ثورة يوليو والصحافة

من Ikhwan Wiki | الموسوعة التاريخية الرسمية لجماعة الإخوان المسلمين
اذهب إلى التنقل اذهب إلى البحث
ثورة يوليو والصحافة


غلاف الكتاب

بقلم رشاد كامل

مقدمة

ليس سرا أن جمال عبد الناصر ، كان على علاقة وثيقة بنجوم الصحافة المصرية قبل 23 يوليو 1952 . وليس سرا أيضا أن عددا من أعضاء مجلس قادة الثورة كانوا يتصلون ويسعون إلى كبار الصحفيين ويمدونهم بالمعلومات والأخبار وأسرار الفساد المتفشي في الجيش..

وأنور السادات نفسه سعت إليه الصحافة قبل 23 يوليو 1925 ، ونشرت مذكراته في السجن ، ثم ما لبث أن اشتغل في روز اليوسف ودار الهلال لفترة من الوقت .

ولعبت الصحافة المصرية دورا بارزا وعظيما في التمهيد للثورة.. وكانت مقالات إحسان عبد القدوس في روز اليوسف وحملته الشهيرة عن " الأسلحة الفاسدة " في حرب فلسطين بمثابة المدفعية التي دكت جدران القصر الملكي .

ولا أحد ينسى "لجريدة المصري" ورئيس تحريرها أحمد أبو الفتوح ، إفساحها صفحات المصري قبل الثورة لتنشر المقالات النارية دفاعا عن الديمقراطية و الحرية وهجوما على الفساد.

ولقد شهدت حديقة المصري.. عشرات الاجتماعات التي شارك فيها الضابط الشاب وقتها جمال عبد الناصر ورفاقه من الضباط الأحرار.. يستمعون لنجوم الفكر والصحافة .. و.. و.

وقامت الثورة صباح 23 يوليو 1925 ، ليتغير وجه مصر السياسي والاجتماعي والاقتصادي إلى الأبد .

ولم ينكر أحد من الضباط ذلك الدور العظيم الذي لعبته الصحافة في كشف قلاع الملك فاروق والفساد والمحسوبية .

وبعد أسابيع قليلة من قيام الثورة.. فوجئ الناس برئيس تحرير آخر ساعة الأستاذ محمد حسنين هيكل يطالب بتطهير الصحافة ..

وكانت المقال المنشور في 13 أغسطس 1952 بمثابة قنبلة موقوتة انفجرت في شارع الصحافة.

قال هيكل في مقاله بالحرف الواحد ما يلي : صاحبة الصحافة . وأفراد بلاطها السعيد ، يقومون هذه الأيام بدور غريب عجيب .

بعض أفراد هذا البلاط السعيد استباحوا لأنفسهم مقعد النائب العمومي وجلسوا يوجهون الاتهام ذات اليمين وذات اليسار، ويحددون من الذي تعلق رقبته في حبل المشنقة، ومن الذي يكتفي بوضعه وراء القضبان.

إنني اعتقد- وأنا واحد من أفراد البلاد السعيد لصاحبة الجلالة- أننا نحن- أفراد هذا البلاط جميعا – آخر من يحق لنا أن نصنع هذا ، آخر من يحق لهم أن يستبيحوا لأنفسهم مقعد النائب العمومي موزع الاتهام.

آخر من يحق لهم شيء من هذا لسبب واحد .. هو أننا نحن أيضا في حاجة إلى تطهير من سوء الحظ أننا – أفراد بلاط الجلالة – نملك أن ننقد لآخرين ، ولكننا لا نسمح لأحد أن ينقدنا ، لأننا نحن الذين نسيطر على ما يجب أن ينشر وما ينبغي ألا تراه عيون القراء.

إني أقولها بصراحة- وأنا أعتقد أنها ستجلب لي متاعب الدنيا والآخرة:

إن علينا مسئولية كبرى في كل هذا الذي صارت إليه الأحوال .

ولقد بدأت مصر كلها تنادى بالتطهير وعلينا نحن أيضا أن ننادى مع مصر بالتطهير ، تطهير أنفسنا قبل تطهير الآخرين.

وبعد عدة أسابيع صدرت روز اليوسف وعلى صفحاتها رسالة هامة وخطيرة كتبتها السيدة فاطمة اليوسف إلى جمال عبد الناصر وكانت قد بدأت تشعر بضيق الثورة ورجالها مما تنشره الصحف من مقالات ونقد..و..

كتبت السيدة روز اليوسف تقول لجمال عبد الناصر في 11 مايو 1953 .

إنك باختصار – في حاجة إلى الخلاف.. تماما كحاجتك على الاتحاد إن كل مجتمع سليم يقوم على هذين العنصرين معا، ولا يستغنى بأحدهما عن الآخر .. الاتحاد للغايات البعيدة والمعاني الكبيرة والخلاف للوسائل والتفاصيل .

وأنت تؤمن بهذا كله لا شك في ذلك وقد قرأت لك غير بعيد حديثا تطالب فيه بالنقد ، وبالآراء الحرة النزيهة ولو خالفتك . ولكن .. أتعتقد أن الرأي يمكن أن يكون حرا حقا وعلى الفكر قيود ؟ وإذا فرض وترفقت الرقابة بالناس ، واستبدلت حديدها بحرير .

فكيف يتخلص صاحب الرأي من تأثيرها المعنوي؟ .. يكفى أن توجد القيود كمبدأ ليتحسس كل واحد يديه .. يكفى أن يشم المفكر رائحة الرقابة .. وأن يرى بعض الموضوعات مصونة لا تمس ، ليتكبل فكره، وتتردد يده، ويصبح أسيرا بلا قضبان .

ولا تصدق ما يقال من أن الحرية شيء يباح في وقت ولا يباح في وقت آخر، فإنها الرئة الوحيدة التي يتنفس بها المجتمع ويعيش. والإنسان لا يتنفس في وقت دون آخر.. إنه يتنفس حين يأكل ، وحين ينام ، وحين يحارب أيضا.

وقد قلت مرن إنك ترحب بأن تتصل بك أية جريدة إذا أحست الضيق . ولكن .. أليس في هذا ظلم لك ، وللصحف ، وللقضايا الكبرى التي تسهر عليها؟ .. ألم أقل إنك لن تستطيع وحدك كل شيء ؟.

لقد أقدمت – وفى شبابك الباكر- على تجارب هائلة .. خضت بعضها ورأسك على كفك لا تبالي مصيره . وليس كثيرا أن تجرب إطلاق الحريات.

وفى نفس العدد نشرت روز اليوسف رد جمال عبد الناصر على هذا الخطاب التاريخي ، وجاء في رسالة عبد الناصر قوله:

وأنا أكره كل قيد على الحرية وأمقت بإحساسي كل حد على الفكر على أن تكون الحرية للبناء وليس للهدم وعلى أن يكون الفكر خالصا لله وللوطن.. ودعيني ألجأ إلى تجربتك كي تبقى الحرية للبناء ويبقى الفكر لله والوطن.. لا تخرج بهما شهوات وأغراض ومطامع عن هذه المثل إلى انقلاب مدمر يصيب مصالح الوطن المقدسة بأبلغ الأضرار.

لقد قلت أنت بنفسك إن تعلمين أنى أخشى على موقف البلاد الصلب من إطلاق الحريات خشية أن يندس بين أمواجها دعاة الهزيمة والتفكك.

لقد عبرت بهذا عن جزء مما أشعر.. واسمحي لي أن أضيف عليه شيئا آخر هو أنني لا أخشى من إطلاق الحريات غيرنا ومن يدرى فقد يكون بينهم أعداء للوطن يفرقون هذا الشعب الطيب الوديع الذي استغلت وداعته واستغل قلبه المفتوح وغرر به دون ما أساس سليم يصونه من التضليل بما لا يجب أن يفرق فيه في هذه الظروف العصيبة التي تمر بالوطن .

ومع ذلك فأين هي الحرية التي قيدناها؟ أنت تعلمين أن النقد مباح وأننا نطلب التوجيه والإرشاد ونلح في الطلب بل أننا نرحب بالهجوم حتى علينا إذا كان يقصد منه صالح الوطن وبناء مستقبله وليس الهدم والتخريب ومجرد الإثارة.

ذلك لأنني أعتقد أنه ليس بيننا من هو فوق مستوى النقد أو من هو منزه عن ا لخطأ .

وتعود السيدة روز اليوسف لتكتب مدافعة عن الصحافة والصحفيين مقالا نادرا يفيض بالصدق والشجاعة على صفحات روز اليوسف في 27 أبريل 1953 تقول فيه:

الكلام كثير هذه الأيام عن نفاق الصحافة المصرية. الناس يتندرون بالنفاق الذي تنشره الصحف فلا يخفى ما وراءه.. والصحفيون يتبادلون اتهامات النفاق والارتزاق..

والمسئولون أنفسهم لا يستطيعون في بعض الأحيان إخفاء ضيقهم بالأقلام التي تكرس نفسها لمجاراة كل عهد، والتطبيل لكل حاكم ، وحرق البخور بين يدي كل نجم لامع.

إن الصحافة الصادقة عامل تفاهم وتقريب بين الحاكمين والمحكومين تعطى كلا من الطرفين صورة عن رغبات الطرف الآخر واتجاهاته وآرائه. فتتاح لهما بذلك فرصة النقد والإصلاح وتبادل التأثير، والتفكير ،

أما الصحافة المنافقة فهي تضلل الحاكم عن رغبات المحكومين كما تضلل المحكومين عن اتجاهات الحاكمين. وقد أتاح لي اتصالي بالصحافة طيلة ربع قرن أن أرى الوزراء والحكام عن قرب وعلى حقيقتهم وأن أخرج بنتيجة واحدة، هي أن الصحافة هي آخر من تسأل عن هذا النفاق الذي طال به العهد حتى أصبح مرضا مزمنا.

كنت أرى الرجل الكبير- خارج الحكم- لا يكف عن مهاجمة النفاق والمنافقين من أصحاب الصحف والصحفيين ولا يتحدث بكلام كثير عن حاجتنا الشديدة إلى الأقلام النزيهة.. إلى النقد قبل المدح.. والمعارضة قبل التأييد ،

ثم تدور الأيام، ويصبح الرجل الكبير وزيرا أو رئيسا للوزارة أو صاحب منصب من أي نوع.. وإذا بى أراه يشرب من كأس النفاق ذاتها التي كان يحتسيها سلفه، يجمع حوله نفس المنافقين، ، ويقرب إليه- نفس المطبلين، ويلهث وراء كلمات المدح والإعجاب بقدر ما ينفر من كلمات النقد والتقويم . وإذا بهذا الرجل الذي كان يتشدق بحاجتنا إلى النقد يعتبر – وهو حاكم- النقد عداوة، والخلاف في الرأى خصومة، والصراحة تشهيرا.

هل هو الصحفي الذي ينافق ، أم الحاكم الذي يجعل للنفاق جائزة وللنقد أقسى العقوبات؟ هل هو الصحفي الذي يسير في طريق النفاق، أم الحاكم الذي يجعل طريق النفاق مفروشا بالورد، وطريق النقد محاطا بالأشواك؟

هل هو الصحفي الذي يبيع النفاق، أم الحاكم الذي يشتريه، بل ويوصى بصنعه؟ إن النفاق لن يختفي أبدا إلا إذا كسدت سوقه، وهو أمر في أيدي الحاكمين وحدهم . وقد عجز الحاكمون في كل العهود الماضية عن الاستغناء عن النفاق إذ كان معظمهم لا يجد من حقائق أعماله ما يغنيه عنه..

واليوم تلوح لنا فرصة جديدة . ففي الحكم مسئولون جدد هم رجال ثورة وتجديد في كل شيء. ولديهم من أعمالهم ما يغنيهم عن النفاق..

وهؤلاء المسئولون الجدد وحدهم هم القادرون على فض أسواق النفاق .

ويكتب صلاح سالم وزير الإرشاد القومي أبريل 1953 هن النقص الخطير فى بلاط صاحبة الجلالة والمثير في الأمر أم ينشر المقال في "[[مجلة التحرير]]" لسان حال الثورة، قائلا:

ومن منا لا يؤمن بالحرية الكاملة والتحرر وقد قامت حركة الجيش لتحمى الحرية التي سلبها الطغاة منا نحن الشعب.

إننا نطمع ونرجو أن نرى الصحافة في بلادنا ممتلئة حيوية وإدراكا عميقا لأهداف الشعب لتنير السبيل له وللمسئولين.

نريد صحافة تنقد صباح مساء نقدا نزيها للبناء لا للهدم وخاصة في هذه المرحلة التي نجتازها في تاريخ بلادنا، نريد صحافة تؤمن إيمانا عميقا بمثل وبمبادئ وتدافع عنه دفاعا مخلصا وتقول : لقد أخطأت أيها الوزير أو يا فلان في كذا وإني أرى كذا وكذا.

ونؤكد أننا نرجو ونتمنى أن نرى الحال كما صورته طالما أن هدفنا جميعا هو الوصول إلى حلول عملية سليمة ترفع من شأن الشعب.

إننا لا نتصور أن الرقابة ستظل مفروضة على الصحافة إلى ما شاء الله لأنها منبر وبرلمان للشعب وركن هام من أركان بناء مجد كل أمة.

وفوجئ أحمد الصاوي محمد " رئيس تحرير الأهرام بعموده المنشور يوم 12 يوليو 1953، وقد حذف الرقيب أكثر من نصفه. وفى اليوم التالي كتب في بابه " ما قل ودل" يقول:

أريد أن أسأل الصاغ صلاح سالم وزير الإرشاد عن رأيه فئ الرقيب المذعور الذي حذف أمس نصف مقال" ما قل ودل" أريد أن أسأله وهو الذي دعا من اليوم الأول إلى التعاون بين الحكومة والصحافة في ظل الحرية،

ماذا يقول في رقيبه الذي ارتعدت فرائصه من كلمة تقرر مبادئ الصحافة في العالم كله وعلى مرور الأيام ولا يمكن أن يخشاها أو يجزع منها عهد قوى شريف نظيف.. لقد قال لي البكباشي " جمال عبد الناصر ، انتقدونا نحن نريد نقدا ولا نريد مدحا.

ثم يختتم مقاله قائلا : هذا هو الموضوع الذي عرض أمس على الصاغ صلاح سالم وزير الإرشاد القومي، فرحب بالنقد وأذن بالنشر , وعلق عليه بخط يده بهذه العبارة بجندي شجاع مثله" آسف لتأجيل النشر أمس ، ويا ليت الانتقاد البريء البناء، يكثر ويملأ يوميا صفحات الجرائد.."

ومرت الأيام والأسابيع والشهور، وبدأت العلاقة تتوتر بين الثورة الشابة وبين صاحبة الجلالة ونجومها.

وسرعان ما ضاقت مساحة الحرية.. وضاق رجال الثورة بكتابات وآراء الصحفيين ورجال الفكر، وجرى اعتقال البعض، وفوجئ الناس بكشوف للمصاريف السرية يعلنها وزير الإرشاد القومي صلاح سالم، ويتهم بموجبها عشرات الأسماء اللامع بأنهم كانوا يتقاضون مصاريف سرية من حكومات ما قبل الثورة.

وجاءت أزمة مارس 1954 وجرى ما جرى بعدها ..و.. وغابت أسماء وتوارت شخصيات .. ولمعت أسماء.

ومنذ انضمامي إلى سارة تحرير مجلة " صباح الخير " وأنا مهموم بتلك العلاقة بين الصحافة والثورة . عدت للأرشيف وقلبت آلاف الصفحات ومجلات تلك الفترة ، ثم أتاح لي الصديق الكبير الأستاذ " لويس جريس" رئيس تحرير " صباح الخير" أن تتحول أسئلتي واستفساراتي إلى حوارات ومسلسلات صحفية نشرتها لي " صباح الخير" طوال ثمانية أعوام..

ورغم بعض المشاكل التي سببتها هذه الحلقات ، فلم يحدث أن أبدى لويس جريس ملحوظة واحدة افهم منها التوقف عن النشر، وهكذا وجدت كل الشخصيات التي حاورتها منشورة على صفحات المجلة، تنتظر الوقت المناسب لتصدر في كتاب مستقل.

وقد شجعني على قبول مغامرة إصدار هذا الكتاب تلك الحفاوة التي قوبل بها كتاب "لغز السادات"والأقلام التي تناولته : أحمد هاشم الشريف.. مفيد فوزي . علاء لبيب . عبد الستار الطويلة . محمد بغدادي . محمد الرفاعى . موسى صبري .. الخ.

وسعد " الناشر الشاب محمود الجداوى " بالنجاح الذي حققه بنفاذ الطبعة الأولى من كتاب " لغز السادات" وطلب أن يكون كتابه الثاني هو " ثورة يوليو والصحافة " بالتحديد ، ومما يسعد أي كاتب أن يتعامل مع ناشر طموح ، مثقف ، ذكى يعرف معنى الكلمة الجادة ويقدرها ، وكان محمود الجداوى هو كل هؤلاء في نفس الوقت.

وهذا الكتاب ليس محاكمة لزعماء مصر ، ولكنه محاكمة للصحافة المصرية نفسها ومحاكمة يشارك فيها بالشهادة والوثيقة نجوم صاحبة الجلالة، ويكشفون ما الذي جرى لصحافة مصر؟ وكيف جرى.. ولماذا جرى؟

الشهادات يقدمها : محمد حسين هيكل . مصطفى أمين , أحمد بهاء الدين . فتحي غانم. أحمد حمروش. موسى صبري . د. يوسف إدريس د. محسن عبد الخالق .. وحلمي سلام.

ولا يسعني سوى شكر القارئ الصديق الذي طوق سطور كتابي بكل هذا الحب.

رشاد كامل

مصطفى أمين

ساعة في زنزانة الثورة

بعد 36 ساعة بالضبط من قيام ثورة 23 يوليو وقع أول صدام بين الثورة والصحافة .

كان الصدام حادا وعنيفا وله دوى داخل وخارج مصر إذ فجأة صدر الأمر باعتقال الأخوين مصطفى و على أمين فجر يوم الجمعة 25 يوليو 1952.

كانت التهمة الموجهة للتوءم هي الاتصال يوم 23 يوليو تليفونيا بلندن وأنهما تحدثا مع وكيل وزارة الخارجية البريطانية وطلبا إليه أن يتدخل الجيش البريطاني ضد الثورة.

قبلها بيوم واحد صدرت جريدة الأخبار والمانشيت الرئيسي لها يقول : اللواء أحمد نجيب يقوم بحركة تطهير.

ثم عنوان آخر يقول : على ماهر يؤلف الوزارة اليوم .

وتتوالى باقي المانشيتات على النحو التالي:

على ماهر يقابل الملك في الإسكندرية .

اعتقال عدد من كبار الضباط.

وأسفل هذين العنوانين نشرت الأخبار صورتين كبيرتين ( بعرض ستة أعمدة ) الأولى لمحمد نجيب وحده جالسا على مكتبه ، والثانية لنجيب مع على ماهر..

أما في أسفل الصفحة فقد نشرت صورة أخرى يبدو فيها نجيب وعدد كبير من أعضاء اللجنة التأسيسية ، ولم تذكر أسماءهم .. بعكس جريدة المصري التي نشرت ألسماء كاملة.

وقبل ذلك بأربع وعشرين ساعة ( صباح 23 يوليو ) اجتمع في أخبار اليوم محمد التابعي ومصطفى وعلى أمين و كامل الشناوي وقرروا أن تقف أخبار اليوم بجميع صحفها( الأخبار وأخبار اليوم .. والجيل) بجوار الحركة وأن يطالبوها بأن تسارع بعزل الملك،

واتفقوا على أن يقوم التابعي ومصطفى أمين بإبلاغ ذلك للقيادة ولكن " هيكل " يقول: كنا قد اتفقنا – الأستاذان مصطفى وعلى أمين وأنا- على اجتماع منظم في أخبار اليوم نبحث فيه الأوضاع الجديدة، ونقرر فيه خطوط سياسية صحف ومجلات الدار ( بين الصحافة والسياسة ص 58) .

وقبل عام تقريبا كتبت أخبار اليوم مقالا عنوانه " أعياد الملك.. أعياد الشعب" ، تقول فيه: إن احتفال الأمة بأعياد الملك دليل للتاج الذي تتمثل فيه عزة الوطن ومقدساته : الحرية والطمأنينة والعدالة والمساواة التي لا يتخوف منها ظالم ولا يجور عليها باغ، والأمة إذ يشملها الفرح وتجرى فيها المواكب هاتفة داعية في مناسبة عيد الجلوس والقران الملكيين ، إنما تتمثل في خواطرها هذه المعاني.

وأخيرا تقول أخبار اليوم: وهذا التجاوب بين الشعب والملك هو الذي يجعل للتاج مهابته ويجعل للشعب كرامته وعزته( 5/5/1951) .

ولم يكن ما كتبته أخبار اليوم وقتئذ يعكس مشاعر وأحاسيس أعضاء الضباط الأحرارويشير كمال رفعت ( أحد الضباط الأحرار) إلى صدور منشور في مايو 1951، أصدره الضباط الأحراربمناسبة زفاف الملك تحت عنوان " المناسبة السعيدة " وجاء في هذا المنشور :

لقد تفتق ذهن القادة عن إقامة عرض الجيش احتفالا بالمناسبة السعيدة متقربين بذلك إلى أولى الأمر والله أعلم بما انطوت عليه نفوسهم من رياء ونفاق.. إن كل ضابط غيور لابد أن يكون ساخطا على هذه الأوضاع الغريبة رحمة منه بجيشه على موارد بلاده.. ( مذكرات كمال رفعت ص 67) وتروى لنا الأستاذة " مي شاهين" الكاتبة الصحفية في الأخبار لحظات اعتقال مصطفى وعلى أمين في كتابها " شارع الصحافة" فتقول:

- في الساعة الرابعة من صباح يوم الجمعة 25 يوليو دخل ثماني من الضباط غرفة نوم على أمين بمنزله بالروضة وأحاطوا بفراشه، وقد صوبوا مدافعهم الرشاشة نحوه، وأبلغوه أن الثورة أمرت بالقبض عليه، - - ثم صحبوه على منزل مصطفى أمين بالزمالك وأيقظوه من النوم، وقبضوا عليه وتبادر لعلى ومصطفى أمين في هذه اللحظة أن الجيش قرر خلع الملك، وأن الغرض من القبض عليهما هو ألا تنشر " أخبرا اليوم" نبأ الخلع في العدد الصادر في صباح اليوم التالي " السبت" كعادتها في سبق الأخبار، ولكن لم يدر بخلدهما أن الثورة قبضت عليهما لأنهما من أعداء الثورة. - ووضع الحراس كلا منهما في زنزانة مستقلة بالكلية الحربية، وكانت الثورة قد حولت الكلية الحربية إلى معتقل .. "ص 549".

وكانت الأمور تجرى بسرعة.. وكان إيقاع الأحداث سريعا بشكل لافت للنظر ، وفى نفس الوقت فقد أذاعت القيادة العامة للقوات المسلحة في الساعة الثالثة من مساء أمس (25/7) البيان التالي: نما إلى القيادة العامة للقوات المسلحة من مصادر مختلفة أن الأستاذين مصطفى وعلى أمين على اتصال بأفراد يهدفون إلى هدم حركتنا الوطنية المباركة،

ولم يسعنا في هذه الظروف الدقيقة التي تجتازها البلاد سوى اعتقالهما، وقد تم ذلك اليوم ، و غنى عن البيان أن أمر اعتقالهما كفردين تحوم حولهما الشكوك وليس له أدنى علاقة بأسرة الصحافة، وسف يطلق سراحهما فورا بمجرد عودة الأمور إلى مجاريها، الطبيعية. انتهت كلمات البيان الذي وقع باسم اللواء أركان حرب محمد نجيب قائد القوات المسلحة ونشرته جريدة المصري في صفحتها الخامسة يوم 26/7/52.

والغريب في الأمر أن جريدة المصري كانت في نفس العدد وعلى الصفحة الرابعة قد نشرت خبرا بعنوان " لا اتصال مع لندن " وتقول سطور الخبر :

نشرنا أمس خبرا عن اتصال أحد أصحاب المجلات بلندن ، ويسر" المصري" أن تسجل أن هذا الاتصال لم يتم بالمرة ويأسف لنشر هذا الخبر الذي دس عليه.. أما الخبر الذي نشرته " المصري " يوم 25 يوليو 1952، وعلى صفحتها الرابعة فقد كان عنوانه " اتصال بلندن " ويقول الخبر: " اتصل أحد أصحاب دور الصحف المصرية التي تصدر مجلات أسبوعية بلندن أمس الأول وتحدث مع بعض المسئولين البريطانيين وزودهم بمجريات الأمور في مصر على إثر الحوادث الأخيرة" .

وفى وقت لاحق فإن الأستاذ مصطفى أمين سيتهم الأستاذ أحمد أبو الفتوح ( رئيس تحرير المصري وقتها والكاتب بجريدة الوفد الآن)، فإنه صاحب البلاغ الذي أدى لاعتقاله مع توءمه الأستاذ على أمين.

وبعد اعتقال مصطفى أمين عام 1965 بتهمة التجسس وفى السطور الأخيرة من اعترافه الخطى الموجه لجمال عبد الناصر كتب مصطفى أمين هذه السطور الموجهة لجمال عبد الناصر :

وأنا الذي أخبرت سيادتكم بنبأ المؤامرة التي يقوم بها الملك " سعود" مع " أحمد أبو الفتوح" و" وسعيد رمضان".

وصدرت مجلة " آخر ساعة" في 13 أغسطس 1952، ونقرأ فيها مقالا هاما كتبه الأستاذ الكبير " محمد التابعي" كان عنوانه " مع اللواء محمد نجيب فى صباح الجمعة 25 يوليو 1952" احتل المقال صفحتين ( الرابعة والخامسة) وفيه يروى لنا التابعي ماذا جرى بالضبط بشأن اعتقال رجال الثورة لمصطفى وعلى أمين قبل مقابلته للواء نجيب بساعات.

قال محمد التابعي في مقاله: غادرت دار " أخبار اليوم" إلى موعد لي مع بعض الأصدقاء في نادي رمسيس وجلست بين الأصدقاء أتحدث بما كنت أتحدث فيه في دار الأخبار وأقول بصوت يسمعه الجالسون حول الموائد القريبة.

إن أنصاف الحلول لا تجدي بل قد تؤذى.. ثم قلت : وددت لو أستطيع مقابلة اللواء نجيب بك زكى كي أقول له إن أنصاف الحلول لا تجدي وأن الشعب ينتظر منه ومن إخوانه أن يخلصوه مما هو فيه.. ولن يكون ذلك إلا بخلع الملك فاروق .. وقال الأستاذ مدحت أباظة وكان من بين الحاضرين: هل تريد حقيقة أن تقابل اللواء نجيب بك؟

قلت: بكل تأكيد . قال : أعتقد أنني أستطيع تدبير هذه المقابلة والملفت للنظر هنا أن التابعي الاسم الكبير وقتها في عالم الصحافة والسياسة يعترف أنه يود لو قابل اللواء نجيب.. ولم يقل لنا التابعي من هو" مدحت أباظة"

هذا الذي يستطيع تدبير مقابلة له مع نجيب وماذا كان يعمل وقتها وما علاقته بنجيب ، ولماذا لم يتم تدبير المقابلة بواسطة مصطفى أو على أمين أو هيكل وكلهم اعترفوا ، فيما بعد بالطبع بمتانة علاقتهم بهؤلاء الثوار الجدد وعلى رأسهم نجيب).

على أي حال نعود لنكمل معا قراءة باقي مقال التابعي الذي يقول بالنص : " وكان هذا كما قلت في أول يوم من بدء الحركة المباركة.. الأربعاء 23 يوليو 1952، وبعد ظهر اليوم التالي الخميس كلمني الأستاذ " مدحت أباظة" بالتليفون ليبلغني أن اللواء نجيب بك مستعد لمقابلتي في صباح يوم الجمعة في مكتبه بالتليفون على الساعة التي يستقبلني فيها.

وفى ساعة مبكرة من صباح يوم الجمعة أبلغني صديقي كامل الشناوي من مستشفى الدكتور الكاتب بالتليفون أن مصطفى وعلى أمين.. قد اعتقلا بأمر من القيادة العامة، وعقدنا اجتماعا في حجرة كامل الشناوي في المستشفى وقلت للزملاء – المحررين ورؤساء التحرير- إنني على موعد لمقابلة اللواء نجيب بك هذا الصباح،

وسوف أسأله عن سبب اعتقال الصديقين الزميلين.. ( التابعي هو الذي سيسأل نجيب ولا أحد آخر سواه سيسأل) ومن مستشفى الدكتور الكاتب تحدثت بالتليفون مع اللواء نجيب بك وسألته عن الساعة التي أحضر فيها فقال: أنا خارج الآن للمرور.. وسوف أعود بعد نصف ساعة. فهل توافقك الساعة التاسعة والنصف ؟ قلت نعم: وسألني: عندك عربة؟ قلت: نعم وشكرا.

ومضيت في سيارة الصديق الزميل " حسنين هيكل" الذي يفخر- وبحق – أنه صديق الجيش من قديم.. مضينا إلى مقر القيادة العامة".

والتساؤل الذي يقفز الآن إلى ذهني.. هل كان ذهاب هيكل مع التابعي لمقابلة نجيب سببه امتلاك هيكل لسيارة ويبدو أن هذا هو السبب الوحيد فعلا، فلم يذكر لنا التابعي سببا آخر أو حتى مساحة لاستنتاج أي سب ونكمل معا باقي رواية التابعي بكل الدقة والتركيز فيقول:

وهنا أقف قليلا كي ألفت نظر القارئ إلى التفاصيل التي حرصت على سردها ومنها يدرك القارئ أن مقابلتي للواء أركان حرب نجيب في يوم الجمعة 25 يوليو لم تكن بشأن اعتقال مصطفى أمين وعلى أمين كما ذكرت بعض الصحف وأن المقابلة كان متفقا عليها من قبل اعتقال الزميلين بثمان وأربعين ساعة.

واستقبلنا اللواء محمد نجيب في غرفة مكتبه .. وكانت هذه أول مرة أرى فيها الرجل الذي حقق المعجزة ورفع رأس مصر .. ولقد أحسست بعد دقائق أن محمد نجيب أذكى بكثير مما يبدو، وأنه مع صراحته يستطيع أن يكون واسع الحيلة كبير الدهاء وهذه صفات تولد – ولا تكتسب- تولد مع القائد الممتاز أو الزعيم المختار بإرادة الله .

ونحن نعل م بعد خلاف محمد نجيب مع جمال عبد الناصر الشهير بأزمة مارس 1954، وقفت كل أخبار اليوم بمدفعيتها الثقيلة مع عبد الناصر في مواجهة نجيب ولحسن أخبار اليوم كل ما كانت قد أسبغته على نجيب من صفات.

والآن نصل إلى موضوع اعتقال مصطفى وعلى أمين وكيفية مناقشته مع نجيب طبقا لما رواه محمد التابعي في " آخر ساعة" وكان على النحو التالي:

بدأت حديثي عن اعتقال الزميلين مصطفى وعلى أمين.. ولم يطل هذا الحديث أكثر من دقائق ( لاحظ ما يقوله التابعي بدقة من فضلك) بعد أن اطمأننت إلى أن قادة الحركة حريصون على تحقيق العدالة وأنهم لن يظلموا أحدا ولن يؤخذوا بدسيسة أي حقود خسيس..

ويمضى باقي المقال ( صفحة ونصف تقريبا) التابعي يسأل ويستفسر واللواء نجيب يجاوب ويشرح ويوضح .. ولم يشر التابعي أو يكتب لن ماذا قال هيكل في تلك الجلسة وكان للمقال بقية ستنشر في عدد " آخر ساعة" التالي.

وكان عنوان مقال التابعي في " آخر ساعة" ( 20 أغسطس ) هو من أسرار ليلة الانقلاب.

يقول محمد التابعي : وغادرت دار القيادة ( وكان هيكل معه) وأنا أشعر بخيبة أمل شديدة وأشد منها خوفي على هؤلاء الضباط البواسل أن يخدعهم فاروق ( الملك) وينحني أمامهم اليوم كي يبطش بهم بعد حين وكان هذا كما قلنا في صباح يوم الجمعة ( 25 يناير) وفى يوم السبت..

ومنذ الصباح الباكر توالت الحوادث سريعة مفاجئة متلاحقة- وأعجب معا لسرعة انتشار الخبر- كانت البلاد قد عرفت أن الجيش يحاصر منذ فجر اليوم قصري رأى التين والمنتزه بالإسكندرية وعابدين والقبة بالقاهرة.

وعند الظهر عرف الشعب أن نبأ هاما سوف يذاع بعد ساعات ولم يشك أحد لحظة واحدة في أن النبأ هو خلع الطاغية، فاروق عدو الشعب رقم واحد. ويضيف التابعي وأرجو أن ننتبه جيدا للسطور القادمة:

وفى مساء اليوم التالي الأحد ( 27يوليو) أفرجت القيادة عن مصطفى وعلى أمين بعد أن تأكدت من كذب الدسيسة الخسيسة .. وأصدرت بلاغا رسميا مشرفا للصديقين . ورأيت من واجبي أن أذهب في صباح يوم الاثنين ( 28 يوليو ) لأقدم شكر الأخبار وشكري إلى القائد العام لأنه وفى بوعده لي وهو سرعة التحقيق في التهمة والبت في أمر الزميلين.. وذهبنا – هيكل وأنا- ( بالطبع ذهب التابعي بسيارة هيكل) إلى دار القيادة العامة..

وأقمنا ننتظر نحو ساعة وسيل كبار الزائرين المهنئين لا ينقطع. وأخير رأيت ( الكلام للتابعي) أن أكتفي بترك رسالة شفوية أشكر فيها القائد العام ( اللواء نجيب ) ولقد أفضيت بها إلى ضابط صديق من أعضاء هيئة مكتب القائد العام , ولكننا لم نمض ساعة الانتظار ساكتين فقد تحدثنا – زميلي هيكل وأنا- مع أكثر من واحد من حضرات الضباط الذين كانوا مسكين بخطوط الحركة.

وأخذ التابعي يصف ويروى ما سمعه من الضباط البواسل عن أسرار وتفاصيل ما جرى إلى أن يضيف قرب نهاية المقال ما يلي:

ويقول زميلي هيكل.. إن قلم المخابرات البريطانية في مصر اعترف بأن له سبعين سنة في مصر وأن هذه الحركة هي أول حادث فوجئ به تماما قلم المخابرات المذكور ( آخر ساعة 30/م52 ص 4،5).

ولكن لقصة اعتقال مصطفى وعلى أمين وجها آخر يرويه الأستاذ محمد حسنين هيكل.. ورواية هيكل ضمن كتابه " بين الصحافة والسياسة" الذي صدر عام 1984، أي بعد مرور 32 عاما بالضبط على قصة الاعتقال وغياب الكثير من الأسماء. لقد روى هيكل قصة الاعتقال والإفراج على النحو التالي:

" وفجأة إذا بالسلطة الثورية الجديدة في مصر تعتقل الأخوين مصطفى وعلى أمين ضمن من اعتقلتهم من حاشية القصر ورجال الملك. وذهبت إلى قاء جمال عبد الناصر في مبنى رئاسة أركان حرب الجيش المصري بكوبري القبة، وكان قد أصبح مقرا لمجلس القيادة كما عرف وقتها. والحقيقة أنني ذهبت محتاجا ( هيكل هو الذي احتج) قلت له: إن القبض على صاحبي أخبار اليوم في هذا الظرف حكم عليهما ما لم يكن هناك دليل لا أعرفه ثم إن الحرج يمتد منهما إلى الدار نفسها وكل من فيها.

وكان رد جمال عبد الناصر: إنه ليس لي الحق أن أنظر إلى المسائل من زاوية شخصية على هذا النحو ثم أضاف: إن الناس كلهم يعملون بالشكوك والظنون المحيطة بمواقفهما وارتباطهما ، وعلى أية حال فإن اعتقالهما إجراء وقائي بعد معلومات تفد أن الأستاذ مصطفى أمين أجرى اتصالات يوم الثورة مع جهة أجنبية خارج مصر، وبما أن الظرف لا يحتمل أية مناورات فإنه أصدر أمر الاعتقال".

إن هيكل يتعمد هنا إغفال اسم محمد التابعي تماما، بل إنه ينفى أن الحوار تم مع اللواء نجيب بل كان مع جمال عبد الناصر.

يضيف هيكل : وعدت في المساء ومعي الأستاذ التابعي نرجو ونلح,. ومعنى السطر السابق أنه في المساء صد اصطحب هيكل الأستاذ التابعي، وهذا ما لم يخبرنا به التابعي نفسه في مقالته المنشورة يوم 13 أغسطس 1952.

ويعود هيكل ليقول: ثم عدت صباح اليوم التالي اشرح الضغوط التي أحسست بها في دار أخبار اليوم بالأمس، ثم دخلت أمام جمال عبد الناصر وآخرين من أعضاء مجلس قيادة الثورة في شرح مفصل لعلاقة الصحافة في مصر بالسياسة، ومن ثم علاقتها بالسلطة واحتمالات التجاوز في ظل الظروف الموضوعية السائدة( كان هيكل وقتها عمره 29 سنة وكان عمر عبد الناصر 34 سنة).

وأخيرا تقرر الإفراج عن الأستاذين مصطفى وعلى أمين وأخذتهما معي ومعنا الأستاذ محمد التابعي والأستاذ كامل الشناوي وذهبنا إلى مجلس قيادة الثورة ، وهنا قدمتهما لجمال عبد الناصر وآخرين من أعضاء مجلس الثورة،

وكان لقاء يستحق المتابعة الدقيقة، فقد استجمع مصطفى أمين كل مواهبه ليدافع عن نفسه أمام السلطة الجديدة ويشرح مواقفه، ثم رحنا جميعا نلح في كلمة تصدر عن المجلس تبرئ أصحاب أخبار اليوم أو ترد إليهم شرفهم، على حد التعبير الذي استعمله الأستاذ مصطفى أمين ص 59".

أما الكاتب الفلسطيني " ناصر النشاشيبى" وكان واحدا من ألمع محرري آخر ساعة منذ أواخر الأربعينات وحتى بعد تولى هيكل رئاسة تحريرها في يونيو 1952، كما عينه عبد الناصر كأحد رؤساء تحرير جريدة الجمهورية في أوائل الستينات فيروى القصة على النحو التالي:

عندما قامت ثورة 23 يوليو صدر الأمر بإلقاء القبض على مصطفى وعلى أمين، ووضعهما في السجن ، ويوم ذاك قال أنور السادات لأعضاء مجلس الثورة في معرض مناقشة هذا التوءم: وفيش فايدة إن ا لحل الوحيد في نظري هو إعدام هذين المتهمين علشان يكونان عبرة.

ولكن جمال عبد الناصر – والرواية سمعتها شخصيا عام 1953 من محمد حسنين هيكل- رفض أن يوافق على كلام أنور السادات، بل إنه أمر بالإفراج عنهما بعد أقل من 72 ساعة.. " ص 221 كتاب قصتي مع الصحافة".

ولكن كيف كانت الصورة بالضبط داخل مجلس قيادة الثورة؟ وماذا كان رد فعل الضباط الأحرارلاعتقال مصطفى وعلى أمين ثم الإفراج عنهما.

يقول الأستاذ " محمود الجيار" وهو من الضباط الأحرار والذي اقترب من عبد الناصر طويلا وسجل ذكرياته على صفحات روز اليوسف 16م2م76).

يقول الجيار :" إن أول معارضة واجهها جمال عبد الناصر من زملائه بعد الثورة بأيام كان موضوعها مصطفى وعلى أمين ، كنا قد اعتقلناهما ليلة الثورة ( الصحيح بعد 36 ساعة) مع الذين اعتقلناهم من قادة الجيش،

وقد عرفت هذا عندما ذهبت أسلم قائد اللواء السابع إلى المعتقل، فاستقبلني قائد المعتقل الصاغ عبد الحليم عبد العال وأخبرني بأن لديه في الداخل مصطفى وعلى أمين ودعاني إلى أن أراهما بنفسي،

وكنا نحن رجال الصف الثاني في عنفوان الشباب والتطرف، وكانت نظرتنا إلى مصطفى وعلى أمين أنهما من رجال الملك، أي أنهما جزء من النظام الذي ثرنا عليه، ولهذا اعتبرنا اعتقالهما طبيعيا جدا إن لم يكن واجبا وطنيا ولكن ما كاد يتم إخراج الملك من البلاد في 26 يوليو 1952 حتى فوجئنا بالكاتبين يستردان حريتهما ويعودان إلى أخبار اليوم.

لاحظ أن الجيار لم يشر إلى السبب المباشر للاعتقال ولا السبب المباشر أيضا للإفراج عنهما، ولكنه يعود فيقول:

" وانتشرت حالة من الاحتجاج بين صفوف الضباط الأحرار، وحدث نوع من البلبلة عندما عرفنا أن الذي أمر بإطلاق سراح الكاتبين كان جمال عبد الناصر نفسه ولأن جمال عبد الناصر كان قائد الضباط الأحرار وموضع ثقتهم، فإن الاحتجاج لم يلبث أن هدأ بين صفوفنا ، ولكنه لم يهدأ داخل مجلس الثورة الذي يضم قادتنا، زملاء جمال، فقد أثير الموضوع داخل المجلس

وكان أول مناسبة يفاجأ فيها عبد الناصر بأن الأغلبية ضده، وفى المقدمة كمال الدين حسين وحسن إبراهيم وفى مقدمة المقدمة عبد اللطيف البغدادي، ولكن قرار عبد الناصر كان قد نفذ وانتهى الأمر وكان مقتنعا به : فهو بالإفراج عن مصطفى وعلى أمين قد أعفى نفسه من مشكلات، ثم أنه كسب كثيرا بالإفراج عنهما، فقد جند مصطفى أمين أخبار اليوم لتأييد الثورة بعد أن كانت تؤيد الملك والواقع أن تأييد مصطفى أمين ظل يتصاعد بعدها بلا تحفظ".

ويروى الجيار واقعة لها دلالتها البالغة جرت في عام 1959 عندما ذهب عبد الناصر لزيارة سوريا فيقول:

" نزلت في فندق كان فيه مصطفى أمين والمرحوم كامل الشناوي وغيرهما من نجوم الصحافة. وبعد يومين جاءت الأنباء بأن عبد الناصر سيصل مساء الغد إلى دمشق وإذا بمصطفى أمين يبحث عنى ليقول لي: أرجوك أن أطلب من الرئيس أن يؤجل وصوله إلى صباح الغد فدهشت وسألته: ليه؟ قال: كي تكون هناك فرصة لاستقباله كما يجب، وسأقول لك سرا، لقد أبرقت فعلا إلى أخبار اليوم بأن تكتب على رأس الصفحة الأولى في برواز " حكمة اليوم" بيت الشاعر أحمد شوقي:

دخول الظافرين يكون صباحا

ولا تزح مواكبهم مساء

كان كلاما مقنعا جعلني فعلا أتصل بموكب الرئيس واقترح تأجيل ميعاد وصوله إلى الصباح(ثم يقول الجيار معلقا) ولكن ما هزني كان هذا الحماس الذي بدأه مصطفى أمين وقد فسرته وقتها بأنه عرفان بجميل عبد الناصر الذي أطلق سراحه في مواجهة المعارضة الحادة من جانب البغدادي و كمال حسين وغيرهما( روز اليوسف).

وأصل بكم إلى شهادة لها دلالتها الهامة. فصاحبها هو " إبراهيم طلعت المحامى" فقد كان من ألمع شباب الطليعة الوفدية ومن أصدق أنصار الثورة في وقت واحد، وكان يتمتع بثقة عبد الناصر وثقة النحاس باشا بنفس الدرجة،

وكان إبراهيم طلعت صديقا قديما لعبد الناصر منذ تعرف عليه في حزب مصر الفتاة في الثلاثينات ثم زامله في كلية الحقوق عام 1937، كان أول مدني يطلبه عبد الناصر صباح 23 يوليو..

وعندما نشر إبراهيم طلعت مذكراته السياسية في الزميلة" روز اليوسف" بعنوان " أيام الوفد الأخيرة" كانت هذه المذكرات أخطر وأهم ما نشر عام 1976 .

يقول إبراهيم طلعت في شهادته تحت عنوان " عندما انتصر مصطفى أمين على جمال عبد الناصر " ما يلي:

" كانت جريدة " أخبار اليوم " من أهم العناصر التي ساعدت على توسيع الفجوة بين الوفد والحركة ( الثورة) فقد كانت عداء أخبار اليوم للوفد تقليديا قديما، كما أن المنافسة الصحفية كانت واضحة بين أخبار اليوم والمصري ،

وبالرغم من أن مصطفى أمين كان قد اعتقل بعد قيام الحركة بيومين لموقفه منها عند بدئها ثم أمر جمال عبد الناصر بالإفراج عنه كطلب أحمد أبو الفتح" وإلحاحه ( عكس شهادة هيكل تماما) إلا أن مصطفى أمين بلباقته وشخصيته وذكائه استطاع أن يستحوذ على قلوب بعض ضباط القيادة، وقد تزايد نفوذ مصطفى أمين بعد ذلك إلى درجة أنه توجه إلى فؤاد سراج الدين بعد ذلك في المعتقل يساومه باسم مجلس القيادة للإفراج عنه إذا تنازل عن القضية التي رفعها في مجلس الدولة تظلما من أمر الاعتقال ".

ويرى إبراهيم طلعت قصة اجتماع جرى بين عبد الناصر وصحبه وفؤاد سراج الدين، وبعدها زاره الأستاذ كامل الشناوي زيارة مفاجئة ودار بينهما حديث طويل حول ما جرى في الاجتماع الذي تم بين فؤاد سراج الدين وعبد الناصر وزملائه. ثم يقول إبراهيم طلعت بالنص:

" فوجئت بجريدة أخبار اليوم تنشر تحقيقا كبيرا وبعناوين مثيرة عن هذا الاجتماع وما دار فيه، وكان هذا التحقيق بقلم" كامل الشناوي" وفوجئت بأنه ينطوي على أشياء غير صحيحة تخالف ما جرى وبعضها عكس الذي سمعه منى تماما، ومن شأنه إفساد النتائج التي يمكن أن تتحقق لهذا الاجتماع الذي اتفقت فيه آراء الوفد وحركة الجيش( بشأن إعادة الحكم الدستوري) وبعد ذلك بأيام صدرت مجلة آخر ساعة وكان يرأس تحريرها " محمد حسنين هيكل" وفى الملحق الذى يوزع معها باسم " آخر لحظة" نبذة صغيرة عن هذا الاجتماع تقول: إن فؤاد سراج الدين ..

صرح بأنه قد وضع ضباط القيادة في جيبه.. وانفجر هذا النبأ الكاذب كالقنبلة داخل مجلس القيادة واتصلت بعبد الناصر تليفونيا في ذلك اليوم وأكدت له عدم صحة ما نشر، ولكنه أجابني بأن هذا ألأمر لا يقدم ولا يؤخر فيما اتفقنا عليه، وقال : أنا عارف إنهم كدابين.

ولكنني أحسست من نبرات صوته أنه متأثر جدا مما نشر وأنه في قرارة نفسه يعانى شيئا كالهزيمة.

ويروى أحمد حمروش في مقال " آخر معارك النحاس مع الجيش وضده" أنه بعد نشر الخبر السابق في " آخر ساعة" أن فؤاد سراج الدين فوجئ بالخبر، ويؤكد عدم صحته، وعدم صدور مثل هذه الكلمات منه، وتأكد- سراج الدين- أن في الأمر دسيسة لابد أن يتأثر منها قادة الحركة. ( ويؤكد حمروش) وهكذا لعبت صحافة الإثارة دورها التقليدي لشق الصفوف مقدما، ومنع التلاحم بين الجيش والوفد ؛؛( روز اليوسف 1/9/1975 ).

ويروى أحمد حمروش واقعة ذهاب " مصطفى أمين" إلى فؤاد سراج الدين في المعتقل حاملا رسالة من أعضاء مجلس القيادة تقول.. إنهم على استعداد للإفراج عنه إذا تنازل عن القضية، ويعلق حمروش قائلا: وكان غريبا أن يتحول مصطفى أمين إلى مندوب لرجال القيادة وهو الذي اعتقل في الأيام الأولى للحركة ؛؛ (ص 274 قصة ثورة 23يوليو).

ويلفت النظر فيما بعد أن " أنتونى ناتنج" وزير الدولة البريطانية للشئون الخارجية والذي شارك في مفاوضات الجلاء عام 1954، يروى في كتابه " ناصر" وكانت المناسبة حديثه عن أزمة مارس 1954، وأحداثها.

كتب ناتنج يقول : ونشر مصطفى وعلى أمين بتحريض من عبد الناصر تسجيلات لمحدثات تليفونية بين محمد نجيب و مصطفى النحاس بأن اللواء محمد نجيب يعمل بنشاط على عودة الوفد إلى السلطة ، ولما كانت صحيفة الأخبار ذات النفوذ تؤيد عبد الناصر والثورة فإن الصحف الأخرى سارت على منوالها " ص 54".

وقبل ذلك فإن ناتنج يشير إلى واقعة بالغة الدلالة جرت بعد أن اجتمع مجلس القيادة ولم يكن أمام عبد الناصر لحظتها سوى التسليم بانتصار محمد نجيب عليه، ويقول ناتناج: لكن في خلال ساعات قليلة حدث تغير مثير، فلسبب ما أعلنت صحيفة الأخبار وهى إحدى صحف القاهرة الرئيسية في مقال افتتاحي لها أن عبد الناصر كان وسيظل الزعيم الحقيقي للثورة بالرغم من أن عبد الناصر نفسه قد أبلغ رئيسي تحريرها الأخوين مصطفى وعلى أمين أنه قد خسر المعركة أمام نجيب ومن ثم فإنه ليس ثمة ما يلزمهما أو حتى من مصلحتهما تأييده..

وروى لي الكاتب الكبير " موسى صبري" ضمن حوار طويل معه ما يلي: كان ما حدث لمصطفى وعلى أمين صدمة خطيرة لنا، ووضعنا ذلك في مأزق ، ثم اتضح لنا أن محرر الحوادث في جريدة المصري أبلغ قيادة الثورة أن مصطفىوعلى أمين اتصلا تليفونيا بلندن وتحدثا مع وكيل وزارة الخارجية البريطانية، وطلبا إليه أن يتدخل الجيش البريطاني ضد الثورة، وأن حديثهما التليفون هذا المسجل على اسطوانة موجودة في مصلحة التليفونات.. ونشرت الصحف هذا الاتهام.. وفى ذلك الوقت كنت موجودا في الإسكندرية بمكتب الأخبار ،

واتصل بى المرحوم الأستاذ محمد التابعي من القاهرة وقال لي: أنا أعلم أنك تعرف أنور السادات كويس، أرجوك أن تتصل به وتبلغه على لساني ألا يظلم الضباط أحدا وأن مصطفى وعلى أبرياء، وقلت للتابعي: إنني فعلا سأتصل بأنور السادات من أجل هذا الغرض، وبحثت عن السادات الذي كان موجودا في الإسكندرية في ثكنات مصطفى باشا، وحصلت على رقم تليفونه وطلبته ،

وقلت له : يا حاج أنور – إننا منذ كنا معتقلين سويا في المعتقل ونحن نناديه يا حاج ، والحقيقة أنا لا أدرى حتى الآن السبب في هذه التسمية، المهم أنني بمجرد أن قلت له : يا حاج – قال لي : أهلا يا موسى، وشرحت له الموضوع كله فقال لي : ولا يمكن للثورة أن تظلم صحفيا واحدا؛ وفعلا اتضح بعد التحقيق أنها كذبة وتم الإفراج عن مصطفى أمين وعلى أمين.

وأخيرا يروى لنا مصطفى أمين قصة الاعتقال والإفراج بالشكل التالي:

" قامت ثورة 23 يوليو 1952، وفوجئت بأنهم قبضوا على أنا ودهشت ، اعتقدت أنهم يتحفظون علينا لحرصهم على ألا ننشر خبر عزل الملك فاروق في " أخبار اليوم" التي كانت تصدر صباح السبت،

وكانت لدينا معلومات تؤكد أن رجال الثورة في نيتهم عزل فاروق، بعد ثلاثة أيام فوجئنا بأنور السادات يزورنا في الزنزانة وقال لنا إن أحد الأشخاص ذهب إليهم وقال: إنكما طلبتما من وكيل وزارة الخارجية البريطانية التدخل ضد الثورة،

وهناك شريط مسجل عليه الحديث، وقال ( أي السادات) أنه كان من رأى بعض الضباط الأحرارأن تضربا بالرصاص، ولكن تم الاتفاق في النهاية على سجنكما، وبعد أن تم أبعاد الملك ذهبنا إلى مصلحة التليفونات وطلبنا الشريط المسجل عليه المكالمة، ولكنهم في مصلحة التليفونات قالوا:

إن أخبار اليوم لم تطلب لندن على الإطلاق لا يوم 23 يوليو ولا 24 ولا 22 وأن على ومصطفى أمين لم يتحدثا إلى لندن تليفونيا أبدا طوال شهر يوليو ويطرح السؤال نفسه :من كان وراء هذه الوشاية؟؛

كان الواشي محررا في جريدة منافسة على صلة قوية بثروت عكاشة، وتشاء الظروف أن يحكم عليه بعد سنتين بعشر سنوات سجن في تهمة تخابر مع بريطانيا.

ذهبنا إلى مجلس قيادة الثورة فور الإفراج عنا، وهناك التقينا باللواء محمد نجيب : نحن آسفون جدا لهذا الخطأ، لقد بحثنا الموضوع فلم نجد له أي أساس من الصحة.

وهنا قال عبد الناصر : أظن أنه من حقكما أن نصدر بيانا نوضح فيه حقيقة ما جرى، ونقول فيه إننا آسفون جدا وأنه تبين لنا أنكما بريئان ، وبالفعل أعد البيان وأذيع في الإذاعة أربع مرات في يوم واحد". (ص 9و10 كتاب مصطفى أمين يتذكر من إعداد جمال الغيطانى ).

وتقول الأستاذة مي شاهين في كتابها شارع الصحافة: إن الأستاذ الأكبر الشيخ " عبد المجيد سليم" شيخ الجامع الأزهر أرسل بالرسالة التالية إلى مصطفى وعلى أمين عقب الإفراج عنهما:

" إن الله يدافع عن الذين آمنوا". إن أصحاب الحق يتولى الله حفظهم دائما ما داموا مخلصين مؤمنين بالوطن عاملين من أجله . ولقد دعوت الله أن يحفظكما دائما"" ص 553".

محمد حسنين هيكل

أنا وعبد الناصر صداقة الحظ والشرف

أعفاني الكاتب الصحفي الكبير المرحوم" على أمين " توءم مصطفى أمين من البحث عن سطور تصلح كمقدمة ومدخل للتعريف بالأستاذ " محمد حسنين هيكل " الذي تجاوز بقلمه ومقالاته حدود مصر ليصل إلى القارئ العربي والعالمي.

سطور " على أمين" التي كتبها في 18 يونيو 1952 وجعلها افتتاحية مجلة آخر ساعة كانت بمثابة خطاب وداع للقارئ بمناسبة استقالته من رئاسة تحرير آخر ساعة وتعيين الصحفي الشاب محمد حسنين هيكل رئيسا للتحرير بدلا منه قبل قيام الثورة بأسابيع؛

يقول على أمين : اليوم أزيح الغبار عن خطاب الوداع وأعرضه عليك كما كتبته منذ عام. إن زحمة العمل في دار أخبار اليوم تضطرني إلى الاستقالة من رئاسة تحرير آخر ساعة، وقد كنت أعمل منذ 18 عاما بجانب ألأستاذ التابعي، يتحمل أعصاب رئيس التحرير ويجمع أطرافها المبعثرة ويبحث عما فقد منها بين الأدراج والمكاتب وسلال المهملات.

ثم يتعلم وظيفة رئيس التحرير ؛ واخترت عددا من الشبان الأكفاء .. ولكن بعضهم سقط في منتصف الطريق.. وبعضهم كنت أمضى الساعات باحثا له عن أعصابه المتناثرة بين الأدراج والمكاتب وسلال المهملات؛ وكان آخر هؤلاء الشبان هو " محمد حسنين هيكل".

وأحب أن اعترف لك بأنه كان آخر من فكرت فيهم لأنني كنت أصر على أن يبقى في العمل الذي نبغ فيه وهو " الباحث عن المتاعب" فقد كانت أخبار اليوم ترسله بالطائرة وراء كل انقلاب فيقيم الدنيا ويقعدها بتحقيقاته الصحفية..

وكنت فى نفس الوقت أخشى عليه من التجربة كما يخشى الأب على ابنه إذا ركب طائرة أو دخل مغامرة، فإنني اشعر بأن " هيكل" ابني.. اكتشفته ودفعته إلى الأمام.. فإذا به يصبح نجما من نجوم الصحافة وهو في سن الرابعة والعشرين؛ ولذلك كنت أخاف عليه.. وأخاف على اكتشاف من أن يدخل في امتحان جديد؛ ولكنه دخل التجربة ونجح وعمل في العامين الماضيين كمساعد لرئيس تحرير آخر ساعة ثم كرئيس تحرير فعلى ، فلمع في الدار وإن لم يخرج نوره إلى الشارع ؛

وأخيرا أقدم لكن استقالتي، لأعود محررا عاديا في آخر ساعة. وأقدم لكم مع الاستقالة رئيس تحرير آخر ساعة الجديد.. محمد حسنين هيكل.

انتهت سطور على أمين التي قدم بها " هيكل" للقراء؛

ولكن في كتاب ملفات السويس يقول هيكل : سنة 1950 زارنا " جمال عبد الناصر " في مكتبي في آخر ساعة وكنت رئيسا لتحريرها وراح يناقش معي ما يجرى في سوريا؛؛"ص 197".

منذ خمس سنوات صدر في لندن كتاب هام عنوانه" سلطات الصحافة " للصحفي والكاتب البريطاني " مارتن والكر" الذي عمل لفترة في صحيفة " الجارديان" البريطانية وتنشر مقالاته وتحليلاته في عدد من صحف العالم ومنها" النيويورك تايمز" و" الواشنطن بوست".

في الفصل الخاص ب جريدة الأهرام يعرض الكاتب لتاريخ الأهرام ونشأتها ، ودورها في الحياة المصرية إلى أن تعرض أسرة" تقلا" صاحبة الأهرامالأهرام على الصحفي الشاب هيكل أن يتولى رئاسة تحريرها . وهنا يقول الكاتب البريطاني " والكر" :

" لا شك أن جزءا من نجاح هيكل في صحيفة الأهرام يعود إلى علاقته الوثيقة بجمال عبد الناصر وقد بدأت تلك العلاقة خلال عام 1948 إثر النكسة التي تعرضت لها الجيوش العربية في حربها مع إسرائيل،

فقد كتب في تلك الفترة سلسلة مقالات عن " الصمود البطولي" للجيش المصري في موقع الفالوجة، وكان قائد ذلك الموقع يومئذ ضابطا شابا جرح أثناء المعارك اسمه جمال عبد الناصر.. في ذلك الموقع بالذات- يقول المؤلف- ولدت الصداقة العميقة التي ربطت الرجلين حتى آخر أيام الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر.

يضيف المؤلف:" ولكن تلك الصداقة لم تكن سوى الإطار الذي سمح لهيكل بإظهار موهبته في ميدان الصحافة.. إذ سبق له أن نال جائزة الملك فاروق للصحافة مدة ثلاث سنوات متعاقبة ، وسمحت له قدرته الكتابية المميزة بالحصول على تخويل من وزارة الخارجية الأمريكية لزيارة الولايات المتحدة والتوقف في كوريا خلال رحلته.

وقد استطاع هيكل بفضل تجواله ورحلاته الصحفية تعميق خبرته، وتوسيع معارفه وشبكة علاقاته.. وهذا بالذات ما دفع بجمال عبد الناصر إلى استشارته قبيل الانقلاب العسكري الذي أوصله إلى السلطة حول ردود الفعل البريطانية المنتظرة، وبعد نجاح الانقلاب" التعبير للمؤلف" في 23 يوليو كان هيكل الرجل الوحيد الذي بإمكانه الكتابة عن شخصية قائده وأهدافه.

ورغم الصداقة التي جمعت هيكل بالقائد المصري الجديد رفض الصحفي الشاب اعتماد المديح والثناء في كتاباته ، بل حاول التعرض وبعمق للمشاكل التي برزت أمام مصر وتحليلها بعقل ناقد ومنفتح، وبسبب قرب هيكل من الرئيس المصري، انكب الرسميون المصريون والصحفيون الأجانب، والهيئات الدبلوماسية المعتمدة في مصر على قراءة كل كلمة في مقالاته بتمعن كبير، محاولين دراستها وتحليلها، بغية اكتشاف مضمونها الحقيقي وأبعادها، والتعرف من خلالها على النوايا والطموحات الحقيقية لقائد أقوى دولة عربية.

ولكن هذه العلاقة الوطيدة مع عبد الناصر ليست كافية وحدها لتفسير الشهرة العالمية التي حظي بها هيكل في عالم الصحافة؛ فهناك عوامل عدة ساهمت في بروزه، ربما كان أهمها قدرته الفذة على الكتابة والتحليل، بالإضافة إلى حيويته التي لا تنضب،

ويجب هنا بالطبع عدم إغفال أهمية الدور الريادي الذي لعبته مصر داخل منطقة الشرق الأوسط في تلك الحقبة الهامة من تاريخها.

هذه الظروف والعوامل المتداخلة لهيكل بمضاعفة حجم توزيع الأهرامخلال عام 1958 فوصل إلى 120 ألف نسخة يوميا،

وكان نجاح الأهرام بمثابة كارثة حقيقية بالنسبة إلى صحيفة " الجمهورية" الرسمية التي تدنت مبيعاتها من 160 ألفا خلال عام 1957 إلى 40 ألف نسخة خلال عام 1958.

يكمل المؤلف البريطاني: استطاع هيكل بفضل المكانة البارزة التي انتزعها لنفسه داخل عالم الصحافة بالإضافة إلى علاقته المميزة بعبد الناصر التأثير على قرارات القيادة المصرية والتدخل لديها مباشرة من أجل صرف النظر عن بعض القوانين التي كان يعتبرها مجحفة في حق الصحفيين والصحافة المصرية عامة،

وسمح له قربة من عبد الناصر بمناقشة القضايا الحساسة بشكل مباشر مع رئيس الدولة، وكان من عادة الرجلين الاتصال يوميا الدولية والوقوف على آخر الأخبار. وأبلغ عبد الناصر حرسه الخاص فتح المجال أمام هيكل للاطلاع على كافة الملفات التابعة للقصر الجمهوري ساعة ما يشاء.

لقد كانت علاقة الرجلين في الواقع فريدة ومميزة. إذ رغم الخلافات العميقة التي كانت بينهما حول بعض القضايا الحساسة لم تنقطع أواصر المودة بينهما ، أو عرى التفاهم ، حتى إذا ما تباينت وجهات نظرهما دون أمكانية التوفيق فيما بينها، اتفق الرجلان على عدم مناقشتها؛

وقد اعتمد عبد الناصر على الصداقة التي كانت تربطه بهيكل من أجل بدء الاتصال السري بالسفارة الأمريكية في القاهرة خلال فترة الخمسينات، مما دفع البعض إلى اتهام هيكل بالعمالة للولايات المتحدة، كما لعب هيكل دور أداة الاتصال في البداية بين الرئيس المصري ومنظمة التحرير الفلسطينية ، وحاول بذل جهود جدية بغية أقناع بريجينيف خلال عام 1970 ، بتزويد مصر بصواريخ مضادة للطائرات.

وسعى هيكل دائما إلى الاحتفاظ باستقلاليته الفكرية رافضا الرضوخ أو التأثير بالآراء الغوغائية غير المنطقية أو الواقعية ، وعلى هذا الأساس رفض إلقاء اللوم بعد نكسة يونيو 1967 على ضباط الجيش المصري، مشيرا على ضرورة إعادة النظر وبشكل شامل في تركيبة المجتمع المصري كله".

انتهى أبرزما كتبه الصحفي البريطاني مارتن والكر، وتبقى ملاحظة.. أن كتابه " سلطات الصحافة" كانت قد قامت بعرض وتلخيص له مجلة " المجلة" السعودية في يناير 1983، ثم عادت بعد ذلك- نفس المجلة- لتوقف نشر حلقات كتاب هيكل " خريف الغضب" وتقود حملة التشهير به والهجوم عليه بعدها بأربعة شهور.

المهندس " سيد مرعى " واحد من ألمع الوجوه السياسية في مصر قبل الثورة وبعدها فقد بدأ حياته السياسية عضوا في مجلس النواب عام 1944، وبعد قيام الثورة اختاره جمال عبد الناصر لتطبيق أول قانون للإصلاح الزراعي ثم وزيرا للزراعة ونائبا لرئيس الوزراء للزراعة لسنوات عديدة ،

وفى سنوات حكم السادات شغل أكثر من منصب هام: أمين عام الاتحاد الاشتراكي، رئيس مجلس الشعب، كان آخر منصب يشغله في حياة السادات هو مساعد رئيس الجمهورية.

" أوراق سياسية" عنوان مذكرات المهندس سيد مرعى التحى أصدرها عام 1977 شهادة المهندس سيد مرعى في حق هيكل تجيء أهميتها لكونها صدرت وهو القريب من السادات ( بحكم المنصب وعلاقة المصاهرة) مع علمه بخلاف السادات – هيكل.

في الجزء الثاني من المذكرات ( من أزمة مارس إلى النكسة) يروى سيد مرعى ما جرى بعد صدور قوانين يوليو الاشتراكية 1961 ثم الانفصال عن سوريا وإعفائه من الوزارة، وبداية حملة تشهير به واتهامه بأنه المسئول عن كارثة القطن.. ثم محاولة الطعن في نزاهته (ص 441).

يقول سيد مرعى: " وفى هذه اللحظة من التقزز والاكتئاب والمرارة قررت أن ألجأ إلى محمد حسنين هيكل.. إن صداقتي بهيكل تمتد خلفا إلى سنة 1952، وإذا كان البعض له مصلحة أكيدة في تدمير سمعة سيد مرعى فإن هيكل ليست له هذه المصلحة" (ص 442) وزرت " هيكل" في مكتبه في جريدة الأهرام ورويت له الأبعاد الكاملة لحملة التشهيرضدى.

وهنا قال محمد حسنين هيكل : لا .. لا .. عند هذا الحد لابد أن تتوقف الأمور.. أرجوك اكتب لي بيانا بهذه الوقائع ، وسف أنشره لك في الأهرام مهما حدث" .

ويروى سيد مرعى كيف عاد إلى البيت وبدأ إعداد بيان بالحقائق مجردة عندما دق جرس التليفون والمتحدث هو هيكل الذي قال له: إنني اتصلت بالرئيس جمال عبد الناصر ورويت له القصة كاملة وقد تأثر جدا، وأمر بنشر البيان في كل الصحف فأرسله لي بسرعة" ونشر البيان في الأهرام صباح 9 يناير 1962" (ص 443) .

انتهى ما كتبه المهندس سيد مرعى .ويبقى السؤال .. هل كان هيكل في عصر عبد الناصر فوق مستوى النقد ، ومستوى المساءلة؟ هل كان الآخرون يخشون نقده ليقينهم بعمق ما بينه وبين عبد الناصر؟

هل كانت صداقته لعبد الناصر حاجزا لاستحالة توجيه كلمة إليه؟ الإجابة أجدها عبر صفحات الجزء الثالث من مذكرات سيد مرعى، وكانت الناسبة خبرا نشرته الأهرام صباح 9 فبراير 1969، كان الخبر بعنوان " إقرار المالك بالخلو تحت الضغط لا يعتد به" وبعد ثلاثة أيامك بالضبط كان هناك اجتماع للجنة المركزية وحضره عبد الناصر نفسه.

وقال أحد أعضاء اللجنة المركزية: لحساب من ينشر هذا الكلام في الأهرام؟ وهل المقصود بهذا الكلام ضرب المحافظين الثوريين الذين عملوا على استرداد خلو الرجل، أم الاتحاد الاشتراكي وهو التنظيم السياسي الذي وقف وراء هذا العمل وأيده وباركه؟؛ أرجو يا سيادة الرئيس خصوصا بعد أن سمعت من سيادتك أنك متصل بصحيفة الأهرام أن توجه نظر هذه الصحيفة حتى تكون عند حسن الظن، وأطالبك بإجراء تحقيق حول هذا الموضوع حتى نضع الأهرام في مكانها الصحيح ملكا للشعب وتحت إدارته. وتعمل لصالح الشعب؟

وهنا رد الرئيس جمال عبد الناصر على العضو بقوله:والله أنا تقريبا الكلام اللي أنت قلته ده.. أنا قلته لحسنين هيكل بالكامل وأنا برضه بأعتقد أن فيه رجعيين في الأهرام ولكن أنا معاك.. الأخ ضياء الدين داود بيحقق في هذا الموضوع بالنسبة للأهرام؛؛ وبعدين مش عاوز تجيبوا سيرة علاقتي بالأهرام وألا أقطعها:

وأنا بأعتبر هذا ويمكن أنا مش عايز أدى الكلمة لرئيس تحرير الأهرام ، وأسيبه يتعامل مع الأستاذ ضياء داود . ويختم سيد مرعى الرواية قائلا " ص 589":

التحقيق مع محمد حسنين هيكل

- وهكذا إذا تقرر التحقيق مع محمد حسنين هيكل .

محمد أحمد فرغلى " باشا" ملك القطن قبل ثورة يوليو وأحد مليونيرات ذلك العصر، والاسم الرنان في عالم المال والاقتصاد، وستون عاما في كواليس ودهاليز السياسة والاقتصاد في مصر، عرف فيها مئات الأسماء التي شاركت كل بقدر في صياغة تاريخ مصر من سعد زغلول إلى انور السادات مرورا بالنحاس باشا وعبد الناصر من طلعت حرب إلى عزيز صدقي ومن مكرم عبيد إلى سيد مرعى. • أصدر ملك القطن مذكراته التي جعل عنوانها" عشت حياتي بين هؤلاء" والتي كانت مثار تعليقات واهتمامات العديد من كل الاتجاهات. في هذا الكتاب يخصص فصلا بكامله( 10 صفحات) عن هيكل. ويروى كيف وقف معه في أحلك اللحظات بعد قرارات التأميم والحراسة التي لحقت به.

يقول فرغلى باشا: من الأشياء التي تؤخذ على الأستاذ هيكل قول البعض أنه شارك في معظم السياسات الخاطئة التي حدثت في عهد الرئيس عبد الناصر.. وأنى أعتقد مخلصا أن العكس هو الصحيح، فأنا أعتقد أنه شارك بقدر كبير في تصحيح مسار سياسات خاطئة، بل أنه كان عاملا للإجراءات الاستثنائية التي حدثت في تلك الفترة، وأنى لعلى علم كامل بوقوفه بجانب الكثيرين ممن أضيروا بالثورة،

وساعدهم بإخلاص واقتناع ودون انتظار حتى لكلمة شكر؛ وإني لأذكر جيدا كيف وقف بجواري في محنتي دون سابق معرفة بيننا كما أعرف أنه ساعد " أحمد عبود باشا " في محنته ليسافر إلى الخرج للعلاج، ولم تكن مساعدته هذه مخالفة للقانون، بل على العكس كانت محاولة منه لأن يسود قانون الرحمة والعدل.

كان من الطبيعي أن يكون في الصحافة وفى السلطة من يضمرون له الكراهية أو حتى الشر له، وهذا أمر إنساني، وطبيعي ساعد على وجوده صعوده ونجاحه، وقربه من الرئيس عبد الناصر وثقة الرئيس فيه.

ومن المعروف أنه كان يوجد تليفون مباشر يربط مكتب الأستاذ هيكل بالرئيس عبد الناصر، وكثيرا ما كان الرئيس يطلبه أثناء وجودي في زيارته. عنها كنا أهم بالخروج أتركه على حريته، لكنه كان يومئ برأسه مشيرا لي كي أبقى، وأحيانا كانت تطول المكالمة لتصل على ساعة؛ ثم يروى فرغلى باشا حكاية لها دلالتها فيقول:

من ألأحداث التي ضايقتني وذهبت أقصها على الأستاذ هيكل، أن أحد الأصدقاء كان حاضرا في اجتماع مع أحد الوزراء في ذلك الوقت وهو د. لبيب شقير.. واقترح هذا الصديق على الوزير اقتراحا جاء فيه: لماذا لا نستفيد بعلم وخبرة فرغلى في مجال القطن عن طريق إعطائه وظيفة مناسبة وبذلك نحقق هدفين: نستفيد بخبرته،ونعمل على إخراجه من ضائقته المالية التي نجمت عن التأمين والحراسة .

فما كان من د. لبيب شقير إلا أن رد عليه بقوله: - يا سيد يبيع نجفة من بيته، ويعيش بها لمدة سنة؛ وعندما استمع الأستاذ هيكل لهذه الحكاية بدأ على ملامحه أنها لم تعجبه، وبعد تفكير قال لي :

-وهل تعتقد أن وزراءنا لا ينطقون بسخافات في بعض الأحيان؟

• حافظ محمود شيخ الصحفيين، وعجوز الصحافة الدائم الشباب والذاكرة القوية التي لا تشيخ ونقيب الصحفيين لثلاث دورات، عبر حوار طويل( 8 ساعات) ، روى لي واقعة محددة وكان يشغل وقتها منصب نقيب الصحفيين. • • قال الأستاذ حافظ محمود : في أواخر عهدي بنقابة الصحفيين في فبراير 1967 دعوت لإقامة مؤتمر للصحفيين العرب في القاهرة يناقش موضوع " استخدام البترول في المعركة " – وأبلغت من جانبي مسئولي الاتحاد الاشتراكي بهذا الموضوع ، ويبدو أنهم استنكروا ذلك، وإذا بى أفاجأ قبل موعد انعقاد المؤتمر بحوالي 24 ساعة بأن هناك تعليمات صادرة بإغفال أية إشارة عن هذا المؤتمر في وسائل الإعلام والصحافة. • كانت كل الوفود الصحفية العربية قد وصلت وأنا في حيرة من أمري تماما لا أدرى ماذا أفعل وماذا أقول لهؤلاء الناس، وضاقت الدنيا في وجهي وأخذت أسير في الشارع دون هدف.. وفجأة وجدتني أمام مبنى الأهرام.. حكيت له كل ما حدث وفوجئت بهيكل يقول لي :

يقال إن دعوة نقابة الصحفيين لهذا المؤتمر لم ينظر إليها نظرة جدية وأن أحدا من الوفود الصحفية العربية لم يلب هذه الدعوة؛

وقلت لهيكل: إذا لمتكن واثقا فيما قلته لك يمكنك الاتصال بالفندق الذي يقيم فيه أعضاء الوفود لتتأكد إذا كانوا قد وصلوا أم لا ؟

المهم أن هيكل تأكد من صدق كلامي وقام بإبلاغ جمال عبد الناصر بكذب وعدم صحة المعلومات التي وصلته عن المؤتمر .. وأبلغني هيكل أن الرئيس عبد الناصر قرر شفويا أن يقوم التليفزيون العربي جلسة افتتاح المؤتمر على الهواء مباشرة ليراها الرئيس بنفسه.. وإذا وجدت جدية في هذا المؤتمر فسوف يحضر بنفسه الجلسة الختامية للمؤتمر.

وجاءت جلسة الافتتاح بمثابة مظاهرة صحفية ضخمة.. وشيء لم يسبق له مثيل.. وفى مساء نفس اليوم قابلني هيكل وأبلغني أن عبد الناصر أمر بإلغاء الحظر الاعلامى المفروض على المؤتمر، وقرر أن تكون الجلسة الختامية للمؤتمر وسيحضرها عبد الناصر وحضر عبد الناصر وعارف وقمت بتقديم الوفود الصحفية له، وشكرنا جميعا.

وطلب منى بوصفي نقيبا للصحفيين الحرص على عقد مثل هذه المؤتمرات بصفة مستمر.. وقال لي أمام عارف وكان هيكل يتوسطنا: هذا أعظم تجمع صحفي شاهدته في حياتي يا حافظ.

• أعود إلى كتاب " عبد المجيد فريد" من محاضر اجتماعات عبد الناصر العربية والدولية 67- 1970 الذي صدر عام 1979. والمعروف أن المؤلف كان يشغل منصب أمين عام رئاسة الجمهورية منذ عام 1959 حتى عام 1970، واعتقل ضمن مجموعة (15) ومكث في السجن 42 شهرا. • في فصل عنوانه " مصالحة مع فيصل" يروى الكاتب" نص" ما دار بين عبد الناصر والوفد السعودي بشأن هيكل ( ص 192) قال الملك فيصل: موضوع آخر أحب أن أصارحكم به وهو ما تنشره أحيانا بعض أجهزة الإعلام عندكم وخاصة جريدة الأهرام ورئيس تحريرها هيكل، ويقال عنه إنه الناطق الرسمي باسمكم وهذا ليس تقديري الشخصي، ولكن هذا ما تردده الإذاعات والصحف العالمية وأيضا ما يردده بعض رؤساء الدول والوزراء.

عبد الناصر: الأهرام إحدى صحف مصر ولا تمثل رأيي شخصيا بل كثيرا ما يكتب فيها في صفحة القسم العربي آراء المسئول عن هذا القسم " زكريا نيل" وهى تختلف كثيرا عن رأيي الشخصي. • وردا عن سؤال من الأمير نواف بن عبد العزيز قال عبد الناصر بوضوح شديد :

الحقيقة أن الجريدة التي تمثل الحكومة عندنا هي " الجمهورية " ولكن الأهرام جريدة واحدة ورئيس تحريرها" هيكل" أنشط صحفي في مصر ويبذل جهدا كبيرا في عمله ، ويبقى يوميا في مكتبه 12 ساعة.

أين الحقيقة بالضبط في علاقة الأستاذ الكبير محمد حسنين هيكل بالرئيس جمال عبد الناصر؟

إن هيكل كتب مرة يصف هذه العلاقة بقوله" صداقة الحظ والشرف ؛ وفى كل كتابات هيكل يؤكد المرة بعد المرة أن علاقته بعبد الناصر تعود إلى أيام حرب فلسطين 1948.. وحتى قبل قيام الثورة كان قد التقى به مرات وتحدثا معا وتناقشا في كل الأمور.. و.. و..

ولكن كتابات هيكل نفسها تزيد الأمور غموضا وتغلفها بالحيرة.. لقد تحدث هيكل بإسهاب شديد عن واقعتين قابل فيهما عبد الناصر : يوم حريق القاهرة 26 يناير 1952 ويوم 18 يوليو 1952 في بيت محمد نجيب؛؛

الحقيقة فيما كتب محمد حسنين هيكل

فأين الحقيقة فيما كتب هيكل؟

سئل الأستاذ محمد حسنين هيكل صيف عام 1971: هل كان في استطاعتك تحقيق هذا النجاح لو لم يكن لك ذلك المركز الممتاز عند الرئيس عبد الناصر؟؛ كان صاحب السؤال هو الصحفي الراحل " سليم اللوزى" رئيس تحرير مجلة "الحوادث " والذي جاء وقتها ليكتب عدة تقارير صحفية من القاهرة بمناسبة إجراء انتخابات نقابة الصحفيين المصريين بعد شهر من أحداث مايو 71 وكان عنوانا ما نشره سليم اللوزى وقتها( أزمة الصحافة في مصر)

وكان الأستاذ هيكل أحد الأسماء البرزة التي تحدثت في هذا الموضوع ، وقال ردا عن السؤال السابق ما يلي بالحرف: من الذي صنع لي مركزي عند عبد الناصر "؛ شيء واحد هو قدرتي على خدمة الهدف العام الذي كان يسعى إلى تحقيقه ، ليس هناك أي سبب آخر، قبل الثورة لم نكن أصدقاء( لاحظ دقة الألفاظ ودلالتها التي يستخدمها الأستاذ هيكل) لم أكن أعرفه إلا قبل 3 و 4 أيام من قيام ثورة 23 يوليو.

لم أكن أقرب الناس إليه . كان هناك غيري أقرب ، كان هناك أحمد أبو الفتوح ، وكان هناك إحسان عبد القدوس . وكان هناك حلمي سلام. كذلك لم أكن واحدا من الضباط الأحرار.. وأي حيز أخذته من تقديره مرجعه شيء واحد هو قدرتي على خدمة الهدف العام الذي كان يسعى إلى تحقيقه ، ليس هناك أي سبب آخر، قبل الثورة لم نكن أصدقاء( لاحظ دقة الألفاظ ودلالتها التي يستخدمها الأستاذ هيكل) لم أكن أعرفه قبل 3و 4 أيام من قيام ثورة 23 يوليو.

لم أكن أقرب الناس إليه. كان هناك غيري أقرب ، كان هناك أحمد أبو الفتح، وكان هناك إحسان عبد القدوس . وكان هناك حلمي سلام. كذلك لم أكن تكن واحدا من الضباط الأحرار.. وأي حيز أخذته من تقديره مرجعه شيء واحد هو قدرتي على خدمة الهدف الذي يسعى إليه " الحوادث 25 يونيو 1982".

ولا تحتاج كلمات الأستاذ هيكل إلى إيضاح أو تفسير : فاعترافه يعنى على الفور أنه لم يكن يعرف عبد الناصر إلا قبل قيام الثورة بثلاثة أو أربعة أيام لا أكثر ولا أقل.. والمؤكد طبقا لكلماته أيضا : قبل الثورة لم نكن أصدقاء " أي عبد الناصر وهيكل".

واذكر أنني سألت الأستاذ حلمي سلام صيف عام 1985 عندما كنت أعد ذكرياته للنشر بمجلة " صباح الخير" الرأي في إجابة هيكل السابقة.. أنه قال لي : لقد بدأت علاقتي بعبد الناصر عام 1949 عن طريق الضابط " معروف الحضري".

وفى صباح يوم الأربعاء 23 يوليو 1952 وبعد أن استمعت إلى بيان الثورة الأول بصوت أنور السادات،

نزلت إلى كوبري القبة ودخلت مركز القيادة. ولكن ما لفت نظري بالفعل أنني بعد ثلاثة أيام تقريبا قابلت على الرصيف " بجوار مقر القيادة" الأستاذ هيكل وسألني على فين؟ فقلت: على القيادة ؛ فقال لي جملة لن أنساها: أنا كنت لسه هناك بس مش مستريح؟ سألته: ليه؟

قال يبدو أن هناك أكثر من رأس.. وقالها بالانجليزية ولو كان هيكل وقتها يعرف بالتحديد أن جمال عبد الناصر هو الرأس الكبير لما قال لي الجملة السابقة، وإذا كان الأستاذ هيكل كما يردد دائما أنه كان يعرف جمال عبد الناصر قبل 23 يوليو- وقد كنت أعرفه جيدا- لما احتاج الأمر أن يختار ويقول: فيه أكثر من رأس.

• 26 يناير 1952 يوم لن تنساه ذاكرة مصر ففي ذلك اليوم احترقت القاهرة وبات واضحا أن النظام وقتها أصبح عاجزا عن حماية نفسه وحماية شعبه. وبالتالي فقد شرعيته ومشروعية بقائه. • • في ذلك اليوم أيضا يروى هيكل أنه التقى مع عبد الناصر وسارا وتحدثا معا. رو هيكل هذه الواقعة مرتين بأسلوبين مختلفين وملابسات أكثر اختلافا .في المرة الأولى – وكان يجيب عن سؤال للصحفي صلاح عيسى يسأله متى بدأت علاقتكما تحديدا- قال هيكل: وكانت المرة الرابعة يوم حريق القاهرة في 26 يناير وقد التقيت به في الطريق مصادفة وسرنا معا في شارع فؤاد. 26 يوليو الآن ( مجلة الموقف العربي 7/10/84 قبرص). • وإذا كانت هذه هي المرة الرابعة – كما يقول هيكل- التي يقابل فيها عبد الناصر، فإنه لم يقل لنا من كانوا شهود ذلك اللقاء؟ أو على الأقل ماذا جرى فيه؟

والحقيقة أن المرة الوحيدة التي ذكر فيها جمال عبد الناصر أين كان يوم 26 يناير وماذا فعل يومها..؟ كان في خطاب له يوم 3 ديسمبر 1961 وكان يرد فيه على أحد أعضاء اللجنة التحضيرية للمؤتمر الوطني للقوى الشعبية حيث قال بالنص:

"... يوم 26 يناير سنة 1952 نزلت بالليل (لاحظ التوقيت) فى عربة ومررت على وحدات الجيش هنا في القاهرة، وكانت النار مندلعة وكان التجوال ممنوعا. وكان معي في العربة صلاح سالم. كان عندنا اجتماع يومئذ. اجتماع لما سمى بعد ذلك بمجلس الثورة. وبعد الاجتماع نزلنا لنتصل بأكبر عدد من الضباط لنقول لهم. على قدر المكان لا تضربوا في الشعب".

ونفهم من كلمات جمال عبد الناصر أنه طوال النهار لم يغادر المكان الذي كان متواجدا به" وربما كان البيت" وأنه لم ينزل إلى الشارع إلى في الليل.

وعلى أية حال إن الأستاذ هيكل يعود في كتابه " بين الصحافة والسياسة" ليروى واقعة لقائه بعبد الناصر على النحو التالي"ص 42 43".

"... وصباح يوم 26 يناير 1952 اتصل بى الأستاذ أحمد حسين زعيم الحزب الاشتراكي- مصر الفتاة سابقا- يسألني ماذا أفعل في مكتبة والشارع المصري يفور ويغلى؟ ونزلت ، فإذا الظروف تتيح لي متابعة حريق القاهرة من اللهب إلى الرماد.

وإذا بين من ألقاهم وسط الدخان البكباشي جمال عبد الناصر الذي كنت قد التقيت به لأول مرة في عراق المنشية أيام حرب فلسطين.. ويوم حريق القاهرة كان قد نزل (يقصد عبد الناصر) مع غيره من الضباط إلى شوارع العاصمة المشتعلة بالنار بعد أن عجز البوليس عن السيطرة على الموقف.

ومن ثم اقتضت الأمور نزل الجيش"في هذه الرواية لم يقل لنا هيكل أنه سار مع عبد الناصر. كما قال في المرة الأولى، ويبدو من رواية هيكل أن ألأستاذ أحمد حسين هو الذي نبهه إلى احتراق القاهرة في ذلك اليوم قائلا له: ماذا تفعل في مكتبك والشارع المصري يفور ويغلى؟ .

وأنتقل بكم إلى شهادة أحمد حسين (اتهمته النيابة بحرق القاهرة في القضية رقم 143 لسنة 1952 عسكرية عليا) ولكن ماذا فعل بالضبط في ذلك اليوم ؟ ومن الذي اتصل بهم واتصلوا به؟ .. وهل كان هيكل أحد الذين اتصل بهم؟ يقول أحمد حسين : في ذلك اليوم كانت حرارتي مرتفعة وملازما الفراش..

وحضر إلى منزلي " إسماعيل عامر" مدير الجريدة الزى تولى إحضار العلاج.. وزارني بعض الأهالي من الذين لا علاقة لهم بالسياسة مثل الشيخ الجوهري والسيدة زوجته واللذين بقيا معي حتى آخر اليوم . كما اتصل بى أصدقاء كثيرون لما قرأوا في الصحف إني معتكف كالشيخ على الغاياتى والأستاذ حافظ محمود وآخرين.. المهم بدأت التليفونات ترن.. فسمعت عن مظاهرة بلوكات النظام.. وعندما علمت بهذه المظاهرة قلت:

عساكر دى تبقى ثورة.

أحسست أن في الخبر رائحة خطر.. فاتصلت بعلي ماهر" اختارته الثورة رئيسا للوزراء بعد قيامها بـ 24 ساعة" في منزله وقلت له: البلد في حالة خطيرة إلحق يا باشا قابل الملك لازم الوزارة الوفدية " كان مصطفى النحاس رئيسها وفؤاد سراج الدين وزير الداخلية" وأنت تؤلف الوزارة الجدية كي تهدأ البلد.. ورويت له ما سمعته .

لأنه لم يكن يعلم بما يحدث " تماما مثل الأستاذ هيكل" بعد نصف ساعة اتصل بى على ماهر وقال لي: إنه لم يجد حافظ عفيفي " رئيس الديوان الملكي وقتها" وسألني عن أخبار جديدة، فرويت له ما كان قد تجمع لدى من معلومات.

أدركت أن الموقف يزداد خطورة فاتصلت بإبراهيم شكري" رئيس حزب العمل المعارض الآن" في شربين وطلبت منه الحضور إلى القاهرة ليتصرف لأنني مريض وكنت قد اتصلت قبل ذلك بإدجار جلاد صاحب جريدة " الزمان" ومصطفى أمين صاحب أخبار اليوم وقلت لهما ما قلته لعلى ماهر.

وفى الساعة الرابعة كان قد أصبح واضحا أن الخطر شديد جدا ,أحسست بالخطر يقترب منى، فقررت الخروج من البيت والاختفاء " ص 730 و 731 من كتاب الأستاذ جمال الشرقاوي واسمه حريق القاهرة قرار اتهام جديد طبعة 1976 ".

والعودة إلى مذكرات أحمد حسين التي صدرت في فبراير 1953 بعنوان " في ظلال المشنقة" لا نجد فيها ما يزيد على التفاصيل والأسماء السابقة، ولا نعثر على اسم " محمد حسنين هيكل" في حوار صلاح منتصر معه عاد ليقول في سطر واحد ما يلي: قابلته مرة أخرى- أي عبد الناصر- يوم حريق القاهرة في الشارع . ص 38 " مجلة أكتوبر 5 يونيو 1988"

ورغم أن " هيكل" كان قد أدلى بحوار طويل إلى فؤاد مطر " رئيس تحرير مجلة التضامن الآن" وصدر في كتاب عنوانه " بصراحة" عن عبد الناصر : حوار مع محمد حسنين هيكل " 230 صفحة" وفى الفصل الأول من الكتاب ( 18 صفحة) وعنوانه " من اللقاء الأول إلى ليلة الثورة" وروى فيه قصة تعرفه على عبد الناصر ابتداء من حرب فلسطين ، لم يشر على الإطلاق إلى واقعة لقاء عبد الناصر يوم حريق القاهرة في 26 يناير 1952.

عندما كتب أنور السادات " قصة الثورة كاملة" في كتاب عام 1956 جاء ذكر اسم الأستاذ هيكل مرة واحدة وعندما أصدر السادات " البحث عن الذات" عام 1978 لم يذكر السادات اسم هيكل ولا مرة .

ولكن ما المناسبة التي أملت على السادات أن يشير إلى هيكل عندما نشر قصة الثورة وكانت قبل طبعها في كتاب قد نشرت مسلسلة في جريدة الجمهورية؟

يقول السادات : في 20 يوليو أي قبل الثورة بثلاثة أيام، توجه جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر إلى بيت محمد نجيب بأنه الزعيم والقائد ومحرر البلاد الذي سيقلب نظام الحكم.. وطرق العملاق " يقصد عبد الناصر" باب البيت.

وكان عند نجيب البكباشي جلال ندا( المحرر العسكري بأخبار اليوم وقتها) والصحفي محمد حسنين هيكل .

وكانت الأنظار قد اتجهت إلى نجيب في ذلك الوقت بعد أزمة مجلس إدارة نادي الضباط. وربما ظن أن الاثنين جاءا لمواساته بعد حل مجلس إدارة النادي ولتشجيعه كالعادة .. وتظاهر جمال وعبد الحكيم أنهما جاءا للاستفسار عن صحة اللواء..

وبدأ الحديث في موضوع آخر غير موضوع" الثورة" فلا أحد في الحجرة كان يعلم ماذا في رأس جمال وعبد الحكيم ، ولا أحد في الحجرة- حتى نجيب- كان يتخيل أنهما جاءا ليقولا لنجيب أيها القائد: أنت زعيم الشعب.ص 77.

ويضيف السادات : والحديث الذي دار كان حول موضوع نادي الضباط.. حول التصرف الذي يمكن أن يحدث بعد حل مجلس إدارة النادي.. وقال جمال – إحنا عاوزين نرفع قضية أمام مجلس الدولة ومحتارين مين اللي يرفعها؟ وقال جلال ندا: إنه مستعد أن يرفع القضية باعتباره ضابطا على المعاش وعضوا في النادي.

ومضى جمال حتى نهاية الشوط فأخرج ستة جنيهات وأعطاها لجلال ندا كمصاريف للقضية ولم يتمكن جمال وعبد الحكيم من الانفراد بنجيب وكان عليهما أن يتظاهرا أمام( ندا وهيكل) بأنهما ما جاءا إلا للاستفسار عن صحة نجيب.. وظلا جالسين فترة طويلة.. والحديث يدور حول نفس الموضوع .

وحول القضية التي سيرفعها جلال ندا أمام مجلس الدولة.. وأخيرا لم يجد جمال وعبد الحكيم بدا من الانصراف.. دون أن يفاتحا " نجيب " في مسألة الثورة.. وهو كان لا يدرى ماذا في رأسيهما. " ص 78"

وفيما بعد سيكتب السادات " البحث عن الذات" ولن يذكر شيئا عن هذه الواقعة ولا وقائع أخرى أكثر خطورة وأهمية.

ولكن ماذا تقول رواية اللواء محمد نجيب حول هذه الواقعة بالتحديد .. وما الحوار الذي جرى في بيته. وكان أطرافه عبد الناصر وعامر، وشهوده هيكل وندا.. وما أوجه الاختلاف والاتفاق في روايته والرواية التي حكاها السادات؟

في البداية يروى نجيب ماذا جرى يوم 18 يوليو.. وكيف ذهب لمقابلة / محمد هاشم باشا " وزير الداخلية وزوج بنت حسين سرى ، وكيف اقترح عليه محمد هاشم أن يقبل التعيين في منصب وزير الحربية لإزالة أسباب التذمر بين الضباط ورفض نجيب العرض.

وفى الصباح – 19يوليو- يروى لنا نجيب ما جرى وقتها على النحو التالي:

قبل أن أخرج من المنزل حضر الصاغ جلال ندا" الضابط السابق الذي كان يعمل محررا عسكريا بدار " أخبار اليوم" ومع محمد حسنين هيكل رئيس تحرير آخر ساعة( وقتئذ) لسؤالي عما تم في مقابلتي مع محمد هاشم وزير الداخلية واستبدت بى الدهشة عن سر معرفة المقابلة( على أن هذا يعنى أن مصطفى أمين كان يعرف هذا الخبر،

بل أنني أشك أن المقابلة التي تمت بيني وبين محمد هاشم لم تتم في بيته وإنما في بيت مصطفى أمين) وكنت أعرف محمد حسنين هيكل ، فقد كان مراسلا حربيا أثناء معركة فلسطين( 1948) حضر لتغطية الموقف عقب معركة " أسدود" كما أنى عرفته بالمحامى " عبد الحميد صادق الذي كان يصرف من جيبه الخاص على كتائب الفدائيين في معركة الكفاح المسلح ضد الانجليز بالقناة عام 1951 وذلك ليعمل تحقيقا صحفيا عن الفدائيين".

وأثناء جلستنا فوجئت بحضور البكباشي جمال عبد الناصر والصاغ عبد الحكيم عامر على غير موعد ولما وضح من حركتهما أنهما يريدان أن يسرا إلى بشيء ما، أخذتهما من الصالون إلى غرفة الطعام المجاورة ولكن بعد أن طلب هيكل أن أقدمه لهما.

وكان لقاؤه الأول لهما. " ص 38". وأصل بكم إلى الشهادة الثالثة وهى لجلال ندا" نفسه" والشهادة جاءت ضمن حوار صحفي نشر في مجلة " النصر" في ذكرى مرور عامين على رحيل جمال عبد الناصر.

يقول جلال ندا: في 18 يوليو عام 1952 بالتحديد.. وكنت وقتها أعمل محررا عسكريا بأخبار اليوم ، كلفت أن أذهب أنا والأستاذ " هيكل" لمقابلة اللواء محمد نجيب لمعرفة موقفه من عرض الوزير محمد باشا هاشم له بمنصب وزير الحربية ( نلاحظ أن جلال ندا استخدم لفظ " كلفت" بصيغة المبنى للمجهول ولم يقل لنا من الذي كلفه؟ وهل كان مصطفى أمين كما قال محمد نجيب . وهل كان ذكر اسم مصطفى أمين وقتها- 1972- ممنوعا حيث كان مسجونا بتهمة التجسس؟)

ويضيف جلال ندا: ولما وصلنا ( هو وهيكل) إلى منزل اللواء محمد نجيب في هذا اليوم كان عنده اليوزباشي حسن فهمي حافظ( لم يذكر لنا السادات أو نجيب هذا الاسم في شهادتيهما) وبعد وصولنا بلحظات وصل البكباشي جمال عبد الناصر وبعض الضباط الأحرار" هل كان اسم عبد الحكيم عامر ممنوعا هو الآخر من كتابته؟

وقلت للواء محمد نجيب : أنا النهاردة رفعت القضية وسألني جمال عبد الناصر على الفور: قضية إيه؟ فقلت له: قضية أمام مجلس الدولة بخصوص حل مجلس إدارة النادي: فقال لي:

أتكلفت كام؟ فقلت له: أنا دفعت كل حاجة. فقال : لا .. إحنا بنجمع فلوس علشان الحاجة دى. فقلت له: ست جنيهات . فما كان منه إلا أن أعطاني المبلغ حتى استمر في متابعة الدعوى.. بعد هذه المقابلة بأيام قامت الثورة .. وأعاد لي المحامى مبلغ خمسة جنيهات لأن القضية لم تتكلف غير جنيه واحد قيمة الإنذار .. " مجلة النصر ص 35".

من القراءة الدقيقة والمتأنية للشهادات الثلاث السابقة يتأكد لنا:

1- طبقا لرواية السادات فإن هيكل لم يتحدث أو يشارك في الحوار الذي دار بين جمال عبد الناصر وجلال ندا.

2- طبقا لرواية نجيب فإن هيكل طلب منه أن يعرفه بعبد الناصر حيث كانت المرة الأولى التي يراه فيها.

3- طبقا لرواية جلال ندا فإن هيكل لم نسمع منه شيئا، وأن الحوار كله كان بين عبد الناصر وجلال بشأن أتعاب القضية.

والآن اقترب بهدوء شديد من شهادة الأستاذ محمد حسنين هيكل حول واقعة لقائه بعبد الناصر في بيت اللواء محمد نجيب فماذا سيقول لنا هيكل؟

في أول كتاب صدر له بعد وفاة عبد الناصر وكان اسم الكتاب " عبد الناصر والعالم" دار النهار 1972 " لا نجد ذكرا لهذه الواقعة على الإطلاق .

ولكنه في سطر واحد يقول : " في الفترة ما بين يوم 18 يوليو 1952 إلى 28 سبتمبر 1970 هي فترة كان لي فيها الحظ والشرف بملازمة جمال عبد الناصر والحياة بالقرب منه ومتابعته على المسرح ووراء كواليسه بغير انقطاع" " ص 8".

ولكن هيكل يعود فيؤكد إن هذا اللقاء كان هو المرة الخامسة منذ التقى بعبد الناصر لأول مرة في أغسطس 1948 في عراق المنشية أثناء الحرب العربية الإسرائيلية الأولى" حوار هيكل مع صلاح عيسى".

وأتساءل – ولعلكم تسألون معا- كيف يكون هذا هو اللقاء الخامس بين هيكل وعبد الناصر ولم يتبادل الاثنان كلمة واحدة.. جملة واحدة، ونعود لرواية هيكل كما سجلها فؤاد مطر في كتابه السابق الإشارة إليه: واستغرقت ثلاث صفحات كاملة (78 سطرا بالضبط) " وأرجو من القارئ الصديق أن يلاحظ أن كل ما سوف يرد بين أقواس هو تعليقات وهوامش وإيضاحات وملاحظات مضطرا لإثباتها ولم ترد ضمن شهادة هيكل".

تقول شهادة الأستاذ هيكل عن واقعة لقائه بعبد الناصر في بيت محمد نجيب عندما وصلت إلى منزل محمد نجيب وكان جالسا معه " يوسف منصور صديق" سألته، وكنت من المتضايقين لأسلوب حل النادي: ما الذي ستفعلونه ؟ أجابني محمد نجيب:

سنرفع دعوى أمام مجلس الدولة. " لم يذكر هيكل أنه ذهب وبصحبته جلال ندا المحرر العسكري بأخبار اليوم كما أكدت الروايات السابقة، ثم إنه يشير إلى وجود يوسف منصور صديق، ولم تؤكد رواية واحدة تواجده فى ذلك اليوم".

يضيف هيكل: فئ هذا الوقت دخل منزل محمد نجيب شخصان الأول كان جمال عبد الناصر ومعه شاب يرتدى قميصا أبيض وبنطلونا رماديا عرفت في حينه أنه عبد الحكيم عامرالذى لم أكن قد تعرفت إليه وتردد عبد الناصر في الدخول" ولما كان لا يريد التحدث مع محمد نجيب أمام أحد" طبقا لكلام هيكل فلا أحد غريب سوى هيكل نفسه لأن يوسف منصور صديق كان يعرف عبد الناصر منذ أكتوبر 1951" فإنه أشار على نجيب وغادرا المكان معا يرافقهما عبد الحكيم عامر وبعد نحو ربع ساعة عادوا..

ودارت مناقشة بيني وبين جمال عبد الناصر قلت مستفزا: إذا كان الجيش لم يتمكن من الدفاع بالقدر الكافي عن البلد فعليه على الأقل أن يدافع عن نفسه وعن كرامته ورد عبد الناصر : ما الذي يمكن أن يفعله الجيش ؟ أجبته: لا أدرى.. وإنما من المهم بعد الذي فعله الملك ( المقصود حل نادي الضباط) أن يدافع الضباط عن أنفسهم وكرامتهم؟

ويمضى هيكل في روايته ويشرح كيف أن عبد الناصر سأله هل يقوم الجيش بانقلاب؟ ورد هيكل إنه ليس مع فكرة القيام بانقلاب.. فعاد عبد الناصر يسأله : ما الذي نفعله إذن؟

يقول هيكل: أتذكر أنني عرضت فكرة ساذجة قلت له ما الذي يمنع من أن يتوجه " ألف" ضابط إلى السراي ويكتبوا في سجل الزيارات أن الموقف تردى وأنه لابد من معالجة هذا الموقف ص 19 " في حديث هيكل لصلاح عيسى قال بالنص: اقترحت أن يذهب 200 ضابط إلى قصر عابدين ويكتبوا أسماءهم في سجل التشريفات مطالبين بتغيير في أوضاع البلاد".

وأتذكر أن عبد الناصر رد على هذه الفكرة بقوله: هذا سيعتبر عصيانا وكأننا بهذه الفكرة نقول علانية إننا نحن ضباط الجيش سنقوم بانقلاب. وعدت أقول: أنا شخصيا ضد الانقلاب ولكن لابد من حدوث شيء. وأجابني: أنت تكتب في السياسة، هل لك أن تحدد لي ما الذي يمكن أن يفعله الجيش. وكان عبد الحكيم عامر يسمع المناقشة دون أن يشارك فيها،

أما محمد نجيب فقال: إنه في صدد إعداد مذكرة تمهيدا لرفع دعوى لدى مجلس الدولة وأن رفع الدعوة سيكلف ثمانية جنيهات. وأتذكر أنه مد يده إلى جيبه فوجد فيه ستة جنيهات أعطاها لمحمد نجيب "ص 19" بشهادة السادات فإن عبد الناصر هو الذي اقترح فكرة رفع الدعوى ووافق عليها جلال ندا فأعطاه عبد الناصر ستة جنيهات كمصاريف.. وطبقا لشهادة جلال ندا فإنه رفع القضية بالفعل.

وعندما أخبر محمد نجيب بذلك تساءل عبد الناصر بدهشة: قضية إيه؟ فلما عرف موضوع القضية دفع لجلال ندا الستة الجنيهات". يضيف هيكل : تحدثنا عشر دقائق بعد ذلك وغادرت منزل نجيب لأركب سيارتي " أوبل كابينتان لونها أسود" وأعود إلى مكتبة، وعلى زاوية الشارع لمحت جمال عبد الناصر وعبد الحكيم عامر واقفين. كما لو أنهما في انتظار أحد أو في انتظار سيارة تاكسي، وقلت لهما: هل تريدان أن أوصلكما؟ وسألني عبد الناصر: إلى أين أنت ذاهب؟ قلت: إلى وسط البلد وركب الاثنان سيارتي " ص 19".

ولكن " هيكل " كان قد روى هذه الواقعة بشكل مختلف تماما لمجلة الدستور الأردنية عام 1973 في حوار طويل استغرق 7 صفحات مع الصحفي اللبناني" على بلوط" وكانت سطور رواية هيكل كما يلي: تركت منزل محمد نجيب بعد خروج عبد الناصر وعامر منه بعشر دقائق ووجدتهما في الخارج يحاولان إدارة محرك سيارة عبد الناصر" ألوستن" الصغيرة والعتيقة..

وقتها كنت أملك سيارة " أوبل" سوداء اللون.. سرت قبلهما باتجاه القاهرة وسارا خلفي وعند محطة بنزين القبة وقفت لأتزود بالبنزين فوقفت بدورهما السيارة الأوستن، نزل منها عبد الناصر ثم اتجه نحوى وقال لي: لماذا لا تعطونا اقتراحات سلمية؟ لو حصل أي شيء فإن الانجليز سيتدخلون .

قلت له: لا اعتقد أن الانجليز في وضع يسمح لهم بالتدخل . قال متسائلا: على أي شيء تبنى اعتقادك هذا ؟ ورحت أشرح له باختصار أن وضع الانجليز في القناة بالإضافة إلى الأمور الداخلية في مصر لا يسمح لهم بالتدخل..

ولأول مرة لاحظت لمعانا في عيني عبد الناصر وسرعان ما قال لي دون أن يبدى رأيا فيما ذكرته : أنت رايح فين؟ أخبار اليوم.. ثم سألني أين أسكن؟ وما عنواني؟ وما رقم التليفون؟ فأعطيته كل ما طلب. " انظر مقال جمال حماد مجلة أكتوبر 24/7/1988".

ونعود لشهادة هيكل لفؤاد مطر " ص 20" حيث يقول:

كان ذلك يوم 18 يوليو 1952 وفى اليوم التالي اتصل عبد الناصر هاتفيا وقال : أنا الذي التقيت بك أمس هل تذكر؟ وتقابلنا يوم 19 يوليو جاءني عبد الناصر وبدأ الحديث في قضايا عادية جدا.

حدثني مثلا عن الصحافة وعن المجلة التي كانوا يصدرونها في الفالوجة وعن فلسطين وعما جرى في الفالوجة. تحدث لمدة نصف ساعة ثم وجه سؤالا شعرت أنه الغرض السياسي من زيارته لي.

والمعنى الواضح من السطور السابقة أنه جرى لقاء ثان بين هيكل وعبد الناصر في بيت ألأول عقب اللقاء الذي تم يوم 18 يوليو وهذه الواقعة لا نجدها أبدا في كل ما ذكره هيكل بعد ذلك.

إن هيكل يعود فيقول مؤخرا لصلاح منتصر ما يلي بالنص: أول مرة قابلته فيها بطريقة دقيقة كان يوم 18 يوليو 1952 قبل الثورة بأربعة أيام في بيت محمد نجيب ، " لاحظ أن " هيكل" يتعمد تماما نسيان اسم جلال ندا" وبعد خروجنا من عند محمد نجيب صحبته في سيارتي إلى محطة مصر " كان هيكل قبل ذلك يقول إن عبد الناصر جلس بجواره وجلس عبد الحكيم عامر في المقعد الخلفي" ويومها كنت أتكلم وشرحت كيف أن الانجليز لن يتدخلوا إذا قامت ثورة أوحركة " ص 38 مجلة أكتوبر 5/6/ 1988".

وبعد أربعة أسابيع بالضبط، وفى حوار صلاح منتصر مع عبد اللطيف البغدادي نقرأ تفاصيل أكثر حول الواقعة السابقة: في عدد أكتوبر 3 يوليو الذي أعرفه تمام المعرفة وسجلته في مذكرات الخاصة في ذلك الوقت، أننا بدأنا التحرك يوم 17 يوليو باجتماع ناقشنا فيه ما يجب عمله بعد أن صدر قرار حل مجلس إدارة نادي ضباط الجيش وإغلاقه يوم 16 يوليو، وبعد ما تبين لنا أن فاروق وجهاز أمن الدولة قد تعرفا على بعض أعضاء اللجنة التأسيسية للضباط الأحرار.

ولهذا بدأنا في إعداد أنفسنا لعمل انقلاب عسكري رغم تقدير أن نسبة النجاح لا تمثل أكثر من 20% ولكننا قبلنا المجازفة، ولتحقيق ذلك استقر رأينا على معرفة مدى استعداد محمد نجيب لتولى قيادة الحركة. " ولنقرأ بهدوء شديد السطور التالية" فذهب إليه جمال وعبد الحكيم يوم 19 يوليو- وليس 18 يوليو كما ذكر الأستاذ هيكل ( هذه ملاحظة البغدادي)

ولكنهما عادا إلينا وأبلغانا أنهما وجدا عنده الصحفي محمد حسنين هيكل والضابط جلال ندا، وأنهما- عبد الناصر وعبد الحكيم- لم يتمكنا من مفاتحة نجيب في الأمر " نفس ما رواه لنا السادات في كتابه" وروى لنا عبد الناصر أن " هيكل" سألهما عن رد فعل الجيش بعد إغلاق النادي وحل مجلس إدارته فأجابه عبد الناصر وعبد الحكيم بأنهما لا يهتمان بمثل هذه الأمور وأنهما ذاهبان إلى السينما وغادرا منزل محمد نجيب وركبا سيارة جمال الاوستن وعادا إلينا وقاما بإبلاغنا بالذي حدث لأننا كنا في انتظار إجابة نجيب،

والذي حدث أنه لم يتم الاتصال بمحمد نجيب بعد ذلك إلا ليلة قيام الثورة في الساعة الثالثة صباحا يوم 23 يوليو وطلبنا إليه الحضور وتولى القيادة " ص 46".

والسؤال الآن: كيف يمكن للكاتب الصحفي أن يروى الواقعة الواحدة بأكثر من طريقة وأكثر من شكل؟ ويضيف وقائع ويحذف وقائع ؟ وينسى أسماء.. ويخترع مواقف وأحداثا..

موسى صبري

السادات .. المعارضة .. الغضب

لا يحتاج موسى صبري إلى تعريف أو تقديم.

منذ سنوات طويلة وموسى صبري يشغل دنيا الصحافة والسياسة بمقالاته ومعاركه التي لا تنتهي.

في عصر عبد الناصر أصبح موسى صبري رئيس للتحرير وحدث نفس الشيء في عصر السادات.

وفى الوقت الذي تفرق فيه الأصدقاء والمنتفعون من حول السادات بعد رحيله ظل موسى صبري على نفس الدرجة من الحب الشديد والدفاع الأشد عن السادات: الرجل والموقف.

سألت موسى صبري : ما حكايتك مع أخبار اليوم وأنت القائل : إن عرشي هو مكتبي في دار " أخبار اليوم" وإذا ابتعدت عنه، فإنني لن أعوضه بعرش ملك. فالصحفي لا يصلح لأي عمل آخر غير الصحافة.

قال : حكايتي مع أخبار اليوم بدأت أول يناير 1950، ولكن قبل ذلك ومنذ عام 1947 كنت أعمل سكرتيرا لتحرير جريدة الزمان المسائية التي كان يرأس تحريرها الأستاذ " جلال الحمامصى " وكان الحمامصى قبلها قد قدم استقالته من جريدة " الأساس" .. وفى الزمان تعرفت على الفنان حسن فؤاد الذي كان يتابع بريشته تفاصيل محاكمة اغتيال أمين عثمان المتهم فيها السادات وآخرون.

وكان اتفاق الحمامصى مع صاحب الجريدة" إدجار جلاد" المعروف بصلته الوثيقة بالقصر أن الجريدة مستقلة في سياستها ، ولكن في انتخابات عام 1950، والتي أتى فيها الوفد للحكم ظهر لنا أن الزمان ستؤيد الوفد في هذه الانتخابات..

وقال لنا إدجار جلاد ذلك بوضوح شديد واستقل .. والحقيقة أنها كانت استقالة جماعية على رأسها الأستاذ جلال الحمامصى رئيس التحرير . كنا حوالي سبعة أو ثمانية محررين ، وذهبنا إلى الأهرام ونشرنا جميعا نبأ استقالتنا من الزمان.

في نفس هذه الليلة كان المرحوم كامل الشناوي يقوم بعمل رئيس التحرير في الأهرام، وطلب منى العمل في الأهرام، واختار لي مكتبا بالفعل وحدد لي المرتب الذي أريده وكانت هذه أول مرة أراه فيها.

صباح اليوم التالي اتصل أبى الأستاذ الحمامصى وسألنا ماذا فعلت: فقلت اتفقت مع الأهرام فقال لي: لا .. سوف تعمل في أخبار اليوم ومصطفى بك أمين ينتظرك الساعة 12 ظهر اليوم: فقلت له وأنا مندهش : وعدى للأستاذ كامل الشناوي. قال ببساطة: أنت تعرفه؟ قلت: لا فقال: أنا ها اعتذر له بالنيابة عنك، وسوف يقدر هذه الظروف.

وأذكر أنني كتبت خطاب اعتذار لكامل الشناوي وذهبت في موعدي لمقابلة الأستاذ مصطفى أمين : وقال لي بسرعة: أنا مش ها أقدر أعينك في أخبرا اليوم بأكثر من " 45 جنيه فقط" لأن أحسن محرر عندي وهو " هيكل" مرتبه " 45 جنيه فقط" فسأعينك بنفس المرتب وقلت له: المرتب لا يهم.

وقال لي : ستشتغل محرر برلماني لأخبار اليوم وآخر ساعة

فقلت له: موافق على أخبار اليوم إنما غير موافق على آخر ساعة سألني: ليه.

قلت: ما أحبش أشتغل مع هيكل . سألني بخبث: هل تعرف هيكل ؟

فقلت : لا أعرفه ؟ قال : ما سبب رفضك العمل معه؟

فقلت له: إن عبد الرحمن الشرقاوي زارني في بيتي وقال لي إن " هيكل " قال لهم في الجرنان إن موسى صبري لن يدخل أخبار اليوم.. وابتسم مصطفى أمين.

فعدت أقول له : طب أشتغل مع واحد زى ده إزاى؟ فقال : معلهش يمكن لما تكون محرر أساسي في أخبار اليوم ويجى واحد من برة يبقى من حقك تعترض عليه . فقلت له: ولكن هذا شعور عدائي.

فرد قائلا: ولكنك لا تشتغل لحساب شخص، أنت تشتغل لحساب أخبار اليوم.. وهكذا دخلت أخبار اليوم..

• وجدت نفسي في حيرة ، عندما وجدت مجلة آخر ساعة مسلسلا صحفيا عنوانه " قصة ملكو4 وزارات" بقلم موسى صبري ، كان تاريخ نشر الحلقة الأولى 10 ديسمبر 1952. • • وكان رئيس تحرير آخر ساعة الأستاذ " محمد حسنين هيكل " وسبق أن قال لي موسى صبري عنه : هيكل كرئيس تحرير أناني جدا، كيف يكون الأستاذ هيكل بهذه الأنانية الصحفية وينشر لك تلك الحلقات في آخر ساعة؟ ضحك الأستاذ موسى صبري وقال لي: دى حكاية طريفة قوى، في ذلك الوقت كان هيكل قد سافر إلى أمريكا في رحلة صحفية، وكان المرحوم كامل الشناوي متوليا لرئاسة تحرير آخر ساعة بدلا منه، وأذكر أنه استدعاني إلى مكتبه ذات يوم وقال : أنت لديك ذخيرة سياسية تبددها. • ولم أفهم مغزى كلماته إلا بعد أن قال لي: لقد عايشت يا موسى المسرح السياسي المصري كاملا في الشهور الستة الأخيرة قبل ثورة 23 يوليو، وتابعت أزمات تلك الفترة يوما بيوم وساعة بساعة، ضحك كامل الشناوي بكل جسمه، وقال لي وه يحرضني على الكتابة: ما رأيك في أن تكتبها الآن وأنشرها لك مسلسلة في آخر ساعة؟ ووافقت ،

وأذكر أنني كتبت حوالي عشر حلقات كان عنوان هذه الحلقات هو " قصة ملك و4 وزارات" أسرار حكم مصر من حريق القاهرة.. حتى قيام الثورة.. وكانت المفاجأة أن كامل الشناوي قرر أن يكتب اسمي على الحلقات تسبقه كلمة " بقلم" .. وأن تنشر الحلقات في صفحات الدوبل باج من آخر ساعة أي أهم الصفحات في المجلة.. وعندما عاد هيكل من رحلته.. وكان قد بقى حوالي حلقتين أو ثلاث نشرها في الصفحات الأخيرة المهملة من المجلة.. وصدرت هذه التحقيقات فئ كتاب طبع أكثر من طبعة.

قلت لدى طبعة 1973 من الكتاب التي تقول في إهدائها: أهديها على أساتذتي .. أهديها بكل الحب للغائب حتى يعود وللحاضر نشاركه الرحلة الشاقة.. فمن كنت تقصد بهذا الإهداء؟ قال : كنت أقصد مصطفى وعلى أمين..

لأن وقت صدور هذه الطبعة .. أكتوبر 1973، كان مصطفى أمين مسجونا، وعلى أمين منفيا في لندن.. والحقيقة أن مدير الرقابة وقتها اتصل بى وقال: أنا احترمت هذا الإهداء جدا، رغم أنى فهمت من المقصود به. لكنى احترمت إهداءك وتركته. وإلى كامل الشناوي يعود الفضل الأول في كتابه هذه الحلقات التي تحولت إلى كتاب.

قال: في تلك الأيام كانت هناك أشياء متوقع حدوثها بين لحظة وأخرى: أنا في ذلك الوقت كنت في الإسكندرية وكان حسين سرى باشا قد بدأ مشاوراته لتشكيل الوزارة. وكنت مقيما عنده بصفة دائمة وخبأني في إحدى غرف منزله وحضرت تشكيل الوزارة الذي استمر أربعة أيام. كان حسين سرى في خلاف شديد مع الملك فاروق حول أسلوب تعامله مع الجيش. كان من رأى الملك عدم الاستعانة باللواء محمد نجيب بينما كان حسين سرى رافضا ذلك بل اقترح على الملك تعيينه وزيرا للحربية.

في نفس الوقت فإن رئيس حرس الوزارات واسمه" محمد وصفى" قدم للدكتور محمد هاشم وزير الداخلية في وزارة حسين سرى كشفا بأسماء حوالي عشرة ضباط وقال له: إن هؤلاء الضباط سيقومون بعمل انقلاب فإذا قبضنا عليهم ستنهى الأزمة.. وللتاريخ فقد رفض وزير الداخلية هذا الاقتراح وكنت حاضرا تلك المقابلة، فلو أن حسين سرى كان قد اقتنع بفكرة القبض على هؤلاء الضباط- وهم الضباط الأحرار– كان ممكن جدا أن الثورة لم تقم في ذلك الوقت.

وبعد ذلك عندما قامت الثورة بعمل تحقيق مع بعض السياسيين القدامى، كان أنور السادات مكلفا بالتحقيق مع د. محمد هاشم، فروى للسادات هذه الواقعة واستشهد بى.

قلت : عندما قامت الثورة فإن كل الصحف أيدتها بغير حدود.. ورغم ذلك أصدرت الثورة بعد فترة قليلة صحفها الخاصة. كانت البداية مجلة التحرير.. ثم الجمهورية .. ثم المساء. • قال: عندما قامت الثورة كنت وقتها أشغل منصب نائب رئيس تحرير " الأخبار " التي صدرت قبل الثورة بأسابيع فقط.. ورغم أن جميع الصحف أبدت الثورة ووقفت بجوارها باستثناء " المصري" التي اختلفت مع الثورة أثناء أزمة مارس 1954 فأغلقتها محكمة الثورة،

إلا أن جمال عبد الناصر كان مهتما بالصحافة اهتماما كبيرا.. وكان يردي بجانب هذه الصحف صحافة خاصة بالثورة بتاعته. صحافة ملكه. فأنشأ عددا من الصحف والمجلات. ولهذا أيضا اختار هيكل من بين كل الصحفيين الذين كانوا قريبين منه ليكون الصحفي الأوحد، فحتى 23 يوليو كان هيكل صحفيا شابا جديدا وغير مرتبط برواسب قديمة.

  • قلت كيف ذلك وقد كان رئيس تحرير آخر ساعة ابتداء من يونيو 1952؟

قال: ده صحيح ولكن " هيكل" قبل 1952، مكانش صحفي سياسي بالمعنى السياسي، عمره ما كان " صحفي سياسي" أو لعب دورا في المسرح السياسي الداخلي ، بعكس مصطفى أمين مثلا الذي كان كلما قلت لك نجم المسرح السياسي في الصحافة المصرية، أما هيكل فقد امتاز بتحقيقاته الصحفية الخارجية مثل حرب فلسطين ، إيران.. الكوليرا.. الخ.

وفى بداية الثورة كان عدد كبير من الصحفيين يتصل بعبد الناصر، كان هناك مصطفى أمين ، على أمين، إحسان عبد القدوس ، أحمد أبو الفتوح، حسين فهمي، وحلمي سلام.

بل إنني أقول إن الاشتراكية خاض كل معارك عبد الناصر بتكليف من عبد الناصر نفسه. وبعد الثورة بأسابيع قليلة فإن جمال عبد الناصر هو الذي أملى أسماء مجلس قيادة الثورة على مصطفى أمين لينشرها في تحقيق اسمه " سر الضباط التسعة" وده كان أول إعلان لأسمائهم يعرفه الرأي العام..

وفى أحيان كثيرة كان عبد الناصر يتصل بمصطفى تليفونيا ويختار معه المانشيت الذي ينفرد به في أخبار اليوم أو الأخبار.. وكان عبد الناصر معجبا بمقال كتبه مصطفى أمين قال قبل الثورة بعام وكان اسمه " البحث عن قائد" في أخبار اليوم، وأنه تأثر بهذا المقال تأثرا كبيرا، إنما تطور الأمر بعد ذلك فصار هيكل وحده هو الذي يتصل وهو الذي يعلم وهو الذي ينفرد بالأخبار .

• ببساطة أسأل: هل طلبت مقابلة عبد الناصر ورفض الرجل ذلك؟ هل حاولت مجرد المحاولة يا أستاذ موسى؟

- قال الحقيقة أنا عمري ما طلبت مقابلة جمال عبد الناصر – هذا أولا- ولم أطلب لأني كنت أعرف أنه لا يقابل أحدا. ولعلك قرأت أخيرا حديث الأستاذ أحمد بهاء الدين الذي قال فيه إنه لم يقابل عبد الناصر طوال عمره، - - والمرة الوحيدة التي رأيت فيها عبد الناصر عن قرب في اللقاء الذي عقده مع رؤساء مجالس إدارات الصحف ورؤساء التحرير عقب صدور تأميم الصحافة في مايو 1960 وكنت أحد رؤساء تحرير " الجمهورية" وأذكر في ذلك اللقاء أن عبد الناصر امتدح إحسان عبد القدوس، فدخل إحسان في مناقشة معه. فأثار غضب عبد الناصر ولم تفلح نكتة أو دعابة أطلقها المرحوم فكرى أباظة في تلطيف الجو، - - ورغم أن عبد الناصر تكلم بعصبية حول ضرورة المحافظة على شرف الأسرة وسمعة المرأة بألا تنشر الصحف الجرائم الجنسية ،وألا ننشر إعلانات لأثرياء البترول ، إلا أن كل ما أغضبه من الصحافة لم ينفذ حرف واحد منه، مما يدلك على أن الهدف أولا وأخيرا كان أن تتبع الصحافة الدولة، أما كل ما قيل فلم يكن سوى تمهيد فقط، وهيكل أحد الذين شجعوا عبد الناصر على تأميم الصحافة. وبك لأسف فقد ماتت الصحافة بعد تأميمها. - • قلت : وكنت رئيسا لتحرير الجيل؟ فكيف؟

قال: مكثت عامين أشغل منصب نائب رئيس تحرير الأخبار منذ صدرت الأخبار في عام 1952 إلى أن أصدر مصطفى وعلى أمين مجلة الجيل عام 1954 ، وكان يرأس تحريرها إسماعيل الحبروك، ولا أدرى سبب خروجه منها، إنما كان توزيع المجلة تعبان جدا، وذات يوم جاءني مصطفى أمين وقال لي : أنا اخترتك رئيسا لتحرير الجيل والحقيقة أن هذا الاختيار كان بناء على اقتراح من المرحوم هنري توفيق بحري سكرتير تحرير آخر ساعة، وللتاريخ فهو أيضا الذي اقترح على مصطفى أمين تعيين هيكل رئيسا لتحرير آخر ساعة.

كانت الجيل مجلة للشباب ، وكان منطق المجلة أكبر مجموعة من الأخبار في أقل عدد من الكلمات، أما هدفها فهو إلقاء الضوء على نوابغ الشباب في مجالات الأدب والفن والرياضة.

وأذكر أنني طلبت من مصطفى أمين ألا يكتب اسمي كرئيس تحرير للمجلة إلا بعد فترة، و بعد ثلاثة شهور وضع اسمي رئيسا للتحرير ، والحقيقة أن المجلة نجحت نجاحا كبيرا وزاد توزيعها على توزيع آخر ساعة.

أذكر مرة كتبت في الجيل مقالا خفيفا " لايت يعنى" وقلت في ثلاثة سطور بالضبط إن المذيعة التي قامت بإذاعة وصف استقبال الجزائر لجمال عبد الناصر كان صوتها مخنثا، ولم أذكر اسم المذيعة ،

وصدرت المجلة وبعد عدة أيام طلبني مصطفى أمين وسألني : هل كتبت عن مذيعة أن صوتها مخنث؟ فقلت له: آه .. ده من كذا يوم.. إنما فيه إيه؟ فقال: أصل عبد الناصر قرأ المقال النهارده بس، اتصل بى تليفونيا وقرر وقفك عن العمل. وسألته مندهشا : أتوقف عن العمل علشان ثلاثة سطور ولم أذكر فيها حتى اسم المذيعة؟

كان موجودا كامل الشناوي عند مصطفى أمين . فكتبت استقالة من عملي لأن ما حدث فيه مساس بكرامتي كصحفي قبل أن أكون رئيس تحرير ، وهدأني كامل الشناوي قائلا: ما تبقاش مجنون يا موسى ولكنى صممت على موقفي، وأشهد أن مصطفى أمين بذل جهدا خرافيا لتسوية المشكلة مع " همت مصطفى" التي عينتها في سطوري، وفشلت مساعيه . وحاول ترضيتها ،

فكتب عنها خبرا كبيرا في أخبار الناس قال فيه: إن همت مصطفى مذيعة ذات مستوى عالمي، وإن الإذاعة العربية تقبل بشغف على ما تذيعه.. و .. ونشر لها صورة كبيرة مع الخبر، ومع ذلك أصر عبد الناصر على قراره.

وانتشر خبر وقفي عن العمل في الوسط الصحفي، وحدن أن عبد الناصر كان يتصل تليفونيا بمصطفى أمين، فأبلغه مصطفى أن قرار إيقاف موسى أحدث رد فعل سيئا في أوساط الصحفيين.. وأذكر أنه قال لعبد الناصر في التليفون وكنا معه في مكتبه . هل إذا نشرت البرافدا خبرا عن راقصة باليه في البولشوى ولم يعجبها يفصل رئيس تحرير البرافدا.. وكان رد عبد الناصر الذي أبلغه لنا مصطفى بعد انتهاء المكالمة: هذه مسألة أخلاقية، ولا عدول عنها.

وأمام موقف مصطفى أمين المشرف سحبت استقالتي ، ولزمت بيتي عدة شهور حتى أعادني عبد الناصر للصحافة مرة أخرى بكلمة في التليفون,

في تلك الفترة كان عبد الناصر يجتمع بالبعثيين في القاهرة ، وكتب مصطفى أمين مقالا في الموقف السياسي في أخبار اليوم، واتصل به عبد الناصر ليشكوه ويهنئه على مقالته الممتعة وقال له: كأنك يا مصطفى كنت حاضرا الاجتماع معنا، لأنك عبرت عن وجهة نظري تماما التي قلتها في الاجتماع.

وفاجأ مصطفى أمين الرئيس عبد الناصر بقوله: أنا تعبان قوى يا ريس. لأني باشتغل لوحدى من فترة.. وسأله عبد الناصر ولماذا تعمل وحدك؟ فقال له: سيادتك عارف أن موسى صبري موقوف عن الشغل وقاعد في البيت فيها حاجة لو يرجع يشتغل طالما بيقبض مرتبه.

وسأله عبد الناصر مندهشا: بتقول بيقبض مرتبه.. أمال إزائ موقوف عن العمل يا مصطفى ؟ فقال له: أصل الصحافة غير الحكومة يا ريس . إحنا عندنا الوقف مع المرتب.

وتحولت نكتة مصطفى أمين إلى قرار من عبد الناصر بعودتي إلى العمل.. وهكذا اوقفنى عبد الناصر عن العمل بكلمة في التليفون ، وأعادني بكلمة أبضا في التليفون.

قلت: المعروف أن صحيفة" الجمهورية" كانت لسان حال الثورة، وكان عبد الناصر صاحب امتيازها والسادات مديرها العام.. فكيف أصبحت رئيسا لتحرير جريدة عبد الناصر الذي اكتفى واقعيا من الصحافة بالأهرام ومن الصحفيين بهيكل؟

قال : كان عبد الناصر قد غضب طويلا على المرحوم صلاح سالم، وعندما رضي عنه أوكل إليه مهمة رئاسة دار التحرير ، ولما سأله وماذا افعل في الجمهورية وخسائرها المستمرة قال له: هات موسى صبري.

والحقيقة أنني كنت أعرف رأى عبد الناصر عنى من خلال شقيقه المرحوم عز العرب عبد الناصر وكان مدير مكتب جريدة الجمهورية في الإسكندرية وقد نقل لي رأى عبد الناصر وهو أنني صحفي كسويس، مهني من الدرجة الأولى ، ماليش في المؤامرات ولا أشترك في الدسائس، ولكن أشطح في الكلام.

وفعلا اتصل بى المرحوم صلاح سالم وكنت أعرف عنه عصبيته ونرفزته الشديدة، وأنه كان يجرى وراء الصحفيين في مبنى مجلس الثورة ويشتمهم.. واعتذرت له.. وجلسنا معا جلسات طويلة وتناقشنا فيها وقلت له: أنا كرامتي هي كل ما أملك، ولا أستطيع التعامل معك للأسلوب الذي تتبعه في علاقتك بالصحفيين وقال لي: جربني واشتغل معليا وشوف هل هذا حقيقي أو لا ؟

وفعلا استقلت من أخبار اليوم، وعملت رئيسا لتحرير الجمهورية حوالي عامين وأشهد أنني وجدت صلاح سالم من أحسن من تعاملت معهم في حياتي الصحفية رغم فكرتي المسبقة عنه، وللأمانة فقد أعطاني الرجل" كارت بلانش" وثقة كاملة تماما.. مما جعلني أتفانى في العمل معه، وأنا أعتبر هذه الفترة من أصعب أيام حياتي وأسعدها أيضا.

في تلك الفترة وكانت الوحدة مع سوريا ما زالت قائمة أذكر أنني ركبت الطائرة المتجهة إلى دمشق.. وكان السفر بالبطاقة الشخصية ولا ضرورة لجواز السفر.. وعندما جلست فئ مقعدي في الطائرة.. فوجئت بواحد من ضباط مباحث أمن الدولة يصعد إلى الطائرة ويتوجه ناحيتي ويلغني أنني ممنوع من السفر وجننت ، وذهبت في الحال إلى صلاح سالم ورويت له الحكاية، وللحق فقد ثار الرجل وغضبة واتصل بسامي شرف وعنفه على هذا المنع، وتحدث سامي شرف مع عبد الناصر، وأبرق عبد الناصر من دمشق بموافقته على سفري.

• فجأة صار هيكل مسئولا عن أخبار اليوم بجانب الأهرام. ماذا كان موقفك وكيف تعاملت في تلك الفترة؟

قال الأستاذ موسى صبري: أصدر جمال عبد الناصر قرارا بأن يتولى خالد محيى الدين رئاسة مجلس إدارة أخبار اليوم، وتحولت أخبار اليوم في عهده إلى مؤسسة شيوعية، وقام خالد بتعيين عدد كبير من الشيوعيين في أخبار اليوم فأنشأوا مكتبا سياسيا للجريدة يصدر القرارات ويتابع تنفيذها، وكان خالد محيى الدين مقتنعا ومتأكدا أنه لن يخرج من أخبار اليوم.

وفجأة علم مصطفى أمين بأن عبد الناصر سيقيل خالد محيى الدين، وفى أحد الاجتماعات التحريرية قال مصطفى أمين: إن خالد محيى الدين لن يبقى في أخبار اليوم.

في نفس الوقت كتب خالد بيانا وزعه الماركسيون في أخبار اليوم وعلقوه في كل الأدوار وفى الأسانسير وعلى الجدران : أن خالد محيى الدين باق في منصبه بأخبار اليوم وكل ما يقال لا يعدو أن يكون شائعات كاذبة ومغرضة.

رغم أن عبد الناصر قرر إخراج خالد فعلا من أخبار اليوم وكنت أتناوب رئاسة تحرير الأخبار مع حسين فهمي- عضو التجمع الآن- يتولى حسين رئاسة التحرير ثلاثة أيام، وأتولاها أنا ثلاثة أيام، وكنا معا اجتماعات مجلس التحرير في الصباح يوميا، وذات يوم وبينما كنت أنا وحسين نرأس اجتماع مجلس التحرير وكانت الساعة حوالي التاسعة والنصف صباحا، دخل سكرتير خالد محيى الدين مهرولا إلى صالة الاجتماع وقال الأستاذ خالد يطلبكم للحضور فورا إلى مكتبه وأذكر أنني طلبت من حسين فهمي أن يذهب أولا للقاء خالد محيى الدين على أن أذهب أنا بعد الانتهاء من الاجتماع. فقال لي السكرتير: الأستاذ خالد عاوزكم أنتم الاثنين مع بعض.

أنهينا الاجتماع وصعدنا إلى غرفة خالد محيى الدين. وجدنا عنده " هيكل" .. صافحت هيكل ببرود شديد للغاية، كان التعب باديا على ملامح وجه خالد. وفجأة قال هيكل لنا: ألأستاذ خالد رأى أن يستقيل من أخبار اليوم.

فوجئت بكلام هيكل ثم أكمل هيكل بسرعة: والريس جمال عبد الناصر كلفني برئاسة مجلس إدارة أخبار اليوم ..

والحقيقة أن حسين فهمي على سبيل الذوق رحب بهيكل وقال له أهلا وسهلا.. أما أنا فلم أنطق بحرف واحد وبان على وجهي ملامح القرف الشديد.

وقال هيكل بسرعة: أنا شافي أن موسى مش مرحب بما قلت الآن؟ فأجبت قائلا: الحقيقة آه.. يعنى عايزنى أكدب عليك.. بقى ده معقول طب نشتغل ازاى؟

ثم قال هيكل لخالد: تسمح لي أقعد شوية مع موسى وحسين ثم دخلنا في غرفة مجاورة لمكتب خالد محيى الدين. وأخذ خالد محيى الدين يطيب خاطري قائلا: ولا يهمك يا موسى: أنت راجل بتشتغل بكفاءتك الصحفية ولا يلهمك.

ولما جلسنا قلت لهيكل: ببساطة أنا مش هااقدر أشتغل معاك . سألني: ليه يا موسى ؟ قلت : مش معقول.. طيب تيجى ازاى يعنى.. ازاى تبقى أنت رئيس تحرير الأهرام ورئيس الأخبار .. والأهرام والأخبار " جريدتين متنافستين" .. واحنوا توزيعنا أكثر من الأهرام،

ثم أن مش معقول أن الخبر يمنع نشره في الأخبار كي ينشر عندك في الأهرام.. ده منطق غير قابل للفهم.. وأنا مش مستريح فعلا.. فلا داعي لأن أتحمل أي مسئولية صحفية في الأخبار وأنت على رأس مؤسسة أخبار اليوم. وبهدوء شديد أنهى هيكل الحوار بسطر واحد.. إحنا لازم نقعد قعدة تانية مع بعض.

وفعلا ذهبت على مكتب هيكل وكان في مبنى الأهرام القديم. قال لي هيكل في اجتماعه بى: إحنا ما جربناش صداقة العمل.. هه . يمكن حصل بيننا سوء تفاهم. هه . اسمه .. جرب صداقتي في العمل .. هه.. ما رأيك؟

ولن أتدخل في الأخبار .. وليس لي أي علاقة بما تنشره الأخبار . وأتعهد لك أن أي خبر تنفرد الأخبار بنشره سأجعل الرقابة توافق عليه.. وإذا كان لي ملاحظات على ما نشر، سأقولها لك بعد صدور الجريدة فعلا.

دام الاجتماع مع هيكل ساعتين . ووافقت على ما قاله.. والتزم هيكل بكل ما قاله لي لفترة. ثم بدأت المتاعب . كان أخطر هذه المتاعب مثلا عندما انتحر المشير عبد الحكيم عامر بعد نكسة 5 يونيو 1967 ، بأسابيع قليلة.. كان المشير قد انتحر في سبتمبر 1967.

وبالصدفة عرفت قصة هذا الانتحار وتفصيل ما جرى فى بيت المشير، أقول عرفت هذه المعلومات من شقيق جمال عبد الناصر المرحوم عز العرب عبد الناصر وهو رجل فاضل جدا، وكان صديقي جدا.

وكتبت كل ما حصلت عليه من معلومات في تحقيق صحفي لينشر في الأخبار.. وكانت هناك تعليمات من الرقابة بألا ينشر شيء عن هذا الموضوع، فلم ينشر الموضوع الذي كتبته.

في اليوم التالي كانت المفاجأة.. صدرت الأهرام وبها التفاصيل الكاملة لانتحار عبد الحكيم عامر، وصدرت الأخبار والجمهورية ليس بهما سطر واحد عما حدث بالطبع كانت القصة والتفاصيل التي نشرتها الأهرام أوفى بكثير مما كتبته في موضوعي، المهم حصل هياج وثورة بين المحررين في الأخبار ، وأحسوا بأن كلام هيكل لنا عن عدم التدخل فيما تنشره الأخبار غير صحيح. وأصر المحررون على الاجتماع بكيل ليبلغوه استياءهم الشديد..

في البداية رفض هيكل أن يجتمع بالمحررين، ثم قال لي : أنا موافق اجتمع بالمحررين بس أنت ما تحضرش . ثم عاد هيكل فقال: احضر الاجتماع معنا بس ما تتكلمش.

كانت فكرة هيكل أنه يستطيع في اجتماعه بالمحررين أن يأكلهم بمنطقه في الحوار والمناقشة، ولكن ما حدث أن المحررين احتجوا عليه بشدة في لقائه بهم، وقال لهم هيكل: إذا كنت صحفيا لدى وسيلة الاتصال برئيس الجمهورية فهذه ميزة. فرد عليه الصحفيون : ولكن ليس معنى هذا أن تحجب الأخبار عن الجرائد الأخرى.

بداية الخلاف الأساسي في التعامل مع محمد حسنين هيكل

كانت هذه الواقعة هي بداية الخلاف الأساسي في التعامل مع هيكل.

وبعد ذلك أصدر النائب العام وقتها محمد عبد السلام قراراه في التحقيق في انتحار المشير عامر وكان قد كتبه في حوالي 41 صفحة بعنوان" قرار في حادث وفاة السيد المشير عبد الحكيم عامر" فإن هذا التقرير الذي نشرته الصحف وقتها " الأهرام. والأخبار ، والجمهورية" لم ينشر كاملا على القراء.

فالذي حدث أن السيد " محمد فائق" وزير الإعلام في ذلك الوقت استدعى المسئولين في هذه الصحف وأخرج من درج مكتبه ثلاثة أقلام سوداء وسلم كل واحد قلما منها، كي يشطبوا الفقرات غير المسموح بنشرها على الناس، وجرى الشطب أمامه حتى لا تفلت كلمة واحدة إلى الصحافة.

وتردد وقتها أن جمال عبد الناصر أمر بعرض النائب العام على محمد حسنين هيكل، وهو الذي حدد الفقرات التي يجب حذفها، وتولى وزير الإعلام تنفيذها مع مسئولي الصحف الثلاث.

بعد ذلك بفترة كانت محكمة الثورة قد بدأت النظر في قضية المؤامرة، وكان من بين المتهمين الرئيسيين فيها شمس بدران وزير الحربية السابق، وصلاح نصر مدير المخابرات ، وعباس رضوان.

وكان السيد حسين الشافعي رئيس المحكمة التي حققت في قضية المؤامرة ، وقد تابعت كل تفصيلاتها وجلساتها.. كان ما سمعته داخل المحكمة يفوق الخيال، قال شمس بدران وقتها إنه استنتج أن عبد الناصر وعبد الحكيم اتفقا على التنحي معا، وأن زكريا محيى الدين هو الذي سيصبح رئيسا للجمهورية. وقال شمس بدران إن عبد الناصر رشحه رئاسة الجمهورية ولكنه قال: لسه صغير بينما زكريا عنده خبرة.

المهم إنني كتبت مقالا كان عنوانه " الفصل الحزين" أودعته كل ما سمعته ورأيته وكتبت في نهايته :" يا للهول.. يا لبشاعة المأساة.. أية حقائق سوداء تعرض أمامنا من بطون الأيام السوداء إنني لا أزال أكرر أن قلبي حزين.. حزين"..

وكان حسين الشافعي رئيس المحكمة يقول: من حق الشعب أن يعرف الحقائق، ويؤكد أن الصحافة حرة تنشر ما تشاء، وأنه لا رقابة على الصحف في نفس الوقت اتبعت الرقابة أسلوبا لا مثيل له كان هناك ثلاثة رقباء يتابعون ويراقبون كل ما يكتب عن هذه القضية،

وكان يرسل نسخة من كل مقال أو موضوع على كل رقيب على حدة، فيقرأها ويشطب منها ما يشطبه، ثم يجتمع الثلاثة معا يناقشون ويتفقون على المشطوب، في نفس الوقت كان يوجد مندوب من المخابرات الحربية يقيم في غرفة مجاورة لقاعة المحكمة، يسمع كل همسة ويسجل كل حرف ثم بعدها يحدد مع النائب العام ماذا ينشر وماذا يحذف.

ونشر المقال .. أما سبب إجازته من الرقابة فهو أنه تضمن تعليقا على الجلسة ولم يكن تسجيلا لك لما دار بها.. المهم بعد ذلك بأيام قليلة كان عبد الناصر قد التقى بوفد الصحفيين العرب الذي كان في زيارة للقاهرة ألقى خطابا أكد فيه أنه مع كل قرارا اتخذه الصحفيون العرب بشأن حرية الصحافة وحماية الصحفي من الفصل ولكن حرية الصحافة لا تعنى أبدا أن تحول إحدى الصحف الصباحية قضية المؤامرة إلى قضية فساد سياسي أو فساد حكم.

بمجرد سماعي لخطاب عبد الناصر توقعت قرار فصلى بين لحظة وأخرى.. في ذلك الوقت كان هيكل ما زال على راش مؤسسة أخبار اليوم.. وصدر القرار بإبعادي عن الصحافة.

وأذكر أنني تحدثت مع هيكل بشأن هذا القرار فنفى لي الحكاية كلها وقال : غير صحيح أنك فصلت . بل الصحيح أن الذي سيترك أخبار اليوم هو أنا وسيتولاها بدلا منى محمود أمين العالم.

وفيما بعد علمت من الأستاذ جلال الحمامصى أن هيكل أبلغه أن قرار الفصل تم تأجيله فقط وبكت سيصدر بعد أن يترك هيكل أخبار اليوم ويجيء محمود أمين العالم , وعندما سألت هيكل من صاحب اقتراح فصلى أجابني على صبرا ولما سألت على صبري فاجأني ترحيبه الشديد بى وأيضا إجابته عن سؤال عندما قال لي: كل ما يجرى في الصحافة مسئول عنه هيكل، وكيف أفصلك وأن الزى طلبت من شعراوي جمعة أن يبلغ محمود أمين العالم ألا يغير أحدا فئ قيادات أخبار اليوم، وأوكد لك أن محمود العامل لن يتخذ ضدك أي إجراء.. وبعد عدة أسابيع صدر القرار بتوقيع على صبرا بنقلي إلى الجمهورية. وأبلغني محمود أمين العالم بهذا القرار .. ولم يوضح القرار طبيعة عملي الجديد في الجمهورية ساعي ، بواب .. مش عارف بالضبط.

في ذلك الوقت كان الصديق فتحي غانم هو رئيس مجلس إدارة دار التحرير ورئيس تحرير الجمهورية، وكان موقفه تجاهي أخلاقيا جدا ومشرفا جدا وسمح لي بالكتابة يوميا بدون توقيع عن الأزياء والموضة والتجميل. وأوقع بإمضاء " آدم وحواء" رسائل بين زوج وزوجته عن السعادة الزوجية.. وطلبت من فتحي غانم أن أسافر في رحلة صحفية خارج مصر، ووافق ببساطة على ذلك، ثم تبقت موافقة وزير الداخلية وقتها شعراوي جمعة، لأن اسمي كان مدرجا ضمن قوائم الممنوعين من السفر.

ووافق شعراوي على سفري . بعد توسط صديقي المستشار عبد الحميد يونس. إلى الاتحاد السوفيتي والهند واليابان وماليزيا وألمانيا وصدرت في كتاب "شيوعيون في كل مكان" الذي صدر في جزءين فيما بعد ( مايو 1970 ) أذكر أثناء وجودي في طوكيو عاصمة اليابان أن زوجتي قالت لي في إحدى رسائلها: أنها سمعت من بعض الزملاء بخبر عودتي للكتابة لأن هناك تغييرات صحفية من المحتمل حدوثها..

وعدت من رحلتي التي استغرقت حوالي ستين يوما، وفى ذلك الوقت أصدر عبد الناصر قرارا بأن يتولى هو نفسه مسئولية الإشراف على الأهرام ، والسادات يشرف على صحف أخبار اليوم، ويشرف على صبري على صحف ومجلات دار التحرير ودار الهلال ورز اليوسف.

وحتى ذلك الوقت كان اسمي ممنوعا من الظهور على أي مقال أو شيء أكتبه. وأردت أن أعرف ماذا تم في أمري، وحقيقة وضعي الجديد في الجمهورية وطلبني على صبري في مكتبه وقال لي : أريد من المحررين أو الصحفيين واعتذرت للرجل. فقال لي: على أي حال فكر في الأمر.

وعلمت من عز العرب عبد الناصر شقيق الرئيس أنه قال لعلى صبري : إذا أردت إصلاح حال الجمهورية خذ موسى صبري وعينه رئيس تحرير وأعط له كل السلطات. وقابلت السادات وطلبت منه العودة إلى بيتي الطبيعة الأخبار ، فقال لي: ولكن من رأى عبد الناصر أن تبقى في الجمهورية أما بالنسبة لمسألة عودتك لأخبار اليوم فاتركها الآن، لأنها ستتحقق ولكن ليس الآن.

وقال فتحي غانم: بقاؤك في الجمهورية مسألة غير قابلة للمناقشة، واستمر عمل في الجمهورية لفترة مع فتحي غانم ، وأذكر بالمناسبة حينما رويت موقفه المشرف معي للسادات فيما بعد علق السادات قائلا: جدع.. فتحي راجل .. برافو عليه.. أنا أحب تصرفات الرجالة اللي زيه.

قلت : وكيف عدت إلى أخبار اليوم؟

قال : ذات مساء ، وبعد أن انتهيت من عملي في جريدة الجمهورية توجهت إلى بيتي، في منتصف الليل تقريبا أويت على فراشي متعبا.. مكدودا . وفجأة شرخ سكون الليل صوت دقات التليفون وبكسل شديد رفعت السماعة وأنا أسأل من الذي يطلبني في مثل هذه الساعة المتأخرة.. وجاء الصوت من الناحية الأخرى: مساء الخير يا موسى، فقلت من ؟ رد أنا أنور يا أخي، أنت بتعمل إيه: فقلت : كنت لسه هانام، فقال : طب البس وتعال على طول، قلت: في البيت؟ فقال.. أنا موجود في مكتبي هنا بأخبار اليوم.

ارتديت ملابسي بسرعة. . وذهب إلى أخبار اليوم وصعدت إلى مكتب السادات في الطابق العاشر، ودخلت وصافحته وكان عنده قاسم فرحات العضو المنتدب، وكان السادات جالسا خلف المكتب، وشكله حزين جدا.. وقاسم فرحات ينظر تجاه أرض الغرفة، صافحني السادات وهو واجم وحزين وقال : اقعد يا موسى، وجلست وعلى ما أذكر طلب لنا نحن الثلاثة قهوة، ثم قال بنبرات حزينة معلهش يا موسى.. اصبر شوية.. شد حيلك.

في الحقيقة كنت مندهشا من كل ما يحدث .. ولا أعرف ما هي الحكاية بالضبط.. إلى أن قال لي السادات : معلهش يا موسى.. الريس عبد الناصر رفض أنك ترجع لأخبار اليوم وأعتقد أنك لازم تتحمل الموقف شوية، وكلها كام شهر وها أحاول تانى مع الريس يمكن يوافق على رجوعك.

ووجدتني أقول للسادات : أنا أشكرك من كل قلبي.. طب هتعمل إيه أكثر من كده.

واستأذن السادات منا ودخل دورة المياه الملحقة بغرفة مكتبه، وغاب لدقائق.. ثم خرج من دورة المياه متهللا ومبسوطا ومنشرحا، وفوجئت به يأخذني بالأحضان قائلا: أهلا بيك في بيتك يا موسى، ثم قام السادات وطلب منى أن أشتغل الطبعة الثانية من الأخبار ها.. ها.. يعنى السادات أخرج بنفسه حكاية رجوعي للأخبار.

هل كانت صدفة تاريخية – ولا أقول سياسية- أن يتوافق صدور قرار الرئيس السادات بالإفراج عن مصطفى أمين في 26 يناير 1974 ، وتنحية هيكل عن الأهرام بعدها بخمسة أيام- في 31 يناير- بقرار أيضا؟

رواية هيكل ترى أن ما حدث كان جزءا من صفقة، أو كما كتب بالحرف الواحد في " كتاب" بين الصحافة والسياسة : إذ قال له السادات: ولماذا لا أجامل الأمريكان فيه؟ .. و.. من الأفضل الإفراج عن مصطفى أمين ضمن هذه الصفقة حتى لا يتجاسر يوما ويفتح فمه.. فماذا تقول شهادة موسى صبري:

- ما قاله هيكل في كتابه كذب.. وما حدث بالضبط أنه في أوائل حكم الرئيس السادات، انتهزت فرصة زيارتي له في استراحة القناطر وتحدثت معه في مسألة الإفراج عن مصطفى أمين ، واقل لي السادات يومها بالحرف الواحد : مصطفى أمين له وضع سياسي. - وبعد فترة قلت للسادات أيضا إن مصطفى يعانى صحيا وأن حالته الصحية تتدهور يوما بعد يوم، فقال لي بالنسبة للحالات الإنسانية فأنا لا أتردد تجاهها.. ولا مانع أن ينتقل مصطفى أمين إلى المستشفى ,وابلغ السادات ذلك للسيد ممدوح سالم – كان وقتها وزيرا للداخلية- كانت المفاجأة أن ينقل مصطفى إلى مستشفى السجن ، بينما كان نيتنا أن ينقل إلى مستشفى خارجي كقصر العيني مثلا،

ولكن السادات لم يوافق على ذلك الطلب ، وازدادت صحته سوءا وتدهورا وعندما عرف الرئيس من غيري الحالة التي أصبح عليها مصطفى وافق على نقله إلى مستشفى قصر العيني بعد ذلك بفترة كانت السيدة" أمينة السعيد" في زيارة للعاصمة البريطانية – لندن- وأعطاها المرحوم على أمين رسالة مكتوبة وطلب منها توصيلها إلى الرئيس السادات، وعندما عادت السيدة أمين السعيد للقاهرة سلمت رسالة على أمين للسادات ولم يكن يطلب فيها سوى أن يسمح له بالحضور إلى القاهرة ورؤية أخيه مصطفى. ووافق السادات.

وكانت حرب أكتوبر 1973 قد قامت وانتصر السادات فيها، وفى ذلك الوقت استقر على أمين في بيروت فأرسل رسالة أخرى للسادات يطلب فيها السماح بالحضور لرؤية أخيه الذي يرقد مريضا في مستشفى قصر العيني وذهب على إلى سفارة مصر في بيروت وطلب من المسئولين بها أن يرسلوا برغبته إلى المسئولين في مصر أنه سوف يحضر ،

حتى لا يفاجأ عند حضوره بالقبض عليه، والحقيقة أن هيكل هو الذي أفهمه وأقنعه أنه إذا حضر إلى القاهرة فسيقبض عليه في المطار، وردت السفارة المصرية قائلة لعلى أمين: إن الرئيس لا يمنع مواطنا مصريا في الخارج من العودة إلى مصر.. وعاد على أمين إلى القاهرة.

وزار على أمين الأستاذ " محمود أبو وافية" عديل الرئيس السادات، وحدثه في شأن الإفراج عن أخيه وقال له ما معناه: إن العمر ما بقاش فاضل فيه حاجة، وكانت هذه الكلمات هي التي ينقلها أبو وافية للسادات باستمرار.

وكان منته أملنا أن يتم الإفراج عن مصطفى الذي تدهورت حالته الصحية بشكل كبير، وكانت الصحافة أو عودة مصطفى للكتابة أمرا غير مطروح بالمرة.

وذات يوم وفى حفل إحدى بنات الرئيس – أظن كانت لبنى- ودعا السادات معظم رؤساء التحرير والصحفيين لحضور الحفل، واتفق معنا محمود أبو وافية على أننا ننتهز الفرصة ونكلم السادات في حكاية مصطفى أمين، وطوال ساعات الفرح لم نجد فرصة واحدة لنكلم السادات( زحمة وزيطة وناس مالهاش عدد) وأذكر أنني قلت لمحمود أبو وافية: خلاص مفيش فايدة. فقال لي: لا .. إحنا هنستنى لما الدنيا تروق شوية والمعازيم تمشى.

وأخيرا في حوالي الساعة الخامسة فجرا كان المدعوون والمعازيم انصرفوا ، ولم يبق سوى السادات والسيدة جيهان وبناتهما وأقاربهما والتففنا حول الرئيس السادات وحرمه، محمود أبو وافية، أحمد رجب وحرمه، على حمدي الجمال، محسن محمد، أنا ومراتى، وانضم إلى شلتنا الفنان عبد الحليم حافظ وقلنا له: إن مصطفى حالته خطيرة وعنده تصلب في الشرايين، وضغط وسكر.. و.. وبيموت في قصر العيني،

وقال أحمد رجب للسادات: إذا كان ولابد من سجن مظلوم فاسجنى بدلا من مصطفى، وتكلم محسن محمد وعلى الجمال وحليم وأبو وافية.. وقالت السيدة جيهان لزوجها: دى ليلة سعيدة في حياتك وخلاص بقى يا ريس ، ده اللي بيطلب منك الطلب ده رجالتك، وحرام الاستمرار في سجنه.. ولم ينطق السادات بحرف واحد. لم يبد أنه استمع لكلمة مما قلناه.. وانصرفنا بعدها دون أن نعرف لماذا لم يتكلم.

- ذهبت إلى مكتبي في الأخبار وأنا مندهش لموقف السادات بالأمس وانشغلت بالعمل اليومي في الجريدة ومتابعة تفاصيله.. وحوالي الساعة الواحدة ظهرا دق جرس التليفون وقيل لي السادات على الخط. فبادرته قائلا صباح الخير يا ريس . فرد ببشاشة صباح النور يا موسى. فين على أمين دلوقتى؟ قلت: إذا مكانش موجود في شقته فهيكون عند مصطفى في المستشفى. - وسكت السادات لثوان عاد بعدها ليقول لي : اتصل بيه وقل له مبروك يا على فقلت: خير يا ريس . فقال : أنا وقعت حالا قرار الإفراج عن مصطفى أمين، وأمرت أنه يخرج النهارده من غير ما يستنى الإجراءات الروتينية.

في تلك اللحظة من الزمن فقدت وعيى ووجدت نفسي أصرخ في التليفون: صحيح يا ريس .. معقول يا ريس.

ودعوت للسادات .. وانتهت المكالمة . ووجدت نفسي أترك المكتب وأجرى مهرولا ,أركب سيارتي الصغيرة وأطير بها على مصطفى أمين في المستشفى كانت الدنيا مطرا يومها، والمرور مختنقا ، وأخيرا وصلت المستشفى ودخلت حجرة مصطفى، الذي كان يرقد فوق سرير صغير " سيفرى" كان الذي أمامي بقايا إنسان.. وليس مصطفى أمين الذي أعرفه وقلت له: مبروك . فقال بلا مبالاة : على إيه؟ فقلت: صدر قرار بالإفراج عنك اليوم. فقال ساخرا: لا .. أنا سمعت الكلام ده كتير قبل كده.

وقلت له: المرة دى لا . سألني: اشمعنى ؟ فقلت: لأن الرئيس السادات هو الذي قال لي ذلك بنفسه قبل أن آتى عندك وقاله لي في التليفون ولمعت عينا مصطفى ببريق عجيب وقال : صحيح يا موسى . فأجبته صحيح . أمال فين على؟ فقال : على دلوقتى في مكتب جريدة الأنوار ، وبعدها سيذهب إلى هيكل لتناول طعام الغداء معه بدعوة منه، فالحق هات على أمين واعتذر للأهرام بأي حاجة.

وفعلا ذهبت إلى مكتب دار الصياد وأبلغت على أمين بقرار السادات ، واتصلنا بالأهرام، ولم يكن هيكل قد وصل على مكتبه بعد.. وتركنا خبر اعتذار على أمين عن موعد الغداء مع هيكل.

وحتى هذه اللحظة لم يكن هيكل يعرف بقار الإفراج، وخشي مصطفى أن ينتهز هيكل الفرصة ويدعى أنه السبب في الإفراج، وأنه يحتفل بهذه المناسبة مع على أمين في الأهرام.

ولأول مرة ينشر خبر الإفراج عن مصطفى في جريدة الأخبار قبل نشره في الأهرام، وفوجئ هيكل بالخبر تماما، وكان في غاية الحزن، وعاد في اليوم التالي وكتب أنه إفراج صحي.

وفى نفس اليوم الذي أفرج فيه عن مصطفى اتصل بى محمود أبو وافية وقال : يا ريت مصطفى يكتب كلمة شكر هو وعلى أمين؟ كلم الريس ؟ فقلت : مقدرش أطلب منه أكثر من كده.

وتحدث أبو وافية بنفسه مع السادات الذي وافق على نشر ما يكتبه مصطفى وعلى أمين.

وذهبت إلى على أمين أطلب منه كتابة كلمة، وتركته وذهبت إلى مصطفى أمين في المستشفى طالبا نفس الشيء، وقال لي مصطفى وهو يضحك: هنرجع نكتب تانى.

وأمسك مصطفى أمين بورقة وقلم وكتب في دقيقتين كلمة كان عنوانها " عصر العبور " قال فيها:

اليوم أعبر أول خطوة من خطوات الحرية، بعد أن عشت في ظلام السجن حوالي تسع سنوات ولا أستطيع وأنا أخطو إلى الهواء الطلق خطواتي الأولى ،

إلا أن أذكر الرجل الذي فتح لي باب الحرية قبل ذلك أبواب الحرية أمام مئات المعتقلين، وأعاد العدالة لمئات القضاة، ووفر لقمة العيش لآلاف الذين وضعوا تحت الحراسة من وظائفهم ، من حق هذا الرجل أن يطلق على عصره " عصر العبور" عبور الجيش المصري من الهزيمة إلى النصر، وعبور سمعة العرب من الهوان إلى الكرامة.. وعبور المظلومين من الظلم إلى العدل . وعبور الخائفين من القلق والرعب إلى الطمأنينة والأمان والاستقرار ، وعبور المقيدين من الأغلال إلى حياة الأحرار.

وأخذت كلمة مصطفى وجريت إلى على أمين في منزله، لآخذ كلمته، كان على أمين قد مزق عشرات الأوراق دون أن يكتب حرفا واحدا، وفى النهاية كتب كلمة عنوانها " يا رب" قال في بعض سطورها:

" يا رب لم يهتز إيماني بك في يوم من الأيام، كنت أعرف أنك لن تتخلى عنا، لأنك تنصر كل مظلوم، وكنت أحس أن السماء ستفتح لنا أبوابها غدا ولما لم تفتح أبوابها في الغد انتظرنا بعد الغد.. لم اكفر بك، لم أتململ من الانتظار، انتظرنا دورنا في الإنصاف.. لم نحاول أن نختصر فترة الانتظار، لم نحاول أن ندفع الذين يقفون أمامنا حتى نحتل مكانهم في صفوف الإنصاف الأولى.

وكنا نعرف أنور السادات منذ ثلاثين سنة، كما نعرف أن الرجل لن ينسى مظلوما واحدا.. ثم جاء دورنا اليوم.. وخرجنا إلى النور .. عاد مصطفى أمين إلى بيته.. وعدت إلى بلادي" ويكمل موسى صبري.

واذكر أنه كان موجودا عند على أمين في ذلك صلاح جلال وأحمد رجب، وقلت لصلاح جلال وكان المحرر العلمي للأهرام: أوعى تجيب سيرة لحد. وفعلا وفى صلاح بوعده ولم يخبر " هيكل" بأي شيء. وفى واقع الأمر أن ما كتبه مصطفى وعلى أمين لم يكن كلمات شكر بل كان مقالتين.

هكذا بدأت حكاية مصطفى أمين، وبعدها طلب أن تصبح له غرفة في أخبار اليوم ليستقبل فيها زواره، ثم تطور الأمر بالسماح له بالكتابة.

قلت لموسى صبري : وهل هنأ هيكل مصطفى أمين؟

قال : ذهب هيكل إلى مصطفى أمين ليهنئه بعد الإفراج عنه قابله ببرود وعندما حاول أن يعانقه ، رفض مصطفى، وكانت مقابلة باردة فاترة، لم تستغرق سوى دقائق ، أستأذن هيكل بعدها في الانصراف، ولم يطلب منه مصطفى أو على البقاء.

• ما زال تساؤلي قائما.. هل هي الصدفة التاريخية أن يتوافق خروج هيكل مع مجيء على أمين إلى الأهرام.

يجيب الأستاذ جلال الحمامصى في كتابه" القربة المقطوعة" بأن عودة على أمين حملت دلالات كثيرة أكدت لهيكل أن أمره انتهى ص 128.

وقال لي موسى صبري : عندما عين السادات" هيكل" مستشارا له فإنه عين د. عبد القادر حاتم رئيسا لمجلس إدارة الأهرام، والذي جرى بعدها أن على أمين كان يزور د. حاتم فئ مكتبه وقال له: أنا مستعد أساعدك بأي طريقة.. حتى لو اشتغل سكرتير فني، في الأهرام.

واتصل د. حاتم بالسادات وروى له ما قاله على أمين. ورد السادات على حاتم بقوله: أنا عارف قيمة على أمين كويس.. وعينه مدير تحرير للأهرام.

هكذا ببساطة تم تعيين على أمين في الأهرام..وعاد مصطفى للكتابة في أخبار اليوم .

في ذلك الوقت كان إحسان عبد القدوس رئيس مجلس إدارة أخبار اليوم ورئيسا لتحريرها وأنا رئيس تحرير الأخبار ، وطلب إحسان أن يترك أخبار اليوم لأنه أحس أن وجوده في أخبار اليوم قد أصبح غريبا، لأنه بعد رجوع مصطفى أمين التف حوله كل المحررين والصحفيين ، فشعر إحسان أنه غير موجود، وذهل إلى الأهرام وتم تشكيل جديد لمجلس إدارة أخبا اليوم رأسه على أمسن، ومصطفى أمين رئيس تحرير لأخبار اليوم.

قلت : ماذا تعلمت من مصطفى أمين؟

قال : قبل قيام الثورة كان الأستاذ مصطفى أمين نجم المسرح السياسي في الصحافة.

وتعلمت منه اللعب على المسرح السياسي، وكيف يلمع النجم الصحفي على المسرح السياسي من وراء الستار . وكيف يصنع الصحفي الأخبار، وكيف يشارك في صناعة الحدث والأحداث . تعلمت منه كيف يعمل الصحفي وهو نائم، وهو يحلم، وهو يأكل ، وهو يستقبل أصدقاءه ، وهو يقيس بروفة بدلة.

قلت : وماذا تعلمت من تؤامه الراحل الكبير " على أمين

قال : تعلمت منه الإخراج الصحفي كفن، لأن مصطفى أمين ما يعرفش يعمل ميزانباج أو ماكيت.. سبق لي أن تعلمت الإخراج الصحفي على يد الأستاذ جلال الحمامصى أثناء عملي معه في " الأساس " ثم " الزمان" ولكنى استكملت هذا الفن مع على أمين منه أيضا تعلمت كيف تكتب القصة الإنسانية في الصحافة بشكل مؤثر فلم تكن صحافتنا تعرف شيئا اسمه" القصة الإنسانية".

وعلى أمين – رحمه الله- إنساني بطبيعته يذوب رقة، قلبه شفاف كطفل ومرتعش كعاشق، عكس شقيقه مصطفى أمين فهو بلا عواطف، قد يكتب في الحب والإنسانية والعواطف ولكن قلبه جامد كالصخر.

وليس سرا أن على أمين كان مصدر الحماية لهيكل في أخبار اليوم منذ انضمامه إليها، وكان يتبناه ويعامله كابن له كما أطلق هيكل اسم " على " على واحد من أبنائه، وعندما قرر محمد التابعي أن يبيع مجلته آخر ساعة للأخوين مصطفى أمين وعلى أمين فقد حرص على أن يأخذ هيكل ،

وعندما قرر مصطفى أمين فصل ورفد هيكل من أخبار اليوم أعاده على أمين وأخذ يشجعه، بل كان يبرر لع بعض أخطائه الصحفية عند مصطفى أمين شقيقه؟

  • قلت له: ماذا تقصد بعبارتك الأخيرة؟

قال : في بداية التحاق هيكل بأخبار اليوم أوفده إلى سوريا لتغطية مؤتمر بلودان الذي حضره عدد من الزعماء العرب، وأخذ هيكل يرسل بتحقيقاته من هناك، وكتب مصطفى بنفسه مانشتات وعناوين تحقيقاته في أخبار اليوم.

كان هيكل قد أرسل أحاديث مع هؤلاء الزعماء، اتضح بعدها أنها قيلت في الجلسة الافتتاحية ولم يخص أحدا بها هيكل. وبعد عودة هيكل إلى مصر أصر مصطفى على فصله،

وتوسط كامل الشناوي وقال بطريقته الساخرة في تخفيف الكوارث: هيكل شاب.. ومعذور .. بيدخل مكتبك يلاقى عندك رئيس الوزراء . يروح لعلى أمين يلاقى مكرم عبيد باشا.. بييجى عندي يلاقى النقراشي باشا.. فهو نفسه يبقى حاجة كبيرة ومعلهش بقى.

ولم يصفح مصطفى أمين إلا بعد تدخل على أمين شخصيا. وهو الذي عينه بعد ذلك بسنوات نائب رئيس تحرير آخر ساعة وكتب افتتاحية آخر ساعة عن هيكل..

أذكر مرة وكان على أمين خارج مصر، أن اجتمع كل محرري آخر ساعة بمصطفى أمين. كان هيكل وقتها نائب رئيس تحرير وقال المحررون لمصطفى: إما هيكل وإما نحن في آخر ساعة وهذه استقالاتنا جاهزة. وقال لهم مصطفى: أنتم تستنوا.. وهيكل يمشى. وبعد أيام عاد.. " على أمين " وعرف ما جرى في غيابه وجمع كل محرري آخر ساعة وقال لهم: كلكم تمشوا من آخر ساعة.. وهيكل يبقى موجود.

هذا هو الفرق بين على أمين وشقيقه مصطفى أمين، وكان جزاء الاثنين هو ما فعله هيكل بهما في كتابه " بين الصحافة والسياسة" .. ومن قبله ما فعله بالسادات في كتاب " خريف الغضب" كان هذا جزاء من أحسن إلى هيكل ذات يوم..

سألت موسى صبري: عن موقف السادات من الذين هاجموا هيكل؟وهل كان السادات سعيدا بذلك؟ وهل كان يشجع عليه؟

قال موسى صبري: عندما كتب هيكل مقاله" عبد الناصر ليس أسطورة" في ذكرى الأربعين لوفاة عبد الناصر، وحدث في اجتماع اللجنة التنفيذية العليا ، وكان برئاسة السادات.. أن السيد لبيب شقير وكان وقتها رئيس مجلس الأمة استعرض المقال وكان رأيه أن هيكل ارتكاب جريمة الخيانة العظمى عندما طعن في عبد الناصر ..

وطلب السادات تأجيل الموضوع لجلسة تالية.. وكانت المفاجأة أنه في الجلسة التالية استدعى السادات" هيكل" وطلب منه شرح وجهة نظره في مقاله كاملا.. وكان جواب السادات.. عندما يتهم شخصا بالخيانة العظمى ، ونحن جميعا نعلم أنه كان قريبا إلى عبد الناصر فلابد أن يأتي إلى هنا كي يدافع عن نفسه.

وكان ذلك الهجوم على هيكل جزءا من صراع مراكز القوى بين بعضها البعض. بعد ذلك بفترة قصيرة جاءت قرارات 15 مايو 1971، وحدثت تغييرات صحفية في كافة المؤسسات الصحفية باستثناء الأهرام..

قبل تلك التغييرات كان إحسان عبد القدوس رئيس تحرير أخبار اليوم ويوسف السباعي رئيس تحرير آخر ساعة وأنا رئيس تحرير الأخبار وأذكر أنني كنت في زيارة للرئيس السادات وفوجئت به يقول لي : أنا ها أعملك رئيس مجلس إدارة أخبار اليوم يا موسى.

فقلت له: مش معقول إحسان عبد القدوس موجود ويبقى هو رئيس مجلس إدارة، وبعد ذلك بأيام صدرت قرارات التغييرات في الصحف وكنت وقتها أرقد في المستشفى مريضا وزارني إحسان عبد القدوس وقال لي: أنا جاى أشكرك لأن السادات أبلغني بترشيحك لي رئيسا لمجلس الإدارة، وأن إحسان سأل الرئيس طب وموسى صبري فقال له السادات: إن موسى هو الذي رشحك.

المهم إن إحسان كصديق وزميل من " ألذ" ما يمكن، لكنى اصطدمت معه مرة بسبب هيكل .. كنت قد كتبت مقالا هاجمت فيه محمد حسنين هيكل هجوما عنيفا.. وبالصدفة جاء إحسان يسألني: كاتب إيه النهاردة ؟ فقلت له: بهاجم هيكل . فقال لي : بلاش .. ومفيش داعي لأنه ما يستاهلش . فقلت لإحسان هذا رأيي وأنا مصر عليه. ورد بقوله:

ولكنى رئيس مجلس الإدارة . فقلت : وأنا رئيس التحرير المسئول وهذا حقي. فقال : خلاص نحتكم لأنور السادات . فقلت له: لا ما نحتكمش . وخرج إحسان من مكتبي، فأخرجت ورقة وكتبت استقالة.. وبعد مدة عاد إحسان مرة أخرى إلى مكتبة ، ويبدو أنه اتصل بالسادات وشرح له الموقف ، فالسادات انتصف لي جزئيا..

فقد قال السادات انشروا المقال كما هو لكن بلاش اسم هيكل. وأنا وافقت لأن كل قارئ في مصر قرأها عرف أن المقصود هو هيكل وثاني يوم كتبت مقالا آخر أيضا.. والمقالان كان عنوانهما هو " المبشرون بالهزيمة"

قلت له: بعد رحيل الرئيس السادات صدر للأستاذ مصطفى أمين كتاب " أفكار ممنوعة" قال فيه: أعلنت الرقابة على الصحف عقب حريق القاهرة إلى أن ألغاها الرئيس أنور السادات في عام 1974 ، ثم أعلنت الرقابة الخفية، فكانت مهمة رؤساء التحرير الشطب بعد أن كانت مهمتهم النشر. • قال الأستاذ موسى: رئيس التحرير ليس ساعي بريد أو " بوسطجى" يتسلم المقال من الكاتب ليرسله إلى المطبعة كي ينشر في اليوم التالي ، ولكن هناك سياسة عامة يلتزم بها رئيس التحرير وكل رؤساء التحرير في العالم شرقا وغربا ينشر ما يراه متفقا مع سياسة الجريدة، ويحذف ما يوجب المساءلة القانونية له كرئيس تحرير ، فإذا لم يكن رئيس التحرير مقتنعا بهذه السياسة عليه أن يستقيل وسيقبض مرتبه وكل حاجة فلم يكن السادات من هواة قطع الأرزاق.

ثم إنني لم أشوه مقالات لأحد، نعم مصطفى أمين كاتب كبير، وجلال الحمامصى كاتب كبير، وأحمد أبو الفتح كاتب كبير، فإذا كانت الظروف جعلتني رئيسا للتحرير عليهم فهذا وضع لا أملك فيه شيئا، لأنني ساترك موقعي ومسئولية رئاسة التحرير ، وسيصبح تلامذتي رؤساء للتحرير ، وهكذا.

قلت : في نفس الكتاب روى مصطفى أمين وقائع محددة أريد عليها شهادتك، فمثلا يقول مصطفى أمين : قال لي موسى صبري : إن الرئيس السادات اتصل به في المساء وقال له: أنه قرر أن يمنعني من كتابة فكرة ومن كتابة الموقف السياسي في أخبار اليوم " ص 12" و من سخرية القدر أن الرئيس عندما أوقف فكرة هو الذي طلب من موسى صبري نشر قصة سنة أولى حب.. في أخبار اليوم لتخفيف صدمة القراء بوقف فكرة ن وهو الذي أمر بوقف نشر قصة سنة أولى حب.. وطلب منى موسى أن أختم القصة فرفضت فعرض أن يختم هو القصة فقلت له: إن القرار الجمهوري بقفل القصة وليس بتشويه القصة ص 63و 64. • قال موسى صبري : الحقيقة أن السادات لم يطلب منع نشر مسلسل سنة أولى حب لمصطفى أمين ولكن ما حدث بالضبط هو أنني كنت أجلس مع السادات في القناطر وكان فيه شغل معاه وبعد أن انتهينا منه سألني الرئيس السادات فجأة : قال لي يا موسى : هل أخبار اليوم جريدة يكتب فيها كل المحررين أم يكتبها كلها محرر واحد؟ وسألته: ليه يا ريس؟

وأجابني بسؤال آخر: من يكتب الموقف السياسي يا موسى: قلت: مصطفى أمين. عاد ليقول : ومن يكتب فكرة يا موسى؟ أجبت : مصطفى أمين . وعاد يسأل : من يكتب رسائل القراء في باب عزيزتي أخبار اليوم يا موسى؟ وأجبت : مصطفى أمين. وسألني : من يكتب مسلسل سنة أولى حب ويشغل صفحة كاملة يا موسى ؟ قلت: مصطفى أمين.

وأشعل السادات البايب ليسألني بعدها: هل أخبار اليوم بحالها ما فيهاش محررين أبدا؟ هل تصدر أخبار اليوم لمجرد أن كاتبا واحدا يكتب كل هذا بها؟ ثم قال لى : ثم أنا أفهم أن الموقف السياسي أو افتتاحية " الجرنان" يكتبها رئيس التحرير يا موسى مش كدة..

وانتهى الحوار مع السادات ووجدته منطقيا وعدت لأخبار اليوم واجتمعت بالأستاذ مصطفى أمين ورويت له كل ما قاله السادات.

اتفقنا أن رئيس التحرير هو الذي يكتب الموقف السياسي، وبالنسبة لقصة سنة أولى حب، فالحقيقة أن قصص مصطفى أمين تمتاز بالطول الشديد ، يعنى تلاقى القصة مثلا 100 حلقة.

وأذكر أننا كنا قد وصلنا في نشر سنة أولى حب على الحلقة الـ 34 أو حاجة زى كده، فاقترحت عليه أن نختار وقفة مناسبة لها، وفعلا قرأت الحلقات الباقية واخترت لها وقفة مناسبة، وكانت الوقفة سهلة، لأن القصة نفسها كانت حوالي 20 قصة في بعض . وقال لي مصطفى أمين: ولكن لن أكتب كلمة " انتهت"أو " تمت" في نهاية القصة، ووافقته قائلا: هذا حقك.

واستمر مصطفى يكتب فكرة بعد ذلك ، آدى الحكاية كلها.

• وعدت لأقول : أورد مصطفى أمين في كتابه السابق على لسان السادات قوله : هوه مفيش في البلد غير مصطفى أمين ؟ هل مصطفى أمين رئيس جمهورية حتى يرسل الناس تبرعاتهم له في " الدنيا بخير". • قال موسى صبري حكاية التبرعات باختصار شديد، أن مصطفى أمين كان يتلقى التبرعات ، وكانت تنشر بالشكل التالي: تلقى مصطفى أمين مبلغ كذا من فلان وتلقى مصطفى أمين مبلغ كذا من علان وتلقى مصطفى أمين مبلغ كذا من كذا.. ألخ يعنى ينشر اسمه مع كل صاحب تبرع فكان اسمه ينشر 50 مرة مثلا، فهل كانت هذه ا تبرعات لشخص مصطفى أمين؟ أم كانت له كممثل لأخبار اليوم.. بالطبع كانت لمصطفى أمين كممثل لأخبار اليوم.

والحقيقة أن السادات لم يقل هل مصطفى أمين رئيس جمهورية.. وحديثه كان معي ونقلته بأمانة كاملة إلى أستاذي مصطفى أمين.

• عدت لأقول لموسى صبري : ما زلنا نذكر ماذا جرى عندما قرر السادات النزول للشارع السياسي وأعلن عن تشكيل الحزب الوطني الديمقراطي، وكتب مصطفى أمين فكرة يقول : كنت أتمنى لو أن أعضاء مجلس الشعل لم " يهرولوا" إلى الانضمام إلى حزب الرئيس السادات.. • قال موسى صبري: بعد تكوين حزب مصر ، لم يكن السادات راضيا عنه وعندما كتب مصطفى أمين مقاله كنت وقتها في الإسكندرية فلا أدعى بطولة تحمل نشرها وإن كان ذلك لا يمنع أن نالني جزء من غضب السادات نفسه.

وما ضايق السادات فعلا من فكرة مصطفى أمين وقاله لي : إن مصطفى وضعني في موقف محرج جدا، وكان على أن أختار إما مصطفى أمين وإما أعضاء الحزب..

• عدت لأقول : وهل كان السادات مقتنعا أن مصطفى أمين صادق النية؟ • قال : لا .. السادات عمره ما اقتنع بصدق نوايا مصطفى أمين صادق ، ولكن كان يحترمه كمهني وحرفي وكان يقول عليه أنه معلم في الكتابة، وكان عارفا أن نوايا مصطفى أمين ها هدم كل ما يرتبط بنورة 23 يوليو.

الحقيقة أن هذا الهجوم بدا بعد الإفراج عن مصطفى أمين وعودة على أمين للصحافة. وكان هذا هو سبب غضب السادات غضبا شديدا وانتهى الأمر إلى مقاطعة على ومصطفى أمين ، وعندما نشر الحمامصى كتابه" حوار وراء الأسوار " واتهم ذمة عبد الناصر المالية، ونشرت أخبار اليوم تلخيصا للكتاب للزميل نبيل أباظة وثارت ضجة كبيرة، قام السادات بالاتصال بمصطفى أمين تليفونيا وسأله: الكلام ده جايبينه منين؟

فقال مصطفى أمين له: جلال الحمامصى عنده مستندات تؤكد هذا الكلام، وأمر السادات بالتحقيق في الموضوع وتشكلت لجنة تحقيق وظهر أنه اتهام غير صحيح وأعلن السادات بنفسه براءة ذمة جمال عبد الناصر من تهمة تهريب أموال خارج مصر.

وبالمناسبة لقد سألت السادات بشكل واضح وصريح ذات مرة هل هناك أموال أودعها عبد الناصر في الخارج وأنك تحاول استردادها ؟ وأقسم السادات لى بأن هذا غير صحيح وهى كلها افتراءات حول الرجل. ولو كان عبد الناصر قد فعل شيئا من هذا لكان أخبرني وقد كنت قريبا منه.

قلت: بالمناسبة ما ظروف عودة الأستاذ الحمامصى للكتابة فى عهد الرئيس السادات؟

قال : عندما تم تشكيل مجلس إدارة أخبار اليوم وأصبح " على أمين" رئيس مجلس إدارة ومصطفى أمين رئيس تحرير أخبار اليوم وعينت أنا نائب رئيس مجلس الإدارة، وكنت وقتها في يوغسلافيا وعندما عدت،

حكي لي مصطفى أمين أن السادات طلب منه أن يعيد أخبار اليوم لمجدها القديم فقال له إنني أريد نقل جلال الحمامصى من الأهرام لينضم إلينا في الأخبار ويصبح أحد رؤساء التحرير ووافق السادات على ذلك الطلب، وبدأ يكتب عموده الشهير" دخان في الهواء" وكتب مصطفى أمين سطورا يقدم بها الباب، أذكر أنه قال : اليوم يعود " دخان في الهواء" بعد عودة حرية الصحافة.

وجلال الحمامصى لم يمنع من الكتابة ، ولكن هو الذي امتنع من تلقاء نفسه ن كانت كل مقالاته دعوة لتيئيس وبث اليأس وأنه مفيش فايدة " مفيش فايدة" هنا اختلفنا وقد أصبحت رئيسا للتحرير ، فكنت ضد دعوته للتيئيس وأنه لا فائدة وهنا اختلفنا ومقالات كتبها شعرت أنها تجريح في رئيس الدولة لم أكن أوافق عليه.

• وظروف عودة الأستاذ " أحمد أبو الفتوح" ؟

قال : أنا لا أعرف خلفيات عودته بالضبط، لكن ما حدث هو أن على أمين تعاقد معه على أن يكتب في أخبار اليوم ، واعتقد أن على أمين استأذن الرئيس فى ذلك بالطبع وفى الفترة التي كان يكتب فيها في الأخبار اختلفت معه على بعض المقالات لأنه عاد من الخارج وهو مؤمن بفكرة ثابتة أنه يجب محاربة كل ما يرمز لثورة 23 يوليو، وأن ما قبل 23 يوليو هو الحرية والرخاء و.. و.. وهذا مضلل وخطير للشباب بالطبع كان خط تلك المقالات يخالف الخط السياسي تماما للأخبار وكان لايرى في 23 يوليو سوى التعذيب .. والحراسة والاعتقالات .. وأنا ضد هذا فعلا لأنها أخطاء وقعت فيها الثورة ،

ولكنني مع ثورة يوليو في كل تغيير اجتماعي أحدثه . المهم أنني كنت أتفاهم معه على تخفيف هجومه وبرضه مفيش فايدة، وذهبت لزيارته في منزله وسألته لماذا لا ـأتى لأخبار اليوم؟

فقال: أنا حلفت ما أدخل أخبار اليوم إلا بعد ما ترجع المصري لي. ولعلك تعرف أن القضاء ينظر الآن قضية رفعها أبو الفتوح يطالب فيها بعودة جريدة المصري له بعد أن أغلقتها الثورة عام 1954 بحكم من محكمة الثورة.

ثم امتنع عن الكتابة في الأخبار، وأخذ يكتب في أخبار اليوم ثم حدثت مشاكل فلم يعد يكتب .

قلت للأستاذ موسى صبري : ولكن لن يصدق أحد أن السادات لم يقرأ أو على الأقل كان يعرف محتوى كتاب المهندس عثمان أحمد عثمان" تجربتي" الذي هاجم عبد الناصر هجوما مريرا وأثار فاقت ضجة كتاب الحمامصى، كانت المعارضة ترى أن السادات بارك صدور الكتاب وكان يعلم ما به عليم اليقين؟

قال : لا.. لا.. أبدا بالعكس إن هذا الكتاب كان السبب الأكبر وراء الغضبة الكبرى عليه بعد أن صدر الكتاب. والحكاية أن عثمان كان يتمشى مع السادات قبل صدور الكتاب بسنتين وقال له: أنا نفسي يا ريس أكتب كتاب للشباب أروى فيه تجربتا لهم. فقال السادات لعثمان: والله حاجة كويسة يا عثمان. وانتهى الأمر وعندما صدر الكتاب أذكر أن مصطفى أمين زارني هنا في مكتبي وسألني:

• هل قرأت كتاب عثمان تجربتي. فقلت لا. فقال لي إن الكتاب يهاجم عبد الناصر بشدة ولابد أن يكون السادات على علم بكل حرف كتبه عثمان .

وقلت لمصطفى أمين : أقطع دراعى من غير ما أسأل السادات أنه لا يعرف ما هو مكتوب لأن السادات لا يسمح أبدا بالهجوم على عبد الناصر في كتاب وبالذات من أقرب الناس إليه. • وبعد ذلك ويشهد على هذه الواقعة الزميل إبراهيم سعده رئيس تحرير مايو وقتها أن السادات قال لإبراهيم سعده بالحرف الواحد: الوحيد اللي فاهمنى موسى صبري . انتم تعرفوني من قريب، لكن موسى لم يتصل بى ويستوضحني لكنه فاهم أنا إيه كويس قوى.

ولذلك قاطع السادات عثمان وغضب عليه ولم يسمح له بزيارته ، وحل عثمان هذه المشكلة بأن قدم استقالته من الحزب، وفى زيارة السادات للمنصورة قبل وفاته بأيام قليلة صالح عثمان وعاد معه على نفس الطائرة. ويوم 6 أكتوبر أبلغ السادات عثمان أن يذهب معه على وادي الراحة بعد يومين. ولكن جرى ما جرى في 6 أكتوبر .

إنما السادات تألم ألما فظيعا من عثمان، وكان يقول لي : المشكلة يا موسى أن مفيش حد حا يصدق أنى مكنتش عارف إيه المكتوب في كتاب عثمان.

قلت : وكانت صحافة المعارضة- الشعب بالتحديد وفى مقال للدكتور حلمي مراد- تتساءل عن وضع السيدة جيهان السادات وتدخلها في قرارات السادات. • قال : غير صحيح على الإطلاق . وليس لها دخل إطلاقا بأي من القرارات التي اتخذها السادات وعندما خرج " منصور حسن" من الوزارة بعد سبتمبر 1981، وكانت تربطه صداقة عائلية بأسرة السادات سواء مع أولاده أو السيدة جيهان ، فقد علموا بالخبر من الصحف، وكل ما يقال عن تدخل السيدة جيهان تشهير وكذب.

إلا أن قيادة روز اليوسف نحيت، لقد قال لي الأستاذ صلاح حافظ في حواري معه على صفحات صباح الخير: أحس السادات أننا تخلينا عنه وأن الشرقاوي طعنه في الظهر لأن السادات شعر يومها أنها كانت لحظة طرده من السلطة. وعندما أعلن السادات سحب القرارات الاقتصادية وتحدث مع الأستاذ الشرقاوي وقال : يا عبد الرحمن بلاش إثارة. وكان معنى كلام السادات ألا نقول الحقيقة وأن نترك الكذبة تنطلي على الناس.

وقال لي الأستاذ لويس جرجس: ابتداء من 18 و 19 يناير كنا سامعين أن حايحصل تغيير أحسسنا أن هناك جفاء بين السادات والشرقاوي، ولم يكن الشرقاوي يذكر ذلك ، ولكن كانت البوادر تنبئ بذلك. وبعد ذلك بفترة قابل الشرقاوي السادات ودار حوار لم يفصح عنه الشرقاوي لنا ، ولكن السادات قال له : قيادة روز اليوسف ستتغير يا عبد الرحمن. ابتسم موسى صبري وقال لي:

التغيير الذي جرى بالنسبة لروز اليوسف كان نتيجة موقفهم من 18 و19 يناير ولقد اختلفت مع صديقي صلاح حافظ وقتها وتبادلنا آراء ومقالات ودافع كل منا عن وجهة نظره، كان ملخص وجهة نظر روز اليوسف وقد نشرت بالفعل أن " إلقاء تبعات التخريب على تنظيم سرى يسمى نفسه حزب العمال الشيوعي" ثم تعميم المسئولية وإلقاء التبعة على كل الماركسيين والشيوعيين إنما هو تسطيح للأمور.ز هذا ما قاله الشرقاوي مثلا، ورددت على صلاح حافظ بمقال نشرته روز اليوسف.

• عدت لأقول : إن ما كتبته روز اليوسف وقتها أن الحكومة أشعلت الحريق والسادات أطفأه، وكان ذلك ببساطة أنهم مع السادات وليس ضده؟ • قال : معلهش.. إنما غيه هو الحريق ده حكاية تانية، إنما مفيش شك أن السادات تأثر جدا بعد حوادث 18 و 19 يناير، لأنه كان قد بدأ عهد جديد، وفتح أبواب الديمقراطية وجاءت التنظيمات الشيوعية لتستغل ذلك كله، وعلى فكرة.. عبد الرحم الشرقاوي هو الذي قدم استقالته وكتبها عندي هنا في مكتبي وأنا الذي أرسلتها للسادات بنفسي.

قلت : وماذا كان رأى السادات في مضمون الرسالة؟ • قال : السادات كان يحترم عبد الرحمن الشرقاوي تماما. وكان يعتقد أنه رجل متأثر بالمبادئ الماركسية لكنه مصري صميم ولا يتعامل إلا من منطلق وطني، وأيضا كان السادات يقول عن صلاح حافظ أنه يكتب رأيا ماركسيا ولكنه نابع من مصريته، وكان هذا مبعث تقدير السادات له.

  • لما تعادى اليسار؟

قال : أنا لا أعادى اليسار، هذا غير صحيح ، وأنا أصنف نفسي دائما على أنني يساري غير شيوعي.

• سألت موسى: نادرا ما أدلى عبد الناصر بحديث لصحفي مصري- ربما كان هيكل استثناء – بعكس السادات الذي حظيت صحافة مصر منه بعشرات الأحاديث. • قال لا شك أن السادات كان يقدر الصحافة والصحفيين ، فهو اشتغل مع معظم الصحفيين ويكاد يعرفهم واحدا واحدا، ويعرف كفاءة كل صحفي، ويعرف خلفية كل صحفي أيضا. لذلك كان بابه مفتوحا للجميع بعكس عبد الناصر الذي اكتفى بهيكل.

وكان السادات في لقاءاته بالصحفيين مرحا ودودا، أذكر مرة في بداية حكمه وكان قد دعا رؤساء التحرير ورؤساء مجالس الإدارة ليجتمع بهم في القناطر وفوجئ السادات بفوزي عبد الحافظ سكرتيره وقد وضع الكراسي التي سنجلس عليها على شكل صفوف متوازية.. فقال السادات له: إيه يا فوزي إلى أنت عامله ده.. إحنا قاعدين في فصل مدرسي. ثم قال لنا: تعالوا يا ولاد قربوا كده نتلم على بعض.. إحنا كلنا عيلة واحدة.

موقف آخر كان عقب طرد الخبراء الروس.. اجتمع السادات بنا، وكان يجلس إلى جواره المهندس عزيز صدقي رئيس الوزراء وقتها، وكان يجلس معنا المرحوم فكرى أباظة شيخ الصحفيين، وفى بداية الاجتماع قال السادات ضاحكا لعزيز صدقي: قوم يا عزيز أقعد مع الصحفيين . ثم نادى على شيخ الصحفيين قائلا: تعال يا عم فكرى أقعد جنبي.. تعال يا راجل.

وأراد السادات بهذا الموقف – كما روى لي- أن يرد اعتبار شيخ الصحفيين فكرى أباظة في هذا الجو وأمام كل رؤساء التحرير . فقد سبق أن أصدر عبد الناصر قرارا بفصله من المصور، والسبب سطور قليلة كتبها طالب فيها بالحرية. وحدث أن زاره هيكل وأقنعه بضرورة كتابة اعتذار لعبد الناصر، نشر اعتذار الرجل على صفحات الأهرام.

قلت : في الأحاديث التي أجريتها مع السادات هل كان جهاز التسجيل وسيلتك أم كان يتكلم وتكتب إجاباته؟ • ضحك وقال: على فكرة السادات كان يعتبر أي صحفي يذهب إليه بدون جهاز تسجيل صحفي متخلف، وكان يقول للصحفي : يا بني فيه دلوقتى حاجة اخترعوها اسمها جهاز تسجيل .. وكان قبل بدء الحديث حريصا على أن يطمئن بنفسه على أن جهاز التسجيل يعمل . وكان يتندر من أن السيدة أمينة السعيد أجرت معه حديثا صحفيا ثم اكتشفت أن الجهاز لم يكن يشتغل.

وعموما كان السادات يحب الأشياء المتقدمة، والتكنولوجية، ولذلك كنت تجد في مكتبه أحدث الأجهزة الالكترونية الحديثة بحيث يتمكن من الاتصال بجميع أنحاء العالم وقتما يشاء .

قلت: هل كان يطلب السادات قراءة أحاديثه قبل نشرها؟

قال : لا .. لم يكن يهتم.

قلت : أحاديث متعددة أدلى بها السادات إلى صحفيين عديدين مثلا عبد الرحمن الشرقاوي، عبد الستار الطويلة، أنيس منصور ، إبراهيم سعده، وأنت ؟ ماذا كان يستهويه أو يعجبه في طريقة كتابة كل واحد للحديث الصحفي معه؟

قال : كان يستهويه السادات العابرة الجميلة ، والجملة الرشيقة، والتعبير المبتكر البليغ ، ولو أن حديثه الصحفي مثلا أحدث ضجة عالمية ما كان يهتم، قدر اهتمامه بحلاوة الأسلوب وجماله الذي ظهر به الحديث، مرة كنت عنده، وكنت قد أجريت حديثا نشر في الأخبار ، وكان يقرأه.. فكان يتوقف أحيانا ليقول : الله .. الله يا موسى الله.

في أحيان كثيرة كان الفنان داخل السادات يتغلب على السياسي.

قلت: هل أهديت للسادات أيا من كتبك؟

قال : نعم أهديته كتابين، الأول وثائق حرب أكتوبر، والثاني وثائق 15 مايو وأرسل لي خطاب تقدير بعد قراءته للكتاب.

  • قال : هل أهداك السادات كتابه البحث عن الذات؟

قال: نعم ، وبخط يده كتب إهداء رقيقا يقول: إلى زميل رحلة العمر.

• هل كان بينك وبين السادات رسائل متبادلة؟

قال : أذكر مرة عندما سافرت بصحبتي زوجتي إلى أمريكا للعلاج، كتبت للسادات خطابا عاطفيا جدا، وتصوفيا أشكره على موقفه من أن زوجتي عولجت في الخارج على نفقة الدولة، ولك يكن باستطاعتي أن أعالجها على حسابي، وأذكر أن السادات اتصل بى تليفونيا من القاهرة وشكرني وقال لي: إن ما فعله مع زوجتي يفعله مع كل الناس .

    • وأنا ألملم أوراقي وشرائط الكاسيت المبعثرة( 12 شريطا مدتها 15 ساعة) تذكرت سطرا له في كتابه" قلبي يرتجف" قال فيه: سيدي قلبي: كن معي.. حتى لو كتبوا على قبري " ولد إنسانا .. ومات صحفيا. وسألته : عبر 40 سنة صحافة منها 35 عاما داخل أخبار اليوم ، ماذا أعطتك أخبار اليوم؟

قال : أخبار اليوم أعطتني عشق الصحافة . حبي للصحافة تحول على يديها إلى عشق، والعشق يعنى التفاني والفناء في هذه المهنة. هل هذا خيرا أم شر؟ هذه علامة استفهام. فعندما تتفانى في هذه المهنة تنسى كل شيء وتصبح هي عائلتك والصحافة فعلا زوجة لا تقبل ضرة ولا شريكا ولا منافسا .

لقد أحببتها واستعبدني هواها. مهنة تعطى ولكنها لا ترحم. مهنة تجذب بسحرها من يخدعهم هذا السحر ثم يعانون لوعته ومراراته ولكنهم يستعذبون اللوعة والمرارة.. إنه حب أسير.. يستمتع بالأغلال .

أعطتني الصحافة شعورا بالانتماء للمكان الذي أعمل به. كل محرر هنا في أخبار اليوم يشعر أنه جزء لا يتجزأ من المكان، هذا الشعور والإحساس تجده في روز اليوسف على كل الاتجاهات والآراء، لكن في نطاق الأسرة الواحدة المتحابة.

أحمد حمروش

الضباط يحكمون الصحافة

أحمد حمروش واحد من ثوار يوليو 1952.. حيث كان مسئولا عن الحركة في مدينة الإسكندرية.

عقب نجاح الثورة عرض على جمال عبد الناصر مجلة أو صحيفة تعبر عن الجيش ، ووافق عبد الناصر، وهكذا صدرت مجلة التحرير التي رأس تحريرها.

أحمد حمروش أحد الوجوه العسكرية التي أثبتت نجاحها في بلاط صاحبة الجلالة صحفيا وكاتبا ورئيسا للتحرير في كافة المجلات والصحف التي تولى مسئوليتها منذ مجلة" التحرير" حتى " روز اليوسف".

أحمد حمروش تصدى أخيرا لمهمة جديرة بالتسجيل والإعجاب . حيث بدأ كتابة ملحمة ثورة يوليو، وصدر منها ثمانية أجزاء حتى الآن.كان آخرها " غروب يوليو"

قلت: بداية المشوار الصحفي بعد ثورة يوليو؟

قال الأستاذ أحمد حمروش: بعد أن نجحت حركة الجيش في 23 يوليو سنة 1952، وكنت في هذا الوقت مسئولا عن حركة الضباط في الإسكندرية، وفوجئت بأنه مطلوب من الانتقال إلى القاهرة، وطلبت أن أكون في إدارة الشئون العامة للقوات المسلحة، وهذا كان يتجاوب مع هوايتي التي تمثلت في الكتابة في الصحف منذ أواسط الأربعينات في صحف ومجلات الفصول والأهرام والقصة.

في الإدارة العامة كان يزاملني بعض الضباط، مثل مصطفى بهجت بدوى ووجيه أباظة وكمال الحناوى، يجمع بينهم ثقافات وهوايات أدبية وفنية، لذا فقد فكرت في إصدار صحيفة أو مجلة تعبر عن حركة الجيش، ولم أتردد في عرض الفكرة على جمال عبد الناصر ،

وكان كل شيء في الأيام الأولى للثورة يمكن تخفيفه بصورة ثورية، ووافق عبد الناصر وبدأت في التنفيذ ووافق على العمل معي عدد كبير من الأصدقاء والزملاء الصحفيين،منهم عبد الرحمن الشرقاوي و عبد المنعم الصاوي و سعد لبيب وصلاح حافظ ود. يوسف إدريس و حسن فؤاد.

ولما لم تكن ميزانية لإصدار المجلة ذهبنا إلى دار الهلال وقابلنا المسئولين فوافقوا على طبعها على أن نسدد التكاليف من المكسب.. وصدر العدد الأول في 16/9/ 1952.

وأذكر أنني أخذت العدد الأول من مجلة " التحرير " وذهبت به إلى جمال عبد الناصر لصداقتي القديمة به ولعلمي عن دوره في تنظيم الضباط الأحرار، فقلب عبد الناصر العدد بين يديه ثم قال لي: والله حاجة كويسة.. بس وريها للإخوان " يقصد زملاءه في مجلس الثورة" في نفس الوقت كانت نسخ المجلة فئ المخازن في انتظار توزيعها في اليوم التالي، ولما عرضت المجلة على " صلاح سالم" قال لي: أنتم هتوزعوها مجانا؟ فقلت له بدهشة:ليه هي نشرة سفارات؟

بعدها ذهبت إلى كمال الدين حسين الذي تصفحها ووقف عند تحقيق صحفي مع رؤساء تحرير الصحف المصري نهم أحمد أبو الفتح وأحمد الصاوي محمد وكامل الشناوي وآخرون، ومع التحقيق صورة لي ومصطفى بهجت بدوى فقال لي كمال الدين حسين مستغربا: الله.. هو أنتم بقيتم من كبار الصحفيين.

أدهشتني طريقة التفكير وذهبت إلى جمال عبد الناصر وقلت له: يبدو أن الإخوان عندما عرضت عليهم المجلة للأسف مش فاهمين حاجة، فأرجو أن تعتبرني متحملا مسئولية هذه المجلة، وأنت أيضا تتحمل المسئولية معي لأنك وافقتني على أن أصدرها.

ضحك عبد الناصر وقال بسماحة وطيبة: يالله .. روح وزع المجلة.

ووزعنا من العدد الأول حوالي 130 ألف نسخة، وصارت المجلة حديث الناس في كل مكان.. لأسباب عديدة من بينها أننا نشرنا بعض الأسرار والأخبار التي حصلنا عليها من مصادرنا.. ولأول مرة يقرأ الناس لعشرات الأسماء اللامعة في مجلة واحدة.. وأنها مجلة الثورة..

ولكن منذ العدد الأول بدأت حملة هجوم على مجلة التحرير من بعض أعضاء مجلس قيادة الثورة أصحاب الاتجاهات المحافظة والذي لم يكن فكرهم متطورا بدرجة تطور فكر منشورات الضباط الأحرارأو فكر جمال عبد الناصر ، فبدأت الحرب وأثاروا الناس وكذلك الضباط.

وبعد شهرين من صدور المجلة وكنت قد دخلت كلية أركان حرب وفوجئت بخبر منشور في جريدة المصري باستبدالي بثروت عكاشة رئيسا للتحرير وكان برتبة صاغ وقتها.. وفوجئت بجمال عبد الناصر يطلبني ويلح على في الكتابة ولكنى رفضت.. وبعدها اعتقلت.

• قلت: يلاحظ المتابع للصحافة المصرية من تسلل الضباط الأحرارإلى مناصب رؤساء التحرير ومجالس الإدارات .. لماذا ؟

- بعد لحظات من الصمت والتأمل .. قال الأستاذ أحمد حمروش:

حرص جمال عبد الناصر دائما على وضع العسكريين في رئاسة مجالس إدارات الصحف ورئاسة تحريرها، والبداية مع الصحف والمجلات التي أصدرتها الثورة لتعبر عنها.

مجلة التحرير تولى رئاسة تحريرها ثروت عكاشة بعد إعفائي من العمل في شهر نوفمبر 1952 ثم ضمت إلى دار الجمهورية حيث كان أنور السادات رئيسا لها بعد إعفاء ثروت عكاشة أيضا.

المساء تولى رئاستها خالد محيى الدين، ثم مصطفى المستكاوى.

الشعب تولاها صلاح سالم ثم لطفي وأكد حتى انضمت إلى جريدة الجمهورية، بناء الوطن المجلة الشهرية رأسها أمين شاكر، والثورة كانت مجلة أسبوعية أصدرتها منظمات الشباب ورأسها صاغ وحيد الدين جودة رمضان.

وعهد إلى بإصدار مجلة أسبوعية جديدة تحت اسم الفجر عام 1956 وشكلت لها مجموعة تحرير ضمت محمود أمين العالم، سعد لبيب ،منير حافظ، صالح مرسى، راجي عنايت، رسام الكاريكاتير جورج البهجورى، ولكنها لم تصدر رغم طبع ثلاثة أعداد منها للتجربة ولم يكن هناك جواب شاف حول: لماذا لم تصدر؟

نعم كل الصحف التي أصدرتها الثورة رأسها عسكريون ولكنها لم تكن جميعا تعبر عن رأى واحد.

جريدة المساء لعبت دورا في ظهور الفكر اليساري المتقدم ومخاطبة الجماهير بآراء يسارية متحررة، واهتمت بقضايا الثقافة الجديدة، وتابعت قضايا المجتمع متابعة موضوعية تميزت بها عن غيرها من الصحف.

بينما مجلة بناء الوطن مثلا كانت تدعو إلى الاقتصاد الحر والثقافة الغربية، وجريدة الجمهورية عانت من انقلابات إدارية وفكرية لكثرة تغيير الذين تولوا مسئوليتها بعد أنور السادات.

فقد كانت الأيديولوجية ما زالت غائبة.. والحيرة طابع التصرفات والتجربة هى أساس الحركة.

  • قلت: وحتى الصحف الأخرى كالأهرام والأخبار وأخبار اليوم ودار الهلال وروزاليوسف وهى صحف ومجلات كان لها وزنها حتى قبل ثورة يوليو وطئت إليها أقدام العسكريين فيما بعد؟

إن الصحافة المصرية التي تعتبر من أجهزة الدعاية شديدة التأثير في العالم العربي كانت بعيدة عن التجاوب الحقيقي مع أفكار الثورة المتوهجة، وخاصة أن الرقابة كانت قد ألغيت تماما عام 1956.

يواصل حمروش قائلا: وكان ذلك أمرا طبيعيا.. معظم أصحاب الصحف ورؤساء تحريرها كانوا من أتباع النظام الملكي المنهار المروجين له.. الصحف الوفدية التي تولت – إلى حد ما- معارضة الملك وتجاوبت مع إرادة الجماهير صودرت واختفت " مثل المصري، وصوت الأمة" وكل الجرائد والمجلات اليسارية صودرت أيضا.وصحف أخبار اليوم يملكها على ومصطفى أمين ودورهما معروف في تأييد الملك ودعم صحف الإثارة والترويج للسياسة الأمريكية،

والأهرام كانت ملكا لأسرة تقلا وظلت خلال تاريخها الطويل بعيدة عن المساهمة الايجابية مع الإرادة الشعبية المصرية مغلبة الاعتدال والاتزان في كل شيء، وصحف روز اليوسف يملكها إحسان عبد القدوس ويشاركه في صدورها مجموعة من الشباب ذوى الآراء السياسية المختلفة، وهى في آرائها السياسية وأسلوبها الصحفي المتميز بالنقد لا يمكن أن تكون تابعة في سكون.

ولم يتغير أحد من المسئولين عن تحرير هذه الصحف بعد الثورة، ولم يؤثر نشر كشف المصاريف السرية عام 1954 على موقع أحد في المسئولية، ولم يدخل التطهير دارا من دور الصحف ، وعندما تقرر تنظيم الصحف أي تمليكها للاتحاد القومي وإعطائه سلطة الإشراف عليها وكان ذلك من مؤشرات التأميم المبكرة،

وتولى الضباط منصب العضو المنتدب في المؤسسات الصحفية، وكان صلاح سالم رئيسا لدار التحرير ، وحسنين هيكل الصحفي المقرب من عبد النصر رئيسا لمؤسسة الأهرام ودار الهلال بعد ضمها لبعضها وتولى رئاسة مؤسسة أخبار اليوم.

قلت : ما الفرق بين تجربة التحرير وتجربة الجمهورية؟ • قال أحمد حمروش: في البداية أقرر أن مجلة التحرير لم تحتضن أي من المشهورين والمعروفين وحتى الكتاب والصحفيين الذين ساهموا في تحريرها وكانوا من المشهورين والمعروفين قبل قيام الثورة كانوا من أصحاب الفكر المتفتح وليسوا من أصحاب الاتجاهات الرجعية المعروفة بصلاتها بالقصر الملكي أو الاحتلال.

مثلا الأستاذ " أحمد أبو الفتح" كاتب وصحفي وفدى وطني مستنير، كامل الشناوي كان على علاقة طيبة بالمجلس العالمي للسلام.

ونجاح مجلة التحرير أعطى نوعا من الإغراء للثورة أن تدخل مجال الصحافة اليومية.. كانت الأنفاس قد هدأت واستقرت الأمور، ولم يعد الضباط يأكلون سندوتشات الفول. وبدأ التفكير في إصدار جريدة الجمهورية، وحشد لها أعظم الناس والفنانين والكتاب وأجريت تجارب على مدى أسابيع وشهور، إلى أن صدرت في أكتوبر عام 1953، وكان صدورها مقترنا ببرود شديد، ولم تستطع جذب القراء إليها.

قلت: لماذا رغم أن من كتابها طه حسين، ولويس عوض ومندور وآخرين؟

قال : هذا صحيح ، وعندما كنت تحس فعلا أنك أمام جريدة دسمة ومصروف عليها كويس ، لكن إحساس الجماهير بها كان مفتقدا.

قلت: لماذا أيضا؟

قال : تفسيري لذلك يكمن في القيادة التي كانت توجه الجمهورية والفكر الذي يوجهها، أقصد أن النبض الحقيقي للجماهير لم يكن موجودا على صفحاتها .

الجماهير الراغبة المتطلعة للتغيير، وأنا- هنا- أريد أن أضع حدا فاصلا بين عام 1952 وعام 1953، ففي عام 1952 كان كل الناس مع الثورة..

أما في عام 1953 كانت الثورة قد ضربت الأحزاب وألغت الدستور، وبدأ يتكون لها أعداء من الجبهة الداخلية سواء من الوفديين أو الشيوعيين أو الإقطاعيين، فكان صدور الجريدة في هذا الوقت المفروض أن يعبر عن هذا ، وفى اعتقادي أن هذا لم يحدث.

ومن الجائز أن تجد جريدة تستخدم التكنيك الصحفي ، وأن تكون لها رؤية ممتازة للأمور ، ومع ذلك ينصرف الناس عنها، ولا يصل فكرها إليهم.

فمثلا جريدة الأخبار عندما أصدرها مصطفى وعلى أمين، في البداية لم يزد توزيعها على 30 ألف نسخة، رغم أن مصطفى وعلى مدرسة صحفية ليس في هذا أدنى شك، وكانت هناك جريدة المصري لأحمد أبو الفتح وتوزيع مائة أو 200 ألف لأنها ببساطة جريدة شعبية كان القراء والناس تجد نفسها على صفحاتها.

والذي أنقذ صحيفة الأخبار حقيقة هو قيام |ثورة يوليو 1952 ، فقد التقط مصطفى وعلى أمين ضيق الناس من الملك والنظام الساق ورغبتهم في شيء جديد، فأخذا ينشران قصة الملك فاروق كاملة وفضائح العهد السابق، وارتفع توزيع الأخبار بشكل خرافي، أما جريدة الجمهورية فلم تفعل ذلك.

• قلت: كيف تفسر انفراد الأستاذ محمد حسنين هيكل بالصحافة، حتى صار أبرز ظاهرة صحفية طوال عصر جمال عبد الناصر؟

أجاب الأستاذ أحمد حمروش: في بداية |ثورة يوليو 1952 لم يكن محمد حسنين هيكل هو أقرب الصحفيين إلى جمال عبد الناصر، فقد كان هناك صحفيون آخرون مثل إحسان عبد القدوس ، مصطفى أمين، حسين فهمي، وأحمد أبو الفتح، وكل هؤلاء كانوا أصدقاء لجمال عبد الناصر ،

وهناك نقطة هامة وهى أن هيكل حينما تعرف على عبد الناصر لم يكن صحفيا مبتدئا، فقد كان وقتها يشغل منصب رئيس تحرير مجلة آخر ساعة، بل أنه تولى هذا المنصب فعلا قبل قيام ثورة يوليو 1952.

والنقطة الثالثة: أن هيكل كان أكثر الصحفيين حرصا وفهما لطبيعة المرحلة، وأيضا رغبة في الاستفادة من وجوده قريبا إلى زعيم هذه الثورة، فإذا كان هيكل قد اثر على عبد الناصر كي يجعل منه الصحفي الوحيد، فأنا أقول إن هذا غير ممكن ومستحيل لأنه ضد طبيعة جمال عبد الناصر شخصيا،

فأنت على سبيل المثال إذا حاولت عند عبد الناصر أنك تصبح الصحفي الوحيد لديه لن تنجح ، ولكن إذا وجد عبد الناصر أن رغباته وأفكاره وأحلامه تترجم جيدا من خلالك فهو الذي سيقربك إليه ، لأنه هو الذي سيكون محتاجا لك.

لذلك أقول إن عبد الناصر كان محتاجا لهيكل وكان يتبادل معه الأفكار والحوار مثل مباراة في الشطرنج، ولكن في النهاية كان هناك رأى لعبد الناصر ورأى لهيكل، وكثيرا ما اختلفوا بل كثيرا ما أدى خلافهما في الرأي إلى أحداث كانت من الممكن أن تأتى لمصر بالمصائب.

• هل هناك أمثلة محددة لما تقول؟

في أكتوبر عام 1964 قامت ثورة شعبية في السودان انقضت على حكم عبود، فكتب هيكل عدة مقالات في الأهرام.

كان نتيجتها أن قامت ثورة في الخرطوم وقام المتظاهرون بحرق العلم المصري في السفارة المصرية بالخرطوم، فهل كانت هذه المقالات هي رأى عبد الناصر.. بالتأكيد لا .. لأنه عندما بلغ عبد الناصر خبر المظاهرات وحرق العلم المصري قال: هو العلم ده إيه.. مش قطعة قماش.. نعمل علم تانى.

إذن عبد الناصر لم يضخم المسألة لأنه مدرك أن هيكل كتب ما هو مقتنع به شخصيا، لأن ما كتبه هيكل كان فيه معنى الهجوم على الناس في الشوارع، ورأى عبد الناصر كان مختلفا ، وأنا في هذا الوقت كنت أعلم تماما رأى عبد الناصر في مساندة الثورة الشعبية في السودان.

وعندما حصل تغيير في الجزائر وانتقت السلطة من أحمد بن بيللا إلى هوارى بومدين كتب هيكل عدة مقالات كادت أن تؤدى إلى قطع العلاقات بين الجزائر ومصر.

وما أريد أن أقوله إنه كان هناك دائما خط تمييز بين عبد الناصر وبين هيكلن وكون هيكل الصحفي الأوحد في عصره، نعم بلا جدال، وهذا كان نتيجة موهبة شخصية توجد فيه.. نتيجة أن هيكل صنع لحياته كصحفي " تخطيط كويس" ، ولأنه صحفي دءوب ومهتم أن يطور الصحافة، ويتضح هذا في مؤسسة الأهرام.

على الجانب الآخر عبد الناصر محدش كان يقدر يركبه، ولا أحد يستطيع أن يفرض نفسه ليكون قريبا منه، ولكن عبد الناصر هو الذي كان يختار من يكونون قريبين منه، وهذه طبيعة أي حاكم فرد يختار من يريد أن يتعاون معه، ومن يريد أن يكون قريبا منه.

قلت: هل تتصور أن بعض أفكار هيكل ومقالاته كانت بتوجيهات من عبد الناصر

أريد أن أقول لابد من التفريق بين أن عبد الناصر كان يعطى لهيكل أفكاره كي يحولها إلى خطبة أو بيان، فهذه قضية أخرى ، فإذا جاء هيكل وترجم هذا ترجمة جيدة تريح عبد الناصر فمفيش مناقشة، لكن أن يتدخل عبد الناصر فيما يكتبه، أو ما الذي سوف يكتبه، فأنا لا أتصور أن هيكل يقبل هذا ، ولا أتصور أيضا أنه كان سيكتب بشكل كويس إذا أوحى غليه بأن يكتب في كذا وكذا. – وأقول عن نفسي أنه لو أوحى إلى بأن أكتب كذا.. فلن أعرف، وكلن أنا أكتب ما في صدري وما في ذهني وما أنا مقتنع به، وعلى الأقل سأكتب ما يرضيني وفى هذه الحالة فإن ما أكتبه يتجاوب مع عبد الناصر أو لا يتجاوب هذه قضية أخرى. * ألم يكن هيكل وراء كتابة" فلسفة الثورة" الذي هو ترجمة لأفكار عبد الناصر وكذلك الميثاق الوطني وبيان 30 مارس؟

قال حمروش: أنت تؤيد ما أقول.. هل هذه المؤلفات كتب عليها بقلم محمد حسنين هيكل.. لا.. إذن هو ليس مسئولا عنها.. المسئول جمال عبد الناصر لأنه أوحى بأفكارها- وخطوطها العامة إلى هيكل فكتبها ووافق عليها عبد الناصر، ولكن ظهور مقال مكتوب وموقع عليها بإمضاء محمد حسنين هيكل هنا هو المفكر والمسئول عن أفكاره.

قلت: ما الظروف التي صرت فيها مسئولا عن مؤسسة روز اليوسف؟

- كان ذلك عام 1964، وكانت تلك الأيام فترة عصيبة، لأنه الفترة التي أعقبت مرحلة التأميم، وكذلك فترة انتقال الثورة لمرحلة جديدة، وصدر قانون عدم جواز الجمع بين وظيفتين في وقت واحد، ولكن كنت أعمل صحفيا في جريدة الجمهورية وفى نفس الوقت مدير مؤسسة المسرح، آثرت أن أعمل بالصحافة، فذهبت إلى مؤسسة روز اليوسف وقابلت إحسان عبد القدوس الذى رحب بى جدا واتفق معي في نفس الوقت على أن أكتب بضعة مقلات أو أفكار في مجال الثقافة، وبدأت بالفعل في الكتابة. - وحدث في تلك الأيام أن قامت ثورة أكتوبر 1964 في السودان، وأرسلتني مجلة روز اليوسف لتغطية أحداث الثورة، في نفس الفترة حدث تغيير في روز اليوسف فتولى رئاسة مجلس الإدارة الأستاذ أحمد فؤاد( رئيس بنك مصر حاليا) وهو صديق قديم وواحد من الذين تعاونوا معا قبل ثورة 1952.

المهم سافرت السودان وكتبت عدة تحقيقات صحفية عن حقيقة ما حدث فيما يبدو أن عبد الناصر قرأ هذه التحقيقات عندما نشرت في روز اليوسف وأعجب بها، وفوجئت به يطلبني ويبلغني رغبته في أن أترك المسرح وأمسك روز اليوسف، وأحرجني ذلك العرض.

لأنه من غير المنطقي أصبح رئيس تحرير مكان صديق عزيز هو أحمد فؤاد، فلما وجدت إصرارا وتصميما من عبد الناصر قبلت، وخصوصا أن مجال الثقافة أيامها قد صار ضيقا.

قلت : هل حدث أن اتصل بك عبد الناصر مثلا لكتابة شيء معين في روز اليوسف ؟ • قال حمروش: أؤكد لك إنني منذ توليت مسئولية رئاسة تحرير مجلة روز اليوسف لم يتصل أبى أحد لكتابة شيء معين، أو حتى يوصى بالكتابة في اتجاه معين، ولم يفرض على أي التزام خاص، ولم أقابل أي رقيب إطلاقا على صفحات المجلة إلا اعتبارا من نوفمبر 1968( أي بعد نكسة يونيو 67)

واعتز ببعض الخبطات الصحفية التي عملناها في روز اليوسف، منها مثلا موضوعات" آبار الوادي الجديد" وبعد نشر الموضوع تحركت طائرة فيها 12 وزيرا و8 أمانة الاتحاد الاشتراكي للتحقيق فيما نشرته روز اليوسف وتبين صدق المعلومات التي نشرتها المجلة.

ومرة ثانية أثارت روز اليوسف موضوعا عن تزوير الميزانيات في شركات القطاع العام، وكنا نكتب من منطلق حب وتدعيم القطاع العام والرغبة في إصلاحه، وفهم البعض أننا نهاجم القطاع العام، وذهبت لمقابلة د. عزيز صدقي وزير الصناعة وقتها وشرحت له أفكاري .. وقدم لي هو توضيحا وشرحا ممتازا لقضية الصناعة في مصر.

ومرة ثالثة كتبنا عن " تهريب الأرض" صحيح أن قانون الإصلاح الزراعي كان موجودا ولكن فيه بعض الناس يملكون أرضا أكثر مما ينص عليه القانون وقتها.

ولكن مع هذا يجب أن أعترف أن " زهوة" روز اليوسف خلال تلك السنوات لم تكن في زهوة مجلة " التحري" لأنه في الفترة من عام 1964 إلى 1967 كانت سنوات حاسمة. كان الميثاق الوطني في صدر،أيده البعض ورفضه البعض وتم تفسيره مليون تفسير، وكانت فترة قلقة بالنسبة للجماهير ، فكتب عدة مقالات عن الأربع السنوات الحاسمة.

إنما على الأقل- وأنا أتكلم من وجهة نظري الصحفية- استطعنا أن نتمسك بشرف الكلمة أن نجعل من روز اليوسف تعبيرا عن الرأى الصادق الذي كنا نؤمن به: ولم يحدث أي نوع من التدخل أو الرقابة كما يدعى البعض.

• خلال تلك السنوات الحاسمة.. الم يحدث وهاجم عبد الناصر أو انتقد أشياء فى مجلة روز اليوسف غلاف أو مقال ؟ • ضحك أحمد حمروش وقال : حدث ذلك ولم يكن هجوما بالمعنى المحدد، كان ذلك بعد نكسة يونيو 1967 وكان ينعقد في الإسكندرية مؤتمر المبعوثين وكنت حاضرا هذا الاجتماع ووقف البعض وقال إنه لا توجد حرية صحافة، فرد عبد الناصر قائلا: هذا غير صحيح ففي روز اليوسف تكتب مقالات ونقد شديد أنا غير موافق وأعتبر أن فيها تزايدا و مع هذا لا أتدخل فيما ينشر أو يكتب. وكان عبد الناصر صادقا لما يقول .

• لماذا إذن كانت خطوة تأميم الصحافة؟

بهدوء أجاب أحمد حمروش: لو أذنت لي أخرج قليلا من موضوع الصحافة وتأميم الصحافة وأعود لفترة الستينات بشكل عام وأنا أسميها " فترة الحيرة والاختيار" لأكثر من سبب:

فبعد أن نجحنا في صد العدوان الثلاثي عام 1956 وبدأت عملية التمصير، هذا جعل توجها جديدا نحو أن الدولة تمتلك كل شيء ( مصانع شركات تأمين، بنوك، الشركات الأجنبية) وبدأت الدولة تصبح مسئولة عن هذا القطاع.

حتى هذه الفترة كانت الدولة رأسمالية، بل بالعكس كانت تدعو رأس المال الاجنبى أن يأتي ، وكان يوجد قانون من أيام حزب الوفد يقول إن نسبة رأس المال المصري تكون 51% قامت الثورة بعمل العكس 49% لمصر والباقي 51% لرأس المال الأجنبي، ولم يأت رأس المال الأجنبي.

وحدثت خلافات شديدة بين مجلس الإنتاج القومي الذي كان يضم عبد الجليل العمري وحسين فهمي وكانوا ينادون بضرورة مجيء رأس المال الأجنبي بدعوى أن هذا يحدث تدرجا في الاقتصاد القومي، لم يحدث أيضا، وعندما حدث التمصير مع عدم مجيء رأس المال الأجنبي وإحجام الرأسمالية المصرية عن الدخول في عملية الإنتاج حدث نوع من الحيرة والبلبلة.

كيف نتقدم بالمجتمع، كيف نحقق التغيير، وهنا بدأ يظهر الصراع الطبقي في المجتمع، طبقة البرجوازية الصغيرة المتمثلة في " الضباط الأحرار" وصلت للسلطة ولكنها عاجزة عن القبض على السلطة، لأن القبضة الحقيقية للسلطة كانت في أيدي الرأسماليين أي الطبقة القديمة أي أنهم كقادة كانوا يحاربون بجنود الأعداء، فكانت النتيجة أنهم كلما وجدوا الفرصة سانحة للاستيلاء على شيء استولوا عليه.

أيضا بالنسبة للصحافة والصحفيين فقد كانوا يعبرون عن طبقات وانتماءات مختلفة، ورأوا من الثورة خلال السنوات 1952إلى 1960 مواقف عديدة متباينة أرضت البعض ولم ترض الآخرين، مواقف ضد الديمقراطية ومواقف معها، مواقف ضد الاستعمار والأحلاف العسكرية، مواقف مع العمال والفلاحين، ومواقف مع الوحدة العربية.

كانت هناك مواقف كثيرة تلزم كل إنسان أن يبدى رأيه، يحدد موقفه، فكان لابد أن تضع الثورة يدها على الصحافة.

• ألم تكن المسألة إذا مزاجا شخصيا لجمال عبد الناصر؟ • قال: لابد أن يكون لجمال عبد الناصر مزاج شخصي باعتباره قائدا له مطلق الصلاحيات، ولا نستطيع أن نقول إنه حتى أعوام الستينات كانت هناك ديمقراطية تناقش القائد في قراراته ولا حتى مؤسسات تقول له: أخطأت في هذا .. كان الاندفاع الثوري مستمرا..

وكان عبد الناصر هو الحاكم المطلق، وعندما تم تأميم الصحافة عام 1960 كان لعبد الناصر كلمته المأثورة : أنا عاوز الصحافة تتلكم عن كفر البطيخ وليس سكان القصور والفيلل.

وهذا معناه أن عينيه كانت على الفقراء والمساكين من ابناي شعبه,

ومن ناحية أخرى فليس هناك شك أنه وجد في زمن الصحافة نقدا يتعبه فكان أقصر الطرق عنده هو تأميم الصحافة.

• ورأيك أنت الشخصي في تأميم الصحافة المصرية؟ • عندما نؤمم الصحافة تؤمم الحرية .. وأنا لا يمكن أن أكون ضد حرية الصحافة، وطالما أنا متخذ موقفا وطنيا سليما والسلطة في يدي فليس هناك خوف من شيء.

أدخلت ثورة 23 يوليو مبدءا جديدا في الصحافة المصرية لم يكن موجودا قبل ذلك وهو مبدأ تعيين رئيس التحرير باعتبار أن الاتحاد الاشتراكي ( وقبلها القومي) كان هو المالك الوحيد للصحافة.. فما رؤيتك أنت في هذا المبدأ؟

قال الأستاذ أحمد حمروش : في كافة الأحوال أريد أن أقول إن مالك الجريدة هو الذي يقوم بتعيين رئيس التحرير ، وأمامنا قضية " رفت" رئيس تحرير " التايمز" فعندما قرر مالك الجريدة الاستغناء عن خدماته قام " برفته" ففي المجتمع الرأسمالي مالك الجريدة يستطيع أن يفصل رئيس التحرير، وفى المجتمع الاشتراكي فإن الدولة ممثلة في الحزب وهى التي تعين رئيس التحرير وهى التي تفصله أيضا.

أما في مصر فإذا كان الاتحاد الاشتراكي هو الذي يملك الصحف فهو الذي يعين رئيس التحرير، الآن أصبح مجلس الشورى وإذا كانت قضية الموهبة الصحفية رئيسية جدا في نجاح الصحافة، فإن المسئولية الوطنية والاجتماعية أيضا ضرورية وخصوصا في مراحل التحول الاجتماعي وأنا لا أتصور أن مصر خلال أكثر من 30 سنة ( هي عمر ثورتها) قد انتهت من مرحلة التحول الاجتماعي، بل أنها ستظل كذلك لفترة طويلة إلى أن يستقر المجتمع ويصبح له قيم وتقاليد وسمات واضحة.

• شهادتك على الصحافة المصرية في فترة تولى الرئيس الراحل أنور السادات لحكم مصر؟

- شهادتي وللأمانة أنه حدثت أخطاء في عهد الرئيس جمال عبد الناصر هي التي أدت إلى السيئات والسلبيات التي حدثت في عصر أنور السادات، وبالنسبة للصحافة على وجه التحديد أقول إنني كاتحاد اشتراكي أو حزب فإنني أتحمل مسئولية التحول الاجتماعي في البلد،

- وكان هذا يستلزم منى حسن اختيار العناصر التي تقود الصحافة وأن اكتشف من هم الصحفيون الذين سيلعبون دورا انتهازيا حتى لو كانوا موهوبين وأحجمهم لأنني أستشعر الخطر من ناحيتهم، لأنهم ثورة مضادة ناشئة تحت عباءة الثورة وبألفاظ المديح التي يستطيعونها أكثر من أصحاب المبدأ ، لأن أبناء الثورة ليس عملهم المديح إنما النقد، وفى كل مكان تجده ينتقد.

وحتى أيام جمال عبد الناصر كانت هناك عناصر غير معبرة عن الفكر الاشتراكي فعلا.. وقد قال الميثاق إننا في مرحلة تحول اشتراكي في نفس الوقت كان الاشتراكيون يملأون السجون والمعتقلات، وحتى عندما خرجوا من السجون- وهم رصيد الثورة الحقيقي في عملية التحول الاجتماعي- لم يمنحوا الفرصة الحقيقي كى يتولوا المسئولية الرئيسية الأولى المعبرة عن هذا التحول الاجتماعي.

وإذا تعرضنا لمسألة نقل الصحفيين إلى مؤسسات غير صحفية ، وقد حدث ذلك أيام جمال عبد الناصر، فأنا ضد هذه المسألة ، ليس لأني أتخذ موقفا ليبراليا مطلقا 100% وإنما لأن عددا من الأسماء التي نقلت إلى باتا والمصانع الأخرى كانت أكثر إخلاصا للثورة من بعض العناصر التي بقيت..

إذن لم تكن هناك مقاييس دقيقة لهذه العملية .

• ألم تكن النظرية السائدة وقتها أهل الثقة لا أهل الخبرة؟

قاطعني الأستاذ أحمد حمروش: إذا سمحت لي فهذه موازنة خاطئة، لأن أهل الكفاءة إذا تمت الثقة فيهم فلن توجد مشكلة، إن أهل الثقة كي يتحولوا إلى أكفاء فهذا يحتاج إلى وقت وطبعا مفيش شك أن أهل الثقة شيء رئيسي ، لكن عندما تأتى بإنسان لا يعرف شيئا.. وليس كفأ وأقول إنه كويس لأني أثق فيه فقط فهي تجربة خطيرة ، ممكن ينجح ،

وهناك حالات شاذة للنجاح، وأنا أدعى أنني عندما دخلت المسرح كنت من الممكن ممن يقال عنهم أهل الثقة، ولكن ما حدث إنني أحسست بمسئولية المسرح الملقاة على عاتقي، وأنني لابد أن أؤدي دورا لخدمة المسرح المصري، فكنت أقرأ وأدرس وأتابع وأناقش وأحلل، واستطعت أن أقدم ما يرضيني للمسرح، والحكم في هذا للنقاد بالطبع ولكن هذا ليس تعميما.

هذه بعض الأخطاء التي حدثت أيام جمال عبد الناصر ثم انسحبت لما بعد عبد الناصر وأصبحت هي القاعدة، ومع الاتجاه الجديد لحكم السادات- والذي اعتبره أنا شخصيا- رده على أهداف واتجاهات وانتماءات ثورة يوليو حدث نوع من التغيير والامتداد وما كان يحدث في صورة صغيرة أيام جمال عبد الناصر حدث في صورة كبيرة بعده..

فقد حدث في عام 1972 أن نقت هيئة النظام 104 صحفيين إلى الاستعلامات.. وعندما كان الكاتب مؤمنا بالفترة التي عاشها ويحترم ذاته وإرادته كانت النتيجة أن خرج من الصحافة المصرية أسماء مثل محمد حسنين هيكل، أحمد بهاء الدين، أحمد حمروش، إحسان عبد القدوس، عبد الرحمن الشرقاوي أنى أن الذين كانوا يتولون مركز المسئولية أصبحوا بعيدين عن مركز المسئولية، فإذا كان في أيام جمال عبد الناصر يذهب عشرة أو عشرون صحفيا إلى الشركات.. أصبحوا 104 وانتهى الأمر إلى كارثة 5 سبتمبر 1981.

وعلاقتك بالرئيس الراحل السادات كيف بدأت؟ • - قال أحمد حمروش وهو يحاول استرجاع شريط ذكرياته:

- علاقتي بأنور السادات كانت موجودة قبل وفاة جمال عبد الناصر .. وبعد وفاة عبد الناصر بدأت العلاقة معه بطريقة درامية جدا.. والذي حدث أنني في ذات ليلة من عام 1971 فوجئت بانقلاب عسكري حدث في السودان يقوده"هاشم العطا" ضد الرئيس جعفر نميرى كان ذلك في 19 يوليو 1971 وقد كانت لي صلة وثيقة بشئون السودان منذ أن أوفدني عبد الناصر، مندوبا عنه مرتين قبل ذلك بسنوات. - المهم أنني طلبت مكتب الرئيس السادات، وعندما عدت لمنزلي فوجئت أن الرئيس السادات يكلمني الساعة الثانية عشرة مساء ويقول لي: أخبارك إيه عن هاشم العطا وما يحدث في السودان..

ولأني أعرف هاشم العطا وكانت لي به علاقة صداقة وكان يزورني مرات في مكتبي بروز اليوسف ونتحدث بالساعات عن دور الضباط والقوات المسلحة في الانقلابات العسكرية في دول العالم الثالث، فقد قلت للرئيس السادات: أؤكد يا سيادة الرئيس أن هاشم العطا من أكثر الناس حبا وتقديرا لمصر وشعب مصر وقيادة مصر.

وطلب منى السادات أن أسافر في ذات ليلة إلى الخرطوم( عاصمة السودان) دون أي توجيه أو حديث حول ما الذي يجب أن أفعله بالضبط؟ ولكنه أضاف: إن السوريين والليبيين متخوفون مما حدث في السودان بعد إذاعة البيان الأول، وسافرت للسودان مستهدفا إقامة جسر من الصداقة بين القاهرة والخرطوم،

وعندما عدت كتبت ما طلبه منى هاشم العطا كي أبلغه للرئيس السادات، وقابلت السادات، وتبين لي أنى بمجرد أن سافرت بدأت عملية تدبير مضاد للحركة العسكرية اشترك فيها الليبيون والفريق أحمد صادق وعدد من المخابرات البريطانية ، وحدث الانقضاض على الحركة العسكرية.

وبعد أسبوع طلبني الرئيس السادات وقال لي: أنا كنت سوف أعينك في اللجنة المركزية للاتحاد الاشتراكي لولا التقرير الزى كتبته عن السودان،فقلت له : تقرير إيه.. أنا أم أكتب تقارير .. ولكنى قلت لك إن السودانيين يطلبون كذا وكذا.. وطلبت منك أنك يوم 23 يوليو تحييهم في خطابك.

وجلسنا نتناقش حوالي 3 ساعات وأخيرا قال لي السادات: أنت تعبتنى يا حمروش وكررها ثلاث مرات.

وكان ذلك اللقاء الأخير.

محسن عبد الخالق

الثورة .. والصحافة.. سنوات القلق.

قبل السابعة صباحا كان جمال عبد الناصر يستيقظ ومع كوب من الشاي يشربه بحبوب " السكارين" كانت تدخل له الطبعات الثلاث من صحف القاهرة، كان يقرأ الصحف جميعا، أخبارها ، مقالاتها وتعليقاتها وكان يقارن بين الطبعات المختلفة من كل صحيفة، وكثيرا ما كانت له ملاحظات عليها.

أحيانا كان يطلب إعادة نشر خبر صدر في الطبعتين الثانية والثالثة من صحيفة ولم يظهر في طبعتها الأولى، فيطلب إعادة نشره في الطبعة الأولى اليوم التالي ليطلع عليه قراء الصعيد الذين تصلهم الطبعة الأولى من الصحف والذين فأتتهم قراءة الخبر في اليوم السابق.

السطور السابقة أنقلها عن مقال كتبه" حاتم صادق" زوج ابنة جمال عبد الناصر، وكان عنوان المقال " عبد الناصر .. كيف كان يعمل؟" وربما كانت السطور السابقة مدخلا مناسب لمناقشة علاقة عبد الناصر بالصحافة قارئا وحاكما وزعيما.

د. محسن عبد الخالق واحد من الضباط الأحرارالذين غيروا تاريخ مصر السياسي والاجتماعي صباح 23 يوليو 1952، وهو المتهم الأساسي في قضية انقلاب المدفعية عام 1953، وتعود علاقته بعبد الناصر إلى حرب 1948، وكان في مكانة المستشار السياسي لعبد الناصر والمسئول عن تصريف أمور مكتبه،

ثم أنه تولى مسئولية الإدارة والإشراف على " دار التحرير " طوال أربع سنوات ونصف ، اجتيح له فيها أن يشاهد ويسمع ما كان يدور في كواليس السلطة ودهاليز الصحافة.

وقد روى مصطفى أمين ( في كتابه لكل مقال أزمة) أن عبد الناصر اتصل به وطلب منه نشر هذه السلسلة ، ثم طلبه ثانية وقال له أن يكتب قصة الثورة، وأملاه أسماء التسعة الذين يتألف منهم مجلس قيادة الثورة، وروى له تفاصيل الثورة وأسرارها،

وأخبراه أن البكباشي أنور السادات سيجتمع به في بيته بمنيل الروضة ليراجع كل مقال قبل نشره، وراجع السادات المقال ، ثم قرأته – أي مصطفى أمين- على جمال عبد الناصر في التليفون فوافق عليه بعد أن عدل فيه ثلاث كلمات ونشرت صورة جمال عبد الناصر في الصفحة الأولى،

ونشرت باقي صور مجلس الثورة الثمانية في صفحة داخلية مع بقية المقال، وكان الأعضاء هم: جمال سالم، أنور السادات، عبد اللطيف البغدادي، كمال الدين حسين، حسن إبراهيم ، صلاح سالم، عبد الحكيم عامر، خالد محيى الدين.

وما كادت المقالة تنشر حتى قامت قيامة عدد كبير من الضباط الأحرارفقد كان كل واحد منهم يتصور أنه عضو في مجلس الثورة.

ولم يكن جمال عبدالناصر قد أبلغهم بأسماء أعضاء مجلس الثورة، واتصل بى جمال عبد الناصر تليفونيا- ما زال الكلام على لسان مصطفى أمين- وقال لي إنه اصدر أمره بالتحقيق معي لأني تسببت بما نشرته في وقوع فتنة بالقوات المسلحة.

• وعدت أسأل د. محسن عبد الخالق: لماذا أثار هذا المقال كل هذا الغضب والاستياء بين صفوف الضباط الأحرار؟ وهل كان كل واحد منكم – من الضباط الأحرار- يتصور أنه في مجلس الثورة؟ • قال د. محسن عبد الخالق: دعني أؤكد لك أن الضباط الأحرارلم يكونوا بمثل هذه الدرجة من الهيافة أو السطحية التي حاول الكثيرون تصويرنا بها، بل كان الضباط الأحرارمن خيرة شباب مصر وكانوا على درجة عالية من الثقافة والعلم، وعندما قرأنا مقال الأستاذ مصطفى أمين " سر الضباط التسعة" غضبنا غضبا شديدا وثرنا ثورة عارمة ليس لأن كلا منا كان يتصور أنه عضو مجلس ثورة،

أو أن عبد الناصر لم يكن قد أبلغنا بأسماء أعضاء المجلس.. هذا كله غير صحيح بالمرة، فقد قمنا بالثورة لتحقيق مبادىء وأهداف عظيمة وليس لتلميع أسمائنا ونشر صورنا في الصحف، كما أن الحكم لم يكن هدفنا من الثورة ، بل كان الهدف ترسيخ هذه المبادئ التي ثرنا من أجلها من خلال الحوار السياسي الهادئ بين مختلف القوى السياسية ، كما سبق أن أوضحت لك.

فلما قرأنا هذا المقال اجتمع ضباط المدفعية في منزلي، وحضر الاجتماع أحمد كامل، فتح الله رفعت، على فوزي يونس ، كمال لطفي، على شريف وغيرهم، واستدعينا جمال عبد الناصر في تلك الليلة، واستمر اجتماعنا به أكثر من أربع ساعات وحاسبناه حسابا عسيرا على ذلك المقال ، ليس لأنه لم يبلغنا بأسماء مجلس الثورة كما كتب مصطفى أمين، ولكن لأن الحقيقة غير ذلك كما نعلمها، وما نشر كان خروجا على رومانسية الثورة.

وبعد مناقشة عاصفة مع جمال عبد الناصر قال لي: أنا لم أقل شيئا لمصطفى أمين، كما أن المقال كله من تأليفه.

وذهبت لمصطفى أمين استوضحه الأمر وهددته: فأقسم لي هو أيضا أن جمال عبد الناصر هو صاحب فكرة هذا المقال وهو الذي أملاه ل المعلومات.

ابتسم د. محسن عبد الخالق وقال : إذن تصدق من ؟ وتكذب من ؟ ومرت العاصفة بسلام لسبب بسيط هو أننا لا نريد إحداث شقائق أو انقلاب رغم أننا – كمدفعية وكضباط أحرار- كنا في مركز القوة الحقيقية. وكان أملنا في عملية الحوار السياسي يجعلنا نتغاضى عن أشياء كثيرة في ذلك الوقت.

وعلى فكرة لم يكن هناك مجلس بهذه الصورة قبل الثورة، ولكن كان المتفق عليه عموما أن المجموعات المتقاربة في الرتب والميول تجتمع مع بعضها .

• قلت للدكتور محسن عبد الخالق: كتب الأستاذ محمد حسنين هيكل يقول : ما بين 18 يوليو 1952 إلى 28 سبتمبر 1970 كنت قريبا من جمال عبد الناصر، وكانت بيننا صداقة وثقة ، وهى فترة كان لي فيها الحظ والشرف بملازمة جمال عبد الناصر، والحياة بالقرب منه ومتابعته على المسرح ووراء كواليسه بغير انقطاع، وكانت العلاقة من نوع متميز بين شخص يقود ، وشخص على جانبه يتكلم أو يفكر. • ووجدتني أسأل د. محسن عبد الخالق : هل سطور هيكل السابقة تكفى وحدها تفسيرا لظاهرة هيكل في الحياة الصحفية والسياسية المصرية منذ 23 يوليو 1952 إلى الحد الذي جعله في نظر البعض " صحفي العصر".

قال د. محسن عبد الخالق : هناك بدهية بسيطة للغاية في الدبلوماسية وعند المشتغل بالشئون السياسية وهى أن الصحافة مكملة للدبلوماسية وللسياسة الخارجية والدولية والسياسية الداخلية أيضا، وهو ما عبر عنه الأستاذ هيكل.ز " بالهدف" وليست بدعة على الإطلاق أن يكون للرئيس أو للزعيم صحفي يساعده على تحقيق الهدف بالتعبير الواعي وبالكلمة المؤثرة، والزعيم والقائد مهما بلغ شأنه فهو يحتاج لصداقة الصحفي ولكسب الصحافة إلى جانبه، يغذيها وتغذيه.. فالزعيم هنا ودائما يؤثر ويتأثر.

إذن فليس بدعة أن يكون جمال عبد الناصر على صلة بأحد كبار الصحفيين وهو الأستاذ " هيكل" كما ليس غريبا أو بدعة أن يكون نجم كبير من نجوم الصحافة على صلة بالزعيم، وفى يقيني أنه لابد أن تكون هناك مقاييس لاختياره هيكل، منها مثلا التطابق والتقارب الفكري.

وأنا من الذين سألوا جمال عبد الناصر في بدايات الثورة سؤالا محددا: لماذا جعلت هيكل قريبا منك إلى هذا الحد؟ وقال لي عبد الناصر وقتها : أنت تعلم أنني لم أكن أعرف هيكل معرفة وثيقة، بل كانت معرفتي وعلاقتي الوثيقة هي بالآخرين، ولكن " هيكل" هو الوحيد الذي فهمني وفهم ما يدور في عقلي قبل أن أترجم فكرى إلى كلمات.. وأذكر نص عبارة عبد الناصر الحرفية لى وهى : أنه ببساطة يجلس في رأسي.

يضيف د. محسن عبد الخالق : وفى نفس الوقت- بدايات الثورة- الذي كان فيه كل الصحفيين في مصر يهتمون بأخبار وتصريحات ومقابلات محمد نجيب ن كان هيكل قد ركز اهتمامه على عبد الناصر ، ولم يكن عبد الناصر قد عرفه الناس بعد، سواء بوصفه رئيسا لمجلس قيادة الثورة أو القائد الحقيقي لثورة 23 يوليو،

واذكر في تلك الأيام أن عبد الناصر أبلغني أن هيكل- وكان هيكل رئيسا لتحرير مجلة آخر ساعة – كان يجلس في المكتب الملحق لمكتب جمال عبد الناصر صباحا وظهرا ومساء مما ضايق عبد الناصر من هذا الإلحاح- لا زال الكلام على لسان عبد الناصر- وذات يوم اتجه عبد الناصر مباشرة على هيكل وسأله عما يريد؟

وأجاب هيكل بكل الثقة والكياسة: مجرد حديث معك.

ووافق عبد الناصر وقال لهيكل: إذن تعال نعى،وذهب هيكل معه إلى منزله وبعد دردشة وحوار انصرف هيكل من عند عبد الناصر ، وفى المساء وعند عودة عبد الناصر إلى مكتبه كان هيكل يستأذن عبد الناصر في أن يقرأ الحوار الذي كتبه عقب مقابلته له، وقرأ عبد الناصر ما كتبه هيكل، وكان تعليق عبد الناصر لي بعد ذلك : هيكل استطاع أن يقرأ – حتى – أفكاري التي كنت أتمنى أن أبوح بها.

ومن يومها فقد صار هيكل قريبا من جمال عبد الناصر، وكما قلت فإن اختيار عبد الناصر لهيكل لم يأت بشكل عفوي، إلا أن السؤال الذي ينبغي طرحه هو: هل كان هيكل مؤمنا بفكر جمال عبد الناصر؟ أنا أقول نعم كان هيكل منبهرا بشخص جمال عبد الناصر كزعيم وكان مؤمنا بفكره.

• قلت للدكتور محسن عبد الخالق: في تلك الأيام من عام 1953 صدر كتاب "فلسفة الثورة" لجمال عبد الناصر ، ونحن نعلم الآن أن هذا الكتيب " 68 صفحة" أفكار عبد الناصر وصياغة هيكل.

قال: جمال عبد الناصر لم يكتب " فلسفة الثورة" وليس هذا عيبا أو خطأن لأن الرئيس أو الزعيم أو القائد ليس كاتبا موهوبا أو متفرغا ، فهو مسئول عن مشاكل وإدارة دولة بأسرها وبالتالي فليس عنده الوقت الكافي أو التركيز الفكري ليؤلف الكتب، ولذلك وكما قلت – فمن الضروري أن يكون بجواره كاتب صحفي يرتاح إليه ويتجاوب مع أفكاره التي يود طرحها.

وبالنسبة لجمال عبد الناصر على وجه التحديد فقد كان يمتلك أسلوبا وذهنا ومنطقا مرتبا وبشكل ملفت، وعندما كان يكتب تأشيراته أو ملاحظاته على المكاتبات أو الملفات التحى تعرض عليه، تأتى التأشيرة بالفعل معبرة عن كل ذلك وعن أسلوبه الرصين، كما كان قارئا ممتازا ولديه القدرة على هضم وامتصاص ما يقرأ، وكنا نعرف عنه قبل الثورة أنه شغوف بالقراءة الجادة الرصينة.

وبالنسبة لفلسفة الثورة فإن تصوري أن جمال عبد الناصر كتب حوالي أربع أو خمس ورقات ضمنها أفكاره وفلسفته وتصوراته، ثم قام هيكل بصياغة هذه الأفكار والتصورات التي صدرت بعنوان " فلسفة الثورة".

وبالمناسبة قد كنت مدعوا عند الأستاذ هيكل في عزبته ببرقاش في الستينات – هي واحدة من بين أبرز أمزجته الاجتماعية- وقلت له بشكل عفوي تماما : لم كتبت فلسفة الثورة؟

وأذكر أن هيكل يومها ابتسم وسكت.

على أنى حال ليس بدعة أن يكون للرئيس أو الزعيم كاتب أو صحفي، فقد كان لتشرشل – وهو أديب كبير- من يكتب له، وديجول أيضا- وهو كاتب فحل- بجواره المثقف الكبير ووزير الثقافة أندريه موروا، وميتران بجواره الكاتب الصحفي.. " ايريك روفر" إذن البدعة هي ألا يكون للحاكم أو الزعيم كاتب يعبر عن فكره وآرائه ، فالصحافة مكملة للسياسة وكما سبق أن قلت لك إن الأستاذ هيكل استطاع أن يعبر عن فكر عبد الناصر بعمق وحيوية وبغض النظر عما إذا كان مؤمنا بهذا الفكر.

وليس صدفة أن يوحى جمال عبد الناصر إلى أصحاب الأهرام في 1957 – أقول يوحى برضاه- لو أن هيكل يصبح مسئولا عن الأهرام،وكان عبد الناصر رحمه الله زعيما من زعماء الإيحاء، وبذهاب هيكل إلى الأهرام في أغسطس 1957 لم يعد عبد الناصر في حاجة إلى شراء الأهرام كما كان مطروحا في ذلك الوقت.

ويتمنى هنا أن أقول إن هيكل لم يكن إلا رجلا محترما وغير مسف أو مهاتر، وكان أمينا على ما يقوله عبد الناصر، بل وتصوري أنه من أكثر الناس فهما لفكره إن لم يكن أكثرهم، وكان يعرف حدوده، ولم يتجاوز أبدا أدب الحوار مع عبد الناصر كزعيم وكصديق، وما يقال ويشاع أنه كان الصحفي الأوحد والأول ، وأنه حجب الشمس عن الآخرين فهو كلام غير صحيح،

ولا أجد لهذه الاتهامات من سند إلا كونها مهاترات ومنافسات ، فعبد الناصر نفسه هو الذي اختار هيكل ولم يكن باستطاعة هيكل أن يفرض نفسه على عبد الناصر، اللهم إلا إذا كان عبد الناصر مقتنعا تماما به، وإذا كنا نختلف مع هيكل حول بعض آرائه فلابد أن يكون الخلاف موضوعيا ، ولا يجب أن يخرج عن إطاره الموضوعي.

وفى النهاية أقول لك إن هيكل يوم أن قامت الثورة في عام 1952 لم يكن صحفيا صغيرا أو ناشئا بل كان يشغل منصب رئيس تحرير آخر ساعة، وكنا كشبان نقرأ له مقالات ممتعة عن أزمة إيران وحرب كوريا، كما كتب عدة تحقيقات عن حرب فلسطين،

وأذكر مرة أنه كتب في آخر ساعة عن الفرق بين اللواء الموارى ومونتجمرى ( المواوى كان قائد الجيش المصري في حرب فلسطين) وأحدثت هذه المقارنة تأثيرها، فتصور المواوى فعلا أنه مونتجمرى، وبدأ يتعامل معنا نحن الضباط على هذا الأساس.

• قلت للدكتور محسن عبد الخالق: في مذكرات عبد اللطيف البغدادي أذكر أنه قال : علمت من جمال عبد الناصر أنه قد تكلم مع محمد حسنين هيكل وأحمد أوب الفتح وطلب منهما عدم نشر أحاديث وصور محمد نجيب بجريدة إلا في الحدود الضيقة جدا، وأن أنور السادات لمح إلى أحمد الصاوي محمد بجريدة الأهرام –رئيس التحرير وقتها- لاتخاذ نفس الاتجاه، وأن هيكل قام بدوره بإبلاغ ذلك لمصطفى وعلى أمين، ما تعليقك على ما رواه البغدادي في مذكراته؟

قال د. محسن عبد الخالق: ما نسبه عبد اللطيف البغدادي إلى جمال عبد الناصر في مذكراته كان جزءا من الصراع السياسي الذي كان يخوضه عبد الناصر- وبهدوئه المعروف- في ذلك الوقت ضد الرئيس محمد نجيب ، وليس مستبعدا على جمال عبد الناصر أن يفعل ذلك، ويبدو أن هذا ليس مستغربا في عالم السياسة، لأن سعد زغلول فعل شيئا مشابها لذلك عندما كان الوفد المصري في لندن يتفاوض مع الانجليز،

وفشلت المفاوضات ، وبقى سعد زغلول في لندت، بينما عاد إلى مصر عدد من ألأعضاء" عبد اللطيف المكباتى وغيره" وأرسل سعد من لندن ببرقيته الشهيرة والتي تسببت في حدوث أول انشقاق في الوفد وصراع الزعامة.

وكذلك عندما سافر النقراشي باشا على مجلس الأمن ليعرض قضية مصر هناك وأحس مصطفى النحاس باشا بأن النقراشي قد استحوذ على الانتباه الداخلي والخارجي، فأرسل النحاس برقيته الشهيرة إلى مجلس الأمن والتي يقول فيها: النقراشي لا يمثل مصر.

وأريد أن أقول للأخ عبد اللطيف البغدادي وهو من خيرة الناس أنه هو شخصيا تعرض لمثل ذلك الموقف عندما كان يشغل منصب وزير الشئون البلدية والقروية، وكان وزيرا ناجحا للغاية وتم خلال عهده إنشاء كورنيش النيل وكان إنجازا كبيرا تتحدث عنه مصر كلها، وجاءتني توصية من جمال عبد الناصر شخصيا بأن نخفف ونقلل من نشر أخبار وصور عبد اللطيف البغدادي التي كانت تملأ الصحف في ذلك الوقت.

وكما قلت لك يبدو أن هذا جزء من " تركيبة" الزعامات وطبيعتها.

• قلت له: ربما كان الرئيس الراحل أنور السادات هو الوحيد بين أعضاء مجلس قيادة الثورة الذي مارس الصحافة كمهنة، فقبل الثورة عمل في دار الهلال وروزا ليوسف ونشر مذكراته في المصور، وبعد الثورة كان يكتب في الجمهورية مقالات يومية وأسبوعية جمعها بعد ذلك في كتب عديدة منها " قصة الثورة كاملة" و" يا ولدى هذا عمك جمال" .. الخ.. فهل كانت هذه المقالات بالفعل يكتبها أنور السادات أم كان هناك من يكتب له كما يذهب هيكل في " خريف الغضب" وحلمي سلام في مذكراته التي نشرتها صباح الخير؟

قال د. محسن عبد الخالق: ما شاهدته هو أن أنور السادات كان يكتب مقالاته بنفسه، وكانت مقالاته هي مشكلة المشاكل بالنسبة لجريدة الجمهورية، فقد كان طبع الجريدة يتأخر دائما بسببها، فقد كان السادات كثيرا ما يصل إلى مكتبه فى دار التحرير متأخرا، ثم يبدأ في كتابة المقال بعد انصراف الناس من عنده،

وكانت سكرتارية تحرير الجمهورية تعين له ما يشبه الحارس ويستلم مقاله ويذهب به إلى قسم الجمع مباشرة، وكنت أرى بنفسي مقالاته بخط يده، كما كتبها، هذه كانت شكوى المطبعة من جراء تأخر السادات في كتابة مقالاته.

فإذا ظهر بعد ذلك أن هناك من كان يكتب له مقالاته .. فالأمر إذن يحتاج من هؤلاء إلى توضيح أكثر بأدلة لا تقبل الشك..

قال د. محسن عبد الخالق : عندما قامت الثورة في 23 يوليو 1952 ، أيدتها الصحافة ورحبت بها ، بل نستطيع أن نقول- دون مبالغة- إن الصحافة المصرية قد وقفت إلى جانب الثورة بالكامل،

إلا أنه وفجأة وبسرعة بدأ الأستاذ " أحمد أبو الفتح" رئيس تحرير جريدة المصري يكتب مقالات حادة الكلمات في التعبير عن وجهة نظره، كما تبنى وجهة نظر الوفد بالكامل تقريبا، ومن هنا كان موقفه من قانون الإصلاح الزراعي، ودعوته إلى عودة الثورة إلى ثكناتها وتسليم الحكم للمدنيين، وبالطبع كان يقصد حزب الوفد.

ولقد كان أبو الفتح في ذلك كله متجاهلا لمنطق العصر، بل متناقضا مع نفسه ومع ما كان قبل الثورة، وبالتحديد خلال العامين الأخيرين قبل قيامها، وهى فترة حكم حزب الوفد نفسه طوال 1950- 1952 ، بل في أوساطنا نحن الضباط الأحراركان أحمد أبو الفتح وإحسان عبد القدوس وفتحي رضوان وغيرهم يحتلون قمة تقديرنا واحترامنا ،

لذلك كان غريبا جدا بالنسبة لنا أن يقف أحمد أبو الفتح هذا الموقف متجاهلا أن هناك مبادئ لثورة يوليو قد أعلنوها وأنه يجب على الأقل الاطمئنان على أن هناك أيدي أمينة ستتولى حماية وتنفيذ هذه المبادئ ليست فقط بالكلمة والمناورة السياسية ، ولكن بالإيمان بموضوعيتها ومحتواها.

ولقد قيل لأحمد أبو الفتح إن الثورة ليست شاغلها الأكبر أن يأتي الوفد إلى الحكم كما أنها لم تقم لهدم الملكية- وهو لفظ استخدمه الكتاب في ذلك الوقت- والذي لا يخفى حنينه إلى عودة الملكية.

باختصار شديد أريد أن أقول إن عبد الناصر في ذلك الوقت المبكر تنبه إلى ضرورة إنشاء جريدة تعبر عن فكر ثورة يوليو، فأسس جريدة الجمهورية لتقف أمام " المصري" الكلمة بالكلمة والفكرة بالفكرة.. والمقالة بالمقالة.. والرأي بالرأي ، ولكن للأسف عندما عرضت رئاسة تحريرها على من رشحوا لها اعتذروا جميعا، وأخيرا قبل رئاسة تحريرها الأستاذ حسين فهمي.

فما معنى هذا الاعتذار؟ هذا السؤال كان يتردد كثيرا في ذهن جمال عبد الناصر إن إجابته كانت أيضا تتردد في فكره وعقله، وهى أن هذا الاعتذار أو الرفض منهم كان إما لعدم الاطمئنان لمستقبل الثورة، وبالتالي كان من الأفضل عدم الالتصاق بها أو عدم الإيمان أصلا بها.

وإيماني الشخصي أن جمال عبد الناصر بطبيعة شخصيته بدأ من يومها يفكر في موقف الصحافة منه، وتأتى أزمة مارس 1954 الشهيرة، وتدخل " المصري" معركة شرسة مع ثورة يوليو، مقالات ملتهبة يكتبها أحمد أبو الفتح.. وتدخل روز اليوسف أيضا المعركة مع غيرها من الصحف.

• قلت للدكتور محسن عبد الخالق: لن أنكأ الجراح القديمة، ولكنى أنبش في بعض الأوراق القديمة وأستعيد معك على الأقل عناوين وبعض سطور مقالات تلك الفترة الملتهبة من تاريخ مصر، مثلا " صيحة لص " لأحمد أبو الفتح، " العهد الجديد" للدكتور وحيد رأفت، " أسطورة الكفاءات في مصر" للإخوان والشيوعيين، " الثورة" لخالد محمد خالد .. " الجمعية السرية التي تحكم مصر" لإحسان عبد القدوس.. وما تعيه ذاكرتك عن أحداث تلك الفترة وما تعلق منها بالصحافة. • روى عبد اللطيف البغدادي في مذكراته ( ص 130) تعليقا على هذه القرارات بقوله: ولما كانت الرقابة على الصحف قد رفعت يوم 6 مارس 1954، فلقد تقدم جمال عبد الناصر باقتراح وهو أن نعمل على إبلاغ الصحفيين الذين نثق فيهم بمطالب محمد نجيب، وعليهم أن يقوموا بالتعليق عليها، ومهاجمته لمدة أسبوع حتى يتبين للرأي العام حقيقة الموقف، وعلى ضوء نتائج تلك الحملة يمكننا التصرف بعد ذلك،

كما اتفق أيضا على أن يقوم خالد محيى الدين بإعلان رأيه في الصحف في اليوم التالي وأن يهاجم مطالب محمد نجيب ، وعلى أن يقوم أنور السادات كذلك بنشر الحقيقة كاملة في جريدة الجمهورية- التي يرأس تحريرها- عن قصة محمد نجيب وكيف أصبح قائدا للثورة والخلافات التي حدثت خلال تلك الفترة.

قال د. محسن عبد الخالق : أفكار كثيرة كانت تدور في ذهن جمال عبد الناصر وكنت وقتها بجواره بعد أن أفرج عنى أول مارس 1954، وكان عبد الناصر يتساءل ماذا يريدون بعد أن أعلن مجلس الثورة قرارات عودة الديمقراطية في 5 مارس 1954، ومن ضمن هذه القرارات كما تعلم إلغاء الأحكام العرفية وعودة الحياة النيابية وتأليف جمعية تأسيسية تعد الدستور وعودة الجيش لثكناته وإلغاء الرقابة على الصحف.

وفى رأيي الشخصي أن مجلس قيادة الثورة كان يستحيل عليه تماما الرجوع في هذه القرارات أو العدول عنها لو أحسنت المعالجة السياسية للموقف برمته في حينها، ولكن رغم صدور هذه القرارات كان الهجوم على الثورة مستمرا، والسخونة السياسية تتصاعد.. والسؤال الحائر يتردد في عقل عبد الناصر: ما الهدف ؟ وما النية من وراء ما جرى على أرض مصر؟

وأدرك عبد الناصر وقتها، وبات واضحا أمامه أن اقتلاع الثورة نفسها ومن ثم مبادئ هذه الثورة وقوانينها وعلى رأسها الإصلاح الزراعي هو الهدف والنية المبيتة.وليس عودة الديمقراطية " الأوليجاركية" أي ديمقراطية القلة التي كانت تسود قبل 1952 هذا هو ما ترسب في ذهن وعقل عبد الناصر.

وفى هذا الجو الساخن ، والمعرفة الشاملة بكل هذه الظروف والملابسات، ذهبت على أحمد أبو الفتح- ضمن كثيرين ذهبوا غليه في محاولة الحوار الهادئ- أقول ذهبت إلى أبو الفتح أرجوه أن يخفف من لهجته الملتهبة ، وأن يخفف من حدة المواجهة، كي نخلق جوا طيبا للحوار لعودة الديمقراطية ،

وقلت له: إن موقفه وكتاباته تضعف من الديمقراطية.. وبدا لى يومها أنه اقتنع بما أقول ، بل وعدني يومها بتفريغ سخونة الكلمة وإطفاء لهيبها والاتجاه بمقالاته ناحية الموضوعية الهادئة.

ولكن للأسف – أتت مقالة اليوم التالي- صباح ليلة لقائنا- بنفس درجة اللهيب والسخونة، فلما سألت عنه تليفونيا ، فإذا به قد سافر إلى بيروت ، وكانت " سفرته التي غادر فيها مصر ، وليته تعاون مع الثورة وتحاور معها بهدوء وموضوعية.

إذن دخلت الصحافة عبر أزمة مارس 1954 معركة شرسة لتقويض الثورة وبالذات جريدة المصري ، وهنا تنبه عبد الناصر لدور الصحافة وبدأ يتساءل ، هل تترك الصحافة هكذا في ايدى أصحابها يحركون بها القضايا العامة والرأي العام كما يحلو لهم، بحيث تتفق مع اتجاهاتهم السياسية وتخدم مصالحهم الاقتصادية والاجتماعية،

ومن هنا ، وتحديدا من أزمة مارس بدأ عبد الناصر يفكر تفكيرا جادا في مستقبل الصحافة في مصر، ودورها في تغيير هيكل البناء الاجتماعي ونسيج المجتمع المصري وكذلك سياسات التنمية.

قلت له : أتذكر أن الأستاذ هيكل روى في كتابه" بين الصحافة والسياسي" سطورا يقول فيها: حين فكرت الثورة في إصدار جريدة تعبر عنها وهى الجمهورية طلب إلى جمال عبد الناصر أن أتولى الإشراف على إصدارها واعتذرت وكانت وجهة نظري: أنني متمسك بأخبار اليوم وعملي فيها وصداقاتي مع أصحابها..

ثم أن الفارق بين الثورة والحكومة ضائع وفى النهاية فليست هناك صحيفة ستصدر عن الثورة وإنما عن الحكومة، وأنا لا أتصور نفسي في جريدة حكومية، وثالثا فإن الثورة لا تحتاج إلى جريدة تعبر عنها لأن كل صحافة مصر تفعل هذا الشيء.

قال د. محسن عبد الخالق : من البداية كان عبد الناصر متنبها تماما لخطورة الصحافة ودورها السياسي وقوة تأثيرها فكان من الطبيعي أن تصدر الثورة الصحف والمجلات الخاصة بها، فصدرت في مجلة التحرير ثم جريدة الجمهورية، وكان جمال عبد الناصر هو صاحب الامتياز،

ولا أذيع سرا إذا قلت لك إن عبد الناصر قبل أن يصدر صحيفة الجمهورية اتصل بكل كبار الصحفيين في مصر عارضا عليهم رئاسة تحريرها وكلهم رفضوا ولم يوافق سوى الأستاذ حسين فهمي، ولا تتصور مدى الألم والضيق الذي أحسه عبد الناصر نتيجة هذا الرفض، إذ تصور أنهم بهذا الرفض يقفون ضده وضد الثورة كما سبق أن قلت لك.

المهم لقد بدا واضحا تماما أن من نتائج أزمة مارس أيضا أن تفكير عبد الناصر اتجه على تدعيم صحافة الثورة، واستقطاب الصحافة الأخرى، فأسس جريدة الشعب ثم جريدة المساء ولكن ذلك كله في نظر عبد الناصر لم يكن كافيا، خصوصا ،

وقد كان يعلم أن صحافة الحكومة أو ( فلنقل صحافة السلطة) تعانى ضعفا جذريا وطبيعيا حيث إن مرونتها الفكرية محدودة الحال، وانعدام النقد فيها مسألة واضحة، كما أن دفاعها عن السلطة أمر مفروغ منه، باختصار يمكننا أن نحكم بأن المساحة الفكرية لهذه الصحف الحكومية ضيقة وغير مشبعة لرغبات القارئ وفكره، ومن هنا مد عبد الناصر بصره إلى الدور الصحفية الأخرى،

وبدأ يفكر في شراء جريدة الأهرام، بل دخلنا في مفاوضات فعلية مع أصحابه، إلا أن عبد الناصر كان يخشى أن تلقى الأهرام نفس حظ جريدة الجمهورية في حالة وضع الأهرام تحت الملكية المباشرة للثورة،

وبرزت فكرة أخرى في ذهن عبد الناصر وهى أن وجود رئيس تحرير يطمئن إليه عبد الناصر شخصيا في الأهرام كاف جدا ودون الدخول في المشاكل الإدارية والمالية لدار الأهرام، وكذلك الخشية من انعكاس ملكية السلطة للأهرام على استقلاليته التي عرف واشتهر بها.

ومن هنا كان هيكل- والذي سبق أن اعترف لى عبد الناصر قائلا: هيكل ساكن في رأسي- كان هيكل إذن هو الاختيار الذكي جدا لقيادة الأهرام، فقد استطاع هيكل أن يحافظ على استقلالية الأهرام وبكيانه وتواصله التاريخي، مع نقله نقلا لينا وناعما وكاملا داخل الإطار الثوري.

• قلت له: ضمن أسلحة الأستاذ أحمد أبو الفتح ضد ثورة 23 يوليو عامة وجمال عبد الناصر، خاصة ما جرى لصحيفة المصري، فهو مثلا في كتابه" التحدي" الذي صدر عام 1978 في أعقاب عودته من الخارج يقول ص 14 :" أوقفت الديكتاتورية إصدار المصري ولم تكتف في انتقامها عند حد سحب رخصتها بل امتدت شهوة الانتقام تصادر كل ما يملكه صاحب المصري، • • وكانت مصادرة أملاكه التي وصلت إلى شركة الإعلانات التي نقل ملكيتها من انجليز يهود ليجعلها مؤسسة مصرية، كما امتدت شهوة الانتقام إلى أمواله في البنوك، وإلى أثاث شقته حتى إلى ملابسه الخاصة". • دعني أسألك تفسيرا لقصة الثورة مع المصري؟

قال : عقب خروجي من السجن في مارس 1954 كنت أشرف على دار التحرير وبلا مرتب، وأمر بمرحلة التكيف القانوني أو مرحلة التقنين الوضعي العام أو الوظيفي، وذات يوم كنت أزور صديقي عبد الحميد سراج الدين- رحمه الله- وكان يشغل وقتها رئيس مجلس إدارة بنك القاهرة، وأثناء جلستنا يمينا ويسارا،

وبعد فترة من الوقت همس لى بأن لديه حافظة مالية مدينة للبنك وينصحني بشرائها، وسألته عن طبيعة هذه الحافظة فقال لى إنها حافظة مدينة بمبلغ 125 ألف جنيه للبنك، وأنه أتصل كتابيا بإدارة الأموال المصادرة ( عبد الشافي عبد المتعال باشا) التي ردت عليه بالتصرف في الحافظة وتسديد المديونية، ونصحني بشرائها ،

بل أبدى استعداد البنك لاعطائى قرض بقيمة الدين( أي 125 ألف جنيه) وذلك بضمان هذه الحافظة مع الضمان الشخصي له، أي أن معنى كلامه أن أحل محل المدين في التزاماته وفى ملكيته للحافظة ووافقت بعد أن شرح لى عبد الحميد سراج الدين محتويات هذه الحافظة وقوة مكوناتها، وكان أهم ما فيها 7 آلاف سهم من أسهم بنك القاهرة نفسه بسعر اسمي قدره أربعة جنيهات، ولكن كان من المتوقع أن يصل سعره في السوق إلى 14 جنيها، وحوالي أربعة آلاف سهم من أسهم بنك التجارة، وبضعة آلاف من أسهم الشركة الانجليزية للزيت.

ولكن كان أهم ما في هذا الموضوع برمته ، أن من محتويات هذه الحافظة كافة أسهم شركة الإعلانان المصرية وكافة أسهم شركة الإعلانات الشرقية وشركة التوزيع المصرية، بالطبع كانت شركتا الإعلانات المصرية والشرقية معروفتين لدينا فهما مملوكتان لليهود ( عائلة فيني) وسبق أن ألقيت عليهما إحدى القنابل.

واتفقت مع الصديق عبد الحميد سراج الدين على موعد للتوقيع بعد أن يقوم محامى البنك بإعداد كافة العقود والتنازلات حتى تصبح المسألة قانونية، إلا أنني فجأة تنبهت وسألته عن مالك هذه الحافظة فإذا به يخبرني أنها ملك محمود أبو الفتح.

وعلى الفور ركبت سيارتي وذهبت إلى بيت جمال عبد الناصر، وأخبرته بحكاية هذه الحافظة وأنني سوف أشتريها لدار التحرير، وشرحت له كل الامتيازات التي تضمنها وافق عبد الناصر على ذلك، وذهبت على الدكتور حنفي أبو العلا المحامى والأستاذ حافظ راغب المحاسب وأتممنا شراء الحافظة.

وبالمناسبة فقد كانت دار التحرير وقتها ( الجمهورية) تشغل دارا كئيبة في شارع الصحافة وقريبة من دار أخبار اليوم . وكانت الدار ملكا لادجار جلاد باشا- رحمه الله- واشتريت منه بحوالي 25 ألف جنيه على ما اذكر.

أذكر هذه القصة لأنه غير صحيح المرة ما يقوله الصديق أحمد أبو الفتح من أن الثورة استولت على شركتي الإعلانات الشرقية والمصرية. وأن جمال عبد الناصر قد حصن نفسه في هذا الموضوع بقرارات وحصانات قانونية يصعب النفاذ إليها وأظن أن بنكا كبنك القاهرة لا يزال يحتفظ بمثل هذه المستندات.

إذن جمال عبد الناصر نفسه لم يكن يعلم حتى بوجود حافظة، والقصة كلها لم تخرج عن كونها تطورا طبيعيا تلقائيا قام به عبد الحميد سراج الدين لحماية مصالح بنكه.

• قلت له: يرى البعض- يا سيدي- أن كتابات هيكل حولت عبد الناصر إلى أسطورة وما يشبه الظاهرة، أما كتابات الأستاذ موسى صبري فقد دفعت بالسادات على حادث المنصة.. ورغم خلافي مع التفسيرين إلا أنني أريد سماع تفسيرك؟

قال د. محسن عبد الخالق: إنه من غير الطبيعي ألا يكون للزعيم أو الرئيس كاتب صحفي يرتاح إليه ويتجاوب مع أفكاره التي يود طرحها. هكذا كان هيكل وهكذا كان موسى صبري أما أن يقال إن مقالات موسى صبري دفعت إلى النهاية المأساوية للرئيس السادات فهذا تبسيط وتسطيح شديد للأمور .

فالسادات سواء قبلنا أو رفضنا أحدث انقلابا تاريخيا شاملا في المنطقة منذ حادثة إنشاء دولة إسرائيل .

فقد قام بحرب أكتوبر 1973 وهى حرب التحرير العربية، وانتهى بالصلح وهو منعطف خطير.

ومن غير الطبيعي ألا تتجمع قوى عربية ضده وألا تملأ سماء حياته السياسية سحب كثيفة من تيارات متباينة، ومن هذه السحب ومن هذه التيارات " انطلق النيزك" الذي صرعه في يوم عيد تحرير أرضه.

أما ألأستاذ موسى صبري فهو قد زامل السادات في المعتقل وعرفه عن قرب وأحبه وآمن به وكانت بينهما صداقة وطيدة، ثم أنه كاتب كبير وهو صحفي من رأسه حتى أخمص قدميه. وهو كاتب سلس العبارة. يطوع الكلمة بيسر وسهولة ، حاد النبرة ولاذع العبارة.

قلت : ما رأيك وقد اتصلت بدنيا الصحافة وعرفت عن قرب أسماء لامعة، وقرأت لأسماء أخرى لامعة.. ما ذكرياتك عن بعض من عرفت مثلا إحسان عبد القدوس؟

قال: له منزلة خاصة في قلوب ثوار يوليو: فهو من صناعها، كاتب كبير من قائمة الأفذاذ ، فنان في متابعاته السياسية ومصور سياسي واجتماعي بارع.

قلت : وأحمد بهاء الدين؟

قال : محاور بارع في كتاباته ، شيك، يستخدم الكلمة والجملة والعبارة بدهاء عميق، كتاباته وجبة تشبع، ولكن تترك القارئ بعدها للتساؤل من أقصى يمين الكلمة إلى أقصى يسارها، فارس من فرسان الصحافة في مصر وفى قرنها العشرين كله.

قلت: ومصطفى أمين؟

قال: نقلل من شأنه لو قيمناه ، هو من أهرامات الصنعة الصحفية، جريء في مهنته، أكبر صحفي في مصر ، يقف دائما خلف الستار ليحرك شخوص اللعبة، وعلى رأسها اللعبة السياسية

أما على أمين رحمه الله فقد كنت أحبه، فقد عاش معي أغلب سنوات المنفى ، طيب القلب، وكان يعبد مصطفى أمين، والاثنان يعبدان صفية زغلول " أم المصريين" ومن أجلها يدخلان كل المعارك خصوصا مع الوفد.

فتحي غانم

قليل من الصحافة .. كثير من الأدب.

لا يحتاج الأديب والروائي الكبير فتحي غانم إلى تعريف أو تقديم .. فتحي غانم واحد من فرسان الرواية العربية الحديثة.. ولم تشغله كتابة الرواية عن تولى المناصب الصحفية الهامة.. وشاهد عن قرب ما كان يدور داخل كواليس ودهاليز الصحافة المصرية، والتي سجلها يقلمه الرشيق في رائعته الرجل الذي فقد ظله ، ثم زينب والعرش.

وهذه شهادة فتحي غانم على الصحافة المصرية.

قلت : كيف كانت خطواتك الأولى في شارع الصحافة؟ • قال فتحي غانم: عقب تخرجي في كلية الحقوق عملت في إدارة التحقيقات بوزارة المعارف، وكان يعمل معي الأستاذان عبد الرحمن الشرقاوي وأحمد بهاء الدين، وكثيرا ما كنا نناقش في الأدب والفكر والفن..

كان ذلك عام 1947 ، وكان يتردد علينا ألأستاذ محمد حسنين هيكل ، وكان محررا صغيرا – 23 سنة- كي يأخذ أخبار التحقيقات ويقوم بنشرها .. وكانت لى صداقتي بإحسان عبد القدوس حيث كان متزوجا من شقيقة صديق لى اسمه " أحمد يوسف الجندي"..

في نفس الوقت كان أحمد بهاء الدين مشرفا على مجلة " الفصول" لصاحبها محمد زكى عبد القادر ولاحظ اهتمامي الشديد بأمور الأدب والفكر والفلسفة وبشكل مكثف، فطلب منى بهاء أن أكتب شيئا لمجلة الفصول، وكتبت مقالات في النقد.. التاريخ.. وكانت كتاباتي إرضاء لبهاء فقط..

وتكررت لقاءاتي مع إحسان عبد القدوس وذات يوم قال لى: أنا سامع أنك بتكتب مقالات ونقد.. ما تيجى تكتب عندنا في مجلة " روز اليوسف

وفى نفس الوقت كنت أعرق الشاعر كامل الشناوي ، وكان رئيسا لقسم الأخبار بجريدة الأهرام.. وكنت أتردد على ندوته ومجلسه الأدبي..

وفى أوائل عام 1952 كان هيكل قد صار رئيسا لتحرير مجلة " آخر ساعة " وبدأ الأستاذان مصطفى وعلى أمين في عملية تجديد وتطوير شاملة للمجلة، وطلبني هيكل بالتليفون وعرض على العمل في " آخر ساعة" وكان هيكل يستعد للسفر إلى كوريا لتغطية أحداثها، فأدخلني مباشرة على مصطفى وعلى أمين ثم خرج.. وقل لى مصطفى أمين: لقد قرأت ما ترجمته عن شارلي شابلن في مجلة " الغد" وأسعدني.. ليه ما تكتبش معانا.

كانت مجلة الغد يصدرها عبد الرحمن الشرقاوي وحسن فؤاد وصلاح حافظ، وزهدي وآخرون.

وفى تلك الفترة التي عملت فيها مع هيكل وعلى أمين في مجلة " آخر ساعة" تعلمت أشياء كثيرة هامة عن حرفية العمل الصحفي، فقمن بإعداد مجموعة من الروايات العالمية لسومرست موم ومورياك وهيمنجواى، وكتبت عشرات الموضوعات النسائية فى الموضة والطب والعلاج والماكياج، وحالات الحمل والرضاعة.. وأحيانا كنت أوقع على هذه المقالات باسم " إخصائية جمال".

وفيما بعد قال لى مصطفى أمين: إنه عندما عرض على العمل فى " آخر ساعة" كان يتوقع رفضى بنسبة 99% لأنه تصور أنني أكتب فى " روز اليوسف" أو " الفصول" ، بسبب صداقتي لبهاء وإحسان ، وأعترف أن هذا صحيح ، فأنا عمري ما طلبت أن أكتب.. ولكن دائما كان يطلب منى أن أكتب فأكتب على الفور.

• قلت لفتحي غانم : كيف بدأ الاهتمام الحقيقي بكتابات فتحي غانم ، وهل كان ذلك من الوسط الصحفي أم من جماهير القراء؟

قال فتحي غانم: جاء الاهتمام الأول من داخل الوسط الصحفي نفسه، وأول من انتبه لى كان الأساتذة كامل الشناوي ومصطفى وعلى أمين وإحسان عبد القدوس، وفى سن مبكرة جدا- وعمري 23 سنة- عوملت مباشرة على أنى كاتب، ولم أوضع تحت الاختيار، وعندما نشر لى لأول مرة نشر اسمي هكذا: بقلم فتحي غانم.

بعد الوسط الصحفي الذي يقبلك ، هناك المهتمون بالمجالات التي تكتب فيها وتنشر رأيك، فعندما بدأت أكتب فى الأدب، وجدت مناقشات واهتمامات أدت إلى ردود أفعل تدل على أن ما أكتبه سواء كان متفقا عليه أو غير متفق فإن له صدى.

وكتبت أقول بوضوح وتحديد أن هذا أدب وهذا ليس أدبا وذلك فى الأعمال الأدبية الموجودة آنذاك، أي فى بداية الخمسينات ، فمثلا كان" عبد الرحمن الخميسي" قد نشر مجموعة قصصية اسمها " قمصان الدم" كتبت أنها خطب منبرية وليست فنا وتدخل ضمن إطار الإثارة السياسية ، فرد عبد الرحمن الخميسي بمقال صغير نشره فى جريدة " المصري" وقال إنني من الذين يجرى فى عروقهم الدم الأزرق النبيل.

المهم أن ما كتبته سبب رد فعل مع " واحد" معترف به فى الأدب وهو عبد الرحمن الخميسي.

• ومرة أخرى كتبت عن قصة" الخيط الرفيع" لإحسان عبد القدوس أنها ليست فنا، " وبايخة" فهدد إحسان بأنه لن ينشر لى، فقلت له: سلامو عليكم ومشيت، وكتب سامي داود بإيعاذ من إحسان يهاجمني وعلمت السيدة روز اليوسف بما حدث، وكانت تعرفني جيدا فقالت لإحسان: لماذا زعلت فتحي غانم؟

• فقال إحسان لها: لأنه شتمني يا ماما؟ فردت السيدة روز اليوسف عل إحسان قائلة: وماله. وكان ذلك درسا لا أنساه منها له ولى، أن تقبل الآراء التي تختلف مع رأيك.

وأمرت السيدة روز اليوسف إحسان بأن يتصل بى لأعاود الكتابة.. وعدت ونشرت رأيي من جديد فى قصة إحسان" الخيط الرفيع " ونشر على أسبوعين بحجة أن المساحة التي يتطلبها النشر كبيرة.

وعندما نشر الأستاذ " أحمد الصاوي محمد" أحد رواياته وأظنها " الشيطان لعبته المرأة" فقلت إن هذا كلام فارغ.. بعد ذلك انتقلت إلى مجلة آخر ساعة، فكتبت أقول عن د. طه حسين إنه عقبة ضخمة جدا فى طريق القصة،

وبعدها طلب طه حسين أن يراني وذهبت فى تناول طه حسين لأعمال توفيق الحكيم أو غيره من الكتاب أنه كان يعاملهم كمدرس لغة عربية ونحو ، أي أن الأديب الجيد فى رأى طه حسين هو الذي يجيد النحو والصرف، فأنا قلت يومها: إن الأدب ممكن أن يكون سببا من أسباب تطور اللغة، بل ممكن الأديب يصنع ويخلق لغته ، ودللت على ذلك بقولي إن وليام شكسبير لم كين " النحو" لديه صحيحا، ولكنه كان يخلق لغته الخاصة.

المهم أن هذه السلسلة من المقالات وجدت صدى لدى المهتمين بالأدب والثقافة، اتصل بى المرحوم الأديب محمد سعيد العريان وتحدث معي فيما كتبته، أيضا الأستاذ على أدهم..

وفى إحدى المرات هاجم الأستاذ محمود أمين العالم الشاعر محمد الفيتورى وأعطاه درسا سخيفا فى كيفية كتابة الشعر. فهاجمت محمود العالم وبقسوة، وهنا قامت قيامة الماركسيين والشيوعيين لأتى ضربت وهاجمت العالم أحد مقدساتهم.. ومرة أخرى قلت إن قصص " نعمان عاشور" بايخة.. أو مدح ديوان شعر لصلاح جاهين هو " كلمة سلام".

كل هذه المعارك حيرت النقاد والمباحث فى نفس الوقت.. فمرة يتم تصنيفي على أنى متعاطف مع اليسار أو الماركسيين، ومرة مع اليمين وهكذا.. وعندما كتبت عن ديوان صلاح جاهين " كلمة سلام" جاءني هيكل وقال لى: عبد الناصر بيقول إن الشيوعيين أخذوا فتحي غانم معاهم.. وضحك طبعا..

وكتبت فى آخر ساعة عن قصة يوسف إدريس " قصة حب" وشتمني محمود أميين العالم فى مقال عنوانه " فتحي غانم والأدب الأسود".

المهم أن الكل حصل له لخبطة تجاه هذه الكتابات..

قلت: وعلى مستوى القراء كيف حدث الاعتراف بك؟

قال : على مستوى القراء عامة- وهذا بشهادة أرقام التوزيع- أنني عندما صرت مسئولا عن رئاسة تحرير " صباح الخير" كان توزيعها 14 ألف نسخة أسبوعيا، فوصلت إلى 30 ألفا خلال ستة شهور،

وكان الرقم يزيد عندما أنشر رواية مسلسلة لى، مثلما حدث عندما نشرت الساخن والبارد والرجل الذي فقد ظله، وتلك الأيام..وكان ذلك بسبب نوعا من الغيرة عند إحسان عبد القدوس، فقد كانت رواياتي وراء زيادة توزيع صباح الخير، ولم يكن يحدث نفس الشيء عندما كان إحسان يكتب قصة مسلسلة فى صباح الخير..

فى نفس الوقت هذه الشهرة وهذا الاعتراف من جانب المهتمين والصحفيين والقراء كان يعنى كي تستثمر هذا ، فتأتى لك عروض من الأدباء كي يكتبوا عنك، وبالمثل تكتب عنهم ، وقد رفضت ذلك تماما وابتعدت عن هذه اللعبة بشكل قاطع وحاسم.

قلت لفتحي غانم: فى عصر جمال عبد الناصر توليت مسئوليات عديدة فى بلاط صاحبة الجلالة، كنت رئيسا لتحرير مجلة صباح الخير، ورئيسا لمجلس إدارة وكالة أبناء الشرق الأوسط، ثم رئيسا لمجلس إدارة دار التحرير ، وكنت ترأس تحرير جريدتها الجمهورية، كيف بدأت علاقتك بجمال عبد الناصر ؟ وظروف معرفتك به؟ • صدمني فتحي غانم بقوله: لم تكن لى علاقة بجمال عبد الناصر، فأنا دخلت مجال الصحافة كما قلت قبل قيام ثورة يوليو (تموز) 1952، وعملت فى مجلة " روزاليوسف" وإحسان عبد القدوس، وبعد تأميم الصحافة بسنوات، وفى مارس عام 1966 اتصل بى " منير حافظ" مدير مكتب جمال عبد الناصر ، وأبلغني أنني مرشح لمنصب رئيس مجلس إدارة وكالة أنباء الشرق الأوسط ،

ولكن أنا حتى هذه اللحظة لا أعرف من الذي رشحني لهذا المنصب. وفى البداية ترددت فى الموافقة على قبول هذا المنصب، فقال لى منير حافظ: معلهش إحنا محتاجين لواحد.. وهل ستظل إلى الأبد فى مجلة صباح الخير؟

أنا كنت وقتها رئيس تحرير صباح الخير ،وذهبت على وكالة أنباء الشرق الأوسط ومكثت بها أقل من عام، ثم أثناء نقلها من مبناها القديم( فى ميدان التحرير) إلى مبناها الحالي فى الشريفين. وفى شهر نوفمبر من نفس العام اتصل بى مكتب السيد " على صبري" قائلا: أنا عاوز أشوفك.

وحتى هذه اللحظة لم تكن لى به أية صلة، أو حتى أعرفه بشكل شخصي. فذهبت إلى مكتبه ، وعرض على أن أتولى رئاسة مجلس إدارة التحرير ورئاسة تحرير جريدة الجمهورية.

واذكر أنني قلت له يومها: إن الصحافة فى مصر الآن يقال عليها هذه صحافة على صبري ، وهذه صحافة زكريا محيى الدين.

وضحك فتحي غانم لدهشتي وأضاف: والذي يشهد على كلامي هذا هو الأستاذ " أمين هويدى" وكان وقتها مسئولا عن المخابرات وأخبرني بعدها بذلك وقال لى معلقا : إنه فى مصر لم يكن هناك أحد يستطيع قول هذا الكلام لعلى صبري غيرك..

وقلت للسيد على صبري : وأنا لا أستطيع أن أبقى فى الصحافة بهذه الشكل، أنا أحسب على صحافة على صبري أو صحافة زكريا محيى الدين.

فقال : وأنا لا أطلب هذا منك.

فقلت له: ولى طلب تانى.. لابد أن آخذ موافقة زوجتي.

ضحك على صبري وتصور أنني أمزح.، ولكنى ذهبت إلى زوجتي وأخبرتها بالخبر لأنها فى النهاية هي التي ستتحمل العبء النفسي نتيجة انشغالي عنها وغيابي لسعات عن البيت. ووافقت زوجتي.

وقبل أن أبدأ العمل فى دار التحرير ذهبت على الأستاذ محمد حسنين هيكل، ولم أكم أعلم أن على صبري يعرفه، فحكيت كل ما حدث، وسألته:

فقال لى هيكل: نعم ، لأن عبد الناصر سألني بشأنك ، وأنا رشحتك لثلاثة أسباب هي:

• عملك فى الوكالة ناجحا وتتبعناه ، ثانيا : أنك اشتغلت معك فى " آخر ساعة" وأعرف شغلك كويس وأن تقديرك للمسائل جاد، وأنك غير متأثر بأحد.. • وأكمل هيكل لى : لهذه الأسباب مجتمعة حدث الترشيح.

الحوار السابق مع هيكل كشف لى أنه كام فى مسألة ترشيحي وتعييني فى جريدة الجمهورية ، ولكنى لم أكتف بذلك، وذهبت على السيد " سامي شرف" وقابلته فقال لى بالحرف الواحد: - عندي لك نصيحة، هناك أكثر من تيار فى الحكم ،فابعد عن الكل.

- هل كان سامي شرف يقصد مثلا الصراع بين عبد الناصر وعبد الحكيم عامر، لم يفصح حقيقة ، لكن وقتها كانت الجمهورية تحت يد المشير عامر من خلال الأستاذ حلمي سلام.. وأبلغت على صبري بموافقتي على قبول المنصب الجديد.. وعرض أن ينشر فى الجمهورية سلسلة مقالات .. فقلت له: أهلا وسهلا.

بدأ على صبري يكتب مقالات مسلسلة عن " حتمية الحل الاشتراكي، فأحدثت ضجة كبيرة فى كل الأوساط، واحتج البعض عليها واتصل بى هيكل قائلا إن زكريا محيى الدين زعلان من هذه المقالات، وأن آخرين يقولون إنها ستفجر حرب أهلية فى البلد.. و.. و.. وذات يوم من شهر مايو ( آيار ) عام 1967،

وفى نفس اليوم الذي اتخذ فيه قرار إغلاق خليج العقبة فى وجه الملاحة الإسرائيلية اتصل بى على صبري عند منتصف الليل، وقال عبر التليفون : من الآن أبلغك أنني أكف يدي عن الكتابة فى الجمهورية، ولم تعد لدى صلة بالصحافة، والموضوع أصبح فى يد المشير عبد الحكيم عامر.

يضيف فتحي غانم موضحا: فهمت من هذه المكالمة أن هناك حربا، لأنه لم يكن بيني وبين على صبري صلة قوية تجعله يحكى لى تفاصيل ما حدث.. وحتى هذه المقالات كان يمليها على أحد موظفي مكتبهن وكان قد طلب منى أن أقوم بإعداد هذه المقالات لتصدر فى كتاب ، وأثناء إعداد الكتاب وبعد طباعته، اتصل بى سامي شرف وقال : كتاب على صبري لا يطرح فى السوق.ز ولكن ضعه فى المخازن.

وانقطعت الصلة مع على صبري، وعلمت بعد ذلك أنه كان قد عرض منصبي قبل مفاتحتي فيه على المرحوم " على حمد الجمال" الذي رفضه، لأن تولى مسئولية الجمهورية لمتكن مسألة سهلة، فقد كانت مليئة بالألغام ، وكانت كل أجهزة الدولة والسلطة ممثلة فيها، وتركتها فى مايو 1971.

قلت لفتحي غانم: بعد تولى الرئيس السادات للسلطة فى أكتوبر 1970 تركت مسئولية دار التحرير ورئاسة تحرير الجمهورية، وبعدها بخمس سنوات تقريبا تم اختيارك مع الأستاذ صلاح حافظ لترأسا تحرير مجلة" روز اليوسف" اليسارية.. كيف فصلت من الجمهورية؟ وكيف عينت فى " روز اليوسف؟؟

ضحك فتحي غانم وأجاب: بالنسبة للفصل من الجمهورية كان ذلك عام 1971، وبالتحديد بعد 15 مايو 1971 أبلغني د. عبد القادر حاتم وقال : والله يا فتحي أنت عارف السياسة ،والأمر يقتضى تغييرا، وجلست فى بيتنا ابتداء من 20 مايو..

تولى مسئولية دار التحرير بعدى الأستاذ مصطفى بهجت دوى وكان كل اهتمامه موجه ناحية أن أقبض مرتبي، إنما الكتابة.. لا بالطبع، ورغم ذلك عرض على الكتابة، وفعلا كتبت مقالا وأرسلته له، ولكنه لم ينشر، وقال لى الأستاذ ممدوح رضا- رئيس مجلس إدارة التعاون الآن، إنه كان يعرض عليك الكتابة كنوع من المجاملة، ولكنك أخذت المسألة جد فأحرجته، وهو الذي رفض نشر المقال الذي أرسلته .

- قال: ببساطة رئيس العمال فى جريدة الجمهورية " عبد الفتاح" أرسل لى بروفات المقال لكي لاأصدق كما أشاع مصطفى بهجت بدوى أن العمال رفضوا جمع الموضوع..

المهم أنني جلست فى منزلي، وفى هذه الفترة كتبت رواية" زينب والعرش"

قلت : قبل التطرق إلى موضوع تعيينك كرئيس تحرير لروز اليوسف نعود لبداية معرفتك بالرئيس السادات كيف بدأت ونمت وتطورت؟ • • - قال: بدأت معرفتي بالرئيس السادات فى عام 1956، فقد كان السادات حريصا على الاتصال بالصحفيين ،وأذكر أن لقاءاتي به كانت تتم مع المرحوم كامل الشناوي فنزوره فى مكتبه بجريدة الجمهورية ،ولكن أول لقاء بيني وبينه بمفردنا كان فو مجلس قيادة الثورة ، وذلك قبل صدور دستور 1956، وكان وقتها يحدثني عن هذا الدستور، ويبدو أنه كان يمهد كلا يصبح رئيس مجلس الأمة. • بعد ذلك قابلته فى مناسبات كلها شخصية، فعندما كنت رئيسا لمجلس إدارة دار التحرير طلبني فى التليفون وزرته فى منزله فى الهرم، وظللنا نتحدث لوحدنا حوالي ثلاث ساعات فى أمور شتى.

واكتشفت أن السادات هو الذي كان يطلب مقابلتي دائما.. ويبدو أنه كان يريد معرفة شيء ما عنى، لأن ما يتوافر لدى من معلومات سواء قالها لى الأستاذ " موسى صبري" أو الأستاذ " محمود السعدنى" إن السادات أخذ فكرة عنى أدت إلى أنه يكرهني وينفر منى نفورا شديدا، وذات يوم قال السادات لموسى صبري: إحسان عبد القدوس يكره فتحي غانم جدا، ويقول عنه إنه إنسان ناكر للجميل، فأنا ولى نعمته، وأنا الذي جعلته أديبا، وأن فتحي غانم ( عض ) اليد التي أحسنت إليه..

يتنهد فتحي غانم ويقول: وأنا حقيقة لا أدرى لماذا كان إحسان يقول عنى هذا الكلام، هل السبب مثلا أنني قلت ذات يوم إن قصة إحسان عبد القدوس " الخيط الرفيع" وكان ينشرها مسلسلة فى " روز اليوسف" أنها ليست فنا وأنها قصة بايخة.. هل هذا هو السبب لا أدرى، أم أن السبب يكمن فى أنني كنت أنشر قصة مسلسلة فى " صباح الخير" فكانت أرقام توزيع المجلة أكثر مما كانت توزع عندما كان إحسان يكتب قصة مسلسلة .. أيضا لا أعرف .. ولكن مما لا شك فيه أن ذلك كان يسبب له نوعا من الغيرة والحسد،

وحدث خلاف ضخم بيني وبين إحسان ذات يوم وبسببه قدمت استقالتي ، وما زلت أحتفظ بخطاب من المرحوم يوسف السباعي يصحح هذا الوضع وعلى أساسه سحبت الاستقالة، ومرة أخرى تدخل بنفسه فى المطبعة، وأراد حذف فقرة كتبتها عنه فى مجلة" صباح الخير" ، ومرة أخرى كلف د. مصطفى محمود، وكان مسئولا عن باب البريد والرسائل أنه لا يكتب اسمي إطلاقا ولا يشير إليه فى " البوسطجى" رغم أنني كنت رئيس تحرير " صباح الخير".

المهم أن " موسى صبري" أبلغني إن إحسان قد سمم الجو تماما لدى السادات عنى، ومرة أخرى قال لى محمود السعدنى إنه كان موجودا فى بيت إحسان عبد القدوس، وكان موجودا أنور السادات أحمد بهاء الدين ، وأن إحسان شتمني أمام الجميع.. طبعا السعدنى لم يقل لى هذا الكلام فى وقتها ولكنه أخبرني به فيما بعد.

كل ذلك معناه أن السادات لا يطلبني إلا إذا كان يريد معرفة شيء معين منى.. وأذكر أنني ذهبت لزيارة السودان فى عام 1968، بعد بيان 30 مارس ، وكان أيامها قد تم تشكيل اللجنة السياسية للاتحاد الاشتراكي العربي وبينما كنت فى منزل عبد الله المحجوب رئيس الوزراء السوداني وأنا أعرفه كأديب وشاعر،

وسمعت من خلال جهاز الراديو أن على صبري اخذ أعلى الأصوات فى انتخابات اللجنة، المهم أنني عندما عدت من السودان ووصلت الطائرة إلى مطار القاهرة حوالي السابعة صباحا، وما أن دخلت إلى حجرة نومي كي أنام، حتى أيقظوني قائلين: السادات على التليفون.

فقال لى وقتها: أنا عاوز أشوفك.

ذهبت إليه وجلسنا وسألني : أخبارك إيه وعامل إيه؟

ولأنه لم يكن يعلم أنني قادم لتوى من زيارة السودان، أخذت أحدثه عن السودان وأحوال السودان.. و.. ولم ينطق بحرف واحد.. وفى نهاية الجلسة" مشيت" .. ذهبت إلى جريدة الجمهورية فوجدت المرحوم إبراهيم نوار رئيس التحرير التنفيذي يقول لى: هل علمت ما حدث بين على صبري والسادات؟ فقلت له: لا .. ماذا حدث بينهما؟

فقال لى: فى انتخابات اللجنة السياسية للاتحاد الاشتراكي فاز " على صبري بأصوات أعلى من التي فاز بها أنور السادات، وفى اجتماع اللجنة السياسية جاء السادات وجلس على كرسي رئيس اللجنة ، ونادى على المصورين ليلتقطوا صورا له.. وبدت المسألة كما لو كانت حربا شعواء ومن الذي سيتم تصويره، وكيف يفوز على صبري بعدد أصوات أكبر، ومن الذي يملك شعبية أكثر؟ السادات أم على صبري؟ المهم وجدت الدنيا من حولي مولعة ومشتعلة.

يكمل فتحي غانم: بعد ذلك استنتجت أن الهدف من مكالمة السادات ثم مقابلته لي كان الهدف منها أن يعرف ما هو موقف صحيفة الجمهورية.. هل هو مع على صبري أم السادات، وما الذي سننشره وكان السادات يتصور أن موقفنا سيكون مع " على صبري" لأن الجمهورية كانت محسوبة عليه..

وعندما أنظر إلى هذه الأمور من زاويتي الخاصة أشعر بمستوى الضحك الساذج التي كانت عليه القيادة في مصر..

• قلت : وماذا بعد أن أصبح السادات رئيسا للجمهورية؟

قال : انقطعت الصلة تماما، وبعد 15 مايو 1971 تركت الجمهورية، وجلست في البيت في هذه الفترة كتبت رواية " زينب والعرش" وكنت أتردد على نادي الجزيرة وألعب " دومينو" مع محامى عجوز( 70 سنة) ، وذات يوم فوجئت بالأستاذ موسى صبري رئيس تحرير " الأخبار " يربت على كتفي، ويقوم بلخبطة الدومينو قائلا وهو يبتسم:

- عن إذنك يا متر.. ها آخذ منك فتحي شوية.

- ونهضت وسرت مع موسى صبري في حديقة النادي نتكلم وندردش ، قبلها كنت قد التحقت بروز اليوسف كاتبا وأحسست بداخلها أنني إنسان غير مرغوب في وجوده، ثم قامت حرب أكتوبر( تشرين) 1973،

- وكتبت كلمة صغيرة عن القرار و ..و.. في نفس تلك الفترة كان الأستاذ عبد الرحمن الشرقاوي قد تولى رئاسة مجلس إدارة روز اليوسف وفكر في الاستعانة بالأستاذ صلاح حافظ ليتولى مسئولية تحرير مجلة " روز اليوسف" وليس رئيسا للتحرير وحصل نوع من المقارنة من جانب فهمي حسين ويوسف صبري الذين كانا يتوليان المسئولية الفعلي، وأحس بهذه المقاومة الأستاذ الشرقاوي، ويبدو أنه تكلم مع الأستاذ موسى صبري ورئيس تحرير الأخبار بشأني، وفوجئت بموسى صبري يأتيني نادي الجزيرة، كما قلت ويقول لي :

- لازم تقف مع عبد الرحمن الشرقاوي.

فقلت لموسى : كيف؟ قال لى : تبقى رئيس تحرير روز اليوسف .

المهم أنني أخذت أفكر فى هذا الأمر ، وبعدها بيومين اتصل بى الأستاذ الشرقاوي عارضا منصب رئيس التحرير ، طبعا من غير المعقول أن تكون هذه الاتصالات التي جرت عن طريق الأستاذين موسى صبري والشرقاوي بغير موافقة من الرئيس السادات وقتها..

وبعدها بيومين اتصل بى الأستاذ الشرقاوي فأبلغته موافقتي بشرط أنني لن أكتب فى " السياسة" وألا يتم وضع اسمي فى ترويسة المجلة كرئيس تحرير قبل أن أقوم بالإعداد والتجهيز للعمل، ووافق الأستاذ الشرقاوي ن ثم اتصلت بك لمن صلاح حافظ وفتحي خليل مقترحا أن يتم تشكيل لجنة تضمنا نحن الثلاثة مهمتها إعداد أفكار وموضوعات لتطوير المجلة.

وعدد بعد عدد بدأ توزيع روز اليوسف يرتفع ويزيد، إلى أن جاء شهر مايو 1975 ، وبدأ السادات يدعو لفكرة المنابر التي تحولت إلى أحزاب فيما بعد، واقترح الشرقاوي أن يصبح صلاح حافظ رئيسا للتحرير ليكتب فى السياسة..

ثم جاءت أحداث 18و 19 يناير 1977، وبعدها بأسابيع حدث التغيير الصحفي الذي شمل كافة المؤسسات، فخرجت أنا وصلاح حافظ من رئاسة تحرير روز اليوسف.

• قلت : كيف أبلغت بالقرار؟

ضحك فتحي غانم ثم قال : طلب السادات من عبد الرحمن الشرقاوي رئيس مجلس الإدارة أن يقابله ، وفى القناطر دار حوار طويل بين السادات والشرقاوي، ثم عاد الشرقاوي من هذه المقابلة ودعانا( أنا وصلاح حافظ ولويس جريس وحسن فؤاد) ، وحكي لنا ما حدث.. إنما كنا عارفين بفترة أننا لن نستمر فى رئاسة تحرير روز اليوسف .

• قلت له: هل يمكن اعتبارك صحفيا يهوى الأدب؟ أم أديبا يشتغل بالصحافة؟

قال : أنا أديب، يحترم الأدب جدا وعملت بالصحافة أنشر فيها ما أكتبه من أدب روائي.

وأنا أردد دائما أن التحدي الحقيقي بالنسبة لى هو الرواية. لأني أؤدي عملي الصحفي فى سهولة بالغة. ومنذ أن تعرفت على الأساتذة كامل الشناوي ومصطفى أمين وعلى أمين أو محمد حسنين هيكل ، فقد كان فى ذهني دائما أن هؤلاء يعدون لى المسرح أو الورق فى مكان أو آخر كي انشر فيه قصصي أو رواياتي هكذا أقول بصراحة.

ولعلك تندهش إذا قلت لك أنني منذ سن الثالثة عشرة وأنا أردد بيني وبين نفسي دائما، سأكتب الرواية وسأنشر ما أكتب من روايات. ذلك لأنني بدأت كتابة الرواية فى مرحلة مبكرة من عمري.

• علقت قائلا: كتب الأستاذ أحمد بهاء الدين يقول: إنك أكثر كاتب أدبي روائي فى جيلنا كان يعرف منذ البداية أن حياته هي أدب القصة، ولكنه مع هذا استعد لذلك استعدادا كبيرا وطويلا، أشك فى أن يكون متكررا لدى أي كاتب قصة معاصرة.

قال الروائي فتحي غانم: الصحافة أعطتني مساحة لنشر رواياتي، وهذا شيء مهم جدا ، وكان فى حسابي دائما، وإذا كان هناك عيب فى عملي كصحفي فهو أنني لم أخلص أبدا للصحافة كصحافة، ولكنى استفدت من وضعي الصحفي لأنشر الرواية..

وحتى عندما كنت أصل إلى مركزصحفى كبير- رئيس تحرير أو رئيس مجلس إدارة- فقد كان ذلك يعنى وصول إلى مركز أستطيع من خلاله نشر رواياتي لأن فرصتي فى نشر رواياتي عن طريق الصحافة اكبر مما لو لم أكن أشتغل بالصحافة.

واختياري للعمل فى روز اليوسف رغم أنني كنت وقتها أكتب فى أخبار اليوم، كان بهذا الهدف ، وأذكر أن محمد حسنين هيكل قال لى: أنا سايب آخر ساعة وتتولى رئاسة تحريرها بدلا منى ، ولم أقبل عرض هيكل برئاسة تحرير آخر ساعة، وقبلت عرض الأستاذ إحسان عبد القدوس للعمل فى روز اليوسف ، وتركت أخبار اليوم، وكان فى ذهني أنني فى روز اليوسف سأتمكن من نشر رواياتي.

ومن الأشياء التي أذكرها وأحيى بها إحسان عبد القدوس أنه نشر لى أول رواية مسلسلة وهى " الجبل" فى روز اليوسف ، وكانت هذه أول مرة يقبل فيها إحسان عبد القدوس أن ينشر رواية مسلسلة لأحد غيره فى روز اليوسف ،

وكان ذلك فى وقت مبكر وقبل صدور قانون تنظيم الصحافة أي فى عز سلطة إحسان كصاحب للدار، ثم نشر لى أيضا الساخن والبارد وقبلها" من أين"

• قلت : أنت صحفي ورئيس تحرير ورئيس مجلس إدارة وكاتب روائي: ماذا يهمك من كل هذه الألقاب؟

• قال بحسم: أنا لا يهمنى على الإطلاق لقب" رئيس تحرير " أو " رئيس مجلس إدارة" لكن ما يهمنى فى البداية والنهاية أن تتم محاسبتي وتقييمي على أساس ما كتبت من روايات وقصص.

ابتسم فتحي غانم كمن تذكر شيئا وقال لى: أذكر مرة وكان ذلك بعد فترة قصيرة من قيام الثورة أن محمد حسنين هيكل كان يتناقش معي ، وكانت صلتي به تعود إلى سنوات ما قبل الثورة 19521952، عندما عينت فى إدارة التحقيقات بوزارة المعارف، وكان معي عبد الرحمن الشرقاوي وأحمد بهاء الدين، وكان هيكل وقتها محررا شابا فى آخر ساعة يأتي للحصول على أخبار تحقيقات الإدارة لينشرها..

كان هيكل يقول دائما وبقناعة مطلقة: الحاكم محتاج لصحفي يعبر عنه وسأكون أنا هذا الصحفي، وكنت أقول له إن الأدب ابقي وأفضل من السياسة ، وكان يضحك ويقول لى : خلاص أنت بتاع الصفحة الأخيرة وأنا بتاع الصفحة الأولى.

قلت له: وهل ما زلت عند هذا الرأى ؟ أن الأدب ابقي من السياسة ؟

قال مبتسما : آه .. ده بالنسبة لى مش بالنسبة للصحافة، أن الأدب أبقى من السياسة هذا صحيح بالنسبة لمؤسسة فتحي غانم.

عندما صدرت رواية " زينب والعرش" كتب فتحي غانم فى مقدمتها بيانا هاما ولا مفر منه يقول فيه : يرجو مؤلف هذه الرواية ، رجاء حارا ألا يتورط القارئ العزيز فى محاولة البحث عن صلة أو أوجه شبه بين شخصيات هذه الرواية وشخصيات فى الواقع سواء كانت معروفة أو غير معروفة من الأحياء أو الأموات ، إن كل ما جاء فى هذه الرواية من أحداث وشخصيات إنما هي محض خيال .

وعندما تحولت هذه الرواية إلى مسلسل تليفزيوني( 30 حلقة) قضى الجمهور أكثر وقته فى محاولة التعرف على أشخاص الرواية فى الحقيقة، لأنها تدور فى عالم الصحافة والسياسة بنجومها من المشاهير وكتب أحمد بهاء الدين يقول:

هل عبد الهادي النجار هو الأستاذ التابعي أم مصطفى أمين أم على أمين؟ هل يوسف مؤلف الرواية هو فتحي غانم أم أحمد بهاء الدين أم هو مزيج من الاثنين؟ ومن هي زينب قبل كل شيء وبعد كل شيء؟

واعترف مصطفى أمين فى حديث صحفي: لقد وجدت نفسي فى زينب والعرش وسألت فتحي غانم بصراحة شديدة: رغم بيانك الايضاحى فى مقدمة الرواية بأن شخصيات الرواية لا وجود لها.. إلا أن القارئ والمشاهد أحسا بغير ذلك.

قال فتحي غانم: هناك نظرية فى النقد تقول إن كل عمل فني يعكس بشكل ما البنية الاجتماعية والطبقية للمجتمع الذي يعيش فيه. بل إن بعض علماء الاجتماع فى الولايات المتحدة يقول إننا نستطيع أن نتعرف على المجتمع من خلال العمل الروائي أكثر مما نستطيع التعرف عليه من خلال المؤرخ أو الدراسة الاجتماعية نفسها، وهذا الكلام لا أستطيع أن أتجاهله أو أنكره، ومنذ قليل قلت لك إنني أردت أن أكتب رواية حب عاطفة، ولكن المجتمع فرض نفسه على لأني أعيش فيه وأتفاعل مع شخصياته، فكتبت رواية أخرى ،

وإلا كتبت رواية لن يصدقها من يقرأها مثلما تشاهد فيلما سينمائيا قديما فتجد رجلا يقول لامرأة: أنا بحبك موت ولا أستطيع أن أعيش من غيرك ولازم نتجوز بكره، ويتفقان على الموعد، ويأتي هذا الرجل ليتحدث مع صديق له قائلا: أنا عاوز شقة فى الزمالك كمثال وتكون الشقة جاهزة، ويتزوجان وخلاص.. وده كان فى أفلام زمان، فلو أنني كتبت مثل هذا الكلام اليوم لا يمكن أن يكون أكثر من نكتة بايخة.

من ناحية أخرى أنا لى تفسير صادق وعلمي تماما ويدخل فى صميم عملية النقد الأدبي، هذا التفسير يستند على نظرية تقول إن العمل الفني لا يكتمل إلا بوجود الفنون تحتاج للمشاهدة .

بمعنى أن الرواية إذا لم يقرأها قارئ لا تصبح رواية واللوحة الفنية بغير مشاهد لا تصبح لوحة، وهكذا والمقصود بذلك أن العمل الفني فى مسلسل زينب والعرش هو أن المتلقي- المشاهد- وهو كما قلت جزء من العمل الفني قال إن عبد الهادي النجار هو فلان من الصحفيين ، وأن دياب هو فلان.. والمتلقي أكمل العمل الفني بهذه الرؤية.

• قلت للروائي فتحي غانم: ولكن من يقرأ رباعية " الرجل الذي فقد ظله" يكاد يرى فيها نجوم الصحافة اللامعين.. فمثلا " يوسف عبد الحميد السويفى" هو هيكل بل إن الناقد الصحفي الانجليزي " ديزمزند ستيورات" قال : كانت رباعيتك الرجل الذي فقد ظله تدور حول أحد رؤساء التحرير الناصريين. • ابتسم فتحي غانم وقال : ما حدث هو أنني من خلال الرواية أعطيت للقارئ المتلقي المناخ الذي أخصب عنده هذه المقارنات، وأذكر عندما كتب هيكل كتابه " عبد الناصر والعالم" فقد كتبت صحيفة نيويورك تايمز مقدمة عن الكتابة وهيكل تقول فيها: بلغ من شهرة هيكل فى مصر أن كتبت عنه رواية هي " الرجل الذي فقد ظله"..

وقبل ذلك بسنوات وأثناء نشر الرواية كنت أزور دائما المرحوم محمد التابعي ، وقال لى فى إحدى المرات: إن محمد- يقصد هيكل- يقول إنك تكتب عنه فى شخصية يوسف عبد الحميد السويفى، وتكتب عنى فى شخصية " محمد ناجى" وأذكر أنني قلت له : هذا جو الرواية.

وبعدها قابلت " هيكل " فقال لى بالانجليزية: الرجل الذي فقد عقله وضحكنا

• قلت له: نعود إلى " زينب"هل كانت تمثل مصر بكل تناقضاتها وأحلامها المستحيلة أم كانت امرأة لها وجود حقيقي.

قال : أنا كتبت زينب أو كأنثى من لحم ودم، بني آدم له أب وأم وجذور ، أما إذا جاء واحد من النقاد وقال إنها تمثل مصر فهو حر، أنا لا أقول آه، ولا أقول نعم.

وأذكر أن رئيس قسم الاجتماع في جامعة" برنستون" الأمريكية وكان فى زيارتي وفى إحدى مناقشاتنا قال لي : إن رؤية الأديب للمجتمع أحيانا ما تكون أصدق وأسرع وسيلة لتبين طبيعة المجتمع من الدراسات الاجتماعية .

ولذلك قيل إن روائع شكسبير مثل " روميو وجولييت" تمثل صراع الأسر والطبقات في مجتمع ما أو أن الملك" لير " تمثل الصراع على الحكم فى إحدى الفترات في تاريخ انجلترا، كل هذا صحيح ورغم أن الكاتب نفسه مات، ولكن الرواية نفسها بقيت لأن فيها موقف إنساني وفيها معنى إنساني وخبرة إنسانية باقية.

قلت له: عندما صدر قانون تنظيم الصحافة في 24 مايو 1960 ، كنت وقتها رئيس تحرير مجلة " صباح الخير" وبهذه الصفة حضرت لقاء جمال عبد الناصر برؤساء التحرير ورؤساء مجالس الإدارات، وهاجم فيه الكاريكاتير الذي تنشره المجلة. ما هي تفاصيل ما جرى؟

وقال : قبل ذلك الاجتماع بحوالي أسبوعين كانت صباح الخير قد صدرت وغلافها عبارة عن رسم كاريكاتيري للفنان حجازي، الذي رسم دولاب الملابس وبداخله خمسة رجال وأمامهم وقفت سيدة تقول لأخرى: أنا رابحة السينما.. تفتكرى أخرج بإيه.

وفى ذلك الاجتماع ثار جمال عبد الناصر وهاجم الصحافة بشكل عام، ثم ذكر صباح الخير بالاسم وقال الصورة الكاريكاتيرية اللي بتمثل الزوجة أنها خاينة لأنها حطت تلاتة في دولاب أبدا مش ده مجتمعنا ، أنا معرفش ، أنا مش متصور أن مجتمعنا فيه زوجة بتحط ثلاث رجاله في دولاب ، وعلشان كده بتحط لهم تكييف هواء.. ده مجتمع مين أنا معرفش.

ضحك فتحي غانم وعاد ليقول : دائما كانت النسا التي يرسمها الفنان " حجازي" تثير أزمة مع الدولة وتتميز ريشة حجازي بأنها الريشة الطيبة الناعمة التي تتناول المشاكل بوقاحة وإصرار . • سألته: بعد هذه الأزمة هل تحدثت مع الفنان حجازي بشأنها؟

قال: الحقيقة أنني لم أكن أهتم بمثل هذه الأمور إطلاقا، وكنت أواجهها بعدم الاهتمام، وهناك أسلوبان في الصحافة عموما لمواجهة ذلك، الأول أن يقال لك أو لرئيس التحرير إن الحاكم مهتم ومنزعج جدا لما تنشره أو تكتبه، وعندما ستقوم بالدفاع عن نفسك من منطق الخوف والفزع والهلع فترسل برقيات وتلغرافات استعطاف ثم تنهال إلى رسام الكاريكاتير فتهدده وتعاقبه..و.. و

والأسلوب الثاني وأنا من أنصاره وأتبعه غالبا وهو أنني استمع لكل هذه الزوبعة، ولا أهتم بها مطلقا ، ,استمر في أداء عملي بشكل عادى تماما، وما يريد الحاكم أن يفعله فليفعله، ومنطقي في ذلك أن الأسلوب الأول الذي ينطوي على الخوف والدفاع عن النفس يضخم وينعش السلطة، وفى اللحظة التي تجد السلطة فيها أنك في موقف الشاكي والمدافع ، فهذا يقويها ويورمها ، ولكن إذا تجاهلت ذلك كله، فالسلطة أعجز وأكسل من أن تعرف تماما ماذا تريد أو ما الذي تفعله؟

• قلت: علاقتك بفن الكاريكاتير ؟ وهل تصطدم أحيانا مع رسام الكاريكاتير؟

قال : علاقتي بالكاريكاتير هي علاقة فنان بالطبع والفنان لا يمكن أن تتعامل معه على أساس منطق الاصطدام أو التصادم، وأنا عادة أتعامل مع الكاريكاتير كمتفرج أو متذوق أو ناقد وليس على أساس أن هذا يصح وهذا لا يصح.

• قلت وظروف اللقاء مع جمال عبد الناصر في تلك الفترة؟

قال : لم يحدث أنني جلست مع عبد الناصر بمفردنا ، وكانت اللقاءات معه تتم في المناسبات العامة، مثل لقاء يعقده مع الصحفيين، أو الاتحاد القومي، ولكن أول وآخر لقاء تم بشكل بارد جدا من جانبينا، كان ذلك في اجتماع يحضره مصطفى أمين وعلى أمين، وإحسان عبد القدوس ، وهيكل ، فوقفنا صفا واحدا لمصافحة عبد الناصر،

وهناك عادة أخذتها عن والدي فعندما أصافح أحدا أنظر على عينيه طويلا.. فعندما جاء دوري لمصافحة عبد الناصر.. ظللت في عينيه لمدة، ويبدو أن عبد الناصر دهش فسألني على الفور:

- أنت مين؟

- فتحي غانم

كانت هذه هي المناسبة الوحيدة وكانت قاسية وباردة وفيها صرامة من الجانبين، صحيح أنه كان حوارا قصيرا لم يزد على أربع كلمات( أنت مين.. فتحي غانم) ولكنه حوار معبر ويرمز لأشياء كثيرة جدا.

• قلت لفتحي غانم: عندما قامت ثورة تموز 1952 كانت هناك صحف الأهرام ، الأخبار ، أخبار اليوم، روز اليوسف ، المصري.. ومع ذلك أصدرت الثورة الصحف الخاصة بها مثل " الجمهورية.. التحرير .. المساء.." والملاحظ أنها فشلت جماهيريا .. ماذا تقول أنت؟

قال: أتفق معك والسبب أن الطابع العام للذين اشتغلوا في هذه الجرائد والمجلات كان أقرب إلى الموظفين ، والتنظيم البيوقراطى الذي ينشأ من مسألة تولى ضباط في عملية التنظيم كان يحد كثيرا من الانطلاقة الفردية للصحفي أو الكاتب الذي كان حقيقة يشعر ويحس أنه يستطيع أن يمارس العمل الصحفي دون أن يواجهه ضابط غير فاهم..

هؤلاء العسكريون أو الضباط الذين تولوا مسئوليات صحفية كانت لديهم نوايا حسنة، ولكنها لا تملك الخبرة اللازمة كي ينجح العمل الصحفي, وأمامي مثل هو " دياب " في " زينب والعرش" ..

أحمد بهاء الدين

صحافة لها تاريخ.

عقب قيام ثورة يوليو1952 وطرد الملك انهالت الكتب والمقالات تشتم وتسب الملك رغم أن بعض كتابها من أخلص خلصاء الملك، وفوجئ الرأي العام وقتها بكاتب شاب لم يتجاوز عمره 25 عاما يدفع له بكتاب عنوانه، "فاروق ملكا " قدمه إحسان عبد القدوس. وكان رأى أحمد بهاء الدين مذهلا للكافة، إذ قال : الدستور هو الذي يحدد مكان الملك وينظم قيوده، والدستور هو المقيد الذي كان يجب أن يقيد به الملك السابق والقفص الذي كان يجب أن يوضع فيه ، والبداية الحقيقية في مأساة فاروق أنه لم يلتزم بالدستور.

وانتبه الناس للكاتب الشاب المتزن والعاقل: فمنذ بدأ الكتابة الصحفية كهاو ومحترف بعد ذلك، فقد ترك بصمات واضحة وعلامات قوية فيما كتبه، وأثارت كتاباته اهتماما فكريا كثيفا لدى القراء، فقبل الثورة يطالب بتأميم تجارة القطن وكانت بأكملها في أيدي الأجانب، وبعد الثورة بعامين وأثناء أزمة مارس الشهيرة يكتب مطالبا: إنه لابد للبلد من دستور وحد أدنى من الديمقراطية.

وفى عام 1965 تصدر الطبعة الأولى من أهم كتبه" إسرائيليات" والتي أكد فيها بحق أن التحدي الذي تفرضه علينا إسرائيل ليس تحديا عسكريا سياسيا فقط ولكنه تحد حضاري بأوسع معانيه.

ثم تقع نكسة يونيو ولأول مرة يطح المفكر العربي أحمد بهاء الدين اقتراح دولة فلسطين وأثار ذلك الاقتراح المطروح عام 1968 جدلا واسعا بين أوساط السياسيين والمثقفين ما بين التأييد والمعارضة.

• قلت: بداية المشوار في الحياة العملية ؟

قال لي: عندما تخرجت في الجامعة- كلية الحقوق- كان في ذهني أن أعمل بالمحاماة، ثم اتضح أنه ينبغي لمن يشتغل بالمحاماة فلابد أن تكون سنه 21 سنة وكان عمري وقتها حوالي 19 سنة، فالذي حدث أو والدي- وقد كنت الولد الوحيد على مجموعة بنات- وكان يعمل موظفا حكوميا وكارها للعمل الوظيفي قال لي وقتها: إذا أردت أن تشتغل محاميا فأنا مستعد للإنفاق عليك حتى آخر قطرة في عمري، أما إذا أرد أن تلتحق بوظيفة فأنا غير مسئول عنك، يعنى لا تقل لي أكلم لك أحدا كي تعمل ،

فقررت أن أقوم بعمل دراسات عليا في كلية الحقوق ، إلى أن أبلغ سن المحاماة، في تلك الفترة كان لا صديق نذاكر معا وهو ابن المرحوم محمد العشماوى باشا الذي كان وزيرا للمعارف وقتها، وكان الرجل يعرفني جيدا واقترح على بدلا من بقائي في البين هذه المدة أن أعمل معه في مكتبه، فعملت في الحكومة لأول مرة في مكتب وزير التربية.

وعندما خرج من الوزارة سألني: أي جهة أحب أن أعمل بها؟ فكان بالنسبة لي: العمل في مجال القانون، فذهبت على غدارة الشئون القانونية، وبعد ذلك عملت فترة في مجلس الدولة، على أي حال أنا أعتبر أن القانون سواء أكان دراسة أو ممارسة أفادني كثيرا، لأنه يعلم المنطق، وأن الكلام لابد أن تكون له معاني محددة، لكن بالمعنى المباشر لا أستطيع أن أقول إنه أعطاني خبرة معينة أو تجربة معينة.

  • قلت: هل كنت قد بدأت الكتابة فئ مجلة " الفصول" ؟

يقول : نعم ، كنت أكتب في الفصول ، ونشر لي بعض المقالات كقارئ، كانت " الفصول" مجلة الطابع والاهتماماتـ وقد ظهرت ردا على مجلة" المختار" ريدرز دايجست وفى تلك الفترة كانت هناك دعوات تعتبر جديدة مثل الإصلاح الزراعي، وكانت هذه المجلة لها هذا الطابع الجاد وكنت من قرائها، فذهبت للأستاذ محمد زكى عبد القادر صاحبها رئيس تحريرها- بدون سابق معرفة- وعرفته بنفسي،

وقلت له : إنني أحب أن أكتب في المجلة، فطلب منى أن أقدم له مواد وبالفعل قدمت له مواد لتنشر في المجلة، وأحيانا صرت أقدم له مواد لجريدة الأهرام ككاتب هاو إلى أن كتبت في روز اليوسف .

• قلت: حكي الأستاذ محمد زكى عبد القادر في سيرته الذاتية، "أقدام على الطريق" : " كانت الفصول قد بلغت درجة كبيرة من الذيوع والانتشار، وكما كانت مجالا لأقلام الكثيرين من أصحاب الفكر والرأي كانت أيضا مجالا لأصحاب ألأقلام من الشبان الجدد، وكنت أرحب بهم وأعطيهم فرصا متساوية. • وكان الأستاذ أحمد بهاء الدين أكثرهم مواظبة وتحمسا ، وأنست له، وأفسحت له الكثير من الصفحات، ثم حدث أن زادت مشغولياتى في " الأهرام" بعد وفاة المرحوم أنطون الجميل باشا فزادت مسئولياته في الفصول، إذ أصبح يقوم بأكثر العمل فيها أو كله".

قال الأستاذ أحمد بهاء الدين بتأثر واضح: كلامه ده صحيح وأنا أعتز بهذه الفترة جدا، أصبحت مدير تحرير الفصول، وكان عمري وقتها 21 أو 22 سنة، لأنه واقعيا كان الأستاذ زكى عبد القادر قد أصبح رئيس تحرير الأهرام، ورغم أن الفصول كانت شهرية ومحدودة الانتشار لكن أصبح لها مركز جذب للمثقفين، وأعتز أنني نشرت لأول مرة لعدد من الكتاب الذين أصبحوا فيما بعد من أصحاب الأسماء اللامعة ن وكانوا يومها مغمورين،

وكتبوا في الفصول لأول مرة بأسمائهم، فتحي غانم، عبد الرحمن الشرقاوي، أحمد رشدي صالح وكان وقتها مختفيا لأنه كان مطلوبا من البوليس ويكتب باسم مستعار ، أيضا نشرت لعلى الراعي، نعمان عاشور، يوسف الشارونى، وعدد ملفت آخر تجمعوا في مكتب " الفصول" الذي كان مقره شارع شريف، وسرعان ما تحول إلى نوع من الملتقى ،

كان كل واحد من هؤلاء يأتي ويعرفني بغيره ، بدأ بدر الدين أبو غازي يكتب عن الفن التشكيلي ولم أكن أعرف أحدا منهم قبل ذلك باستثناء الشرقاوي وفتحي غانم( لأني عرفتهما أثناء الوظيفة) فمثلا أكون بالمجلة فيأتي واحد ويعرفني بنفسه قائلا: أنا اسمي نعمان عاشور وبكتب قصص وهكذا.

• قلت: وظروف انضمامك لروز اليوسف ؟

قال : كان هذا قبل ثورة يوليو بشهور قليلة فيما أذكر، ونشرت وزارة الهلالي باشا في ذلك الوقت الميزانية المصرية، ولم يكن مألوفا في ذلك الوقت الكتابة في المسائل الاقتصادية كما هو الآن، فالسياسة أصبحت كلها اقتصاد ،

فكتبت مقالا عن الميزانية مهاجما بشدة وأيضا بشكل مبسط، أرقام فوجئ بها الناس، وكان هذا نغمة جديدة وقتها، الكلام عن الاستثمار وعن التنمية فهذه الكلمات لم تكن موجودة، وأن الميزانية أكثرها لاستيراد المجوهرات والفراء ووسائل الترف،

وكانت هذه جديدة فالتقطتها مجلة روز اليوسف وفوجئت أنها منشورة في الصفحة الأولى بعناوين ومانشيتات بل منشورة مكان الافتتاحية، فاعتبرت هذا تصرفا ممتازا من المجلة، فهو مقال لشخص غير معروف إنما لأسباب موضوعية ينشر فئ الصفحة الأولى، فهذا شجعني على أن أكتب باستمرار، وكنت أرسل باستمرار بروازا ينشر في صفحة أو ثلاث وأتركه مع بواب المجلة دون أن أعف أحدا في روز اليوسف لفترة طويلة.

وفى أحد الأيام وكان وقتها المرحوم عميد الإمام سكرتير تحرير روز اليوسف فقابلته بالصدفة على باب المجلة ولم أكن أعرفه فقال لي: ده إحنا بنقول للبواب دائما أنك عندما تيجى يبلغنا عشان عايزينك، المهم أخذني وعرفني على السيدة روز اليوسف والأستاذ إحسان عبد القدوس واستمريت في الكتابة وعرضوا على أن أشتغل في روز اليوسف لكنى رفضت ـ فقد كنت في مجلس الدولة وعلى وشك أن أسافر إلى فرنسا لإكمال رسالة الدكتوراه ، لكنى كنت دائما أعمل في فترة بعد الظهر، ثم زادت مسئوليتي فألغيت الرحلة إلى فرنسا ثم استقلت من مجلس الدولة.

• قلت : وظروف صدور مجلة" صباح الخير" وكنت أول رئيس تحرير لها؟

قال : كان لدى السيدة روز اليوسف ترخيص قديم منذ سنوات طويلة باسم " صباح الخير" وكانت كما قالت لي : تتمنى أن تصدر مجلة أو جريدة باسم هذا الترخيص قبل أن تموت، وطلبت منى إصدار هذه المجلة، فتوليت عملية إصدارها وكنا جميعا مترددين ، لأن الوسائل المتاحة كانت بسيطة جدا.

قلت : بل الأكثر من هذا إنك كتبت في العدد 15 من صباح الخير تقول أنك كنت من أشد المعارضين في إصدار صباح الخير..

فيكمل قائلا: لم أكن متوقعا أن تستمر، لأنه حتى وقت صباح الخير كانت السوق الصحفية قد رأت عشرات المحاولات لإصدار مجلات ذات طابع اجتماعي وليس السياسي، وكانت تغلق أبوابها بسرعة، فأنا لم أكن أتوقع لها هذا المصير في الواقع،

خصوصا أنها ستكون نفس طباعة روز اليوسف ونفس الورق أيضا في ذلك الوقت، ولابد أيضا أن تتشابه مع روزا لأنها ستقوم على الرسم والريشة والكاريكاتير ، أي ستكون نسخة اجتماعية وليست سياسية من مجلة ناجحة، وعادة فهذه تجربة خطيرة جدا.

المهم أن السيدة روز اليوسف صممت على إصدارها بأي ثمن، وكانت الميزانية والوسائل المتاحة لنا قليلة جدا جدا، وصدر العدد الأول وليس فيه من يساهم من الصحفيين رغم شبابهم إلا أنا والأستاذ حسن فؤاد والفنان زهدي بصفته هو الذي رسم غلاف أول عدد فقط لا غير.. و صلاح جاهين كان وقتها يعمل في التوضيب.. وأول مرة يرسم فيها صلاح جاهين" كاريكاتير" كان في صباح الخير كان حلمه أن يرسم موتيفات " رسوم صغيرة" ولم يوافقوا .. وذات يوم قال لي الأستاذ فؤاد: إنه فسه شاب ليس له عمل معين ما رأيك لو أتى يساعدنا في ماكيت المجلة، كان صلاح جاهين وقتها مهتما بكتابة الأغاني،

وعندما رسمنا أول مشروع لماكيت صباح الخير، حددنا به أماكن نظرية يوضع مكانها نكت وكاريكاتير، وكنا وقتها نحاول عمل أحجام وأشكال مختلفة للكاريكاتير عن روز اليوسف، وفوجئت وأنا أرى هذا الماكيت بأن صلاح جاهين قد قام برسم كاريكاتير بالقلم الرصاص داخل هذه البراويز وكان الكاريكاتير بالفعل ملفتا للنظر سواء من ناحية الذكاء أو خفة الدم أو الخطوط، فسألته :

أنت ليه مش بترسم " كاريكاتير"؟

فقال لي: أنا مشكلة حياتي إني أرسم كاريكاتير ولا أحد يرضى أن يجعلني أرسم " كاريكاتير" إنما يقولون لي وضب.. شيل .. حط، وكمان بأكتب أغاني ، فسألته : هل مستعد ترسم " كاريكاتير " في المجلة فقال: آه مستعد.

صلاح جاهين لم يرسم " كاريكاتير" إلا منذ أول عدد في صباح الخير، ولم يكن معروفا ، إنما انفجر كالقنبلة ، فلم يبدأ بداية تدريجية.

جميع من أسسوا صباح الخير منذ أول عدد كانوا طلبة في قسم الصحافة بكلية الآداب على أكثر تقدير أو طلبة في كلية الفنون الجميلة، واليوم أسماؤهم ملأت الدنيا.. مثلا صلاح جاهين، رجائي، حجازي، بهجت ومن المحررين محمود المراعى، نجاح عمر ، زينب صادق، نهاد جاد، لويس جريس كان في قسم الصحافة بالجامعة الأمريكية ولم يكن مضى على تخرجه شهر واحد ونجاحها بهذه المجموعة كان أهم شيء ملفت وقتها.

• قلت: اخترت شعار صباح الخير" للقلوب الشابة والعقول المتحررة" عام 1956، هل ترى أنها ما زالت تلتزم. • قال بسرعة وحسم: ما زالت محافظة على نفس الشعار.

قلت: يوم مات " على أمين" كتبت على صفحات الأهرام: في إحدى أزماتي مع السلطة قلت لممثل السلطة : إن الثورة لها أفضال على أناس كثيرين ربما كانوا لا يستحقون .

ولكن الثورة لا فضل لها على بالمعنى الشخصي. فإيماني بها مجرد من النفع، ذلك إنني توليت أكبر منصب يفكر فيه صحفي وأعلى مرتب قبل تأميم الصحافة، وبقوانين السوق الحرة، ومارست ذلك حتى زهدت فيه، وما أريد سوى أن أكون كاتبا، لأنني أعتقد أن لقب كاتب أو محرر هو أعلى لقب في الصحافة.

يبتسم أحمد بهاء الدين قائلا: ليسن أزمة معينة ، لكن أنا أعتقد أن الصحافة لها عدة طرق ، وكل صحفي يشعر أنه يستطيع أن يتقدم في اتجاه، فهناك الصحفي الذي يستطيع أن يتقدم في أن يكون مخبرا صحفيا من الدرجة الأولى ، أي كفاءته في الحصول على الخبر في الدرجة الأولى، وآخر يشعر أن استعداده هو الكتابة والتحليل بالدرجة الأولى،

وهناك صحفي تتجلى موهبته في إدارة العمل الصحفي ، وهذا أشبه بقائد الأوركسترا، الذي قد لا يكون أهم عازف للكمان أو للبيانو. فقد يكون عنده عازف بيانو ومشهور عالميا، ولكن قائد الأوركسترا هو الذي ينسق الأوركسترا من المواهب والكفاءات الموجودة عنده بحيث يخرج أحسن ما لدى كل من يشتغل معه.

وأنا قلت هذا الكلام عندما قررت أن أترك نهائيا أي مسئولية سواء كرئاسة تحرير أو رئاسة مجلس إدارة على أساس أنني أعتقد بعد مرحلة معينة من السن والعمل والجهد والتعب إنه قد آن الأوان للإنسان أن يختار ما هو صالح بالنسبة له ويحبه.

ولكن التقليد الموجود في مصر- وهذا كلام قلته للمسئولين في مصر- أن رئيس التحرير هو الذي يكتب مقال الصفحة الأولى، وهو الذي يكتب الافتتاحية بتوقيعه، وهذا التقليد ليس موجودا في العالم كله، لأنه بدعة محلية.

وجهد رئيس التحرير في الأساس هو إبراز أحسن ما عنده، أن كل شخص عنده يعطى أحسن ما لديه، الكاتب، سكرتير التحرير ، الرسام، المخبر الصحفي.

أما تقليعة أن قرار تعيين رئيس التحرير ، فيصبح رئيس لتحرير هو الكاتب الأول في الجريدة أو المجلة فهذا ليس موجودا إلا في مصر.

أكثر من هذا ، أنا كنت دائما أقول للمسئولين عن الصحافة، إننا لو أخذنا الصحافة الأمريكية أو الانجليزية أو في معظم البلاد المتقدمة لا نجد اسم رئيس التحرير مكتوبا على الإطلاق..

وأذكر مرة في أحد الاجتماعات وكان الموجودون من غير الصحفيين، فسألت هل يعرف احد اسم رئيس تحرير التايمز؟ قالوا لا، أو الجارديان؟ قالوا لا.. لأنها ليست موجودة إنما يعملون اسم المخبر الرئيسي لأنه يكتب في الصحف الأولى كتب فلان أو السبق الصحفي الذي أحرزه أو مقال بقلم فلان، لأن رئيس التحرير هو الذي يتولى طبخ كل هذه الأشياء.

أنا أقول هذا اتجاه وهذه كفاءة غير كفاءة الكتابة وغير كفاءة رئاسة التحرير.

لذلك أنا في وقت من ألأوقات قررت أنني لم أعد مضطرا أن أتحمل مسئولية ثلاثة آلاف محرر وموظف وعامل.. وعمليات بيع وشراء واستيراد مطابع وورق، وأحسست أن هذا ليس أحسن شيء أجيده، وأنه في فترة من الفترات فالإنسان يجب أن يتخصص في شيء يجيده.

• قلت: حكى إحسان عبد القدوس في حوار له أنك حذفت له سطرين من مقال دون أن تخبره بذلك، فذهب إلى أخبار اليوم ليتولى رئاسة تحريرها.. أريد أن أعرف ظروف هذه القصة.

- أنا ى أتذكر ذلك، وأكاد أستطيع أن أنفى هذه الواقعة ، إنما لو تذكرت هذا المقال ربما كنت أعيد النظر.ز ولكن أين نشرت هذه القصة؟

• قلت : في كتاب صدر منذ أسابيع عنوانه:" اعترافات إحسان عبد القدوس"

قال: هل كانت القصة عارية من التفاصيل؟

• قلت: تماما.

ملحوظة: في صفحة 72 من الكتاب السابق يسأل محمود مراد: لكنك لم تستمر على هذا الوضع طويلا.ز لقد تركته في يونيو 66 فقال إحسان:

لأن أحمد بهاء الدين ارتكب نفس الخطأ- حذف سطرين من مقال لي دون أن يخبرني ويومها في المساء تحدثت مع محمد حسنين هيكل بالتليفون.. وكان هيكل قد عرض على قبلها بثلاثة أشهر أن أنتقل للعمل في أخبار اليوم- وكان يشرف عليها وقتها- ولهذا حدثته وحددت معه موعدا للقائه في مكتبه في الأهرام الثامنة صباح اليوم التالي ، وأخذني إلى أخبار اليوم لأتولى رئاسة تحريرها.

يواصل أحمد بهاء الدين حديثه قائلا: أذكر على العكس، ففي حوالي عام 1966، وكنت رئيسا لمجلس إدارة دار الهلال وأنتدب لأعمل رئيسا لمؤسسة روز اليوسف وكان إحسان عبد القدوس وقتها يتعرض لمضايقات في النشر في المصور، وأنا لا أستطيع أن اذكر شيئا من هذا القبيل قد حدث إطلاقا.

ومن حيث المبدأ أريد أن أقول إن رئيس التحرير له ولاية على ما يكتب في الجريدة أو المجلة سواء أكان خبرا أو مقالا، وله حق الاعتراض وإلا لا يكون رئيس تحرير ولكن على سبيل القطع والتأكيد فإنه ليس من ملكي الشخصي أن أحذف لأحد أكبر منى سنا أو أقدم منى في المهنة، إلا إذا كنت رئيسا لمجلس إدارة دار الهلال ولكن في كل مرة كنت أرى أن هناك وجها للتحفظ على بعض ما يكتبه ، فكان هذا الموضوع يتم بإخطارهم وموافقتهم وبعد استئذانهم.

وأنا لا أتصور أنني سلكت مع الأستاذ إحسان عبد القدوس مسلكا يختلف عما سلكته مع الآخرين وظروف ذهابه على أخبار اليوم – لا أريد أن أتحدث عنها- لأنه لا علاقة لها إطلاقا بمثل هذا ألأمر، والذي حدث بالضبط أنه عندما تولى الأستاذ هيكل مسئولية مؤسسة أخبار اليوم أراد أن يقويها بعدد من الناس، فعرض على الأستاذ يوسف السباعي أن يرأس تحرير مجلة " آخر ساعة" وعرض على إحسان عبد القدوس أن يرأس تحرير أخبار اليوم، وعرض على جلال الحمامصى أن يرأس جريدة الأخبار وهذا ما حدث..

• قلت: طالبت ذات يوم بأن يكون للإعلام " حصانة" وأن يكون له " ضمير" كيف؟ • قال : المطالبة بحصانة للصحفيين شيء غير متعلق بى وحدي، وأعتقد أنه لا يوجد صحفي إلا وطالب بهذه الحصانة لأن ذلك مطلب لكل الصحفيين، ولكن فى الوقت الذي نطالب فيه بحصانات قانونية فأنا- على الأقل- من الذين يعرفون جيدا أن الحصانة لا تأتى من أي نصوص مكتوبة،

لأنه ثبت بالتجربة أن النصوص تجدها متشابهة فى كل دساتير العالم ولكن فى واقع الأمر التطبيق هو الذي يختلف حصانة الصحافة الحقيقية تأتى من قوتها مدعمة بقوة المؤسسات الأخرى فى الدولة كالقضاء . المجالس البرلمانية، المنظمات النقابية والمهنية، قوة ضغط الرأى العام،

وهذه لأشياء حقيقية هي التي تحمى الصحافة، ولكن حين تكون هذه المؤسسات ضعيفة فالصحافة تبقى عارية بلا حماية مهما وضعنا من نصوص وقوانين.

وهذه هي القضية، عن حصانة الصحافة لن تأتى إلا مع الوقت، حين تصبح لكل المؤسسات درجة معقولة من الحصانات. • ضحك الأستاذ أحمد بهاء الدين طويلا حين قلت له: على مدى هذا العمر كله ما هي متاعبك مع الرقابة؟ • ساد الصمت للحظات قال بعدها أحمد بهاء الدين: أحيانا كانت الرقابة معتدلة، أي رقابة بالنسبة لقضايا محدودة. فكانت فرصة الكتابة متوافرة، وأحيانا كانت الرقابة فى ظروف حرجة يمر بها البلد فتصل الرقابة إلى أقصاها. وأنا شخصيا كنت دائما أحرص على شيئين..

الأول هو ألا تجعلني الرقابة أكتب غير ما أعتقد به. فأنا لست من الكتاب الذين بسهولة ينكرون ما كتبوه، أي أنا أفهم أن أقول إنني كنت مخطئا عندما قلت كذا وكذا .. ولا أفهم أن أقول إنني كنت مضطرا أن أكتب كذا.. لأنه لم يكن هناك أحد مضطرا .. هناك الصمت.

الشيء الآخر أنني كنت أعتقد أنه مهما كانت ظروف الرقابة. ففي بلادنا يستطيع الكاتب أن يكتب فى أي موضوع آخر، مثلا كتابي" أيام لها تاريخ" كتبته فى مرحلة كانت الرقابة فيها بالغة الشدة، كان ذلك عام 1954 " أثناء أزمة مارس" وكنت أريد أن أقول أنه لابد للبد من دستور ومن حد أدنى من الديمقراطية رغم موافقتنا على الاتجاهات الاجتماعية الأساسية للثورة..

فلجأت للتاريخ. وكان أحد المخارج هو التاريخ، وهكذا كتبت فصوله، والتي كانت تتحدث عن حرية الرأى وضرورة الدستور من خلال قصص ومواقف من تاريخ مصر الحديث يقرأها الناس ويستفيدون. وبها ثقافة ومعلومات. لأنه مثل ما قلت إن الكاتب فى بلاد مثل بلادنا عليه واجب تثقيفي إزاء القارئ إلى جانب أنه يجب أن يعبر عن رأيه .

• ظروف ترشيحك لمنصب نقيب الصحفيين ثم اتحاد الصحفيين العرب؟

أجاب الأستاذ بهاء: تقدمت للانتخابات منصب نقيب الصحفيين المصريين فى ظل ظروف نكسة 1967 وكان ذلك تحت ضغط كثير من الزملاء، وكنت أعتقد أن المهمة الأولى للنقابة فى تلك الفترة هي عدم إضافة عناصر تمزق وصراعات أخرى، حتى أنني اشترطت على زملائي أن أفوز بالتزكية أو لا أتقدم للانتخابات وبالتالي قابلت المرشحين الآخرين الذين كانوا فى ذهنهم الترشيح، وافقوا على هذا المنطق،

وأنه ليس هذا وقت خوض معارك انتخابية وهزيمة 67 لم تمض عليها شهور، وتمت الانتخابات بهذا الشكل، وكان هذا هو السبب الوحيد الذي من أجله رشحت نفسي للانتخابات لأنني أعتقد أنه تكمن فى الصفات الجماهيرية التي تجعلني أفضل من يقوم بأعباء هذا المنصب.

بالنسبة لاتحاد الصحفيين العرب. فقد كانت هناك عشرون دولة عربية تمثلها عشرون نقابة صحفية، وقد كانت لى علاقة بكثير من الزملاء الصحفيين العرب الذين قالوا لى يومها: إنني إذا رشحت نفسي فستكون رئاسة اتحاد الصحفيين العرب فى مصر ، وقد كانت مصر فى ذلك الوقت محتاجة إلى أن تكون موجودة فى الساحة بأكبر قدر ممكن . وبالتالي انتخبت رئيسا لاتحاد الصحفيين العرب.

ثم تجدد الانتخاب بعد أربع سنوات ثم بعد 8 سنوات ( مدتين رئاسة) استقلت من رئاسة اتحاد الصحفيين العرب وكتبت إلى المؤتمر رسالة أقول فيها: فى هذه السنوات الثماني تراجعت الحقوق الصحفية والحريات الصحفية فى العالم العربي بدلا من أن تتقدم للمزيد. وأنا اشعر أن الاتحاد عاجز عن عمل شيء. وأما أؤيده و" تحت أمره" لكن قد يكون أقدر على عمل شيء.

قلت وأنا أتحسس حروف الكلمات : يحتار الإنسان القارئ لك فى تصنيفك فكريا- إن صح التعبير- فاليسار يزعم أنك يساري . والناصريون يؤكدون على كونك ناصريا ، فماذا ترى نفسك بالضبط من كل هذه التيارات السياسية؟

يقول: فى البداية أريد أن أقول إنني لست ضد الإنسان الذي يتغير فكره ، فأنا دائما أقول لزملائي الشباب غير ممكن أن يأخذ الإنسان القرارات النهائية فى حياته وهو فى سن العشرين من عمره، إنما لابد ستطرأ عليه تعديلات، إذن فمبدأ أن الإنسان فكره يتغير من مرحلة لأخرى هذا شيء وارد ويكاد يكون طبيعيا.

لكن فيما يتعلق بى أنا، ف،ن ما حدث منذ البداية وأنا فى ذهني أن تكويني هو تكوين" اشتراكي ديمقراطي" هذا من ناحية الموقف الأيديولوجي النظري البحت، فما أتوقع أنه النظام الأمثل هو النظام الاشتراكي الديمقراطي خصوصا لبلاد مثل بلادنا، هذا عن الجانب الأيديولوجي بالنسبة للصحفي فعليه أن يتفاعل وتكون ردود أفعاله مع مواقف معينة قد لا تكون هي بالتحديد ما فى ذهنه أيديولوجيا .

فمثلا أذكر وأنا طالب فى كلية الحقوق، أنه كان من بين زملائي من أصبحوا بعد ذلك من البارزين فى الإخوان المسلمين وكان تيار الإخوان المسلمين قويا جدا فى الجامعة وأيضا تيار الشيوعيين كان قويا جدا فى الجامعة وكلاهما فشل تماما فى أن أنجذب إليه، إنما كان هواي مع حزب الوفد، أنا فى حياتي لم أدخل أي حزب أو تنظيم، وأنا لا أقول هذا على سبيل الفخر، لكن لكل إنسان له طبيعته.

أنا فى ناحية التفكير وتكوين الراى، أستطيع أن أقول إنني أميا إلى النزعة الفردية، أي أحب أن أكون رأيا لنفسي، ولا أتصور فى أي عمل تنظيمي كيف تخضع لرأى الأغلبية وعليك أن تقبله وتتبناه. وهذا من مبادئ التنظيم أيا كان التنظيم السياسي أنا لا أتصور كيف أمارس هذه الحكاية وبالتالي يمكن يكون مثل هذا الأمر عقبة حالت طوال حياتي بيني وبين الالتحاق بأي تنظيم سياسي.

إنما قبل الثورة كان هواي دائما مع الوفد، ويمكنني القول فى وصف هذا أنه كاشتراكي ديمقراطي فى تلك المرحلة قبل الثورة، كان حزب الوفد هو الحزب الشعبي الأول الذي استوعب واقعيا آمال الجماهير، وهو القادر على فعل تغيير إذا كان يوجد أمل فى التغيير رغم كل عيوبه، وقامت الثورة..

وحلت الأحزاب وجاءت الثورة بمبادئ وأهداف أقرب إلى تفكير الإنسان من قبل الثورة، فالثورة فى الواقع لم تأت بأي شعار مخترع، مثلا تحديد الملكية الزراعية. القومية العربية، الحياد الايجابي، كل هذه الشعارات الأولى للثورة كانت آراء كتبها عدد من المثقفين فى وقتها.

أريد إن الثورة لم تأت بجديد. إنما جاءت بشعارات كان هناك من تبناها من قبل ، فلما جاءت الثورة كنت من مؤيدي شعاراتها التقدمية الجديدة.

يسرح أحمد بهاء الدين ببصره ثم يقول لى: أريد أن أقول إن هناك الاقتناع المذهبي الخالص، إنما مثلا على ضوء هذا الاقتناع المذهبي جاءت الثورة وكان فيها العنصر الديمقراطي ناقص فى معظم فتراتها، لكن أيضا حين نقارن بين الثورة وبين الانجازات الاجتماعية الهائلة والتي قصد بها القفز بحياة الأغلبية الساحقة من الشعب المصري وهى الفقراء والبسطاء.

فهذا شيء لابد من تأييده. لأنه يصعب دائما على الإنسان أن يقوم بعمل صيغة نظرية تماما ويجدها بالضبط لأن هذه تحتاج إلى درجة من تعدد الأحزاب بحيث إن كل إنسان يكون لديه" البدلة" التي على مقاسه بالضبط ، وهذا ليس موجودا دائما.

إذن هناك الموقف الفكري المحض أو العقائدي وهناك الموقف السياسي التطبيقي. فى موقف معين مثلا أنا كاشتراكي ديمقراطي قد يكون لى أولويات تختلف عن أولويات الديمقراطي الليبرالي. فأنا أرضى بالتضحية ببعض الليبرالية إذا كان هذا يحقق تحولا اجتماعيا فى المجتمع نحو مزيد من العدل. فى حين أن الليبرالي الصميم لن يرضى بهذا مثلا . إذن الأولويات هنا تختلف.

• قلت : ألم تتأثر بالفكر الماركسي أو الاخوانى فى مرحلة ما؟

قال بإصرار : أنا قرأت كل شيء وتأثرت بكل شيء. والذي يقول إنه لم يتأثر بشيء فلم يكن هناك داع لأن يقرأ . لكن فى الواقع الذي يهتم ويقرأ يتأثر. فأنا كنت وما زلت أتابع قراءة كافة التيارات المختلفة لأني كما قلت لست فى تنظيم أو حزب أو تيار معين ألتزم به.

ولكنى مستقل فى تفكيري، ولكن جزءا أساسيا من مكوناتى هو اطلاعي المستمر على الجديد فى هذه الشئون. مثلا أنا أفهم تماما دور الإسلام فى تكوين المجتمع المصري العربي بصفة عامة لأن هذا هو التراث ووعاء الحضارة وله دور أساسي وله أيضا قيم معينة.

بالنسبة للماركسية فهي قد أدخلت على التفكير العالمي أشياء حتى أمريكا أخذت بها اليوم بمعنى أن كل فكرة التخطيط يمكن إرجاعها للماركسية فلم يكن هناك شيء اسمه التخطيط الاقتصادى. وضع حد أدنى للأجور، تدخل ضخم من الدولة فى كل اقتصاد الدولة..

وعندما ينفذون التأمين الصحي. هذه الأشياء كانت مرفوضة تماما هناك أشياء كثيرة جدا فى الماركسية لا يمكن تجاهلها ولا يمكن إنكارها وهى مساهمة فى التفكير الاقتصادى ضخمة جدا وأساسية.

• قلت: غالبية كتبك مقالات متفرقة أعيد جمعها فى كتاب

قال : هذا صحيح ، فأنا لم أكتب كتابا بذاته إلا " فاروق ملكا" و" إسرائيليات" و" ما بعد العدوان" أما باقي كتبي فكانت مقالات متفرقة طلب الناشرون تجميعها. ومنذ بدأت الكتابة وأنا دائما فى ذهني مشروعات كتب أريد أن أكتبها ولا أكتبها .

• قلت: لو عادت بنا الأيام.. وكانت لديك أخيارات هل كنت ستسير فى نفس المشوار؟ • قال : أعتقد ذلك، وإن كنت أحيانا أفكر فى أمرين أحس أنني حبذا لو سلكتهما فى الحياة. الأول الاهتمام بالتاريخ والعمل كمؤرخ، والثاني الاشتغال كمهندس لأن أغلب الناس لا يعرفون أنى أهوى الهندسة المعمارية، لأن الهندسة علم اجتماعي.. ليست الهندسة بمعنى .. مسلح ، وبناء.. وتخطيط المدن.وأنا نصف مكتبتي فى هذا الموضوع.

• قلت : إحدى مشكلات البلاد النامية ومن بينها مصر مشكلة " الأصالة والمعاصرة" أي كيف نكون معاصرين دون أن نفقد أصالتنا . كيف ترى الخروج من هذا المأزق الفكري؟

قال : هذا سؤال يصعب الرد عليه ببساطة، لأنه فى الواقع هذه مشكلة المشاكل التي تواجه مصر وتواجه العالم العربي وتواجه العالم الاسلامى، فهذه القضية طرحت منذ أيام الشيخ محمد عبده. والأسئلة التي طرحت منذ مائة سنة وأكثر لم يجب عليها بعد، لم يجب عليها بمعنى أن المجتمع لم يصل إلى حل فيها. بالطبع هناك آراء فأنا لى رأى وغيري له رأى .

ولكن لم تصبح هناك صيغة مقبولة لدى المجتمع أنه كيف يجمع بين الأصالة والمعاصرة أو ما هي الترجمة الحقيقية لهذا .

لأن كل إنسان يقبل من حيث المبدأ الجمع بين الأصالة والمعاصرة.، ولكن المشكلة كيف، المشكلة ما الذي تعتبره أصيلا وغير أصيل. فمثلا هناك من يعتبر كل ما سلف فى الزمان أصالة سواء مصرية أو إسلامية أو عربية فى كل الحضارات المتداخلة، فى الزمان أصالة سواء مصرية أو إسلامية أو عربية فى كل هذه الحضارات المتداخلة، هي فى بعض القيم الأساسية،

وهناك قيم أخرى كثيرة جدا لحقت هذا التراث كله فى عصور الاضمحلال والضعف والانحلال التى كانت هى أغلب الوقت، فالـ 1400 سنة إذا أخذنا التاريخ الاسلامى وبدء هذا الكيان العربى الاسلامى سنجد أن معظم تلك الفترة حروب وانحلال واضمحلال واضطهاد وتخلف مئات السنين والقرون،

فهنا سنجد قيما كثيرة، إذن لا يمكن أن نتقدم دون إعادة نظر إلى هذا التاريخ نظرة موضوعية جريئة وصريحة، تنظر للأشياء فى علم وتميز بين ما هو حقيق و أساسي وهى القيم السياسية فى أي تراث أو أي حضارة أو أي جيل وبين التطبيقات والتفسيرات التي لحقت به فى قرون مختلفة.

فمثلا أنا حقي فى التفكير بالنسبة لهذه القضايا- فى رأيي- لا يختلف عن حق أي شخص فى التفكير ابتداء- ولنقل – منذ عصر معاوية، فإذا كان هناك فقيه أو مفكر بعد الخلفاء الراشدين ونحن نعتبرهم فترة خاصة وهى فترة قبل قيام الدولة بمعناها المعقد- إذا كان من حقه أن يفكر ويفسر فأنا من حقي خصوصا المجتهدين- الآن نفس الأحقية فى التفسير ربما أكثر لأننا نعرف الظروف الجديدة.

أما اعتبار كلام فقهاء أو أناس مهما كانت قيمتهم ولكنهم بشر وكانوا فى ظروف مختلفة وتعرضوا لكل ما يتعرض له بشر من إغراءات أو من الإرهاب أو القوة أو الضعف،أن نعتبر هذه أشياء مقدسة فأنا ضد هذا .

هنا كل إنسان يقبل الصالة ولكن نختلف فى تفسير الأصالة، هناك من يعتبرون أن العصر الذهبي هو الذي كان، أنا أقول الذي كان لم يكن كله عصرا ذهبيا، وإنما كان فيه.. وفيه.. هذه إذن قضية خلافية كبيرة، وأنا أرى أن الحياة الواقعية ستحلها رغم أنف كل أصحاب الآراء.

• قلت: بعض علماء الاجتماع الأمريكيين يؤكدون على حقيقة مؤداها أن البلاد النامية يمكن أن يحدث فيها التغيير الاجتماعي دون الحاجة إلى المثقفين ما رأيك؟

يقول: ظهور المثقفين هو جزء من التطور . وعندما نقول إن بلدا ما يتطور فهذا معناه أن جزءا من التطور يعنى أن يتقدم فى الإنتاج " زراعي أو صناعي" يتقدم فى التعليم وهذا معناه أن سيفرز فئة مثقفة، بعد ذلك يأتي وزن الفئة المثقفة وبأي حجم، إذن هي عملية متفاعلة والمثقفون فى بلد متخلف ليسوا ملائكة يهبطون من السماء . أو من كوكب آخر، المثقفون هو إفراز الواقع والواقع يفرزهم وهم يؤثرون فى هذا الواقع ويحاولون شده وجذبه إلى الأمام.

وأنا كنت أقول باستمرار إن الكاتب فى البلاد المتخلفة عليه أن يكتب تحت كل الظروف ولا يمتنع عن الكتابة ، وإذا استحال عليه أن يكتب فى السياسة، فعليه أن يكتب فى التاريخ أو الجغرافيا، فى الفنن فى الأدب فى أي شيء. فى كل ما هو تثقيف عام.

• قلت: المثقفون العرب متهمون بأنهم مصابون بمرض الهروب من الواقع أو الشعور بعقدة الذنب فيعبرون عنها بطريق غير مباشر فيدينون الإرهاب الفكري الواقع فى أمريكا اللاتينية أو يدافعون عن المثقفين المعتقلين فى سجون جنوب أفريقيا.. ويتجاهلون الواقع العربي ما رأيك؟

يبتسم قائلا: هذه فى الواقع حيلة يلجأ إليها الكاتب فى معظم الأحيان، فإذا كان الكاتب فى بلد ما لا يستطيع التحدث عن المعتقلين السياسيين فى بلده، لأن هذا ممنوع منعا ماديا ، فهو يشعر أنه حين يتحدث عن الاضطهاد السياسي أو قمع حرية الرأى فى أي بلد آخر،

فهنا فيه نوع من الإسقاط على الموقف الداخلي، وعلى الأقل فهو يشعر قراءه أن هذا الشيء مبتكر من حيث المبدأ، لأنه بهذا يكون يحاول أن يقول شيئا فى حدود الممكن، وبرنارد شوكان له كلمة أثناء الحرب العالمية الأولى على ما أظن وكانت توجد رقابة فى انجلترا وكان" شو" ضد الحرب فكتب يقول:

إنني أذهب فى الكتابة إلى أن أصل إلى سور الأسلاك الشائكة" لكنه يعلم أنه لن يستطيع القفز فوق الأسلاك الشائكة ليكتب ما يريد"

• قلت : هل لك عادات معينة فى الكتابة؟

كثير من العادات تتغير بحكم الظروف، وعموما أنا لست ضعيفا أمام وسائل الترف إلا فى مسائل الورق والأقلام، فأنا لا أحب الكتابة على ورق الجرائد مثلا وطوال عمري أشترى ورقا أبيض من أوربا لأكتب عليه.

• قلت: ألم تستخدم أسماء مستعارة لبعض ما كتبت؟

قال : استخدمت أسماء مستعارة وكانت فقط من باب الضرورة الصحفية لبعض الأبواب ، لكن لم أكتب أبدا مقالا سياسيا وأوقعه باسم مستعار.

• قلت: المجال الذي لم تكتب فيه إطلاقا؟

قال: الرياضة والمطبخ والموضة.

• قلت: لو كتبت سيرتك الذاتية ماذا تسميها؟ • ابتسم قائلا: إذا وجدت اسما سأكتبه.

• قلت مصرا: ألم تفكر فى كتابة قصتك مع الصحافة؟

قال : فى الحقيقة لم يخطر هذا على بالى، إنما الذي أتمنى أن أكتبه ليس سيرة ذاتية لى شخصيا لأن هذا عمل محدود إنما فى ذهني أن أكتب شيئا مختلفا، ليس مألوفا، أقصد سيرة ذاتية للجيل الذي انتمى إليه، فنحن جيل مر بظروف معينة ومراحل معينة، أقصد المثقفين بالتحديد ( الكتاب، الصحفيين، الصحفيات) وأعتبر هذا نوعا من التاريخ لهذه المرحلة، والتاريخ هنا سيرة قصة حياة جيل وليس قصة حياة شخصية معينة.

وأتمنى لو استطعت أن أقوم بهذا العمل.

يوسف إدريس

قصتي مع صحافة عبد الناصر والسادات.

" الصحافة" واحدة من محطات د. يوسف إدريس الهامة.

كانت الجمهورية محطته الأولى ن والأهرام محطته الثانية والأخيرة.

" الجمهورية " جريدة الثورة ولسان حالها وصاحب امتيازها جمال عبد الناصر ،والنموذج المصغر لصراع الكواليس والدهاليز فى السلطة.

مابين " الجمهورية" و"الأهرام"كانت ليوسف إدريس رحلة طويلة. وإذا كانت الفترة التي أمضاها فى الجمهورية بمثابة "قصة قصيرة" فالمدة التى قضاها فى الأهرام ( 18 سنة) هي " رواية طويلة"..

الصفحات القادمة شهادة من د. يوسف إدريس على صحافة مصر عبد الناصر والسادات، شهادة تجعلنا نتوقف كثيرا أمامها بالتأمل والدهشة

• قلت له: كم عدد المرات التي قابلت فيها جمال عبد الناصر، وظروف كل مقابلة، وما الذي تذكره عنها؟

• قال: طوال 18 عاما هي حكم جمال عبد الناصر، لم أقابله سوى ثلاث مرات فقط. أول لقاء كان بعد قيام الثورة مباشرة، وكنت أيامها أعمل فى جريدة " المصري" قبل أن تغلق فيما بعد.

• وكانت المقابلة فى بيته وكان معنا المرحوم الأستاذ مرسى الشافعي مدير تحرير المصري وقتها، أذكر أن عبد الناصر استقبلنا فى غرفة نومه البسيطة للغاية وكان يرتدى بيجامة مقلمة، فى ذلك الوقت كان المرحوم محمد نجيب هو الوجهة والرئيس، أما سبب زيارتي لعبد الناصر مع مرسى الشافعي فكان لسبب أدبي خاص بى.

• كنت قد نشرت قصة قصيرة فى المصري اسمها " الهجانة" واحتج على القصة أخواننا السودانيون، و"زعل" منها محمد نجيب نفسه، وقبل هذه الأزمة بقليل حدثت أزمة مماثلة عندما كان الزميل عبد الرحمن الشرقاوي ينشر رواية الأرض مسلسلة فى المصري وكان يرسمها له الفنان حسن فؤاد، وبعد نشر فصلين فقط- على ما أذكر- كتب فصلا عن تصرفات عساكر الهجانة مع الفلاحين. وثار محمد نجيب على الشرقاوي وأمر باعتقال الشرقاوي لفترة، ثم أفرج عنه بعدها.

يبتسم د. يوسف إدريس .. يتنهد.. ثم يقول: فلما حدثت أزمة القصة التي كتبتها عن الهجانة قال لى مرسى الشافعي بجدعنة ولاد البلد: ولا يهمك أنا عارف مين اللي يقدر يحل المشكلة وعندما سألته: مين يا مرسى؟ قال : هتعرف لما تقابله .

وذهبنا لعبد الناصر فى بيته كما سبق أن قلت لك، واستقبلنا فى غرفة نومه، وفى ذلك الوقت لم يكن اسم جمال عبد الناصر موجودا بالمرة على الخريطة الأساسية ، لكنني أحسست أن هذا الشاب هو " الرجل القوى " ، وتأثرت بشخصيته جدا، واستغربت جدا أنه كان يستمع إلينا بطولة بال شديدة..

وكان لا ينظر فى عينيك وأنت تتحدث إليه.. ثم فجأة تنقض عيناه على عينيك فى أقل من لمح البصر، كان لون عينيه غريبا.. كانت غامقة بشكل أقرب إلى لون العسل الأسود..


وتحس أنها نظرة غدرت بك فجأة، نظرة أخذتك وأنت غير مستعد أو مش واخد بالك ، فإذا خطر ببالك أنتكذب فى وجوده أو تقول شيئا ينتابك خوف مجهول على الفور، وكأنما كانت نظرات عيني عبد الناص تقول لك: أنا عارف أنت هتقول إيه، ربما لا يقصد عبد الناصر هذه المعاني التي انتابتنى ولكن إحساسي ترجم نظراته لى كما أرويها لك الآن. بالإضافة لهذا كله كان مستمعا جيدا ومدهشا، لذلك كان الشاعر الرقيق كامل الشناوي يقول عنه دائما : أذناه كبيرتان.

مع إعجابي بشخصيته ، فقد آليتا ألا تكون بيني وبينه مسافة ألف كيلو متر.

• لم أمنع عقلي من أن يبدى دهشته فقاطعته قائلا: ولماذا؟

قال : شوف يا سيدي.. كان عبد الناصر النقيض لشخصيتي. بمعنى أنه كان منظما. كتوما. مدبرا. يأخذ ما يديش فى الكلام. وأنا صريح، فوضوي، ساخط، لا أكتم.

ولا تنس أن موقفنا من 23 يوليو كان مشوبا بشيء من القلق، وشاب فرحتنا بقيام الثورة خوف أن تكون مجرد انقلاب عسكري لضرب الحركة الوطنية.. لذلك كتبت القصة التي سببت الأزمة وهى قصة " الهجانة" وكانت تروى كيف أن قرية مصرية صحت ذات صباح لتجد عساكر الهجانة وقد استولوا عليها وزرعوا الرعب فى القلوب " وارتجت قلوب كثيرة، وبكت نساء، ونهنهت عجائز والآذان تشرخها الصراخات التي عمت القرية.. وتلسعها أصوات الاستجارة والهرولة والركض".

وأذكر أنني قلت فيها ما معناه: وكانت البلد حين يسلمها يوم كئيب إلى آخر أشد منه كآبة يزداد شعورها بأنها كانت فى نعمة على أن سرق الفلاحون بنادق الهجانة وقاوموهم وسيق الهجانة لخارج القرية والناس تتساءل: هل يجيء هجانة آخرون أم يكتفي الحكام بالذي مضى؟

طبعا كان الرمز واضحا جدا فى قصة الهجانة، لأني بدأت أشك- وكذلك المثقفون يتشككون- وفعلا تحققت شكوكي فيما بعد وبالذات فى أزمة مارس 1954.. وأيامها فقدت ثقتي فى التنظيم الشيوعي الذي كنت أتعاطف معه وهو " حدتو" كانت أزمة مارس كما تعلم بسبب موقف عبد الناصر وأعضاء مجلس قيادة الثورة من قضية الديمقراطية

وكان فى الجانب الآخر محمد نجيب وخالد محيى الدين. كان الغريب فى موقف تنظيم " حديتو" الشيوعي، انه فى الصباح يصدر بيانا بتأييد جمال عبد الناصر، وعند الظهر يصد ربيانا بتأييد محمد نجيب فى موقفه. وهكذا كانت النتيجة أنني قلت لنفسي هذا موقف " مش تمام" ومن يومها بدأت أزمة الثقة بيني وبين الشيوعيين تزداد إلى أن أعتقلت فى أغسطس 1954.

• وأنا أستعيد شهادته على ثورة يوليو والتي يقول فيها أنا شخصيا جزء من ثورة يوليو ، وكنا معتقلين وأيضا نؤيدها، ومن داخل المعتقل أيدناها فى خطواتها التقدمية، ووجدتني أسأله عن ظروف صدامه الأول مع ثورة يوليو ذلك الذي جرى عقب أزمة مارس 1954.

قال د. يوسف إدريس: كما قلت لك قبل ذلك أننا فرحنا جدا بالثورة ثم سرعان ما شاب تلك الفرحة خوف وقلق أن تكون هذه الثورة مجرد انقلاب عسكري يجهض الحركة الوطنية الشعبية، وعبرت عن مخاوفي بكتابة قصة الهجانة،

فلما جاءت أزمة مارس 1954 تحققت شكوكي ومخاوفي، إلى أن تم اعتقالي فى أغسطس 1954، وقبل اعتقالي بفترة قصيرة رأيت منظرا لا أنساه على الإطلاق،وهو منظر إغلاق جريدة المصري،

وقد كنت أسكن وقتها فى شارع محمد سعيد حيث كان يوجد مبنى روز اليوسف القديم، فى ذلك اليوم رأيت مجموعة من العساكر وهم ينتزعون لافتة جريدة المصري، وهى لافتة عزيزة جدا على قلبي لأنها كانت على هيئة علم مصر الأخضر الذي طالما حلمناه قبل الثورة وطفنا به نهتف بسقوط الملك وطرد الانجليز،

فإذا بهذا الرمز العزيز يسقط على الأرض ، ثم قام العساكر بإغلاق الجريدة بالسلاسل، فأحسست وقتها أن حقبة فى حياة مصر قد أغلقت واتحبست معاها أحلى سنوات عمري. وأحسست فجأة أنني لابد أن أخوض حربا شعواء ضد الثورة.

فى ذلك الوقت كنت قد سافرت على دمشق- فى أغسطس 1954 – لأني كنت مشتركا فى مؤتمر الأدباء الشبان الذي انعقد هناك، وفوجئت بكاتب تقدمي كبير ولامع أرسل للمؤتمر برقية يعتذر فيها عن حضوره إلى دمشق ويقول أيضا ما معناه: احذروا ممن سيحضر من مصر، والغريب أنه لم يسافر من مصر غيري وحدي، فلما وصلت دمشق فوجئت بأنهم يعاملوني كما لو كنت باشتغل فى المباحث أو المخابرات، مثلا بعد أن قرأوا برقية هذا الرجل التقدمي الكبير- ولا تسألني عن اسمه- لأنني بعد ذلك كنت ها أضربه بحذائي فى جريدة الجمهورية.

المهم بعد انتهاء المؤتمر وفى طريق عودتي سافرت على بيروت، وهناك قابلت الأستاذ " أحمد أبو الفتح" الذي كان رئيس تحرير " المصري" الصحيفة التي أغلقتها الثورة ودردشنا معا حول إمكانية أن نكتب منشورات ونطبعها فى بيروت ويتم تهريبها إلى مصر عن طريق دمياط ، فلما وصلت القاهرة ،

قلت هذا الكلام لبعض الناس الذين كانوا مسئولين عن التنظيم الذي كنت أتعاطف معه.. فطلبوا منى كتابة تقرير بهذا كله على أن يكون التقرير من أصل وصورة وفعلا كتبت التقرير وأعطيت المسئول صورة منه ليعرضها على القيادة، وترك لى الأخرى.

بعد هذه الحكاية بيومين أو ثلاثة أيام.. وجدت نفسي أقرأ التقرير بيني وبين نفسي، فلما انتهيت منه وجدته وكأنه اعتراف كامل باشتراكي فى مؤامرة لقلب نظام الحكم، يا نهار اسود، وبسرعة أخفيت صورة التقرير فى قلب تمثال أجوف كان شقيقا الطالب بكلية الفنون الجميلة قد صنعه بنفسه، وهذه الحركة انقذتنى من عشر سنوات.

بعد ذلك بثلاثة أيام كان الصديق حافظ مختبئا عندي فى البيت، وكانت المباحث العامة قادمة كي تعتقل صلاح حافظ وبالمرة تعتقلني لأنها تلم بوجود هذا التقرير الذي كتبته، بالطبع متلبسا بتهمة" قلب نظام الحكم" طبعا دى تهمة غير تهمة الشيوعية. المهم : جاء أفراد المباحث حوالي الساعة الثانية بعد منتصف الليل..

وجدت نفسي أمام رجل ذي شعر أبيض يقول لى: ممكن نفتش الشقة؟ فسألته إذا كان معه إذن تفتيش ، فأخرج لى ورقة صغيرة عليها إمضاء زكريا محيى الدين الذي كان وقتها وزير للداخلية ، ومع أن هذا لا يعتبر إذن تفتيش لأنه صادر عن وزارة الداخلية، إلا أنهم هيفتشونى سواء وافقت أو اعترضت، ولكن كان سؤالي لرجل المباحث عن إذن التفتيش مجرد نوع من إثبات الذات.

كان أول ما فعله ضابط المباحث أنه اتجه ناحية مكتبي، ما ادهشنى أنه لم يدخل أي غرفة من غرف المنزل على الإطلاق،إنما اتجه على الفور ناحية المكتب وأخذ يفتش فيه، كان مكتبي مليئا بأوراق لا حصر لها.. مقالات.. قصص قصيرة.. مشاريع لقصص.. خطابات..

فأخذ الرجل بصبر عجيب يرتب كل هذا .. وضع المقالات مع بعضها .. والقصص فى ناحية.. والخطابات فى ركن منفصل، باختصار رتب لى المكتب بشكل أثار إعجابي، وأنا الذي أريد ترتيبه منذ ثلاث سنوات ولم أفلح.

طبعا أنا أحسست من طريقة بحثه ثم فرزه لهذه الأشياء أنه يبحث عن شيء محدد ومن الصدف الغريبة أنه فى ذلك اليوم كان أخي يقيم عندي وبصحبته فلاح من بلدنا يقيمان عندي كي أذهب معه فى صباح اليوم التالي إلى قصر العيني ليجرى عملية جراحية، وبعد تفتيش رجل المباحث كان أخي قد استيقظ من نومه، فى الوقت اللي أخونا بتاع المباحث جلس على أحد المقاعد وعمل نفسه نايم، متصورا أنه سيحدث حوار بيني وبين أخي فيسمعه وقد نخرج ذلك الشيء الذي جاء يبحث عنه..

وأذكر أنني اشرت لأخي على التمثال وحاولت أن أفهمه بالإشارة أن يأخذ التقرير ليتخلص منه .. ولكن أخي تصور أنني أطلب منه خنق العسكري.. لأنه لاحظ أنني أشير على رقبتي ورأسي..

ثم أعتقلت ، ووجدت نفسي متهما بقلب نظام الحكم، ودي على الأقل فيها عشر سنوات سجن . قال د. يوسف إدريس : بعد أن اعتقلت تم ترحيلي مباشرة إلى سجن القلعة، وبعدها بحوالي شهر جرت محاولة الإخوان المسلمين لاغتيال جمال عبد الناصر فى ميدان المنشية بالإسكندرية، وحدثت اعتقالات واسعة للإخوان المسلمين وتم ترحيلهم إلى السجن الحربي، فى ذلك الوقت كان قد تم ترحيلي على " أودى" أبو زعبل وضعت مع الشيوعيين وظللت فيه حوالي ثمانية شهور ثم رحلوني على سجن مصر مع الإخوان المسلمين ،

لأن تقرير مباحث السجن اعتبرني خطرا على الشيوعيين ، لأني كنت قد أصبحت مندوب ما يسمى العلاقات العامة فى السجن، وقمت بتنظيم إضراب للمساجين حتى تستجيب لنا إدارة المعتقل وتنقل أحد المعتقلين إلى المستشفى.

ومكثت حوالي سبعة أشهر معتقلا مع الإخوان المسلمين فى زنازين منفصلة إلى أن جاءت حكاية السودان وصلاح سالم، فتم الإفراج عن أربعة من المعتقلين وهم : الكاتب إبراهيم عبد الحليم والفنان زهدي وفتحي خليل رحمه الله. وأنا .

المهم يا عزيزي أن فترة السجن دى فادتني جدا جدا. فى داخل المعتقل مثلا ثبت وتأكد لى أن الإنسان مش مجرم، إنما الإنسان تمر فى حياته لحظات إجرام وبعد كده يبقى إنسان طبيعي خالص، بمعنى أنك تكون ظريفا ومؤدبا ومهذبا وعندما تغضب بيبقى كأن واحد تانى ركبك.. كأن عفريتا ركبك ومن الأيام الكئيبة فى حياتي على الإطلاق عندما جاءت زوجة أحد الشيوعيين لتزوره فى السجن لتطلب منه الطلاق، وكان زوجها إنسانا رقيقا ودمثا وطيبا جدا، وأحسست أن الرجل فى نهاية النهار يكاد يبكى ولكنه لا يستطيع ، لأنى ما قلتلك أنني كنت أتصور أن الزعماء دول من طينة أخرى غير طينتنا، كأنهم من صخور البازلت مثلا.

وأذكر أن العنبر الزى كنا نقيم فيه كان اسمه " عنبر طنجة" وكان يضم غير المنتمين لتنظيم، وكانت الشتائم والاتهامات بين العنابر على قدم وساق.. أذكر أن أحد العنابر الثلاثة أصدر بيانا بأن أحد الصحفيين المعتقلين معانا جاسوس إنجليزي، فانتابتني رغبة عارمة فى الضحك الشديد على هذه العقلية الاتهامية ، يعنى واحد غلبان وماشى حافى وجنب الحيط زى الصرصار كده ومضروب ويتهم بأنه جاسوس للانجليز وفين فى قلب معتقل الشيوعيين ، طبعا شيء كوميدي جدا، ودى كوميديا الاتهامات المصرية التقليدية وبالذات المركزة فى الشيوعيين.

ورأيت بعيني حواديت التعذيب الرهيبة التي كنا نتعرض لها.. وكان الإخوان المسلمون يأتون بى لأكون شاهدا على هذا التعذيب من نفخ وضرب وجلد، ورأيت شبابا صغارا من شدة التعذيب تبدو ظهورهم وكأنها محفورة من لسع السياط، وعيال صغيرين لابسين ملابس السجن الواسعة عاملين زى الكتاكيت ويكشف لط ظهره وجسمه ببساطة ويقول لك: شوف.. شوف.

• قلت له: هل هذه المرحلة جاءت رواية " العسكري الأسود" التي تدين الاعتقال السياسي. • قال : طبعا .. يعنى كانت الرواية" استحياء" للحقيقة، لأني مش بكتب عن وقائع.. لأن الدب مش تسجيلي.. وخرجت في عام 1955 لأجد د. طه حسين يبحث عنى ليكتب مقدمة مجموعة " جمهورية فرحات".

• قبل بدء الحوار قال د. يوسف إدريس : الصحافة أخذت منى الوقت والانشغال اللي كان مفروض أن يخصصا للقصة، ولكنها جزء مهم جدا في حياتي في عالم الكتابة.

وطلبت منه أن تكون بداية الحوار حكايته مع الجمهورية أولى محطات احترافه للصحافة. قال د. يوسف إدريس : قصتي مع جريدة " الجمهورية" بدأت في أيام المرحوم " صلاح سالم "الذي كان عضو مجلس قيادة الثورة،

وفيما بعد عينه جمال عبد الناصر رئيسا لمجلس إدارة التحرير التي تصدر عنها الجمهورية وكان صلاح سالم لا يملأ فمه سوى الكلمة الحلوة والإحساس العميق بالناس، وكان ذكيا حاد الذكاء. وأميز ما فيه شهامته، تحس في شهامته تراث هذا الشعب في إغاثة الملهوف والوقوف مع الضعيف..

وفى إحدى الفترات جاءت " هوجة" تعيين الكتاب والأدباء في الجمهورية وأذكر في أحد الأيام وكنت أصعد في الأسانسير وتصادف أن يكون معي في نفس الأسانسير صلاح سالم وسألني: أنت عايز تتعين في الجمهورية بكام؟

وكما قلت فإن شهامة صلاح سالم تغيرك أنت الآخر على الشهامة، فوجدتني أقول لصلاح سالم ونحن في قلب الأسانسير: عايز مائة جنيه مرتب، وفوجئت بالرجل يقول لي ببساطته الآسرة ورجولته الحقة: خلاص.. أنا موافق.

واكتشفت بعد ذلك أن هذا المبلغ الذي قلته لصلاح سالم هو بالضبط ما يتقاضاه الزملاء الآخرون في الجريدة، لأن صلاح سالم كان يعين الناس بالمرتب الذي يقترحه منهم بلا مناقشة وبشهامة مثيرة.. طبعا طوال فترة اشتغالي في الجمهورية عانيت نتيجة شهامتي لأن الفرق بين مرتبي وبين مرتب أي زميل كان دائما لا يقل عن مائة جنيه.

وأذكر عندما كتبت قصة " العسكري الأسود" والتي كانت صرخة احتجاج على مبدأ الاعتقال السياسي والهوان والتعذيب الذي يلقاه المسجون السياسي.. وأردت أن أنشرها ضمن مجموعة قصصية تضم معها أربع قصص أخر وحدث اعتراض على نشر المجموعة كلها بسبب العسكري الأسود ، ولم تنشر إلا بتدخل من صلاح سالم نفسه وعلى مسئوليته الشخصية.

وبعد وفاة صلاح سالم تم تعيين كمال الحناوى رئيسا لمجلس إدارة دار التحرير ، فقام بتعييني رئيسا لتحرير الجمهورية بشرط عدم كتابة اسمي على ترويسة الجريدة، ومارست رئاسة التحرير ثلاثة أيام فقط وقامت القيامة بين المحررين والصحفيين اللي ماسكين الجمهورية في ذلك الوقت وكنا نسميهم مجموعة الوكالة،

وذهب وفد من هذه المجموعة وقال لجمال عبد الناصر: الحق يا ريس كمال الحناوى سلم الجمهورية ليوسف إدريس وعوضك على الله.

طبعا معرفتش اشتغل خالص في هذا الجو، لأن هذه المجموعة نجحت فعلا فى عرقلتي.

• سألت د. يوسف إدريس : ولماذا قبلت إذن رئاسة التحرير ؟

قال : بيني وبينك يا عزيزي أنا كان هدفي من قبول هذا المنصب هو أن أعطى لنفسي حرية أن أكتب دون أن يراجع كتابتي أحد، حتى لو كان رئيس التحرير نفسه، لأني لأتضايق جدا من عملية المحاسبة التكتيكية على ما كتبته، يعنى ييجى رئيس تحرير يحاسبك على جملة.. أو يحاسبك على كلمة في جملة أو على عدة سطور في مقالة، لأن أحيانا أنا ككاتب باسم لنفسي أن " أمد" في التعبير عشان يرجع ينكمش تانى لأؤكد من خلال هذا المد التعبير الذي أريده، هذا تكتيك للكاتب في الكتابة.

ثم إذا كنت أنت كرئيس تحرير تسلم ومقتنع بأن هذا الكاتب معك.. فلماذا إذن تخاف منه حتى إذا انتقدك؟ الذي أفهمه ولا أناقشه أن تراقب العدو أما الصديق.. لماذا تراقبه؟

ضحك د. يوسف إدريس وهو يوضح ما يريد قوله: يا أخي لو الحبيبة حاسبت حبيبها بالكلمة التي يقولها في كل لحظة، بالخاطر الذي يجول في ذهنه ، بالحلم الذي تحلمه في منامه، مثل هذه الحبيبة قد تصيب حبيبها بالجنون المطبق، فما دامت هذه الحبيبة قد ارتضت ووافقت على هذا الحبيب، خلاص انتهينا وأي تصرف منه يبقى مقبول طالما في حدود المعقول والمقبول .

والغريب أنه بعد تأميم الصحافة عام 1960 وبعد أن أصبحت الدولة هي المالكة للصحف وأصبحت تعين رؤساء التحرير بنفسها.. كانت دائما تقوم بتعيين رجالها بل كانت أحيانا تختار رؤساء التحرير من الذين كانوا يعملون في المخابرات أو الأمن القومي.

وليس سرا أن اثنين من رؤساء التحرير الذين عملت معهم في الجمهورية كانا أساسا في المخابرات والأمن القومي، فلما خرجا تم تعيينهما في الجمهورية لضمان الولاء وهما مصطفى المستكاوى وكمال الحناوى رحمهما الله. وحلمي سلام هو الآخر كان من شلة عبد الحكيم عامر. أقصد أن كل هؤلاء كانوا على اتصال بأجهزة الدولة، بل أنهم كانوا تابعين لهذه الأجهزة وينفذون سياسة الدولة مباشرة.

وباقي الصحف كانت في حالة تبعية مطلقة للسلطة زى الأخبار ، وروز اليوسف ودار الهلال أما الأهرام فكان لها وضع خاص شوية، لأن هيكل لم يكن " تابع مباشر" وإنما كان فئ حالة حوار مع السلطة.

وهنا أقول لك إن أحد الأسباب الكبرى لهزيمة النظام في يونيو 1967 كان عدم وجود صحافة حرة ، ولذلك عندما قرأت كتاب" عبد المجيد فريد" الذي تضمن محاضر نصوص ومناقشات جمال عبد الناصر بالقيادات والمسئولين بعد 1967. اندهشت جدا عندما قرأت أن عبد الناصر كان يطلب من هذه القيادات أن تتكلم وتناقش وتنقد الأوضاع. فيؤثرون الصمت .

ليه.. لأن النقد كان يجب أن يقال في وقتها ولحظتها ومن أول قيام الثورة ، حتى لا تتراكم الأخطاء يوما بعد يوم وتكون النتيجة ما حدث في يونيو 1967.

• وسألته عن حكاية محددة لما يقول؟

فقال: أذكر حادثة غريبة وقعت لي شخصيا عندما كنت أكتب في جريدة الجمهورية. وكان الرئيس جمال عبد الناصر قد ألقى خطابا سياسيا في مناسبة عيد العمال ، الذي كان يقام بحلوان وقتها، وقال عبد الناصر ضمن خطابه عبارة توقفت أمامها طويلا بالتفكير .

كانت عبارة عبد الناصر تقول:" إن الحرية الحقيقية هي حرية لقمة العيش" بيني وبينك الجملة دارت في مخا ، واحتجيت بيني وبين نفسي عليها، وكتبت مقالة فيها:" إذا كانت الحرية الحقيقية هي حرية أكل العيش ، فيبقى كلنا لازم ندخل السجن لسبب بسيط هو أن داخل السجن مكفولة حرية أكل العيش".

كان المعنى الذي كتبته لا يزيد على ربع عمود بالضبط، وليس أكثر من هذا . المهم أنني سلمن هذه الكلمة تمهيدا لنشرها في الجمهورية. وبعد نشر الكلمة وعند قراءتها، اكتشفت كارثة لا مثيل لها إطلاقا . لأن رئيس تحرير الجمهورية في ذلك الوقت- ولن أذكر اسمه للقراء- أمسك بربع العمود الذي كتبته، وأعاد ترتيب سطوره وكلماته من أول وجديد.

أقصد قام بعمل مونتاج في غاية الذكاء بحيث أصبح ما كتبته تأييدا لما قاله جمال عبد الناصر في عيد العمال ، طبعا ثرت وغضبت ووجدتني أقول لنفسي: ما بدهاش بقى.. ما دام وصل الأمر إلى أنى أستكتب من مقالاتي .. فالحكاية ما تنفعش.. ونشوف حتة تانية نكتب فيها.

لأنه فعلا قد اصابنى نوع من الأرتكاريا من شدة الرقابة وأن كل كلمة تكتبها يتم تفتيشها لدرجة مذهلة.

ومن أجل هذا دعني أقول لك بوضوح شديد إن اكبر جهاز شعبي من أجهزة الدولة عانى في عصر عبد الناصر أو عصر السادات هو الصحافة المصرية، وستظل صحافتنا تعانى لفترة طويلة لأنها" اتمرمغت" في الوحل،

ولم يترك صحفي واحد شريف أو غير شريف، إلا وتم إذلاله وإهانته واضطهاده، ولم تكن الفرصة متاحة أبدا للصحفي النابغ، وإنما كانت الفرصة متاحة باستمرار للصحفي " الذيل" والعميل، ولم تترك المسألة أبدا لكونها مباراة في الإجادة والنبوغ وإنما كانت مباراة في الخضوع والولاء..

الصحافة اتبهدلت جدا يا عزيزي. والسبب أن الثورة كانت تبحث عن الصحفيين أهل الثقة وليس أهل الكفاءة، ولهذا عندما كانت تطرح فكرة الثقة أم الكفاءة على الساحة الصحفية فدائما كنت تجد أن صاحب الكفاءة هو الذي يفشل في اكتساب الثقة لسبب بسيط جدا أنه يعتمد على كفاءته وقدراته الخاصة، بينما الصحفي الفاشل والضعيف الكفاءة يسعى دائما لأن يكون مصدر ثقة وذلك عن طريق كتابة تقارير ضد زملائه أو أن يكون عينا عليهم، بهذه الوسائل سرعان ما يصل ويكبر.

ما أريد قوله باختصار : إن الثورة أتعبت الصحافة وأتعبت أصحاب الراى من الكتاب والمبدعين، حتى الازدهار الثقافي في فتر الستينات حدث رغم أنف أجهزة الدولة وأجهزة المباحث، وتصور معي لو أن الثورة كانت تشجع وترعى الكتاب والفنانين- هل بالفعل رعت وشجعت وأنشأت أكاديمية الفنون.. و.. و.. ولكن هذه كلها تكنيكات الفن، إنما ما أقصده لو أنها قامت برعاية روح الفن التي هي حرية الإبداع، تصور بقى كنا وصلنا لغاية فين دلوقتى؟

• قلت: أعرف أن الرئيس السادات كان لسنوات طويلة مسئولا عن دار التحرير ويكتب بصحفها ومجلاتها، هل اقتربت منه؟ هل كانت لك معه " قصة ما " أو " رواية ما" .. قل ما لديك؟

قال د. يوسف إدريس : فعلا.. أنا تعرفت على السادات وقابلته فى الجمهورية، والحقيقة أنه انبسط منى ككاتب جدا وعهد إلى أن أعد له كتابا عن العدوان الثلاثي الذي وقع عام 1956، وكانت إحدى دور النشر الانجليزية قد طلبته منه،

وعملت هذا الكتاب وكان اسمه " القصة الداخلية لحرب السويس" وكتبت له كتابا آخر اسمه " معنى الاتحاد القومي" عن فكرة الثورة كتنظيم، أو محاولة لعثور على شكل آخر غير الشكل الحزبي القديم..

واشتغلت معه أيضا كسكرتير للاتحاد القومي- التنظيم السياسي الوحيد وقتها- وفى نفس الوقت كان السادات قد انتدبني معه للعمل في المؤتمر الاسلامى الذي كان يرأسه. وأذكر أنه طلب منى أن أعد له مشروع هيكل التنظيم، ونشر الأستاذ مصطفى أمين عن هذا المشروع فاتلخبطت الدنيا ،

وفى مرة أخرى أجريت مع السادات حوارا عن فكرة " الاتحاد القومي" لأن المشكلة المثارة وقتها هل يسمح بدخول الاتحاد القومي لمن زاولوا نشاطا سياسيا من قبل أم لا .. ونشر الحديث فى الجمهورية ، وعندما قرأه جمال عبد الناصر لم يعجبه وغضب منه.

  • قلت: ولماذا غضب عبد الناصر من ذلك الحديث ؟

قال : كان سبب غضب عبد الناصر من هذا الحديث أنني قلت على لسان أنور السادات ردا عن التساؤل المطروح حول من يدخل الاتحاد القومي؟ إن كل إنسان لم يزاول السياسة قبل قيام الثورة وسوف ينضم على الاتحاد القومي فهو رجل انتهازي ، لسبب بسيط جدا أنه إذا كان يريد بالفعل أن يضحى وأن يعمل بالسياسة كان من الطبيعي أن يعمل بالسياسة من خلال أحد الأحزاب التي كانت موجودة قبل الثورة،

ولكن يبتعد عن العمل السياسي حتى تصبح السياسة مربحة فينضم على الاتحاد القومي، فهذه انتهازية سياسية لا تقبل المناقشة، ولابد إذن أن نفتح الاتحاد القومي لكل الاتجاهات والآراء والأفكار، بشرط أن يقوم العضو الذي يريد الدخول في عضوية الاتحاد القومي بحل نفسه من اى تنظيم يكون قد ارتبط به من قبل.

كان هذا الرأي الذي كتبته على لسان السادات هو ما ضايق عبد الناصر ولذلك اتصل عبد الناصر بالأستاذ هيكل وسأله : هل قرأت حديث السادات مع يوسف إدريس فأجابه هيكل بنعم، فقال عبد الناصر : ده مش رأى السادات.. ولكنه رأى الشيوعيين في الاتحاد القومي.

ابتسم د. يوسف إدريس وقال لي موضحا: هذه التفاصيل علمتها فيما بعد من المرحوم كامل الشناوي والتي حكاها له الأستاذ هيكل نفسه.

وجدتني أستوضح د. يوسف: أفهم من حديثك أنك قد عينت بالفعل في الأهرام بعد هذا الحديث وتركت الجمهورية؟

قال لي: هذا لحديث الذي أجريته مع السادات في مقدمة للأستاذ هيكل، وبسبب هذا الحديث أيضا عينت في الأهرام، لأجرى سلسلة أحاديث مماثلة مع شخصيات سياسية حول فكرة الاتحاد القومي، فكان أول حديث مع الساداتـ وكان المفروض أن يكون الحديث الثاني مع أكرم الحورانى السياسي السوري الشهير ،

حيث كانت الوحدة قائمة بين مصر وسوريا ، المهم قبل أن أجرى حوارا مع الحورانى ذهبت إلى مكتب هيكل- كان في مبنى الأهرام القديم- وطلبت مقابلة هيكل لأتفق معه على نقاط الحوار، فقالت لي سكرتيرته السيدة نوال المحلاوي- الله يمسيها بالخير- الأستاذ هيكل مش فاضي.

فقلت لها: يعنى إيه رئيس تحرير مش فاضي، أنا محرر ولازم أقابل الأستاذ هيكل، وفوجئت بالسيدة نوال تقول : لا .. مش هتدخل.. والأستاذ هيكل مش فاضي ومش هيقابلك .

وجننت من هذا الأسلوب غير المتوقع فقلت لها: أنت بتتكلمى إزاى.. يعن إيه مش هايقابلنى ، فردت بهدوء : زى ما قلتلك بالضبط؟

المهم يا عزيزي الشهامة أخذتني وقلت لنوال المحلاوي: أنا صحيح لسه متعين امبارح بس في الأهرام .. إنما استقالتي آهه، ووضعت على مكتبها خطاب استقالة ولدهشتي وجدتها تبتسم ابتسامه متشفية قائلة: استقالة إيه؟ أنت مرفود.

ولم تدع لي نوال المحلاوي لحظة لأستغرب فواصلت كلامها: على العموم.. أنت ليك عندنا مرتب شهر.. موجود في الخزينة.. يمكنك أن تقبضه الآن.

مرفود ليه.. ومفصول عشان إيه.. هكذا سألن نفسي- أيامها- ومن مكتب هيكل ذهبت في الحال إلى مبنى المؤتمر الاسلامى حيث يوجد مكتب أنور السادات الذى أجريت معه الحديث، وحاولت أن أفهم نفسي أن سبب المشكلة خاصة بالحديث الذي أجريته مع السادات ـ وعندما وصلت إلى مبنى المؤتمر الاسلامى وجدت كشفا معلقا على الباب يتضمن فصل خمسة أسماء . كان اسمي أول هذه الأسماء الخمسة. رغم أنني كنت معارا على المؤتمر الاسلامى كما قلت لك، لأني كنت أساسا أعمل طبيبا في وزارة الصحة.

المهم – يا عم رشاد- ولا أريد أن أطيل عليك، دخلت على أنور السادات وقلت له بهدوء شديد : صباح الخير.. ورد هو الآخر بهدوء وابتسامة : صباح النور يا دكتور يوسف وسألته : إيه حكاية فصلة من المؤتمر الاسلامى.. فقال بهدوء : أنا رفدتك يا يوسف .

الحقيقة اتغظت جدا.. مش لأنه رفدنى، إنما لأني كنت متعشى معاه قبل ذلك بيوم واحد فقط وكان في غاية الظرف واللطف في حديثه معي، بل كان مبسوطا من الحديث الذي أجريته معه ووجدتني أقول للسادات: أنت مالكش حق ترفدنى، أنت ممكن تلغى إعارة فقط.

وفوجئت به يقول لي: ليه.. أنت بتشتغل فين؟ واندهشت من السؤال لأنه يعرف أنني معار من وزارة الصحة وأنه هو نفسه الذي طلب إعارتي.. ولما قلت له ذلك قال لي

- وكمان أنت مرفود من وزارة الصحة ها.. ها.. ها.

وتصورت أن السادات يمزح معي، وذهبت إلى وزارة الصحة فوجدت نفسي بالفعل مرفودا، وقلت لنفسي إذن فلأذهب إلى وزارة الصحة التي كنت منقولا إليها من وزارة الصحة، ووجدتني باختصار شديد على وزارة الصحة ثم وزارة الصحة .

الأربع: الأهرام أولا ثم إنني عندما كنت معارا إلى المؤتمر الاسلامى ، أعطوني عربة " فولكس" صغيرة لزوم الانتقالات فلما أترفدت سحبوها منى.

وهكذا فجأة أصبحت بلا عمل.. بلا نقود.. وعدت لزوجتي خالي الوفاض، وكنت قد أنجنبت منذ شهور. وظللت على هذه الحال حوالي سبع شهور إلى أن عدت إلى وزارة الصحة بواسطة الأستاذ حسين فوزي والأستاذ فتحي رضوان ،

ومن يومها استقلت نهائيا من وزارة الصحة ثم بعد فترة عينت في الجمهورية كما سبق أن رويت لك بداية هذه الحلقة، أيام هوجة صلاح سالم إلى أن حدثت الواقعة الشهيرة التي أعاد فيها رئيس تحرير الجمهورية ما كتبته بشكل جديد.. بحيث إن " ربع العمود" الذي كتبته نقدا لعبد الناصر أصبح بعد المونتاج الذكي تأييدا لما نادي به عبد الناصر.

وبعد هذه الواقعة مباشرة طرحت على نفسي سؤالا في غاية الخطورة والأهمية: من هو رئيس التحرير الذي يستطيع أن يحميني من الرقابة وعنتها وتعسفها؟ ولم أتردد في الإجابة عندما قلت لنفسي:هيكل .. وكان ذلك صيف عام 1969 واستقر رأيي على الاتصال بهيكل، وصباح أحد الأيام ذهبت إليه في مكتبه،

كانت الساعة حوالى الثامنة صباح على ما أذكر. قالت لي السيدة نوال المحلاوي سكرتيرة مكتبه إنه لم يصل بعد، فتركت لها رقم تليفوني وقلت لها : عندما يأتي الأستاذ هيكل تبليغه أن فلانا أتى لزيارته وهذا رقم في المنزل إذا رغبت يتصل بى . وعدت إلى المنزل .

وبعد ساعة تقريبا دق جرس تليفون بيتي. كان المتحدث هو الأستاذ هيكل. قلت له على ما أذكر الآن: بدون مقدمات يا أستاذ هيكل أناعاوز أشتغل في الأهرام فقال لي بسرعة وحسم وكأنه اتخذ قرارا : خلاص أعتبر نفسك بتشتغل في الأهرام وجدتني أقول له عبر التليفون: يعنى ما سألتنيش عن الأسباب؟

فقال بسرعة : مفيش أسباب ، وشف بتأخد مرتب كام من الجمهورية وسيعطيك الأهرام أكثر من هذا المرتب شوية ، وسألته يومها : ما شروطك في العمل؟

وأجابني بنفس السرعة: أنا معنديش أي شرط.

وفى نفس تلك المحادثة التليفونية قال لي الأستاذ هيكل جملته الشهيرة جدا:

ما دمت تجد في نفسك الشجاعة لتكتب ، فأنا عندي الشجاعة لأنشر .

وانتهت المكالمة .. وعندما ذهبت بعد ذلك لمقابلة هيكل وسألني عن مرتبي الذي كنت أتقاضاه من الجمهورية اندهش وقال : بس ده مرتب صغير جدا، فقلت له : ما هو كلما نشرت شيئا دفعوا لي ، فقال لي : يعنى كله على بعضه كان، فقلت : كذا . فقال: خلاص اتفقنا .

ويضحك د. يوسف إدريس وهو يسترسل في ذكرياته : وكما قلت لك من قبل فإن أول قصة نشرت لي في الأهرام وهى " الخدعة" تسببت في فصلى من الأهرام عندما فسرها رجال الاتحاد الاشتراكي لعبد الناصر بأنه المقصود منها، وأنقذني هيكل بتفسيره لها تفسيرا مغايرا .

لمست في سنوات تعاملي مع هيكل في الفترة التي كان فيها رئيسا لتحرير الأهرام حتى خروجه في عام 1974 أنه أرسى مبادئ للتعامل مريحة جدا للكاتب ، فهو أولا كلام يحترم جدا ما تكتبه حتى لو اختلفت معه في الرأي. وأذكر مرة أنني كتبت مقالا وفوجئت بتصرف هيكل معي.. طلبتني السيدة نوال وأبلغتني أن الأستاذ هيكل يريد أن أتحدث معه لأمر ما ، وعندما تحدثت معه قال لي : الكلمة دى مش قوى في المقال ، هل تحب ، أن تغيرها ولا تحب نشيلها.

تصور – يا صديقي- كلمة واحدة لا أكثر يستأذنى فيها هيكل وأنا لسه كنت قادم من غابة الجمهورية التي كان رئيس التحرير فيها ببساطة " يفك" ما تكتبه ويعيد ترتيبه من جديد كي تؤدى معنى مغيرا لما كتبته وأردته.

وببساطة قلت له: خلاص يا أستاذ هيكل غير هذه الكلمة.

فقال لي بدماثته المعهودة: لا.. أنا ها أبعتلك المقال وأنت تتصرف فى الكلمة بمعرفتك يا دكتور.

ابتسم د. يوسف وأضاف : على هذا الحد كان احترامه للكلمة .

أذكر مرة قال لي كنوع من المداعبة: أنت أغلى كاتب في مصر والعالم العربي

سألته ليه يا أستاذ هيكل فقال : أنت تكتب قليلا.. ولما حسبتها وجدت أن المقالة الواحدة تقف عند الأهرام بكذا .

أما يوم الأربعاء من كل أسبوع فكان يدعوني للغداء على حسابه في كافتيريا الأهرام- أنا وآخرين- وتدور مناقشات في الأدب والفكر والسياسة والاقتصاد وكان متذوقا عظيما للكلمة.. ولديه تقييم حقيقي للكاتب، ولا أعرف إذا كان يعملها بتواضع أو بخبث فهو يقول: إحنا ناس صحفيين بتوع صحافة إنما أنت شاعر أو كاتب عظيم، يعنى يضعك في مجال الخلق والابتكار والإبداع بينما يضع نفسه في مجال التوثيق والرسم بالكلمات.

ومنذ عرفت " هيكل" عام 1958 أحببته جدا. واذكر عندما اشتغلت في جريدة الجمهورية أننا خصصنا الصفحة الأخيرة لنشر حديث صحفي طويل مع شخصية لامعة أو ثلاثة أحاديث قصيرة مع ثلاث شخصيات.. وأذكر أنني اخترت " هيكل" لإجراء حوار معه نشر بالفعل واخترت له عنوان " أنا أزاول السياسة كصحفي" ومن يومها أحببته وأحببت طريقته في الحديث والحوار فهو سريع الحركة.. سريع الفهم.. سريع الإجابة، ومن الثانية الأولى تجد نفسك منجذبا إلى ملامحه الدائمة التغير والانفعال ، المشحونة بكم وافر من الاطلاع وحب الاستطلاع وأعجبني مثلا أنك إذا أردت أن تتكلم يلمحك ، فيقطع عليك التهيؤ وترتيب الأفكار وأية مقدمات قد تفكر فيها ويقول لك: ومعناها تكلم.

أذكر أنني سألت " هيكل" في ذلك الحوار : هل نجاح جريدة يغلق جريدة أخرى؟ فقال لي بذكاء: بالعكس الجرائد كالمذاهب .. كالأحزاب.. كالآراء، لا تلغى بعضها بعضا، الواقع أنها تقوى بعضها بعضا، وعندما سألته عن رأيه في نشر الروايات المسلسلة في الصحف اليومية؟

قال إنها تجربة ناجحة بدليل نشر الأهرام رواية أولاد حارتنا لنجيب محفوظ .وأذكر أنه قال لي أنا أزوال السياسة كصحفي ولكنى أبدا لا أزوال الصحافة كسياسي ، وقال : أنا لا أستطيع أن أعمل إلا بالصحابة فهي ليست إلا مجرد عمل وهواية أو أكل عيش . إنها حياتي . إنها أنا .

على صفحات " الأهرام " قرأنا لك عشرات القصص القصيرة ، ويفخر الأستاذ محمد حسنين هيكل رئيس تحرير الأهرام بأنهم في الأهرام كتبوا جميعا آراء حرة تعرضت للكثير من المشاكل في الصميم ، فهل حدث وأسيء فهم واحدة من قصصك المنشورة في الأهرام؟

قال: أول قصة قصيرة أنشرها في الأهرام بعد التحاقي به تسببت في أزمة كبرى.كانت القصة اسمها" الخدعة" وكنت قد كتبتها في أبريل سنة 1969 ونشرت في هذا الفترة نفسها، كانت القصة ببساطة عن" رأس جمل" يظهر للناس في كل مكان ، في منازلهم .. في الحمام .. في غرف نومهم.. في الأتوبيس ،

ونشر الأستاذ هيكل القصة ثم سافرت إلى الإسكندرية، ومكثت بها عشرة أيام ثم عدت في اليوم التالي لعودتي ذهبت كالعادة إلى الأهرام، وجدت الناس هناك ينظرون لي نظرات كلها دهشة، ثم اقترب منى واحد منهم وسألني كمن يريد التأكد منى شخصيا: صحيح أنت اترفدت؟ ضحكت وقلت له: اترفدت إيه يا بني .. دنا يا دوب اتعينت من أسبوع واحد .

فقال لي مؤكدا: لا يا دكتور يوسف فعلا اترفدت ، قلت له: مش ممكن ، ثم دخلت إلى مكتب الأستاذ هيكل ضاحكا منتشيا وقلت له: تصور يا أستاذ هيكل الناس العبط اللي بره قالوا أنى اترفدت من الأهرام، فقال لي هيكل ببرود شديد: أنت فعلا أترفدت، لم أتمالك نفسي من الدهشة وسألته : ليه؟

دعاني للجلوس وقال لي بمنطقه المرتب الذكي: الجماعة في اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي ذهبوا للرئيس جمال عبد الناصر وأفهموه أن قصة الخدعة بتاعتك كتبتها عليه شخصيا ، وأنه المقصود برأس الجمل الذي يظهر للناس في كل مكان.

وجدتني أقول لهيكل : يا نهار أسود، طب وأنت قلت إيه؟ فقال لي هيكل: أنا قلت أن رأس الجمل معناه النكسة التي تظهر للناس في كل مكان، وغير قادرين على نسيانها هه إيه رأيك، على العموم بعد شهري كده هترجع الأهرام تانى ومرتبك ماشى واعتبر مفيش حاجة حصلت.

الحقيقة يا رشاد- يقول د. يوسف- انبسطت من تفسير هيكل لقصة الخدعة لأنه تفسير منقذ لي، لأن هه القصة كانت أول عمل ينشر على بلاطة ضد عبد الناصر ضد وجوده شديد الوضوح في الحياة، أذكر أن سطور النهاية فيها كانت تقول : إلى أمامه يتطلع ولا يتحركن ولا يغضب ولا يرضى ولا يحفز ولا يثبط، لا يفعل شيئا أبدا إلا أن يطل ، مجرد يطل.

وجدتني أسأل يوسف إدريس : عبارة الأستاذ هيكل القائلة:" إذا كان عندك الشجاعة أن تكتب فعندي الشجاعة أن أنشر" هل كانت هي القاعدة في الأهرام؟

قال : هذه العبارة كانت بمثابة مبدأ يدين به هيكل، وبالتالي فإن توفيق الحكيم و نجيب محفوظ وأنا وآخرين نشرنا في الأهرام مقالات وقصصا في عصر عبد الناصر وكلها نقد عنيف لنظام عبد الناصر، يعنى مثلا توفيق الحكيم نشر بنك القلق، ونجيب محفوظ نشر روايات ميرامار وثرثرة على النيل..

بالنسبة لي شخصيا كتبت ونشرت قصصا كلها نقد مباشر عن عبد الناصر.. مثل " الخدعة" وسبق أن حدثتك عنها وكيف حماني هيكل. ونشرت أيضا قصصا مثل " العملية الكبرى" و" الرحلة" وقصة الرحلة نشرت في يونيو عام 1970 ، وإذا عدت لقراءتها من جديد ستجد المعنى الذي أردت قوله. والقصة نشرت بعد ذلك ضمن مجموعة " بيت من لحم".

ملحوظة:" القصة تحكى عن شخصين خرجا معا في رحلة.. لا تعرف إلى أين بالضبط " فليظل الأمر إذن سرا بيني وبينك" .. تعرف أنها ليست المرة الأولى التي أجلسك في عربتي وأسوق أنا تريد أن أكون أنت.. وأريد أن أكون أنا.. تطابقنا. وها نحن نطير. وبالعربة وبك أطير. الأمس الأرض وأطير.. أتلوى جذلا وأسوق. أنت لا تعرف كيف تسوق. أنت من جيل القطار. القطار الذي لا خيار فيه. لا تختار إلا عبوديتك . أنا من جيل العربة. الحرية عربة. الراى عربة. وحدك تحدد متى وأين. وحدك تعدل. تمضى تلف. تدور.

النهاية في يدك لحظة تريد. طبعا أنت لا تريد أن تعرف إلى أين . متعتك الكبرى مثل متعتي أن تفاجأ . أنك لا تعرف. المعرفة قيد. طبعا في رأيك المعرفة قيد. المعرفة وصول. وأنت وأنا لا نريد أن نصل. الآن أنا في حاجة إلى سيجارة. ألا تلاحظ أننا لا نختلف وأنك لأول مرة توافق أن أدخن أمامك. لماذا كنا نختلف. لماذا كنت تصر وتلح أن أتنازل عن رايى وأقبل رأيك، أدخن أمامك. لماذا كنا نختلف؟

لماذا كرهتك في أحيان؟ لما تمنيت في لحظات أن تموت لأتحرر.. يريدونك أهل الحي جثة يدفنونها . مستحيل قبل أن يأخذوك ،ففي أخذك موتى ، في اختفائك نهايتي .وأنا أكره النهاية كما تعلم . أكرهها. لم يعد هناك مناص . إنا حياتي أو موتك. لم يعد هناك مناص. لابد أن تنتهي أنت لأبدأ أنا".

• وجدتني أطلب منه رأيه في "هيكل السياسي"

قال : هيكل سياسي حتى النخاع بس سياسي بظرف يعنى، لأن فيه ناس إذا أخرجتهم من السياسة يحصل لهم جنان وفزع، إنما هيكل أبدا، يعنى ممكن نقول له رأيا سياسيا أوغير سياسي مخالفا لرأيه 180 درجة- وهو يشجعك على هذا – وميزة هيكل أن لديه باستمرار وجهة نظر متكاملة، فلا نفاجئه بسؤال مباغت فيطير منطقه المتكامل.

هيكل باستمرار لديه منطق، لذلك من يريد أن يدخل معه في حوار أو مناقشة لابد أن يكون مستعدا له بمنطق متكامل زيه وإلا يخسر النقاش معه من أول جولة ولذلك أقول إن البحث عن نقطة الضعف في منطق هيكل في غاية الصعوبة ولكنه مهم جدا في الحقيقة . لأنه أحيانا يبنى نظرية كاملة على حاجة مش صحيحة وأقصد غير صحيحة من وجهة نظرك أو نظري، فأنا مثلا كنت بأقول إنه من المحتم لدولة في مرحلة التحرر الوطني زى مصر،

وأن أمريكا تؤيد إسرائيل فلابد أن نواجه أمريكا ولازم نعمل حسابنا على هذه المواجهة، وثبت بعد كده أنه ممكن جدا مواجهة أمريكا يا أخي يعنى إيران واجهت أمريكا، لبنان واجهت أمريكا، فيتنام واجهت أمريكا.. يعنى أمريكا مش أسطورة . إنما هيكل لما يعمل حساباته على الورق وبالمنطق المتكامل الذي يتبناه يجد أنه مستحيل فعلا مواجهة أمريكا، يعنى هو صادق جدا من تفكيره إنما اللي جاى من الشارع السياسي زى حالاتي يقول له:

ممكن جدا مواجهة أمريكا، يعنى أن تكتشف الخلل في تفكير هيكل مسألة صعبة جدا لتكامل منطقه فمحتاج لنظرة مختلفة تماما إنما في نفس الوقت مسلحة بمنطقها الخاص.

• لم يكن في نيتي أن أسأل د. يوسف إدريس هذا السؤال ، ولمن السؤال خرج من فمي دون إرادتي. كان السؤال يقول : هل كان حتما أن ينتهي شهر العسل بين السادات وهيكل شتاء 1974 بقرار السادات إبعاد هيكل عن الأهرام. • بعد لحظات تفكير: نعم.. لأن هيكل كان لقمة كبيرة على السادات ، ولما تيجى تحسبها بأن تضع كلا من السادات وهيكل لوحدهما في غرفة مغلقة ، تأكد أن هيكل سيأكل السادات بمنطقه المتكامل ثم أن الأمور تغيرت، فالسادات صار رئيسا للجمهورية ثم أنجز حرب أكتوبر وأصبح كبيرا في حق نفسه ومحتاجا لأحجام أقل من هيكل بكثير،

في نفس لوقت هيكل لم يكن لديه الاستعداد أن يحجم أو يصغر نفسه أو يعمل نفسه على على أو زكى جمعة مثلا.. إنما فيه ناس جاهزة لكده باستمرار .. فكان من المحتم أن يختلفا.

حلمي سلام

من حرب فلسطين إلى مذبحة الصحفيين.

كان حامى سلام أقرب الصحفيين على جمال عبد الناصر .

بدأت سنوات المعرفة قبل ثلاث سنوات من قيام الثورة، وكانت حرب فلسطين قد انتهت إلى ما نعرفه.

خاض حلمي سلام على صفحات المصور قبل الثورة معارك عديدة دفاعا عن جيش مصر وبطولات أفراده.. ولأول مرة يذكر على صفحات المصور أسماء هؤلاء الأبطال وعلى رأسهم محمد نجيب وجمال عبد الناصر.

وبعد الثورة بأسابيع كان أول صحفي مصري يكشف للقراء عن أسماء أعضاء مجلس قيادة الثورة ودورهم في ثورة 23 يوليو.

قلت له : في حوار جرى بين الصحفي اللبناني سليم اللوزى رئيس تحرير مجلة " الحوادث" وبين الأستاذ محمد حسنين هيكل، ونشرته مجلة الحوادث في عدد 25 يونيو 1971 سأل سليم اللوزى هيكل.. هل كان في استطاعتك تحقيق هذا النجاح لو لم يكن لك ذلك المركز الممتاز عند جمال عبد الناصر؟ وأجاب هيكل يومها:

من الذي صنع لي مركزي عند عبد الناصر ؟ شيء واحد، هو قدرتي على خدمة الهدف العام الذي كان يسعى إلى تحقيقه ، ليس أي سبب آخر، قبل الثورة لم نكن أصدقاء ، لم أكن أعرفه إلا قبل 3 أو 4 أيام من قيام ثورة 23 يوليو (تموز) لم أكن أقرب الناس إليه، كان هناك غيري أقرب. كان هناك أحمد أبو الفتح ، وكان هناك إحسان عبد القدوس، وكان هناك " حلمي سلام" كذلك لم أكن واحدا من الضباط الأحرار، وأي حيز أخذته من تقديره مرجعه شيء واحد هو قدرتي على خدمة الهدف الذي يسعى إليه..

ثم إن أي صحفي في الدنيا من " سالزبرغر" إلى جيمس ريستون.. يعرف أن أحسن وسيلة للاقتراب من الأخبار هو الاقتراب من مراكز صنعها، وهذا هو الوضع الطبيعي.

بدأت علاقتي بجمال عبد الناصر في أوائل عام 1949، بعد توقف حرب فلسطين مباشرة وعودته من حصار الفالوجا، كنت على صلة وثيقة جدا بواحد من الضباط الأبطال الذي قدم استقالته من الجيش في المرحلة الأولى من الحرب وقبل أن تدخل القوات المصرية الحرب بشكل نظامي، كان اسم هذا الضابط هو " معروف الحضري".

وحدث أيضا أن استقال من الجيش بعض الضباط وتطوعوا لدخول الحرب، منهم البطل" البكباشي أحمد عبد العزيز" الذي صحب معه" كمال الدين حسين" وحسن فهمي عبد المجيد الذي صار في عهد الثورة سفيرا لنا في المغرب.

المهم أثناء الحرب وقبل الهدنة الأولى عاد معرف الحضري على القاهرة جريحا. وهناك حيث كان يعالج في مستشفى الحلمية العسكري، قابلته وتحدثت معه ومع عشرات الأبطال المصابين، ونشرت هذه المقابلات والأحاديث في مجلة " المصور" .

فى تلك الجلسة مع " معروف الحضري" بدأت ونمت علاقة وطيدة. وانتهت الحرب، وانتهى حصار الفالوجا، وعاد معروف الحضري إلى القاهرة، وبهذه المناسبة وجهت إليه الدعوة لتناول الغداء معي في المنزل.. وفى ظهر اليوم التالي جاءني معروف الحضري ولم يكن وحده.. كان بصحبته شاب ضابط طويل اسمر اللون قدمه لي قائلا : الصاغ جمال عبد الناصر.

رحبت بالبطلين وجلسنا فى الصالون، وقال لي معروف الحضري.. جمال عبد الناصر صديق حميم جدا لي..

ثم التفت معروف الحضري ناحية جمال عبد الناصر وأشار بيده نحوى قائلا.. حلمي سلام من الصحفيين المهتمين بحرب فلسطين.. وله مقالات كثيرة فى هذا المجال . فى تلك الجلسة طرح الصاغ جمال عبد الناصر علينا أسئلة كثيرة جدا.. كان معظمها متعلقا بما يجرى فى البلد.. وما جرى فى حرب فلسطين .. والأسلحة الفاسدة.. و.. و..

وما لفت نظري أن عبد الناصر كان يسأل فقط.. ثم يصغى باهتمام لما أقوله أو يقوله معروف الحضري.. كان مستمعا جيدا جدا.. وذهنه مرتب جدا.

أما أهم ما لفت نظري فى شخصيته فكان عينيه النافذتين اللتين يشع منهما بريق غريب، وعادة عندما تتحدث تجد عينيه مركزتين فى مواجهة عينيك. فى تلك الجلسة لم أسمع رأيا لعبد الناصر فى كل ما تبادلناه من حوار.. كان مستمعا أكثر منه متحدثا.. وفى نهاية الزيارة وأنا أودعه عند باب الشقة.. أحسست من مصافحته لي وضغطه على يدي أننا صرنا أصدقاء.. وشعرت أيضا أنه سعيد بهذه المقابلة أو الزيارة.

  • عدت لأسأل حلمي سلام: هل تكررت اللقاءات بعد ذلك؟

قال : نعم .. ولكن بدأ جمال عبد الناصر يزورني فى بيتي بمفرده، كان يزورني مرة كل يومين أو ثلاثة أيام.. وطالت جلساتنا.. وفى كل جلسة لم تكن الموضوعات التى نتكلم فيها تخرج عن إطار الحرب وما جرى فيها بسبب فساد الملك فاروق والحاشية..

بعد ذلك عرفني جمال عبد الناصر بالصاغ عبد الحكيم عامر صديق عمره وأخيه الروحي. وأذكر أنه قال لي عندما عرفني به: خلل بالك يا حلمي ده خاله يبقى حيدر باشا القائد العام للقوات المسلحة.. رجل الملك فاروق رقم واحد. وعندما لمح عبد الناصر الدهشة ترتسم على ملامح وجهي من هذا التناقض الغريب أن ابن رجل الملك صديق لعبد الناصر.. قال لي جمال: ما تخافش منه يا حلمي

واتصلت علاقتي أيضا بعبد الحكيم عامر.. ثم حدث تعارف مع عدد من [[الضباط الأحرار]].. عبد اللطيف البغدادي.. حسن إبراهيم.. صلاح سالم.. وأنور السادات.. وبالمناسبة كنت أعرف السادات قبل ذلك منذ قضية اغتيال أمين عثمان وكنت أتابعها صحفيا فى المحكمة، وأكتب تحقيقاتها فى " مجلة المصور".

قال : كان اهتمامي بأنور السادات عند تغطيتي لمحاكمة مقتل أمين عثمان لها عدة أسباب.. السبب الأول أن أنور السادات كان أكبر المتهمين سنا فى القضية، إذ كان عمر وقتها 27 عاما، السبب الثاني أن السادات كانت له خلفية سياسية ، فقد كان مطاردا سياسيا وسبق اعتقاله، كما أنه نقيب سابق فى الجيش.. من هنا واجبي كصحفي أن أقدم للقراء الشخصية.. واقترحت عليه أن يكتب مذكراته وهو داخل السجن.. وكان سعيدا جدا بذلك الاقتراح .

وحكيت للأستاذ أميا زيدان اقتراحي للسادات فوافق. واتفقنا ألا ننشر تلك المذكرات إلا بعد النطق بالحكم فى القضية، لأنه إذا أدين فمن الصعب النشر. أما إذا حكم عليه بالبراءة يبقى ننشر.. فهي فى النهاية خطبة صحفية مثيرة وطريفة.

ثم أن هذه القضية كانت مثار اهتمام الرأي العام بالكامل، لأنها كانت أول قضية اغتيال سياسي. استمرت المحاكمة 33 شهرا، وكان السادات يكتب هذه المذكرات حلقة بحلقة. كنت أتسلم منه كل حلقة من خلال قفص الاتهام وفى نفس الوقت يتسلم أجر الحلقة المتفق عليه.

• سألت بدهشة: كم تقاضى السادات ثمنا للحلقة الواحدة من هذه المذكرات، قال .. عشرة جنيهات فى الحلقة الواحدة، وعلى ما أذكر فإنه قد كتب تسع حلقات تقاضى فيها تسعين جنيها. وبعد أن صدر الحكم ببراءة أنور السادات فى 24 يوليو 1948 بدأنا نشر الحلقات فى " المصور" وكان عنوان المذكرات " 30 شهرا فى السجن" بقلم أنورالسادات.

أكثر من هذا أنني كتبت سطورا أقدم فيها أنور السادات إلى القراء ، وقلت فيها بالحرف الواحد.. " اليوزباشي محمد أنور السادات هو أحد المتهمين فى قضية الاغتيالات السياسية مع حسين توفيق وحكم ببراءتهم، وهو اقوي المتهمين شخصية ، وأكثرهم ثقافة وتجربة. وكان قد عكف أيام سجنه على تدوين مذكراته تصور الحياة داخل السجن أصدق تصور، وهذا هو الفصل الأول من تلك المذكرات التي سنوالى نشرها تباعا".

ونشرت الحلقات بالفعل فى المصور..

• قلت : كان جمال عبد الناصر يتردد عليك فى بيتك من حين لآخر.. هل حدث وزارك فى مكتبك بدار الهلال فى ذلك الوقت؟

قال : نعم زارني عبد الناصر فى مكتبي بدار الهلال مرة واحدة فقط. كان ذلك فى يوم 23 نوفمبر 1950 وكانت مناسبة طريفة بالفعل. ففي ذلك اليوم أقمنا فى دار الهلال حفل تكريم لأبطال مصر الرياضيين الذين أحرزوا بطولات عالمية. وكنت أقود حملة صحفية ضخمة هدفها تحسين الأوضاع الاجتماعية لهؤلاء الأبطال.

حيث كانت أوضاعهم الأسرية متردية جدا. وعندما عاد هؤلاء الأبطال من الخارج نظمنا لهم حفل تكريم فى دار الهلال. ودعت دار الهلال المسئولين. ومن جانبي فقد دعوت أصدقائي وكان على رأسهم اللواء فؤاد صادق. والأميرالاي محمد نجيب والصاغ جمال عبد الناصر.

وهذه الصورة الفوتوغرافية هي أول صورة تلتقط لعبد الناصر فى مكان عام قبل 1952.

ولو كان رجال المن أو السراي يعلمون فى ذلك الوقت منهم هؤلاء الأبطال لأحسوا بمدى خطرهم على النظام الملكي، فقد كان فؤاد صادق هو المرشح الثاني لقيادة الثورة عندما اعتذر عزيز المصري، وكان محمد نجيب هو المرشح الثالث الذي قبل مهمة القيادة..

وكان جمال عبد الناصر هو العقل المدبر وصانع الثورة الحقيقي ورئيس اللجنة التأسيسية للضباط الأحرار. وصلاح سالم عضو اللجنة التأسيسية للضباط الأحرار . ورغم وجود بعض عيون الأمن فى ذلك اليوم.. إلا أن أحد منهم لم يشك لحظة فى هؤلاء الأشخاص.

قلت: الآن فقط نعرف أن المرة الأولى التي نشرت فيها الصحافة المصرية اسم جمال عبد الناصر كان على صفحات جريدة " الجهاد" لصاحبها ورئيس تحريرها الكاتب الوطني توفيق دياب فى 12 نوفمبر 1935.

عندما قاد جمال رئيس اللجنة التنفيذية لطلبة المدارس الثانوية مظاهرة ضخمة احتجاجا على بيان السير صمويل هور وزير خارجية بريطانيا الذي قال فيه: إن بريطانيا لا تريد عودة الدستور فى مصر. وأثناء سير المظاهرة ناحية بيم الأمة أطلق الضباط الانجليز النار على " الطالب السمر جمال عبد الناصر" فأصابته رصاصة فى جبهته ، فأسرع به زملاؤه إلى دار" جريدة الجهاد" وهناك ضمدت جراحه، وفى اليوم التالي نشرت الجهاد تفاصيل المظاهرة وأسماء الجرحى ومن بينهم " جمال عبد الناصر" تحت عنوان.. " جرحى يلجئون إلى دار الجهاد".

كان الصحفي الكبير حلمي سلام يصغى لهذه السطور، كثفت كلماتي وقلت له:

• فى المقالات التي كتبتها فى المصور قبل 1952عن حرب فلسطين وبطولات الفدائيين هل ذكرت اسم عبد الناصر بصراحة فى إحدى هذه المقالات وكنت قد أصبحت قريبا منه ؟ - قال: فى عام 1950 وكنت أعمل مديرا لتحرير مجلة " المصور" .. أثيرت قضية لجنة المشتريات الخاصة بالأسلحة الفاسدة. كان على رأس هذه اللجنة اللواء المهندس إبراهيم المسيرى ومجموعة من الضباط الذين حوكموا فى قضية الأسلحة الفاسدة وطلعوا براءة.

- وثار الراى العام داخل الجيش، وتكونت لدى الرأي العام نفسه فكرة خاطئة مؤداها أن كل الضباط لصوص ومرتشون وسماسرة وفاسدون..وأذكر أنني كتبت مقالا عنوانه " فلنحن رؤوسنا لجيش مصر" إجلالا" . نشر المقال فى عدد المصور الذي صد بتاريخ 22 سبتمبر عام 1950 كان المقال الذي استغرق صفحتين يقول بالحرف الواحد.

" نعم.. فلنحن رؤوسنا لجيش مصر إجلالا.. ولنحنها رغم كل شيء.. فإن مثول عشرة أو عشرين ضابطا أمام المحققين لا ينبغي أن ينسينا أن كثرة الجيش الكبرى لا تزال بخير.. لا تزال قوية الخلق والقلب والضمير..

ويوم يقول أناس إن ضابطا فى جيش مصر باع بلاده ليشترى عزبة سنقول لهم.. إن فى جيش مصر مئات من الضباط باعوا حياتهم ليكسبوا لوطنهم مترا أو أقل من أرض القتال. سنقول لهم عنكم " سيد طه" ورجال.. لقد صمدوا للحصار والقتال أربعة أشهر سويا.. وثبتوا أمام اليهود الذين كانوا يصلونهم نارا من السماء ونارا من الأرض، ونارا من كل مكان، ولكن هذه النيران كلها لم تزدهم إلا حبا لمصر وثباتا فى سبيلها، واستهتارا بالحياة وأعراضها.

ويوم يقول أناس إن فى جيش مصر " لواء" قبل على نفسه أن يشترى لبلاده- وهى فى أقسى أيام محنتها- ذخيرة تالفة .. سنقول لهم عندكم هذا اليوزباشي الصغير " محمد مجدي حسنين " إنه هو الآخر أسطورة من أساطير الشجاعة المجنونة .

ويوم يقول أناس إن فى جيش مصر ضباطا تهربوا من ميدان القتال ، ومرضوا أو تمارضوا، ولم يكونوا رجالا وقتما نادت مصر على الرجال، سنقول لهم.. عندكم " فؤاد صادق" و" محمد نجيب" و" سيف الدين" و" الرحمانى" و" الدغيدى" و" أبو زيد" و" وجيه خليل".

............. ............ عندكم من الشبان " جمال عبد الناصر" وصلاح سالم و كمال الدين حسين.. وأستطيع لو اتسع المجال أن اعدد مئات الأسماء، كان أصحابها أسودا لا مجرد رجال، واسألوا عنهم رمال فلسطين ترو لكم من ألوان رجولتهم ما يزرى بخيالات القصاصين.

ولم أكن أعرف أن معظم هذه الأسماء تشكل اللجنة التأسيسية للضباط الأحرار التي قامت بالثورة.

وكانت هذه هي المرة الأولى التي قرأ الناس اسم جمال عبد الناصر قبل الثورة بوصفه واحدا من أبطال حرب فلسطين.. وهذه المقالة وغيرها من المقالات التي كتبتها عن الجيش والأسلحة الفاسدة وفساد الأحزاب ضمنتها كتاب لي صدر ونفد ، اسمه " دقات الأجراس" وكتب مقدمة هذا الكتاب الأستاذ الكبير" فتحي رضوان " وقال:

" فحلمي سلام بحق كاتب حساس ذو بصيرة وهو بلا منازع أول كاتب ذكر اسم قادة ثورة يوليو قبل أن تقع الثورة ، فاسم " جمال عبد النصر" نشر أول ما نشر فى مقاله المعنون" فلنحن رؤوسنا لجيش مصر إجلالا" وهو لن ينفك يرشح من قادة الثورة المدنيين فى مقالاته قبل الثورة أكثر من وزير من وزرائها الذين شاركوا فى حمل أعبائها من اليوم الأول".

• قلت: فى ديسمبر 1952 صدرت الطبعة الثانية من كتاب " حقيقة الانقلاب الأخير فى مصر" للدكتور راشد البراوى أشار فيه على أنك أول من أزاح الستار عن أسماء اللجنة التأسيسية للضباط الأحرار ،وكيف أنها بدأت بخمسة ثم صارت تسعة هم: البكباشي جمال عبد الناصر، الصاغات، عبد الحكيم عامر، كمال الدين حسين، خالد محيى الدين، صلاح سالم، قائد الأسراب حسن إبراهيم، قائد الجناح عبد اللطيف البغدادي، وجمال سالم والبكباشي أنور السادات.

وأشارت الكاتبة الصحفية " مي شاهين" فى كتابها شارع الصحافة أيضا إلى أن قادة الثورة أملوا فى 3 أكتوبر سنة 1952 قصة الثورة على الأستاذ حلمي سلام.

كيف نشرت قصة الثورة.. من أين جئت بالمعلومات؟

ٍ- بعد حوالي شهرين من قيام الثورة بدأت أنشر فى مجلة المصور حلقات مسلسلة جعلت عنوانها" قصة ثورة الجيش من المهد على المجد" ولم يعترض على نشرها أحد فى دار الهلال، وللحق والتاريخ كانوا سعداء جدا بها، ونشرت على مدى 12 أسبوعا إلى أن طلب منى جمال عبد الناصر التوقف عن كتابتها..

وأذكر أنه قال لي وهو يبلغني بذلك: لغاية كده كفاية يا حلمي.. قال : وكنت قد وصلت فى كتابة هذه الحلقات إلى كيفية تحديد ساعة الصفر وكيف تم تنفيذ خطى الثورة.. وقال عبد الناصر: أنا ما أحبش إن أي حد يعرف مصدرك الأساسي فى معلومات هذه الحلقات؟

  • قلت : من كان مصدرك الأساسي فى معلومات هذه الحلقات؟

قال: جمال عبد الناصر، وعبد الحكيم عامر.ز كانت لي جلسة أسبوعية مع جمال عبد الناصر يحكى لي أسرار الثورة على مدى ساعات.. أحيانا كانت تتم هذه الجلسة فى بيتي أو فى بيت [[عبد الناصر]،

وأحيانا فى مكتبه بمبنى مجلس قيادة الثورة، وأحيانا كان عبد الحكيم عامر يأتي إلى مكتبي فى دار الهلال لأنه لا يجد الوقت الكافي لأجلس معه فى مكتبه ليحكى لي وهو بعيد عن الهموم.

كانت الجلسة مع عبد الناصر يوم الخميس أو الجمعة من كل أسبوع وفى كل مرة كنا نتحدث حوالي ساعتين أو ثلاث كلا يحكى لي معلومات الحلقة التي سوف تنشر، وفى هذه الحلقات نشر لأول مرة بعد قيام الثورة عن العملاق الأسمر ونشرنا له صورة كبيرة بطول صفحة المصور وحددت دوره فى ثورة 23 يوليو.

• قلت: هل كان لعبد الناصر ملاحظات حول هذه الحلقات؟ هل أغضبت البعض من أعضاء مجلس قيادة الثورة؟ هل أسعدت البعض؟

قال : جمال عبد الناصر كان معجبا بهذه الحلقات.. ولم يحدث طوال نشرها أن طلب منى على سبيل المثال أن أطلعه على ما سوف أنشره.. ولكن فى أعقاب صدور إحدى الحلقات اتصل بى تلفونيا وأبلغني أنني نسيت أن اذكر دور خالد محيى الدين وقال: إن دور خالد فى الثورة دور هام جدا.. وكان عبد الناصر يحب خالد محيى الدين حبا شديدا ويحترمه على أبعد الحدود ويعتز به, ومن هنا فقد أطلق على ابنه الأكبر اسم خالد.

وطلب منى أن أشير على هذا الدور فى الحلقة التي أستعد لنشرها، وفعلا أذكر أنني نشرت صورة لخالد محيى الدين.

فقط استاء أنور السادات من هذه الحلقات وقال إن دوره غير موجود فى هذه الحلقات، وفيما بعد تحولت هذه الحلقات إلى مسلسل إذاعي أعده للإذاعة محمد على ماهر، كان يذاع يوميا حوالي الساعة التاسعة والنصف وأوقف بناء على طلب السادات.

• قلت هل فى نفس هذه الفترة الزمنية كان الأستاذ مصطفى أمين ينشر " قصة التسعة" فى الأخبار وتروى أيضا تفاصيل الثورة وأسرارها كما رواها عبد الناصر وراجعها السادات قبل النشر ثم طلب عبد الناصر إيقاف النشر بعد أن أثارت غضب الضباط؟

• قال بحسم: لا .. ما نشره مصطفى أمين كان فى مرحلة أخرى جاءت بعد نشر حلقاتي بفترة طويلة.

• قلت وأنا اضبط أوتار كلماتي بدقة: يلقى محمد حسنين هيكل باتهام محدد حول تلك الحلقات والمسلسلات التي كانت تنشر وقتها، ويقول فى حواره مع فؤاد مطر وحدث فى النصف الثاني من عام 1952، قيلت وكتبت أمور كثيرة تتعلق بالثورة كان عبد الناصر يقرأ ما ينشر ويبدى استغرابه.. ما هو تعليقك؟

قال بهدوء شديد: ردى ببساطة أن هذه الأسرار كانت تنشر أسبوعيا على مدى أسابيع طويلة( 12 أسبوعا) والذين كنت أستقى منهم المعلومات كانوا على قيد الحياة ولم يكذبوا أو يعترضوا على ما كتبته، ولم يوقف عبد الناصر نشرها، لأنها لو كانت غريبة أو غير حقيقية أو بعيدة عن الصدق كان فى استطاعة عبد الناصر أن يطيح ليس بى فقط بل بالمصور بأكمله وكان فى إمكانه ذلك، واستمر النشر حتى وصلت على ساعة الصفر فطلب منى التوقف، واحترمت رغبته،

لأن المسألة ليست مجرد إثارة صحفية، ولا تنس أن ارتباطي الشديد بالضباط الأحرارلدرجة أنني كنت أعتبر نفسي واحدا منهم. فأنا لست صحفيا يريد تحقيق كسب صحفي إنما ما كان يهمهم يتمنى أيضا. ولو انضربوا فسوف أنضرب بالتأكيد.

• منذ سنوات نشر السيد " عبد اللطيف البغدادي" مذكراته فى جزأين أذكر انه قال بالحرف الواحد: أنه بعد أن استعرض خلافات الثورة مع الرئيس محمد نجيب بعد قيام الثورة بقليل أنه قال: " علمت من جمال عبد الناصر نفسه أنه قد تكلم مع محمد حسنين هيكل المحرر بجريدة الأخبار وأحمد أبو الفتح بجريدة المصري وطلب منهما عدم نشر أحاديث وصور محمد نجيب بجريدتيهما إلا فى الحدود الضيقة جدا،

• وأن أنور السادات قد لمح هو الآخر على أحمد الصاوي بجريدة الأهرام لاتخاذ نفس الاتجاه. ولما تساءلت عن مدى علم مصطفى وعلى أمين بذلك الأمر أبلغني جمال عبد الناصر أن هيكل قد أبلغهما ومن أنه – أي جمال – يثق بهما.

انتهى ما كتبه عبد اللطيف البغدادي فى الجزء الأول من ذكرياته . وعدت أسأل حلمي سلام بهذه المناسبة.

ما هي حكاية محمد نجيب بالضبط مع الثورة ؟ كيف اقترب من ثوار يوليو؟ كيف اختير ليرأس الثورة ؟ ولماذا ابتعد؟

- فى عام 1951 أجريت انتخابات نادي الضباط.. وفاز محمد نجيب بمنصب رئيس مجلس إدارة النادي.. ولا أحد يختلف حول محمد نجيب وطنيا أو عسكريا.

وفى نفس الوقت كنت أكتب بابا أسبوعيا فى المصور بعنوان " يتحدثون عن" وبهذه المناسبة كتبت عن محمد نجيب أمل ضخم من آمال الجيش ، وأمل الجيش اليوم منحصر كله فى المستقيمين الأوفياء ونجيب على رأسهم"

وزارنا اللواء محمد نجيب فى مكتبي بدار الهلال ولم اقن أعرفه شخصيا، وشكرني على هذا المقال ونشأت بيني وبينه علاقة وثيقة. وكنت اعلم قبل ذلك التاريخ أن الرأي كان قد استقر تماما على محمد نجيب كي يكون الوجه الناضج الذي يتصدر الثورة، لأنهم فى ذلك الوقت كانوا شبانا.. وكان عبد الناصر أكبرهم سنا، كان عمره يوم قامت الثورة 34 عاما.

كان الضباط الأحرارقد فكروا قبل ذلك فى اسمين، فى البداية الفريق عزيز المصري باعتبار أن له تاريخا مجيدا مع العسكريين وفى محاربة الانجليز وموقفا خاصا من الملك فاروق، وحين فوتح فى هذا الأمر اعتذر لكبر سنه، وأنه قانع بدور الأب الروحي للثورة.

ثم نأتي للشخصية الثانية وهى اللواء فؤاد صادق، ثم عدلوا عنه واتجهوا إلى اللواء نجيب ولم يكن حول اسمه الوطني أدنى غبار.. حيث كان فى حرب فلسطين قائدا ثانيا لجبهة القتال، وجرح ثلاث مرات، ومنح وسام النجمة العسكرية وهو أرفع وسام عسكري وقتها.. فى نفس الوقت كان عبد الحكيم عامر يعمل معه كواحد من أركان حربه..ويوما بعد يوم اقترب منه وزاد اقترابه، وعندما اطمأن عامر من ناحية نجيب قال لعبد النصر: لقد اكتشفت لك كنزا.

وبعد انتهاء حرب فلسطين بدأ عبد الناصر يتعرف على نجيب وتزداد صلته به، وعندما قرر الضباط الأحراردخول انتخابات نادي الضباط كان اسم محمد نجيب يتصدر هذه القائمة وكان هناك أسماء بعض الضباط الأحرار مثل: زكريا محيى الدين و حسن إبراهيم، و جمال حماد وأمين شاكر.

وفاز نجيب وكذلك الأعضاء الذين رشحهم تنظيم الضباط الأحرار.

• قلت : وقامت الثورة فى 23 يوليو 1952 وأعلن بيان الثورة الأول محمد نجيب بلسان أنور السادات.. وصار نجيب يتصدر كل جريدة .. ثم فجأة اختفى .. لماذا ؟

قال : أنا متذكر كويس جدا جدا، أنه بعد قيام الثورة . أن قال لي جمال عبد الناصر أرجو تركيز كل الأضواء على محمد نجيب، وبالفعل كان المصور فى تلك الفترة لا يخلو عدد من أعداده من خبر أو مقال أو صورة عن محمد نجيب، وذلك منذ أول عدد صدر من المصور بعد قيام الثورة.

وفى تلك الأيام هاجمني المرحوم جمال سالم- عضو مجلس قيادة الثورة- فى اجتماعات القيادة بتهمة أنني دائم التركيز على أخبار محمد نجيب. ولم يكن جمال سالم يعلم أن هذا الاهتمام الصحفي بمحمد نجيب ليس سببه فقط إعجابي وصداقتي بالرجل بل تنفيذا لرغبة جمال عبد الناصر نفسه الذي كان يرى أن الوقت لم يحن بعد لتقديم أعضاء مجلس قيادة الثورة للناس.

• قلت ضاحكا: ومن هذا المنطلق مثلا قال أنور السادات فى استفتاء نشرته مجلة المصور فى مايو 1952: إن محمد نجيب يأتي على رأس أعظم عشرة رجال فى العالم. بل هو أعظم رجل فى العالم.

- كان كل شيء بالنسبة لعبد الناصر محسوبا بدقة مذهلة، وأن كل خطوة يقررها لابد أن تجيء فى وقتها السليم تماما.. وساعده على ذلك أنه كان مناورا ذكيا بطبيعته.

وأذكر مرة أن عبد الناصر تحدث معي فى شأن محمد نجيب- وكان ذلك فى الشهور الأولى للثورة- كان نجيب أحيانا يستقل عربة مكشوفة ويطوف بها وسط الثكنات العسكرية، ويقوم بتحية الجنود والضباط. وقال عبد الناصر ببساطة مذهلة لي: هو فاكر نفسه أنه بهذا التصرف بيمتلك العساكر.. وبيكسب القوات المسلحة.. طيب خليه يعمل اللى هو عايزه.. وإحنا هنعمل ثورة ثانية.

وبعد ذلك – عقب أزمة مارس 1954- كان نجيب قد اختفى تماما من الصورة • قلت: كما اختفى كثيرون بعد ذلك؟

قال : نعم.. وأذكر أنني بعد فترة قصيرة من قيام الثورة أقنعت جمال عبد الناصر أن يقوم مصور دار الهلال بالتقاط صورة جماعية لأعضاء مجلس قيادة الثورة ونقوم بتوزيعها بمثابة هدية من مجلة المصور.. وافق عبد الناصر على الاقتراح ورحب به أصحاب دار الهلال.

تم تصوير أعضاء مجلس قيادة الثورة، وأعدت الصورة الهدية.. وذات مساء – قبل نزول المصور إلى الشارع بيوم واحد- اتصل بى جمال قائلا: يا حلمي الغي فكرة الصورة الهدية.. وقلت بدهشة : لكن إحنا طبعناها فعلا وجاهزة للتوزيع غدا.

فرد بحدة: لا .. الغي الهدية وتعال حالا عندي هنا.

أصدرت أمرا على المسئولين بدار الهلال بعدم توزيع الصورة مع المصور. وذهبت فى الحال على جمال عبد الناصر ، وشرح لي السباب التي دفعته على إلغاء الصورة الجماعية قائلا: ما تتضايقش يا حلمي.. " لأن فيه اثنين من الذين يظهرون فى هذه الصورة وسيراهم الناس غدا، سوف يختفون بعد فترة.. وأنا أريد الناس أن ترانا اليوم 15 شخصا وبعد فترة يجدوننا وقد نقصنا اثنين ".

وسألته عن الاسمين، فقال: يوسف صديق و عبد المنعم أمين. وبعد أن عدت على مكتبي طلبنا أميل زيدان وكان قد علم بحكاية إلغاء الصورة فقلت له: الحقيقة أنني لم أكن قد استأذنت جمال عبد الناصر فى نشرها، وحين علم طلب تأجيلها لفترة.

واضطررت لاختراع هذا التبرير لأن عبد الناصر طلب منى أن أبقى هذه الحكاية

- حكاية ابتعاد يوسف صديق وعبد المنعم أمين- سرا.

قال : فى عام 1953 أصبح جمال عبد الناصر وزيرا للداخلية. ولأني أعرف شخصيته معرفة عميقة منذ عام 1949، وحتى ذلك التاريخ كتبت مقالا عنوانه " عبد الناصر ر يصلح وزيرا للداخلية" .. كان العنوان مثيرا بالطبع ويختلف تماما مع مضمون وجوهر المقال: أذكر أنني قلت فى هذا المقال إننا نعرف أن وزير الداخلية فى الماضي شخص كريه الصورة، يحاول شراء ذمم العمد والمشايخ فى القرى.. و.. و.. ولأن أخلاق عبد الناصر وصفاته أبعد ما تكون عن هذه الأشياء كلها فهو لا يصلح لأن يتولى هذا المنصب.

وفى نفس يوم صدور مجلة المصور اتصل بى جمال عبد الناصر تليفونيا وقال لي: مقالك كويس قوى يا حلمي.. عجبنى مضمونه.. بس عنوانه مثير شويه ، ما تنساش أن فيه ناس مش بتقرأ إلا العناوين" وأستطيع أن أؤكد لك أن جمال عبد الناصر كان حريصا على قراءة كل ما ينشر عنه حتى لو أغضبه.

• قلت له: وأنا أعيد على مسامعه سطورا للكاتب الأستاذ مصطفى أمين ..جاءت فى كتابه الصادر عام 1979 ( لكل مقال أزمة) كان جمال عبد الناصر فى أيام الثورة الأولى مؤمنا بحرية الصحافة مدافعا عنها فى النقد وإبداء رأيها.

ولكنه كان يقول لي دائما إنه يلقى معارضة شديدة من زملائه أعضاء مجلس الثورة الذين كانوا يعتبرون أنفسهم أنصاف آلهة وذات مقدسة لا تمس.

وكان المشير عبد الحكيم عامر يقول لي إن حل مشكلة الصحافة فى مصر هو أن تقبض الثورة على جميع الصحفيين بغير استثناء ، وأن تضعهم جميعا فى السجن الحربي، وبذلك تستريح الثورة، وتستريح مصر.

قال الأستاذ حلمي سلام: كان جمال عبد الناصر حريصا على أن تكون الصحافة المصرية صحافة قوية وليست صحافة ضعيفة. وعندما أعود بذاكرتي على ما قبل قيام الثورة بسنوات وكان عبد الناصر يقرأ ما كنت أكتبه فى المصور وكنا جميعا كصحفيين وكتاب نغلى بأفكار وطنية.. وكان غلياني أنا غليان إحسان عبد القدوس لحساب الجيش والوات المسلحة كما سبق أن قلت لك.

ومنذ قيام الثورة لم ألمس ضيق جمال عبد الناصر مما كانت تنشره الصحافة بشكل عام أو ما كان ينشر فى المصور بشكل خاص. نعم كان عبد الناصر مؤمنا بحرية الصحافة وبخطورة دورها ومن هنا أنشأت الثورة صحفا ومجلات تنطق باسمها.. أصدرت مجلة التحرير ثم جريدة الجمهورية وكان صاحب الامتياز هو عبد الناصر نفسه، وأصدرت كذلك المساء وبناء الوطن.. الخ.

وأذكر حوارا جرى بيني وبين عبد الناصر فى بيتي عصر أحد أيام عام 1952 وكنت مسئولا عن باب فى مجلة المصور اسمه" بين المصور وقرائه" حيث كانت تأتيني رسائل القراء والقارئات متضمنة شكاواهم ومعاناتهم مع الأجهزة الحكومية وغير الحكومية..

وقال لي عبد الناصر يومها: عندما لا تصلك شكوى من قارئ لينشرها فى بابك يا حلمي.. يومها تكون الثورة قد نجحت بالفعل.

• عدت لقول بإلحاح: هل كان أعضاء مجلس الثورة يعتبرون أنفسهم أنصاف آلهة وذات مقدسة لا تمس يا أستاذ حلمي؟ أعطني إجابة تدعمها وثائق

قال : معك حق، وتركني لدقائق عاد بعدها يحمل ملفات عديدة وفتحها وأخذ يقول فى سبتمبر 1953 نشرت مجلة الاثنين – وكانت تصدر عن دار الهلال أيضا – تحقيقا صحفيا طريفا عن الهواية التي يحبها ويمارسها كل عضو من أعضاء مجلس قيادة الثورة، وقامت قيامة أحدهم وقال غاضبا: إن هؤلاء الرجال أكبر من أن تكون لهم هواية من أي نوع.

والحقيقة أن الغيظ ملأني وكتبت فى يريد أن يقول للناس إن رجال الثورة ليسوا بشرا، ولذلك فلا يليق بهم أن يهووا شيئا مما يهواه البشر، لا يليق بهم أن يهووا التنس، ولا السباحة ، ولا الكرة ولا المشي ولا أي لون من ألوان الرياضة التي قالوا لنا عنها فى المدرسة أنها الطريق الوحيد إلى صحة العقل.

إنني استطيع أن اذكر للسيد الكبير إن قادة هذه الثورة لا يعتبرون أنفسهم فوق مستوى البشر.. لا يعتبرون أنفسهم " آلهة" ولو كانوا يعتبرون أنفسهم كذلك لما وقفوا جميعا أمام الميكرفون ليقول أحدهم- البكباشي حسين الشافعي – إن أحب أغنية إليه هي أغنية " على بلدي المحبوب وديني"

وليقول آخر وهو السادات أن أغاني " أسمهان" هي أحب الأغاني إليه وهى أغان مملوءة- وقد لا يعلم ذلك السيد الكبير- بمعاني الحب والشوق والهيام والخصام .. وما إلى ذلك من المعاني التي تعيش فى صدور البشر جميعا، وتحسها قلوب البشر جميعا، حتى من كانوا منهم أعضاء فى مجلس قيادة الثورة.

إن الذي يجب أن يكون مفهوما أن الزعماء معهما كبرت أقدارهم ليسوا فى نهاية الأمر إلا بشر. كان الأستاذ حلمي سلام قد فرغ من قراءة بعض سطور المقال الذي كتبه ثم عاد ليضحك بسعادة بالغة. ابتسمت وسألته : لماذا تضحك؟

قال : فى عام 1953 بعد إعلان تشكيل الوزارة التي رأسها اللواء محمد نجيب، كان صلاح سالم قد تولى وزارة الإرشاد وقتها، وعندما ذهب إلى مكتبه بالوزارة ذهب غليه زملاؤه الضباط يهنئونه بالمنصب وجلس معهم فى غرفة مكتبه.. وبعد فترة أراد مغادرة مكتبه لأمر هام ومد يده وامسك بكاب أحد الضباط الموجودين ولبسه فوق رأسه،

واكتشف أنه ليس الكاب الخاص به فقال: أمال فين الكاب بتاعى؟ وأخذ الجميع يبحثون عن كاب صلاح سالم فى الغرفة.. وفجأة التفت ناحيتي وقال :خبيت الكاب بتاعى فين يا حلمي؟ فضحك وقلت له: شوف نفسك كويس يا سعادة الوزير.. ونظر إلى نفسه وأخذ يضحك فقد كان يرتدى الملابس المدنية وليس الزى العسكري والذي اذكره أنني نشرت هذه الحكاية الطريفة ولم يغضب.

• قلت له : دعني أسألك سؤالا ساذجا .. هل لاحظت مثلا أن واحدا من ثوار يوليو حريص على قراءة باب الحظ أو البخت فى الجرائد؟

ابتسم وقال : الحقيقة لا .. إطلاقا.. ولكت أذكر واقعة فى هذا الصدد كانت فى أوائل الثورة تعرفت على فلكية هاوية وهى آنسة اسمها " بيوجيليد" وقابلتها زميلة لنا فى المصور هي " إيزيس فهمي" وعرضت عليها أبراج أعضاء مجلس قيادة الثورة كي تتنبأ لكل منهم بالمستقبل وأعددنا موضوعا طريفا بالفعل، وقبل النشر عرضنا ما قالته الفلكية عن كل منهم فقالت تعليقا معينا. ونشر الموضوع فعلا فى المصور عام 1953.

قالت عن محمد نجيب : طريقه حافل بالعقبات والمصاعب ولكنه سيتغلب على كل شيء بالعمل وبالصبر ومغالبة الزمن.

وعلق نجيب قائلا: يبدو أن أغلب ما تنبأت به هذه السيدة صحيح ولكن الشك داخلني فى صحته وعندما وجدته خاليا من المساوئ .

وقالت عن البكباشي جمال عبد الناصر: حالته المالية عرضة دائما للصعود والهبوط.. رزقه كثير وإنفاقه كثير أيضا.. لا يسمح لأحد بأن يخدعه .. سنة 1953 سنة سعد وتوفيق بالنسبة له، سيكون موفقا فى كل ميدان ،والنجاح سيكون عسيرا عليه. من يناير 1954 على يناير 1956 فسيجد نفسه أمام عقبات جستم.. والكفاح سيكون أعنف.

وكان تعليق عبد الناصر : أنا لا أومن بالطالع.. ولا أهتم بمعرفته أبدا.

وقالت عن زكريا محيى الدين: يؤمن بالنتائج الوضاحة الملموسة ، عمله موضع الرضا دائما ولكنه لا يجد نفسه دائما فى الجو المناسب .

وعلق زكريا قائلا: الطالع من الناحية العملية معقول ، فقد لهب الحظ دورا كبيرا، وكان أهلي دائما يؤكدون أنني " المحظوظ" بين أخوتي.

وقالت عن عبد اللطيف البغدادي: كثير من التوفيق ينتظره، وابتداء من سبتمبر عليه أن يوطن نفسه على كفاح أكبر وأشد، سيدوم ذلك سنتين ثم يسهل كل شيء ويبتسم الحظ من جديد. وعلق البغدادي : على العموم.. كويس..

وقالت عن أنور السادات: صلب لا تفتر مقاومته أبدا.. قادر على التنظيم.. موهوب فى الإدارة، لا ينثني أمام عقبة، ويعرف كيف يتغلب على كل شيء بالدبلوماسية حينا وبالعنف حينا حسب الظروف، لا يؤمن إلا بكل ما هو عملي ممكن مفيد. أصدقاؤه كثيرون، وأعداؤه كثيرون أيضا. له القدوة على النضال إلى النهاية.. أنه بها إيمانا تاما.

قالت له : ولكن ماذا عن نقد تصرفاتهم كوزراء. ولا تنس أنهم كانوا شبانا قليلي الخبرة فى تلك الأيام؟

قال : فى نفس تلك الفترة والتي يقول فيها البعض إن ثوار يوليو كانوا أنصاف آلهة كتبت أقول إنني أشكو الوزراء لأنفسهم، اذكر أنني قلت: هل حاولت وزرائنا أن ينتزعوا من المصريين تقديرهم وإعجابهم بالأعمال الباهرة التي يقدمونها إليهم ويغرونهم بها، ويشعرونهم أن انقلابا قد حدث، وأن لونا من الحكم قد تغير ، وأن دما جديدا قد سرى فى كل مكان. آسف إذ أراني مضطرا لأن أطأطئ رأسي حزينا خجلا ، وأقول والأسى يملؤني : لا.

ولم يغضب أحد من الوزراء ، ولم يغضب عبد الناصر، بل أنه بعد أسبوع واحد أرسل أحد الوزراء ردا على مقالي نشر كاملا عنوانه وأنا أشكو الصحفيين لأنفسهم وقال فيه:"واجب الصحفيين أن يحفزوا أفراد الشعب .

أن يتمسك بحقه وأن يكون هو عين الدولة الساهرة فيرشدونها ويدلونها ويأخذون بيدها فلتضع الصحافة يدها فى يدنا ,ولتوجه الكلام إلى الشعب دائما، لتهيب به أن يقوم بواجبه لتدعيه إلى اليقظة الروحية، ولترسم له على هذا السبيل الطرق العملية.." وكان الرد من فتحي رضوان وزير شئون الدولة.

• عدت لأقول : أليس غريبا ويدعو للدهشة فى نفس الوقت أنه بعد قيام الثورة ظلت عشرات الأقلام الصحفية الكبيرة تكتب وتنشر ، وهى التي كانت من رموز العهد الملكي.. مثلا مصطفى أمين وعلى أمين، محمد التابعي، فكرى أباظة، كامل الشناوي.. وغيرهم؟

قال : معك حق فى أن هذه الأسماء الصحفية كانت رموزا لعهد مضى ولكن عبد الناصر حرص على أن يستبقيها لأنه كان يعتمد عليها فى خدمتها للنظام. ولا تنس الثقل والوزن الصحفي لهذه الأسماء عند القارئ،مثلا كانت كتابات محمد التابعي بعد الثورة تأييدا مطلقا للثورة وتمجيدا لعبد الناصر..

وفى نفس الوقت كان محمد نجيب وعبد الناصر يعلمان علم اليقين أن بعض هذه الأقلام لا يؤيد عن اقتناع كامل ولكن مجرد ركوب الموجة.

وأذكر أنني فى عيد الثورة الأول أجريت حوارا مع الرئيس محمد نجيب ونشر فى المصور فى يونيو 1953 وقال لي : لسنا نريد من الصحافة والصحفيين أن يتحولوا إلى فرقة من المطبلين تسير فى موكبنا فليس فى ذلك إرساء لقواعد هذا النظام ولا إعلاء لبنيانه، وإنما نريدهم أن يعينونا إذا رأونا على حق وأن يسددونا إذا رأونا على باطل،

وأن لا يكتبوا الكلمة إلا بعد أن يستفتوا ضميرهم الوطني فيها، ولا ينشروا المقالة إلا بعد أن يستأذنوا مصر- لا الرقيب ولا محمد نجيب- فى نشرها. ولا أحسب صحافة مصر إلا مقدرة لخطر رسالتها وخطر أثرها فى حياة الأمة.

عاد حلمي ليقول لي: أستطيع أن أؤكد لك أنني طوال اقترابي من جمال عبد الناصر لم ألمس منه ضيقا بالصحافة.. كان ضيقه فقط عندما يقرأ مقالا أو تحقيقا يحس أن كاتبه لا يبتغى من ورائه وجه الله أو وجه الوطن.

• قلت له: ومع ذلك كان المرحوم صلاح سالم وزير الإرشاد وقتها دائم الهجوم على الصحافة والصحفيين فى كل مؤتمر كان يعقده؟ • قال : فى الشهور الأولى للثورة تعرضت الثورة لهجوم مرير من بعض الأقلام الصحفية وكافة الأحزاب، وكتبت يومها معاتبا صلاح سالم قائلا: من حق الوزير على الصحافة أن تثبت له أنها ليست أقل منه حرصا على الأمانة وتقديرا للقيم العالية،

وتقديسا للخلق القويم، وليس فى مبادرة صاحبة الجلالة إلى سحب ثقتها ممن ثبت أنهم لا يستحقون هذه الثقة أي عار عليها، فقد سبقها الجيش صاحب الثورة وطهر من البعض صفوفه، من حق الوزير على الصحافة أن يطلب منها أن تصون العهد وأن تحمى الثورة وأن تكون الدرع الذي يذود الضربات عنها.

هذا هو حق الوزير على الصحافة، فهل ليس للصحافة على الوزير حقوق؟ إن للصحافة على خطيب الثورة حقوقا كثيرة ، فمن حقوقها عليه أن يحميها بعدله من أولئك الذين قد يسيئون فهم بيانه الأخير عنها.

ويتصورون أن ما يطلب إليهم هو تحطيم الأقلام كلها، وخنق الأنفاس كلها، من حق الصحافة على الوزير أن تطالبه بأن يبادر فيعلن على الملأ أسماء أولئك الذين ثبت لدى الثورة أنهم خانوا عهد المهنة ، وعبثوا بشرفها، ومن حق الصحافة على الوزير أن يفهم الموظفون فى الدولة- كبارا وصغارا- أن الصحافة حينما تقصدهم فى عون أو مساعدة،فإنها بهذا العمل لا تتسول ولا تستجدى، ولا تبحث عن غذاء ، يصيبها الموت إذا لم تنله..

ومن حق الصحافة والصحفيين الوطنيين الصادقين أن يطالبوا الوزير بأن يعيد للقيم الخلقية اعتبارهم، بأن يضع أولئك الصحفيين الذين قال عنهم- هو- أنهم كانوا يهللون ويكبرون وخلقوا منه- بإصرار وعناد وإباحية أيضا- إلههم المعبود، من حق الصحافة على الوزير أن تطالبه بأن تضع الثورة هؤلاء فى أماكنهم التي يستحقونها بما ارتكبت أقلامهم .. وإلا فلا قيمة لخلق، ولا قيمة لاستقامة، ولا شيء أثر مما هو حادث الآن.

سكت حلمي سلام ثم قال : هذا بعض ما كتبته عام 1953 بالتحديد.

• عدت لأقول: وبعد ذلك بشهور قليلة أذاع صلاح سالم كشف بأسماء صحفية لامعة كانت تتقاضى مصروفات سرية قبل الثورة، وكان الغريب أن الكشف تضمن عشرات الأسماء اللامعة، ومجلات لعبت دورا وطنيا لا أحد ينكره مثل روز اليوسف.

قال : بالنسبة لروز اليوسف بالتحديد فلم تكن مصاريف سرية بالمعنى السيئ للكلمة ولكنها كانت فيما أعتقد تعويضات عن الأعداد التي كانت تصادر. وتحضرني واقعة معينة جرت فى أواخر العصر الملكي عندما أصدرت دار الهلال كتابا للمؤرخ العظيم عبد الرحمن الرافعي عن الزعيم " أحمد عرابي" .. وأجازت إدارة المطبوعات نشر الكتاب ثم عادت فصادرته بأمر من السراي نفسها، وبعد حريق القاهرة فى يناير 1952 تولى مرتضى باشا المراعى وزارة الداخلية والحربية، وكان أيضا هو المسئول العام عن النشر.

وكنت فى زيارة له وحدثته فى أمر هذا الكتاب الذي صودر بعد أن تمت الموافقة عليه بالفعل، وهذا يكبد الدار خسائر فادحة.

وقال لي المراعى باشا : إنه لن يستطيع أن يعيد طرح الكتاب فى السوق، ولكنه يمكن أن يعوض دار الهلال ماليا بأن يدفع تكاليفه، وفعلا سدد المراعى التعويض وكان فى ما أظن ألفى جنيه على أقساط شهرية، قيمة كل قسط حوالي 500 جنيه.

ولذلك فإن روز اليوسف لم تتقاض مصاريف سرية، ولكنها كانت تعويضات مالية عن الأعداد التي صودرت فى عهود ما قبل الثورة.

• قلت : وباقي الأسماء هل كانت الثورة متجنية عليها؟

قال: عندما كنت أعد كتابي " أيامه الأخيرة" كانت هناك واقعة خاصة بالأستاذ عبد الفتاح حسن، وكان قبل الثورة مسئولا عن شئون الصحافة فى آخر وزارة وفدية قبل حريق القاهرة، كانت الواقعة خاصة بالتصريح الذي حصلت عليه الراقصة " سامية جمال" كي تسافر على دوفيل لتلحق بالملك فاروق، وكيف أنه رفض الموافقة على إعطائها تصريح السفر.. وأذكر أنني سألته عن الواقعة قال لي: خذ هذا الملف تجد فيه كل ما يتعلق بالواقعة..

وبالصدفة البحتة وجدت ضمن الملف كشفا بأسماء بعض الصحفيين الذين كانوا يتقاضون مصاريفا من وزارة الداخلية وأمام كل اسم مدون المبلغ الذي كان يتقاضاه.

إذن لم يكن هناك تعليق من الثورة فى قضية المصاريف السرية ولم تكن محتاجة على تلفيق مثل هذه الأمور. إنما خطأ الثورة وقتها أنها جمعت( الشامي على المغربي) ولم يكن أمامها وقتها كي تفرق بين المصاريف السرية وبين التعويضات.

ابتسم حلمي سلام وقال : ذكرياتي أو تجربتي مع موفق الحموي- رحمه الله – لم تكن مشجعة ،ورغم أنني كنت أعتبر نفسي جزءا لا يتجزأ من ثورة 23 يوليو بكتاباتي ومقالاتي إلا أنني لاحظت شيئا غريبا جدا بعد قيام الثورة، فعندما كنت أرأس تحرير مجلة التحرير لاحظت أن الرقيب المقيم فى الدار يأخذ مقالاتي أنا بالذات ويدخل إحدى الحجرات ثم يقرأها عبر التليفون لموفق الحموي الرقيب العام وقتها.

وأذكر فى ذلك الصدد واقعة وحيدة معه جعلتني أتخذ منه موقفا حتى مات. كان ذلك بعد أن انتهى الخلاف بين محمد نجيب وجمال عبد الناصر وعاد بعده محمد نجيب إلى سلطاته وقبل أن يختفي نهائيا من الصورة فى مارس 1954 .

المهم أنني اخترت صورة فوتوغرافية 3يتعانق فيها رئيس الجمهورية محمد نجيب ، ورئيس الوزراء جمال عبد الناصر وكانا واقفين فى شرفة هيئة التحرير بميدان عابدين يلوحان للجماهير المحتشدة ويعلنان لهم انتهاء الخلاف بينهما وهما رافعان أيديهما .

وكانت هذه الصورة هي غلاف مجلة التحرير، وأذكر أنني كتبت تحتها عبارة: الرئيسان يتعانقان.

واتصل بى بعدها مباشرة الرقيب العام" موفق الحموي" قائلا: رئيسين مين اللى بيتعانقوا يا أستاذ حلمي؟ فقلت له: رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء؟ فقال لي بسخرية: البلد ما فيهاش غير رئيس واحد هو جمال عبد الناصر.. أما التانى فابن كذا(...).

الحقيقة أنني صدمت واستنكرت ما قاله موفق الحموي وفى هذه اللحظة سقط الرجل من نظري ، ليس لأنني كنت أحب وأحترم محمد نجيب، فقد كنت أيضا أحترم وأحب عبد الناصر، ولكن لأنه من غير المقبول أخلاقيا وسلوكيا أن يتفوه ضابط بهذا اللفظ على رئيس الجمهورية حتى لو كان بالفعل قد استقر الأمر على عزله.

ورغم كراهيتي لموفق الحموي فأنا أذكر أنه عندما أصيب بأزمة قلبية وتأخر الطبيب على حسن سرور.. أستاذ القلب فى إنقاذه كتبت مقالا عنوانه" حاكموا هذا الطبيب" عن تقصيره الذي أدى إلى وفاة موفق الحموي.

  • قلت: فى ظل سنوات التوتر والقلق كيف كانت الرقابة؟


قال : كانت الرقابة فى حالة " مد وجذر" ارتفاع وهبوط. بشكل عام كانت الرقابة تتوقف على شخصية الرقيب العام. فإذا كان الرقيب العام على النشر واسع الأفق، مثقف ، مستنير ومرن وحسن التفاهم مع رؤساء التحرير يكون ذلك فى صالح الصحافة والنشر وتكون الأمور كلها سلسة.

أما إذا كان الرقيب ذا شخصية متسلطة غير مرنة ويتصور أن كل ما يكتب هو ضد الثورة أو طعن الثورة أو أن الصحفيين يريدون الانقضاض على الثورة والنظام فهنا تبدأ المشاكل.

• قلت له: أعلم من حواراتي مع نجوم الصحافة المصرية أن الفترة الأولى لقيام الثورة كان " موفق الحموي" هو الرقيب العام وهو أيضا مدير مكتب عبد الناصر،كيف كان تعاملك معه؟


  • قلت: بعد قيام الثورة استمرت الصحف تؤيدها كاملا.. ومع ذلك أنشأت الثورة صحفا خاصة بها مثل " الجمهورية" و" التحرير" بل إنك أحد الذين تولوا مسئولية رئاسة تحرير إحدى مجلاتها وهى التحرير .. لماذا تركت المصور؟ وكيف أصبحت رئيس تحرير مجلة الثورة؟

قال لي :سبق أن قلت لك أنني على صفحات المصور وطوال أربع سنوات كاملة (1948-1952) حولت المصور بالكامل إلى مقالات وتحقيقات عن بطولات حرب فلسطين ثم الأسلحة الفاسدة والقيادات الفاسدة.. بل نشرنا أسماء أبطال حرب فلسطين وكان من بينهم ثوار يوليو أنفسهم فيما بعد..

ولما قامت الثورة انفردنا بنشر قصة ثورة الجيش كاملة من المهد على المجد حتى طلب عبد الناصر شخصيا إيقافها.. المهم استمر نفس الحماس الملتهب للثورة فى كل ما كنت أكتبه..

بالطبع كنت أعرف أن أصحاب دار الهلال كانوا مرتبطين بصلات صداقة عميقة وحميمة مع أركان النظام السابق الزى غيرته يوليو.

وبعد حوالي سنة تقريبا من قيام الثورة أحست بمناخ دار الهلال يتغير .. بدأ أميل زيدان يمنع لي مقالات بكاملها.. بدأ فكرى أباظة يشطب فقرات كاملة من مقالاتي وكل هذه المقالات عن الثورة وما كان يجرى. وبصفتي مدير تحرير ، فقد كنت أنا الذي أختار موضوعات العدد وأكلف المحررين بأفكار الموضوعات.

وكان فكرى أباظة يراها بروفات . وأميل زيدان يراها فوق ماكيت العدد نفسه. أي أنني كنت مسئولا مسئولية كاملة عن المجلة.

فجأة ساد مناخ متحفظ.. وطلب أميل زيدان أن يطلع على أفكار الموضوعات قبل تنفيذها، وأن يقرأ مقالاتي قبل نشرها.. و.. إنه كان يطلب رؤية كل الصور الفوتوغرافية والكلمات التي تكتب مصاحبة لها.. وفجأة صرت مجرد" مرسلة" بين المحررين وصاحب الدار.. أحمل إليهم مقالاتهم وموضوعاتهم ليختار منها مواد المجلة. باختصار شديد تغير خط دار الهلال تجاه الثورة عما كان قبلها..

• قلت: هل كان عبد الناصر على علم بهذه الأشياء؟

قال: نعم.. فقد كانت العلاقة مستمرة والصداقة تنمو يوما بعد يوم.. وفاتحته ذات يوم بأنني أفكر فى تقديم استقالتي من دار الهلال لأني أكاد أختنق داخلها.. ولم يعد لي دور فيها فى ظل هذه الفرملة أو التكتيف الذي يتبعه أصحابها معي.

كانت المفاجأة أن عبد الناصر قال لي: إنه لا يريدني أن أترك المصور الآن.. لماذا لا أدرى .. المفاجأة الأخرى أن أصحاب دار الهلال علموا بأمر تفكيري فى الاستقالة.. أميل زيدان وفكري أباظة رئيس التحرير والأستاذ " البير انكونا" مدير عام دار الهلال علموا بأمر تفكيري فى الاستقالة، وحاولوا إثنائي عنها إي أنني تشبعت وامتلأت بفكرة ترك دار الهلال.

• قلت مستفسرا: وماذا كان موقف عبد الناصر هذه المرة؟

قال حلمي سلام: أخبرني وقتها بوجهة نظره في عدم رغبته في أن أترك دار الهلال الآن، لأنه لا يعلم على وجه اليقين من الرجل الذي سيتولى مكاني وهل هو شخص موال ومؤيد للثورة أو معاد لها. فإذا تولى المصور رجل غير مؤيد للثورة فإن هذا قد يضطره لأن يضرب ضربته وهو غير مستعد بالمرة الآن لتوجيه ضربة إلى الصحافة.

• قلت فجأة: كان ذلك قبل ضرب " المصري" وإغلاقها إلى الأبد؟

قال: نعم قبلها بشهور تقريبا.. المهم أن عبد الناصر قال لي: على أي حال يا حلمي إذا كنت قد امتلأت تماما من دار الهلال- وقالها بالانجليزية ففي هذه الحالة اذهب إلى دار التحرير امسك مجلة التحرير لتصدرها أسبوعية بدلا من نصف شهرية ولكن اجلس مع نفسك وفكر بهدوء شديد فى الأمر .

وجلست مع نفسي وفكرت فى الأمر جيدا واتخذت القرار.. لا مكان في دار الهلال فى ظل خطها الجديد.. وفى اليوم التالي أخبرت عبد الناصر بقراري. وقال لي يومها: اذهب غدا إلى أنور السادات وبلغه بما تحدثنا فيه ثم تعود ثانية وتبلغني ماذا جرى بينكما.

كان السادات وقتها هو مدير عام دار الهلال.

• قلت : ماذا قلت لمدير عام الدار أنور السادات ؟ وماذا قال لك؟

قال : ذهبت إلى السيد أنور السادات فى مكتبه بدار التحرير ورويت له اتفاق عبد الناصر معي بشأن تولى رئاسة تحرير مجلة التحرير وأن تولى إصدارها أسبوعية. فوجئت بالسادات يبادرني فى بداية الحديث بقوله: إن مرتبي الذي كنت أتقاضاه من المصور كبير وأن هذا سوف يسبب له متاعب مالية مع الآخرين وأذكر أنني قلت له:

أنا لا أدرى أن مرتبي – وكان 175 جنيها فى الشهر- كبيرا بالدرجة التي تتصورها . ثم إنني وصلت على هذا المرتب بجهدي وكفاءتي الصحفية فى دار الهلال.. ولا تنس أن منطق صاحب رأس المال لن يعطيني هذا المبلغ إلا إذا كان جهدي يساوى أربعة أضعاف هذا المبلغ.

وعندما لاحظ المرحوم السادات نبرة غضب فى كلامي، قال محاولا تخفيف حدة غضبى : على أي حال يا حلمي مش هنختلف حوالين الفلوس .

فى نفس اليوم وعقب مقابلتي للسادات ذهبت فى الحال على عبد الناصر ورويت له ما جرى بالكامل ولاحظت أن عبد الناصر غضب عندما رويت له عما قاله لى السادات بشأن مرتبي، ولا أنسى عبارة قالها: هو هيدفعلك حاجة من جيبه.

وبحكم معرفتي بطبيعة عبد الناصر، أدركت أنه لن يترك هذه المسألة تمر هكذا ، لسبب بسيط للغاية هو أن السادات تغير جدا من ناحيتي بعد ذلك. لأنه ربما تصور أنني ذهبت لأشكوه لعبد الناصر من تلقاء نفسي ولم يكن يعلم أن ذهابي كان بناء على طلب عبد الناصر نفسه لخبره بما جرى مع السادات بشأن العمل لا بشأن المرتب وحملها السادات فى نفسه.

  • عدت لأقول له: هل كان صراع الكواليس يظهر أحيانا على صفحات " التحرير" مجلة الثورة؟

قال : بعد أن تسلمت العمل بالفعل فى مجلة " التحرير " حدثت أزمة طريفة. كان المرحوم صلاح سالم قد عاد من جولة فى لبنان وسوريا والعراق . كان وقتها يتولى منصب وزير الإرشاد.وكنت أسميه وزير دعاية صلاح سالم وليس وزير دعاية الثورة. المهم أن المرحوم صلاح سالم أرسل لي 38 صورة فوتوغرافية له فى هذه الرحلة، وطلب نشرها بالكامل فى المجلة. تصورت فى البداية أن صلاح سالم يمزح.

لأن المنطق السياسي والصحفي كان يرفض ذلك ببساطة. وأن نشر هذه الصور بالكامل فسيكون ذلك مثار سخرية الناس. لأن معناه أنه عدد خاص عن صلاح سالم ورحلته. كما أن القارئ نفسه لا يتحمل هذه الجرعة من المصور.

  • قلت مبتسما: هل رفضت نشر الصور مثلا؟

قال: ما حدث أنني اخترت مجموعة من هذه الصور ، أعتقد أنهم كانوا عشر صور منها. اخترت واحدة لتكون غلاف" التحرير " والباقي داخل المجلة فى حوالي أربع صفحات بالإضافة إلى مقال كتبته عن هذه الرحلة.

وصدرت المجلة بهذه الشكل، وفوجئت بالسماء تنطبق على الأرض . ففي مساء ذلك اليوم كان هناك اجتماع لمجلس قيادة الثورة برئاسة جمال عبد الناصر،وكان صلاح سالم أحد الحاضرين وفوجئ به أعضاء المجلس يقول بعنف وبغضب: أنا عندي موضوع واحد سوف أتكلم فيه، تكهرب الجو بالطبع وتصوروا أن هناك كارثة سياسية مثلا.. وما لبث أن سأل عبد الناصر: موضوع أيه يا صلاح؟

وسأله عبد الناصر: ما الحكاية بالضبط . فأكد له صلاح سالم إنني أحاربه.. وسأله عبد الناصر كيف يحاربك حلمي سلام؟ فقال له: أرسلت له 38 صورة فوتوغرافية عن رحلتي لينشرها لي فلم ينشر سوى عشر فقط.. بماذا تسمى تصرفه هذا سوى أنه حرب تجاهي.

ابتسم عبد الناصر وجذب نفسا من سيجارته وقال له: يا صلاح ده لو بيحاربك زى ما بتقول كان عمل فيك مقلب ونشرها كلها.

وفشل عبد الناصر فى تهدئة صلاح سالم الذي هدد عبد الناصر قائلا: إذا لم تفصل حلمي سلام من التحرير سأستقيل من مجلس قيادة الثوري الآن؟

قال حلمي سلام: فى ذلك الوقت بالضبط كان صلاح سالك يتمتع بشعبية كبيرة رغم أنه كان مقتنعا بما فعلته صحفيا، ولكن هذه إحدى صفات عبد الناصر الانحناء للعاصفة إلى أن يختار هو الوقت المناسب ليضرب ربته. وطلب منى أن ابقي فى أجازة مفتوحة حتى يهدأ صلاح سالم. وأن يتولى رئاسة التحرير بعدى " سامي داود".

وطلب جمال عبد الناصر من السادات أن يبلغني بنفسه بقرار الإجازة المفتوحة حتى يخفف عنى وقعه ويشرح لي ملابسات القرار.. ولكن ما حدث كان شيئا مختلفا فلم يتكرم بإبلاغي هذا القرار كما طلب منه عبد الناصر، بل كلف سكرتيره اليوزباشي " حسن نايل" – صار سفيرا لنا فى لاهاى- بإبلاغي قرار الإجازة المفتوحة. إن البكباشي أنور السادات بيطلب منك أن تلزم بيتك فى إجازة مفتوحة لأن سامي داود حيتولى المجلة بدلا منك.

  • قلت لحلمي سلام: هل كنت تعرف أسبابا لذلك القرار المفاجئ؟

قال: حتى تلك اللحظة التحى أخبرني فيها بالقرار لم أكن أعرف على وجه التحديد أسباب هذا القرار؟ فكان من الطبيعي أن أسأل لماذا ؟واذكر أنني ذهبت لزيارة عبد الحكيم عامر ورويت له كيف أبلغني حسن نايل بالقرار .. وفجأة انتفض عبد الحكيم عامر وقال: سكرتير أنور السادات هو الذي أبلغك بالقرار وليس السادات؟ قلت نعم ولكن لماذا ؟

فقال: لقد كان اتفاق عبد الناصر فى مجلس قيادة الثورة أن يبلغك السادات بنفسه. وأثناء الحوار جاء السادات وحيانا .. بادلته التحية. وسكت عبد الحكيم وانفجر فى السادات قائلا: إزاى تسيب حسن نايل يبلغ حلمي.. ألم يكن اتفاقنا أن تبلغه أنت؟

ابتسم السادات وقال لعبد الحكيم عامر أنت ثائر دلوقتى وهاسيبك لغاية ما تهدى وكان من الطبيعي أيضا أن يتصور السادات أنى شكوته لعبد الحكيم عامر مثلما تصور أنني شكوته لعبد الناصر فحملها فى نفسه أيضا.

• ومن أين هذا التصور للرئيس السادات؟

قال: كان السادات يعتبرنا- وهذا حقيقة- قريب من [[عبد الناصر] وعبد الحكيم عامر بدرجة كبيرة جدا.. سواء قبل الثورة أو بعدها.. وتأكد له ذلك عندما كنت أجلس معهما ليرويا لي أسرار الثورة والتي نشرتها فى المصور.. وعندما لم يكن يمر أسبوع دون أن يزورني عبد الناصر أو عبد الحكيم عامر فى بيتي.. ومن هنا أحس السادات أن طريقي إليهما مفتوح دائما، فتصور أنني شكوته لهما.

والغريب فى ألأمر أن علاقتي بأنور السادات قبل الثورة كانت أفضل بكثير منها بعد الثورة.

وربما كان أكثر ما ألمنى من السادات ، مثلا أنه فى أوائل الثورة أجرت مجلة " الجيل الجديد" وكانت تصدر عن دار أخبار اليوم حديثا معه قال فيه للمحررة.. خيرية خيري: إنه عندما خرج من السجن وجد أن القصر هيأ له عملا فى دار الهلال.. أنا صدمت من هذا الكلام لأنه يعلم دوري فى تعيينه بمجلة المصور وقبلها اقتراحي عليه أن يكتب مذكراته لنشرها ، وفعلا نشرت.

  • قلت: ماذا فعلت خلال تلم الفترة؟ هل اتصلت بعبد الناصر؟ هل حاولت أن تعرف ماذا جرى بشأنك فى الكواليس ؟

قال : ظللت فى هذه الأجازة حوالي 14 شهرا.. شغلت نفسي فيها بالقراءة.. وأعددت المقالات التي سبق أن نشرتها قبل الثورة عن الجيش وحرب فلسطين، وتحقيقات الأسلحة وصدت فى كتاب اسمه " دقات الأجراس" كتب مقدمته الكاتب الكبير فتحي رضوان .

وذهبت إلى جمال عبد الناصر أزوره ومعي نسخة من كتابي لأهديها له. وأخذ عبد الناصر يقلب صفحات الكتاب وسألني : ماذا تفعل هذه الأيام؟ فقلت له: قمت بتجميع المقالات التي كتبتها قبل قيام الثورة وطبعتها فى هذا الكتاب.. وأقتل الوقت بالقراءة.

أعاد عبد الناصر تقليب صفحات الكتاب حتى وصل إلى مقال " فلنحنى رؤوسنا لجيش مصر إجلالا " والذي ذكرت فيه اسمه لأول مرة بوصفه واحدا من أبطال حرب فلسطين ، وتنهد تنهيدي عميقة وقال: كانت أيام عم حلمي.

ثم عاد ليقول لي ببشاشته المعهودة ما تتضايقش يا حلمي، الأيام بتحل حاجات كتير قوى،بتحل حتى محمد نجيب.

• قلت: فى تلك الأيام كانت أزمة مارس 1954 على الأبواب.. وانتهت الأزمة بخروج محمد نجيب وبروز جمال عبد الناصر.. وكنت قريبا من عبد الناصر .. كيف بدأ التمهيد لإبعاد نجيب؟ وقد روى البغدادي فى مذكراته ص 80 أنه خلال صيف 1953 كانت مظاهر الخلاف بين محمد نجيب وجمال عبد الناصر قد بدأت تظهر على السطح وذلك على إثر بعض الصحف المصرية لجمال عبد الناصر على أنه هو الرجل القوى فى مجلس قيادة الثورة وجمال نفسه كان يحاول إبراز هذه الصورة.

• كيف أحسست ببوادر التمهيد لإبعاد نجيب عن الثورة؟

قال لي حلمي سلام: كان قد مر حوالي عام على قيام الثورة،وذات يوم دعاني المرحوم صلاح سالم إلى تناول طعام الغداء معه فى مبنى مجلس قيادة الثورة فى الجزيرة. وبعد تناول الطعام قال لي صلاح سالم: أريد منك أنتقطع علاقتك بمحمد نجيب.

وشرحت له أن علاقتي بمحمد نجيب هي علاقة صداقة قوية وليت علاقة مع رجل يمتلك نفوذا أو سلطة لأني أعلم علم اليقين أن أعضاء مجلس قيادة الثورة يملكون من أمر محمد نجيب أكثر مما يملك هو من أمر نفسه. وأن الذي يحكم مصر ليس محمد نجيب ولكن جمال عبد الناصر.

وعدت لأقول له: لو أن محمد نجيب فى المركز الأقوى وطلب منى الابتعاد عنكم وقطع علاقتي بكم واستجبت فماذا سيكون حكمك على وقتها؟

ورد صلاح سالم غاضبا بعد أن خبط المائدة بقبضة يده: أنا ما أعرفش فى المثل العليا.. فقلت له: ولكنى أعرفها فقال بغضب: خلاص اعتبر الموضوع منتهى .

بالطبع نقل صلاح سالم ما جرى لعبد الناصر، وربما كان عبد الناصر هو الذي كلفه بذلك. أما بالنسبة لي فقد كنت ملتزما الحياد بين الرجلين محمد نجيب قائد الثورة وعبد الناصر صانع الثورة الحقيقي ومنفذها.

• قلت لحلمي سالم: سبق أن قال هيكل: إن الأقرب لعبد الناصر كان أحمد أبو الفتح، إحسان عبد القدوس، حلمي سلام؟ لماذا ابتعدتم ، وانفرد هو بالقمة

قال : لعلك تعرف أنه بعد قيام الثورة بيومين فقط اعتقلت الثورة مصطفى وعلى أمين ووضعا فى الكلية الحربية مع رجال العهد البائد، وأذاعت القيادة العامة للقوات المسلحة بيانا جاء فيه: إن الأستاذين مصطفى وعلى أمين على اتصال بأفراد يهدفون إلى هدم حركتنا الوطنية المباركة، ولم يسعنا فى هذه الظروف الدقيقة التي نجتازها سوى اعتقالهما .

المهم أن مصطفى أمين معلى أمين عرفا أين مكانهما من الثورة أو بدقة عرفا رأى الثورة فيهما. لكن كان لابد أن تكون هناك جسور بين أخبار اليوم وبين الثورة. بذكاء شديد وخارق دفع مصطفى أمين بهيكل إلى الصورة باعتباره صحفيا لا غبار عليه عند هؤلاء الثوار.

• قلت: كان وقتها الأستاذ هيكل رئيسا لتحرير آخر ساعة؟

• قال نعم ومع ذلك أفرد مصطفى أمين لهيكل صفحات الأخبار اليومية ليكتب فيها، وكانت جريدة المصري المنافسة للأخبار قد اختفت بعد محاكمة أسرة أبو الفتح، فتحول قراؤها بالكامل إلى الأخبار ويندفع هيكل بالكامل فى تأييد جمال عبد الناصر- أثناء أزمة مارس- ولا أحد يختلف حول ذكاء هيكل الوقاد..

• ومنذ اللحظة الأولى راهن هيكل أن الجواد الرابح فى أزمة مارس هو عبد الناصر، وكتب مؤيدا عبد الناصر، وهنا نقطة المفاضلة بيني وبين هيكل. فقد التزمت من جانبي الحياد فى أزمة مارس.. بينما أيد هيكل عبد الناصر بغير حدود. ومن هنا كانت البذور الأولى لثقة عبد الناصر فى هيكل.

فى نفس الوقت اختلف موقف باقي الصحفيين والكتاب.. قبل ذلك كان احمد أبو الفتح على صفحات المصري قبل إغلاقها قد كتب سلسلة مقالات" إلى أين" و" قوانين قوانين" .. وقد حدد بهذه المقالات موقفه من الثورة، وللحقيقة فقد فوجئ عبد الناصر بمقالات أحمد أبو الفتح، وحددت الثورة موقفها منه بمحاكمة المصري وإغلاقها ومصادرة أمواله.

أما إحسان عبد القدوس فكتب على صفحات روز اليوسف أخطر مقالاته" العصابة السرية التي تحكم مصر من تحت الأرض" كان ذلك المقال مؤشرا خطيرا لعبد الناصر باعتبار إن إحسان عبد القدوس له دور وطني مشهود قبل الثورة.

وقيل إن عبد الناصر أعطى الصحافة حريتها فى تلك الفترة كي يتعرف على من معه ومن ضده من أصحاب الأقلام.

ومن هنا يمكن اعتبار أن أزمة مارس كانت نهاية عصر الصحافة الليبرالية، فقد اقتنع عبد الناصر بعدها وكذلك معه أعضاء مجلس قيادة الثورة أن المسألة لا ينبغي أن تمر هكذا.

• قلت لحلمة: بعد أزمة مارس مباشرة كان قد صدر كتاب" فلسفة الثورة" الذي كتبه عبد الناصر، والآن نعرف من كتابات هيكل أنه هو الذي كتبه؟ ماذا تقول؟

قال: كان عبد الناصر قارئا ممتازا وكان عقله وذهنه يموج بعشرات الأفكار التي تحتاج لمن يعيد صياغتها.. ولا أحد يختلف على براعة هيكل وذكائه.. وزادت أزمة مارس من اقترابه بعيد الناصر بينما ابتعد الآخرون وغابوا عن الصورة بشكل ما.. واستطاع هيكل أن يحول هذه الأفكار والخواطر إلى كتاب هو " فلسفة الثورة".

• قلت : وماذا عن مشوارك الصحفي بعد ذلك؟ ماذا بعد الأجازة الصحفية المفتوحة؟

قال : فى منتصف عام 1956.. وكان قد مضى حوالي 14 شهرا على الأجازة المفتوحة التي منحها لي جمال عبد الناصر ، عندما أصر المرحوم صلاح سالم على تنحيتي من رئاسة مجلة التحرير بعد أزمة نشر الصور الخاصة برحلته. اتصل بى السيد عبد اللطيف البغدادي ،

وهو صديق قديم ومن أوائل الضباط الأحرارالذين تعرفت عليهم فى عام 1949. وعبر المكالمة التليفونية أبلغني عبد اللطيف البغدادي أن صلاح سالم ينتظروني غدا فى مكتبه بوزارة الإرشاد القومي.

علمت بعد ذلك أن البغدادي تدخل لإنهاء ذلك الخلافات وسوء الفهم بين صلاح سالم وبيني والذي تصور بمقتضاه إنني أحاربه بإيعاز من عبد الناصر. وذهبت إلى صلاح سالم فى مكتبه.. ولى لحظة واحدة رأيت الجانب الانسانى والعاطفي فى صلاح سالم .. أخذني بالأحضان وعانقني وبكى.. حاولت أن أفتح معه موضوع الخلاف القديم فقال بمودة ومحبة. خلاص بقى مفيش داعي تحسسني بالذنب بتاعى ناحيتك.

هكذا كان صلاح سالم إنسانا عاطفيا لأبعد الحدود، وكان من برز مشاعره أنه يتحول فى مشاعره من أقصى اليمين لأقصى اليسار، مثلا يقابل أحد الموظفين فيشكو له كيف أن مرتبه بسيط ويعول ستة أولاد: فيأمر له بعلاوة خمسين جنيها، وفى اليوم التالي تجده رفت هذا الموظف وليس هناك منطق فى الحالتين: العلاوة المفاجئة أو الرفت المفاجئ.

المهم فاتحني صلاح سالم فى هذا اليوم أن أتولى رئاسة تحرير مجلة " الإذاعة" التي كانت تتبع فى ملكيتها وزير الإرشاد وكان بدوره هو رئيس مجلس الإذاعة الأعلى. وقلت لصلاح سالم: اعطنى مهلة أفكر فى هذه المسألة: كان هدفي الحقيقي الرجوع لجمال عبد الناصر.

فقد كانت العلاقات ممتدة والجسورالتى بيننا لم تنسف بعد ولكن صلاح سالم حسم العرض قائلا: لا..لا.. الحكاية مش عاوزة تفكير أنا عاوز أستفيد من توزيع المجلة الضخم- 160 ألف نسخة أسبوعيا- ونحولها إلى مجلة عامة لا تكون مقصورة فقط على نشر برامج الإذاعة. وأن تكون البرامج جزءا من صفحات المجلة .

• قلت: وكيف كان شكل مجلة " الإذاعة" فى تلك الفترة؟

قال : كانت صفحاتها مقصورة على نشر برامج الإذاعة بالكامل والأخبار التي تدور فى كواليس الإذاعة فقط، وكان الجمهور يقبل عليها إقبالا رهيبا لأن الجرائد اليومية مثل الأهرام والأخبار والجمهورية كانت لا تنشر هذه البرامج بحكم قانون يحظر نشرها إلا على هذه المجلة وبالتالي لم يكن أمام الجمهور فرصة لمعرفة البرامج والتمثيليات والأغاني إلا إذا اشتروا مجلة الإذاعة.. وطلبت منه إعطائي مهلة للتفكير ووافق الرجل وقال: وأريد موافقتك فى أقرب وقت.

وبالفعل تحدثت مع عبد الناص فى هذا الأمر وحكيت له كل ما جرى بين صلاح سالم وبيني وقال لي: على خيرة الله. ولما قلت له إنني متخوف من تجربة العمل مرة أخرى مع صلاح سالم . سألني عن أسباب تخوفي. فقلت له: النهاردة صلاح سالم يأخذني بالأحضان ويطلب منى أن أصبح رئيس تحرير مجلة ، وبكره قد يطالبك بقطع رقبتي.

ضحك عبد الناصر وقال ببساطته الآسرة للقلب والعقل: شوف بقى يا حلمي أنت مفيش قدامك فرصة أنك ترفض عرض صلاح سالم. لأنك إذا رفضت سوف يتصور على الفور إنني وراء هذا الرفض.. ولا تنس أنه فى المعركة الأولى الخاصة بمجلة التحرير تصور أنك تحاربه لحسابي شخصيا.. وإنني لو لم أكن أشجعك على هذه المواقف لما كنت تستطيع أن تتخذها . وبالفعل بدأت العمل معه.

  • قلت له : كم تقاضيت مرتبا؟

قال: بنفس مرتبي القديم وهو 175 جنيها وبعد شهور قليلة رفعه صلاح سالم إلى 250 جنيها شهريا.

• قلت : هل زادت حدة الرقابة أن كان هناك شيء من التساهل . وبخاصة أن مجلة الإذاعة كانت ذات طابع فني خفيف؟

قال لى: فى تلك الفترة كان المسئول عن الرقابة هو" حسن صبري الخولى" الذي صار فيما بعد الممثل الشخصي لجمال عبد الناصر . وكان – رحمه الله- رجلا دمث الأخلاق ، هادى الطبع، واسع الأفق، على درجة عالية من الثقافة، وكان دائم التردد على رؤساء التحرير بشكل دوري، وكانت فترة وجوده فى هذا المنصب من أحسن الفترات رقابيا.. أذكر إنني كتبت مقالا عنوانه" ضاع قلمي" لنشره فى مجلة الإذاعة..

كان المقال يروى قصة حقيقية عن قلمي الذي فقدته فى أحد الأيام وكان قلما عزيزا وغاليا لأنني أحتفظ به منذ عشرين عاما.. المهم أن رقيب دار الهلال حيث كنا نطبع وقتها هناك قرأ المقال واعترض على نشره.. وتصور أنني أنعى ضياع كلمى من الناحية المعنوية بسبب الكبت والرقابة وغياب الحرية .. و.. .. وقررت عدم طبع المجلة بغير هذا المقال، وحس الرقيب بمدى الورطة. وظل الوضع متوترا حتى الساعة 12 ظهرا إلى أن جاء حسن صبري الخولى وكان قادما من اجتماع مع عبد الناصر وعلم بالمشكلة فقال لي بهدوء شديد: أنا واثق فى صدقك.. فهل ضاع قلمك حقيقة أن تقصد شيئا آخر؟

وقلت : بشرفي إن قلمي ضاع. وما كتبته هو رثاء لهذا القلم الذي لم يفارقني طيلة 20 سنة. قال حسن صبري الخولى للرقيب المقيم فى دار الهلال، ينشر المقال كاملا. وكما سبق أن قلت إن شخصية الرقيب العام كانت تلعب دورا كبيرا فى مدى تقديره للمساحة المتاحة من النشر أو عدمه.

• عدت لأقول: هل كان عبد الناصر حتى تلك الفترة مهتما بما تكتبه الصحافة ؟ هل كان يبدى ملاحظات على ما ينشر ويثير غضبه أو ينال إعجابه؟

قال : عندما كنت رئيسا لتحرير مجلة " الإذاعة" ( 1956-1962) كنت أكتب بها بابا أسبوعيا اسمه" ألوان"- صدرت مقالاته فى كتاب بنفس الاسم فيما بعد- كان شعار هذا الباب بضع كلمات تقول:" فى ميدان القلم لا تستطيع أن تكون إلا واحدا من اثنين..

فإما أن تقول الحق فيحترمك قلمك ويكرهك بعض الناس.. وإما أن تقول الباطل فيحتقرك قلمك ويكرهك كل الناس".

واستمر شعار الباب لفترة طويلة جدا.. وذات يوم اتصل بى الدكتور عبد القادر حاتم وكان وقتها مدير مصلحة الاستعلامات وقال لي: سيادة الرئيس يطلب منك أن تشيل شعار بابك" ألوان"أذكر إنني سألته مندهشا: ليه يا دكتور حاتم؟

وقال بهدوء شديد: أنت عارف إن سيادة الريس ما بيقولش ليه. إنما هو قال لي كلم حلمي سلام.. وقول له يشيل هذا الكلام.

• قلت لحلمي سلام.. وهل تتصور حدوث ذلك؟

قال بدهشة: أنا نفسي أتساءل.. هل جمال عبد الناصر طلب ذلك بالفعل؟ ربما

هل قيل ذلك الكلام على لسانه دون أن تكون للرجل يد فيه؟ ممكن جدا،فقد كانت هناك أشياء كثيرة تحدث دون علمه على الإطلاق.

• قلت : فى اللحظة التاريخية التي أعلنت فيها الوحدة بين مصر وسوريا فى 22 فبراير 1958، وكان ذلك فى دمشق.

قال : فى تلك الفترة وكنت أيضا عضوا بمجلس نقابة الصحفيين، قررنا عمل اجتماع لمجلس النقابة المنتخب( مصر وسوريا) فى دمشق تأكيدا لهذه الوحدة. كان النقيب وقتها حسين فهمي، وسافر معنا إلى سوريا السيدة أمينة السعيد والأستاذ عبد المنعم الصاوي.

  • قلت: هل شاهدت أو حضرت جلسات المباحثات؟

قال : لا .. فقد كانت المباحثات مقصورة على القيادات السياسية بين البلدين، واذكر أن مصطفى أمين بذكائه المعهود وقدراته الكبيرة حاول أن يحضر هذه الاجتماعات دون أن تكون لديه دعوة حضور، وأخرجه عبد الناصر.

وأذكر أنى كتبت فى مجلة الإذاعة بعض الانطباعات، وربما أكون قد نجحت فى التلميح إلى ما هو موجود تحت الرماد.. ولكن توالت الأخطاء من الجانبين.. وتوالت الأخطاء من جانب رجال عبد الحكيم عامر للسف الشديد.

• قلت: حتى تلك الفترة كان عبد الناصر قد بدأ فى اختيار بعض المقربين منه ليشغلوا منصب مديري مكتبه؟ كيف كانت العلاقة معهم؟

قال : كانوا يعرفن على الأقل طبيعة علاقتي بجمال عبد الناصر، لن تحدث مضايقات أو احتكاكات مع أي منهم ، وأنا لم أعاصر أو أتعامل بشكل مباشر إلا مع اثنين بالتحديد هما"أمين شاكر" و" على صبري" وكان هذا فى الخمسينات ، وعلى صبري كان واحدا من الأحرار البارزين فى القوات الجوية،

وأذكر أنني سمعت باسمه لأول مرة فى أوائل عام 1952 حينما كنت أنشر فى المصور سلسلة تحقيقات عن الفساد فى الجيش ولاحظت أن هناك عربة سوداء ترابط أمام منزلي وتراقبني مراقبة شديدة، وأبديت هذه الملحوظة لعبد اللطيف البغدادي فقال لي مفيش داعي للقلق، دى عربية تتبع على صبري قائد المخابرات فى الطيران وهو واحد منا.

وعندما أصبح على صبري مديرا لمكتب عبد الناصر للشئون السياسية فإن عبد الناصر أصدر إليه ما يشبه التعليمات أن أي شيء أريد أن أطلع عليه يسمح به، وهو نفس الشيء الذي تم تطبيقه بالنسبة للأستاذ هيكل فيما بعد.

أما بالنسبة لأمين شاكر فكانت علاقتي به حميمة للغاية، وهو شاب ذكى وفى قمة الإخلاص لعبد الناصر، وكان عبد الناصر يحبه حبا شديدا..

وعندما كان أمين شاكر مديرا لمكتب عبد الناصر ونتيجة لهذه الثقة المطلقة فيه. فكر عبد الناصر فى إنشاء مجلة أسبوعية على غرار مجلة" شاينا توادى" ( الصين اليوم) ويتولى رئاسة تحريرها أمين شاكر. وهدف المجلة هو الدعاية لإنجازات الثورة بشكل صحفي.

كانت هذه المجلة هي " بناء الوطن" واستمرت تصدر لسنوات طويلة، وقد حشد لها كبار الأسماء الصحفية اللامعة، وكانت تطبع فى دار الهلال، وكانت تحقق خسائر كبيرة.. وبسبب مشاكلها الكثيرة مع إدارة دار الهلال ولدت فكرة تأميم الصحافة.

• كان وضع الصحافة المصرية قبل صدور قرار تنظيم الصحافة فى 24 مايو 1960 كما يلي: أخبار اليوم يملكها الإخوان على ومصطفى أمين.. دار الهلال ويملكها آل تقلا..

ورغم تأييد الصحافة لقرارات الثورة.. كان لعبد الناصر رأى آخر فى وضع الصحافة والمجتمع يتجه نحو الاشتراكية.

على مقهى إحسان عبد القدوس الكاتب الصحفي الكبير أتوقف وأجلس قليلا أقرأ شهادته حول تأميم الصحافة.. فى مذكراته التي كتبتها الزميلة نعم الباز فى آخر ساعة.. قال :

" فى أبريل 1958 ماتت أمي، وتصدعت كل أحلامي وأحسست تماما بأنني منهار، وبدأت أفكر فى تأمين الصحافة كعملية إنقاذ لدار روز اليوسف، وخصوصا أن هذا الحل كان لا يمكن تنفيذه فى حياة أمي ..

كان لا يمكن أن تترك المجلة أبدا للحكومة. فقد كانت هي أسرتها وهى منزلها.. وكنت كلما كتبت قصة أبيعها وأضع ثمنها فى روز اليوسف ، ثم أسست شركة بيني وبين أختي وزوجها كي تبنى دارا للطباعة.. وكل هذا ولا فائدة ..

وكتبت مقالا قلت فيه: لماذا لا تؤمم الصحافة.. وقد أممنا كل شاء تقريبا، ولجأت إلى هذا بعد أن أرهقتني الرقابة أيضا.

وقلت أيضا فى المقال: إن الصحافة حين تؤمم تصبح تابعة للحزب الحاكم وهو الاتحاد الاشتراكي.

وقرأ عبد الناصر المقال فى أبريل 1960 وأخذ منه أربعة سطور بالنص وأصدر منها قانون تنظيم الصحافة فى مايو 1960، واتصل بى عبد القادر حاتم فى ذلك الوقت وكان على علاقة صداقة بى لأنه كان يعمل قبل الثورة فى روز اليوسف وقال: الرئيس أخذ من مقالك وأمم الصحافة وأنت حتكون رئيس مجلس إدارة روز اليوسف.

وكنت رئيس مجلس الإدارة الوحيد الذي عين من أصحاب الصحف التي دخلت فى قرار التأميم وأنا أعتبر أن روز اليوسف هي الوحيدة التي استفادت من تأميم الصحافة فى مصر كلها.. ولولا التأميم كانت روز اليوسف أفلست.."

وأصل إلى شاهد الشهود، محمد حسنين هيكل، وفى أحدث كتبه " بين الصحافة والسياسة" تقول شهادة هيكل فى فصل جعل عنوانه" تنظيم الصحافة..

وقصة" كانت بيننا مناقشات طويلة امتدت من سنة 1952إلى سنة 1960 حول ملكية الصحافة فى مصر ، لم يكن راضيا عن الملكية الفردية أو العائلية للصحف، وكنت أرى غير رأيه وأناقشه مطولا ومفصلا، وفى بعض الأحيان كنت أستطيع أن أفهمه ولكنى لم أكن أتصور فى نفس الوقت أن تتحول الصحف من ملكية الأفراد أو العائلات إلى ملكية الدولة، فقد بدت لى تلك كارثة الكوارث، ولم يكن هناك حل وسط.

وأعتقد بأمانة إنني وقفت فى الفترة ما بين سنة 1956 إلى 1960 وحدي تقريبا فى محاولة الدفاع عن " الواقع الراهن فى الصحافة" حتى لو أدى الأمر على بقاء ملكية الأفراد والعائلات.. فقد بدا لي ذلك أهون الضررين وأخف الشرين.. وكان للثورة وقائدها والتنظيم السياسي ورجاله رأى آخر.. ثم جاءت ظروف وتحولات..

دعاني جمال عبد الناصر إلى بيته وجلسنا معا لواحدة من أصعب مقابلاتنا. قال لي إنه مهما كانت آرائي فى موضوع الصحافة فهو الآن واصل إلى اقتناع كامل بأنه لا يستطيع أن يترك الأمور كما هي. واستدرك يقول: لا تتصور أنني أريد أن أتخلص من أحد، لو أردت أن أتخلص من أحد فأنت تعرف أن لدى من الشجاعة ومن السلطة أحيانا بأكثر مما أريد.. لكن القضية أكبر من ذلك.

ثم استطرد : إننا مقبلون على تحولات اجتماعية كبيرة، وقد بدأت هذه التحولات بتأميم البنط الأهلي وبنك مصر، إذا كنا نريد حقا تنفيذ خطة للتنمية وإذا كنا نريد إجراء تحولات اجتماعية عميقة فى مصر فلا بديل عن سيطرة المجتمع على وسائل المال والإنتاج، ولا أستطيع عقلا ولا عدلا أن أفرض سيطرة المجتمع على الاقتصاد ثم أترك لمجموعة من الأفراد أن يسيطروا على الإعلام، إنهم لا يسيطرون الآن عمليا لأن الثورة قوية وذلك مجرد خوف، وأنا لا أثق فى خائف خصوصا إذا تغيرت الظروف، ثم أن المرحلة الجديدة من التحول الاجتماعي تحتاج على تعبئة شاملة، وأعرف أن الموجودين الآن سوف يصفقون لأي قرار لكن المطلوب شيء آخر غير التصفيق .

وقلت: إن خشيتي فى الواقع على المهنة.

وكان رده: فكر فى أية ضمانات تريدها للمهنة، ولنلتق هنا غدا فى الحادية عشرة صباحا، وسوف يكون معنا محمد فهمي السيد( المستشار القانوني للرئاسة وقتها) . وفى اليوم التالي حاولت بكل ما أستطيع، وربحت بعض النقط وخسرت بعضها الآخر.

ربحت فيم أظن.. عندما استطعت أن أستبعد منطق التأميم بحدوده القاطعة ووصلنا إلى صيغة أخرى تسمح بمرونة وهكذا كان " تنظيم الصحافة" وليس " تأميمها".

وحاولت أن أجعل الملكية مشتركة بين التنظيم السياسي وبين جمعية العاملين فى كل دار صحفية 50% لكل فريق، ولم يقبل عبد الناصر وخرج باقتراح وسط، وهو انتقال الملكية إلى التنظيم السياسي وليس إلى الدولة واحتفاظ كل صحيفة بأرباحها داخلها ثم توزيع هذه الأرباح مناصفة:

نصف للتجديد والإحلال فى دور الصحف، ونصف لجمعية العاملين فى كل دار صحفية، واعترضت على المذكرة التفصيلية للقانون، وأشهد أن جمال عبد الناصر كان صبورا فقد قال لي:

" دعك من مذكرة فهمي واكتب أنت واحدة غيرها".

وكتبت مذكرة كانت فى الواقع إعلانا بتأكيد حرية الصحافة أكثر منها مذكرة تفسيرية لنصوص القانون الذي صدر فعلا يوم 24 مايو 1960.."

وانتهت شهادة محمد حسنين هيكل.

وتبقى شهادة الصحفي الكبير الأستاذ حلمي سلام.

• قلت : فى ذلك الوقت كنت تشغل منصب رئيس تحرير مجلة" الإذاعة" ما قصة قرار التنظيم؟ قال حلمي سلام: عندما صدر قرار تنظيم الصحافة فى 24 مايو 1960 كنت فى ذلك الوقت رئيس تحرير مجلة الإذاعة، واعترف أنني فوجئت بهذا القرار وعلمت به كأي مواطن عادى تماما.

وفى ذلك الوقت قيلت أسباب كثيرة حول تنظيم الصحافة. لكن أنا أتصور أن هناك حادثة وقعت قبل ذلك بفترة كانت وراء هذا القرار.. فى تلك الأيام كانت الثورة تصدر ضمن المجلات التي تصدرها مجلة " بناء الوطن" كان رئيس تحريرها أمين شاكر مدير مكتب جمال عبد الناصر فى نفس الوقت.

كانت المجلة تطبع فى مؤسسة دار الهلال.وتراكمت عليها ديون الطبع لدى المؤسسة حتى وصلت إلى عشرة آلاف جنيه( بعملة هذه الأيام حوالي مائة ألف جنيه). وفجأة أصدر الأستاذ المرحوم" أميل زيدان" أحد أصحاب دار الهلال أوامره إلى المطبعة بألا تتسلم أصول المواد الخاصة بمجلة " بناء الوطن" إلا بعد أن تسدد المجلة ديونها وقدرها عشرة آلاف جنيه.

وبالفعل عندما حضر رئيس التحرير "أمين شاكر" ليسلم المطبعة مواد العدد الجديد ، فوجئ بامتناع المطبعة عن تسلم هذه المواد تنفيذا لقرار أميل زيدان وقيل له يومها : أوامر أميل بيه عدم طبع المجلة إلا بعد تسديد الديون.

عاد أمين شاكر على مكتبه وحرر شيكا بخمسة آلاف جنيه وأرسله إلى أميل زيدان حتى لا تتعطل المجلة عن الصدور وأن يسدد باقي المبلغ( خمسة آلاف جنيه ) فيما بعد، ورفض أميل زيدان قبول الشيك وصمم على أن يتسلم العشرة آلاف جنيه كاملة لا ينقصها مليم واحد.

في نفس اليوم روى أمين شاكر القصة كاملة لجمال عبد الناصر. غضبن جمال عبد الناصر واعتبر أن تصرف دار الهلال مسألة تحد للنظام أو للثورة.. فالمجلة باختصار أصدرتها الثورة ويرأس تحريرها مدير مكتب عبد الناصر شخصيا.

المهم طلب عبد الناصر منه أن يجهز أمرا بالاستيلاء على دار الهلال، ويبدو أنه في ذلك الوقت كان بجواره من نصحه بأن ذلك العمل قد يساء تفسيره وفهمه، بأن يقال إن قرار استيلاء الدولة على دار الهلال المقصود به هذه الدار فقط لمجرد أن أصحابها لبناني الأصل.

وكان جواب عبد الناصر : إذن المؤسسات الصحفية كلها.

ومن ناحية أخرى كان جمال عبد الناصر مبهورا بتجربة" تيتو" زعيم يوغسلافيا ككل.. ومن بينها الصحافة طبعا.. وبما أن المجتمع وقتها كان يتحول نحو الاشتراكية فكان من الطبيعي أن تصبح الصحافة تحت يد الدولة .. وهذا هو الهدف الحقيقي من وراء قراره.

• قلت له: وبعد خمسة أيام، وفى مساء الأحد 29 مايو 1960 اجتمع عبد الناصر بأعضاء مجالس إدارات المؤسسات الصحفية ورؤساء تحرير الصحف والمجلات،وكنت واحدا من الذين حضروا اللقاء واستمعوا لحديث عبد الناصر ؟ ماذا قال لكم؟ وماذا قلتم ؟ وما لم ينشر في الصحف؟ • كان حلمي سلام قد أحضر دوسيها يحوى أوراقا عديدة، مكتوبة بخط يده.. كانت النص الكامل لما دار في ذلك الاجتماع " الذي استغرق ساعتين ونصف الساعة"

قال حلمي سلام: حضر هذا اللقاء على صبري وكمال الدين حسين وعبد القادر حاتم، وصلاح سالم وفكري أباظة ، ومحمد التابعي وإحسان عبد القدوس وفتحي غانم ويوسف السباعي وكامل الشناوي ومصطفى وعلى أمين ومحمد حسنين هيكل.

الطريف أن المصورين الصحفيين بعد أن بدأوا في التقاط الصور الصحفية طلب منهم عبد الناصر سرعة الانتهاء من التصوير حتى يبدأ حديثه. وبعد خروج المصورين بدأ حديث عبد الناصر إلينا.

قال عبد الناصر: " عاوز بكل صراحة علشان تعرفوا وجهة نظري وأريدكم أيضا أن تتكلموا بكل صراحة كي أعرف وجهة نظركم، وأنا باعتبر أن الصحافة يجب أن تكون رسالة أكثر منها سلعة أو تجارة لأنها إذا أصبحت سلعة أو تجارة ستسير في الطريق الذي تسير فيه التجارة في أي مجتمع من المجتمعات. هذا هو دور الصحافة الحقيقي"

وقال أيضا:" إن الأمر المهم في رأيي أن نحدد طريقنا. نسأل أنفسنا إيه هدفنا؟ ما المجتمع اللحى عاوزين نعيش فيه؟.. المجتمع الذي نريد أن نبنيه؟ هذا المجتمع بالقطع مش مجتمع القاهرة ولا النادي الأهلي ولا نادي الزمالك ولا نادي الجزيرة ولا السهرات بتاع الليل، أبدا مش هوه ده اللي إحنا عاوزينه".

إننا إذا أردنا أن تكون عندنا فعلا صحافة يجب أن تكون في خدمة مجتمعها الأصيل الطبيعي اللي إحنا جينا منه، واللي جاء منه كل واحد فينان هو ده المجتمع الأصلي ومش الذي تكتبون عنه في سهرات الهيلتون، السهر بالليل يمكن لطيف، والحكايات وسيرة الناس مسلية ، كل واحد حر في حياته العادية ولكن هل ده دور الصحافة

سكت حلمي سلام وعاد بعدها ليقول : ذكر عبد الناصر بالتحديد المرحوم كامل الشناوي ، وكنت أتصور وقتها بعد هذا الهجوم القاسي من عبد الناصر عليه أن كامل الشناوي سيختفي إلى الأبد من الساحة الصحفية، وكانت المفاجأة عندما ظهرت التشكيلات الصحفية بعد صدور قرار التنظيم، وعين كامل الشناوي عضوا في مجلس إدارة التحرير التي تصدر جريدة الجمهورية جريدة عبد الناصر،

وكانت المسألة تدعو للدهشة، ولكن تزول الدهشة إذا علمت أن "هيكل" كان يحب كامل الشناوي ويعطف عليه، ومن هنا أن رأى الطريقة المثلى لمداواة الجرح الذي أصابه ، هو تعيينه في هذا المنصب، ومسألة إقناع هيكل لعبد الناصر بذلك لا تحتاج إلى مجهود.

• قلت لحلمي سلام: قرأت للأستاذ مصطفى أمين حكاية نشرها في كتابه " لكل مقال أزمة" تقول إنه كتب في سبتمبر 1950 مقالا عنوانه " البحث عن قائد" وقال له جمال عبد الناصر عقب الثورة إن هذا المقال أثر فيه تأثيرا خطيرا وقرأه أكثر من عشر مرات..

• وراح يعلم بالقلم الرصاص تحت فقرات منه.. وحدث أن عقد الرئيس عبد الناصر اجتماعا عقب تأميم الصحافة لرؤساء تحرير الصحف والمجلات وقال لهم إن مقال " البحث عن قائد" أثر فيه كثيرا قبل قيام الثورة.

قال : أنا لا أتذكر هذا أبدا، ولا أذكر أن عبد الناصر قال شيئا كهذا للأستاذ مصطفى أمين ولك أن تسأل احد الزملاء الذين كانوا حاضرين وما زالوا أحياء فى هذه الواقعة، ربما يكون أحدهم قد سمع ما لم أسمع.. اسأل إحسان عبد القدوس، أو فتحي غانم، أو حتى هيكل.

أما الذي أذكره جيدا وخاصا بالأستاذ مصطفى أمين، أن عبد الناصر قال يومها أنه سيرفع الرقابة عن الصحف، ووقف مصطفى أمين وطلب استمرار الرقابة على الصحف، وكانت وجهة نظره أن وجود الرقيب أدعى إلى الأمان واذكر أن عبد الناصر قال يومها: خلاص طالما أنتم عاوزين الرقابة.. يبقى تفضل.

في حديث عبد الناصر إلينا اذكر قوله إنه أعطى تعليمات للرقيب ألا يقرأ مقالات فكرى أباظة( رئيس تحرير المصور في ذلك الوقت) أو يشطب له حرفا واحدا منها إذا قرأها.. ثم توجه بالسؤال إلى فكرى أباظة قائلا: هل شطب الرقيب لك كلمة يا فكرى؟

في ظني وتقديري أن عبد الناصر كان يتوقع من فكرى أباظة أن يقول له: لا يا ريس لم يشطب الرقيب لي أي شيء ، وكان المفاجأة لنا جميعا أن فكرى أباظة رد على سؤال عبد الناصر بطريقته الساخرة: ياه.. كتير قوى يا ريس ، دنا بأكتب بدل المقال الواحد اثنين وثلاثة عشان السيد الرقيب يوافق على مقالة منها.. ده أنا زى ما أكون بياع لب.

وتغير وجه عبد الناصر وامتقع لونه، وعبر كلمات فكرى أباظة سريعا.. ورغم أنه في بداية حديث عبد الناصر عندما قال: لقد عشنا في المجتمع اللي سبق أن كلكم عشتم فيه وعاصرتموه وعلق فكرى أباظة بصوت مسموع :لا يا أفندم أنا ملحقتوش ..

كنت لسه صغير، لحظتها ضحك الجميع وابتسم عبد الناصر ثم عاد ليقول بعدها وهو ينتقد سلبيات الصحافة: كل واحد انتقد ونرجع مثلا على عشرات السنين أو " خمسات السنين" علشان محدش يفتكر أنى بأكبر سنه.

وربما كان موقف فكرى أباظة من الأشياء التي تسببت في إحداث فجوة بينه وبين عبد الناصر. فإن ما حدث من فكرى أباظة من الأشياء التي ى تروق لعبد الناصر أن تحدث على مرأى ومسمع من الآخرين.. وأذكر أنني قلت ذلك لفكرا أباظة وقتها، ولكن عزله كان سببه سطرا كتبه في مقال وقد فهم من هذا السطر أنه دعوة للاتفاق مع إسرائيل.. ولا أستطيع أن أصور لك حجم الغم الذي أصابني به هذا القرار..

وأذكر أنني في صباح اليوم الذي نشر فيه اعتذار فكرى أباظة عما وقع منه بالصفحة الأولى بالأهرام، كنت موجودا بمحل أصواف بشارع قصر النيل، وتقدم منى صاحب المحل- وكانت لي به معرفة سابقة- وقد أمسك بالأهرام وأشار على اعتذار فكرى أباظة قائلا: هل معقول يا أستاذ حلمي أن يكون فكرى أباظة هو الذي كتب هذا الاعتذار؟ وسألته مندهشا : عاوز تقول إيه؟ وأجابني الرجل بتلقائية شديدة: قصدي أنه مدسوس عليه.

وبعد ذلك بأيام وفى جلسة خاصة مع فكرى أباظة في مكتبه نقلت إليه رأى الرجل في اعتذاره الذي حملته الأهرام لمئات الألوف من القراء، فإذا بفكري أباظة يتنهد من أعماقه قائلا: الله يسامحه هيكل لولا الضغوط التي مارسها على، لما كتبت حرفا واحدا في هذا الاعتذار الذي اعتبره كل أصدقائي سقطة ما كان لي أن أقع فيها.

واعتقادي الخاص أن معنويات فكرى أباظة، وإحساسه الكبير بكيانه المستمد من تاريخه الوطني الطويل قد انهار تماما منذ ذلك اليوم.

• قلت : أقصد هل اشتكى عبد الناصر من أشياء منشوره بالفعل؟ هل طلب منكم أن تحدوا من الكتابة فئ مجالات معينة وأن تكثروا من الكتابة فئ مجالات أخرى؟

قال حلمي سلام: أكد عبد الناصر في هذا الاجتماع" أن الصحافة من حقها بل من واجبها أن تنقده" وقال بصراحة" إحنا مش عاوزين التسييح. النظام كنظام ثابت وقائم ومدعم الأركان تدعيما كاملا، وعلى هذا الأساس فإن واجبكم إذا وجدتم أي وضع غير مستقيم أن تنقدوه، ويجب أن يشعر الناس أن فيه نقد وأن فيه عيون مفتوحة ،

وإلا كل واحد مسئول يبقى متصور نفسه متغطى ولا أحد يراه، امسكوا جميع قطاعات الدولة، إذا كانت فيه حتة خربانة قولوا إن الحتة دى خربانة، لكن متجيش مثلا تقول إن إسكندرية ميتة زى ما حصل في جريدة من الجرايد، طيب إزاى نصحي إسكندرية اللي ماتت؟

طلع بعد كده أن فيه ناس اجتمعوا وعملوا حفلة وطلعوا عشر ستات متصورين، والله إذا كان كده نحط في كل مديرية عشر بنات ونصحي البلد، هل إسكندرية هي الكام بيت اللي بيسهروا بالليل ويروحوا يرقصوا " الروك اند رول" و" تشاتشا شاه" والكلام ده، ولا هي الناس اللي بيروحوا يشتغلوا ويشيلوا على أكتافهم، لازم نشوف مشاكلنا الحقيقية".

وأشار عبد الناصر إلى الانتقاد البناء، وقال " فيه مواضع كثيرة بناءة طلعت على الجمعيات التعاونية، وعلى أزمة المساكن، وعلى الوحدات المجمعة، وعلى الإصلاح الزراعي كلها أظهرت عيوبا وكانت بتعتبر كلها مواضيع بناءة، كمان حاجات كتغير اتقالت على الإدارات الحكومية، وكانت نقد بناء".

ولم يترك عبد الناصر صغيرة ولا كبيرة فئ شئون الصحافة إلا وكان له عليها عتاب أو ملاحظة ، فمثلا كان غاضبا على الموضوعات الصحفية التي تهاجم الفنانين بغير وجه حق.. وقال " الفنانين لهم رسالة زى الصحافة تمام، بالأغنية ، باللحن، بالسينما، بالصورة ، بالتمثال ، نعتبرهم رأس مال كبير جدا ولهم أثر كبير،

وقال كان فيه فكرة إنهم يمنعوا الأغاني والمغنين بتورعنا من التعامل مع محطة لندن ولكن كونك تفتح لندن وتسمع عبد الحليم حافظ وتسمع عبد الوهاب في رايى كسب عظيم.. ولابد أن ندعم الفنانين بحيث نمكنهم من أدار رسالتهم".

تركز غضب عبد الناصر حول الاهتمام المبالغ فيه بالجريمة والجنس والخيانة وقال يومها" المجتمع اللي عاوزين نبنيه مش هو مجتمع الجرائم، يعنى الست اللحى طالبة الطلاق لأن قلب جوزها واجعه كلام لا يجوز، يعنى إيه ده..

يعنى أنا ما أتصورش أن واحدة تطلب الطلاق من جوزها حتى لو قلبه وقف، لكن لما الحكاية تبقى كده" بالوش المكشوف" أنا بعتبر أيضا أنها مش مجتمعنا، لكن لا أتصور أن الجنس يبقى باستمرار موضوع مناقشة أمام الأولاد والبنات يبقى إيه الوضع؟ مستحيل.إيه الفلسفة اللحى وراء هذا؟ والله إذا كانت عميقة يمكن لسه أمامنا مائة سنة عشان نوصل لها".

ابتسم حلمي سلام فجأة وقال : وفى هذا الاجتماع تحدث عن مجلة صباح الخير وعن الرسوم الكاريكاتورية بها، وأشار على غلاف كان قد رسمه الرسام الكبير حجازي وقال " الصورة الكاريكاتورية اللي بتمثل الزوجة على أنها خاينة لأنها حطت تلاتة في الدولاب، ده أيضا مش مجتمعنا أنا معرفش، أنا مش متصور أن في مجتمعنا فيه زوجة بتحط تلات رجالة في الدولاب وعشان كده بتحط لهم تكييف هواء"

ووجه كلامه ناحية الزميل فتحي غانم الذي كان حاضرا الاجتماع بصفته رئيس تحرير صباح الخير.

• قلت : هل تغيرت أوضاع الصحافة كثيرا بعد التأميم عما كانت قبله؟

قال : الغريب أن الصحافة استمرت بعد التأميم تخوض في نفس الأشياء التي أثارها عبد الناصر في لقائه بنا، وكتبت في مجلة الإذاعة وكنت ما زلت رئيسا لتحريرها سلسلة مقالات عنوانها" صحافتنا بعد التنظيم" أقول فيها إن من يقرأ صحافتنا يجد فيها نفس الاهتمامات والتي كانت تستفز مشاعر الناس مثل أخبار الفساتين والموضة والسهرات والطلاق.. و..

• قلت: حتى تلك الفترة كثرت زيارات عبد الناصر للخارج.. هل حدث وسافرت معه؟

قال : مرة واحدة سافرت معه إلى الجزائر عام 1962. سافر عبد الناصر على ظهر الباخرة الحرية ومعه هيكل. أما باقي الصحفيين فقد سافروا بالطائرة وهم مصطفى أمين، إحسان عبد القدوس، أحمد بهاء الدين، لطفي الخولى، وأنا..

وكان الملفت للنظر هو الاستقبال الخرافي من شعب الجزائر لعبد الناصر . هناك أحسسنا أن عبد الناصر هو الزعيم الحقيقي لثورة الجزائر وليس " بن بيللا" لدرجة أن عبد الناصر غير سيارته ثلاث مرات أثناء جولته فقد أعاقت الكتل البشرية سير سيارته..

• قلت: هل اجتمع عبد الناصر بكم هناك في الجزائر؟

قال: عبد الناصر اجتمع بهيكل فقط، ولكن باقي الصحفيين اجتمعوا بزعيم الجزائر بن بيللا ونزل هيكل مع عبد الناصر في قصر الضيافة. وأقمنا في أحد الفنادق.

• كيف ولماذا تركت رئاسة تحرير مجلة الإذاعة؟

قال لي الأستاذ حلمي سلام: في تلك الأيام، لم تكن جسور التفاهم ممتدة بيني وبين د. عبد القادر حاتم الذي كان يشرف على الإذاعة والتليفزيون. وكانت مجلة الإذاعة تتبع كما سبق أن قلت لك وزارة الإرشاد القومي التي يرأسها د. حاتم وأذكر حين أنشىء التليفزيون وبدأ إرساله في يوليو 1960 أن د. حاتم كان حساسا لكل ما ينشر من نقد عن التليفزيون ،

وفى أحد أعداد المجلة نشرنا مقالا مترجما لواحد من أساتذة أمريكا البارزين في شئون التليفزيون عن مخاطر التليفزيون بالنسبة للأطفال عندما يجلسون ساعات طويلة أمام جهاز التليفزيون.. كان المقال علميا..

وفوجئت بعد نشر المقال أن د. حاتم أمر بمصادرة المجلة بسبب هذا المقال، وكانت هناك أعداد من المجلة قد سافرت إلى خارج القاهرة تمهيدا لتوزيعها ،وأمر بنزع صفحات المقال الذي يتناول مخاطر التليفزيون.. للأسف فإن د. حاتم تصور أن المقال هجوم شخصي عليه، وكثر تدخل د. حاتم في شئون مجلة الإذاعة.

وكتبت رسالة إلى الرئيس جمال عبد الناصر شرحت له فيها أسباب اللاتفاهم بيني وبين د. حاتم بالنسبة لمجلة الإذاعة ورجوته في نهاية رسالتي أن يعفيني من رئاسة التحرير، وأن يعيدني إلى بيتي القديم دار الهلال وإلى مجلة المصور.

وأن يعينني عضوا في مجلس الإدارة وكأحد رؤساء تحرير المصور كإشعار للقراء والزملاء الصحفيين أنني لم أنقل من الإذاعة إلى المصور في صورة المغضوب عليه. وللحق والتاريخ فقد استجاب الرئيس عبد الناصر لهذين المطلبين. عدت إلى دار الهلال عضوا بمجلس الإدارة، ورئيس تحرير الأعداد الممتازة للمصور.

وعندما صدر قرار جمال عبد الناصر بهذا فوجئ د. حاتم به تماما.

ألم تكن هناك فرصة لمقابلة عبد الناصر وجها لوجه حتى ذلك الوقت؟

قا ل: نعم، قابلت عبد الناصر ولم تكن هناك فرصة للحوار في مثل تلك الأمور، كان لك عام 1962 عندما حصلت على وسام الاستحقاق من الطبقة الأولى وتسلمته من عبد الناصر في عيد العلم العاشر.

• قلت: من أبلغك بخبر حصولك على ذلك الوسام؟

قال : في البداية أبلغني السيد محمد أحمد السكرتير الخاص لعبد الناصر ثم المرحوم يوسف السباعي الذي كان يشغل السكرتير العام للمجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب.

وأبلغني تليفونيا بذلك قبل يوم واحد فقط من عيد العلم الذي تسلمت فيه الوسام.

الطريف- يا عم رشاد- أن جريدة الأهرام نشرت الأسماء التي حصلت على هذا الوسام وكذلك صورهم فيما عدا اسمي وصورتي. وكان الوسام قد منح إلى كل من إحسان عبد القدوس وأحمد بهاء الدين والسيدة أمينة السعيد ثم حلمي سلام.

وفى يوم الاحتفال الذي جرى في جامعة القاهرة بقاعة الاحتفالات الكبرى صافحنا عبد الناصر واحدا واحدا ثم سلمنا الوسام، قال لي عبد الناصر : مبروك يا حلمي وقلت له.. شكرا يا ريس.

وكتب مصطفى أمين في 15/12/1962 يقول : اليوم ستكرم الدولة الصحافة، فسوف يسلم الرئيس جمال عبد الناصر في الاحتفال بعيد العلم أربعة أوسمة إلى أربعة من الصحفيين المعروفين البارزين تقديرا من الدولة لجهودهم في عالم الصحافة وهم الأساتذة إحسان عبد القدوس وأحمد بهاء الدين وأمينة السعيد وحلمي سلام.

وعرفت حلمي سلام أيام كان يكتب في مجلة اللواء الجديد مقالات من نار عن الجيش في العهد الماضي،وعرفته في عدد من الصحف والمجلات صحفيا جريئا مؤمنا بحق هذا الشعب في الحرية والحياة، ثم عرفته أكثر وهو يكتب فى مجلة الإذاعة ويجاهد بكلمة الحق وهو يعلم أنها لنترضى كل الناس، وقد تغضب كل الناس.

• كان معروفا إنه في تلك الفترة أنشأ عبد الناصر التنظيم الطليعي.. هل انضممت إليه؟

قال : لعلك تندهش إذا قلت لك إنني لم أكن عضوا فئ أي من التنظيمات السياسية التي ظهرت في عصر عبد الناصر مثل هيئة التحرير أو الاتحاد القومي أو الاتحاد الاشتراكي ومع ذلك فوجئت بانتخابي أمينا عاما للجنة الاتحاد الاشتراكي في دار الهلال دون أن أكون عضوا،

أما بالنسبة للتنظيم الطليعي فقد كنت عضوا فيه، في الخلية التي كان يرأسها على صبري وتضم مصطفى المستكاوى رئيس تحرير المساء ود. عبد العزيز السيد وكيل وزارة التربية والتعليم. والسبب ببساطة أنني استمعت لخطبة لعبد الناصر

قال فيها: " إنه لم يكن للاتحاد السوفيتي أي دور في إيقاف عدوان 1965 وإنما أمريكا هي التي لعبت هذا الدور" وعلق راديو لندن على الخطبة وأشاد إلى تناقض وقع عبد الناصر الذي سبق أن أشاد بموقف الاتحاد السوفيتي، ورويت ذلك للمستكاوى وكان معي في التنظيم، وسألته ماذا نقول للقواعد حول هذا التناقض؟

وكان رد المستكاوى غريبا جدا: إن راديو لندن لم يقل هذا، وقلت له.. إنني سمعته بأذني، فقال ولكنى لم أسمعه، واحتددت عليه قائلا: ليس معنى أنك لم تسمع راديو لندن يبقى التعليق لم يذع، وعلا صوتي لأنني شعرت أن الرجل يكذبني في شيء سمعته بأذني وأريد إيضاحا لهذا التناقض ،

وبعد ذلك علمت أنني نقلت إلى خلية كان بها أحمد حمروش وسعد كامل. ولكنى لم أدع إلى أي اجتماع فيها على الإطلاق. وانقطعت صلتي بهذا التنظيم تماما بعد جلستين على وجه التحديد.

• كيف وجدت بيتك- دار الهلال- وقتئذ؟

قال : عندما عدت إلى دار الهلال في عام 1962 كان يرأس مجلس الإدارة المرحوم " على أمين " وكان أيضا رئيسا لتحرير المصور يشاركه في ذلك المنصب المرحوم فكرى أباظة. بعد أن نشر على صفحات الأهرام مقال الاعتذار الشهير.

في نفس تلك الفترة صدر قرار بتعيين الأستاذ أحمد بهاء الدين رئيسا لمجلس إدارة دار الهلال . كان ذلك في أبريل 1964 وكان بهاء قبلها رئيسا لتحرير أخبار اليوم. الغريب أن قرار تعيين أحمد بهاء الدين برئاسة مجلس إدارة دار الهلال بدلا من على أمين صدر بينما كان بهاء يزور الجزائر.

في ذلك كان بهاء كاتبا سياسيا مقروءا ومحللا سياسيا له وزنه الكبير مصريا وعربيا وكان توزيع أخبار اليوم لا يقل عن ربع مليون نسخة كل يوم سبت. بينما الأهرام الذي يكتب فيها هيكل مقاله الأسبوعي بصراحة لم يكن يصل إلى هذا الرقم أبدا. وكان هذا يقلق بال هيكل.

• وماذا كان موقف الأستاذ أحمد بهاء الدين من ذلك القرار؟

- أجابني حلمي سلام: قرأت الاستياء على وجهه فقد كان القرار في ظاهره الترقية وفى باطنه القتل المعنوي.. لأن ما كان يهم الأستاذ بهاء وما يهم أي كاتب مقروء وله ثقل هو عدد قرائه..

- وكان قراء بهاء حوالي المليون قارئ إذا افترضت أن متوسط قراء النسخة الواحدة من أخبار اليوم هو أربعة أفراد بينما كان توزيع مجلة المصور لا يزيد عن 20 ألف نسخة أسبوعي في ذلك الوقت.

وأذكر أن هيكل زار بهاء مرتين فئ دار الهلال مواسيا ومعزيا بهاء. ورغم استياء بهاء إلا أنه أعطى المصور الكثير مما رفع شأنها من توزيعها ولكن لم يصل به إلى توزيع أخبار اليوم الراسخ.

إن أحمد بهاء الدين يتميز بالإخلاص الشديد في عمله.. ولهذا سرعان ما نسى تلك الضربة وقفز بالمصور قفزات واسعة، ولكن بعدها بفترة عهد إليه رئاسة مجلس إدارة روز اليوسف بالإضافة لدار الهلال وكان القرار أيضا في ظاهره الترقية لبهاء ولكن في باطنه تبديد طاقاته وجهوده بين المؤسستين. بالقطع فإن ذلك لم يكن تفكير جمال عبد الناصر بصفته الذي يعين ويختار رؤساء مجالس إدارات ورؤساء تحرير الصحف.

كان لدى عبد الناصر من الهموم والمهام ما يكفى وزيادة.. ومن هنا فإن معظم التغييرات الصحفية التي شهدتها المؤسسات الصحفية في تلك الفترة كان هيكل وراءها.

• هل اكتفى عبد الناصر في شارع الصحافة " بالأهرام" ومن الصحفيين " بهيكل"

وعلى الجانب الآخر كانت تنمو سلطة عبد الحكيم عامر ويتحول إلى ند يسحب عبد الناصر حسابه ويخشى باسه. كان الطفل المدلل- حسب تعبير عبد الناصر لحسن إبراهيم- قد أصبحت له أنياب وأظافر. فإذا كان لعبد الناصر هيكل والأهرام، فليكن للمشير إذن حلمي سلام والجمهورية، والرواية مصدرها منير حافظ".

ولم يكن المشير عبد الحكيم عامر غائبا عن هذه التغيرات- يقصد الصحافة- كان قد فرض حلمي سلام رئيسا لمجلس إدارة دار التحرير ورئيسا لتحرير جريدة الجمهورية في أغسطس 1964 ومنحه دعما ماليا قدره( 350 ألف جنيه) رغم تعليمات عبد الناصر بعدم دفع أية إعانات للمؤسسات الصحفية" والرواية مصدرها الأستاذ أحمد حمروش".

وكان الأستاذ حلمي سلام يصغى لما أقول: وعدت لأقول باختصار .. أين الحقيقة؟

قال: في أحد أيام شهر أبريل 1964، اتصل بى تليفونيا د. عبد القادر حاتم، وطلب منى التوجه لزيارته في مكتبه. وفى نفس اليوم وكنت في مكتبه قال لي د. حاتم : سيادة الريس عاوزك تروح تمسك دار التحرير ؟

تملكتني دهشة مفاجأة وقلت له بحسم: لو أمرني الريس أن أرمى نفسي في النار.. فلن أسأله عن سبب هذا الأمر، أما حينما يتعلق المر بدار التحرير فيمكنني أن أستأذن الريس في أن أقول له إنني لا أستطيع تنفيذ ذلك الأمر.

اندهش د. حاتم من إجابتي وقال لي: يا ساتر أنت شايف أن دار التحرير أفظع من النار؟

فقلت للدكتور حاتم: أنا لا أقول هذا من فراغ.. لأني لست غريبا عن دار التحرير، فقد كنت رئيس تحرير إحدى مجلاتها وهى" التحرير" كما اننى كنت عضوا بمجلس إدارتها عندما كان يرأسه المرحوم صلاح سالم،

وكل ذلك يجعلني أعرف خبايا دار التحرير ونقاط الضعف والانهيار التي تعانى منها . ولهذا فأنا لا أستطيع أن أذهب إلى دار التحرير مهما كانت الظروف أو المغريات، يكفى أن صلاح سالم نفسه فشل في إنقاذها.

أذكر أن د. حاتم ضحك وقال لي: من الطبيعي أن يفشل صلاح سالم لأنه ليس صحفيا. ولكنك صحفي محترف مشهود لك بالكفاءة.

وشكرته على تحيته وقلت : أرجوك تبلغ سيادة الريس ردى بالحرف الواحد، وأنا سعيد في دار الهلال، بيتي الذي عدت إليه بعد غياب ست سنوات فى مجلة الإذاعة؟

وقبل مغادرتي مكتب د. حاتم فاجأني قائلا: على أية حال أرجوك أن تنسى تماما كل ما دار بيننا في هذا الشأن ، وإذا اتصل بك أي شخص من طرف الريس وتحدث معك في نفس الموضوع اعتبر كأنك تسمع هذا الكلام لأول مرة.

في تلك اللحظة بالضبط تأكدت أن د. حاتم ليس مكلفا من قبل الريس بأن يدعوني لتولى مسئولية دار التحرير، ولكن يبدو أنه سمع هذه المعلومة ، فأراد أن يبلغني بها لأطير من الفرح أو هكذا تصور فيصبح هو صاحب فضل على ، فقد كانت متعة د. حاتم أن يكون صاحب فضل على كل صحفي في مصر.

توجهت عقب مقابلتي للدكتور حاتم إلى منزلي. وهناك وجدت إشارة من مكتب نائب رئيس الوزراء أن أتصل به تليفونيا في هذا النمرة فورا، في ذلك الوقت كان هناك أكثر من نائب رئيس وزراء. كان هناك عبد المحسن أبو النور.. عباس رضوان.. الخ.

أدرت قرص التليفون طالبا الرقم الذي أملوه على من المنزل، وقلت أنا فلان.. فقال لي : أنا مدير مكتب السيد عباس رضوان- وكان نائبا لرئيس الوزراء ووزير الحكم المحلى- وهو يريدك أنتأتى إليه.. عباس رضوان صديق قديم لي وإنسان ودود جدا وبسيط جدا،

وكان لفترة مديرا لمكتب المشير عبد الحكيم عامر. المهم قال لي عباس رضوان: سيادة الريس اتصل بى منذ قليل من استراحة برج العرب حيث هو موجود وطلب منى الاتصال بك كي تتولى رئاسة دار التحرير ، وإلى أن تتخذ قرارا في هذا المسألة اعتبر ما قلته لك أمرا في قمة السرية.

دهشت أيضا وقلت له يومها: ما دام الأمر كذلك فاسمح لي بأن أقول لك إنني قادم منذ لحظات من عند د. حاتم وعرض على نفس الشيء.. وأنا أخبرك بهذا حتى تعلم، المسألة معروفة لدى غيري. أتذكر أن عباس رضوان سأل بدهشة : ومن الزى كلف حاتم حتى يتصل بك ويتحدث معك؟

وأجبته: هذه ليست مشكلتي.. وتستطيع أن تسأل د. حاتم عمن كلفه؟ ولكنى أرجوك فعلا أن تساعدني للإفلات من هذا المأزق.

ووعدني الصديق عباس رضوان.. وهو حي يرزق.. بأن ينقل اعتذاري للرئيس جمال عبد الناصر .. ومرت أيام.. ثم أسابيع وحمدت الله تماما أن المسألة نامت وأن الريس صرف النظر عن أمر تعييني.. بعد شهرين بالضبط في يوليو فوجئت بمكالمة تليفونية من العقيد على شفيق السكرتير الخاص للمشير عامر يخبرني فيها بضرورة زيارة المشير في بيته بالحلمية.

وذهبت إلى بيت عبد الحكيم عامر .. الذي استقبلني مرحبا وسألني ضاحكا: أنت لسه خايف من دار التحرير يا حلمي؟ وعاد ليقول لي: سيادة الريس كلفني أنى أبلغك تروح تمسك دار التحرير؟

وعدت أشرح للمشير عامر أسباب تخوفي من دار التحرير ورجوته أن يقنع سيادة الرئيس بالتفكير في أحد غيري.. وفى نهاية المناقشة قال لي: اطمئن يا حلمي، من ناحيتي سأحاول إقناع الريس، ولكن ما أضمنش إني ها أنجح في أقناعه بوجهة نظرك، وأنت عارف أد إيه هو عنيد.. وأنا مسافر له دلوقتى إسكندرية،

وبعد رجوعي كمان يومين سأتصل بك لأخبرك بقرار الريس. وبعد يومين عاد عبد الحكيم عامر ما الإسكندرية واتصل أبى وقال : للأسف يا حلمي.. الريس لم يقبل عذرك.

لحظتها أحسست أن صاعقة وقعت على رأسي، ثم عاد المشير ليقول لي: للريس طلب محدد أن تتخفف الجمهورية من 50% من حجم العمالة بها..

وبالنسبة للديون وهى 360 ألف جنيه فهو سيعطيك 350 ألف جنيه لتسدد بها ديونك وتتصرف من عندك في باقي الديون وهى عشر آلاف جنيه، وتبدأ سليمة مع دار التحرير والجمهورية، وبالنسبة للأسماء التي سوف ترى التخفف منها فإنهم سينقلون إلى المؤسسات الصحفية الأخرى، هكذا قال لي الريس.

وأتذكر أنني أبديت دهشتي للمشير وقلت له: إن التخفف من 505 من حجم العمالة في الدار يعنى حوالي 300 شخص وأن هذا كارثة ولكن غاية ما يمكن هو إعداد كشف بأسماء 30 أو 40 فقط. وطلب عبد الحكيم عامر منى إعداد الكشف بالأسماء المقترحة، لأنه لا يعرف أسماء الصحفيين وبالتالي لا يعرف من ينقل ومن لا ينقل، ومن أستطيع التعاون معه ومن لا أستطيع.

وفى نفس الوقت طلب منى ضرورة إغلاق جريدة السماء وهذا رأى عبد الناصر.. وكانت المساء قد بلغت خسائرها عن عام 1963 وحده حوالي 161 ألف جنيه و460 جنيها، ورفضت وقلت له إن مثل هذا القرار يعتبر كارثة.

وكان رئيس تحريرها في ذلك الوقت مصطفى المستكاوى- وأضفت له: وإذا كان غلق المساء شرطا لذهابي على دار التحرير فأنا لن اذهب.ز وقال لي يومها.. طيب سيب المساء دلوقتى ولتبدأ بإعداد كشف المنقولين.

قال حلمي سلام: أعددت مذكرة أو تقريرا يتضمن الأسماء الصحفية التي تنقل إلى المؤسسات الصحفية الأخرى وكذلك تصوري في شأن إعادة تنظيم مؤسسة دار التحرير والنهوض بجريدة الجمهورية وهذه نسخة التقرير الذي قلت فيه:

"سيدي المشير: قياما بالمسئولية الخطيرة التي حملتموني سيادتكم إياها.. واعتزازا بهذه الثقة الغالية التحى أدعو الله أن يوفقني لأن أثبت لكم أنني أهل لها.. وفى ضوء ذلك الاستعداد الثوري والقلبي الصادق الذي تفضلتم سيادتكم فأيدتموه لتقديم كل أسباب التأييد والمعاونة، وهو الاستعداد الذي كان له الأثر الأول والآخر في إقدامي على قبول هذه المسئولية التي كنت أراها- بغير ذلك التأييد القلبي الصادق الذي أيدتموه لي- أخطر من أن أستطيع قبولها..

وكي يعاد تنظيم العمل في هذه المؤسسة الصحفية الكبيرة على أسس اقتصادية وصحفية سليمة وصحيحة.. تكفل لها النجاة من الأخطار التي تتهددها، ولا يكون بها مجال للشلل ولا للأحزاب ولا لذلك الصراع المدمر الذي لابد أن يتواجد في أي مكان تتواجد فيه الشلل.

أرجو إصدار قراركم بتوزيع الصحفيين المذكورين بالكشف المرفق على المؤسسات الصحفية الموضحة به اعتبارا من أول أغسطس سنة 1964.

على مؤسسة أخبار اليوم: ناصر الدين النشاشيبى ، عبد الحميد سريا، محمود عبد العزيز، وعبد المنعم السويفى. وعلى مؤسسة دار الهلال: سعد الدين وهبة، ومحسن محمد، وحورية جلال، وعبد الفتاح الفيشاوي، ومحمد دوارة. ونفيسة حرك، ونفيسة الصريطى، ,على مؤسسة روز اليوسف : عبد السميع عبد الله، سامي داود، فاروق القاضي، عبد المنعم السباعي، محمود فهمي حسين، وعبد الرحمن شاكر. وإلى وكالة أ-ش-أ الفريد عبد السيد ومحمود محمد سليم ، عبد السلام وفا، إيزيس فهمي، محمد عبد الحافظ فودة، عبد الوهاب غنايم، ميشيل جرجس، أمين عبد المؤمن، الأمير الطوبجى، محمد على رفاعي، سعاد منسي، وخليل طاهر.

أما الذين طلبت نقلهم على الدار القومية للطباعة والنشر وكان يصدر عنها مجلات: الإذاعة ، بناء الوطن، القصة، الثقافة، الرسالة، الكتاب العربي، المسرح، فكانوا : إبراهيم الوردانى، أحمد السعيد والى، عبد الرحمن الشرقاوي، عبد الرحمن الخميسي، سعد مكاوي، عبد العزيز قسطندى، أحمد عباس صالح، نعمان عاشور، رأفت الخياط ، على الدالي، وعبد المنعم عبد العزيز.

وفى نفس الوقت فقد طلب الاستعانة ببعض الصحفيين من المؤسسات الصحفية الأخرى أيضا اعتبارا من أول أغسطس 1964 وهم محمود المراغى، عبد الله إمام، محمد زيدان، وممدوح رضا من روز اليوسف..

وأحمد زكى عبد الحليم من دار الهلال.. ومحمد مصطفى غنيم وكمال عبد الرءوف من أخبار اليوم.. وعبد الوهاب عبد ربه من مجلة الإذاعة. إنني أسست قائمة للصحفيين المطلوب نقلهم من دار الجمهورية إلى المؤسسات الصحفية الأخرى وهى كما ترون في أضيق الحدود على أسس ثلاثة:

• أولا: صحفيون يتزعمون أحزابا وشللا.

• ثانيا صحفيون لا يمكن لأسباب متعددة التعاون معهم.

• ثالثا: صحفيون لا حاجة بالجريدة إليهم، ويمثلون بالنسبة لها- عبئا ماليا باهظا.

وماذا كان تعليق المشير وقتها؟

أجابني حلمي سلام : قال المشير عامر أنا شخصيا موافق عليها، ولكن لابد أن أعرضها على الريس، فقد يكون له رأى آخر غير رأيي ورأيك، وسأعرض القائمة عليه.. وفعلا بعد ثلاثة أيام تقريبا أو أربعة عادت إلى قائمة السماء.. ولكن ليس من مكتب عبد الحكيم عامر بل من مكتب عبد الناصر مباشرة، وافق عبد الناصر على جميع الأسماء التي اقترحتها فيما عدا اسمين فقط لم يوافق على نقلهما وهما المرحوم الأستاذ سامي داود وناصر الدين النشاشيبى.

فقد كان الأول يعمل حينئذ رئيسا لتحرير مجلة " الاشتراكي" التي كانت تصدر عن الاتحاد الاشتراكي وقتها، والثاني كان فلسطينيا ، ومن هنا جاء رفض عبد الناصر لاقتراح نقلهما وبذلك أصبح العدد حوالي 38 بدلا من 40 صحفيا وليس 150 كما صور وادعى البعض.

ولقد رفض ناصر النشاشيبى التعاون معي بعد أن رفعت اسمه من ترويسة جريدة الجمهورية كواحد من رؤساء تحريرها.. إذ كان من بين مطالبي التي تقدمت بها للقيادة السياسية كي أقبل تلك المهمة الصعبة ألا يكون لجريدة الجمهورية أكثر من ريس واحد حتى لا تغرق المركب.

وقد ظل النشاشيبى لأكثر من ثلاثة أشهر يتقاضى من الجمهورية مرتبه( 385 جنيها) دون أن يكتب لها حرفا واحدا، بعدها نجح هيكل بما له من نفوذ أن يعينه مندوبا متجولا للجامعة العربية في أوربا على أن يكون مقره " جنيف" عاصمة سويسرا.

• ما الذي جرى بعد ذلك بالضبط؟

أجابني حلمي سلام: بعد ذلك أعطى عبد الناصر ذلك الكشف على د. حاتم لتنفيذ نقل الصحفيين إلى المؤسسات الصحفية، واجتمع د. حاتم برؤساء مجالس إدارات الصحف: هيكل عن الأهرام.. أحمد بهاء الدين عن دار الهلال.. وخالد محيى الدين عن أخبار اليوم.. وأحمد فؤاد عن روز اليوسف ..

واعتذروا جميعهم عن قبول أي صحفي في مؤسساتهم الصحفية لسببين.. الأول: أن مرتبات هؤلاء المنقولين كانت عالية وهذا سوف يسبب متاعب مالية لهذه المؤسسات وصدامات مع زملائهم بنفس المؤسسة.

المهم عاد الكشف مرة أخرى على عبد الناصر بهذه المبررات من الرفض، كان عبد الناصر مقتنعا في تلك الفترة بأن العلاقات العامة في مؤسسات القطاع العام فاشلة وبالتالي فإن الرأى العام والناس لا تعرف شيئا عن إنجازات القطاع العام، لأن المسئولين عن العلاقات العامة موظفون وليسوا صحفيين.. ومن هنا قال عبد الناصر: إذن ليذهب هؤلاء الصحفيون على العلاقات العامة بالمؤسسات.

ولكن ما حدث أند. حاتم بعد أن أعطى كشف الأسماء إلى السيد على صبري رئيس الوزراء في ذلك الوقت قام بتوزيع الصحفيين توزيعا عشوائيا 100% ولم يراع فيه خبرة ولا أي شيء. باختصار نقل هؤلاء الزملاء إلى أماكن لا علاقة لها مطلقا بالصحافة مثل باتا،والحقيقة أن عبد الناصر نفسه فوجئ بهذا التوزيع العشوائي للصحفيين، وفوجئت به أنا أيضا.

فقد كان الاتفاق منذ البداية أن يذهبوا إلى مؤسسات صحفية وكان ذلك شرطي لتولى مهمة رئاسة دار التحرير، وأذكر أنني ذهبت إلى المشير محتجا على ذلك التوزيع العشوائي، فقال لي تعبيرا وفى غاية الغرابة، يا حامى أنت مش مغسل وضامن جنة، أنت كتبت أمام كل صحفي اسم المؤسسة الصحفية التي يذهب غليها وهنا ينتهي دورك تماما، أين يذهب بعد ذلك هذا لا يعنيك.

•إذا كان المشير عبد الحكيم عامر قد أكد لك في لقائك به أنه لن ينقل صحفيا واحدا إلى جهة غير صحفية، كما سبق أن أكد له ذلك جمال عبد الناصر، وجرى ما جرى وفوجئت بنقل هذه ألسماء الصحفية اللامعة على باتا ومؤسسة الدواجن.. و.. لماذا لم تحتج على هذه المذبحة التي التصقت باسمك؟ لماذا لم تعلن في مؤتمر صحفي حقيقة ما جرى بالضبط ثم تستقيل؟

ابتسم الأستاذ حلمي سلام وقال لي: أولا أنا لست متهورا بطبعي، والإقدام على مثل هذه الاستقالة كان في رايى قمة التهور، فضلا عن أنه ليس من حقي أن احتج على ( صاحب الأمر) لأنه تصرف في أمر يخصه تصرفا مخالفا لما اقترحته عليه، أو لما كان قد وعدني به ونقله لي المشير نفسه.

وحتى لو كنت قد خرجت عن طبيعتي وأقدمت على مثل هذا التصرف وهو الاحتجاج أو الاستقالة من منصبي فإنها لم تكن تغير من الأمر شيئا. ولو كنت تعرف عبد الناصر كما أعرفه منذ عام 1949 لعلمت أنه من رابع المستحيلات أن يقبل من أي كان أن يعامله بمثل هذا الأسلوب حتى لو كان " هيكل" نفسه.

وعندما قدم الصحفي " أحمد حرك" وكان نائبا بمجلس الأمة وقتها سؤالا فئ مجلس الأمة بشأن ما جرى للصحفيين . قال جمال عبد الناصر بالحرف الواحد وهذا ثابت وموجود في مضبطة البرلمان.

" لم يكن أمامنا إلا أن نخفف " الجمهورية" من عدد من العاملين فيها أو أن نغلقها، ولست مستعدا لأن أغلقها لأنها جزء من كرامة الثورة، وحامى سلام ليس مسئولا عن شاء مما حدث . وإنما أنا المسئول".

• وماذا عن موقف نقابة الصحفيين مما جرى؟ وكان النقيب وقتها شيخ الصحفيين الأستاذ حافظ محمود؟

قال : لحسن الحظ فإننى ما زلت احتفظ بمحضر الجمعية العمومية العادية للنقابة والذى انعقد فى يوم الجمعة 19 فبراير 1965. فى هذا المحضر قال النقيب: كان هذا النقل صدمة لا يكفى فيها الأسف ، بل أذهب إلى أبعد من هذا فأقول إن هذا الذى حدث بكل أسف يحتمل التكرار فضلا عن أن إحدى الصحف العزيزة علينا جميعا وهى جريدة المساء كادت تكون معرضة للتوقف.. لقد كانت صدمة علينا لا بسبب الأجور فقط كما قد يتبادر إلى بعض الأذهان و إنما كانت الصدمة هي صدمة التصرف.

وقال خليل طاهر وهو احد المنقولين : أيها الزملاء إن المسئول عن هذه المشكلة هو حلمي سلام.. إنني أطالبكم بتطبيق أحكام القانون 185 وبتطبيق الفقرة الأخيرة من المادة 3 للقانون لسنة 1958 لنقابة الصحفيين وتطبيق المادة 42 من اللائحة الجديدة التي وضعها هذا المجلس بإحالة سلام إلى المحاكمة وشطب اسمه.

وتقدم الأستاذ سامي منصور بالاقتراحات الآتية: الأول شطب اسم حلمي سلام من جدول المشتغلين بنقابة الصحفيين التي يحمل شرف عضويتها، الاقتراح الثاني مطالبة الاتحاد الاشتراكي بتنحية حلمي سلام عن مقعده في أمانة الاتحاد باعتبارها سلطة شعبية لها دور قيادي وتخطيطي للعمل الصحفي بعد أن أثبت بتصرفاته ما يتعارض مع هذه المهنة..

والاقتراح الثالث المطالبة بإصدار قرار بتنحية حلمي من منصبه كرئيس مجلس إدارة مؤسسة دار التحرير. وقوبلت الاقتراحات الثلاثة بالموافقة.

أقول لك هنا. إن هذه الاقتراحات الثلاثة التي قدمها د. سامي منصور أقرب محرري الأهرام إلى قلب هيكل كان وراؤها الأستاذ هيكل والذين يعرفون كيف كانت تسير الأمور في الأهرام في عهد هيكل يدركون أنه فى مثل هذه المعارك مستحيل أن يزج واحد من أسرة تحرير الأهرام بنفسه فيها دون إيحاء من هيكل، أو على الأقل دون مباركته الكاملة لما سوف يقدم عليه.

ولقد تأكد هذا الذي عندي عندما جاء هيكل إلى اجتماع أمانة الصحافة بالاتحاد الاشتراكي "وتتكون من خالد محيى الدين، هيكل، أحمد بهاء الدين، أحمد فؤاد، وأنا" وقال هيكل: إن ما جرى بالأمس في الجمعية العمومية لنقابة الصحفيين بالنسبة للزميل حلمي سلام أمر لا يمكن تجاهله، لأن مثل هذا التجاهل يضع أمانة الصحافة في حرج شديد مع نقابة الصحفيين.

وهنا تساءل خالد محيى الدين – وكان وقتها رئيسا لمؤسسة أخبار اليوم وأمينا للصحافة: وماذا بوسعنا أن نفعل لتفادى هذا الحرج.

فأجابه هيكل قائلا: نرفع أم رما جرى في نقابة الصحفيين على اللجنة التنفيذية العليا للاتحاد الاشتراكي لتقرر في شأنه ما تراه مناسبا.

وعندئذ أمسك خالد بورقة وقلم وقال لهيكل: إذن فلتمليني صيغة الرسالة التي سنرسلها إلى اللجنة التنفيذية العليا.

وأخذ هيكل يملى صيغة الرسالة . وأرسلن فعلا.

• وماذا كان موقفك وقتها بالنسبة للجمهورية؟

قال حلمي سلاك: في هدوء شديد كنت أواصل عملي في دار التحرير وجريدة الجمهورية ، وأنا صامت تماما عما يجرى حولي، كان ما يدور لا يخصني، ويبدو أن هيكل رسم خطته بذكاء على أساس أنني حين أسمع كلامه عن الحرج الذي تواجهه أمانة الصحافة بصفتي عضوا بها، سوف أبادر إنقاذا لها من هذا الحرج بتقديم استقالتي منها، لكنى قررت ألا أستقيل،

وعندئذ لم يكن أمامه إلا اقتراحه برفع الأمر إلى اللجنة التنفيذية العليا التي كان يرأسها جمال عبد الناصر.. والباقي بعد ذلك سهل جدا عليه.. لأنه لن يخرج عن كونه مجرد همسة من همساته في أذن عبد الناصر الذي كان قد منحه ثقته بغير حدود..

المفاجأة يا سيدي أن الرسالة التي رفعتها أمانة الصحافة إلى عبد الناصر لم يحدث لها أي رد فعلى بالنسبة لي، على أسا أن كل ما جرى بالكامل في الجمهورية – جريدة عبد الناصر- تم بعلمه وبموافقته الكاملة ودليلي على ذك أنه رفض نقل اسمين من ألسماء التي قدمتها، وأيضا ما قاله في مجلس الأمة ردا على الصحفي النائب أحمد حرك.

•عدت لأسأل حلمي سلام: وماذا جرى بالنسبة لاقتراحات د. سامي منصور والتي وافقت عليها الجمعية العمومية لنقابة الصحفيين.

قال: بعد الموافقة على هذه الاقتراحات تم رفعها إلى مستشار الرأي بوزارة الإعلام بمجلس الدولة وقتها، حسبما يقضى قانون إنشاء نقابة الصحفيين، وهنا كانت المفاجأة. إذ أن المستشار رفض الاقتراحات جميعها، وأقام رفضه على أساس أنه ليس من الجائز- قانونا- شطب الصحفي من جدول الصحفيين إلا في حالة من اثنين:

أن يكون قد ارتكب من الأعمال ما يخل بشرف المهنة أو أن يكون قد وقع في جريمة خيانة الوطن.. وما هو منسوب لحلمي سلام لا يدخل تحت أنى بند من البندين المذكورين، وعلى ذلك يكون القرار الأول باطلا" أي شطب اسمي من جدول المشتغلين بنقابة الصحفيين" وما ترتب على الباطل فهو باطل.

وبناء عليه بقيت حتى هذه اللحظة عضوا بنقابة الصحفيين بقة القانون، ومن المؤكد أن الكثيرة الساحقة من أعضاء الجمعية العمومية التي كانت قد وافقت على تلك القرارات لا تعلم حتى الآن هذه القرارات قد تم رفضها ، أو ربما يكون عبد الناصر نفسه قد مات وهو معتقد أنني مشطوب من نقابة الصحفيين وخاصة أنه كان بجواره من يهمه بشكل مباشر إخفاء قرار مستشار الرأي عنه.

• ولكن يبقى انك اشتركت بالصمت في أكبر مذبحة صحفية؟

قال : غير صحيح أنها كانت أكبر مذبحة صحفية كما تقول أو يقول البعض. ولماذا لم يطلق هذا الوصف عندما قام الأستاذ عبد الرءوف نافع العضو المنتدب لدار التحرير أيام صلاح سالم الذي كان رئيسا لمجلس إدارتها بفصل 150 صحفيا منها ولم يتكلم أحد.. وكان عبد الرءوف نافع رجلا شريفا ونزيها ومن خيرة الضباط الأحرار..

وحدث أن فوجئ الرجل بأن صلاح سالم يريد ترشيح نفسه لمنصب نقيب الصحفيين، فاستأذن من عبد الناصر في إعادة هؤلاء الصحفيين المفصلين ووافق عبد الناصر.. فقد كان حريصا على أن تظل النقابة تحت سيطرة الثورة.

وأحس عبد الرءوف نافع أن المسألة بهذا الشكل أنه رجل غاوي خراب بيوت لأنه فصل الصحفيين لأن دار التحرير غير قادرة على صرف مرتباتهم.. وأن صلاح سالك أعادهم بكافة المزايا التي كانوا يتمتعون بها.. وقرر الرجل تقديم استقالته من منصبه احتجاجا على هذا الوضع ولزم بيته دون أن ينتظر حتى موافقة عبد الناصر .

كانت تلك الواقعة قبل ذهابي على دار التحرير ولم يتكلم أحد ، وعندما تولى هيكل رئاسة مؤسسة أخبار اليوم إلى جانب الأهرام أوقف حوالي 20 صحفيا ومنعهم من دخول مبنى المؤسسة، وقد روى الأستاذ أحمد حمروش تفاصيل ذلك في أحدث كتبه " خريف عبد الناصر" وقال بالحرف الواحد :" دعيت على مكتب سامي شرف حيث وجدت هناك الزميل حسن فؤاد ،

وعرض علينا سامي قرارا أصدره هيكل بإبعاد عدد من الزملاء عن مؤسسة أخبار اليوم ، في مقدمتهم سعد كامل وصلاح حافظ وآخرون جملتهم 20 صحفيا .. ولما طلب سامي الرأي رفضنا مجرد فكرة قبول إبعاد الصحفيين عن العمل الصحفي، واستجاب سامي لذلك واتصل بعبد الناصر الذي أوقف قرار هيكل الذي كان قد سافر في نفس اليوم على الشرق الأقصى والهند..".

وبعد هيكل أصدر الرئيس السادات قرارا بنقل أكثر من 100 صحفي وكاتب من مختلف المؤسسات الصحفية إلى هيئة الاستعلامات في عام 1973، وكان ذلك قبل الحرب ولم يتكلم أحد.. وكان على رأس المنقولين أسماء لامعة مثل أحمد بهاء الدين، لويس عوض، ونجيب محفوظ، ولم تهتز شعرة واحدة في رأس نقابة الصحفيين التي عملت " ودن من طين وأخرى من عجين" .. وكأن شيئا لم يحدث..

حتى هيكل نفسه.. وكانت العلاقة مع السادات وقتها مثل السمن على العسل.. لم يصنع شيئا لهؤلاء الذين أبعدوا.

• لماذا صار هيكل هكذا ؟ وابتعد الآخرون؟

قال: دعني أذكرك بما رواه ذلك الأستاذ صلاح حافظ في مذكراته التي نشرتها صباح الخير منذ فترة عندما قال له هيكل:" أنا مبدئي أن المنافسة بين الأهرام والأخبار منافسة تصل لحد قطع الرقبة أو منافسة حتى الموت".. إن هيكل على ذكائه وعلى قدراته التي لا يصح أن يختلف عليها اثنان يعتنق مبدأ لا يقبل " الفصال " ولعله مستعد لأن يقاتل حتى الموت دفاعا عنه.. هذا المبدأ هو أن القمة لا يمكن أن تتسع إلا له وحده..

ويذكر الصحفيون في أخبار اليوم في الفترة التي رأس مجلس إدارتها هيكل إلى جانب الأهرام أنه كان يحجب الأخبار الهامة عن صحف أخبار اليوم لتنفرد بها الأهرام، وعندما ناقشوه في ذلك الأمر قال لهم:

إن الموقع الذي احتله الآن كان متاحا ذات يوم لأحمد أبو الفتح.. ولإحسان عبد القدوس.. ولمصطفى أمين.. ولحلمي سلام.. ثم انتهى إلى أخيرا.. وأنا غير مستعد أن يشاركني فيه أحد إلا على جثتي.

أحس هيكل مع بداية ذهابي إلى دار التحرير أنني سوف أستعيد جزءا كبيرا من الأرض التي فقدتها طوال سنوات.. في البداية عندما وقفت على الحياد في أزمة مارس 1954 بين نجيب وعبد الناصر، والتي اندفع فيها هيكل يؤيد عبد الناصر بغير حدود.. و..

كان هيكل يكتب مقاله الأسبوعي" بصراحة " يوم الجمعة.. وكنت أكتب مقالي الأسبوعي في الجمهورية يوم الخميس وعنوانه " حصاد الأسبوع".

أذكر أن الرئيس الأمريكي الأسبق جونسون كان قد أرسل مبعوثا شخصيا لمقابلة عبد الناصر في عام 1965 كان اسمه " فيليب تاليوت" وقبل أن يجتمع بعبد الناصر تقابل مع المرحوم حسن صبري الخولى الممثل الشخصي لعبد الناصر، ودار بينهما حديث طويل بشأن القضية الفلسطينية، فقد كان صبري الخولى مدير مكتب شئون فلسطين وقتها.. وقابلت حسن صبري الخولى، وكان صديقا حميما لي منذ كان يعمل مديرا لمكتب الرقابة وحكى لي تفاصيل ما دار من حوار..

وكتب مقالا في الجمهورية ضمنته الكثير مما قاله حسن صبري الخولى بعنوان " رسالة إلى جونسون" .. وظهر المقال صباح الخميس .. وكان الخولى قد أعد تقريرا عن مقابلته مع مبعوث جونسون رفعه إلى عبد الناصر.. وظهر الخميس اتصل بى الخولى وسألني: شخص ما سألني السابعة صباح اليوم إذا كنت قد أعطيتك نسخة من التقرير الذي رفعته إلى عبد الناصر،

ونفيت له ذلك فعاد يقول لي : ولكن ما كتبه حلمي سلام في الجمهورية يكاد يكون نسخة من التقرير الذي رفعته إلى عبد الناصر وجاءتني نسخة منه.. وقلت لهذا الشخص .. إن ما جرى هو دردشة مع حلمي سلام لا أكثر ولا أقل .

ابتسم حلمي سلاك وقال : بالطبع لم أكن محتاجا أن اعرف أن هذا الشخص هو هيكل.. وأيضا كان ذلك مما يضايق هيكل.

وحدث أيضا أن وصلني ذات يوم تقرير خطير عن سير المعارك في اليمن في مكتب المشير عامر ولأني صديق قديم له فقد أرسله لي.. كانت الصفحة الأولى من التقرير مكتوب عليها "نسخة ثانية " النسخة الأولى أرسلت للرئيس عبد الناصر بالطبع كانت هذه النسخة الأولى أمام هيكل وظهرت مقالتي صباح الخميس وهى تتضمن الكثير من هذا التقرير الذي أعدته المخابرات.

كان معنى ذلك أن أصبح شريكا لهيكل في نشر كل التقارير والدراسات التي تصل إلى مكتب عبد الناصر حيث كانت نسخة أخرى توجد دائما على مكتب المشير. إذن المسألة بالنسبة لهيكل لم تعد تحتمل أكثر.

• ألا يؤكد ذلك الانفراد الصحفي بأنك كنت رجل المشير في دنيا الصحافة؟ ومن ثم كانت كل الأسرار والمعلومات بين متناول أصابعك؟

قا ل: لقد سبق أن قال منير حافظ في روز اليوسف :" إذا كانت لعبد الناصر هيكل والأهرام فليكن للمشير حلمي سلام والجمهورية " هذا غير حقيقي لسبب بسيط جدا أن المشير عامر يوم استدعاني كي يقول لي إن عبد الناصر عايزك تمسك دار التحرير كان في استطاعته أن ينسب هذا الفضل على نفسه لا إلى عبد الناصر .. إنما وهو النائب الأول لرئيس الجمهورية والقائد العام للقوات المسلحة.. و.. لم يجد أدنى غضاضة أن يقول لي: الريس عاوزك تروح تمسك دار التحرير وهذا نفس ما قاله لي.. حاتم ثم عباس رضوان من بعده.

أيضا عندما أعدت كشفا بأسماء الصحفيين المنقولين وقدمته إلى المشير قال لي: أنا موافق على هذه الأسماء ولكن لابد من عرضها على الرئيس فربما كان له رأى آخر، وفعلا اعترض عبد الناصر على نقل سامي داود وناصر النشاشيب.

والأهم من ذلك أنني أعددت مذكرة تتضمن أربعة مطالب لدفع مستوى دار التحرير واتصلت به لتسليمه هذه المذكرة.. وعندما قابلته وقرأ المذكرة قال لي: اتركها لي وسوف أرسلها لك بعد أيام.. كانت المذكرة تتضمن أربعة مطالب هي :

حل مجلس إدارة المؤسسة ومنحى جميع سلطاته.. المطلب الثاني حل وحدات الاتحاد الاشتراكي الأربع الموجودة في المؤسسة ودمجها وحدة واحدة.. المطلب الثالث استعارة عدد من العاملين في دار الهلال للعمل في الجمهورية في مرحلة إنقاذها.المطلب الرابع نقل بعض الضباط الذين كانوا يعملون بالمؤسسة إلى مؤسسات إنتاجية أخرى.

الغريب في الأمر أنه بعد أيام عادت لي صورة فوتوغرافية من هذه المذكرة ولكن من مكتب عبد الناصر.. وأمام كل مطلب كتب عبد الناصر بخط يده ملاحظاته.. أمام المطلب الأول كتب: أوافق ، وأمام المطلب الثاني كتب: مستحيل.. وأمام المطلب الثالث كتب: يتفاهم حلمي مع أحمد بهاء الدين في هذا الموضوع، وخاصة أن بهاء يشكو من ألأوضاع في دار الهلال. بالنسبة للمطلب الرابع كتب: أوافق.

معنى هذا باختصار أن عبد الناصر كانت له الكلمة الأولى والأخيرة في عالم الصحافة.. أما المشير فلم يكن له أدنى اهتمام بالصحافة أو الصحفيين. أكثر من هذا أنه طوال فترة وجودي في دار التحرير لم يتصل بى المشير طالبا نشر خبر عنه أو أنني أجريت حديثا معه..

بالعكس أذكر أن مكتب الصحافة في الاتحاد الاشتراكي وكان يرأسه البكباشي عبد الفتاح أبو الفضل كتبت تنتقد في أحد التقارير اليومية أن الجمهورية لم تنشر خبرا عن المشير أنه عمل كذا وكذا.. بينما الخبر كان منشورا.. يعنى هناك نقد من بعض الجهات أنني أتجاهل نشر أخبار المشير عامر.

• وما حكاية المباحث الجنائية والعسكرية والشرطة العسكرية التي طلبتها كي ترابط في دار التحرير ليل نهار؟

قال : لعل البعض لا يذكر أن نشاط المباحث الجنائية والعسكرية في مجال الحياة العامة بدأ منذ عام 1962 حينما قال عبد الناصر في أحد خطاباته أنه سيوجه المباحث على المجمعات الاستهلاكية ثم تدخلت في مؤسسات القطاع العام مثل المطاحن.. ثم أشرفت على مرفق النقل في عام 1964.

لدرجة أن بعض أعضاء مجلس الأمة اعترض على تدخل الجيش في الأعمال المدنية بحجة إصلاح الفساد في مؤسسات الدولة.

بالنسبة لما حدث في الجمهورية فقد كانت بها أخطاء كثيرة واختلاسات و.. و.. فكتبت للمشير مذكرة بكل هذه الأشياء.. فقام بتحويلها إلى عبد الناصر.. لم يكن المشير يستطيع أن يأمر بتحريك الشرطة العسكرية أو المباحث إلا بعد موافقة عبد الناصر نفسه ..

لأن عبد الناصر أصدر قانون الضبطية القضائية الذي بموجبه تباشر الشرطة العسكرية عملها في المؤسسات المدنية.. وهل نسى البعض أن عبد الناصر نفسه هو الذي أنعم على الشرطة العسكرية الجنائية بوسام الجمهورية تكريما لدورها في ضبط الاختلاسات والفساد في بعض المؤسسات.

• قلت : وهل قرر عبد الناصر فصلك بعد أن نشرت محضرا لجلسة سرية عقدها في مجلس الأمة ودعا إليها عددا محدودا من قادة القوات المسلحة والمحافظين ورؤساء تحرير الصحف يوم 17 مايو 1965 ودخل ذلك فى دائرة الصراع الخفي بين الرئيس والمشير.. ( حسبما تقول رواية أحمد حمروش في كتابه مجتمع عبد الناصر) .

أما لأنك نشرت نص ما جرى في تلك الجلسة لأن التوجيهات كانت تأتى إليك من مكان آخر غير رئاسة الدولة.. بل من الرئاسة الثانية مكتب المشير عامر، وهذا ما جعل عبد الناصر يقول " قريت الكلام.. لقيته ناقل محضر الجلسة بالكامل وفيه أخطاء كثيرة في النقل، والجرايد التانية ما فيهاش حاجة.. لسه طبعا مستنية التعليمات.. رفعت السماعة وطلبت حاتم، وقلت له: قول لحلمي سلام يقعد في بيته".

حسبما تقول رواية منير حافظ الرجل الثاني بعد سامي شرف في مكتب معلومات [[عبد الناصر[[.

قال حلمي سلام: كان ذلك يوم الأحد 16 مايو عام 1965.. وكان أنور السادات هو رئيس مجلس الأمة وقتها وقد دعا ضمن الذين دعاهم لحضور لا هذه الجلسة السرية لمجلس الأمة القيادات الصحفية في ذلك الوقت وهم :

هيكل " الأهرام" خالد محيى الدين" أخبار اليوم" أحمد بهاء الدين" دار الهلال" أحمد فؤاد " روز اليوسف " وحلمي سلام" دار التحرير".

كان المفروض أن يتحدث عبد الناصر ساعتين، فتحدث حوالي خمس ساعات كاملة.. كان متعبا وحزينا.. فمصر على أبواب أزمة اقتصادية.. أمريكا تحاول الضغط على مصر.. و.. وقواتنا في اليمن تواجه موقفا صعبا.

قال لنا عبد الناصر: " لقد دعوتكم على هذه الجلسة التي أردتها سرية لتكونوا على بينة بما يجرى حولنا من أمور، ولتكونوا أيضا على معرفة بحقيقة المؤامرات التي تدبر لنا، وبحقيقة الأرض التي نقف عليها وما سوف أقوله في هذه الجلسة ليس كله للنشر، لكن ما ينشر منه متروك لتقديركم الخاص- كان عبد الناصر لحظتها ينظر ناحية القيادات الصحفية- وواجب الجميع هنا أن يواصلوا ما سوف أقوله إلى قواعدهم".

هذا ما قاله عبد الناصر في بداية الجلسة السرية.. ثم قال عبد الناصر أشياء خطيرة بالفعل.. عقب انتهاء الاجتماع توجهت إلى الجريدة وكتبت تقريرا – في إطار تقديري الشخصي لما ينشر وما لا ينشر من حديث الريس- وأشرت على أشياء كان تقديري أنه يجب على القواعد أي القراء أن يحاطوا علما بها.. واستبعدت أشياء.

في اليوم التالي 17 مايو عقد اجتماع آخر كان مخصصا للإجابة عن أسئلة أعضاء مجلس الأمة.. ولم أحضر تلك الجلسة- للأسف الشديد- ففي نهايتها عاد عبد الناصر وقرر بألا ينشر شيء عما دار في الجلستين إلا ما سوف يذيعه رئيس مجلس الأمة وهو أنور السادات،

وأصدر مكتب الصحافة تعليمات على كل الصحف بحظر نشر ما دار في الجلستين .. هذه التعليمات أخفيت عنى تماما في الجمهورية. ولم أعلم بصدورها ، وبالتالي اعتبرت أن قرار عبد الناصر هو النشر في حدود التقدير الشخصي.

كان هناك هاجس يسيطر على أن شيئا ما حدث في تلك الجلسة الثانية.. اتصلت بمكتب المشير عامر فقيل لي غير موجود.. اتصلت بمنزله قالوا لي إنه بمنزل عبد الناصر.. اتصلت بمحمود فهيم سكرتير عبد الناصر وأبلغته بضرورة الاتصال بالمشير فقال لي.. مستحيل الآن لأنه في اجتماع مع الرئيس فأبلغت الرجل بأن يبلغ المشير أنني أريده في أمرها لا يحتمل التأجيل.

وظلت منتظرا بمكتبي حتى الساعة الواحدة صباحا.. ووصلت على ساعة الصفر.. إما أن نطبع الجريدة الآن حتى تصدر في موعدها أو لا تصدر في الغد بالمرة .. وتوكلت على الله وأمرت بالطبع.. وكان التقرير الذي كتبته عما دار في جلسة أمس الأول يغطى مساحة خمسة صفحات وكانت عناوينه الرئيسية تقول: عبد الناصر ماذا قال لمجلس الأمة؟

• الرئيس يستعرض في صراحة كل التحديات التي تواجهنا في الداخل والخارج.

• أمريكا تضغط عن طريق القمح ولكننا سنستغني عن القمح الأمريكي ونعتمد على أنفسنا.

• الثورات والانفجارات في ليبيا وعدن والبحرين تحركها العناصر الثورية في هذه البلاد.

• العمل السياسي وحده هو القادر على حل جميع المتناقضات. تناول عبد الناصر أيضا-

• وكان من بين ما نشرته- الجوانب الايجابية والسلبية في تجربتنا الثورية، والقطاع العم وطرح الرئيس فكرة للبحث تقول: هل تتكون مجموعة للمعارضة داخل مجلس الأمة.. وقال إن العمل السياسي وحده هو الذي يحل جميع المتناقضات. • في حوالي الثامنة والنصف صباحا.. وبينما أنا مستعد للتوجه إلى الجريدة رن جرس التليفون.. كان المتحدث هو د. حاتم نائب رئيس الوزراء ووزير الإعلام ، وقال لي بالحرف الواحد: سيادة الرئيس بيطلب منك أن تعتبر نفسك في أجازة مفتوحة ابتداء من اليوم.. وسوف يتولى رئاسة مؤسسة دار التحرير بدلا منك الأستاذ مصطفى بهجت بدوى.

صعقت وسألته: لماذا يا دكتور حاتم؟

جملة واحدة حاسمة كانت رده.. أنت عارف أن سيادة الرئيس مش بيقول عادة ليه.

أعدت تقليب صفحات الجمهورية لعلني أجد سببا واحدا يفسر لي ذلك القرار فلم أجد.. اتصلت بالمشير عامر في منزله.. كان لا يزال نائما وكنت أعرف أن من عاداته أنه لا يستيقظ إلا مع الظهر.. اتصلت بمكتبه ورد على شمس بدران مدير مكتبه،

ورويت له تليفون حاتم وطبت منه إبلاغ ذلك للمشير ثم يقول لي أسباب قرار عبد الناصر.. وقال لي شمس بدران : هل حضرت الجلسة السرية الثانية التي عقدها الرئيس ؟ فقلل: لا .. فقال.. في هذه الجلسة عاد عبد الناصر وألغى موافقة النشر على كل ما قاله.. وأن هناك تعليمات صدرت للصحف بذلك فعلا.. ألم تصلك هذه التعليمات؟

قلت له: لم يصلني أية تعليمات.. وأتحدى أي مسئول في الدولة أن يثبت أنه كلمني بشأن عدم النشر..

وقال الرجل: إذن اكتب مذكرة توضح فيها موقفك.. وأرسلها لي وسأتوجه بها " لمقابلة الريس" ليزول سوء فه الذي حدث.. لاحظ أنه قال الريس ولم يقل المشير عبد الحكيم عامر.

كتبت مذكرة فعلا وتسلمها شمس بدران.. وبعد حوالي ساعتين اتصل بى قائلا: شوف يا عم حلمي هناك شخص أيقظ عبد الناصر في حوالي الخامسة فجرا وأخبره أنك نشرت تفاصيل الجلسة بالكامل..

وأن وكالات الأنباء ترسل بتلك المعلومات إلى صحفها في الخارج.. فهل نصادر الجمهورية أم ماذا نفعل؟ وقال عبد الناصر للشخص: نسيب كل حاجة ماشية وبلغوا حلمي سلام إنه يقعد في البيت.

أما الآن فالريس قد قرأ مذكرتك وفهم كل شيء وبيقول لك: هاردلك.. وكل شيء بيتصلح .. ثم نصحني شمس بدران بأن أظل في بيتي حتى لا أدع لأحد الفرصة يقول على لساني كلاما يزيد من غضب الرئيس.

ولعله مما يضع أمامك ألف علامة استفهام وتعجب أن تعلم أن "هيكل" اتصل بى تليفونيا في نفس اليوم مواسيا ومشجعا، فإذا علمت أنه على مدى عشرين سنة كاملة من الزمالة مع هيكل حدثت لي خلالها أحداث كثيرة مفرحة ومحزنة دون أن يفكر مرة في الاتصال بى مهنئا أو معزيا.. إذا علمت ذلك كان لك أن تتوقف وتسأل:

ماذا كان يقصد هيكل من وراء هذا الاتصال؟ وماذا كان يريد أن يقول.. كان يريد أن يقول أنا هنا. وأنا الآن أتساءل هل كان الشخص الذي أيقظ عبد الناصر في الساعة الخامسة فجرا وأبلغه بما نشر هو د. حاتم أم كان "هيكل" أنا شخصيا أستبعد تمام أن يكون حاتم لأنه لا يستطيع إيقاظ عبد الناصر في مثل تلك الساعة.. أما هيكل فقد كان يستطيع أن يكلمه في أي وقت يشاء وأن يقابله حتى موعد مسبق..

وفى تلك الأيام كان هناك صراع على القمة بين الرجلين.. وفى الحقيقة أن الصراع كان بين رجال الصف الثاني: سامي شرف.. محمد فوزي .. على صبري وآخرون .. وأحسست أنني دخلت شوارع الصراع خطأ وغصب عنى.. فالتزمت الصمت

وكان بجوار عبد الناصر من يحاول إقناعه دائما بأن المشير ورجاله تحولوا إلى مركز قوة ضخم..وإنني رجل المشير في الصحافة.. وهكذا. • قلت: ألم يحدث وقابلت عبد الناصر أبدا بعد ذلك؟ قال : لا .. ولكن بعد ذلك بأربع سنوات – في عام 1969.. مرضت ابنتي نادية وكانت طالبة بكلية الاقتصاد مرضا خطيرا.. صرفت عليها ما أملك.. وصار لدى المستشفى ديونا على قدرها ثلاثة آلاف جنيه.. ولم أكن أملك منها مليما واحدا.. وكان من المستحيل خروج ابنتي من المستشفى قبل تسديد هذا الدين..

فجأة خطر ببالي أن أكتب خطابا لعبد الناصر أشرح له عذابي وحيرتي.. وكتبت الخطاب وسلمته على سامي شرف مدير مكتبه ورويت له ما بداخله وضرورة أن يطلع عليه الرئيس بسرعة.. وعدت على منزلي .. وعند الظهر تقريبا اتصل بى تليفونيا سامي شرف وقال :

الريس قرأ جوابك ويتمنى لنادية الشفاء.ز وأنه أمر بأن تتحمل رئاسة الجمهورية كل نفقات العلاج والإقامة في المستشفى وأن قرارا بهذا صدر وتم إرساله فعلا إلى مدير المستشفى.

ردود على حلمي سلام

على مدى ثمانية أسابيع نشرت ذكريات " حلمي سلام" في مجلة صباح الخير خريف عام 1985 ثم تلقت المجلة ردودا وإيضاحات في غاية الأهمية.

لم يتوان الأستاذ الكبير " لويس جريس" رئيس التحرير في نشرها كاملة وأفرد لها صفحات وصفحات. وفيما يتعلق يلي جميع الردود والتعليقات التي أثارتها ذكريات حلمي سلام.

ممدوح رضا: أبلغني المشير عامر بقرار تعييني

كتب ممدوح رضا رئيس مجلس إدارة دار التعاون.

الأخ الزميل لويس جرجس.

اطلعت في العدد الماضي من صباح الخير على ذكريات للأستاذ حلمي سلام، تضمنت معلومات ، لي عليها تعليقات وتحفظات كثيرة.

كذلك، فقد تضمنت هذه الذكريات، واقعة عرفتها من " صباح الخير" لأول مرة، وهى: أنه رشحني للعمل في الجمهورية مع غيري من الزملاء ، في نفس المذكرة التي رشح فيها زملاء آخرين من الكتاب والصحفيين للنقل من الجمهورية إلى مؤسسات أخرى. وأود أن أوضح تعليقا على ما ذكره الأستاذ سلام ،

أنه عندما تقرر تعييني في الجمهورية- قبل ما يزيد على العشرين عاما- كنت أتولى رئاسة الشئون السياسية بروز اليوسف بالإضافة على عضويتي بمجلس إدارة المؤسسة- كما كنت عضوا بلجنة الاتحاد الاشتراكي لمنطقة قصر النيل ومسئولا عن المنطقة في لجنة محافظة القاهرة.

وبسبب هذه المسئوليات ، لم يكن في استطاعتي أو في استطاعة الأستاذ المطالبة بنقلي من روز اليوسف وبالتالي من منطقة قصر النيل، للعمل في الجمهورية أو أي جريدة أخرى.

وقد تم تعييني في الجمهورية، مديرا لتحريرها، ثم رئيسا لتحرير العدد الأسبوعي- في نفس العام- بقرار من الرئيس جمال عبد الناصر ، أبلغني به المغفور له المشير عبد الحكيم عامر- وذلك بسبب الفراغ الضخم الذي أحدثه نقل مجموعة من أكبر وأهم كتاب وصحفيي الجمهورية في ذلك الوقت ، إلى مؤسسات غير صحفية.

ويشهد بصحة ذلك ملف عملي، وكل من السيد الدكتور عبد القادر حاتم والمهندس حسن عامر.

والأمر الآخر الذي أود أن أوضحه أنني لم أعرف الأستاذ عن قرب .. وبالتالي لم أعمل معه، إلا عند تعييني في الجمهورية، وقد انتهت علاقاتنا بإنهاء عمل سيادته بالجمهورية.

رجاء نشر هذا الإيضاح ، على أن تسمح ظروف العمل . بالرد على بعض ما تضمنته هذه الذكريات.

حلمي سلام: أنا الذي رشحت ممدوح رضا للجمهورية.

وكتب حلمي سلام يرد على ممدوح رضا يقول :

قرأت ما كتبه ممدوح رضا، في العدد الماضي من " صباح الخير" تعليقا على وجود اسمه بين أسماء الزملاء الصحفيين الذين كنت قد رشحتهم للعمل معي في جريدة (الجمهورية) نقلا من المؤسسات الصحفية الأخرى، ولى على ذلك التعليق والملاحظات التالية التي أرجو أن تأذن بنشرها:

• أولا : ثابت من " الوثيقة الرسمية" التي نشرت ( صباح الخير) بضعة من سطورها ، إنني أنا الذي رشحت الأستاذ رضا للنقل إلى (الجمهورية) .. وقد تم نقله إليها بناء على هذا الترشيح. ولم يتم – تأكيدا- بناء أي ( قرار فوقى) .

• وقد رشحت رضا للنقل إلى (الجمهورية) ليكون( مخبرا سياسيا) لها. إذا كان هذا( العنصر الصحفي) واحدا من العناصر التي كانت الجريدة تفتقدها.

• ثانيا : لم اعلم ، قبل اليوم، أن تعيين مديري التحرير في الصحف والمجلات.. وكذلك رؤساء تحرير الأعداد الأسبوعية من الصحف اليومية، كان يتم بقرارات يصدرها عبد الناصر، فلقد كان هذا- وأعتقد أنه ما يزال- أمرا من اختصاص وسلطات رؤساء مجالس إدارات الصحف وحدهم..

• وإذا كان الأستاذ رضا قد صدر له- استثناء من كل الصحفيين.. في كل المؤسسات الصحفية- قرار من عبد الناصر بأن يكون مديرا لتحرير (الجمهورية) اليومية، وقرار آخر بأن يكون رئيسا لتحرير العدد الأسبوعي منها، فإنني سوف أكون أسعد الناس بأن أرى صورة من اى هذين القرارين الذين لابد أن يكون محتفظا بهما. منشورة على صفحات ( صباح الخير) فذلك يتيح لي أن أعلم شيئا لم يتح لي من قبل، أن أعلمه.

• ثالثا: عن نفسي – كرئيس لمجلس غدارة المؤسسة- فإنني لم أصدر قرارا بتعيينه مديرا لتحرير (الجمهورية) اليومية ، فلقد كان لها مدير تحريرها الذي احتفظت به من بين زملاء أربعة كانوا يشغلون هذه الوظيفة،

• قبل أن أتولى رئاسة المؤسسة ، وهو الأستاذ عبد العزيز عبد الله الذي ظل يقوم بمسئولية هذا العمل.. منذ اللحظة التي ذهبت فيها إلى (الجمهورية) .. حتى اللحظة التي تركتها فيها.

• رابعا: أستطيع أن أؤكد إنني – بوصفي رئيسا لمجلس إدارة المؤسسة- لم أصدر قرارا بتعيينه رئيسا لتحرير العدد الأسبوعي من ( الجمهورية ) فلم يكن مما أسيغه من نفسي.. ولا مما يسيغه منى انضباط العمل نفسه.. أن اصدر قرارا كهذا في وجود كتاب وصحفيين أكفاء مثل : يوسف إدريس.. و[محمد عودة]].. ومحمد محبوب.. وفيليب جلاب.. وسامي داود. ومحمد العزبى. وإبراهيم نور الذي كان أحد رؤساء تحرير العدد اليومي الذين أعفوا من مسئولياتهم كرؤساء للتحرير بمقتضى صدور قرار عبد الناصر بتعييني رئيسا لمجلس إدارة المؤسسة، ورئيسا لتحرير الجمهورية،

• هذا فضلا عن أنني كنت محتفظا لنفسي- وبالكامل- بكل مسئوليات رئيس التحرير للعددين اليومي والأسبوعي. وما كان ممكنا- في ظل تلك الظروف غير الطبيعية التي كانت تحيط بى في الجمهورية .. والتي بسببها طلبت من الرئيس عبد الناصر ، بعد فترة من العمل، حل مجلس إدارة المؤسسة ومنحى جميع سلطاته، وقد أجابني الرئيس الراحل إلى طلبي..

• أقول إنه ما كان ممكنا، في ظل تلك الظروف، أن أتنازل عن شيء من مسئولياتي لأحد مهما بلغت درجة معرفتي به، فما بلك بالأستاذ رضا الذي بدا حريصا في تعليقه الذي بعث به إليكم، على أن يؤكد أنه لم تكن له معرفة بى قبل أن يأتي إلى (الجمهورية) ..وإنه لم تعد له معرفة بى بعد أن تركها.. وهذه حقيقة : فعلا لم أكن أعرفه قبل ( الجمهورية ) ..ولم أعد أعرفه بعدها.

ميشيل جرجس: إسرار مذبحة الصحفيين

انتشرت الشائعات داخل دار التحرير وخارجها عن بعض الأسماء المرشحة لمنصب رئيس مجلس الإدارة إلى أن وصل ذكر حلمي سلام بين المرشحين.

وفى جلسة مع بعض الزملاء في الجريدة ذكر اسم حلمي سلام عدة مرات . فطلب احد الزملاء منى الاتصال تليفونيا للتأكد من الخبر، وفعلا اتصلت به تليفونيا وكانت المكالمة على النحو الآتي:

قلت : فيه خبر أنك ستعين رئيس مجلس الإدارة.

حلمي سلام : هذا المنصب يطاردني من عام..

قلت : أنا سمعته الآن فقط.

قلت: المنصب كبير عليك..

فأنهى حلمي المكالمة.

وبعد أيام صدر قرار من الرئيس جمال عبد الناصر بتعيين حلمي سلام رئيس مجلس إدارة دار التحرير ، وكان في ذاك الوقت في المصيف ببور سعيد، وذات مساء اتصلت بى السكرتيرة وطلبت منى الحضور لمقابلة حلمي سلام فاعتذرت على أن تكون المقابلة صباح اليوم التالي،

وفى اليوم التالي توجهت إلى مكتبه فوجدته واضعا صورة المشير عامر فوق رأسه والرئيس الراحل على الحائط المقابل لمكتبه فاندهشت إلا أنني تذكرت كلمى أحد الزملاء عندما صدر قرار تعيينه بأن قال لي: إن حلمي سلام يريد أن تكون الجمهورية خاصة بالجيش.

وفى هذه المقابلة قال حلمي سلام ، أنا عايزك تكتب لي تقريرا عن كل صحفي في المؤسسة باعتبارك أمين اللجنة الآن.

قلت: آسف لم أكتب تقارير لأحد في حياتي.

قال: إذن أنت غير متجاوب.

قلت : إذا كان الامتناع عن كتابة التقارير في نظرك يعنى عدم تجاوب فأنا أرحب بذلك وانصرفت من مكتبه.

وبعد أيام بدأت الشائعات حول نقل بعض الصحفيين والكتاب من الجمهورية إلى أعمال غير صحفية.. وخلال هذه الأيام كانت الاتصالات مستمرة بين موسى صبري ومحمد على بشير لترشيح هذه الأسماء للتخلص من العناصر الجريئة التي تقاوم الفساد في المؤسسة.

وهنا برزت المصالح المشتركة.. حلمي سلام يريد التخلص من هذه العناصر عن طريق قرارات من رئيس الوزراء على صبى، ومحمد على بشير على اتصال برئيس الوزراء ويريد أن يحصل على منصب، وفعلا صدر قرار من حلمي سلام بتعيين محمد بشير مديرا عاما للمؤسسة بعد أن كان مديرا عاما لشركة الإعلانات المصرية التابعة للمؤسسة.. وخاصة بعد إعلان عن انتخابات لمجلس إدارة المؤسسة.

ومن هذا الموقع .. طلب محمد على بشير مقابلتي خاصة، وفى هذه المقابلة طلب منى باعتباري أمينا للجنة إبلاغ المرشحين لمجلس الإدارة أن المجلس الجديد سيعين ولن تجرى انتخابات إلا داخل الشركات التابعة للمؤسسة، وأنه سيعمل على تعيين عضوا في مجلس الإدارة الجديد لدار الجمهورية للصحافة بشرط إعلان انسحابي من الانتخابات فرفضت .

وبعد أيام قليلة صدر قرار من حلمي سلام بتعيين محمد على بشير عضوا منتدبا للمؤسسة تمهيدا لتنفيذ المذبحة، وقد جاء على لسان حلمي سلام في حديثه بأنه كتب قائمة بأسماء الصحفيين المطلوب نقلهم من دار الجمهورية إلى المؤسسات الصحفية الأخرى في أضيق الحدود على أسس ثلاثة هي:

• أولا: صحفيون يتزعمون أحزابا وشللا.

• ثانيا : صحفيون لا يمكن لأسباب متعددة التعاون معهم.

• ثالثا: صحفيون لا حاجة للجريدة إليهم ويمثلون بالنسبة لها عبئا ماليا باهظا.

والحقيقة تخالف هذه المعلومات هو رشح هذه الأسماء لأنه يخشى كفاءة البعض، وعدم التعاون مع أسماء معينة تعمل على مقاومة الفساد كما أن أغلب هؤلاء الصحفيين عينوا في دار الجمهورية بعد إغلاق صحف القاهرة والشعب والمصري، ولا ذنب لهم في هذه التصرفات، أما الأعباء المالية فقد كانت بسبب التغييرات المستمرة لرؤساء مجالس الإدارات وكل رئيس يعين شلة خاصة به.

وكان اهتمام حلمي سلام بعد تعيينه ينحصر في نقاط هامة هي : صورة المشير في حجرته وسيارة من المؤسسة تسير خلف سيارته من منزله إلى المؤسسة حتى داخل الفناء المقابل للمصعد، وجرس خاص لنزول المصعد بمجرد وصوله وتعين بعض الصحفيين من الإذاعة،

ومنهم عبد الوهاب عبد ربه ورشيد الليثى المدرس الذي كان يعطى أولاده الدروس الخصوصية، والأهم من هذا كله شطب أسماء رؤساء التحرير من الترويسة ووضع اسمه وحده على الجريدة ونقل الصحفيين خارج الجمهورية.

والمعروف أن الجريمة تتم على ثلاث مراحل: المرحلة الأولى التفكير .. والثانية التدبير، والثالثة التنفيذ، فالتفكير في ذهن حلمي سلام والتدبير كان بالمشاركة مع محمد على بشير لترشيح الأسماء المطلوب نقلها، والتنفيذ كان بواسطة محمد على بشير العضو المنتدب بقرارات من رئيس الوزراء على صبري.

فقد بدأت الفكرة بعقد عدة اجتماعات في مكتب شمس بدران لاستعراض الموقف في جريدة الجمهورية حول العناصر التي لا يستطيع حلمي سلام التعاون معها، وخلال هذه الاجتماعات أعلن حلمي سلام صراحة أنه يطلب إبعاد بعض الصحفيين الكتاب من جريدة الجمهورية بأي ثمن،

فبحث الموضوع على أساس توزيعهم على المؤسسات الصحفية الأخرى فاعتذر رؤساء مجلس إدارات الصحف. ثم عرض الموضوع على رئيس الوزراء على صبري فاقترح تعيينهم كمديرين للعلاقات العامة بالمؤسسات والشركات التابعة لهم، وتمت المذبحة الأولى في سبتمبر 1964 بخطابات إلى الصحفيين والكتاب موقعا عليها من محمد بشير باعتباره عضوا منتدبا للمؤسسة وبالاتفاق مع حلمي سلام الذي خشي التوقيع على هذه الخطابات .

وبعد عدة أشهر تمت المذبحة الثانية في مارس 1965 باستبعاد العناصر التي كانت تنتقد هذا الأسلوب، وخشية أن يواجه حلمي سلام بمتاعب أخرى، فقد استخدم أسلوب الإرهاب بأن طلب بعض وحدات الشرطة العسكرية من البوليس الحربي بملابسهم الرسمية داخل المؤسسة للإرهاب ،وقد تمت عمليات إرهاب واعتقالات لبعض الزملاء.

وخلال هذه العمليات ، قمنا بنشاط مكثف ضد حلمي سلام مع المسئولين في الدولة ولجأنا إلى القضاء ، على أن اكتشف الرئيس الراحل جمال عبد الناصر ضعف حلمي سلام في المؤسسة من جميع النواحي وخاصة العمل الصحفي لأنه لم يسبق له العمل في الصحف اليومية على الإطلاق وكل خبراته وخاصة العمل الصحفي لأنه لم يسبق له العمل في الصحف اليومية على الإطلاق وكل خبراته الكتابة في مجلة المصور ومجلة الإذاعة،

وعلى اثر ذلك بدأ التفكير في دعم الناحية الفنية الصحفية لعلاج هذه المشكلة في جريدة الجمهورية، غير أن هذا التعيين صادف عقبة وهى أن الزميل ممدوح رضا كان عضوا في مجلس إدارة مؤسسة روز اليوسف في ذاك الوقت ويتطلب الأمر من القيادة السياسية صدور قرار بنقله إلى الجمهورية وفعلا صدر هذا القرار.

وكان حلمي سلام لا يحضر إلى مكتبه في المؤسسة سوى ساعة واحدة فقط في النهار، وفى المساء يتصل تليفونيا من منزله لمعرفة المانشيت قبل الطبع. ولجأت إلى القضاء .. بعد أن امتنع مكتب العمل عن إرسال التحقيق إلى القضاء لنظر الدعوى- وكان وزير العمل في ذلك الوقت قد طلب التحقيق به في مكتبه إلا أن القضاء في أول جلسة للقضية أمر بضم هذا التحقيق على القضية وفعلا نفذ قرار المحكمة بإرسال التحقيق من مكتب الوزير للمحكمة..

ومع الأسف الشديد.. توجه الزملاء إلى عملهم الجديد في المؤسسات والشركات ما عدا خمسة كنت واحدا منهم وقد فصلت من العمل الجديد بعد 15 يوما، وصممت على الاستمرار في الدعوى ضد العدوان على القانون وتنظيم الصحافة وفى الوقت نفسه قمنا بجمع توقيعات من الصحفيين في جميع المؤسسات الصحفية لعقد جمعية عمومية غير عادية لمناقشة هذه المذبحة،

وقد اجتمعت الجمعية العمومية في أول اجتماع بعدد كبير لم يسبق له مثيل وبعد المناقشة قررت فصل حلى سلام من عضوية النقابة وأبلغ الرئيس الراحل جمال عبد الناصر بهذا القرار في أسوان.

وقصة إغلاق جريدة المساء.. هي في الحقيقة أنه حدث أن وقع حلمي سلام منشورا تم توزيعه داخل المؤسسة يفيد أن الدكتور محمد عبد القادر حاتم قرر إغلاق جريدة المساء، وعلى أثر هذا أرسل عدد كبير من الصحفيين العاملين بجريدة المساء برقيات على الدكتور حاتم احتجاجا على هذا القرار.

وبعد أيام من هذه الواقعة، أعلن عن انعقاد هيئة برلمانية برئاسة الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، وقبل انعقاد الهيئة بأيام قدم بعض النواب عدة أسئلة للرئيس الراحل للإجابة عنها، وكان بين هؤلاء النواب الزميل حرك الصحفي بالجمهورية، ويتلخص السؤال عن أسباب نقل الصحفيين وإغلاق جريدة المساء.

وقد تحدث الرئيس الراحل جمال عبد الناصر أمام الهيئة البرلمانية عن هاتين المشكلتين فقال:" إذا كان هناك خطأ في تنفيذ النقل فأنا غير مسئول، لأن النقل كان باتفاق على أساس أعمال صحفية، وبالنسبة لموضوع جريدة المساء..

فقد قررنا إعادة النظر في هذا الموضوع، والحقيقة أن حلمي سلام قال إن جريدة المساء بتخسر ولا حل لها إلا الإغلاق فأنا وافقت على طلبه ولما طلبت من الدكتور حاتم تنفيذ القرار زارني في منزلي وطلب منى استمرار الجريدة في الصدور على مسئوليته وإزاء هذا الرجاء وافقت على طلب الدكتور حاتم.

وعلى أثر تصريحات الرئيس الراحل جمال عبد الناصر توجه الزميل أحمد حرك عضو مجلس الأمة السابق إلى الزملاء فئ جريدة المساء وسرد لهم ما حدث من الرئيس الراحل جمال عبد الناصر وتوجهوا جميعا إلى الدكتور حاتم معتذرين عن سوء الفهم وشاكرين لمجهوداته لاستمرار الجريدة في الصدور.

وبعد عدة أيام.. طلب الرئيس الراحل جمال عبد الناصر عقد اجتماع لرؤساء تحرير الصحف لشرح مشكلة القمح مع أمريكا. وطلب منهم الكتابة في هذا الموضوع، وكتب الجميع ما يقصده الرئيس الراحل عبد الناصر ما عدا حلمي سلام الذي كتب كلاما مخالفا تماما بل وضع اسمه على الموضوع،

وعلى أثر صدور الجريدة اتصل الرئيس الراحل عبد الناصر بالدكتور حاتم في السادسة صباحا وطلب منه الاتصال بحلمي سلام لإبلاغه بفصله من مؤسسة دار التحرير ، ولما كان حلمي سلام محبوبا من الصحفيين والعمال بالمؤسسة فقد ذهبوا بالموسيقى إلى منزله للتهنئة.

4- أحمد حرك : لولا د. حاتم لأغلق عبد الناصر " المساء"

وكتب أحمد حرك " رئيس تحرير جريدة العمال ".

تابعت مع قراء المجلة ذكريات الأستاذ حلمي سلام وكنت أتمنى أن يقف بهذه الذكريات حتى يوم تعيينه فى دار التحرير ولا يروى شيئا عن مذبحة الصحفيين وذلك إشفاقا على الرجل في شيخوخته ولكنه روى في مذكراته وخاصة العددين الأخيرين بعض الوقائع التي لابد من التصدي لها وتصحيحها لأنها تاريخ.. والأمانة الصحفية تقتضى أن تصحح هذه الوقائع وخاصة أن أغلب شهودها والحمد لله أحياء حتى الآن.

فقال الأستاذ حلمي سلام: إنني بوضعي عضوا في مجلس الأمة قدمت سؤالا للرئيس الراحل جمال عبد الناصر بشأن ما جرى للصحفيين.. وقال سيادته إن الرئيس عبد الناصر قال لي إنه هو المسئول وأن حلمي سلام ليس مسئولا.

وأحب أن أذكر الوقائع كاملة.. إنه قد أعلن قبل هذه الجلسة بشهر عن لقاء الرئيس عبد الناصر بأعضاء مجلس الأمة في جلسة للهيئة البرلمانية للاتحاد الاشتراكي وهى جلسة لا يحضرها سوى الأعضاء والمسئولين ومن يوجه لهم دعوة خاصة ولا يحضرها مندوبو الصحف في البرلمان..

وعدد قليل من موظفي المجلس وطلب الرئيس أنور السادات وكان رئيسا للمجلس أن من يرغب في توجيه أسئلة للرئيس عبد الناصر يكتبها ويقدمها لرئاسة المجلس.

وقدمت سؤالين أحدهما: عن سبب نقل الصحفيين من جريدة الجمهورية إلى مؤسسات غير صحفية. والثاني: عن قرار إغلاق جريدة المساء.

وكان الأستاذ حلمي سلام قد أصدر منشورا في المؤسسة بأن الدكتور عبد القادر حاتم أمر بإغلاق جريدة المساء لذلك فترة زمنية كي يتم نقل محرريها أسوة بما اتبع مع الزملاء الصحفيين من جريدة الجمهورية، وثار محررو المساء وكتبوا برقيات شديدة اللهجة للدكتور حاتم على قراره.

ورفعت الأسئلة من رئاسة مجلس الأمة إلى الرئيس عبد الناصر الذي حدد موعدا لاجتماع الهيئة البرلمانية.

وقبل هذا الاجتماع عقدت جلسة سرية في المجلس شهدها المرحوم المشير عبد الحكيم عامر لشرح حرب اليمن، وبعد الجلسة السرية قابلته وعه المرحوم الرئيس السادات وناقشته في الموضوعين اللذين كتبت سؤالين بشأنهما للرئيس عبد الناصر ويشهد على هذا اللقاء المثير الزميل الصحفي المصور طاهر حنفي رئيس قسم التصوير بالجمهورية وقد سجله بعدسته وسمع كل الحديث وقال المشير عامر رحمه الله هذه القضية ورطني فيها حلمي وهو الذي اقترح الأسماء واشترط عدم قبوله المؤسسة إلا بنقل هؤلاء..

ولقد وضحت الصورة الآن لي واعطينى فرصة من الوقت لأصحح هذا الخطأ.. وقد بشرت زملائي الذين نقلوا بهذا الحديث وهذا الوعد من المشير الزى قطعه على نفسه أمام عدد من المسئولين بعد نقاش طويل وحاد.. وبعدها بعدة أيام عقدت جلسة الهيئة البرلمانية.. وبدأ الرئيس جمال عبد الناصر يتلو السؤال ويجاوب..

وعندما وصل إلى أسئلتي كان غاضبا جدا وأيضا المشير كان غاضبا لأنه اتفق معي على حل القضية ولماذا اسأل عبد الناصر/ والحقيقة اننى قدمت الأسئلة قبل لقاء المشير عامر وأما ما أغضب الرئيس هو تقرير شعرت أنه من المباحث الجنائية العسكرية والتي استخدمها حلمي سلام في دار التحرير وقامت بالاعتداء على الأربعة المصورين وعلى الأستاذ إسماعيل شوقي مدير عام المطابع وهو رجل فاضل وعلى طبيب المؤسسة والممرضين وأشاعت الرعب في المؤسسة..

فقد كتبت تقريرا للرئيس عبد الناصر إنني في اجتماع الجمعية العمومية لنقابة الصحفيين قد هاجمت الرئيس والمشير، وأوضحت للرئيس أن هذا لم يحدث إطلاقا ولهذا استشهد بتقرير المباحث العامة،

وقال الرئيس عبد الناصر إنني لم أتطوع بنقل الصحفيين ولكن الأستاذ حلمي سلام اشترط لرئاسة المؤسسة نقل هؤلاء وأنه لا يوجد بين الرئيس وبين أي صحفي أي موقف ولكنه طلب أن ينقلوا بنفس مرتباتهم في وظائف العلاقات العامة وأن حلمي سلام كتب أن هذا هو الحل الوحيد لإنقاذ الجمهورية من الإغلاق وهى جريدة الثورة.. وليس هذا مجالا لنشر الحديث بالكامل بيني وبين عبد الناصر

ولكن في النهاية بعد أن قدمت للرئيس تقريرا عن حالة الجريدة بعد إبعاد هذه الصفوة الممتازة من كبار الصحفيين والمفكرين في مصر. فقد وصل توزيعها إلى 38 ألف نسخة وأن حلمي سلام قد عين صحفيين آخرين وبمرتبات أعلى من زملائهم بالمؤسسة وأن سياسته قد حرمت الجريدة من إعلانات كثيرة وهى مورد أساسي وأنه برغم نقل الصحفيين فإن الأحوال الاقتصادية في المؤسسة أصبحت سيئة للغاية لسوء تصرفاته.

وقال الرئيس إن البيانات عندي من حلمي سلام تقول عكس ذلك وقال فليحكم بيني وبينك الدكتور حاتم براجع كل التقارير ويقيم الوضع في المؤسسة ويقول رأيه، وقبلت ذلك وللحقيقة فإن الزميل رشاد الشبراخومى رحمه الله قد دخل في الحديث وأثار عبد الناصر حينما قال له إن الصحفيين نقلوا ليبيعوا " بيض وفراخ".

وفى أثناء شرحه الذي استمر طويلا تلقى الرئيس من وزير الداخلية تقريرا اعتقدت أنه عما دار في الجمعية العمومية لنقابة الصحفيين ثبت بها كذب تقرير المباحث الجنائية.. فلقد شعرت بأنه استراح في الحديث بعد ذلك.. ثم قال عن سؤال جريدة المساء.. قال الرئيس بالحرف الواحد:

إن حلمي سلام كتب يطلب إغلاق جريدة المساء لأنه لا أمل فيها.. وأن الرئيس أمر الدكتور حاتم بإغلاق المساء ولكن الدكتور حاتم ذهب للرئيس ورجاه أن يرجع في هذا القرار وأنه(أي حاتم) مسئول عن استمرار صدورها وتمويلها ولا يمكن أن تغلق المساء.

وقال الرئيس عبد الناصر لولا الدكتور حاتم لأغلقت المساء، وعلشان خاطره أعطيت له فرصة.. وعقب الجلسة اجتمعت بالزملاء المحررين بالمساء ونقلت لهم الحديث وأن منشور حلمي سلام كاذب وأننا ظلمنا الدكتور حاتم وذهبت مع عدد منهم إلى الدكتور حاتم في مكتبه نعتذر له عما بدر من بعضنا في حقه لأننا صدقنا منشور حلمي سلام ضده، ولكن بهد حديث عبد الناصر أننا نشكره على هذا الموقف.. وسجلت له هذا الموقف في أكثر من مقال .

وحرصا على مساحة المجلة ووقت القراء وتخفيفا على الرجل في شيخوخته لن أسترسل في موقف حلمي سلام ودوره في مذبحة الصحفيين.

والدكتور حاتم حينما أبلغه الرئيس عبد الناصر بإبعاد حلمي سلام وترشيح مصطفى بهجت بدوى رئيسا لمجلس الإدارة أبلغني الدكتور حاتم في السابعة صباحا بالقرار تليفونيا وقال: إن الرئيس عبد الناصر أبلغه بذلك قبل أن يذاع الخبر وذلك حينما تبين له صدق كل ما قلناه وما قدمناه من مستندات.

وللحقيقة والتاريخ فإنني كنت أنسق جهودي مع أستاذنا وشيخ الصحافة الأستاذ حافظ محمود نقيب الصحفيين – في ذلك الوقت- وأن الدكتور حاتم كان متعاطفا جدا مع الصحفيين وهذه شهادة للتاريخ.

سامي منصور : جريمة في حق النقابة

كلمة عتاب بعد سنوات طويلة لم نختلف فيها يوما أو حتى نتعاتب. وعتابي شخصي بصفتكم المهنية وعام باعتباركم واحدا من أبناء روز اليوسف التي كانت رغم صغر عدد الأبناء قلعة متقدمة تدافع عن المهنة والصحفيين فإذا بها اليوم تفتح صفحات في " صباح الخير" للذين ارتكبوا أكبر الجرائم في حق المهنة لتبرير جريمتهم وهو أمر لا يمكن أن يكون حرية صحافة ولا هو حرية رأى .

فالقضية يا عزيزي ليست خلافا على رأى ولكن حول أن رئيس مجلس إدارة مؤسسة صحفية ينقل أو يصمت على نقل 64 من ألمع كتاب وصحفيي مصر على باتا للأحذية وبسكو وغيرهما في سنة 1964 من جريدة الجمهورية.

وقد ظلت النقابة بجهد متواصل لسنوات تزيد على الخمس تعالج آثار هذا القرار البشع. وقد وضع واحد من الرعيل الأول لأفضل مصورة الصحف الأستاذ عبده خليل مع عدد من المصورين الصحفيين في السجن الحربي.

هذه الجريمة يا أستاذ لويس في نظر حلمي سلام لا تكفى لثورة الدم في عروق أي صحفي بل لابد أن يكون الأستاذ هيكل وراء رد الفعل. وهو لفرط الغباء اتخذ قراه قبل عقد الجمعية العمومية لنقابة الصحفيين بثلاثة أيام فقط ثم يتصور أن تمر أكبر جريمة في حق النقابة دون ثورة إلا بموافقة الأستاذ هيكل.

ويبدو أن الأيام ودروس الزمن لم تعلم الأستاذ حلمي سلام الدرس فهو إذا كان قد اتخذ قرارا ليس له مثيل بنقل ألمع صحفيي وكتاب مصر على شركة باتا للأحذية فقد طبق عليه القرار بإرادة إلهية . ونقل إلى مؤسسة الأسماك ولكن أحدا لا يتعظ.

الوقائع هي أنني وكنت شابا أحسست بإهانة حرمتني النوم يومها وظللت أحاول عملا مضادا يعبر عن ثورتي. واستقر فكرى على استغلال اجتماع الجمعية العمومية واستغلال أنني لم أكن معروفا بالنشاط النقابي مما يتيح لي تجاوز عدم وجود اسمي على قائمة المتحدثين وخاصة أنه كانت لي مكانة بين الزملاء تتسم بالاحترام، واخفيت المذكرة عن كل الزملاء حتى قبيل انعقاد الجمعية وفاجأت الكل بطلبي.

وصدر القرار بالإجماع وبعد ساعة جاء من يبلغني أن الأهرام يطلبني وعرفت أن ألأستاذ هيكل يريدني فورا.. وقبل أن أقابله عرفت أن ألأستاذ حلمي سلام أبلغ المشير أنى هتفت في النقابة " يسقط حلمي سلام وحامى حلمي سلام" أي المشير.

وأبلغ المشير ذلك لعبد الناصر، وسألني الأستاذ هيكل بعد ثورة غضب على قيامي بنشاط نقابي وخصوصا أنه كان يتصور انشغالي بالبحث العلمي والكتابة، وشاء حسن حظي أنه في ثورة غضبه حضر الأستاذ على حمدي الجمال رحمه الله وكان حاضرا جلسة الجمعية العمومية وشاهدني لحظة تقديم طلبي، وأخبر الأستاذ هيكل بالوقائع وأنني لم أهتف إطلاقا.

وبقيت مشكلة إثارتي للمتاعب وحسمها إحساسه بما كنت مع زملاء لي نشعر به من مرارة وثورة غضب.

هذه هي القصة ولم يكن الأستاذ هيكل يعرف عنها شيئا حتى وافقت الجمعية العمومية وأبلغه عبد الناصر تليفونيا بها وتبقى رواية الأستاذ حلمي سلام وعليها عدة ملاحظات هي:

1- كيف يستقيم أنه مرتكب هذه الجريمة الكبرى ويقول" لست مقهورا وليس من حقي أنه احتج على صاحب الأمر لأنه تصرف في أمر يخصه تصرفا مخالفا لما اقترحه" 2- هل هذا القول لا يستحق عقد لجنة التأديب في النقابة لمحاسبة رئيس مجلس إدارة سابق يرى أن فصل الصحفيين مسألة تخص فردا مهما كانت مكانته على رأس الدولة.

ثم هو يرفض على الدفاع ولو بالاستقالة ويعتبر ذلك تهورا، أي مهانة هذه التي وصلت إليها قيادات احتلت مراكز صحفية هامة.

والأهم أنه يقول إنه قدم اقتراحات أخرى ولكن النظام أخذ بغيرها. فهو لجأ إلى السلطة للتخفيف عن الجمهورية بإبقاء صغار الصحفيين وفصل ألمع كتاب الدار بدلا من الصحفيين أن يعمل على زيادة التوزيع لتعويض الخسارة.

3- كيف يستقيم أن يكون عبد الناصر صاحب القرار وحواره كله كان مع المشير ، ثم والأهم إذا كان عبد الناصر صاحب القرار فهل من المعقول أن يتحدى الأستاذ هيكل القرار بعد صدوره وعن طريق شاب بالجريدة.

حلمي سلام: سهل أن تكذب.. صعب أن تقول الحقيقة.

الأخ العزيز الأستاذ لويس جريس:

قرأت في العدد قبل الماضي من (صباح الخير) الرسائل الثلاث التي بعث بها إليكم السيدان ميشيل جرجس وأحمد حرك والدكتور سامي منصور، تعقيبا على بعض ما جاء في تلك الرسائل ، عدة ردود أرى واجبي نحو الحقيقة، ونحو (صباح الخير) وقرائها.. أن أثبتها فيما يلي:

وأبدأ برسالة السيد ميشيل جرجس التي شحنها صاحبها بقصص وحكايات من اختراعه تشهد بأن له على تلفيق الحكايات قدرة لا تدانيها قدرة بعض كتاب القصص الخيالية التي تسخر من عقول الناس، وتستخف بها.. ولو أن صاحب هذه الرسالة وجه نشاطه على هذه الناحية، لأفاد نفسه.. ولأفاد الصحافة التي ينتسب إليها، فائدة لا يحلم بها كلاهما.

• فمن هذه الحكايات التي جاد بها خياله، والتي جاءت كلها- للأسف الشديد- مقززة للغاية.. قوله. " في جلسة مع بعض الزملاء في الجريدة . ذكر اسم حلمي سلام عدة مرات كمرشح لرئاسة مجلس إدارة دار التحرير : فطلب منى أحد الزملاء الاتصال به تليفونيا للتأكد من الخبر وفعلا اتصلت به ودارت المكالمة على النحو الآتي:

قلت: فيه خبر أنك ستعين رئيس مجلس الإدارة؟

حلمي سلام: هذا المنصب يطاردني منذ عام.

قلت: أنا سمعته الآن فقط.

حلمي سلام: ما رأيك..؟ قلت: المنصب كبير عليك.

فأنهى حلمي سلام المكالمة( ولا أدرى لماذا لم يقل إنني قلت له : أنا شايفك كده برضه) ودعنا أقول لك إنه لم تكن لي – قبل ذهابي إلى دار التحرير رئيسا لمجلس إدارتها- أدنى صلة من صداقة، أو زمالة ، أو حتى معرفة بصاحب هذه " الحدوتة" فهل مما يدخل في عقل عاقل- أو حتى مجنون- أنني يمكن أن آخذ رأى شخص لا تربطني به أدنى صلة من صداقة، أو زمالة أو حتى معرفة.. في عمل كبير كذلك العمل الذي كنت مرشحا له؟

إن الوحيد الذي استأنست برأيه في هذه المهمة التي كنت مرشحا لها.. وهل أقبلها أم أصر على رفضها.. كان أخي المناضل الوطني الكبير فتحي رضوان ، فعقب آخر مرة قابلت فيها المشير عامر- وهى المرة التي أبلغني فيها بتصميم عبد الناصر على ذهابي على دار التحرير – خرجت من عنده متوجها ، مباشرة على منزل فتحي رضوان لأسأله النصيحة،

فقال لي بالحرف: " إن عبد الناصر لن يتقبل منك أن ترفض له تكليفا كهذا ، وتأكد أنك إذا أصررت على الرفض ، فلن تبقى طويلا في " المصور" فهاتها بجميلة منك واذهب غدا إلى المشير عامر وأبلغه أنك قبلت هذا التكليف" وهو ما فعلته.. والرجل- أمد الله في عمره- لا يزال موجودا بيننا..

وهو معروف بأنه ليس ممن يكتمون قولة الحق . ولو كلفه قولها عمره.

• أيضا من الحكايات المقززة التي شحن بها ميشيل جرجس رسالته .. قوله :" .. وذات مساء اتصلت بى السكرتيرة وطلبت منى الحضور لمقابلة حلمي سلام، فاعتذرت على أنتكون المقابلة في اليوم التالي.. وفى اليوم التالي توجهت على مكتبه فوجدته واضعا صورة المشير عامر فوق رأسه.. وصورة الرئيس الراحل على الحائط المواجه لمكتبه، فاندهشت"

• ولا أدرى.. لماذا لم يسألني الرجل الذي زعم أنه كان لديه من الشجاعة ما جعله يقول لي في وجهي ." إن المنصب كبير على: عن السبب الذي جعلني أضع الصورتين هكذا؟ ألم يكن هذا أسهل من ذلك القول الذي زعم أنه قاله ، وجاء خاليا من ألف باء الذوق.. والأدب؟

• هذا فضلا عن أنه كان أحد الذين نقلوا من المؤسسة، ولم يكن هناك سبب احد يجعلني استدعيه إلى مكتبي.

وأحسبنى لست محتاجا إلى القول بأنني لم أكن ساذجا.. ولا أبله.. حتى أفعل شيئا كهذا الذي نسب لي أنني فعلته.. ث.. ما السبب المباشر، أو غير المباشر، الذي يجعلني أضع صورة المشير عامر فوق رأسي.. هل لأنه كان وسيطا في أمر التكليف الذي اعتبرته- ومنذ اللحظة الأولى- مصيبة حلت بى...؟

لقد كان يتردد على مكتبي في تلك الفترة التي زعم أنه رأى فيها صورة المشير عامر فوق راسي ، كتاب وصحفيون أشراف كثيرون.. أذكر منهم الزملاء : محمد عودة.. وفيليب جلاب، وحسين عبد الرازق ، وفؤاد دوارة، ومحمد العزبى، وبهيج نصار.. ووحيد غازي، وغيرهم.. ، فإذا قال واحد من كل هؤلاء الصحفيين الأشراف أنه رأى – في أي جانب من جوانب مكتبي- صورة للمشير عامر ، فساعتها سوف أسلم بأنني كنت أضع هذه الصورة فوق راسي.

• أيضا : من الأشياء المقززة التي اخترعها خياله.. قوله:" وفى هذه المقابلة ، قال لي حلمي سلام : أنا عايزك تكتب لي تقريرا عن كل صحفي في المؤسسة".

لقد شاء ميشيل جرجس أن ينسى تماما.. تماما.. أنه كان أحد المنقولين من المؤسسة.. فكيف بالله عليك أطلب من أحد المنقولين منها تقرير عن الباقين فيها؟ وحتى لو كان ممن بقوا في المؤسسة، فقد كان مستحيلا منى مثل هذا الطلب، لسبب بسيط جدا.. وهو أنني كنت وما أزال ولسوف أظل أحمل داخل نفسي كل مشاعر الاحتقار لكتاب التقارير ، ولن يغير من احتقاري لشأنهم أن يكون أحدهم.. أو بعضهم ..

قد وصلوا من خلال تقاريرهم ضد زملائهم، وأساتذتهم، وأصحاب الفضل عليهم، إلى مناصب لم تكن لتحدثهم بها أحلامهم. ولو أنني كنت أحمل في نفسي ذرة من (التقبل) – ولا أقول ( الاحترام) – لهذا الصنف من البشر.. لما أمرت، ، في أول أيام رئاستي لدار التحرير .

بنقل وخصم خمسة أيام من مرتب موظفي التليفونات بجريدة الجمهورية لأنه قد قدم له تقريرا ضمنه أن المحرر الرياضي للجريدة طلب منه مكالمة عاجلة مع أحد محافظا الوجه البحري- لكنه – أي موظف التليفونات- اكتشف، من خلال تسمعه للمكالمة، أنها دارت مع حرم المحافظ وليس مع المحافظ نفسه.. وكانت حول مسائل عائلية لا علاقة لها بعمل المحرر.

إن الأخلاق لا تتجزأ فإذا كنت – من منطلق اخلاقى محض- قد رفضت تصرف موظف التليفونات وأمرت بمجازاته وبنقله عن دار الجمهورية، فكيف يتأتى – وأنا هذا الرجل نفسه- أن طلب من آخر.. حتى لو لم يكن ممن نقلوا من المؤسسة. أن يكتب تقريرا عن كل واحد من زملائه؟ • أيضا- من الأشياء المقززة التي قالها- :" اكتشف الرئيس الراحل ضعف حلمي سلام من جميع النواحي.. وخاصة العمل الصحفي، لأنه لم يكن قد سبق له العمل في الصحف اليومية على الإطلاق وكل خبرته كانت الكتابة في مجلة المصور.. ومجلة الإذاعة؟

• وكان الرئيس الراحل – جمال عبد الناصر- يجب أن ينتظر 15 عاما كاملة.. من سنة 1949 تاريخ تعرفه بى، إلى سنة 1964 تاريخ تعيينه لي رئيسا لدار التحرير ، كي يكتشف نقاط الضعف والقوة في شخصي، وكأنه حين أمر ، بحل إدارة المؤسسة ، ومنحى جميع سلطاته ،لم يكن يعرف عنى شيئا، وكأنه حين أمر قبل ذلك بسنوات عشر، بتعييني رئيسا لتحرير ( مجلة التحرير ) .. أيضا لم يكن يعرفني..

• وكان أصحاب ( دار الهلال) الذين تدرجت في سلم العمل الصحفي لديهم من محرر بالقطعة.. إلى سكرتير التحرير .. على مدير لتحرير أكبر مجلة مصورة في الشرق العربي، في ظرف سبع سنوات فقط، كانوا يفتقون إلى القدرة على اكتشاف نقاط القوة والضعف في أشخاص من يعهدون إليهم بأدق مسئوليات العمل الصحفي..

وكأن لجنة مسابقة فاروق الأول للصحافة الشرقية التي كان يرأسها شيخ الصحفيين ( فكرى أباظة) .. والتي منحتني جائزتها الأولى مرتين على التوالي في عامي 1949 و1950 – وهو ما لم يتحقق لأحد غيري من أبناء جيلي- أقول كأن هذه اللجنة كانت فاقدة الوعي.. فلم تفطن، حين منحتني الجائزة الأولى مرتين على التوالى على نقاط الضعف في إنتاجي الصحفي.

• ولو أن ميشيل جرجس كان قد فرغ نفسه، ولو قليلا ، لتأمل مسار نجوم الصحافة.. لما كتب حرفا واحدا من ذلك الذي كتبه، ولعرف أنني لم أكن أول صحفي بدأ حياته العملية في الصحافة الأسبوعية ثم انتقل منها إلى الصحافة اليومية،

فلقد سبقني على ذلك الزميل محمد حسنين هيكل الذي أمضى الحقبة الأولى من عمره الصحفي محررا بمجلة آخر ساعة.. ثم رئيسا لتحريرها قبل أن ينتقل منها إلى رئاسة تحرير ( الأهرام) ..

• وأيضا الزميل أحمد بهاء الدين الذي أمضى.. هو الآخر ، الحقبة الأولى من عمره الصحفي محررا بروز اليوسف ، ثم رئيسا لتحرير _ صباح الخير) .. قبل أن يعين رئيسا لتحرير عدة صحف يومية هي ( الشعب) .. ( أخبار اليوم) ..

و( الأهرام) وأيضا الزميل إحسان عبد القدوس الذي أمضى شبابه الصحفي كله محررا بروز اليوسف ثم رئيسا لتحريرها، قبل أن يصبح رئيسا لتحرير( أخبار اليوم) .. و( الأهرام).

وأحسب أنها ليست صدفة أنني أحمل الوسام الذي يحمله هؤلاء الزملاء الثلاثة.. وسام الاستحقاق من الطبقة الأولى الذي جاء في براءته المذيلة بتوقيع( جمال عبد الناصر) – الرجل الذي اكتشف ضعفي في جميع النواحي- إننا منحناه " من أجل الخدمات الجليلة التي قدمها كل منا للصحافة".

• أيضا – من الأشياء المقززة التي احتشدت بها رسالته .. قوله:" .. وكان حلمي سلام لا يحضر على مكتبه في المؤسسة سوى ساعة واحدة فقط في النهار، وفى السماء كان يتصل بالتليفون من منزله ليعرف المانشيت قبل الطبع". • وأظن أنني لو كنت عفريتا من الجن، لما استطعت، في ظرف ساعة واحدة من النهار ، أن أنجز جزءا من مائة من مسئوليات مؤسسة بها أربع شركات كبرى هي : شركة الإعلانات المصرية.. وشركة الإعلانات الشرقية.. ودار الجمهورية للصحافة.. وشركة التوزيع.

ولو سألت أيا من أولئك الزملاء الأشراف الذين ذكرتهم فيما سبق من سطور- ومعظمهم يعمل معك في روز اليوسف- وإنني لواثق من أنهم جميعا سوف يقولون لك الحقيقة.. والحقيقة هنا هي أنني كنت أذهب إلى مكتبي في المؤسسة مرتين في اليوم، المرة الأولى من الساعة التاسعة صباحا لأبقى به حتى الثالثة بعد الظهر،

والمرة الثانية من السابعة مساء وحتى منتصف الليل.. ولو أنني كنت ممن يرتضون من أنفسهم بأن لا يبقوا في مكاتبهم سوى ساعة من نهار، لكانت أعمدة جريدة ( الجمهورية) قد حملت لي- على مدى الشهور العشرة التي أمضيتها رئيسا لتحريرها- بدل الكارثة الواحدة عشرات الكوارث التي كان المجردون من كل خلق ومن كل ضمير، قادرين على دسها في تلك الأعمدة.

• أيضا – من الأشياء المقززة التي احتوتها رسالة ميشيل جرجس.. قوله".. وحدث أن وقع حلمي سلام منشورا تم توزيعه في المؤسسة يفيد بأن الدكتور عبد القادر حاتم قرر إغلاق جريدة المساء وعلى أثر هذا ، أرسل عدد من العاملين في جريدة المساء برقيات احتجاج للدكتور حاتم على هذا القرار" وقد كرر السيد أحمد حرك للأسف الشديد هذه الفرية نفسها في رسالته إليكم.

كيف .. كيف يمكن أن أصدر منشورا يقول عن الدكتور حاتم قرر إغلاق جريدة المساء، بينما أنا أعلم، علم اليقين أنه لا يملك.. ولا يستطيع .. أن يصدر قرارا بإغلاق جريدة.. سواء كانت هذه الجريدة هي المساء أو أي جريدة أخرى غيرها؟

فى المساء المتأخر من أحد الأيام الخميس ، اتصل بى واحد من أبنائي المحررين في مجلة ( الإذاعة) وأبلغني أن المجلة- في عددها الذي سوف يصدر صباح يوم السبت- خبرا مؤداه: إن المسئولين عن مؤسسة دار التحرير قرروا إغلاق جريدة المساء وتوزيع محرريها على المؤسسات العامة.

فطلبت منه أن يقرأ لي نص الخبر، فلما قرأه، أحسست بأن المراد منه أن يكون بمثابة ( قنبلة) تنفجر تحت قدمي، فلم يكن في دار التحرير وقتها مسئول غيري.. بعد أن كان الرئيس الراحل جمال عبد الناصر قد أمر – بناء على طلبي- بحل مجلس إدارة المؤسسة ، ومنحى جميع سلطاته، ولم أكن، بوصفي المسئول الوحيد عن المؤسسة،

قد قررت شيئا من هذا .. ولا فكرت فيه، وكي أبطل مفعول هذا الخبر( القنبلة) توجهت في الصباح الباكر من يوم الجمعة ، وكتبت برقية إلى الدكتور حاتم باعتباره الوزير الذي تتبعه مجلة ( الإذاعة) .. وباعتبار أن ألأستاذ سعيد عثمان رئيس تحرير المجلة، وقتئذ، كان – في ذات الوقت- أحد مديري مكتبه، هذا نصها:

" السيد الدكتور عبد القادر حاتم، وزير الإرشاد القومي.

تنشر مجلة الإذاعة في عددها الذي يصدر غدا- السبت- خبرا مؤداه أن المسئولين عن دار التحرير قرروا إغلاق جريدة المساء وتوزيع محرريها على المؤسسات العامة ولما كنت باعتباري المسئول الوحيد عن دار التحرير الآن، لم أقرر شيئا كهذا، بل لم أفكر فيه مجرد تفكير.. فإنني أرجو توجيه نظر المسئولين عن تحرير المجلة إلى تحرى الأمانة والدقة والصدق فيما ينشرونه من أخبار ، بخاصة إذا كانت هذه الأخبار تمس مصائر طائفة من الناس".

ثم أمرت – في نفس اليوم- بوضع صورة من هذه البرقية في لوحة المنشورات الإدارية الموجودة بمدخل المؤسسة، حتى يقرأها كل العاملين في جريدة المساء، بل أن يأتي صباح السبت وتصدر مجلة " الإذاعة" حاملة إليهم ذلك الخبر المسموم الذي أريد له أن يكون (قنبلة) تنفجر تحت قدمي.

لقد تحولت هذه البرقية ، بقدرة قادر، فأصبحت في خيال ميشيل جرجس وأحمد حرك ( منشورا مزعوما) وذيلته بتوقيعي، وضمنته القول بأن الدكتور حاتم- بسلطة لا يملكها- قرر إغلاق جريدة المساء.

أي كذب هذا.. وأي افتئات على الحقيقة، وعلى الأمانة والشرف، ثم .. أين هو هذا المنشور؟ إنني أتمنى أن يطلعك على صورة منه.. هذا عما جاء في رسالة ميشيل جرجس التي حشدها كاتبها بسيل من الأكاذيب التي لا وجود لها إلا في خياله. ولكن .. وعلى الرغم من كل هذه الأكاذيب، فقد استطاع الحق- بقوته التي لا يقدر قاهر أن يقهرها- أن يطل علينا من بين سطورها. فاعترف كاتبها بأن دار التحرير كان بها فساد.

وأنها كانت ترزح تحت أعباء مالية باهظة، وأنها كانت مثقلة ( بقوة عمل) تمثل ثلاث صحف كانت قد أغلقت، من قل ،أبوابها هي ( المصري) .. و( القاهرة) و(الشعب) تضم محرريها جمعيا على دار التحرير، كل هذا- باعترافه كتابة- كان موجودا ومعششا بدار التحرير. فلما أن تصديت بمحاولة مخلصة لإنقاذها من بعضه، على الأقل، أصبحت في نظر الفاسدين.. والمخربين.. والمشاءين بالأكاذيب ، ديكتاتورا، ومدمرا ، بل مجرما أيضا.

  • أما ما جاء في رسالة السيد أحمد حرك، فلم أجد فيه سطرا واحدا يستحق التوقف عنده، أو الرد عليه، وكيف انزلق إلى الرد على شخص أمضى في العمل الصحفي ما يقرب من ثلاثين سنة، ومع ذلك يبلغ به الجهل بشخصية عبد الناصر حدا يجعله يزعم أنه قال له في مجلس الأمة، أنني أمليت عليه شروطي. إذ قال بالحرق:" وقال الرئيس عبد الناصر إنني لم أتطوع بنقل الصحفيين. ولكن حلمي سلام اشترط- لرئاسة المؤسسة- نقل هؤلاء".

عبد الناصر بقوته.. وبشخصيته، وجبروته، يقول :" حلمي سلام اشترط" .. أي قوة جبارة هذه التي كنت أملكها.. وحملت عبد الناصر على أن يحنى لها رأسه؟ أكانت مصر، أيامها نقد عقمت.. ولم يعد فيها غير صحفي وحيد يستطيع إنقاذ دار التحرير من أمراضها هو حلمي سلام الذي استغل فرصة أنه لا يوجد في الكون سواه، ففرض شروطه على .. على من؟ على عبد الناصر.

هل يستحق صاحب مثل هذا القول الغريب .. العجيب.. أن يتوقف مثلى عند أي شيء آخر قاله. أو زعمه.. أو ردده؟

• أما رد الدكتور سامي منصور.. فبغض النظر عن الشتائم وعبارات التجريح التي تضمنها ذلك الرد، والتي أعتب عليك يا أخي لويس- وأنت الرجل العف القلم واللسان- أنك سمحت لها بأن تمر، من خلالك ، على قراء( صباح الخير) – أقول بغض النظر عن هذه الشتائم، وذلك التجريح، فقد تضمن الرد ثلاثة أشياء، يهمنى- من أجل الحقيقة.. والحقيقة وحدها- أن أثبت ردى عليها.

• الشيء الأول هو قوله:" ويبدو أن الأيام ودروس الزمن لم تعلم الأستاذ حلمي سلام الدرس. فهو إذا كان قد اتخذ قرارا ليس له مثيل بنقل ألمع صحفيي وكتاب مصر إلى شركة باتا للأحذية، فقد طبق عليه القرار بإرادة إلهية، ونقل إلى مؤسسة الأسمال، ولكن أحدا لا يتعظ".

فضلا عن أنني لم أصدر قرارا- لا أملك- بل لم اقترح، مجرد اقتراح، بنقل أي زميل صحفي إلى أي مؤسسة غير صحفية، وهذا أمر ثابت وثائقيا، وإن كان الثلاثي: جرجس وحرك ومنصور يصممون على تجاهله، فإنه لم يصدر في شأني قرار بنقلي إلى مؤسسة الأسماك ولا إلى غيرها من المؤسسات.

وإنما كان القرار الوحيد الذي صدر في شأني من الرئيس الراحل هو: (إحالتي إلى المعاش .. ومنحى معاشا استثنائيا يعادل أقصى معاش في الدولة) .

وقد أبلغ الدكتور حاتم هذا القرار إلى الزميل الصديق الأستاذ مصطفى بهجت بدوى الذي تولى رئاسة المؤسسة بدلا منى. وقد أثبته، بما عرف عنه من صدق وأمانة، وبنصه الذي أبلغ به، وفى ملف خدمتي، والرجل موجود، والقرار موجود والحقيقة أيضا موجودة.. ولن يلغى وجودها أن تكون بعض البصائر.. أو بعض الأبصار.. قد عميت عن رؤيتها.

  • الشيء الثاني في رسالة سامي منصور هو قوله:" كيف يستقيم أنه مرتكب هذه الجريمة الكبرى ، ويقول" لست متهورا.. وليس من حقي أن أحتج على صاحب الأمر لأنه تصرف في أمر يخصه تصرفا مخالفا لما اقترحه" .. هل هذا القول لا يستحق عقد لجنة التأديب في النقابة لمحاسبة رئيس مجلس إدارة سابق يرى أن فصل الصحفيين يخص فردا واحدا مهما علت مكانته في الدولة".

وأقول للدكتور منصور، أولا: إن عبد الناصر لم يفصل صحفيا واحدا في هذه القضية، وثانيا: أنها – أي هذه القضية- لم تكن تخص عبد الناصر بوصفه رئيسا للدولة، وإنما كانت تخصه بوصفه رئيسا للاتحاد الاشتراكي الذي كان قد امتلك كل المؤسسات الصحفية بمقتضى قانون تنظيم الصحافة..

ومن هذا الموقع- موقع رئيس الاتحاد الاشتراكي.. صاحب الصحف- تصرف عبد الناصر في أمور الصحافة، وفى أمور الصحفيين.. كما شاء، كيفما شاء . فعزل ، في وقت ما، شيخ الصحفيين (فكرى أباظة) من جميع مناصبه الصحفية، وأوقف ، في وقت آخر، الزملاء موسى صبري وأنيس منصور وإبراهيم نوار عن ممارسة العمل الصحفي..

ونقل مصطفى أمين. وعلى أمين. وإحسان عبد القدوس.. وأحمد بهاء الدين من المؤسسة إلى تلك.. ومن تلك على غيرها.. دون أن يجرؤ مخلوق في النقابة أو غير النقابة ، على أن يرفع صوته ضد إجراءاته.. لا بالاستقالة ،ولا بالاحتجاج ، ولا بالاعتراض.

هل نسيت هذا كله يا دكتور..؟ وهل نسيت أيضا أنه في أعقاب إعادة تنظيم نقابة الصحفيين، كان مطلوبا من كل صحفي مقيد بالنقابة أن يأخذ "ترخيصا" بممارسة المهنة من الاتحاد القومي الذي هو نفسه الاتحاد الاشتراكي؟ إذا كنت قد نسيت. فحاول أن تنشط ذاكرتك، فإن رأس مال الصحفي- بعد الصدق.. وبعد الأمانة والشرف- هو ذاكرته.

ثم يضيف الدكتور منصور" والأهم أنه يقول أنه قدم اقتراحات أخرى، ولكن النظام أخذ بغيرها.. فهو لجأ إلى السلطة للتخفيف عن الجمهورية بفصل الصحفيين بدلا من أن يعمل على زيادة التوزيع لتعويض الخسائر".

هل سمعت يا آخى لويس، أو علمت- وقد كنت عضوا منتدبا لمؤسسة روز اليوسف- أن زيادة التوزيع، مهما بلغت الأوج، يمكن أن تعوض خسائر صحفية ما؟

إن الذي يعوض الخسائر في أية صحيفة، ويحق التوازن بين إيراداتها ومصروفاتها.. إنما هو حجم الإعلانات يا دكتور.. وبغير حجم إعلانات ضخم كالموجود حاليا بالأهرام وبالأخبار مثلا، فإن زيادة التوزيع لا تعنى شيئا سوى زيادة الخسائر.

وغريبة جدا يا دكتور أن تكون قد أمضيت في ساحة العمل الصحفي كل هذه السنين. وما زلت، برغم هذا، تجهل مثل هذه الحقيقة الأولية من حقائق عالم الصحافة.

• أما الشيء الثالث والأخير في رسالة سامي منصور ،فهو قوله:" كيف يستقيم أن يكون عبد الناصر هو صاحب القرار، بينما حوار حلمي سلام كله كان مع المشير عامر؟".

وأقول له مؤكدا: نعم.. كان عبد الناصر صاحب القرار. فهو الذي قرر تعييني رئيسا لمجلس إدارة المؤسسة. وهو الذي قرر حل مجلس الإدارة ومنحى جميع سلطاته. وهو الذي قرر نقل عدد من الضباط الذين كانت ظروف مختلفة قد فرضتهم على دار التحرير.

وهو الذي قرر نقل الزملاء الصحفيين إلى المؤسسات العامة كبديل للمؤسسات الصحفية التي كنت قد اقترحت نقلهم إليها، واعتذر رؤساؤها عن قبولهم بها. وهو –أخيرا- الذي قرر عزلي من منصبي، دون أن يكون عند المشير عامر أي علم مسبق بهذا القرار.

أما أن حواري كله مع المشير عامر. فهذا صحيح مائة بالمائة. ويرجع ذلك على أن الرئيس الراحل كان قد عهد إليه بالإشراف المباشر على دار التحرير في المرحلة التي بدأت بذهابي إليها.

ولك تكن هذه هي المرة الأولى التي يعهد فيها الرئيس الراحل إلى المشير عامر بالإشراف على مؤسسات وأعمال عامة لا تدخل في دائرة اختصاصه كقائد هام للقوات المسلحة، فقد عهد إليه، قبل ذلك، بالإشراف على هيئة النقل العام في أعقاب اضطراب أمورها . كما عهد إليه برئاسة لجنة تصفية الإقطاع.

نعم يا دكتور منصور.. كان ( الحوار) كله مع المشير عامر.. ولكن ( القرار) كله، في نهاية الأمر، كان بيد صاحب القرار.. كان بيد عبد الناصر.

ولم يبق عندي ما يمكن أن أضيفه على هذا الرد على ما جاء في تلك الرسائل ، سوى دعاء إلى الله بأن يحمى الصحافة- وهى التي يفترض فيها أنها حامية الحق.. والحقيقة- من بعض المنتسبين لها. والمحسوبين عليها.

10- جمال سليم: مذبحة الصحفيين والثورة المضادة.

ليس على المستوى المهني وحساب الأرباح والخسارة ينبغي أن ترى مناقشة مذبحة الصحفيين التي تمت على يد حلمي سلام باعتباره من رجال المشير عامر عامي 64- 1965.. بل المستوى الصحيح للمناقشة هو المستوى السياسي.. فمن خلال هذا المستوى سوف يتضح لنا أن عناصر الثورة المضادة كانت تعمل في كل مكان وتضرب في كل اتجاه..

وليس غريبا أن يمسك حلمي سلام سيف المشير ودرعه ويعصف بالصحفيين والكتاب.. وكي يكون الأمر مفهوما ينبغي عدم خلط الأوراق.. والدوران في الحلقة المفرغة: لماذا كانت المذبحة.. وهل كانت بسبب العمالة الزائدة.. أم الديون المتراكمة.. إن هذا تبسيط غير مقبول للأمور.. وخاصة أنه يجرى في وسط كله مثقفون وكتاب يقودون الرأي العام ويوجهون خطاه.

على مدى عدة أسابيع انفرد حلمي سلام بمجلة صباح الخير ليقول على صفحاتها ذكرياته بإثارة متعمدة من الصحفي اللامع رشاد كامل الذي كان يريد أن يرسم صورة شبه حقيقية لشكل من أشكال الصراع بين السلطة والصحافة في الستينات.

والواقع أن الزميل الكبير محمد حسنين هيكل سبق وقدم صورة أخرى في كتابه الذي نشر بالخارج ثم ترجمه إلى العربية، وكان بين يدي القراء في شهر يوليو 1984 بعنوان " بين الصحافة والسياسة".

فالصحافة وإن كانت مهنة مثل سائر المهن تمتاز بأنها مهنة الحكم.. يرقبها الحاكم بحذره المعهود، وينظر إليها المحكوم بأمله الذي بلا حدود.. والحاكم يريدها لنفسه ، تنطق باسمه، وتنشر رسمه، والمحكوم يريدها سيفا يحميه ويدافع عن نفسه.. وبين الحاكم والمحكوم يقف الصحفي ويسير على حبل مشدود.

ومن هنا فأي إخلال بالتوازن ينقل الصحفي إلى حضن السلطة أو على قلب الجماهير، والإخلال بالتوازن لا يأتي نتيجة فشل الصحفي في السير على الحبل المشدود .. إنما نتيجة الجذب المتواصل بين السلطة والجماهير.. وأيضا نتيجة جرثومة مرض عضال تصيب القلب والضمير والبصر والبصيرة.

ولذا فلا يمكن النظر إلى مذبحة الصحفيين بجريدة الجمهورية التي تمت خلال عامي 64-1965 على عدة دفعات وكان السيد حلمي سلام أداة لها، لا يمكن النظر إليها بمعزل عن الثورة المضادة التي كانت تعمل داخل نفسها، والتي كان بعض زملاء عبد الناصر أنفسهم أدوات فيها،

ولهم أدوات وأدوات، بوعي أو بغير وعى، وكان المشير عامر نفسه، بتركيبه القبلي، وشلته، مركزا من مراكز الثورة المضادة التي تمكن عبد الناصر من ضربها نهائيا، ولكن بثمن فادح: هزيمة يونيو.

النظر إلى هذه المذبحة على مستوى المهنة الصحفية وديون الجمهورية والعمالة فيها، والظروف المهنية تسطيح وتبسيط إرادة حلمي سلام أن يقر في الأذهان ليبرئ ساحته بعد أكثر من عشرين عاما.

فلمستوى الوحيد الذي يجب عرض قضية الصحفيين ومذبحتهم من خلاله هو المستوى السياسي.. وهو بالتحديد مستوى الثورة والثورة المضادة.

ومن طبيعة الثورة المضادة ألا تعمل خارج الثورة، إنما تعمل من داخلها، تستخدم أسلحتها، ولغتها، وهى لا تنشئ تيارا خاصا بها إنما تركب بسفينتها نفس التيار ونفس الموجة الثورية إلى أن تقوى ويشتد عودها وعندئذ تندفع لتغرق أسوار المدينة.

وقد كنت قريبا من المذبحة بدرجة تسمح لي بالمشاهدة ، وكنت واحدا من الذين عصف بهم حلمي سلام في الموجة الأخيرة من المذبحة(مايو 1965) وكنت من المشاركين في التحضير لأول مؤتمر للصحفيين المصريين يعقد بنقابة الصحفيين،

وكان البند الأول في جدول أعماله ضمانات الصحفي ضد النقل والتجميد والفصل المقنع، كما كنت من المشاركين- أيضا- في التحضير النشط لعقد الجمعية العمومية لنقابة الصحفيين العادية وغير العادية لإدانة المذبحة، وكل هذا أتاح لي رؤية هذا الشكل من الصراع بين السلطة والصحافة، خاصة أن عناصر السلطة في هذا الصراع كانت تبدو متفقة وهى في واقع الأمر مختلفة، وأعنى بها الرئيس عبد الناصر والمشير عامر..

وكانت جذور هذا الخلاف بدأت في أعقاب انهيار الوحدة مع سوريا ثم اتسعت هوة الخلاف بين الرجلين بعد رتبة العقيد.. وأحس المشير أن هذا انتقاصا من سلطاته.. الخ. ثم عندما بدأ الاتحاد الاشتراكي يقام على أساس من مبادئ الميثاق الوطني، وبناء التنظيم الطليعي.. أحس المشير أن عبد الناصر يسحب كل التنظيمات السياسي ويبقيها تحت سيطرته..

فعدل عن القفز على مؤسسات مدنية حساسة ليستخدمها في ضرب الثورة أو الحد من نفوذ عبد الناصر وفكره المتمثل في الميثاق الوطني وكان من هذه المؤسسات: مؤسسة النقل العام. ومؤسسة دار التحرير للطبع والنشر التي كانت تصدر جريدتي الجمهورية والمساء، بالإضافة إلى جريدتين واحدة انجليزية هي الاجيبشيان والثانية فرنسة هي البروجرية.

كانت الحياة السياسية في مصر تعج بالحركة والنشاط ففي الإسكندرية يجرى التحضير لمؤتمر القمة العربي لبحث نهر الأردن، وفى القاهرة والمحافظات تتجمع القوى الوطنية والاشتراكية لترجمة ما جاء في الميثاق الوطني إلى حائق.. فتجرى انتخابات الوحدات الأساسية للاتحاد الاشتراكي وينشأ أول معهد عال للدراسات الاشتراكية،

ويصل مجموع أعضاء منظمة الشباب الذين قضوا فترة التدريب الأولى والثانية في خمسة معاهد إلى حوالي 100 ألاف شاب وشابة، وتصدر مجلة" الاشتراكي" أول جريدة تنطق وتعبر عن التيار الاشتراكي داخل منظمات الاتحاد الاشتراكي وتشكيلاته المختلفة، وتقترب الخطة الخمسية الأولى من اكتمالها.. وهى أول خطة للتنمية في مصر..

ويشعر المشير وبطانته أن المجتمع يتحرك نحو آفاق لا يستطيعها ولا يقدر عليها.. فيبدأ بالقفز على مرفق النقل العام.. ثم يشعر انه لابد أن يخضع صحيفة ما.. ولتكن الجمهورية التي كان توزيعها قد فاق توزيع كثير من الصحف المصرية.. وتضم أشد العناصر وأصلبها في الكفاح الوطني.. وتخوض المعارك الواحدة تلو الأخرى وتخرج منتصرة ،

ولا شك أن الزملاء العاملين في الصحف المصرية والقراء بصفة عامة يذكرون تلك الحملة التي قادتها الجمهورية لإعادة كتابة التاريخ المصري وتنقيته وبلورته.. وركزت على أبطال مصر، ووضعت تلك الحملة ثورتي عرابي و19 في مكانها الصحيح.. الخ وكان التنظيم الطليعي داخل الجمهورية له كيان ووجود.. واستطعنا ضرب التيار الاخبارى الذي كان يهتم بالإثارة ويرى في عض الرجل لكلب خبرا مثيرا..

وبدأنا في الجمهورية مناقشة قضايا الجماهير ومشاكلها بصراحة ووضوح، ورفعنا شعار النقد والنقد الذاتي الذي جاء في الميثاق الوطني واستخدمناه لصالح بناء تنظيم اشتراكي قوى وقادر.. وكان هذا ما يقلق قوى الثورة المضادة..

فانقضت على الجمهورية بليل ووضعت على رأسها رجلا من رجالاتها يتمتع بثقة المشير وحبه وعطفه.. ولم يكن المشير – في الواقع- يريد أصدقاء.. ولا زعماء.. ولا رجال ثورة.. إنما كان يريد إتباعا يسيرون،

وكان حلمي سلام أصلح الناس للقيام بهذا الدور، دور التابع.. ومن هنا أصبح بوعي أو بلا وعى أداة من أدوات الثورة المضادة..

• لقد ذكر حلمي سلام أنه في الفترة من 48- 1952 حول المصور بالكامل على مقالات وتحقيقات عن بطولات حرب فلسطين، وهو قول ينقصه دليل، ودليلنا المناقض هو صفحات المصور نفسه عن هذه الفترة.

• يذكر – أيضا- أنه لما قامت الثورة " انفردنا بنشر قصة الثورة كاملة من المهد إلى المجد حتى طلب عبد الناصر إيقافها" صباح الخير ص 20 العدد 1493 – فلماذا طلب عبد الناصر إيقافها؟.. هل طلب عبد الناصر بإيعاز من هيكل لينفرد وحده بهذا المجد؟

• وكعادة الذين يقومون بأدوار مرسومة لهم سلفا يؤكدون- دائما- على ذواتهم، وعلى الشكل والمظهر.. رغم أن هذه الأدوار تتفق وملكاتهم ومواهبهم والمصابة بالعجز والجدب، لذا نرى السيد حلمي سلام عندما خرج من مجلة التحرير التي ذهب إليها بناء على طلب عبد الناصر- كما يدعى- ثم تخلصوا منه بان طلبوا أن يلزم بيته في أجازة مفتوحة (!) برضه(!) لكن حلمي سلام ر يهتم بعملية الخلاص- ولا بالمذلة والاهانة ،

• فهذا مقرر ومرسوم ومكتوب على اى تابع أو ممثل لدور معين- إنما يهتم بالشكل والمظهرية فيبحث عن الذي أبلغه القرار، وهل المبلغ يرقى على المركز الذي يتيح له أن يصدر أمرا لحلمي سلام أم لا ، فيجد أن اليوزباشي حسن نايل سكرتير السادات- السادات كان مديرا عاما لدار التحرير للطبع والنشر عندئذ- هو الذي أبلغه،

• فذهب إلى المشير وروى له كيف أبلغني حسن نايل بالقرار.. وفجأة انتفض عبد الحكيم عامر وقال سكرتير السادات هو الذي أبلغك وليس السادات( ص 23 صباح الخير العدد 1493).

وتسيطر على حلمي سلام الشكليات- لأنه لا يوجد لديه شيء آخر- إلى درجة الهوس ، فما يكاد يذهب رئيسا لتحرير مجلة الإذاعة حتى يعمل بالوقيعة بين د. حاتم و عبد الناصر، فيكون الجزاء النقل على دار الهلال فلا يحتج على النقل في حد ذاته إنما الذي يعنيه طريقة إعلان هذا النقل.. وأن يعينني عضوا في مجلس الإدارة وكأحد رؤساء تحرير المصور.

- ماذا يعنى بكلمة "كا" هذه؟ هل يعنى أنه رئيس لتحرير المصور.. فما الذي أعجز صاحب الأمر عن استبدالها بحيث يصبح رئيسا لتحرير المصور؟ لكنها الشكليات – كإشعار للقراء والزملاء الصحفيين إنني لم أنقل من الإذاعة إلى المصور في صورة المغضوب عليه( ص 21 صباح الخير العدد 1498).

• هل من الهدف إذن أن يأتي ثوار يوليو بحلمي سلام ويصفونه في منصب ما ثم يطردونه منه.. إن مسألة الطرد هذه تتكرر كثيرا .. لماذا؟ لا يمكن أن يحدث لشخص ما إلا إذا كان له دور في لعبة أكبر، وهو دور التابع، الباهت الشخصية، المجرد من الكرامة والكبرياء .. الذي يقبل الفتات، وبقايا الموائد..

• ولا يخجل- بعد ذلك- أن يذل وأن يهان فهذا دوره .. وعلى قدر حجمه، وعندما ذهب إلى الجمهورية مسلحا بشرطة المشير وسيفه ودرعه لم يعد منها إلى بيته- آخر الأمر- مكللا بالغار، بل طرد منها شر طرده ومنع من الذهب إليها.. وقد شيع عندئذ بما يستحقه .. هل هذا صدفة؟

• كذلك ، وحتى لاننى ، لا يمكن الاعتداد بما يقوله مرسلا دون دليل أو برهان فيما يختص.. يقول الرئيس ناصر إن حلمي سلام لا يتحمل مسئولية مذبحة الجمهورية فقد جرت العادة أن يأخذ السيد على عاتقه مسئولية هزيمة يونيو، وكان قائد هذه الهزيمة ومهندسها هو المشير عامر وجماعته- السيف والدرع لحلمي سلام- والشعب كله يعرف ذلك، ولكن منطق القانون ومنطق السياسة أن يتحمل المتبوع مسئولية خطأ التابع.. فما بالك بقضية الصحفيين ومسئولية حلمي سلام وإدراك عبد الناصر لأبعادها..

• وأنها كانت تصرفا أحمق قام به تابع للمشير عامر يعمل ككومبارس حانة الثورة المضادة، هل كان مطلوبا من عبد الناصر أن يعلن خطأ المشير وخطأ تابعه حلمي سلام.. لقد كان الجمل يختزن ما يراه إلى أن تجيء الأيام ويصفى الحساب.

وعلى الرغم من هذا ، فلم يقدم حلمي سلام، وهو المولع بالأدلة دائما، دليلا واحدا يثبت أن الرئيس ناصر رفع عنه مسئولية المذبحة.

يقول حلمي سلام، إن الرئيس ناصر نفى مسئوليته في مضابط(!) مجلس الأمة.. ما تاريخ هذا المضبطة.. ما رقمها؟

وقد أصيب – بالطبع- بسكتة مفاجئة عندما اثبت له الزميل أحمد حرك عضو مجلس الأمة وقتذاك أن الرئيس ناصر لم يعن براءته.

نحن بالطبع لا نحاسب حلمي سلام الآن.. إنما نضع الأشياء في موضعها السليم، واثقين تماما أن عملية خلط الأوراق وبحث القضية على غير مستواها يجعلها تسقط في كمين ضبابي.

• يذكر حلمي سلام أنه كان عضوا بالتنظيم الطليعي وفى الخلية التي كان يرأسها على صبري وتضم مصطفى المستكاوى- رئيس تحرير جريدة المساء التي حاول حلمي سلام إغلاقها وفشلت محاولته- ود. عبد العزيز السيد، ويذكر أنه استبعد ثم نقل على خلية أخرى كان بها أحمد حمروش و سعد كامل ( ص 22 صباح الخير العدد 1498) ..

• والحقيقة أن على صبري لم يكن يرأس خلية في التنظيم الطليعي إنما كان في قيادة التنظيم الطليعي.. أما النقل إلى خلية أحمد حمروش وسعد كامل ففرية تحتاج إلى الاستبعاد تماما(!) ذلك لأننا كنا ضمن هذه الخلية الأخيرة وكان من الطبيعي أن نعرف.

وفى الواقع ، لا يمكن- عملا- استبعاد هذا الاحتمال إذا ما كان يستهدف اختراق التنظيم الطليعي في الصحافة من قبل المشير عامر بواسطة حلمي سلام.. ونعتقد أن محاولة الاختراق هذه قد فشلت بدليل ما ادعاه حلمي سلام بأنه انقطعت صلته بالتنظيم تماما بعد جلستين ( ص 22 صباح الخير العدد 1498) .. فلماذا حدث هذا الانقطاع؟ إن اختيار عضو التنظيم الطليعي لم يكن يتم عشوائيا، وكان شرفا أن ينتسب الشخص إلى ذلك التنظيم الذي يقوده عبد الناصر داخل الاتحاد الاشتراكي..

ولم يحدث الانقطاع عن الحضور.. أو التسيب إلا بعد هزيمة يونيو 1967 وإصرار مجموعات التنظيم على معرفة كل شيء ومعاقبة المسئولين عن الكارثة وتنحية القيادات الفاسدة وإعادة النظر في كل شيء من جديد.. قبل يونيو 1967 لم يكن شخصا في موقع المسئولية- كما كان حلمي سلام أو تابع لمجموعة قوية كمجموعة المشير- يتجرأ ويدعى بانقطاع صلته إلا لأسباب موضوعية منها إفشاء أسرار التنظيم، استغلال التنظيم، الانتهازية، عدم الالتزام..

وعندئذ يدعى العضو إلى مناقشة سياسي إلى محاكمة إدانته.. أو طرده من التنظيم إذا ما ظهر من المحاكمة السياسية أنه لا أمل في إصلاحه أو تورطه فيما قد يتورط فيه أى إنسان..

فماذا حدث بالضبط بالنسبة لحلمي سلام؟

لا أريد أن أتبرع بأية معلومات.. ولكن الزميلين أحمد حمروش وسعد كامل يستطيعان أن يذكرا الحقيقة في هذا الشأن ، هل كان حلمي سلام في مجموعتهما ؟ هل انقطع عنها إذا كان عضوا بها.. ما الأسباب التي أدت على استبعاده؟

• كانت الجمهورية قبل مجيء حلمي سلام إليها يتولى رئاسة مجلس إدارتها كمال الدين الحناوى وكان ضابطا من الذين خرجوا في 23 يوليو، وكان مدرسا في كلية أركان حرب، كما كان من المتمكنين في اللغة الانجليزية وترجم وعرض الحرب الأهلية الأمريكية، وله عدة كتب وأبحاث بين الثقافة والعسكرية..

كان الحناوى في ذاك الوقت وزيرا في وزارة الوحدة الثلاثية- مصر، العراق، سوريا- وكان يؤمن إيمانا لا يتزعزع بحرية الكلمة، وقوتها.. وسحرها أيضا.. وفى ظل قيادته للجمهورية كانت كل الأزهار تتفتح، فأعيد تنظيم كتاب اليوميات والأعمدة..

• وجرى تدعيم قسم التحقيقات الصحفية بحيث ضم محققين ثقافيين وسياسيين .. واجتماعيين.. واستعان بعدد من الأساتذة الجامعيين الزى نالهم وزن وثقل في الكتابة في القضايا الثقافية والحضارية ، وأذكر منهم د. محمد أنيس ، د. عبد الرحيم مصطفى، د. حراز،د. جمال المسدي، كما اتسع هذا القسم وفتح ذراعيه للزملاء الذين خرجوا من المعتقلات مثل: بهيج نصار، أمير اسكندر، فتحي عبد الفتاح، عدلي برسوم.. و.. الخ.. • • وكنت أتولى رئاسة هذا القسم.. ووضعت خطة لمسح بلاد الجمهورية مدنها وقراها.. المشكلات والقضايا والآراء .. وأذكر أن د. حاتم وزير الإرشاد والثقافة كان لا يغمض له جفن إلا بعد أن يقرأ الطبعة الأولى من الجمهورية.. وكان كمال الحناوى يقول لنا إنه لو نشأت معارضة فإن الجمهورية سوف تكون من صحف المعارضة.. فقد كان شعار النقد والنقد الذاتي هاديا لنا في طريقنا..

• ومع تطوير الجمهورية ونجاحها وارتباطها بالجماهير.. فقد تطورت التنظيمات السياسية بها، كما نمت خلايا التنظيم الطليعي وامتدت فروعه من التحرير إلى المطبعة.. إلى شركة الإعلانات المصرية والشرقية.. على الصحف الأجنبية التي تصدرها دار التحرير.. وكان كمال الحناوى قائدا لسفينة الجمهورية، وسط عواصف السياسة، مدافعا عنها ضد الذين يريدون كسر شوكتها لتركع مع ا لراكعين..

• وكان كمال الحناوى يتلقى ملاحظة د. حاتم باسم الرئيس ناصر.. ولصلتي بهذه الموضوع فقد نقل له د. حاتم ذات صباح طلبا من الرئيس ناصر بفصلي، وكان كمال الحناوى أذكى وأوعى من أن ينخدع ، فطلب من د. حاتم إرسال كتاب إليه يتضمن هذا الأمر ومصدره إن كان الرئيس ناصر أو على صبري أو أي مسئول آخر..

• ولم يصل كتاب د. حاتم أبدا.. وقد دافع عن نفسه فيما بعد وقال لي: هو الريس كان بيبعت ورق يبقى أنا أبعث ورق ليه؟

• وبدأ المشير عامر يحلم بأن يرى على مائدته خريطة الصحافة المصرية ويلتهم طبقه المفضل منها: الجمهورية ، وليكسر ويقضى على كل من فيها ويسكت صوتها.. ثم يدفعها للغناء له..

• والتحدث بمناقبه وكراماته.. وتمس صباح الخير في ص 23 العدد 1498 هذه النقطة بقولها وهى تعرض ذكريات حلمي سلام وكارثته الصحفية بقولها: وعلى الجانب الآخر كانت تنمو سلطة المشير عامر ويتحول إلى ند يحسب عبد الناصر حسابه ويخشى يأسه..

• فإذا كان لعبد الناصر هيكل والأهرام فليكن للمشير إذن حلمي سلام والجمهورية والرواية مصدرها منير حافظ.

• جاء حلمي سلام إلى الجمهورية في أغسطس سنة 1964 وسط أنباء وشائعات بأنه جاء لتصفية التيار الاشتراكي في الجمهورية، وتأديب المحررين، وشل السنة السياسيين، وقصف أقلام الكتاب.. وقلنا هذا طبيعي إذا خرج كمال الحناوى وجاء بدلا منه حلمي سلام .. فلابد أن تكون هذه الأنباء صادقة.. وقد كانت صادقة بالفعل.

• وإذا ما تمعنا فيما قاله منير حافظ، ومنير حافظ لا يكتب آراء، ولا يقدم وجهة نظر إنما يذكر معلومات .. إن المشير تحول إلى ند لعبد الناصر، فماذا تعنى هذه المعلومة في لغة السياسة؟ .. إنها تعنى أن المشير تحول إلى مركز من مراكز الثورة المضادة وبالتالي فإن من يستخدمه ومن يسير في ركابه، ومن يتبعه لابد أن يكون عاملا في هذا المركز: الثورة المضادة.

هذا هو المستوى الذي يجب أن تبحث عنه مذبحة الصحفيين ، إن بحث هذه المذبحة على مستوى مهنة الصحافة وعلى المستوى التجار وكيف تربح وكيف تخسر.. وكيف تسدد الديون، تسطيح وتبسيط كما سبق القول.. ويؤسفنى أن كل الزملاء الذين تصدوا للدفاع قد وقعوا في الكمين الذي نصبه لهم- بذكاء شديد- حلمي سلام،

وهو كمين خلط الأوراق بحيث لا يعرف المرء أي مستوى جرت فيه المذبحة، ولمصلحة من يخرج من جريدة الجمهورية خيرة كتاباها وصحفييها.. وألمع محرريها.. ومن المستفيد من كسر الأقلام وتكميم الأفواه.. ولماذا ماتت القضايا الحيوية على صفحات الجمهورية .. وتحولت أعمدتها .. وسطورها وكلماتها إلى تالية فرد وعبادة فرد وتقديس فرد هو : المشير عامر؟

• ويغرقنا حلمي سلام بحكايات طويلة لا قيمة لها ولا وزن عن مقابلاته ورسائله للمشير ولغير المشير ولسنا بصدد مناقشة صحتها أو عدم صحتها.. لكنها تؤدى جميعه على نتيجة واحدة وتشير إلى اتجاه واحد هو: أن المشير عامر هو الأمل والنجاة، هو المنقذ..

وبالفعل كان المشير عامر عند حسن ظن تابعه حامى سلام، فقد أثبتت بقيادته وحكمته وشجاعته في يونيو 1967 أن الثورة المضادة تؤتى ثمارها سريعا.. كما يثبت أيضا أن مقتل عبد الناصر ومقتل أي ثورة وقائدها وموت شعارها وصمت نشيدها.. لا يحدث في ميدان القتال قبل أن يقع في بؤرة الثورة المضادة.

• يتناقض حلمي سلام- وهذا طبيعي- فالحقيقة لها وجه واحد. أما الأكاذيب فلها ألف وجه ووجه، يتناقض بين أمرين.. أولهما: أن المذبحة جرت بسبب الرغبة في تخفيف أعباء العمالة الزائدة، وتخفيف الديون، ومعالجة الموقف المالي.. والأمر الثاني: هو العقاب.

فأيهما يستند إليه حلمي سلام في مذبحة الصحفيين؟

إذا كان الأمر الأول: فهذا لا شأن له به.. لأن الدولة تتولى عنه هذا الأمر.. ومع ذلك فإذا كان حلمي سلام قد تولى مسئولية الجمهورية وهو مدينة بـ360 ألف جنيه فقد تركها وهى ترزخ تحت دين مقداره 860 ألف جنيه.

وإذا كان يستند في فصل الصحفيين ونقلهم- والأمر سواء- إلى عقابهم لأنهم يتزعمون أحزابا وشللا.. فهذا أيضا لا شأن له به، لأن القوانين تنظم هذا الأمر والمحاكم تفصل فيه. أيهما إذن كان الدافع لحلمي سلام لإخراج هذا العدد الكبير من الصحفيين من جريدة الجمهورية؟

ليس هناك سوى تفسير واحد هو أنه كان يدور في حلقة الثورة المضادة التي كانت لا تدرى على أين تتجه وأين تسير.. وكانت كثرة الدوران تصيبه بالإغماء فلا يدرى ماذا يفعل وماذا يقول.. لكنه على أية حال كان يتلقى الأوامر وكان ينفذها بدقة، وهذا هو المطلوب.

• ومن الأمور المدهشة في ذكريات حلمي سلام التوقف بين الحين والآخر عند تعبير " التنظيم الطليعي" وهذا ما يقودنا إلى ما اكتنف هذه لمذبحة من ظروف أكسبتنا خبرة جيدة في التعامل مع العناصر القيادية في التنظيم الطليعي، ومع الأسف فإن القيادات العسكرية التي كانت في المدنية المرتبطة مع العناصر العسكرية بحكم العمل المشترك..

• ومن أمثلة ذلك أنه كان من الطبيعي مناقشة مجيء حلمي سلام على الجمهورية في خلايا التنظيم الطليعي ومناقشة ما تردد عن المهمة المكلف بها من المشير عامر وهى تصفية التيار الاشتراكي وضرب التنظيم الطليعي في الجمهورية.. وطلبنا اختيار شخصية أخرى بدلا من حلمي سلام لكننا لم نتلق ردا،

• وعندما جاء موعد الاجتماع التالي كان حلمي سلام ثم وصل وبدأ العد التنازلي لتنفيذ المذبحة، فتحركت أجمع توقيعات من الزملاء الصحفيين على عريضة موجهة للرئيس ناصر نطالبه فيها بإيقاف المذبحة قبل وقوعها.. وعلم حسن فؤاد وأحمد حمروش بما كنت أقوم به وكنت قد جمعت حوالي 160 توقيعا،

• وفوجئت بالزميل أحمد فوزي – يرحمه الله- وكان سكرتيرا لتحرير الجمهورية يطلب منى العريضة باسم حسن فؤاد لجمع توقيعات صحفيي روز اليوسف عليها، وسلمت لأحمد فوزي العريضة.. وفى المساء، مساء اليوم نفسه كلمني أحمد حمروش من الإسكندرية وقال لي: إيه اللي أنت بتعمله ده، أنت بتجمع توقيعات ضد قرار أصدرته السلطة.. والقرار لم يصدر بعد، بلاش توقيعات، وخلى أحمد فوزي يجيلى بكرة بالعريضة . • وبعد عدة أيام طلب أحمد حمروش أن يجتمع بمجموعتنا – بناء على طلبنا- وأبلغنا أن عبد الناصر أوقف العملية كلها ولن ينقل أي صحفي من الجمهورية .

ومرت عدة أيام أخرى، وصدرت قرارات النقل، واختفى أحمد حمروش، وعرفنا أن هناك كذبة كبرى ضائعة بين قيادات التنظيم الطليعي وبين الزعيم عبد الناصر.. ولم تكن على استعداد لأن نشك- مجرد شك في الزعيم- وأدركنا هذا الموضوع قد مر من وراء ظهره.. وهنا كان يجب على قيادة التنظيم أن تدعنا نواجه هذا الظلم الواقع علينا.

•وفى الناحية الأخرى كان حلمي سلام تحت تأثير نجاحه في إصدار قرارات النقل، قد انتقل إلى مرحلة أخرى، مرحلة استقدام محررين كانوا يعملون معه في مجلة الإذاعة، وكان الواحد منهم يتقاضى ضعف مرتب ثلاثة من الكتاب الكبار،

•ولم يكتف بذلك فأغرق عليهم المناصب والمكافآت والمزايا.. بل تمادى وخصص لأحدهم سيارة لاستعماله في تنقلاته.. فالأمر إذا لم يكن عمالة زائدة لأنه جاء بعمالة جديدة.. ولم تكن ديونا أثقلت كاهل الميزانية لأنه حمل الميزانية – بما جاء به من عمالة- ديونا أكثر..

• ولما لم يرد اسمي ضمن المنقولين في الدفعة الأولى من الصحفيين، فقد اعتقدت- وكنت صادقا- أن اسمي وارد ى محالة، إن لم يكن اليوم فغدا، وبالطبع لم أعبأ لأنني كنت على ثقة بأن عبد الناصر كفيل بتصحيح كل شيء، وأنني لو كنت ضمن المجموعة التي نقلت فإن البث حتى أعود على مكاني أنا وزملائي معززا مكرما.

• لكننا أدركنا- أيضا- أن النضال يجب أن يبدأ في النقابة بقوة وعنف ، واعتبرنا التنظيم الطليعي ما زال هو الآخر ضمن التنظيمات الأخرى التي تكتظ بها مصر في حاجة إلى تطهير.. وأن من المستحيل إقامة تنظيم قوى من مواقع السلطة إلى تبرير هذه الأخطاء.

• على كل حال لم يستمر الأمر طويلا ، فقد بدأ حلمي سلام في الاستفزاز، وكان لديه تقرير يومي عن نشاطي في نقابة الصحفيين وكذلك نشاط زملائي.. وكانت نسخة من هذا التقرير ترسل إلى مكتب المشير.. واذكر في هذا المجال واقعتين:

الواقعة الأولى:

في اجتماع لقسم التحقيقات الصحفية حضره حلمي سلام وكنت أناقش اقتراحا لزميلي لعمل تحقيق عن المشاكل والأخطاء في مرفق العام كانت سلطة المشير قد امتدا إليه كما سبق القول، فقلت للزميل المحرر أن يبحث أسباب المشاكل ويدرسها ويضع يده على السلبيات التي تقف في وجه انطلاق هذا المرفق الهام.

علق حلمي سلام بأن هذا ضروري، وعلى المحرر أن يقدم كل هذا لرفعه للمشير عامر، فاعترضت وقلت إن هذا ليس عملنا، عملنا هو مخاطبة الراى العام.

الواقعة الثانية:

كان الزميل الصديق وحيد غازي رئيس تحرير الأحرار محررا بالتحقيقات الصحفية، وكان قد أجرى تحقيقا هاما، فقدمته للنشر في صفحة التحقيقات.. لكن عندما عدت في المساء لأراجع أعمال قسم التحقيقات وإلقاء نظرة عليها باعتباري رئيس القسم فوجئت برفع اسم وحيد غازي من الموضوع .. فوضعته عليه، وفى مكان مناسب.. وببنط يليق بأهمية الموضوع.. واعتبرت الأمر منتهيا..

وفى الصباح فوجئت باسمي على لوحة الإعلانات بأنني نقلت محررا في قسم الأخبار تحت رئاسة الزميل العزيز الأستاذ محمود سليمة الذي فوجئ هو الآخر بالقرار فترك لي مكتبه وقال لي.. نحن زملاء.. مكاني ومكتبي هو مكانك ومكتبك ولا تزعل.

وعرفت بعد ذلك أن بعض الزملاء قال لحلمي سلام إن سبب دفاع جمال سليم عن وحيد غازي أنه من شلته في النقابة. والحقيقة أنني كنت أرى أن من حق أي صحفي أو كاتب أن يضع اسمه على ما يكتبه باعتباره مسئولا عنه ومن حقه.

وقد طلبني حلمي سلام لكنني رفضت مقابلته، وكنت أرى أنه من الأفضل التحرر من العمل معه، فالعمل معه كان قد أصبح وصمة عار، وقد فشل ثلاثة من الوسطاء في عملي على الاعتذار إلى منصبي وزيادة مرتبي إلى الضعف إلا أنى رفضت,, فقد كان قبولي يعنى خيانة لزملائي.

وهكذا تجمع لدى حلمي سلام ما يكفى لكتابة مذكرة مسمومة للمشير بنقلي إلى وزارة الصحة تحت رئاسة د. حاتم الذي كنت على خلاف سياسي معه، ووافق المشير – بالطبع- وحول المذكرة للسيد على صبري رئيس الوزراء الذي أصدر القرار رقم 664 في 30 يناير سنة 1965 بنقلي من الجمهورية إلى وزارة الصحة والإرشاد.

وما أن تلقى حلمي سلام القرار حتى وضعه في مكتبه لمساومتي خاصة بعد صدور قرار من الرئيس عبد الناصر باختياري مع اثنين من زملائي هما سامي داود والفنان أبو العنين لإصدار مجلة الاشتراكي مع تفرغنا سياسيا لنصف الوقت ومنحنا 25% من مرتباتنا.

ورغم استجابتي لهذا القرار واعتزازي به فقد واصلت هجومي على حلمي سلام في النقابة وفى المؤتمر الأول للصحفيين المصريين وفى الجمعية العادية وغير العادية لنقابة الصحفيين، لأنني كنت أدرك أنه تعبير غير ناضج عن الثورة المضادة ويجب مقاومته..

ولهذا لم يجد مفرا من التخلص منى فأعلنني بالنقل في 3 مارس سنة 1965 ولم يمر سوى ستة أسابيع حتى تلقى أمرا بالتليفون بأن يلزم بيته كالعادة، ولك يكن طرد حلمي سلام من الجمهورية إيذانا بفشل الثورة المضادة، وانتصارا للثورة..

إنما كان حلقة من سلسلة الصراع الذي لم يتوقف بين الثورة والثورة المضادة وهذا هو المستوى الصحيح لمفهوم أبعاد مذبحة الصحفيين عامي 64/1965.