة لعجز بعض المصلحين عن ضبط أعصابهم عند مواجهة الأحداث ، واندفاعهم إلى الحد الذي وصل بهم إلى مرتبة الجرح قبل أن يتم البناء ، كما جاء أثرا من آثار عزوفهم عن الاتصال بالشعب وتكوين رأي عام مثقف.

اختفت هذه الدعوات ، وبقيت عبارات على الألسنة وكلمات في بطون الكتب ، حتى قيض الله لها أن تبعث ممن جديد ، وأن تستوفي شرائطها ومعالمها ، وأن تأخذ فترة الحضانة الكافية لنضجها ، وأفاد الرجل من تجارب سبقوه ، ومن تاريخ القادة والمفكرين والزعماء الذين حملوا لواء دعوة الإسلام ، ولم ينعه عبأن يكون مثلهم ، ولكنه ذهب إلى آخر الشوط ، فأراد أن يستمد من أبي بكر السماحة ، ومن عمر التقشف ، ومن خالج عبقرية التنظيم .

تعالى على الفن

وقد استطاع الرجل رغم كل ما بدر لوضع حد لدعوته أو حياته أن يعمل ، وأن يضع في الأرض البذرة الجديدة ، بذرة المصحف ، البذرة التي لا تموت بعد أن ذوت شجرتها القديمة ، ولم يمت الرجل إلا بعد أن ارتفعت الشجرة في الفضاء واستقرت .

لقد حمل حسن البنا المصحف ووقف به في طريق رجال الفكر الحديث الذين كانوا يسخرون من ثلاث كلمات : ( شرق ، وإسلام ، وقران ) كان الرجل يريد أن يقول : آن للشرق أن يمحص أفكار الغرب قبل أن يعتنقها ، بعد أن غدت الحضارة الغربية في نظر أصحابها لا تفي بما يطلب منها .

كان يقول : علينا أن نزن هذه القيم ، وأن نعتقد أن ما عندنا لا يقل عما عند الغرب ، أو الأقل لا يستحق الإهمال ، وأن على الشرق أن ينشئ للدنيا حضارة جديدة ، تكون أصلح من حضارة الغرب ، قوامها امتزاج الروح بالمادة ، واتصال السماء بالأرض ، وما كان يتعرض لأمر من أمور الحضارة الغربية إلا رده إلى مصادره الأولى في الحضارة الإسلام ية ، أو في القران والسنة والتاريخ .

كان الرجل القرآني يؤمن بأن الإسلام قوة نفسية قائمة في ضمير الشرق ، وأنها تستطيع أن تمده بالحيوية التي تمكن له في الأرض ، وتتيح له الزحف إلى قواعده واستخلاص حقوقه وحرياته .

كان يؤمن بان الشرق وحده قائمة كاملة .

استطاع حسن البنا أن يؤلف بين طائفة ضخمة من الأتباع بسحر حديثه ، وجمال منطقه ، وروعة بيانه ، فتتصرف هذه المجموعة الضخمة من حول الأحزاب والجماعات والفرق الصوفية ، وتنضوي تحت لوائه وتطمئن له وتثق به .

كان ذا مثار حسد الناس ، ومثار حقد بعض ذوي الرأي ، وكان خليقا بم أن ينتقموا وأن يحسدوا هذا الرجل المتجرد الفقير ، على أنع استطاع أن يجمع الناس إليه بوسائل غاية في البساطة واليسر ، وفي لبقاته وحسن حديثه ، فيرفعهم فوق المطامع المادية التي يجتمع عليها الناس عادة .

وكان طبيعيا أن يتنكر له بعض الناس ، وأن يذيعوا عنه بعض المرجفات ، فليس أشد وقعا في نفوسهم من أن يسلبهم أحد سلطانا كان لم ، وليس أبعد أثرا في نفوسهم من أن يجئ رجل من صميم الشعب ليجمع الناس حوله باسم القران ، ويقول لهم : إن الله قد سوى بين الناس بالحق ، وجعل فضيلتهم عنده أساس العمل والتقوى .

خيل إلي أن انطوت حياة الرجل على هذه الصورة العجيبة ، وثار حولها ذلك الغبار الكثيف ، أن وقتا طويلا يجب أن يمر قبل أن يقول التاريخ الحق كلمته ،ويروي المؤرخ النزيه قصته .

غير أن الظروف السياسية في مصر سرعان ما تغيرت ، وأمكن أن يكشف التحقيق في بعض القضايا بطلان كثيرا مما وصمت به دعوة الإخوان المسلمين من ادعاءات ، وأن يبرئ جانب هذا الرجل بالذات فيبدو نقيا طاهرا .

وكنت قد التقيت الرجل في القاهرة سنة 1946 م ، ثم عدت إلى القاهرة مرة أخرى سنة 1949 م بعد أن قضى وحاولت أن اتصل ببعض الدوائر التي تعرفه ، فسمعت الكثير مما صدق نظرتي الأولى إليه .

فقد علمت أنه كان في أيامه الأخيرة يحس الموت ، وكان الكثير من محبيه باجرة أو الفرار ، أو اللياذ بتقية أو خفية ، فكان يبتسم للذين يقصون عليه هذه القصة وينشد لهم شعرا قديما :

أي يومي من الموت أفر

يوم لا قدر أم يوم قدر

يوم لا قدر لا أرهبه

ومن المقدور لا ينجو الحذر

وكان لا يني لحظة عن محاولة استخلاص أنصاره من الأسر ، وكان يبلغ به الأمر مبلغه ، فيسقط في الليل ، ويضع كلتا يديه على أذنيه ، ويقول :

" إنني أسمع صياح الأطفال الذين غاب آباؤهم في المعتقلات ..

إن تاريخ جهاد ( الرجل القرآني ) طويل ، ولكن أخصب سنواته أيام الحرب ، منذ أ، خرج من المعتقل عام 1939 م ، في هذا الوقت الذي شغلت الحرب الدنيا جميعها ، عن الأحزاب ، وعن السياسة ، وعن كل شئ ، كان الرجل لا ينام ، كان يسعى ويطوف ، ويذهب إلى كل قرية ، وكل نجع ، وكل دسكرة ، يفتش عن الشباب ، ويحدث الشيوخ ، ويتصل بالعظماء والعلماء ، يومها بهر الوزراء ، وأعلن بعضهم الانضمام إلى لوائه الخفاق ، وجيشه الجرار .وحاول الانجليز أن يقدموا له عروضا سخية ، فرفضها الرجل في إباء ، ونامت الأحزاب في انتظار الهدنة ، وظل الرجل الحديدي الأعصاب يعمل أكثر من عشرين ساعة ، لا يتعب ولا يجهد ، كأنما صيغت أعصابه من فولاذ .

لقد كان يحب فكرته حبا يفوق الوصف ، ولم يكن في صدره شئ يزحم هذه الدعوة ، كان يعشق فكرته كأنما هي حسناء لا يجده السهر ، ولا يتعبه السفر ، وقد أوتي ذلك العقل العجيب ، الذي يصرف الأمور في يسر ، ويقضي في المشاكل بسرعة ، ويفضلها في بساطة ، ويذهب عنها التعقيد .

كان لا يحتاج إلى الإسهاب ليفهم أي أمر ، كأن لديه أطراف كل أمر ، فما أن تلقى إليه أوائل الكلمات حتى يفهم ما تريد ، بل كان أحيانا يجهر بما تريد أن تقول له ، ويفضي لك بما تريد أن تسأل عنه .

كان نافذ البصيرة ، يرى ما وراء الأشباح ، فيه من ذلك السر الإلهي قبس .

كان يلتهم كل شئ ، لا تجد علما ولا فكرا ولا نظرية جديدة في القانون أو الاجتماع أو السياسة أو الأدب ، لم يقرأها ولم يلم بها

ثقة في النفس

وحدثني الرجل القرآني عندما أخذت أراجع رأيه في صبغة الإسلام للشرق ؛ قال : أضرب لك مثلا بتركيا : إنها ستعود إلى الإسلام ، وإن عوامل تلك العودة قد تبدت منذ الآن .

كان هذا الحديث بيني وبينه عام 1946 م ، وقد لاحظت في السنوات التالية ما تحقق من قول حسن البنا في مايو ( آيار ) 1950 م بعد أن مضى الرجل إلى ربه ، حيث هزم حزب مصطفى كمال ، وانتصر الحزب الذي كان يقال عنه : إنه رجعي .

وسألته عن الصوفية والتصوف ،وهل هو من الإسلام ؟ ـ وكان ذلك على أثر ما نشرته بعض الصحف من أنه من سلالة مغربية تعتنق الطريقة الشاذلية ـ فكان مما أفضى به إلى الصوفية بالمفهوم الأصيل تمد الطبع بحب الجهاد والكفاح وافتداء الفكرة ، وأنه يجب أن يرقى أتباعه إلى هذه الدرجة ، وأنه لا بأس على الإخوان من أن يأخذوا المعاني القوية الكامنة وراء مظاهر الصوفية فينقلوها إلى دعوتهم ، دون أن يتقيدوا بأثوابها القديمة أو مظاهرها التي لا تتفق مع روح العصر .

فلما أفضيت إليه بخواطري في الخوف من أن يجتمع الناس جميعا على دعوة واحدة ، لا سيما أن هناك من المواهب الإسلام ية ما يحول دون ذلك ؛ قلا لي : إن هذه الخلافات لا تحول دون ارتباط المسلمين ، وإنها أحد عوامل السعة ومقدرة الإسلام على مجاراة العصور والأزمنة والأقطار .

ونحن نعتقد أن الخلاف في فروع الدين أمر لا بد منه ، وضرورة لابد منها ، وقد قال الإمام مالك للخليفة أبي جعفر المنصور حين طلب إليه أن يوطئ للناس كتابا يجمعهم عليه ؛ قال : إن أصحاب رسول الله قد تفرقوا في الأمصار ، وعند كل قوم علم ، فإذا حملتهم على رأي واحد تكون فتنة .

فضلا عن أن التطبيق يختلف باختلاف البيئات ، وقد أفتى الإمام الشافعي في مصر بغير ما أفتى به في العراق ، وقد أخذ1 في كليهما بما استبان له ، وذلك فإن الإجماع في الفروع مطلب مستحيل ، وهو يتنافى مع طبيعة الإسلام ، ونحن نلتمس العذر لمن يخالفونا في الفروع ، ونرى أن هذا الخلاف ليس حائلا دون ارتباط القلوب وتبادل الحب ، والإخوان أوسع الناس صدرا مع مخالفيهم .

ولما سألته عن الإسلام والسياسة ـ وأنا أرى أنهما لا يتصلان بحال ـ قلا لي : ألا ترى أن الإسلام بغير السياسة لا يكون إلا هذه الركعات ، وتلك الألفاظ ، وان الاستلام في الحق عقيدة ووطن ، وسياسة وثقافة وقانون ، ولو انفصل الإسلام عن السياسة لحصر نفسه في دائرة ضيقة .

وقال لي فيما قال : إن سر انتصار الغرب وظفره هو الإسلام .

قلت مستغربا : كيف ؟ قلا : من ناحيتين : إنه حفظ التراث القديم وزاد عليه حين أسلمه لأوروبا عن طريق قرطبة والقسطنطينية ، وإن الغرب انتصر بأخلاق الشرق ومبادئه ، فقد عرف الغرب الحصيف كيف وصل الشرق بهذه الأخلاق إلى الذروة ، فأساس تلك الإمبراطورية الضخمة ، فاستعار هذه الأخلاق ونجح ، حين غفل عنها الشرق وهو طالبها وتخلف .

ومضى يقول لي : إن ما تراه الآن في لا شرق ، ليس هو الإسلام ولكنهم المسلمون اسما ووراثة ، هؤلاء الذين لو فهموا حقيقتهم لوصلوا .

وحدثني بعض أتباع الرجل القرآني عما لقي الرجل إبان زيارته لأرض الحجاز ، وكيف تقطرت على بيته الذي ينزل فيه وفود المسلمين من أندونسيا ، وجاوة وسيلان والهند ومدغشقر وربونيون ونيجيريا والكاميرون وإيران والأفغان ؛ تتعرف عليه وتتجمع به ، وهو مع كل يتحدث عن أمور ذ مصدر اهتمام الفريق به ، يحدثونه عما يقول بعض المتشددين فيقول : لا توحيد بغير حب ، لا توحيد بغير حب .

وأعجب العجب أن تستمع إلى الكلمات التي يلقيها الرجل إلى أتباعه ، وفيها تتمثل التضحية الخالصة والإيمان :

"إننا قد عرفنا الطريق إلى أوطاننا الإسلام ية : إنها هي الجهاد والموت والفداء ، إنها هي الطريق الوحيد الذي سلكه المؤمنون في كل زمان ومكان " .

"إن الدنيا كلها تائهة ضالة تبحث عن الحق والمثل العليا ، فلا تجده فيما لديها من نظم وفلسفات ومبادئ رسالتكم العظمى للإنسانية أن تحرروها وتنقذوها وتسعدوها " .

" إن الشرق يتهيأ لنهضة كبرى ووثبة عظمى ، وإن الغرب يقف له بالمرصاد ، ولا بد لنا من أن نستلم راية الحضارة الإنسانية لنسعد الناس ونحررهم بعد أن فشل الغرب وتخبط ".

" إن الدنيا حائرة ضالة لاهية ، وكلها تنظر إلى القيادة ومكانها شاغر ، ولن يملأها غيركم لإقرار رسالة الإسلام ، والأمر بالمعروف والنهي عن النكر ، وإحقاق الحق وتحرير الإنسان بمبادئ من وحي السماء ".

ومما أسلفت نظري في الرجل القرآني أنه يضع لا حدود بين الخصومات الشخصية والخصومات الفكرية وفي هذا يقول :

" والخصومة بيننا وبين القوم ليست خصومة شخصية أبدا ، ولن تكوم ، ولكنها خصومة فكرة ونظام ، هم يريدون لهذه الأمة نظاما اجتماعيا ممسوخا من تقليد الغرب في احكم والسياسة والقضاء والتعليم والاقتصاد والثقافة ، ونحن نريد لها وضعا ربانيا سليما من تعاليم الإسلام وهديه وإرشاده " .

فإذا ذهبنا نتعرف على حقيقة الحاكم المسلم كما يفهمه ( حسن البنا ) وجدنا ( عمريا ) ؛ إن يفهم كما فهمه عمر بن الخطاب .

"إذا أحسنت فأعينوني ، وإذا أسأت فقوموني ".

ويفهمه كما فهمه أبو بكر :ط الضعيف عندي قوى حتى آخذ الحق له ، والقوى عندي ضعيف حتى آخذ الحق منه ، أطيعوني ما أطعت الله فيكم ، فإذا عصيته فلا طاعة لي عليكم ".

وكان يرى أن يكون الحاكم المسلم من الشجاعة بحيث يقبل ما قبل عمر عندما جابهه الرجل بكلمة ( اتق الله ) فقال :دعه فليقلها لي ، لا خير فيكم إذا لم تقولوها ، ولا خير فينا إذا لم نتقبلها .

ويرى مسئولية الحاكم في حدود قول عمر :

" لو عثرت شاة بشاطئ الفرات لظننت أن الله ـ عز وجل ـ سائلي عنها يوم القيامة ".

ويرى الحاكم من حيث القدرة على الإنصاف من النفس كقول عمر : "أصابت امرأة وأخطأ عمر " .

ويؤمن بتطبيق نظام عمر في القضاء " اجعل عندك سواء ، لا تأخذ في الله لومة لائم ، وإياك والأثرة والمحاباة فيما ولاك الله " . ويردد في أكثر من مرة ول الرسول ( صلى الله عليه وسلم ) لأسامة ( رضي الله عنه ) : " أتشفع في حد من حدود الله ، والله لو أن فاطمة بنت محمد سرقت يدها " .

ويجب أن يطبع المسلم حياته بطابع كلمة عمر الخالدة :

"أحب من الرجل إذا سيم الخسف أن يقول ( لا ) بملء فيه ".

وهو على هذه الأسس من المفاهيم الإسلام ية العميقة كان ينشئ جيله، ويبني كتيبته ، ويرسم ( الطوبى ) التي إذا طبقت حقق الإسلام في الشرق دوره ، وزحف إلى مكان الزعامة العالمية والصدارة الإنسانية .

ويرى أن قاعدة الإسلام هي ( لا ضرر ولا ضرار ).

ويؤمن بسد الذرائع وإعطاء الوسائل أحكام المقاصد والغايات .


الموتة الكريمة


وجملة القول في الرجل القرآني : إنه يفهم الإسلام فهما واضحا سهلا يسيرا كما جاء في حديثه معي ، على الطريقة التي فهم بها محمد ( صلى الله عليه وسلم ) الإسلام ، إنه قريب في نظري من أبي حنيفة الذي أصر على رفض القضاء ، ومالك الذي أفتى في البيعة ، وابن حنبل الذي أريد على هوى فلم يرد .

وأجد حسن البنا قد حرر نفسه من مغريات المجد الناقص ، ومفاتن النجاح المبتور ، ومثل هذا التحرر ـ في نظر ( أمرسون ) ــ هو غاية البطولة ، ولذلك فلم يكن عجيبا أن يقضي الرجل على هذه الصورة العجيبة فكان فيها شأنه دائما غير مسبوق .

كان الناس غريبا في محيط الزعماء بطابعته وطبيعته ، فلما مات كان غريبا غاية الغرابة في موته ودفته ، فلم يصل عليه في المسجد غير والده ، وحملت جثمانه النساء ، ولم يمش خلف موكبه أحد من هؤلاء الأتباع الذين كانوا يملئون الدنيا لسبب بسيط هو أنهم كانوا وراء الأسوار .

لقد نقل الرجل بعد أن أسلم إلى بيته في جوف الليل ، ومنع أهل البيت من إعلان الفاجعة ، وغسله والده ، وخيم على القاهرة تلك الليلة كابوس مزعج كئيب ، ولقد كان خليقا بمن سلك مسلك أبي حنيفة ومالك وابن حنبل وابن تيمية مواجهة للظلم ومعرضة للباطل ، أن تختتم حياته على هذه الصورة الفريدة المروعة ، التي من أي جانب ذهبت تستعرضها ، وجدتها عجيبة مدهشة .

إنه كان يدهش الناس في كل لحظات حياته ، فلابد أن يدهش الأجيال بختام حياته ، غن الألوف المؤلفة قد سارت في ركب الذين صنع لهم الشرق بطولات زائفة ، أفلا يكون حسن البنا قد رفض هذا التقليد الذي لا يتم على غير النفاق .

إن هناك فارقا أزليا بين الذين خدعوا التاريخ وبين الذين نصحوا لله ولرسوله ( صلى الله عليه وسلم ) ، إن هذا الختام العجيب سيظل مدى الأجيال يوقد في نفوس رجال الفكر النور والضياء ، ويبعث في قلوب الذين امنوا معه ما بعثه الحق في نفوس أهله حتى يمكنوا له .

إن الأمر الذي أسأل عنه فلا أجد له جوابا : هل هناك علاقة ما بين الإسلام كما كان يفهمه حسن البنا ويدعو إليه وبين نهايته ؟ إن كثيرين يدعون إلى الإسلام ويحملون اسمه ، فهل هناك خلاف وهري بين ما كان يدعو إليه حسن البنا وما يدعو إليه هؤلاء؟

لأني لا أعرف الإجابة الصحيحة ، أدع ذلك للتاريخ .


الإخوان المسلمون : أول حركة اجتماعية مصرية


بقلم :إيفيزا لوبن

ترجمة : د ـ عبد السلام حيدر جاءت الانتخابات البرلمانية المصرية في نوفمبر /تشرين الثاني 2001 م بأكبر المفاجآت للمراقبين ، ألا وهي النجاح المعقول نسبيا للإخوان المسلمين ، فبالرغم من التدخلات الضخمة لقوات ، وأيضا رغم حملة الاعتقالات الجماعية والمحاكمات التي تعرض لها أعضاء الجماعة منذ منتصف التسعينيات ـ والتي غالبا ما استهدفت أنشط الكوادر الوسيطة ـ برغم كل هذا حصل الإخوان على سبعة عشر مقعدا في البرلمان ، ومع أن هذا العدد لا يمثل سوى 5 % من مقاعد البرلمان ، إلا أنه يزيد عما حصلت عليه أحزاب المعارضة مجتمعة .

لهذه النتيجة قبل كل شئ معنى رمزي يتجاوز كثيرا الوزن البرلماني الفعلي للإخوان المسلمين ، فقد كشف هذا للرأي أن الإخوان يمثلون القوة المعارضة الوحيدة الحقيقية في مصر ، بل يمكن القول : إنها القوة الوحيدة الفاعلة اجتماعيا ، التي تتمتع بنفوذ جماهيري يتجاوز حدود النخبة السياسية والثقافية في مصر ، وهذا بالرغم من الحظر الذي فرض عليها منذ أيام عبد الناصر ، ولمدة تزيد عن نصف قرن من الزمان ، وإذا ما أخذنا في الاعتبار أن عدد الأعضاء العاملين بالإخوان بلغ نحو نصف مليون عضو في نهاية الأربعينيات ، فإنها تمثل منذ ذلك الحين وحتى الآن أقوى المنظمات المستقلة في تاريخ مصر الحديثة ، وإحدى اقوي الحركات الجماهيرية في الشرق الأوسط .


أهمية الإخوان المسلمين


لا يمثل الإخوان المسلمون قوة سياسية واجتماعية مهمة في مصر فحسب، بل للمنطقة ككل، إذ إن الطلاب الوافدين من البلدان العربية، الذين احتكوا بحكة الإخوان، أسسوا منذ فترة مبكرة فروعا في بلدانهم الأم، واليوم توجد تنظيمات إخوانية- شرعية أو غير شرعية 0 في بلدان كثيرة من أهما: التنظيمات الموجودة في سوريا ولبنان والكويت واليمن والسعودية والجزائر والمغرب والسودان، كما أن الكثير من إخوان الجيلين: الأول والثاني يعلمون كمستشارين سياسيين في العديد من البلاد الإسلام ية من المغرب وحتى ماليزيا، ومن بين الإخوان أعضاء مؤسسون في الشبكات الدولية للبنوك الإسلام ية، ومن بين هذين الجيلين أيضا من بني مؤسسات الإغاثة الإسلام ية العاملة على المستوى العالمي، ومن بينهم أيضا من وضع أسس تيار أسلمة العلوم، خاصة في ماليزيا والولايات المتحدة الأمريكية، فضلا عن التأثير الحالي الملحوظ للإخوان المسلمين على الجاليات الإسلام ية في أوربا والولايات المتحدة.

وفي مصر يلعب هؤلاء المتأثرون سياسيا وأيديولوجيا بتيار الإخوان المسلمين- سواء كانوا ملتزمين بفكر الجماعة أو مجرد متعاطفين معها، وبغض النظر عن طبيعة العلاقات التي تربطهم بالقيادة الحالية للجماعة- يلعب هؤلاء أدوارا مهمة، سواء في النقابات المهنية أو في المساجد، أو البني الاقتصادية، أو كمثقفين أو أعضاء في السلك القضائي أو في الشبكات الاجتماعية غير الرسمية.

لقد أثرت حركة الإخوان المسمين ومؤسسها حسن البنا تأثيرات حاسمة على الخطاب الإسلام ي، ومن خلال هذا اثروا تأثيرا ملحوظا على التطورات الاجتماعية والثقافية والأيديولوجية في العالم الإسلام ي أجمع، وفي غالب الأحيان حدثت هذه التأثيرات دون الرجوع علنا إلى اسم الجماعة أو الاعتماد على حسن البنا، فالخطاب يميل عادة إلى إعادة إنتاج نفسه تاركا خلفه المؤلف في دائرة النسيان.


ملاحظات نقدية على الأدبيات السابقة


قبل أن أقدم فرضياتي الخاصة، أريد أن أبدأ بتسجيل بعض الملاحظات النقدية على ما قدم حتى الآن في الغرب، وكذلك العالم العربي، خاصة مصر حول هذا الموضوع.

بسبب لأهمية حركة الإخوان المسلمين التي أشرت إليها في البداية ، نتوقع بطبيعة الحال وجود عدد هائل من الباحثين الذين اهتموا بدراسة هذه الجماعة ومؤسسيها، ونتوقع كذلك أن القضايا التفصيلية- ومنها على سبيل المثال موقف الإخوان من قضية المرأة، وتصورهم للنظام الدولي، وتصورهم للسياسات الاقتصادية والاجتماعية... إلخ- قد عولجت بتعمق وعلى نحو شمولي، وأن سيرة حياة حسن البنا وبقية مؤسسي الحركة متوفرة في لغات كثيرة مثلما هو الحال بالنسبة للشخصيات البارزة الأخرى في القرن العشرين.

بيد أن الغريب في الأمر، وعلى عكس المتوقع، أنه لا تكاد توجد أية كتابات في الموضوعات المشار إليها خارج العالم العربي، فهناك فيض من الكتابات حول الإسلام كدين، والإسلام السياسي، والأصولية الإسلام ية، والإرهاب الإسلام ي والمرأة والإسلام ... إلخ، بينما لا يتجاوز عدد الدراسات التي يمكن أخذها بجدية حول أهم وأكبر حركة إسلامية جماهيرية في القرن العشرين عشر دراسات تقريبا.

صحيح أن الكثير من الكتب التي تتناول موضوع "الأصولية الإسلام ية" تتناول جماعة الإخوان المسلمين في عدة صفحات أيضا، لكن إذا ما دققنا النظر قليلا سنجد أن أحدا لم يكد يرجع إلى المصادر الأصلية العربية، كرسائل حسن البنا ذاتها على سبيل المثال، فالكل ينقل عمن سبقه، وبالتالي يبتعد الخطاب المصاغ حول الإخوان المسلمين أكثر فأكثر عن الواقع التاريخي الفعلي، ويظل العمل الموسوعي الوحيد المتوفر عن هذا الموضوع حتى الآن هي رسالة الدكتوراه التي أعدها ريتشارد ميتشيل في نهاية الستينات ، وقد ترجمت إلى لغة واحدة فقط، وهي العربية.

هناك إذن فجوة بحثية ومعرفية واضحة حول حركة الإخوان ومؤسسيه، سواء في الأدبيات العلمية أو في وسائل الإعلام، وعادة ما يتم ملء هذه الفجوة بتخمينات وإسقاطات متعسفة.

ربما كان أحد أسباب هذا هو أن انتباه المراقب- وهذا ينطبق على الصحفيين والمحررين في وسائل الإعلام مثلما ينطبق على الكثير من الباحثين المختصين بالشرق الأوسط- ينصرف إلى كل ما هو مثير وغير عادي، فالظواهر التي تشكل الآخر الثقافي /الحضاري بوصفه نقيضا متطرفا للأنا هي الأكثر تشويقا وإثارة، أما الجماعات الإصلاحية الأقل إثارة فلا تحقق هذه الوظيفة، ومن ثم يتم إهمالها.

يتحول هذا الإهمال إلى نوع من انعدام الأمانة في البحث، بل وتوشك أن ينقلب خطرا إذا ما أدى تناول ما هو استثنائي إلى استخلاص نتائج عامة وقطعية يتم إسقاطها بدون تحقيق أو مراجعة على تيارات أخرى.

هذا ما حدث بالضبط خلال العقدين الأخيرين في المناظرة حول ما يسمى بالأصولية الإسلام ية، فقد اندلعت المناظرات الحديثة حول ما هو إسلامي بسبب أحداث تاريخية فارقة لها بعد عالمي، مثل إسقاط الشاه في إيران واغتيال الرئيس السادات في مصر، فانطلاقا من هذه الأحداث ركزت الأبحاث على أسباب العنف الإسلام ي ونشأة الجماعات المتطرفة، ومن هنا تم تعميم النتائج على كافة أشكال التيارين الإسلام ية بما فيها الحركة الإصلاحية، دون الأخذ بعين الاعتبار لما بينها من اختلافات وتمايزات كبيرة.

أمثلة: وهنا سوف أتطرق إلى عدة أمثلة لتوضيح ما أعنيه، كانت فرضية التهميش، وما زالت، إحدى النماذج التفسيرية المفضلة بصدد تحليل نشأة الجماعات الإسلام ية الراديكالية، فوفقا لهذا النموذج التفسيري تجتذب الأصولية صبية مهمشين، وشبابا لا يتوفر لهم أفق للتأثير في المستقبل، ووفقا لهذا المنظور تبدو الأصولية أيديولوجية حثالة البروليتياريا والبرجوازية الصغيرة المحبطة، فمثلا ينطلق رينهارد شولتسه، الذي يعد أحد الدارسين الجادين للإسلام في المناطق المتحدثة بالألمانية ، من هذه الفرضية وذلك في سياق حديثه عن نشأة الإخوان المسلمين، ف حسن البنا طبقا لما أشار إليه شولتسه في دراسته عن الإسلام في القرون لعشرين، كان محبطا، لأنه لم يحصل بعد تخرجه سوى على وظيفة مدرس في الإسماعيلية أي في أحد الأقاليم، وليس في القاهرة ومن ثم يعتبر شولتسه أن تجربة الإحباط هذه ، وإحباطات أخرى متعلقة بطفولته، كانت أحد العوامل الذاتية التي دفعته لتأسيس الإخوان المسلمين.

لكن الصورة سوف تختلف تماما عما ذكره شولتسه إذا ما قرأنا الخطابات التي أرسلها حسن البنا ابن الثالثة والعشرين من الإسماعيلية إلى والده، فالشاب كان فخورا بحصوله على راتبه الأول، ومن ثم طلب حضور أخيه الأصغر إلى الإسماعيلية حتى يعتني بتربيته ويخفف من حمل والديه، واستطاع البنا فضلا عن ذلك أن يندمج وبسرعة في النخبة المحلية للإسماعيلية، وأن يتزوج من ابنة أحد التجار المرموقين بالمدينة، الأمر إذن أقرب إلى أن يكون قصة نجاح ، وليس إحباطا كما أشار شولتسه.

وفي أعمال أخرى يتم إسقاط الموضوعات الإسلام ية العامة على الجماعات المفردة، فاندرياس ماير الذي حرر بالألمانية مجموعة من نصوص مصادر الحركات الإسلام ية، يطرح السؤال الآتي: لماذا تمكنت الناصرية من الهيمنة الأيديولوجية مقارنة بالبرنامج الإسلام ي للإخوان؟وتقول إجابته: إن الإخوان أرادوا أن تكون حركة التحرر من الاستعمار البريطاني في إطار الخلافة العثمانية التي يجب استعادتها، بينما أراد الضباط الأحرار أن يكون هذا التحرر في إطار الدولة القومية، وفي النهاية نجحت خطتهم الأقرب إلى الواقع.

إذن، هل كان الهدف الحقيقي للإخوان هو استعادة الخلافة؟ صحيح أن قضية الخلافة كانت موضع نقاش حيوي في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي، لكن الإخوان كانوا بعيدين عن تلك الحوارات، بل وتجاهلوها ولقد ناقشها البنا في صياغات حذرة ومهذبة، وهو الأسلوب الذي اعتاده البنا في تعامله مع خصومه وحلفائه على السواء دون استخدام هجوم لفظي قاس، نقول: إن البنا ناقش مسألة عودة الخلافة في المؤتمر العام الخامس عام 1939م بوصفها أمرا غير واقعي، محيلا إياها إلى مقعد انتظار التاريخ حتى لا يعاد الحديث عنها مرة أخرى، ولدينا الكثير من الأمثلة لهذا النوع من الاستقراء المنطقي وتعميم العام على الخاص.

يصبح هذا التعميم وخيم العاقبة في الحوارات العامة بع 11 من سبتمبر وبالتحديد فيما يخص قضية العنف، ففي أغلب الدول الغربية ترسخ تصور يأخذ بهذا التطابق السهل: الإسلام ية = الأصولية= العنف، وعلى أساس مثل هذه الصورة رأى بعض أنه من المشروع اتخاذ مواقف تمييز بدون تفرقة ضد كل أشكال الإسلام السياسي وتجريمها في المجال العام، بل أخذ الرأي العام نفسه يطالب بذلك، ونذكر في هذا السياق، على سبيل المثال، الحوارات حول إمكانية حظر جماعة ميللي غوريش القريبة من الإخوان المسلمين، والتي تعد أكبر جماعة إسلامية تركية في ألمانيا.

وإذا ما انتقلنا إلى المناظرات الجارية في مصر نجد أنفسنا أمام مشكلة من نوع آخر، فلقد صدر في مصر، ولا زال يصدر، عدد لا نهائي من الكتب حول جماعة الإخوان في مراحلها الأولى، لكن نشر أكثر هذه الكتب يعد جزءا من الصراعات السياسية الحالية، لذا تكون تلك الكتب مؤدلجة بشدة، والقليل من هذه الأعمال هو ما يلتزم بالمعايير العلمية، وتأتي هذه المؤلفات لتبرير الموقف السياسي الخاص بالمؤلف، سواء كان مع الإخوان أو ضدهم، وهذا ما أدى إلى أشياء متناقضة ومثيرة للضحك بمعنى الكلمة أحيانا، ففي فترة الأربعينات اتهمت تقارير استخبارية الإخوان بأنهم يخططون لمؤامرة شيوعية، هذا بينما يفسر الإخوان مطاردة الحكومة لهم بأسباب عدة منها أنها مؤامرة شيوعية ضدهم.

مثال آخر يتمثل في رفعت السعيد، السكرتير العام لحزب التجمع اليساري- وأحد أبرز من انتقد حركة الإخوان – فعندما يتحدث إلى مستمعي اليساريين فإنه يتهم الإخوان بأنهم كانوا عملاء للبريطانيين، وهنا يشير إلى اتصالات جماعة الإخوان بالسفارة البريطانية إبان الحرب العالمية الثانية، وعندما يريد أن يبرر مطاردة الحكومة لأعضاء الجماعة، فإنه يشير على الهجمات التي قام بها بعض الإخوان في الأربعينيات على المؤسسات البريطانية، وعلى العناصر المؤيدة للبريطانيين، وذلك بهدف التدليل على الجذور الإرهابية للجماعة.

لا نستطيع إعفاء الإخوان أنفسهم من المسئولية في هذا الصدد، حيث قدم بعض الإخوان معالجات سطحية للغاية لتاريخهم المبكر، باستثناء بعض الكتب التي أضاءت بعضا من جوانب هذا التاريخ، خاصة السير الشخصية لمعاصري حسن البنا من رفقائه، ففي دار نشر واحدة تجد كتبا تسعى على إقامة علاقة تواصل فكري بين حسن البنا وسيد قطب، جنبا على جنب مع كتب أخرى تقرر عكس ذلك، دون أن يشير أحد المؤلفين إلى الآخرين، أو يبذل جهدا لمناقشة هذه القضية.

هناك أيضا مشكلة بحثية أخرى تتعلق بالمنهجيات المستخدمة، فالأبحاث حول الحركات الاجتماعية والنقابات المهنية والتيارات الشبابية، أو حول تغيرات الخطاب السياسي، يتم عادة إنجازها داخل حقل البحث الاجتماعي، ولأجل ذلك تم تطوير أدوات بحثية كاملة، سواء للدراسات النظرية أو الإمبريقية، أما الأبحاث حول الحركات الإسلام ية فقد بقيت في الغالب خارج حقل السوسيولوجيا، إذ تم التعامل معها على أنها حكر للعلوم الإسلام ية التي تعتبر نفسها علوم فقهية- لغوية تستهدف النص فحسب، وتميل بالتالي إلى النظر إلى كل الظواهر الاجتماعية في البلدان الإسلام ية من خلال منظور ديني، وكثيرا ما لا توجد لتلك العلوم الإسلام ية أية علاقة بالواقع الاجتماعي الذي تنشأ وتتطور فيه الحركات الإسلام ية، وما تتجه من خطاب وعليه لا يصبح بإمكان تلك العلوم الإسلام ية تفسير المعنى الاجتماعي لهذا الخطاب.

قراءة مغايرة الحركة الإخوان المسلمين كحركة اجتماعية حداثية


أسس حسن البنا جماعة الإخوان المسلمين، كما سبق وأشرنا، عام 1928م في مدينة الإسماعيلية، وكانت الإسماعيلية آنذاك مقرا لشركة قناة السويس التي يسيطر عليها البريطانيون، من هنا كانت المدينة في نظر الكثير من أبناء المصريين رمزا للوجود الاستعماري بحي فيلات الأجانب والأحياء الفقيرة التي تأوي العمال وأسرهم من أبناء البلد، ولقد ظهر هذا بوضوح في قسم الولاء لأول مجموعة إخوانية: " لا ندري ما الطرق العملية إلى عزة الإسلام وخير المسلمين ، ولقد سئمنا هذه الحياة، حياة الذلة والقيود، وهلا أنت ترى أن العرب والمسلمين في هذا البلد لا حظ لهم في منزلة أو كرامة، وأنهم لا يعدون مرتبة الأجراء التابعين لهؤلاء الأجانب وأن جماعة تعاهد الله مخلصة على أن تحيا لدينه، وتموت في سبيله ، لا تبغي بذلك إلا وجهه، لجديرة أن تنتصر، وإن قل عددها وضعفت عدتها"

كان البنا يطمح إلى تأسيس نظام اجتماعي إسلامي ودولة إسلامية تقوم على قيم أساسية، مثل : " الأخوة" و " النهوض بالرجل والمرأة معا" و " تأمين الحق في الحياة والتعليم والملكية والعمل على العناية الصحية" وكذلك على " الحرية والأمن" وهو ما شرحه في رسالة " بين الأمس واليوم" أما الاهتمام بالسياسة الخارجية فقد تمثل لديه بداية في .. تحرير من نير الاستعمار".

نمت جماعة الإخوان المسلمين في وقت قصير حتى أصبحت نوعا جديدا تماما من التنظيمات الاجتماعية، ولم يأت هذا من فراغ، فلقد انطلق البنا من الأشكال الموجودة بالفعل للتنظيمات الاجتماعية، بغرض إعادة صياغتها والوصول بها إلى مستوى أعلى للفاعلية والتدخل الاجتماعي، وهذا تمثل فيك

أولا- شهدت مصر قبل ظهور الإخوان حركات وانتفاضات شعبية واسعة، مثل تلك المظاهرات التي قادها سعد زغلول وحزب الوفد ضد البريطانيين عام 1919م لكنها ظلت انتفاضات شعبية عفوية، وكانت الأحزاب آنذاك – باستثناء الوفد- شبكات مصالح لشرائح النخبة الارستقراطية ونخبة الطبقة البرجوازية العليا، ولم تكن بالتالي تمتلك أية جذور جماهيرية، وفي سنوات ما قبل تأسيس جماعة الإخوان المسلمين نمت شبكة من الجمعيات الإسلام ية، لكنها كانت في الغالب الأعم منتديات خطابية حوارية أو جمعيات خيرية، أما البنا فقد صاغ استراتيجيه انطلاقا من " الفرد المسلم" مرورا بـ " الأسرة المسلمة" ثم " الشعب المسلم" نهاية بـ " الحكومة الإسلام ية" تلك الإستراتيجية التي جمعت بين التنقية الروحية للفرد المسلم والتحديث المجتمعي وتطوير القدرة على الفعل السياسي، في سياق عضوي اجتماعي جديد.

ثانيا- وجد كذلك قبل البنا مصلحون إسلاميون مثل الأفغاني وعبده ورشيد رضا صاحب مجلة " المنار" لكن هؤلاء تمثلوا تيارا إسلاميا فكريا، افتقد إلى الربط بين الفكرة والفعل الاجتماعي، في حين تمكن البنا من تحويل هذا التيار الفكري الإسلام ي إلى أيديولوجية سياسية شعبية، وخلق تنظيما يعد بمثابة الحامل والتجسيد الاجتماعي لهذه الأيديولوجية.

ثالثا- حاول البنا أن يتجاوز انقسام الحركات والمؤسسات الإسلام ية بين إسلام صوفي وسلفية نصية أخلاقية منغلقة كما رفض أيضا انقسام الخطاب الإسلام ي الفقهي إلى مذاهب مختلفة، لقد كان يفضل إسلاما بسيطا يسيرا، لكن من دون أن يشكك في السلطة الفقهية للأزهر.

وقد صاغ البنا السمات الأساسية للجماعة في مؤتمرها الخامس بالكلمات التالية ك " دعوة سلفية، وطريقة سنية، وحقيقة صوفية، وهيئة سياسية، وجماعة رياضية، ورابطة علمية ثقافية وشركة اقتصادية، وفكرة اجتماعية" .

في نهاية الأربعينيات أصبح لدى الإخوان المسلمين في كافة أنحاء البلاد مراكز يضم كل منها مسجدا ومدرسة، وكثيرا ما كان يضم أيضا ورشا لتشغيل العاطلين والنساء والفتيات، وكانت فرق الجوالة تنظم المسابقات الرياضية والرحلات والمعسكرات الصيفية، كذلك افتتحوا مراكز صحية، وامتلكوا بعض الصحف ومطبعة، وأسسوا بعض الشركات الاقتصادية في شكل شركات مساهمة، علاوة على ذلك قاد الإخوان أول حملة لمحو الأمية على مستوى مصر، كما وضعوا أنفسهم ضمن القوى التي تخوض حركة النضال ضد الاستعمار، من هنا تطور إحساسهم بأهمية دورهم، حتى أنهم أرسلوا مصطفى مؤمن على نيويورك عام 1947 بوصفه صوت الشعب المصري في مشاورات مجلس الأمن حول مستقبل مصر.

وفي اعتقادي مثلت حركة الإخوان أول حركة اجتماعية حداثية في تاريخ مصر، سواء من حيث أساسها الاجتماعي، أو من حيث طروحتها ومبادئها. فالحركات الاجتماعية نتاج للتغير ومنتجة له في الوقت ذاته هكذا كتب " يواخيم راشكا" في عمله الأساس حول الجماعات الاجتماعية ، فهي من ناحية نتاج للمجتمعات الحديثة، فعمليات التصنيع ومحو الأمية والتمدين أفرزت إشكاليات لم يكن من الممكن التعامل معها من خلال الأشكال السياسية التقليدية أو المفروضة من قبل الدولة السلطوية من قبل الرأسمالية، ومن ناحية أخرى تتمثل محاولة إنجاز هذا التغير الاجتماعي بوصفها فعلا جماعيا نافذا.

أما ما يميزها في ذلك عن حركات ما قبل الحداثية فهو: وضعها لأطر عقلانية الهدف والفعل، فالأهداف تفهم من خلال أسبابها، حيث تحدد في سياق إيديولوجي شامل، وتطوير إستراتيجية عقلانية، قصيرة المدى وبعيدة المدى، لأجل التغلب على تردي الواقع.


صعود الأفندية


جاء تأسيس الإخوان المسلمين في عصر شهد تغيرا اجتماعيا سريعا، وتكون طبقة وسطى ذات أفق برجوازي أطلق عليها " طبقة الأفندية" وكان ذلك في سياق توسع نظام التعليم الحكومي وجهاز الإدارة في فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى، وتشمل " طبقة الأفندية" موظفي الجهاز الحكومي، والمدرسين، الأكاديميين أصحاب المهن الحرة مثل الأطباء والمحامين والتجار، وكذلك طلبة ا لمدارس العليا، وبدأ الأفندية المنحدرون غالبا من البرجوازية الصغيرة المدينية التقليدية، ومن الطبقة الوسطى في الريف، بدءوا يبحثون عن توسيع وجودهم تدريجيا داخل المجال العام الذي كان أعضاء الطبقة الأرستقراطية العليا (طبقة الباشوات) يهيمنون عليه حتى ذلك الوقت، هذا في الوقت الذي كانت الجاليات الأجنبية تسيطر على الجزء الأكبر من الاقتصاد، من هنا كانت " طبقة الأفندية " ترى في نفسها طليعة الشباب الذين يتطلعون على امتلاك مستقبلهم.

إن صعود هؤلاء الأفندية، الذين انتقلوا غالبا على المستوى الشخصي من تنشئة اجتماعية أسرية تقليدية إلى طريق حداثي للصعود متضمنا تحول الخطاب السياسي، أدى صعود هؤلاء الأفندية على بروز أكبر للخطاب الإسلام ي في الخطاب العام، لكن ذلك الخطاب الإسلام ي لم يكن إسلام الأزهر أو الإسلام الشعبي، فالطبقة الوسطى الجديدة اعتبرت كلا الشكلين للإسلام أحد أسباب التخلف الاجتماعي للبلاد، من ناحية بسبب الاعتقاد في الخرافات اللاعقلانية للإسلام الشعبي، لقد كان الأفندية يريدون تحديث الإسلام وأسلمة الحداثة حتى يجعلوها مقاربة لنموذجهم الفكري والثقافي الخاص.

كان حسن البنا نموذجا لطبقة الأفندية هذه ، قضى طفولته في قرية المحمودية التي تقع في دلتا النيل وعلى أحد فروعه (فرع رشيد)، وكان والده يعمل ساعاتي، وفي أوقات فراغه يعمل كإمام مسجد وعالم خارج الهيئة الدينية الرسمية، فيما بعد انتقلت الأسرة إلى القاهرة كي يتمكن حسن، وكان الابن الأكبر بين خمسة أطفال، من مواصلة دراسته في كلية المعلمين الجديدة " دار العلوم" ومنها انتقل على شغل وظيفته الأولى كمدرس في الإسماعيلية، وعندما أنشأ البنا هناك جماعة الإخوان كان لم يزل في الثالثة والعشرين من عمرهن وعندما انتقل عام 1932م إلى القاهرة أصبحت جامعة فؤاد ذات الطبيعة العلمانية ( جامعة القاهرة الآن) وليس الأزهر أو المعاهد الدينية مركز التجنيد الرئيس للجماعة.


النهضة الحديثة أو البحث عن النهضة الإسلام ية


انعكست موجة صعود طبقة الأفندية في إيمان البنا بالتقدم، فقد دعا المسلمين على فهم القرآن بوصفه علامات هادية على طريق الفعل، لم يكن البنا يدعو على الرجوع على إسلام ماضوي، وإنما كان يدعو أتباعه إلى فهم القرآن بالتعمق في معانيه ومعايشته فعليا في حياتهم الاجتماعية فـ " الفهم" و "العمل" مصطلحان يترددان بصفة دائمة في رسالته ، لقد كان يدعو إلى إحياء روح الإسلام وعزم الصحابة، والنظر أثناء ذلك إلى الأمام للمستقبل بنفس التفاؤل الذي نظرت به الطبقة البرجوازية الأوربية إبان صعودها.

ينتشر مصطلح " النهضة الجديدة" أو " النهضة الحديثة" التي ينبغي أن تشمل كافة جوانب الحياة، في كل كتابات حسن البنا، ومن هنا يتحدث بصورة متبادلة عن " التقدم" و " الرقي" و" العمران" و " بناء المستقبل" , " تكوين الأمة " , " التطلع على سبيل تمثال، على نظام تعليمي " لرجل المستقبل" الذي سيحمل " النهضة الحديثة" على كتفيه.

وتنجز قضية التقدم في مراحل متتبعة متعاقبة : فالأمم التي تتطلع، كما يرى البنا، على نهضة حديثة، لابد وأن تجتاز مرحلة انتقالية تبني فيها حياتها المستقبلية على أساس متين يضمن للجيل الناشئ الرفاهة والهناءة، وفي سياق عملية التقدم يتكامل المجتمع والعلم. فقد أكد علماء الاجتماع أن حقائق اليوم كانت أحلاما بالأمس، كذلك فإن أحلام اليوم هي حقائق الغد، فمحور تقدم الإنسانية وتدرجها مدارج الكمال هي حقائق أساسية، وقد أبرز البنا تفاؤله بالمستقبل مدركا وملاحظا أن الكثير من الاكتشافات والاختراعات العلمية المعروفة اليوم كانت في العصور المبكرة غير ممكنة التصور حتى لخيرة العلماء آنذاك، ومن خلال تبنيه لمفهوم التاريخ الخطي الصاعد، وكذلك من خلال انتقائه لمصطلحاته، يريد البنا أن يجد لمعانيه مكانا في الخطاب الحداثي النهضوي القائم على التنوير.

لكن ، إذا كان قانون حركة التاريخ يعد عند البنا قانونا عاما وكونيا ، إلا أنه أكد على ضرورة أن تعتمد نهضة الشعوب الإسلام ية على نظام القيم الموحي به في القران ، وعلى ربط روحانية الدين بالتطبيق العملي ، إذ على هذه الشعوب أن تهتدي في نهضتها بالقيم الإسلام ية مثل العدل والأخوة ، كما ينبغي عليها محاربة الفساد الأخلاقي ،وعدم السماح بخرق الحدود التي سنها القران .

أريد هنا أن أشير سريعا إلى ثلاثة أمثلة تبين كيف كلن البنا يريد أن يطبق روح الإسلام على الحقل السياسي والاجتماعي، لكن قبل ذلك لي ملاحظة منهجية : فبعض المؤلفين اتهموا البنا بأنه مختلف في ذلك عن غيره من المفكرين الاسلامين ، ولم يقدم نموذجا سياسيا اجتماعيا شاملا ، وهنا يقع هؤلاء ، فيما أرى ، في سوء فهم لوظيفة أيديولوجية الحركات الاجتماعية ، فيكتب " راشكا " الذي أشرت إليه من قبل ، عن وظيفة أيدلوجية الحركات الاجتماعية :" إنها مثل خريطة للاهتداء بها في عالم شديد التعقيد ، فالتبسيط ، والتركيز على نقاط معينة تدفع الجوهري إلى مركز الاهتمام ، فأيديولوجية حركة ما تبرز تناقضات معينة بوصفها أسباب لعدم الرضا ، وتخطط صورة للواقع خاية من التناقضات ، وترى الحركة بوصفها القوة الوحيدة لتجنب هذه التناقضات " .

كذلك توجد أسباب أخرى تفرض على خطاب أي حركة اجتماعية أن يكون مفتوحا ؛ فلا بد وأن يحدث الخطاب نوعا من الاندماج والتكيف داخل الحركة ، وأن يبني جسرا للتواصل مع حلفاء محتملين ، وأن توجد لديه القدرة على تفهم واستيعاب الحركة التاريخية .

لقد أكد حسن البنا على آلية الإجماع الاجتماعي ، وكان يفضل أن تترك الأسئلة المتخصصة للمختصين ، وسعي إلى إحياء مبادئ الإسلام ، لكنه كان يؤمن في ذات الوقت بمبدأ الاختلاف ويدعمه علنا ، وقد أشار في رسالة " دعوتنا " إلى " اختلاف العقول في قوة الاستنباط أو ضعفه وإدراك الدلائل والجهل بها ، والغوص في أعماق المعاني ، وإلى اختلاف البيئات حتى أن التطبيق ليختلف باختلاف كل بيئة " ، ولأن الدين يدرك من خلال الفهم الذي يختلف حسب كل ذلك ، فلا بد وان تطبق مبادئ الإسلام بطرق مختلفة ، وهذا هو المدخل للقول بالشمولية الكونية للقران ، أي القول بأنه صالح للتطبيق في كل زمان ومكان .


المثال الأول : النظام السياسي


لا بد وأن يعتمد النظام السياسي في رأي البنا على ثلاثة مبادئ رئيسة : الحفاظ على وحدة الأمة ، مسئولية الحاكم أمام الأمة ، واحترام إدارتها ، وهنا يتمتع مبدأ الحفاظ على وحدة الأمة بأولية مطلقة حتى أمام الالتزام بأحكام السلوك الإسلام ية ، ويتضح هذا من خلال ذكره للحديث :" ومن خرج على أمتي يضرب برها وفاجرها ، فليس مني ولست منه " ، فهذا الإصرار على مبدأ الوحدة له خليفته : فالترابط والوحدة ضد الاحتلال البريطاني كان شرطا لنجاح الحركة الوطنية .

رفض البنا النظام الحزبي المصري رفضا قطيعا ، بيد أن أسباب ذلك كانت براجماتية ، وليست أيديولوجية دينية ، " هي ( أي الأحزاب ) سيئة هذا الوطن الكبرى ، وهي أساس الفساد الاجتماعي الذي نصطلي بناره الآن ، وأنها ليست أحزابا حقيقية بالمعنى الذي تعرف به الأحزاب في أي بلد من بلدان الدنيا ، فهي ليست أكثر من سلسلة انشقاقات أحدثها خلافات شخصية بين نفر من أبناء هذه الأمة اقتضت الظروف في يوم أن يتحدثوا باسمها ، وأن يطالبوا بحقوقها " ، وفي مقابل هذا ؛ فغن البنا يفضل نظاما للانتخابات الفردية المباشرة كبديل عن النظام الحزبي.

ولا تتحقق وحدة الأمة ، في رأي البنا ، عن طريق إجراءات جبرية من قبل السلطة ، وإنما عن طريق إجماع اجتماعي يتم تشكله من خلال عمليات دستورية تشريعية تتمثل في نظام الشورى ، فالحاكم مسئول أما الجماعة ومن حقها أن تحاسبه وأن تعزله إذا لزم المر ، ويحدد البنا مبدأه الثالث ، أي احترام إدارة الأمة ، بوصفه شكلا للعقد الاجتماعي بالمعنى الحديث ، وأنه يتضمن من واجبات الحاكم أن يستشير الأمة ويأخذ بمشورتها عند ممارسته للحكم ، وفي هذا السياق يقترب البنا من المفهوم البرجوازي " سيادة الشعب " ، وإن كان يتبناه تحت مسمى " سلطة الأمة " .

المثال الثاني: مفهوم القومية عند البنا


ليس بالضرورة أن تحقق وحدة الأمة ، التي يدعو إليها البنا إليها البنا ، في دولة إسلامية موحدة ، ففي فترة الأربعينيات وبصفة خاصة مع تنامي مشاركة الإخوان المسلمين في الحركة الوطنية ، تصبح القومية المصرية بوضوح متنام وحدة تميز اجتماعي للهوية ، وفي رسالته " دعوتنا في طور جديد " سبق البنا نموذج دوائر الانتماء المتحدة المركز التي طورها فيما بعد جمال عبد الناصر ، والتي تندمج فيها الهويات المتنوعة ، حتى وإن لم تتطابق الدوائر عند البنا وناصر ، فهي عند البنا دائرة القومية المصرية ، ودائرة الأمة العربية / الإسلام ية ، ودائرة الشرق . وـاتي مصر في مركز الدوائر الأخرى .يقول البنا في إحدى رسائله :ط المصرية لها في دعوتنا مكانها وحقها في الكفاح والنضال .. إننا نعتز بأننا مخلصون لهذا الوطن الحبيب ، عاملون له ، مجاهدون في سبيل خيره ، وسنظل كذلك معتقدين أن هذه هي الحلقة الأولى في سلسلة النهضة المنشودة ، وأنها جزء من الوطن العربي العام ، وأننا حين نعمل لمصر نعمل للعروبة والشرق والإسلام ".

وتأتي بعد ذلك الدائرة العربية لتعتلي الدائرة المصرية ، غير أن الوقت ، كما يرى البنا ، لم يكن قد نضج بعد لطرح السؤال عن الشكل الممكن للكيان السياسي المنشود للأمم العربية ، فمن حق كل شعب من الشعوب العربية أن يختار نفسه الشكل المأمول للحكم ، لكن لا بد بداية وقبل كل ذلك من تحقيق شرطين هما : حق تقرير المصير وسيادة الشعوب ، قبل أن يدور أي حوار حول البني السياسية الاشمل ، وفي هذا يرى البنا أن تحالفا بين الدول العربية ، وهو ما تحقق فيما بعد في شكل رابطة الدول الإسلام ية ، يعد شكلا مناسبا للتعاون ، ومثل هذا التحالف سيكون عامل استقرا في نظام السلام العالمي المنشود بعد نهاية الحرب العالمية الثانية .

ويعتمد البنا على نظام القيم الذي نص عليه ميثاق الأطلسي ، حيث طالب بتطبيقه على العام العربي ـ الإسلام ي أيضا ، وهذا يعني طلاقا بائنا بين البنا وبين الثنائيتين الشهيرتين : الثنائية الجغرافية السياسية الإسلام ية التقليدية المبنية على ( دار الحرب / دار السلام )، والثنائية الأخرى التي تقسم النظام القيمي إلى ما هو إسلامي وما ليس إسلاميا ، فالقيم الإسلام ية لدى البنا تتقي مع النظم القيمية الأخرى ، ويمكن تحقيقها واقعيا في النظام الدولي القائم ، وبهذا المعنى يكتب البنا في خطاب يوجهه إل لجنة تكوين الجامعة العربية :" إننا ننادي بضرورة الاستفادة من التراث القرآني في الحياة العملية ، الذي هو للمسلمين دين ، والذي يعطي الأمة العربية والعالم أمنا وسلاما ".


المثال الثالث : النظام الاقتصادي الاجتماعي


يعتمد النموذج الاقتصادي ل حسن البنا على الجمع بين العداء للاستعمار الاقتصادي ، وهو ما أدى به فيما بعد إلى المطالبة بتأميم الممتلكات الأجنبية ، وبين البحث عن طريق ثالث بين الرأسمالية والاشتراكية ، وذلك على أساس اقتصاد أخلاقي إسلامي ، ها إذا ما أرددنا استخدام مصطلح تومبسون .

تعبر طروحات البنا الاقتصادية الاجتماعية عن مصلحة البرجوازية الصغيرة والطبقة الوسطى ، وهما الأساس الاجتماعي للإخوان المسلمين ، وذلك بتشجيعها على تخطي التفاوتات الطبقية الحادة بين الفقر والغنى من خلال الحد من الملكيات الكبيرة ، وتشجيع الملكيات الصغيرة ، وكذلك الحد من الاستهلاك الترفي للطبقات العليا ، وفي ذات الاتجاه يأتي تشجيع البنا على الاستخدام الإنتاجي لرأس المال ، والتركيز على ضرورة الالتزام بأخلاقيات عمل إسلامية تقوم على التقوى ، وأساس هذا النظام الاقتصادي نظام ضمان اجتماعي شامل لكل المواطنين ، مشتقا إياه من نظام الزكاة ، لكنه يرى في الوقت نفسه ضرورة إكمال نظام الزكاة التقليدي بنظام الضرائب التصاعدية الحديث .

تعتبر كثير من الأدبيات حسن البنا أبا للأصولية الإسلام ية ، لذا فإني أريد أن أطرح هنا هذه التسمية للتساؤل .

رأينا من خلال الأمثلة الثلاثة المذكورة آنفا أن البنا لم يكن يقف معترضا طريق الحداثة ، ولم يكن يستنبط نموذجه الاجتماعي من المرجعيات النصية الدينية مباشرة ، وبهذا المعنى أعتقد أنه لم يكن أصوليا .

يشير أستاذ علم اجتماع الدين " مارتن ريز برودت " إلى الفرق بين التفكير الأصولي بوصفه شكل من الالتزام النصي بالقران ( أو الإنجيل مثلا ) ، وبين ما يسميه رجوعا يوتوبيا ، فالفكر الأصولي وفقا لريزبرودت : " يرى أن أسبا بأزمة المجتمع تتمثل في الانحراف عن مبادئ النظام أبدية الصلاحية ، إلهية المصدر ، والتي يتم نقلها نصيا وحرفيا ، وسبق أن تحققت في مجتمع مثالي : هو ما يسمى بالعصر الذهبي للجماعة الأولى ، سواء كانت مسيحية أو إسلامية أو غير ذلك " ، وتخطي الأزمة الحاضرة يكون ممكنا فقط بالعودة إلى القانون الإلهي ، هذه هي الأصولية بالنسبة لريزبرودت .

إلى جانب ذلك وجدت حركات ومدارس وتيارات فكرية يوتوبية ، وهذه تعلن شريعتها أيضا اعتمادا على القانون الإلهي أو الوحي أو جماعة أولى مثالية ، لكن هذا النظام المثالي يتحول إلى يوتوبيا في إطار تجاوز تقدمي للازمة ، فليست الحروف والنص ، وإنما روح الماضي هي التي يمكن تحويلها إلى واقع في ظل شروط جديدة ، ونعتقد أن البنا ينضوي تحت التعريف الثاني .

في طروحاته في مجالي السياسة الاقتصادية و السياسة الاجتماعية ، على وجه الخصوص ، نجد البنا يشير باستمرار إلى روح الإسلام ، فهو يدعو إلى نظام أخلاقي يقوم على الحق والعدل والإخوة ، مشتقا تلك القيم من الإسلام كما يتصوره ، وفي تلك الحالات الخاصة التي يوجد بشأنها نص قطعي واضح الأحكام ، يطالب البنا بالالتزام بها ، والطريق إلى هذا الالتزام يكون برجوع الفرد إلى دينه والتطهر الروحي .

إن البنا يمثل الانتقال من التقليد إلى الحداثي ، بوصفه انتقالا تاريخيا ، وبوصفه انتقالا أيدلوجيا أيضا : فهو يدخل إلى مفاهيم الحداثة من خلال مصطلحات تقليدية ، ويملأ في نفس الوقت المفاهيم التقليدية بمفاهيم حديثة ، ويستبدل على نحو تدريجي جزء من المفاهيم التقليدية بمفاهيم حديثة ، أما نقده للنماذج الاجتماعية الغربية فإنه يبدأ عندما يتعلق الأمر بالأحكام الأخلاقية وبالوحي الإلهي حول الدولة والمجتمع .

نص محاضرة ألقيت في القاهرة في إطار فعالية الهيئة الألمانية للتبادل العلمي بعنوان :" تجارب الإصلاح وحوار حول أوجه الإصلاح المختلفة في العالم العربي " إيفيزا لوبين درست الآن الدكتوراه حول مؤسس الإخوان المسلمين ، حسن البنا .