القبيسيات وعلاقتهن بالحركات الإسلامية بسوريا وخارجها
مقدمة
كان لسقوط الخلافة الإسلامية عام 1924م أثرا عظيما في انتشار الحركات الإسلامية التي حاولت بعضها الدعوة إلى عودة الخلافة ووحدة المسلمين جميعا تحت راية واحدة. ولقد تتعدد الاتجاهات الإسلامية داخل المشهد السياسي العربي برؤى ومذاهب فكرية مختلفة، حيث انقسمت فيما بعد إلى اتجاهين سُني وشيعي.
وعلى إمتداد مائة قرن من الزمان إنتشرت الحركات الإسلامية السياسية في الخارطة العربية والإسلامية حيث تضخمت تارة وجاهدت تارة ودخلت في صراع مع الدولة تارة أخرى وألهبت الشارع ووصلت إلى دوائر القرار في بعض الدول العربية.
ومرت هذه الحركات بمراحل متعددة، مثل مرحلة الدعوة والبناء ومرحلة النضال والمشاركة السياسية ومرحلة استلام مقاليد الأمور وإدارة الدولة. وبدورها – أيضا - تعاملت السلطات العربية والإسلامية معها بأساليب مختلفة كالاستئصال تارة وبالقمع تارة أخرى وبالاستيعاب في مرات عديدة.
تمتعت هذه الحركات الإسلامية بإرث تاريخي كبير وكانت جزءا من حركة الاستمرارية والتكامل في الوطن العربي، حيث أن بعض هذه الحركات فهمت الدين مرتبط بالسياسة وبقية مناحي الحياة، حيث أن كثير من العاملين في الساحة الإسلامية يرون أن الممارسة السياسية هي جزء من الممارسة الإسلامية.
اشكاليات في مواجهة القبيسيات
يرى مركز جسور للدراسات إن أغلب ما كُتب عن جماعة "القبيسيات" لم يكن موضوعيا فأغلب ما كتب صدرته تيارت مناوئة فكريا ومنهجيا للقبيسيات فغلب على كتاباتها طابع تصيد العثرات والزلل ولم يكن منصفا ولا متتبعا للسيرورة التاريخية لنشأة هذه الجماعة، كما أنه لم يراعِ الحالة الاجتماعية والدينية والسياسية للمجتمع السوري، ولم يبحث في الظروف الاجتماعية المحيطة بالجماعة ولا الظروف السياسية التي عاصرتها
فنوقشت الظاهرة القبيسية وكأنها منعزلة عن المجتمع وعن الجماعات الدينية الأخرى وأُهمل كونها_كغيرها_ متأثرة بتقاليد وأعراف متجذرة في المجتمع السوري ومرتهنة بشروطه التاريخية والاجتماعية والأمنية. فبدت وكأنها الجماعة الوحيدة التي تمارس نشاطات أو سلوكيات وُصمت بالخاطئة أو البعيدة عن جوهر الإسلام. (1)
تنطلق الاتهامات والانتقادات لنهج "القبيسيات" من إشكاليات عريضة ثلاث:
- الأولى: تطال توجهها الفكري وتكوينها العقدي، باعتبار أن مؤسِسة الجماعة الآنسة "منيرة القبيسي" تتلمذت على يد الشيخ "أحمد كفتارو" المشهور باتباعه الطريقة النقشبندية، حيث أخذت القبيسي عنه الطريقة كما يُتداول، واُتهمت الطريقة النقشبندية الصوفية هذه بأنها مغرقة بالشطحات والبدع في نظر التيارات والجماعات الإسلامية الأخرى مثل التيار السلفي أو الوهابي أو الطرق الصوفية الأخرى كبعض أصحاب الطريقة الرفاعية (الأحباش).
- الإشكالية الثانية: فتتمحور بحسب البعض من كون أن جماعة القبيسيات كغيرها من الجماعات الدينية تعمل تحت ظل نظام البعث القمعي في سورية ما يشي بوجود حالة رضا وعلائق نفعية متبادلة بين الطرفين.
- الإشكالية الثالثة: فتتمركز على اتهام الجماعة بسعيها إلى أسلمة المجتمع السوري (وفق رؤيتها الخاصة) من خلال سيطرتها على الفتيات والنساء وممارسة نشاطاتها الدعوية في المنازل بعيدا عن أماكن الدعوة المشهورة كالمساجد، حيث يصف العلمانيون الجماعة بأنها جماعة "إرهابية تكفيرية" وذلك في استنادها إلى مواقف تكفيرية من الطوائف الأخرى أو من العلمانيين. (2)
من هم القبيسيات؟
لا يهتم كثيرا من الباحثين بالحركات النسائية الإسلامية في عالمنا الإسلامي كاهتمامهم بحركات التحرر النسائية أو المفاهيم الغربية التي تنادي بمساواة المرأة بالرجل في كل شيء حتى ولو اصطدمت بشرائع الإسلام.
لكن ليس خطأ الباحثين فقط بل ربما بسبب هذه الحركات نفسها كونها اتخذت من الانكفاء على نفسها منهجا لها، أو عوامل تعود لطبيعة الحريات في العالم الإسلامي الخاضعة لقبضة أمنية قمعية شديدة طالت مجالات الحياة كافة، ولربما هناك عوامل أخرى تتعلق بالظروف السياسية للدول العربية والعالم والتغيرات الطارئة عليها.
يعود كيان القبيسيات إلى الأنسة منيرة القبيسي، وهي فلسطينية دمشقية، كان والدها يتنقل بين فلسطين وحوران تاجرًا؛ غير أنه استقر وبعض إخوانه في دمشق مع بدايات القرن العشرين. وفي دمشق رزق عشرة من الأبناء؛ ستة ذكورِ وأربع بنات منهن منيرة التي ولدت عام 1933م.
نشأ الأبناء في بيئة علم وتجارة، فكانوا كفاءاتٍ علميّةً وتجّارًا على نهج والدهم، فمنهم على سبيل المثال د. محمّد بهجت قبيسي المولود عام 1940م ويشغل موقع نائب رئيس اتّحاد المؤرّخين العرب وله عشرات المؤلّفات في التّاريخ والآثار.
اللافت في الأمر كان إرسال الأب لابنته منيرة إلى مدرسة حكومية في الوقت الذي كان فيه أبناء الطبقة المتدينة يرفضون إرسال أبنائهم ذكورا وإناثا إليها ويرسلونهم إلى المدارس الشرعية في زمن كان صراع الهويات في المجتمع السوري صريحا وواضحا.
كان جامع أبي النور المعقل الرئيس للطريقة النقشبندية حيث يمارس الشّيخ أحمد كفتارو نشاطه قريبًا من محلّ سكنى وتدريس الشّابّة منيرة، وكان أحد أعمامها قريبًا من الشّيخ كفتارو ففتح لها الطّريق لالتزام دروسه وتلقّي التربيّة على يديه
دخلت منيرة بعد ذلك كليّة العلوم في جامعة دمشق في بيئةٍ كان التّعليم الجامعيّ عزيزًا مضنونًا به على الذّكور فكيف على الإناث؟! لتبدأ عقب تخرّجها التّدريس في حيّ المهاجرين ممّا ساهم في وصولها إلى شرائح مجتمعيّة عريضة. لم تستمر منيرة كثيرا في جماعة كفتارو حيث نافستها وفاء ابنة الشيخ أحمد كفتارو فانسحبت من الجماعة وكونت جماعة القبيسيات. (3)
تحوّلت الآنسة منيرة لحضور مجالس الشّيخ عبد الكريم الرّفاعي الذي تُنسب له النّهضة المسجديّة في دمشق في القرن الماضي، وتوطّدت علاقتها مع "جماعة زيد" التّابعة له. وخلال هذه الفترة التحقت الآنسة منيرة بكليّة الشّريعة في جامعة دمشق، وهناك نهلت العلم من العديد من العلماء الأكاديميين المنحدرين من مشارب فكريّة متعدّدة.
وكانت حادثة نزع الشبيبيات المظليات لأغطية رؤوس النساء في شوارع دمشق (29 أيلول 1981) علامة فارقة في ذلك النزاع. فعلى الرغم من أن السلاح لم يُستخدم في هذه الحادثة إلا أنها حملت دلالات عدائية كانت أشد مضاضة من القتل بحد ذاته؛ لقد جرت إهانة النساء المحجبات على الملأ ومن قبل فتيات يافعات غُسلت أدمغتهن وهيمنت عليها فكرة واحدة: كل محجبة هي "إخونجية" وعدوة للثورة تجب معاقبتها!
ورغم أن المظليات كنّ من أديان وطوائف مختلفة إلا أن هذه الحادثة أخذت بعدا طائفيا كبيرا لم يخفف اعتذار الرئيس حافظ الأسد غير المباشر7 من آثارها، لا سيما بعد منع طالبات المدارس من ارتداء الحجاب في المدارس، فابتدأت حركة تحجب وتديّن في المجتمع السوري كردة فعل لهذه الحادثة، تعزّزت هذه الحركة مع بدء تدفق المال الخليجي من المغتربين السوريين الذين نقلوا جزءاً من ثقافة تلك المنطقة خلال زياراتهم المتكررة لبلدهم. (4)
بدأت الدّعوة القبيسيّة تنتشر ببطء في بعض المحافظات السّوريّة وبقيت حلب عصيّةً على الاختراق القبيسيّ بسبب سطوة الكيانات الصّوفيّة وإحكام قبضتها على المشهد. و"القبيسيّات" هو الاسم الذي تعارف النّاس على إطلاقه عليهنّ وهو نسبة إلى الآنسة المؤسِّسة منيرة قبيسي.
غير أنَّ عموم القبيسيّات يرفضن هذه التسمية، ويؤكّدن في كلّ محفل على تسمية "الدّعوة" للدلالة عليهنّ فهنّ بنات "الدّعوة" وأخوات "الدّعوة". وتنتشرُ القبيسيّات في عددٍ من الدّول بأسماء مختلفة وهذا لا يغيّر من حقيقة انتمائهنّ ففي لبنان كان وصول القبيسيّات على يدي أميرة جبريل وهي فلسطينيّة تقيم في دمشق وشقيقة أحمد جبريل قائد الجبهة الشّعبيّة لتحرير فلسطين "القيادة العامّة" الذي يدين بالولاء المطلق للأسد الأب والابن.
غير أنّ أميرة جبريل انسحبت من المشهد وأخلَت السّاحة للدّاعية اللبنانيّة سحر حلبي لتتصدّر المشهد القبيسي في لبنان، وأصبحت القبيسيّات في لبنان ينسبن لها ويطلق عليهنّ "السّحريّات" وإلى الأردن نقلت الدّاعية الدّمشقيّة "فادية الطّبّاع" الدّعوة القبيسيّة، فصار يطلق عليهنّ في الأردن "الطّبّاعيّات"
أمّا الكويت فجاءتها أميرة جبريل عقب مغادرتها لبنان لتكون لها اليد الطّولى في نقل نشاط القبيسيّات؛ حيثُ أسَّست "جمعيّة بيادر السّلام النّسائيّة" التي تعدّ المظلّة التي تعمل القبيسيّات تحتها ويطلق عليهنّ في الكويت "بنات البيادر"
كما انتشر نشاط القبيسيّات فوصل [[فلسطين[[ ومصر وكندا والولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا، ومع موجات اللجوء الجديدة بدأ الانتشار في تركيا والدّول الاسكندنافيّة. ورغم هذا الانتشار الواسع إلّا أنّ العمل القبيسيّ ما يزال ينتمي للمنهجيّة الدّعويّة والتربويّة والسّلوكيّة التي أرست دعائمها الآنسة منيرة قبيسي. (5)
بدأت تحركات الجماعة المحدودة تنشط في فترة تاريخية حرجة بالنسبة للمجتمع السوري المتدين في أغلبه، حيث طغى الفكر العلماني والليبرالي وقيم الشيوعية على سورية بشكل عام، عايشت منيرة هذه الفترة بقسوتها محاولة تخفيف آثارها الثقافية على بنات عصرها، وساعية في تحصين المقربات منها من ذاك الفكر.
لقد كان التدين حينها بالنسبة لغالبية الشعب السوري حاجة فطرية طبيعية، تبرز مظاهره إلى العلن تارة وتفتر تارة أخرى، كونه يحقق أولاً قيمة الانتماء وتحقيق الذات في ظل مجتمع لم يراع هذه الحاجة لا على الصعيد الاجتماعي ولا على غيره من الصعد حيث تفشى فيه أخلاق الفردية والأنانية والاغتراب الثقافي وبرزت فيه أشكال الانفتاح.
وعليه، ومع تنامي نشاط الجماعة اجتماعياً ودينياً، استطاعت جذب الكثير من الدمشقيات كون أغلب القيادات النسائية الأولى فيها كانت من العائلات الدمشقية المعروفة، وتدريجيا أخذت تشكل حلقاتها الدينية الدعوية الخاصة المتسمة بالاعتدال تارة وبالتشدد تارة أخرى، وحملت على عاتقها مسؤولية توعية النساء اجتماعياً ودينياً في بيئة اقتصر الوعي الديني والتعليم الشرعي فيها على المدارس والمعاهد الشرعية التابعة للمؤسسات الدينية الرسمية. (6)
منهجيتها
لا تخطئ عين النّاظر بأنَّ دعوة القبيسيّات قامت بالدّرجة الأولى على استقطاب الفتيات الجامعيّات. فقد ركّزت الدّعوة على استهداف الطّالبات والخرّيجات الجامعيّات، ممّا ساهم في طبع الجماعة بطابع العلم والفكر والثّقافة، وجعلها في التّصوّر الذّهني جماعةً نخبويّة، وقد أسهم ذلك في إعطاء موثوقيّة في المحيط الاجتماعي فكان عامل جذب إضافيّ.
ومن أهمّ الوسائل التي استثمرتها القبيسيّات في نشر الدّعوة وحشد الأصوات المنافحة عنها واستجلاب التّمويل والدّعم الماليّ هو الزّواج الذي كان يجمع بين القبيسيّات سواء كنّ آنساتٍ أو طالبات مع كبار الدّعاة وقادة العمل الإسلاميّ والأثرياء والتّجّار. وترتكزُ القبيسيّات في البنيان الفكريّ على الجمع بين المدرسة الصّوفيّة العلميّة التّقليديّة والمدرسة الحركيّة.
والهدف من ذلكَ هو بناء تصوّرات الفتاة نحو الدّين والإيمان والكون والإنسان والحياة وعلاقة المسلم بذلك كلّه، بالاستناد إلى القرآن الكريم والسّنّة النبويّة، وتمتين العلاقة مع الجيل الأول من الصّحابة رضي الله الله تعالى عنهم.
وتعتبر دمشق هي الحاضن والمنشأ الفعلي لمجموعة الأخوات وفيها استقرت صورتها النهائية ورؤيتها الفكرية ومنها استمدت المرجعيات، ولازالت الوفود النسوية تحج لرؤية الآنسة الكبيرة بدمشق ،كما عمل وجود الجامعة الكبرى بسوريا في العاصمة على توسع الاحتكاك بين الدمشقيات والطالبات من محافظات أخرى اللواتي شكلن رسلا مباشرين للدعوة ومرتكزات صارت فيما بعد أعمدة الجماعة في مناطقها وتجمعاتها.
ومنذ بداية نشأتها نظراً للبيئة الدينية والاجتماعية المحيطة بهن في سورية آنذاك، ولذلك فمن غير المستهجن وجود بعض السلوكيات الصوفية واعتماد بعض الأذكار والموالد والأدعية المستوحاة من الطرق الصوفية مثل الطريقة النقشبندية تحديداً، كونها الطريقة الأكثر انتشاراً في سورية والطريقة التي أخذتها الشيخة "منيرة" من الشيخ أحمد كفتارو في بداياتها
إلا أنه لا يمكننا الجزم بأن الجماعة ظلت على هذا الخط طوال مسيرتها، حيث غلب على الآنسات الجديدات ومنذ تسعينيات القرن الماضي ابتعادهن عن التصوف ومنهجه بطابعه "الدرويشي" الساذج المنتشر بين صفوف الشعب البسيط، والذي يجد في روحانيات التيار الصوفي "الدرويشي" ملاذاً آمناً مريحاً من صخب الحياة وهروباً من ماديتها، وبات واضحا اللغة التجديدية في الخطاب الصوفي التي تتوخى الحذر في المرويات الدينية والتاريخية وتراجع كثيرا من المسلمات السابقة وتعيد إنتاجها بصورة أكثر علمية. (7)
القبيسيات ونظام الأسد
نشأت القبيسيات مع تولى نظام البعث الحكم في سوريا وارتفاع نبرة محاربة مظاهر الإسلام في المجتمع السوري، ولذا سعت منيرة القبيسي إلى عدم الدخول في السياسة أو الصدام مع النظام خاصة لما رأته يجري لجماعة الإخوان المسلمين، ولذا ظلت الجماعة تعمل في سرية تامة.
لكن ما أن استلم بشار الأسد السلطة عام 2000، عندما تواسط بعض المشايخ لخروج الجماعة إلى العلن وممارسة نشاطاتهن في المساجد والمدارس الخاصة بهن، أحد الذين تبنوا رأي انتقال الجماعة من السر إلى العلن
كان د. محمد حبش الذي يقول:
- "خلال خدمتي في مجلس الشعب تبنيت مبدأ إخراج القبيسيات من الغموض إلى العلانية، وكان موقفي يستند إلى قناعتي بأن المجموعة هي في الواقع مجموعة تعليمية ناجحة لا تمتلك أي برنامج سياسي وأن ممارسة إرعابها ومحاصرتها قد يدفع كثيراً من أبناء الجماعة للتطرف، وبالفعل فقد تمكنت من الحصول على عدد من الرخص لشيخات قبيسيات لممارسة العمل العلني في المساجد في سوريا وكان ذلك بداية خروجهن إلى العلانية منذ عام 2005" (8)
وكانت جماعة محظورة في سوريا إلى أن سمح لها بالعمل العلني عام 2006 عندما حصلت على موافقة الحكومة السورية للسماح بعقد الدروس في المساجد، حيث يقدر أتباعها بأكثر من 75 ألف إلى 100 ألف. بقي تنظيم القبيسيات خارج الضوء طوال عقود، إلى أن بدأت التيارات السلفية (في الكويت والأردن) وجماعة الأحباش (في لبنان) الهجوم عليه
ثم تحول جزءاً من واقع المجتمع السوري بعد ازدياد انتشارهن وتأثيرهن ونفوذهن الاقتصادي، وبدأت الصحافة تتناول الجماعة بطريقة لا تخلو من الإرباك والدخول في حيّز الشائعات أكثر من الدراسة المتعمقة، نتيجة قلّة المصادر الموثقة حول هذا التنظيم الذي تمّ ترخيصه وسمح له بالعمل العلني عام 2006، شرط أن تنقل حلقات التدريس والاجتماعات السرّية من بيوت الآنسات إلى المساجد العامة لوضعها تحت إشراف النظام، ليزداد تمدداً وتمكّناً كأقوى تيار نسوي خصوصاً في دمشق مكان إقامة "الآنسة الأم" (9)
اتّخذت القُبيسيّات في بداية الثّورة قرارًا واضحًا بالصّمت وعدم إعلان أيّ موقف، سواء في تأييد الثّورة أو النّظام، وهذا ينسجم عمومًا مع نهج الجماعة العام، وإن كانت الجماعة بعد فترة ناصرت ووقفت بجانب بشار الأسد
وتقول لمي راجح:
- خوفاً من نشوء وانتشار تنظيماتٍ إسلامية معادية له، شجّعَ النظام السوري قيام حركات إسلامية غير سياسية ومنها القبيسيات. حيث نشر إعلام النظام السوري مقطعاً آخر للقبيسيات عام 2014، وهنَّ يعلنَّ تحت قبة المسجد الأموي في دمشق ولاءهن لبشار الأسد وتجديدهن البيعة له (10)
ومن الواضح أنَّ الجماعة اتّخذت قرارًا بالانحياز الهادئ للنّظام قائمٍ على مواقف غير فجّة وتجنّب المبالغة في التصريحات، لكن تصرفاتهن كانت واضحة بانحيازهن انحيازا كاملا بنظام بشار الأسد. (11)
القبيسيات وعلاقتهن بالإخوان المسلمين
احتكّت منيرة القبيسي عن قرب بالإخوان المسلمين الذين كان علماؤهم في كليّة الشّريعة وأبرزهم د. مصطفى السباعي ود. محمد المبارك، وكذلك الأستاذ عصام العطار الذي كان خطيب مسجد الجامعة المتربّع في حديقة كليّة الشّريعة.
لكن بسبب الصدام بين جماعة الإخوان المسلمين والنظام السوري البعثي ابتعت القبيسيات عن السياسة وعن الإخوان المسلمين حتى أنهن لا يذكرن اسم الإخوان في مجالسهن الخاصة خوفا من بطش النظام السوري.
لكن في سبعينيات القرن المنصرم ومع تصاعد صوت الحركية الإسلامية على يد الاخوان المسلمين ومع إيلائهم قضية الدعوة النسوية حقها برزت حالة انتعاش لتيار القبيسيات ضمن بنات الإخوان المسلمين لكن الخلفية الفكرية المتأثرة بالسلفية لإخوان دمشق ممثلة بالأستاذ عصام العطار حالت دون الانفتاح الكامل على جماعة القبيسيات فكان دورهم تنسيقيا دعويا بالمعنى العام.
وأمّا خارج سوريا فكان موقف الإخوان المسلمين من القبيسيّات بالغ الإيجابيّة فالكثير من نسائهم وبناتهم التحقن بحلقات القبيسيّات في كلّ من لبنان والأردن والسعودية والكويت رغم وجود تنظيم نسائيّ في جماعة الإخوان المسلمين، إلّا أنّ هذا لم يكن له تأثير سلبي في الموقف من القبيسيّات. (12)
ومن المعروف أن جذور المشاركة النسائية في جماعة "الإخوان المسلمين" السورية تعود إلى مطلع الخمسينيات عندما التقت أمينة الشيخة بالدكتور مصطفى السباعي، المراقب العام للإخوان بسوريا وقرّرت إنشاء جماعة "الأخوات السوريات"، بيد أن القمع العنيف الذي مارسه النظام البعثي في أواخر السبعينيات ومطلع التسعينيات أدّى إلى تعليق مؤقّت لنشاطاتهن.
كون أن الناشطات البارزات في جماعة الإخوان تحولن أهدافاً لأجهزة المخابرات بسبب أفكارهن السياسية، ولاسيما بسبب روابطهن العائلية مع قادة التنظيم مثل بنان طنطاوي زوجة الدكتور عصام العطار مراقب الإخوان بسوريا. ويتضح أن الطبيعة غير السياسية لمجموعة القبيسيات هي عامل الاختلاف الأهم مع جماعة "الإخوان المسلمين".
كما ظهر التناقض بين الأخوات المسلمات والقبيسيات بالطريقة الأوضح على الإطلاق بعد اندلاع الانتفاضة السورية. وتوضح إحدى الناشطات الإسلاميات التي تربطها صلات بجمعية القبيسيات: "لم تدعم شريحة كبيرة من المنتميات إلى القبيسيات الثورة، فقد اعتبرن أن الثوّار يعرّضون حياة السوريين إلى الخطر بسبب اهتمامهم المفرط بالحياة الدنيوية فيما يجدر بهم أن يكونوا أكثر زهداً لإنقاذ أرواحهم" (13)
أخيرا
جماعة القبيسيات كأية جماعة دينية قد تنحرف في بعض مساراتها على طول الزمن إن لم تجرِ مراجعات دورية ووقفات نقدية وتطوير وتجديد بشكل مستمر.
المراجع
- جسور للدراسات: جماعة القبيسيات.... النشأة والتكوين، 19 ديسمبر 2017
- جسور للدراسات: جماعة القبيسيات، المرجع السابق
- الشيخ محمد خير موسى: “القُبيسيَّات” .. الجذور الفكريّة والمواقف السُّلوكيّة (1)، منتدى العلماء، 24 ديسمبر 2019
- سوسن زكزك: القبيسيات في السياق المجتمعي السوري، 5 يوليو 2018
- المرجع السابق.
- جسور للدراسات: جماعة القبيسيات، مرجع سابق
- جسور للدراسات: جماعة القبيسيات، مرجع سابق
- محمد حبش :القبيسيات … الملف المجهول، 6 أكتوبر 2014
- هوازن خداج: القبيسيات المعلن الدعوي والمضمر السياسي، العرب اللندنية، 16 أيلول - سبتمبر 2016
- لمي راجح: رحلتي مع القبيسيات، 18 يناير 2017
- محمد خير موسى: القٌبَيسيّات .. من الصّمت إلى مساندة بشّار الأسد (10)، 1 أبريل 2020
- محمد خير موسى: القُبيسيّات .. ومواقف الجماعات والتيّارات المختلفة (11)، مرجع سابق
- رافاييل لوفيفر: صعود الأخوات السوريات، 25 أبريل 2013