الحلقة الرابعة الإخوان المسلمون والسلطة التشريعية
- إعداد/ إخوان ويكي
- الحلقة الرابعة
- شبهات على طريق البرلمان
لقد حاول المغرضون إلصاق التهم بالإخوان حينما سلكوا طريق الاشتراك في الانتخابات النيابية فحاولوا تعطيل منهجهم وتشويه مشيرتهم فعمدوا إلى اتهامهم بالعمل على قلب نظام الحكم وللأسف أصبحت تهمة توجه لكل من يعمل لأجل الوطن بصدق فما تجد الحكومات العميلة من سبيل إلا لصق هذه التهم لهم.
ولقد رد حسن البنا على هذه الاتهامات قبل استشهاده ليوضح للجميع حقيقة هذه الدعوة ومنهجها السلمي وسلوك الطرق المشروعة في النهوض بالوطن، فيقول:
وهذه فى الواقع أعجب الاتهامات، ولا ندرى أى نظام حكم يعنى هؤلاء المتهمين، إن نظام الحكم فى مصر إما ديني وهو الإسلام الذي ينص الدستور على أنه دين الدولة الرسمي وإما مدني وهو النظام الديمقراطي الذي يقوم على إرادة الشعب واحترام حريته، والذي فصله الدستور تفصيلا فهل الإخوان المسلمون يعملون على قلب أحد هذين النظامين؟ اللهم لا! وألف مرة: لا! فإن أساس دعوة الإخوان هو الإسلام، ولا وسيلة لهذه الدعوة ولا حماية لها إلا بالدستور الذي يكفل الحريات، فكيف يوجه إلى الإخوان مثل هذا الاتهام؟ والحق أن الذي قلب نظام الحكم فعلا هو هذه الحكومات التي أهملت أحكام الإسلام وعطلت روح الدستور.
هذه المنكرات الفاشية، وهذه الدور المشيدة للهو واللعب والخمر والميسر والرقص والعبث والفساد، وهذه الفرائض المهدرة التي لا يؤديها الكبار ليكونوا قدوة لغيرهم من الناس، وهذه الأحكام المستمدة من غير كتاب أحكم الحاكمين كل ذلك هدم للإسلام، وقلب لنظام المجتمع الذي يؤمن بالإسلام، وهذه المظالم الواقعة على الأفراد والجماعات وإهدار الحقوق وكبت الحريات ومنع المجالس والبرلمانات وتزييف إرادة الشعب فى الانتخابات قلب لنظام الحكم المدنى الذي يقوم على الدستور، وليس المسئول عن ذلك الإخوان المسلمين ولكن الحاكمين المسيطرين، وإنما يريد الإخوان صلاح الحال واستقامة الأوضاع الدينية والدنيوية فى هذا البلد الأمين بوسيلة معروفة مشروعة هى الدعوة والاجتماع والتربية وحسن التوجيه، وذلك حق لكل مواطن لا يحول بينه إلا كل ظالم معتد جبار، والله من ورائهم محيط (1).
كما اتهموهم أيضا بأنهم رجعيون وأن منهجهم وما ينادون به لا يواكب العصر والزمن المعاصر ولا يصلح لقيادة الأمم وأنه عفى عليه الزمن، واذا دخلوا البرلمان سيعمدون إلى إصدار القوانين المتخلفة التي تعود بالأمة لآلاف السنين، وتظل هذه التهم تلاحق كل من يعمل على رفعة الوطن من خلال المنهج الإسلامي، ولهذا رد حسن البنا بقوله:
ويقول الذين لا يعلمون أيضًا: إن أخوف ما يخافه الأجانب وغير الأجانب من هذه الفكرة مناداتها بالتشريع الإسلامى والعودة إليه، وأن هذه الدعوة رجعية تعود بنا إلى الوراء ألف عام، وتقودنا إلى همجية القطيع، ووحشية الرجم، وقسوة الحدود.
والذين يقولون هذا القول -أيها السادة- يظلمون التشريع الإسلامى أعنف الظلم، وكأنهم لا يفقهون منه إلا قطع يد السارق ورجم الزانى ولا شىء بعد ذلك، مع أن هؤلاء القائلين المتسرعين فى الحكم لو أنصفوا أنفسهم، وأنصفوا الحقيقة معهم، وتريثوا قليلاً، وبذلوا بعض المجهود فى سبيل المعرفة والوصول إلى الحقائق، لعلموا أمرًا عجيبًا:
أن هذا التشريع هو أعظم الشرائع مرونة، وأشدها قبولاً للتطور والتجدد.
وأنه سبق جميع القوانين الحديثة بثروة ضخمة من المبادئ القانونية والوقائع، وقرر من ذلك ما يدهش له العارفون والفنيون من أهل التشريع والقضاء.
وأن فيه كثيرًا من الأحكام والصور التي تصون مصالح الأجانب وأموالهم وأعراضهم ودماءهم بأوفى -ألف مرة- مما تصونها لهم التشريعات الوضعية. وأن قضية الحدود فى هذا التشريع أبسط من كل هذه الضجة التي يثيرها دائمًا ذوو الأغراض حولها؛ فإن الشارع الذي قررها وشدد فى إقامتها هو الذي قال للقاضى من جهة أخرى: "ادرءوا الحدود بالشبهات"(رواة البيهقى)، فرجع الأمر إلى أكبر حد -إلى تقدير القاضى لا إلى قوة النص، فضلاً عن الحكم العليا والأسرار البارعة فى هذا التشريع الكريم.
فلا خوف إذن من منادة الإخوان المسلمين بالرجوع إلى الشريعة الإسلامية، وهم يريدون بهذا النداء:
أن تدرس الشريعة الإسلامية دراسة عملية واسعة تكشف عما فيها من كنوز ودرر، وأن تعتبر مصدرًا عالميًّا من مصادر التشريع الإنسانى، وأن تكون المصدر الأول للتقنين فى البلدان الإسلامية، فماذا فى هذا من الضرر بالأجانب، أو الإجحاف بمصالحهم، أو العدوان عليهم؟
وكثير من الأجانب أنفسهم كالمسيو لاهير منك سبق الإخوان إلى هذه الدعوة، وكثير من المجامع والمؤتمرات الدولية قد أقرها وزكاها، فلا موجب بعد هذا لأن تكون الدعوة إلى التشريع الإسلامى مثارًا للشبهات، أو مدعاة لخوف أو قلق، وهى شريعة العدل والرحمة (2).
كما ذكر الإمام البنا أن النظام الدستورى هو أقرب النظم إلى الإسلام، كما أوضح موقف الإخوان من القانون؛ فهم لا يرفضون أى قانون لا يتصادم مع قواعد وحدود الشريعة، ثم أوضح أن الإخوان يؤمنون بثلاث دوائر هى: الوطنية والقومية العربية والإسلامية، دون تعصب لجنس أو عرق، وأن الإسلام هو الإطار الذي يجمع الكل، كما أن الخلافة هى رمز الوحدة الإسلامية، والإخوان يعملون لعودتها لحماية العالم الإسلامى (3).
وردا على ما قيل حول دخول الإخوان الانتخابات سواء من المشككين أو من بعض الإخوان الذين التبس عليهم الأمر مما دفع البنا أن يكتب ليجلي الحقيقة وتتضح الأمور.
فتحت عنوان لماذا يشترك الإخوان في انتخابات مجلس النواب كتب الأستاذ البنا يجيب على كل التساؤلات، فكتب يقول:
قرر المؤتمر السادس للإخوان المسلمين المنعقد بالقاهرة فى ذى الحجة 1361 أن يشترك الإخوان المسلمون فى الانتخابات النيابية، وأخذ مكتب الإرشاد العام بهذا القرار وقدم بعض الإخوان فى الانتخابات الماضية، وقرر الأخذ بهذا القرار كذلك فى الانتخابات المزمع إجراؤها بعد حل مجلس النواب القائم.
وتساءل بعض الناس: لماذا يشترك الإخوان المسلمون فى الانتخابات؟
والإخوان المسلمون كما عرف الناس -وكما أعلنوا عن أنفسهم مرارًا- جمعية للخدمة العامة، ودعوة إصلاحية تجديدية تقوم على قواعد الإسلام وتعاليمه.
فأما أنهم جمعية للخدمة العامة فذلك هو الواضح من ممارستهم فى شعبهم لأنواع هذه الخدمة من: ثقافة وبر وإحسان ورياضة وإصلاح بين الناس، وإقامة للمنشآت ما بين مساجد ومعاهد ومشافٍ وملاجئ فى حدود طاقتهم ومقدرتهم.
وأما أنهم دعوة إصلاحية فذلك أن لب فكرتهم وصميمها أن يعود المجتمع المصرى والمجتمعات الإسلامية كلها إلى تعاليم الإسلام وقواعده التي وضعها فى كل شئون الحياة العملية للناس.
ومن البدهى الذي لا يحتاج إلى بيان أن الإسلام ليس دين عقيدة وعبادة فقط، ولكن دين عقيدة وعبادة وعمل تصطبغ به الحياة فى كل مناحيها الرسمية والشعبية.
أولئك هم الإخوان المسلمون، جمعية، ودعوة، والدعوة لب فكرتهم، وثمرة جهادهم، والهدف السامى لكفاحهم الطويل من قبل ومن بعد.
وعماد الدعوة لتنجح وتظهر، تبليغ واضح دائم يقرع بها أسماع الناس، ويصل بها إلى قلوبهم وألبابهم، وتلك مرحلة يظن الإخوان المسلمون أنهم وصلوا بها فى المحيط الشعبى إلى حد من النجاح ملموس مشهود.
وبقى عليهم بعد ذلك أن يصلوا بهذه الدعوة الكريمة إلى المحيط الرسمى، وأقرب طريق إليه "منبر البرلمان"؛ فكان لزامًا على الإخوان أن يزجوا بخطبائهم ودعاتهم إلى هذا المنبر؛ لتعلو من فوقه كلمة دعوتهم، وتصل إلى آذان ممثلى الأمة فى هذا النطاق الرسمى المحدود بعد أن انتشرت فوصلت إلى الأمة نفسها فى نطاقها الشعبى العام؛ ولهذا قرر مكتب الإرشاد العام أن يشترك الإخوان فى انتخابات مجلس النواب.
وإذن فهو موقف طبيعيى لا غبار عليه، فليس منبر البرلمان وقفًا على أصوات دعاة السياسة الحزبية على اختلاف ألوانها، ولكنه منبر الأمة تسمع من فوقه كل فكرة صالحة، ويصدر عنه كل توجيه سليم يعبر عن رغبات الشعب، أو يؤدى إلى توجيهه توجيهًا صالحًا نافعًا.
وسيفيد الإخوان من هذه الخطوة فوائد جليلة.
سيفيدون على أسوأ الفروض انتهاز هذه الفرصة لنشر الدعوة فى هذا المحيط الذي تعترك فيه الفكر، وتشتجر فيه الآراء، وما كان لدعوة الحق الكريم أن يخفت صوتها فى وقت تعلو فيه كل الأصوات، ويختلط فيه الحابل بالنابل, ولا قيام للباطل إلا فى غفلة الحق.
وسيفيدون -بعد ذلك- أن يفهم الناس أن دعوتهم لا تقف عند حدود الوعظ والخطابة، ولكنها تحاول أن تشق طريقها إلى المنابر والمجتمعات الرسمية، وأن على المؤمنين بهذه الدعوة أن يهيئوا أنفسهم لهذا الميدان، وأن يستعدوا لخوض غماره.
وسيفيدون إرشاد الناس إلى هذا المظهر الكريم من مظاهر التنافس الفاضل الشريف فى هذا الميدان.
ستقوم دعاية الإخوان على المبادئ والأهداف، وسيرى الناس أمامهم لونًا فريدًا جديدًا من ألوان الدعاية الانتخابية البريئة المطهرة تستمد من قول الله تبارك وتعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لاَ يَسْخَرْ قَوْمٌ مِّن قَوْمٍ عَسَى أَن يَكُونُوا خَيْرًا مِّنْهُمْ وَلاَ نِسَاءٌ مِّن نِّسَاءٍ عَسَى أَن يَكُنَّ خَيْرًا مِّنْهُنَّ وَلاَ تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَلاَ تَنَابَزُوا بِالألْقَابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الإِيمَانِ وَمَن لَّمْ يَتُبْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ﴾[الحجرات: 11].
هذه فوائد مقطوع بها مهما كانت النتيجة الانتخابية، وسيفيد الإخوان بعد ذلك -إذا قدر لهم النجاح- وهو المأمول إن شاء الله هذه الصفة الرسمية لدعوتهم، وهذا التسجيل الرسمى لنجاحهم فى وصولها إلى آذان الشعب ومداركه.
وسيرى كثير من الناس فى هذا النجاح بوادر الأمل القوى فى نهضة جديدة وحياة جديدة، ويأبى الله إلا أن يتم نوره.
سيخوض الإخوان هذه المعركة وعمادهم تأييد الله إياهم، ودعايتهم فكرتهم التي اختلطت بصميم نفوسهم وأرواحهم، وعدتهم إيمان أنصارهم بأحقية الفكرة بأن تقود الأمة وتهدى الناس سواء السبيل.
ويتساءل فريق من الناس فيقولون: أليس معنى هذا الاشتراك أن الإخوان سيخرجون من حيزهم الدينى إلى حيز سياسى فيصبحون هيئة سياسية بعد أن كانوا هيئة دينية؟!
ونقول لهؤلاء: إن الإسلام لا يعترف بهذا التفريق بين الأوضاع فى حياة الأمة الواحدة؛ فالهيئة الدينية الإسلامية مطالبة بأن تعلن رأى الإسلام فى كل مناحى الحياة، والطريق البرلمانى هو أقرب الطرق، وأفضلها لهذا الإعلان، ولا يخرجها هذا عن صفتها، ولا يلونها بغير لونها.
وتقول طائفة ثالثة: أليس هذا التنافس مما يكسب الإخوان أعداء ومنافسين، والدعوة أحوج ما تكون إلى مصادقة الجميع وتأييد الجميع؟
وذلك كلام طيب جميل، ونحن أحرص ما نكون على أن تظفر الدعوة بهذا الموضع من القلوب، وستكون المعركة الانتخابية الإخوانية معركة مثالية فى البعد عن المثالب الشخصية، أو إثارة الأحقاد والحزازات، فإذا فهم الناس هذا المعنى وبادلونا إياه فسندخل أصدقاء ونخرج أصدقاء، وإذا لم يفهموه ولم يقدروه فهم الملومون، وليست الدعوة ولا أصحاب الدعوة بمكلفين بأن يتجنبوا طرائق نجاحها خشية الناس، والله أحق أن نخشاه، وأية دعوة فى الدنيا نريد ألا يكون لها منافسون وخصوم؟ وحسب الدعوة وأصحاب الدعوة شرفًا ألا يخاصموا الناس فى الباطل، بل فى الحق، وأن يحاربوا بأنظف الأسلحة وأنبل الوسائل.
ويوجه بعض المتسائلين سؤالاً جميلاً فيقولون: وماذا تصنعون فى اليمين الدستورية إذا نجحتم، وفيها النص على احترام الدستور، وأنتم -معشر الإخوان- تهتفون من كل قلوبكم: القرآن دستورنا؟
والجواب على ذلك واضح مستبين: فالدستور المصرى بروحه وأهدافه العامة من حيث الشورى، وتقرير سلطة الأمة، وكفالة الحريات لا يتناقض مع القرآن، ولا يصطدم بقواعده وتعاليمه، وبخاصة وقد نص فيه على أن دين الدولة الرسمى هو الإسلام، وإذا كان فيه من المواد ما يحتاج إلى تعديل أو نضوج، فقد نص الدستور نفسه على أن ذلك التعديل والنضوج من حق النواب بطريقة قانونية مرسومة، وتكون النيابة البرلمانية حينئذٍ هى الوسيلة المثلى لتحقيق هتاف الإخوان.
وبعد،فقد اختار مكتب الإرشاد العام هذا القرار، واتخذه بعد أن درس الموضوع من كل وجوهه، وهو مع ذلك يرقب سير الأمور عن كثب، وسيرسم الإخوان طريق اشتراكهم فى هذه الانتخابات على ضوء ما يسرى من ظروف وملابسات، وسيكون رائده فى ذلك الحكمة التامة، ومراعاة الظروف العامة والخاصة، وأن يكتسب للدعوة أعظم الفوائد بأقل التضحيات.والأمور بيد الله....وهو حسبنا ونعم الوكيل (4).
وحينما زاد اللغط وقبل أن تدخل الجماعة في طور المحنة نظر البنا إلى واقع الجماعة بعدما اتسع نطاقها وتشعبها وأصبح لها شأن وأدرك أنها ستدخل في طور المحن حيث كتب يقول: وسيتذرع الغاصبون بكل طرق لمناهضتكم وإطفاء نور دعوتكم، وسيستعينون فى ذلك بالحكومات الضعيفة والأيدى الممتدة إليهم بالسؤال وإليكم بالإساءة والعدوان. وسيثير الجميع حول دعوتكم غبار الشبهات وظلم الاتهامات، وسيحاولون أن يلصقوا بها كل نقيصة، وأن يظهروها للناس فى أبشع صورة، معتمدين على قوتهم وسلطانهم، ومعتدين بأموالهم ونفوذهم: ﴿يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَيَأْبَى اللهُ إِلا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ﴾[التوبة: 32]. وستدخلون بذلك -ولا شك- فى دور التجربة والامتحان، فتسجنون وتعتقلون، وتنقلون وتشردون، وتصادر مصالحكم، وتعطل أعمالكم، وتفتش بيوتكم، وقد يطول بكم مدى هذا الامتحان: ﴿أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لا يُفْتَنُونَ﴾[العنكبوت: 2].
ولكن الله وعدكم من بعد ذلك كله نصرة المجاهدين ومثوبة العاملين المحسنين: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ.......... فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظَاهِرِينَ﴾[الصف: 10-14] فهل أنتم مصرون على أن تكونوا أنصار الله؟ (5).
لكن تطبيقا لمبدأ الشورى التي انتهجته جماعة الإخوان المسلمين في كل شئونها تكلم المجتمعون في الهيئة التأسيسية التي عقدت فى 2 شوال 1367ه الموافق 7 أغسطس 1948م حول خوض الإخوان غمار الانتخابات البرلمانية فكتب البنا رسالة تم عرضها عليهم أجاب فيها حول مشروعية الاشتراك في الانتخابات/ جاء فيها:
أيها الإخوان الفضلاء أعضاء الهيئة التأسيسية للإخوان المسلمين:
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
وبعد: فأنتم تعلمون أن الدعوة المقدسة التي عاهدنا الله تبارك وتعالى على أن نحيا لها، ونجاهد فى سبيلها، ونموت عليها تهدف أول ما تهدف إلى أمر واحد هو "تحقيق النظام الاجتماعى الإسلامى فى أرض الإسلام، وإبلاغ رسالته الجامعة للعالمين.
وإن وسيلتكم لذلك هى تصحيح الفكرة، ونشر الدعوة والتربية للفرد والتكوين للجماعة... حتى تقوم "الدولة الإسلامية" التي تتميز بهذا الوصف، وتعرف به، وتحرص عليه وتعمل جاهدة على حراسة أحكام الإسلام وقواعده فى الداخل، وتبليغ رسالته فى الخارج ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللهَ لَقَوِىٌّ عَزِيزٌ * الَّذِينَ إِن مَّكَّنَّاهُمْ فِى الأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلاَةَ وَآتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَللهِ عَاقِبَةُ الأُمُورِ﴾]الحج: 40-41[.
وتعلمون أنكم فى خلال هذا المجهود الشاق الذي تبذلونه ليلاً ونهارا فى إقامة هذا البناء الإسلامى الكريم أخذتم أنفسكم بأن تبذلوا مجهودًا آخر فى تشجيع فعل الخير، وتنظيم سبل البر, ومحاولة الإصلاح الاجتماعى وأن الله أجرى على يديكم من ذلك الشىء الكثير من المدارس والمعاهد والمستوصفات والمساجد, والإصلاح بين الناس بالمعروف، والحث على معاونة الفقراء، ومساعدة الضعفاء وإشاعة معانى الرحمة فى كثير من النفوس والقلوب. ﴿وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا﴾[النساء: 114].
وتعلمون تمام العلم أننا جميعًا حرصنا من أول يوم على قدسية الدعوة وطهر الجماعة وسمو الغاية واستقامة الطريق فلم نسمح لجماعتنا فى يوم من الأيام أن تكون أداة لحزب أو هيئة أو مطية لحكومة أو دولة أو وسيلة إلى مغنم مادى أو كسب سياسى ولهذا كان من القواعد الأساسية التي قام عليها بناء الجماعة ألا يخترق صفوفها أو يسجل فى أعضائها عظيم أو وجيه من الذين عرفوا بميولهم السياسية الخاصة أو نزعتهم الحزبية الحادة، مما جنبنا كثيرًا من المزالق والعثرات فى أول الطريق الشائك الذي أخذ أبناء هذه الدعوة على كاهلهم أن يتخطوا بمعونة الله عقباته، وأن يصلوا بفضله وتوفيقه إلى أبعد غاياته ﴿وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾[آل عمران: 126]، وما كان يدور بخلد واحد من أبناء الدعوة صغيرهم وكبيرهم أو يخطر ببال مؤمن بها فى أية شعبة من الشعب -ولن يكون هذا أبدًا بإذن الله- أن تسخر الدعوة المقدسة للوصول إلى حكم أو الحصول على غنم، أو مناورة حزب لحساب حزب، أو مناصرة فرد للنيل من فرد، أو لترجيح كفة هيئة على هيئة، أو لتدعيم مركز حكومة أو إلقاء الوقود فى تنور الفرقة والخصومة، فإن ذلك أبعد ما يكون عن تفكير أبناء هذه الدعوة الذين عاهدوا على الإيمان والجهاد ابتغاء وجهه وطلبًا لمرضاته, وإيثارًا لما عنده ﴿فَمِنْهُم مَّن قَضَى نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلاً﴾]الأحزاب: 23[. ولولا ما علم الله تبارك وتعالى فى أنفسهم من صدق، واطلع عليه سبحانه فى نياتهم من خير وحق لما ظهرت لهم كلمة، ولما صادفوا كل هذا النجاح فى وقت غلبت فيه المادية على كل شىء، وظهر فيه الفساد فى البر والبحر بما كسبت أيدى الناس، ولكن هذه المعجزة الباقية الخالدة لرسول الله ولأصحابه والمؤمنين برسالته, حتى يرث الله الأرض ومن عليها ﴿فَعَلِمَ مَا فِى قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبًا﴾]الفتح: 18[.
ولقد ظلت هذه القاعدة الأساسية للدعوة والدعاة مطبقة مرعية حتى أعلنت الحرب العالمية الثانية فى سبتمبر 1939، وأعلنت فى مصر الأحكام العرفية، وتعاقبت الوزارات وجاءت وزارة حسين سرى باشا واشتد ضغط الإنجليز على الحكومة المصرية، لتقضى على نشاط الإخوان المسلمين، وتحل جماعتهم وتحارب دعوتهم وذلك بعد أن يئسوا من أن يكسبوا هذه الجماعة إلى صفهم بالوعد والوعيد، والإغراء والتهديد، مما تعلمون الكثير منه وليس هذا موضع الإفاضة فيه وسأوفيه حقه من الشرح والبيان فى مذكرات الدعوة والداعية -إن شاء الله- والمهم أن ضغط الإنجليز على الحكومة المصرية فى وزارة سرى باشا كان من نتائجه أن تعطلت اجتماعات الإخوان، وتوقفت نشاطهم، وروقبت دورهم، وغلقت صحفهم ومجلاتهم، ومنعت الجرائد جميعًا من أن تذكر اسمهم فى أية مناسبة، أو تشير إليهم بكلمة، وأغلقت مطبعتهم، وأذكر أن رقيب المطبوعات المستر فيرنس منع طبع رسالة المأثورات منعًا باتًا فلجأنا إلى أحد المسئولين إليه الأمر، وقلنا: هذه آيات وأحاديث يقرأها الناس فى القرآن الكريم صباحًا ومساء، ويطالعونها فى كتب السنة متى شاءوا وكيفما أرادوا، فكيف تجيزون لأنفسكم هذا المنع وبم تبررونه؟ وانتهى الموقف بعد أخذ ورد، بأن سمح بالطبع، ولكن بشرط أن تمحى جملة "من رسائل الإخوان المسلمين" من العنوان الجانبى للرسالة، وإلا فهى ممنوعة فاضطررنا أمام هذا التحكم إلى سترها بأن طبعنا فوقها حلية جميلة تشف عما وراءها من هذا التصرف العجيب، وضاعف الإنجليز ضغطهم، وضاعفت الحكومة شدتها، فكان أول نزيل لمعتقل الزيتون الأستاذ عابدين السكرتير العام حتى قضى فيه ستة أشهر أو تزيد، وذلك المرشد والوكيل بعد نقل وتشريد ووعيد وتهديد، ومن الإنصاف أن نقول: إن فضل هذا الضغط كان على الدعوة عظيمًا ورب ضارة نافعة، والذهب الإبريز يصفو على السبك، وكم من منحة فى طى محنة، وعسى أن تكرهوا شيئًا وهو خير لكم، وكانت الملاحظة الواضحة الجلية أن المنفذ الوحيد للرأى، وأن المنبر الذي كانت تعلن فيه شكاية أهل الحق فى ذلك الوقت منبر مجلس النواب الذي كانت الصحف لا تجرؤ حينذاك على التوقف عن نشر مضابطه، فكان ما ينشر من مناقشات المجلس هو البصيص الوحيد من النور الذي ينير الظلام أمام المكبوتين المضطهدين.
وهذا هو الذي حذا بالمؤتمر السادس للإخوان -المنعقد فى يناير 1941- أن يصدر قرارًا خلاصته "الأذن لمكتب الإرشاد العام للإخوان المسلمين بالتقدم بالأكفاء من الإخوان إلى الهيئات النيابية المختلفة، ليرفعوا صوت الدعوة، وليعلنوا كلمة الجماعة فيما بهم الدين والوطن" وكان هذا أول توجه من الإخوان المسلمين إلى اقتحام ميدان الانتخابات.
وانتهى عهد وزارة سرى باشا وحل مجلس النواب، وجاءت وزارة النحاس باشا فى فبراير 1942 وباشرت إجراء الانتخابات لمجلس النواب الجديد.
الهامش
(1) مجموعة رسائل الإمام حسن البنا، رسالة قضيتنا
(2) المرجع السابق
(3) رسالة المؤتمر الخامس
(4) مجلة الإخوان المسلمين النصف شهرية، العدد (46)، السنة الثانية، 18 ذو القعدة 1363- 4 نوفمبر 1944، ص(3-4).
(5) رسالة بين الأمس واليوم.